زبدة التفاسير المجلد 1

هویة الکتاب

بطاقة تعريف:الشریف الکاشاني، فتح الله بن شکرالله، - ق 988

عنوان واسم المؤلف: زبده التفاسیر/ تالیف فتح الله بن شکرالله الکاشاني الشریف الکاشاني؛ تحقیق موسسه المعارف الاسلامیة

تحرير الحالة: [ویرایش 2؟]

تفاصيل المنشور: قم: موسسة المعارف الاسلامیة، 1423ق. = 1381.

مواصفات المظهر: ج 7

فروست : (موسسه المعارف الاسلامیة؛ 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143)

ISBN : 964-7777-02-7(دوره) ؛ 964-7777-03-5(ج.1) ؛ 964-7777-04-3(ج.2) ؛ 964-7777-05-1(ج.3) ؛ 964-7777-06-x(ج.4) ؛ 964-7777-07-8(ج.5) ؛ 964-7777-08-6(ج.6) ؛ 964-7777-09-4(ج.7)

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : الطبعة السابقة: مؤسسة التربية الإسلامية، 1378 (5 ج.)

ملحوظة : العربية.

ملحوظة : کتابنامه

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن ق 10

المعرف المضاف: مؤسسة التربية الإسلامية

ترتيب الكونجرس: BP96/5/ک 2ز2 1381

تصنيف ديوي: 297/1726

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-26543

ص: 1

اشارة

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة

لمؤسسة المعارف الإسلامية

ايران - قم المقدّسة

2000 نسخة .

ص . ب 3711/160 تلفون 7732009 - فاكس 7743701

E-mail: m islamic@aYna.com

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

محرر: سيد جلال الدين عمراني

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

ص: 3

ص: 4

مقدّمة التحقيق

التفسير في اللغة :

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين .

قال ابن منظور: «فَسَر الشيء يَفسِرُهُ بالكسر ، ويفسُرُهُ بالضم، فسراً ، وفسّره: أبانه والتفسير مثله. ابن الاعرابي

التفسير والتأويل والمعنى واحد: وقوله عزّ وجل: (وأحسن تفسيراً ).

الفَسْر : كشف المغطّى.

والتفسير : كشف المراد عن اللفظ المشكل .

والتأويل: ردّ أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر ...» (1).

وقال الراغب الأصفهاني: «الفسر : إظهار المعنى المعقول، ومنه قيل لما ينبيء عنه البول: تفسرة، وسمّي بها قارورة الماء، والتفسير في المبالغة كالفَسر .

والتفسير قد يقال فيما يختص بمفردات الألفاظ وغريبها، وفيما يختصّ بالتأويل، ولهذا يقال: تفسير الرؤيا وتأويلها .

قال عزّ وجل: (وأحسن تفسيراً ) (2).

وقال الرازي: «الفسر : البيان» (3).

ص: 5


1- لسان العرب: مادة «فسر» .
2- معجم مفردات ألفاظ القرآن مادة «فسر » ، والآية : 33 من سورة الفرقان .
3- مختار الصحاح: مادة «الفسر»

التفسير في الاصطلاح :

وإذاً فالتفسير في اللغة مأخوذ من الفسر وهو : إظهار المعنى، وكشف الغطاء والبيان.

ومنه التفسرة: وتعني ما يستدلّ بها على غيرها مما يرتبط بها. أي هي اسم لعملية الكشف عن الخفي بما هو ظاهر لوجود العلاقة بينهما.

ولفظ التفسير كغيره من الألفاظ التي أصبح لها معنى خاص في اصطلاح العلماء، فهو (التفسير) اسم لعلم من أهم العلوم والمعارف الاسلامية، وأكثرها أثراً فى حياة الأمة الفكرية والتشريعية والاجتماعية وغيرها من مجالات الحياة .

ومن استقراء التعاريف التي أوردها العلماء في كتبهم وتحديدهم لهوية هذا العلم وأهدافه، نجد التقارب بين معناه في الاصطلاح، ومعناه في اللغة .

وقد عرَّفه العلماء بعبارات يختلف بعضها عن بعض أحياناً، كما عرفه البعض منهم بما بما عرَّف به التأويل ،فلم يفرّق بينهما، بينما فرَّق فريق آخر من العلماء ء بين التفسير والتأويل تفريقاً حدياً ، بل واعتبر بعضهم عدم التفريق بينهما جهلاً بالتفسير وبعلوم القرآن .

وقال السيوطى ناقلاً عن الراغب تعريفه للتفسير: «وقال الراغب التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر ما يستعمل التأويل في المعاني والجمل، وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية، والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها»(1).

وقال أبو طالب التغلبي: «التفسير بيان وضع اللفظ ، إما حقيقةً، أو مجازاً، كتفسير الصراط بالطريق، والصَّيِّب بالمطر، والتأويل تفسير باطن اللفظ ؛ مأخوذ من

ص: 6


1- الاتقان في علوم القرآن 4: 167 .

الأوّل، وهو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد ؛ لأنَّ اللفظ يكشف عن المراد والكاشف دلیل ؛ مثاله قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمرصاد) (1) ، تفسيره أنه من الرصد، يقال: رصدته رقبته، والمرصاد (مفعال) منه ، وتأويله التحذير من التهاون بأمر الله والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه ؛ وقواطع الأدلّة تقتضي بيان المراد منه، على خلاف وضع اللفظ في اللغة» (2).

وقال الأصبهاني في تفسيره: «اعلم أنّ التفسير في عُرف العلماء: كشف معاني القرآن، وبيان المراد : أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره ،وبحسب المعنى الظاهر وغيره، والتأويل أكثره في الجمل، والتفسير إمّا أن يستعمل غريب الألفاظ نحو البحيرة والسائبة والوصيلة، أو في وجيز يتبين بشرح، نحو: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) (3) ، وإمّا لكلام متضمّن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها كقوله: (إنّما النسيء زيادة في الكفر )(4)، وقوله: (وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها) (5) »(6).

وقد عرَّفه الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي بقوله: «التفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل» (7).

وعرَّفه السيد أبو القاسم الخوئي بقوله: «التفسير هو إيضاح مراد الله تعالى من كتابه العزيز، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والاستحسان، ولا على شيء لم

ص: 7


1- سورة الفجر الآية: 14 .
2- الاتقان في علوم القرآن 4: 167 - 168 .
3- سورة البقرة ، الآية : 43 و 83 و 110 .
4- سورة التوبة ، الآية : 37 .
5- سورة البقرة ، الآية : 189 .
6- الاتقان في علوم القرآن 4: 168 .
7- مجمع البيان: 1 / 39 .

يثبت أنه حجّة من طريق العقل، أو من طريق الشرع للنهي عن اتباع الظنّ، وحرمة إسناد شيء إلى الله بغير إذنه» (1).

أمّا الشهيد الصدر فقد عرَّف التفسير بقوله: «فتفسير الكلام - أي كلام - معناه الكشف عن مدلوله، وبيان معناه الذي يشير إليه اللفظ» (2).

وبعد أن عرَّف الشهيد الصدر التفسير عرض اتجاهين لتعريف التفسير وتحديد دلالته .

الاتجاه الأوّل: وهو الاتجاه السائد عند الأصوليين الذي لخصه بقوله(رحمه الله) : «... وبتعبير آخر أن من أظهر معنى اللفظ يكون قد فسّره، وأما حيث يكون المعنى ظاهراً ومتبادراً بطبيعته، فلا إظهار ولا تفسير .

وسيراً مع هذا الاتجاه، لا يكون التفسير إلا اظهار أحد محتملات اللفظ ، وإثبات أنه هو المعنى المراد أو إظهار المعنى الخفى غير المتبادر، وإثبات أنه هو المعنى المراد ،بدلاً من المعنى الظاهر المتبادر، وأما ذكر المعنى الظاهر المتبادر من اللفظ، فلا يكون تفسيراً .

وهذا الرأي يمثّل الرأي السائد عند الأصوليين » (3).

أمّا الرأي الثاني فهو الرأي الذي تبناه هو (رحمه الله) بقوله: «ولكن الصحيح: هو أن ذكر المعنى الظاهر قد يكون في بعض الحالات تفسيراً أيضاً، واظهاراً لأمر خفي .كما أنّه في بعض الحالات الأخرى لا يكون تفسيراً ؛ لأنه يفقد عنصر الخفاء والغموض، فلا يكون إظهاراً لأمر خفي أو إزالة الغموض» (4).

وبعد هذا العرض لمفهوم التفسير وتعريفه في اللغة والاصطلاح يتضح لنا

ص: 8


1- البيان في تفسير القرآن: 421 .
2- علوم القرآن: 66 .
3- علوم القرآن: 66 - 67 .
4- علوم القرآن: 67 .

معنى التفسير وأهميته في الفكر الاسلامي فهو عبارة عن بيان المحتوى القرآني الذي يحتاج إلى بيان وكشف المراد منه، سواء أكان ذلك بيان معنى لمفردة لفظية أو جملة .

وبيان المحتوى القرآني ومراد الله تعالى من كتابه ، مسألة من أهم المسائل، وأكثرها أثراً في حياة الأمة الاسلامية .

تحدّث الوحي عن مسألة البيان القرآني بقوله: (إنَّ علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه *ثم إنَّ علينا بيانه) (1) وبقوله : (... وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون) (2).

وهكذا يوضّح القرآن أن بيان ما كان غامضاً من القرآن، لا يتضح إلّا ببيان الرسول الله (صلّی الله علیه و آله) وهو من مهامه، وأنّ الله سبحانه قد بينه له، وكشف غوامضه.

قال الشيخ الطوسي في تفسيره لقوله تعالى : ( ثم إنَّ علينا بيانه) :

«والبيان إظهار المعنى للنفس بما يتميّز به من غيره، بان الشيء يبين إذا ظهر ، وأبانه غيره ، أي أظهره بياناً وإبانة ، ونقيض البيان الإخفاء والإغماض .

وقال قتادة : ثمّ إنّ علينا بيانه معناه إنا نبيّن لك معناه إذا حفظته»(3).

مناهج التفسير :

للمفسّرين ثلاث مناهج في تفسير القرآن الكريم هي ما يلي :

الأوّل: تفسير القرآن بالمأثور فقط . فقد ذهب عدّة من المفسرين إلى أنّه

ص: 9


1- القيامة : 17 - 19 .
2- النحل: 44 .
3- التبيان 1: 196 - 197.

ليس باستطاعتنا الوصول إلى كنه معاني آيات القرآن، لأن في القرآن محكماً ومتشابهاً، وخاصاً وعاماً، ومطلقاً ومقيداً، ونصاً وظاهراً، وظاهراً وباطناً. فأنى للعقل البشري الناقص استكناه مغزى الآيات القرآنية ؟ وليس أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن كما جاء في الرواية. وأن تعيين معنى بالضبط لآية من آي القرآن، وأنه مراد الله عزّ وجلّ، بحاجة إلى دليل وحجّة شرعيّة ، وأنّى لنا ذلك ؟ فالواجب إذن تفسير القرآن بالأحاديث المأثورة من دون اعتماد على العقل ومستنبطاته . ومن هؤلاء العلامة المحدّث السيد هاشم البحراني (قدس سره) في تفسيره البرهان ، والسيوطي في تفسيره الدر المنثور.

الثاني : التفسير بالرأي. وهو تفسير القرآن اعتماداً على العقل وما يتوصل إليه الفكر البشري في توضيح آية وتفسيرها، مستعيناً في ذلك بالقرائن والشواهد وملابسات الآية. وكان هذا دأب عدّة من المفسّرين في صدر الاسلام. وقد أثار هذا النوع من التفسير النقاش الحادّ آنذاك، فبين مسوغ له لا يراه ممنوعاً منه شرعاً، وبين منكر له يراه غير مسموح به شرعاً، وأنه يؤول إلى تفسير كلام الله تعالى بما لا يحرز رضاه به. وفي الروايات المنع الأكيد والنهي الشديد عنه، فقد قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (1).

الثالث : تفسير القرآن بالقرآن. وفي هذا النوع من التفسير يستعين المفسّر في شرح آية وتفسيرها بآية أخرى مشابهة لها في الحكم والملابسات، لكنّها أكثر وضوحاً وشمولاً من الأولى. وهذا من باب تطبيق الأشباه والنظائر بعضها على بعض خذ لذلك مثالاً:

قال تعالى : ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأنْزَلَ التَّوْرَاةَ

ص: 10


1- إتحاف السادة المتقين 1 : 257 ، و 4 : 526 .

وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ (1). فقوله تعالى: ﴿ لما بين يديه ) يفسّره قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدى ﴾ إلى قوله: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ... ) (2) أي : أن ما بين يديه هو التوراة والإنجيل .

من يفسّر القرآن ؟

إن الحديث عن منهج التفسير في مدرسة أهل البيت، والطرق والأساليب التي توصل إلى معرفة القرآن ،والكشف عن معانيه، يقودنا إلى مسألة مهمة وأساسية تتعلّق بفهم القرآن، واكتشاف معانيه السامية وأحكامه العظيمة في مختلف المجالات الفكرية والتشريعية والتربوية وغيرها، وهذه المسألة هي: «من المخوَّل بفهم القرآن وتفسيره ؟» .

وللجواب عن هذا السؤال نعرض أهم النظريات التي تحدّث عن ذلك :

1 - النظرية التي ترى أنّ القرآن لا يفسره إلّا الرسول (صلّی الله علیه و آله) باعتباره المخاطب به، وهو وحده يدرك ما فيه من معانٍ ومضامين وهو مذهب الحشوية والمجبّرة ، كما ذكر الشيخ الطوسي ذلك .

2 - النظرية القائلة أنّ القرآن لا يفسّره إلّا الرسول (صلّی الله علیه و آله) والأئمة من أهل البيت (علیهم السّلام) باعتبارهم هم الحجّة على الخلق بعد رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، ووفق هاتين النظريتين يتوقف دور العقل والاجتهاد في فهم القرآن .

3- النظرية التي تذهب إلى أن القرآن خطاب عربي مبين، وأن كل من عرف

ص: 11


1- آل عمران : 3.
2- المائدة : 44 - 47 .

لغة العرب يستطيع أن يفهم القرآن .

4 - النظرية التي تذهب إلى أن القرآن خطاب إلهي موجه إلى البشرية جميعها، بلغة عربية فصيحة، وبالاعتماد على العنصر اللغوي وأدوات علمية أخرى نستطيع أن نفهم القرآن وفق ظهوره اللغوي، كما نستطيع أن نستنبط الكثير من معانيه عن طريق العقل والتدبر، غير أنّ هناك بعض المعاني والمفاهيم التي يحتاج الناس في بيانها إلى الرسول (صلّی الله علیه و آله) أو الإمام الذي ورث علوم الرسول الله فلا بد فيها من الرجوع إليه ؛ فهو المرجع من بعده وأن بيانه هو : الحجة عند الخلاف في فهم القرآن، وبذا يكون فهم القرآن والاستنباط منه عملاً علمياً جائزاً لغير النبي والإمام صلوات الله عليهما، إذا كان قد توفرت لديه الوسائل العلمية التي تؤهله لفهم القرآن وهذه النظرية هي النظرية العلمية السائدة لدى مفسري وفقهاء الشيعة الإمامية، وفي ذلك تحدّث الشيخ الطوسي مبيناً بطلان النظريات الأولى والثانية والثالثة وإثبات النظرية الرابعة وقد صرّح بذلك عند تفسيره الآية الكريمة: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) (1).

قال: هذه الآية الكريمة تدلّ على أشياء :

أحدها على بطلان التقليد، وصحة الاستدلال في أصول الدين لأنه حتّ ودعاء إلى التدبر، وذلك لا يكون إلا بالفكر والنظر .

الثاني: يدلّ على فساد مذهب من زعم أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول الله (صلّی الله علیه و آله) من الحشوية والمجبّرة ؛ لأنه تعالى حثّ على تدبره ليعملوا به . (2)

ص: 12


1- النساء: 82 .
2- التبيان في تفسير القرآن 3: 270 .

ونخلص من دراسة هذا الرأي وغيره (1)، أنّ المنهج الشيعي الإمامي في التفسير يثبت مبدأ أن القرآن يمكن أن يُفسِّره غير النبي أو الإمام ،يفسر ما لم يرد فيه بيان من النبي (صلّی الله علیه و آله) أو الإمام (علیه السلام) من بعده، وأن المأثور الثابت الصحة هو المرجع والمقياس في التفسير والتأويل .

هذه خلاصة ما أردنا توضيحه في هذه العجالة، وهي إشارة عابرة إلى بعض ما يتعلّق بالتفسير من المسائل المطروحة قديماً وحديثاً، وتحقيق هذه المسائل ودراستها علميّاً بحاجة إلى تفصيل لسنا بصدده فعلاً ، والمطالع الكريم يمكنه الاستزادة في ذلك بمراجعة ما كتب حول هذا الموضوع مبسوطاً .

ص: 13


1- كرأي الشهيد محمد باقر الصدر في دروسه الأصولية. انظر : دروس في علم الأصول: المجلد الأوّل، الحلقة الثانية، الدليل الشرعي 216 .

ترجمة المؤلّف

اسمه :

المولى فتح الله بن المولى شكر الله الشريف الكاشاني(1).

ولادته ونشأته:

لم يذكر محلّ ولادته ولا تاريخها ، ولا كيفية نشوئه، ولكن الظنّ الغالب. بقرينة أنه من مدينة كاشان ، ومقبرته أيضاً في هذا البلد - أنه ولد في كاشان ، ونشأ فيها أيضاً .

والجدير بالذكر أنّه (قدس سره) كان حييّاً جداً، متعففاً عمّا في أيدي الأثرياء وذوي المناصب العظيمة والجاه الكبير ، زاهداً ،ورعاً. ولم يكن حريصاً على حطام الدنيا . ولا من الذين يتحذلقون في الكلام، ويتملّقون ويتشدّقون بأفواههم في مدح الظلام والفسقة واللئام، طمعاً في أخذ الصلات والجوائز . وذكر في لباب الألقاب (2) أنّ هذا هو السبب الأصلي في عدم اشتهار المؤلّف بين عامة الناس، وخفاء ذكره.

الاطراء والثناء عليه :

1 - قال العلّامة الخبير الميرزا عبد الله أفندي الأصفهاني - من أعلام القرن الثاني عشر - في كتابه رياض العلماء (3): فاضل نبيل ، وعالم كامل جليل، فقيه

ص: 14


1- نسبة إلى مدينة كاشان - معرّبها : قاسان - ، من المدن القديمة الواقعة في وسط إيران. وأهلها شيعة إمامية - كمدينة قم وسبزوار وطبرستان - منذ أقدم الأيّام .
2- ص : 81 .
3- 318:4 .

متكلّم، مفسّر ، نبيه . وهو من علماء دولة السلطان شاه طهماسب الصفوي ومن بعده أيضاً من الملوك الصفويّة، وكان من تلامذة علي بن الحسن الزواري (1) المفسّر المشهور ، ويروي عن الشيخ علي الكركي بتوسّطه، وله مؤلّفات جياد سيّما في التفسير ، فإنّ له فيه يداً طولى .

2 - قال السيد محسن الأمين العاملي (رحمه الله) في أعيان الشيعة (2) : محدّث ، جلیل، مفسّر ،فاضل، من علماء دولة الشاه طهماسب الصفوي، وتلاميذ علي بن الحسن الزواري .

3 - قال عمر رضا كحالة في معجم المؤلّفين (3) : محدّث، مؤرّخ ، فقيه مفسّر ، أخذ عن ابن الحسن الزواري .

4 - قال عادل نويهض في معجم المفسّرين (4) : مفسّر، محدّث له اشتغال بالتاريخ، من فقهاء الشيعة الإماميّة .

5 - قال الشيخ عبّاس القمي (رحمه الله) في الفوائد الرضويّة (5) - بتعريبنا - : محدّث کامل، عالم ،جلیل ،مفسّر، فاضل، شارح كتاب نهج البلاغة والاحتجاج للطبرسي...

6 - قال الملّا حبيب الله الكاشاني في لباب الألقاب (6) : تشهد مؤلّفاته بأنّه كان: عالماً فاضلاً جامعاً للمعقول والمنقول ، وفقيهاً كاملاً في اللغات والأدبيات والأصول .

ص: 15


1- عالم فاضل ،مفسّر له مؤلّفات منها : تفسير القرآن بالفارسيّة، وشرح نهج البلاغة ، وترجمة كشف الغمّة فرغ منها سنة 938ه ، وغيرها . انظر الفوائد الرضوية : 275 .
2- 393:8 .
3- 51:8 .
4- 417:1.
5- ص 345 .
6- ص 81 .

مشائخه وتلاميذه:

قال الشيخ آقا بزرگ الطهراني في طبقات أعلام الشيعة (1): هو تلميذ المفسّر الجليل أبي الحسن علي بن الحسن الزواري الذي كان تلميذ المحقق الكركي (2). ويروي أيضاً عن ضياء الدين محمد بن محمود، عن المقدس الأردبيلي، كما ذكره الحسين بن حيدر بن قمر المجاز عن الشاه مرتضى في 1005 ه . يروي عنه الشاه مرتضى بن الشاه محمود الكاشاني والد المحقق الفيض... انتهى .

والمحقق الأردبيلي توفّي عام 993 ه ، أي : بعد المؤلّف بخمسة أعوام.

مؤلّفاته وآثاره القيّمة :

للمترجم له عدة مؤلّفات في التفسير وغيره ، نذكرها فيما يلي :

1 - ترجمة القرآن بالفارسية . قال في الذريعة: «ترجمة القرآن بالفارسيّة للمفسّر المولى فتح الله بن شكر الله الكاشاني، وهذه الترجمة قد كتبت على هامش القرآن» (3).

2 - تنبيه الغافلين وتذكرة العارفين . شرح نهج البلاغة باللغة الفارسية. هكذا

ص: 16


1- أعلام القرن العاشر : 177 .
2- هو : نور الدين علي بن عبد العالي، مروّج المذهب والملة ، وشيخ المشايخ الأجلة ،محيي مراسم المذهب الأنور، شيخ الطائفة في زمانه ، وعلامة عصره وأوانه ، العالم الرباني، والفقيه الصمداني. مؤلّفاته : جامع المقاصد في شرح القواعد الرسالة الجعفرية ، صيغ العقود والإيقاعات ، نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت، شرح الشرائع، شرح الألفية، رسائل في الرضاع والخراج وأقسام الأرضين توفّي في يوم الغدير سنة 940 ه.
3- الذريعة 4: 127 رقم (603 ) .

ذكره في الروضات (1) وكشف الحجب (2) ولباب الألقاب (3) والذريعة (4) ، وذكر السيد محسن الأمين العاملي (5)(رحمه الله) في ثبت مؤلّفاته شرح نهج البلاغة ، وتنبيه الغافلين وتذكرة العارفين على حدة. وكذا ذكر في هدية العارفين (6) ومعجم المؤلفين (7). وفي الذريعة أن الكتاب طبع بطهران سنة (1313 ه) مع فهرس لطيف. وأوّل الشرح : الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .

3 - خلاصة المنهج . مختصر من منهج الصادقين، فارسي كأصله.

وفي الذريعة (8) أنه طبع في سنة (1275 ه ) ، وأن نسخته موجودة في الخزانة الرضويّة وغيرها .

4 - زبدة التفاسير . وهو هذا الكتاب الذي بين يديك، نزفّه إلى المكتبة الإسلاميّة وتراثها العلمي الزخار، وسيأتيك الكلام عنه .

5 - شرح الاحتجاج للطبرسي (رحمه الله) . قال في الذريعة : «كشف الاحتجاج في ترجمة احتجاج ،الطبرسي، للمولى الأديب المفسّر الملّا فتح الله بن شكر الله القاساني ، المتوفّى ،988 كتبه للشاه طهماسب الصفوي، فارسي سلس، أوّله : افتتاح اين مقال همايون فال عديم المثال ، که حسن فصاحت وجمال بلاغتش بزیور بدایع مناقب آل أطهار ....»(9).

ص: 17


1- روضات الجنّات 5 : 345 .
2- كشف الحجب : 358 رقم (2014) . وفي ص : 143 رقم (710) أنه ترجمة نهج البلاغة .
3- لباب الألقاب : 81 .
4- الذريعة 4 : 447 رقم (1992).
5- أعيان الشيعة 8: 393.
6- هديّة العارفين 1 : 815 .
7- معجم المؤلّفين 8: 51 .
8- الذريعة :7: 233 رقم (1130 ) .
9- الذريعة 18 : 7 رقم (416) .

6 - منهج الصادقين في إلزام المخالفين . ذكر في الذريعة (1): أنّ اسم الكتاب : منهج الصادقين في تفسير القرآن المبين وإلزام المخالفين، وأنه مطبوع، وذكر في خطبته أنه أورد كثيراً من الأخبار العامة إلزاماً لهم وقد فرغ من بعض أجزائه - يعني : سورة الأنفال - سنة أربع وثمانين وتسعمائة .

وفي الروضات : «تفسير كبير مشهور بالفارسية ، يقرب من مائة وسبعين ألف بيت، بل يدخل في حيّز مائة وثمانين كما نقل عن تصريح مؤلف الكتاب، ووضعه في خمس مجلدات، قد تعرّض فيه لحجج كلّ طائفة من الآيات القرآنية، وأورد فيه النكات العربية ونحوها أيضاً جيّدة الفوائد».

وهذا الكتاب من أهم مؤلّفات المترجم له وطبع مرات عديدة، منها الطبعة الحديثة في عشرة أجزاء. وهو تفسير جيد لطيف، مشهور لدى المتكلمين باللغة الفارسيّة ، يستفيد منه العلماء وعامة الناس.

وهذه مؤلّفات المترجم له في تفسير القرآن الكريم. وهو يدلّ على عناية الله تعالى بشأن المترجم له وتوفيقه إيَّاه لكتابة هذه الكثرة في التفسير. وإن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ على مدى اهتمامه بالكتاب الكريم، وعمله الجادّ، ومثابرته العظيمة في هذا المضمار .

هذا ما وصل إلينا من مؤلّفات المترجم له (رحمه الله) وذكره أصحاب المعاجم .

أضف إلى ذلك أنه (رحمه الله) استنسخ كتاب الاستبصار للشيخ الطوسي (رحمه الله) تامّاً مع مشيخته ، وفرغ من كتابته في ثامن شعبان سنة 973 ، كما في طبقات أعلام الشيعة (2).

ص: 18


1- الذريعة 23 : 193 رقم (8605) .
2- طبقات أعلام الشيعة - أعلام القرن العاشر - : 177 .

وفاته ومدفنه :

توفّي الله في عام 988 ه، كما ذكرت ذلك غالبيّة المصادر التي ترجمت له ،عدا الكنتوري في كشف الحجب والأستار (1) ، وكذا في مشيخة السيد حسين بن حيدر بن قمر الكركي فقد ذكر فيها أنه توفي سنة 997 ه .

و دفن خارج بلد كاشان كما في لباب الألقاب - .

ورثاه بعضهم بقطعة مليحة في تاريخ وفاته بالفارسية، وهي :

مفتي دین متین کاشف قرآن مبین *** واقف سرّ قدر عالم أسرار قضا

هادی وادی تفسیر که در حل کلام *** خاطرش بود ز اسرار یقین پرده گشا

ملكي ذات وفلك مرتبة فتح الاسلام *** که بد از قوت أو رایت اسلام بپا

قدوة أهل فقاهت که بمصباح دروس *** همه را بود بارشاد بحق راهنما

کرد پرواز بشهباز سبک جنبش عزم *** دل وسعت طلبش تا که از این تنگ فضا

فقها را چه ملاذی بجز آن قدوة نبود *** بهر تاریخ نوشتند ملاذ الفقها

و «ملاذ الفقهاء» يطابق 988 بحساب الحروف الأبجدية، وهو تاريخ وفاته. فرحمه الله تعالى برحمته الواسعة، وتغمّده بمغفرته، وأفاض على تربته المقدّسة شآبيب الرحمة والرضوان ، وأنار مرقده بأنوار القرآن.

التعريف بالكتاب :

تفسير ثمين، ألفه (رحمه الله) بعد تفسيريه الفارسيّين ؛ منهج الصادقين، وخلاصة المنهج .

وقد وفّقه الله سبحانه وتعالى أن يفسر كلّ القرآن من أوله إلى آخره، وفرغ

ص: 19


1- ص 208 رقم 1066 . حين ذكره خلاصة المنهج للمؤلّف (رحمه الله) ، والجدير بالذكر أنه لم يذكر زبدة التفاسير .

منه سنة 977 ه . وهو تفسير - في أغلب الموارد - بالمأثور ، ينهج فيه نهج الشيخ الطوسي والطبرسي (قدس سرهما) في تفسيريهما :التبيان ومجمع البيان ، فيذكر شأن نزول الآيات، ويردفه بروايات الخاصة والعامة الواردة في تفسير الآية ، وقد ذكر (رحمه الله) في مقدّمته أنّه اعتمد على التفاسير الأربعة التالية :

1 - التبيان للشيخ الطوسي .

2 - مجمع البيان للطبرسي.

3- أنوار التنزيل للبيضاوي

4 - الكشاف للزمخشري .

وذكره الشيخ آقا بزرگ الطهراني في الذريعة 12 : 23 رقم 135 .

النسخة المعتمدة في التحقيق :

اعتمدنا في عملنا على النسخ المخطوطة المحفوظة في خزانة مكتبة آية الله المرعشي النجفي (رحمه الله) في قم ، والمودعة تحت الأرقام : 242، 289 ، 1652 ، 289 ،2175 ، والتي بمجموعها تمّ هذا التفسير الثمين .

تمّت كتابة النصف الأوّل منه في ثاني شهر صفر سنة 1070 ه على نسخة المؤلّف، وفرغ محمد بن نظام الدين المدعو ب«أمين» في العشر الأول من شعبان سنة 1073 ه من كتابة سورة مريم إلى آخر التفسير على نسخة المؤلّف أيضاً .

أمّا المجلد الثاني فقد كتبه حسن بن ميرزا بيك الرونجي وفرغ منه يوم الاثنين 14 محرّم سنة 1072 ه ، وكتب عبد الوهاب بن تاج الدين حسن بن شمس الدين النصف الثاني من الكتاب وفرغ منه يوم الثلاثاء 19 ذي الحجة سنة 1171ه .

وكان مجموع صفحات الكتاب 1520 صفحة احتوت كلّ صفحة على 26 سطراً بقياس 21/5×10سم.

ص: 20

منهج التحقيق :

إنّ أهمّ ما قمنا به في تحقيق هذا السفر يتلخص في ثلاث نقاط :

1 - استنساخ الكتاب من أوّله إلى آخره ومن ثم مقابلته مع النسخ المخطوطة، وبعد ذلك قابلنا الكتاب مع أربعة تفاسير، هي: التبيان للشيخ الطوسي (رحمه الله )، مجمع البيان للطبرسي (رحمه الله ) ، الكشاف للزمخشري أنوار التنزيل للبيضاوي، وذلك لأنّ المؤلّف (رحمه الله ) ذكر في مقدّمة الكتاب أنه اعتمد على هذه التفاسير وأنه اختار منها ما استجوده وينقل غالباً عين عباراتها ، وفي بعض الأحيان يتصرف فيها بتقديم وتأخير أو تلخيص ، فرأينا من الأفضل مقابلتها عليها .

وكانت النسخة كثيرة الأغلاط جدّاً، وفيها سقط كثير ، وتحريف الكلمات والألفاظ بما يشوّه قراءتها ، ويلتبس الأمر على المطالع، فصححناها على تلك التفاسير، وألحقنا السقط بمحله، وشواردها بأوابدها .

2 - كلّ كلمة مستغلقة بحاجة إلى تفسير فسرناها ، وكلّ لفظة غير مأنوسة أيضاً أوضحناها، والأبيات الشعريّة الّتي استشهد بها المؤلّف (رحمه الله ) ، إن عثرنا على قائلها نسبناها إليه ، وإن كانت بحاجة إلى توضيح أوضحناها . والبلدان والأصقاع المذكورة في المتن أيضاً ترجمناها. والقراءات المختلفة التي ذكرها المؤلّف مجملة بيّناها في الهامش ، وغير ذلك من التعليقات والتهميشات التي يقف عليها المطالع الكريم إن شاء الله تعالى.

3 - كلّ ما نسب المؤلّف الله كلاماً إلى مصنف ، أو رواية إلى الجوامع الحديثية ، أو نقل كلاماً عن كتاب، أشرنا المصدره في الهامش.

شكر وتقدير

نحمده تعالى غاية الحمد ونشكره أن منّ علينا بتحقيق هذا السفر القيّم

ص: 21

وطبعه ونشره، ولولا توفيقه سبحانه لما تيسر لنا نشر العلوم الاسلامية ومفاهيم أهل البيت علیهم الاسلام

ونشكر السادة الأفاضل الذين بفضل جهودهم الشريفة خرج هذا الكتاب بحلته القشيبة هذه ونخص بالذكر منهم فضيلة العلّامة حجّة الاسلام والمسلمين الميرزا محمود الزنجاني حيث أخذ على عاتقه القسط الأوفر في تحقيق هذا الكتاب يعاضده الأساتذة فارس حسّون كريم محمود البدري، محمد اغا اوغلو .

وفي الختام نسأل الله العلي القدير أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم.

السيّد إسماعيل المهري

مؤسسة المعارف الاسلامية

20 جمادى الثانية 1423ه . ق

ذكرى ولادة الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام

ص: 22

ص: 23

ص: 24

ص: 25

ص: 1

زبدة التفاسیر

تأليف

المولى فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني (قدس سره)

المتوفى سنة 988 ه . ق

الجزء الأوّل

تحقيق ونشر

مؤسّسة المعارف الإسلامية

ص: 2

ص: 3

ص: 4

مقدمة المؤلّف

المقدّمة الأولى في عدد آي القرآن والفائدة في معرفتها

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

وبه ثقتي واعتمادي، وعليه توكلي

الحمد لله الذي نزّل (1) القرآن هدى للناس وبينات، وتبياناً لكلّ شيء وكشّافاً للمعضلات، ومجمعاً لبيان الأصول الدينية وجامعاً لفروع الشرعيّات، ووسيلة إلى الفوز بأرفع الدرجات في روضات الجنّات ونجاة عن المهالك في نيران الدركات. والصلاة والسلام على رسله الهادين وأنبيائه المرسلين أفضل الصلوات وأكمل التسليمات، خصوصاً على من ختم به النبوة والرسالة أعني الرسول الهاشمي التهامي والنبي المكي الأمّي محمد سيّد الأنام وخير البريات، وآله الذين هم كشّاف المجملات والمتشابهات بصوائب التأويلات، بعد أن نُصُّوا بالإمامة بالبراهين المحكمات .

أمّا بعد، فيقول أصغر العباد جرماً وأعظمهم جُرماً ابن شكر الله فتح الله الشريف غفر الله تعالى ذنوبهما ، وستر عيوبهما ، بنبيّه النبيه المنيف، ووليه الوليه العريف: إنّ أعظم العلوم قدراً، وأسناها شرفاً، وأجلّها نفعاً، علم تفسير القرآن، إذ هو إمام العلوم الدينية، ومأخذ القواعد الشرعيّة، ومبنى الأحكام الإلهية، من تصدّى للتكلّم فيه وتعاطي معانيه فاز بالسعادات السرمدية، والمراتب الأبدية .

وقد روي عن قتادة في قوله(عزّ و جلّ) : ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرًا) (2) قال : هو علم القرآن.

ص: 5


1- في هامش الخطّية : «اعلم أن التنزيل هو نزول الآي آناً فاناً، والإنزال نزولها دفعة واحدة ، ولهذا لم يقل : أنزل ، مقام : نزّل . منه»
2- البقرة : 269 .

وعن ابن مسعود أنه قال : إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين.

وعن رجاء بن حيوة قال : كنا يوماً أنا وأبي عند معاذ بن جبل ، فقال : مَنْ هذا يا حيوة ؟ فقال : هذا ابني رجاء . فقال معاذ : هل علمته القرآن ؟ قال : لا . قال : فعلمه القرآن، فإنّي سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يقول : ما من رجل علّم ولده القرآن إلا توّج أبواه يوم القيامة بتاج الملك ، وكسيا حلّتين لم ير الناس مثلهما، ثمّ ضرب بيده على كتفي فقال : يا بني، إن استطعت أن تكسو أبويك يوم القيامة حلّتين فافعل .

وصح عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) من من رواية العام والخاص أنه قال : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

وروي عن ابن عباس(رضي الله عنه) أنه قال : من قال في القرآن بغير علم فليتبوّء مقعده من النار .

وغير ذلك من الأخبار التي دلّت على فضائله، ولعلّي أن أرقم بعضها في ضمن مقدّمة هذا التفسير .

وأنا بعد أن وُفِّقت لإتمام تفسير «منهج الصادقين» وتفسير «خلاصة المنهج باللسان الأعجمي على أحسن البيان، وأتم النظام، طالما أحدث نفسي أن أثلثهما بتفسير وسيط بالعربية التي هي أفصح اللغات، ليستفيد العرب أيضاً من معاني القرآن من غير ملال وكلال، ويكون ذلك سبباً للغفران، ووسيلة إلى الفوز بالرضوان، إلّا أنّ قلّة بضاعتي يقعدني عن الإقدام، ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام ، فبعد الاستخارة صممت عزمي على الشروع فيما قصدته، والإتيان بما أردته، بعون الله وحسن توفيقه، وسمّيته زبدة التفاسير»، والتقطت أكثره من «الكشّاف» و «أنوار التنزيل» و «مجمع «البيان» و «جامع الجوامع».

ص: 6

والتزمت أن أكشف فيه عن وجوه اللغات والنكات والتركيبات قناعها وأبين فيه أسباب نزول الآيات وارتباطها، وذكر فضائل السور وخواص الآي اللاتي لها مزيّة شرف على الأخرى، وأذكر فيه من القراءات العشر المتواترة، وأوضح معانيه على نهج مذهب الأئمة الهادين صلوات الله عليهم أجمعين، وأشير إلى بطلان مذاهب مخالفيهم الضالين ، وأدرج فيه مختصراً من القصص، وشرذمة من الأحاديث النبوية والروايات المأثورة عن الأئمّة عليهم الصلوات والتحيّة، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ولنذكر قبل الشروع في التفسير والبيان مقدّمات لا بد من معرفتها لمن أراد الخوض في علم القرآن.

اعلم وفّقك الله تعالى أنّ عدد أهل الكوفة أصح الأعداد، وأعلاها اسناداً، لأنه مأخوذ عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فنقتصر في هذا التفسير عليه. وعدد أهل المدينة منسوب إلى أبي جعفر يزيد بن القعقاع القارىء، وشيبة بن نصاح، وإسماعيل بن جعفر وأهل البصرة منسوب إلى عاصم بن أبي الصباح الجحدري ، وأيوب بن المتوكل . وهما لا يختلفان إلا في آية واحدة في «ص»: (فَالْحَقُّ وَالْحَقِّ أَقُولُ ) (1)، عدّها الجحدري، وتركها أيوب. وأهل مكة منسوب إلى مجاهد بن جبر، وإلى إسماعيل المكّي . وقيل : لا ينسب عددهم إلى أحد، ووجد

ص: 7


1- ص : 84 .

في مصاحفهم على رأس كل آية ثلاث نقط ... وأهل الشام منسوب إلى عبد الله بن عامر.

والفائدة في معرفة آي القرآن أنّ القارىء إذا عدّها بأصابعه كان أكثر ثواباً . لأنه قد شغل يده بالقرآن مع قلبه ولسانه، وبالحري أن يشهد له يوم القيامة ، فإنّها مسؤولة.

وقد ورد في الأسانيد الصحيحة أن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال لبعض النساء حين التلاوة: اعقدن بالأنامل ، فإنّهنّ مسؤولات ومستنطقات . وكان أقرب إلى التحفّظ فإنّ القارىء لا يأمن السهو .

وقد روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال : تعاهدوا القرآن، فإنه وحشي.

وقال حمزة بن حبيب - وهو أحد القرّاء السبعة - : العدد مسامير القرآن .

المقدّمة الثانية في ذكر أسامي القرّاء المشهورين في الأمصار

أما المدني: فأبو جعفر يزيد بن القعقاع ، وليس من السبعة . وذكر أنه قرأ على عبد الله بن عبّاس، وعلى مولاه عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي، وهما قرءا على أبي بن كعب، وقرأ أبي على النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم). وله رواية واحدة.

ونافع بن عبد الرحمن، وقرأ على أبي جعفر، ومنه تعلم القرآن، وعلى شيبة ابن نصاح وعلى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وهما قرءا على ابن عبّاس. وله ثلاث روايات ؛ رواية ورش عثمان بن سعيد، ورواية قالون عيسى بن مينا، ورواية

ص: 8

إسماعيل بن جعفر .

وأمّا المكّي : فهو عبد الله بن كثير لا غير ، وهو قرأ على مجاهد، وقرأ مجاهد على ابن عبّاس وله ثلاث روايات رواية البرّي، ورواية ابن فليح، ورواية أبي الحسين القوّاس .

وإذا اجتمع أهل مكة والمدينة قيل : حجازي.

وأما الكوفي :

فأوّلهم عاصم بن أبي النجود بهدلة، فإنّه قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي وهو قرا على عليّ بن أبي طالب (علیه السّلام) . وله روايتان : رواية حفص بن سليمان البزّاز ، ورواية أبي بكر بن عيّاش.

ثم حمزة بن حبيب الزيات، فقرأ على جعفر بن محمد الصادق(علیه السّلام) . وله سبع روایات ؛ رواية العجلي عبد الله بن صالح، ورواية رجاء بن عيسى، ورواية حمّاد ابن أحمد، ورواية خلاد بن خالد، ورواية أبي عمرو الدوري، ورواية محمد بن سعدان النحوي ، ورواية خلف بن هشام.

ثمّ أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي، فقرأ على حمزة. وله ست روايات ؛ رواية قتيبة بن مهران، ورواية نصير بن يوسف النحوي، ورواية أبي الحارث، رواية أبي حمدون ،الزاهد، ورواية حمدون بن ميمون الزجاج ، ورواية أبي عمرو الدوري.

ثمّ خلف بن هشام البزّاز، وليس من السبعة .

وأمّا البصري : فأبو عمرو بن علاء. وله ثلاث روايات رواية شجاع بن أبي نصير ، ورواية العبّاس بن الفضل، ورواية اليزيدي يحيى بن المبارك.

ومن البصرة : يعقوب بن إسحاق الحضرمي وليس من السبعة وله ثلاث روايات رواية روح وزيد ورويس .

ص: 9

وإذا اجتمع أهل الكوفة والبصرة قيل: عراقي .

وأمّا الشامي : فهو عبد الله بن عامر اليحصبي لا غير (1)، وهو قرأ على عثمان بن عفّان. وله روایتان رواية ابن ذكوان، ورواية هشام بن عمّار .

المقدّمة الثالثة في أنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعاً مؤلّفاً مرتّباً على ما هو عليه الآن

استدلّ على ذلك السيّد الأجلّ المرتضى علم الهدى أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي له في كتابه «الموضح عن وجه إعجاز القرآن» (2) بأن القرآن كان يُدرس ويُحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عُيّن جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنّه كان يعرض على النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)ويتلى عليه ، وأن جماعة من الصحابة مثل : عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وغيرهما ، ختموا القرآن على النبي عدة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث .

ثمّ قال (قدس سره) : فمن خالف ذلك من الحشويّة وغيرهم لا يعتد بخلافهم، لإسناد قولهم إلى أخبار ضعيفة ظنّوا صحتها ، فلا يرجع إلى مثلها عن المعلوم المقطوع على صحته .

ص: 10


1- في مجمع البيان (1 : 12)... لا غير وقرأ على المغيرة بن أبي شهاب المخزومي ، وقرأ : المغيرة على عثمان بن عفان ...
2- لم يطبع هذا الكتاب إلى الآن، ولم نجده ضمن مجموعة رسائل السيّد المرتضى «قدس سره».

المقدّمة الرابعة في أنّ القرآن مصون عن الزيادة والنقصان

أمّا الزيادة فمجمع على بطلانه، وأما النقصان فيه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشويّة العامة أنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى علم الهدى (قدّس سرّه)، واستوفى فيه الكلام غاية الاستيفاء.

المقدمة الخامسة في ذكر بعض ما جاء من الأخبار المشهورة في فضل القرآن وأهله

أنس بن مالك ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته.

وعنه أنه قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : أفضل العبادة قراءة القرآن.

وعنه أنه قال(صلّی الله علیه و آله و سلّم) : القرآن لا غنى دونه ، ولا فقر بعده.

عبد الله بن عباس ، عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم)قال : أشراف أمّتي حملة القرآن وأصحاب الليل .

عبد الله بن مسعود، عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال : إنّ هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلّموا من مأدبته ما استطعتم . إنّ هذا القرآن حبل الله ، وهو النور المبين، والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوجُّ فيقوَّم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الردّ فاتلوه فإنّ الله يأجركم على تلاوته بكلّ حرف عشر حسنات، أما إنّي لا أقول : (الم) ، ولكن «ألف» عشر، و «لام» عشر،

ص: 11

و «میم» عشر .

الحارث بن الأعور ، عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) قال في حديث طويل : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنها ستكون فتن . قلت : فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله ، فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم ،هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة ردّ ، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، هو الحبل المتين، وهو الصراط المستقيم، هو الذي من عمل به اُجر ، ومن ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه دعا إلى صراط مستقيم .

عاصم بن ضمرة ، عن علي (علیه السّلام) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ القرآن حتى يستظهره ويحفظه أدخله الله الجنّة، وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت لهم النار .

عبد الله بن عمر ، عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال : يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإنّ منزلك عند آخر آية تقرؤها.

وعنه أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال : من قرأ القرآن فرأى أنّ أحداً أعطي أفضل ممّا أعطي

فقد حقر ما عظمه الله ، وعظم ما حقره الله .

وعنه أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال : من قرأ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه .

أبو سعيد الخدري عنه (علیه السّلام) قال : حملة القرآن في الدنيا عرفاء أهل الجنة يوم القيامة .

وقال أمير المؤمنين (علیه السّلام): من دخل في الاسلام طائعاً، وقرأ القرآن ظاهراً، فله في كل سنة مائتا دينار من بيت مال المسلمين، إن منع في الدنيا أخذها يوم القيامة وافية أحوج ما يكون إليها.

ص: 12

وعن البراء بن عازب ، قال : قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): زينوا القرآن بأصواتكم.

قال حذيفة بن اليمان : قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): اقرؤا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين، وسيجيء قوم من بعدي يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم.

علقمة بن قيس ، قال : كنت حسن الصوت بالقرآن ، فكان عبد الله بن مسعود يرسل إليّ فأقرأ عليه، فإذا فرغت من قراءتي قال: زدنا من هذا فداك أبي وأمّي، فإنّي سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يقول : إن حسن الصوت زينة للقرآن .

وعن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): إن لكل شيء حلية ، وحلية القرآن الصوت الحسن.

عبد الرحمن بن السائب ، قال : قدم علينا سعد بن أبي وقاص، فأتيته مسلّماً عليه ، فقال : مرحباً يابن أخي، بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن . قلت : نعم ، والحمد لله . قال : فإنّي سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)يقول : إنّ القرآن نزل بالحزن ، فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنّوا به ، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منا .

وتأوّل بعضهم «تغنّوا به» بمعنى استغنوا به وأكثر العلماء على أنّه تزيين الصوت وتحزينه .

إلى غير ذلك من الروايات المأثورة والأحاديث المنقولة .

فالآن وقت الشروع بحمد الله وحسن توفيقه في إتمامه .

ص: 13

ص: 14

سورة الفاتحة

(1)

فاتحة الكتاب

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)»

مكيّة عند عبد الله بن عبّاس ،وقتادة، ومدنيّة عند مجاهد وقيل أنزلت مرتين : مرّة بمكة، ومرة بالمدينة.

سبع آيات بلا خلاف ، إلّا أنّ قرّاء أهل مكة والكوفة وفقهاءهما وابن مالك والشافعي عدّوا ﴿بِسْمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحِيمِ ﴾ آية من فاتحة الكتاب. وخالفهم قرّاء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي . ولم ينص أبو حنيفة فيه بشيء، فظنّ أنّها ليست من السورة عنده، فعدّوا (أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية . وسُئِل محمد ابن الحسن عنها ، فقال : ما بين الدفّتين كلام الله .

ولنا أحاديث كثيرة من العامة العامة والخاصة أنّها من السورة .

ومنها : ما روي عن ابن عبّاس أنه قال : من ترك (بِسْمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحِيمِ )

ص: 15

فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله .

وروى أبو هريرة أنه قال : فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهنَّ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).

و عن الصادق (علیه السلام) أنه سئل عن قوله تعالى : (سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي ﴾ (1) قال : هى سورة الحمد وهي سبع آيات منها: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ .

وعن أم سلمة أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله و سلّم) قرأ الفاتحة وعدّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) آية، ومن أجلهما اختلف فى أنّها آية برأسها أو بما بعدها .

واتفق أصحابنا كلّهم على أنها آية من سورة الحمد ومن كلّ سورة ، وأنّ من تركها في الصلاة بطلت صلاته، سواء كانت فرضاً أو نفلاً ، وأنه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة ، ويستحبّ الجهر بها فيما يخافت فيه بالقراءة .

وفي جميع ما ذكرناه خلاف بين فقهاء الأمّة. ولا خلاف في أنها بعض آية من سورة النمل (2) .وكلّ من عدّها آية جعل من قوله : (صِرَاطَ الَّذِينَ) إلى آخر السورة آيةً، ومن لم يعدّها آية جعل (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية ، وقال : إنّها افتتاح للتيمن والتبرك . كذا في المجمع (3).

وأيضاً يؤيّد قولنا أنّ الوفاق ثبت بين جميع المسلمين على إثباتها في المصاحف، مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم يكتب : آمين.

وتسمّى: «فاتحة الكتاب»، لافتتاح المصحف بكتابتها .

و «أُمّ القرآن»، لأنها مفتتحه ومبدؤه ، فكأنها أصله ومنشؤه، والعرب تسمّي كلّ متقدّم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه : أمّاً ، ولذلك تسمّى أساساً. أو لأنّها تشتمل

ص: 16


1- الحجر : 87 .
2- النمل : 30 .
3- مجمع البیان 1 : 18 .

على ما فيه من الثناء على الله ، والتعبّد بأمره ونهيه ، ووعده ووعيده، أو على جملة المعاني من الحكم النظريّة والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء ولما روي عن ابن عباس أنّ لكلّ شيء أساساً - وساق الحديث إلى أن قال : - وأساس القرآن الفاتحة، وأساس الفاتحة (بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾

و «السبع المثاني »، لأنها سبع آيات بلا خلاف ، وتثنّى بقراءتها في كلّ صلاة فرض ونفل . وقيل : لأنّها نزلت مرّتين .

و «الوافية»، لأنّها لا تنصّف في الصلاة .

و «الكافية»، لأنها تكفي عمّا سواها، ولا يكفي ما سواها عنها . ويؤيّد ذلك رواية عبادة بن الصامت عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : أمّ القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها عوضاً عنها .

و «الشفاء»، لما روي عن النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) : فاتحة الكتاب شفاء من كل داء.

و «الصلاة»، لوجوب قراءتها في الصلاة المفروضة، واستحبابها في المندوبة. ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله : قسّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، فإذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يقول الله : حمدني عبدي . فإذا قال :( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) يقول الله : أثنى عليّ عبدي . فإذا قال العبد : ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يقول الله : مجّدني عبدي . فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال : هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ...) إلخ ، قال : هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل أورده مسلم ابن الحجاج في الصحيح (1).

وسورة «الحمد والشكر»، لاشتمالها عليهما .

ص: 17


1- صحیح مسلم :1 : 296 ح 38 .

و«تعليم المسألة»، لأنّ الله تعالى علّم فيها عباده آداب السؤال، فبدأ بالثناء، ثمّ بالإخلاص، ثمّ بالدعاء.

عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : أيما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنّما قرأ ثلثي القرآن، وأعطي من الأجر كأنما تصدّق على كلّ مؤمن ومؤمنة.

وفي طريق آخر عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال : كأنّما قرأ القرآن.

وروى غيره، عن أبي بن كعب أنّه قال: قرأت على رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) فاتحة الكتاب ، فقال : والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور ، ولا في القرآن مثلها ، هي أمّ الكتاب، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بين الله وبين عبده ، ولعبده ما سأل .

وبإسناد محمد بن مسعود العياشي : عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال لجابر بن عبد الأنصاري : يا جابر ، ألا أعلّمك أفضل سورة أنزلها الله تعالى في كتابه ؟ قال : فقال له جابر : بلى، بأبي أنت وأمي يا رسول الله علّمنيها . قال : فعلّمه الحمد أم الكتاب، ثمّ قال : يا جابر ، ألا أخبرك عنها ؟ قال : بلى، بأبي أنت وأمي فأخبرني قال : هي شفاء من كل داء إلّا السام . والسام : الموت .(1)

وعن سلمة بن محرز، عن جعفر بن محمد الصادق (علیه السّلام)قال : من لم يبرأه الحمد لم يبراه شيء .

وروي عن أمير المؤمنين قال : قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): إن الله (عزّ و جلّ) قال لي : يا محمّد : ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)(2). فأفرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن وأنّ فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز

ص: 18


1- تفسير العياشي 1 : 20 ح 9 .
2- الحجر : 87 .

العرش، وأنّ الله خصّ محمداً، وشرفه بها، ولم يشرك فيها أحداً من أنبيائه ما خلا سليمان (علیه السّلام)، فإنّه أعطاه منها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . ألا تراه يحكي عن بلقيس حین قالت : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ (1). ألا فمن قرأها معتقداً لموالاة محمد وآله منقاداً لأمرها، مؤمناً بظاهرها وباطنها ، أعطاه الله (عزّ و جلّ) بكل حرف منها حسنة، كلّ واحدة منها أفضل من الدنيا بما فيها من أصناف أموالها وخيراتها. ومن استمع إلى قارىء يقرؤها كان له قدر ثلث ما للقارىء، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرّض له، فإنّه غنيمة لا يذهبن أوانه ، فتبقى في قلوبكم الحسرة .

وعن ابن عباس : بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه ملك فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته . وفي رواية أخرى لن يقرأ أحد حرفاً منهما إلا أعطي ثواب شهید.

وعن حذيفة بن اليمان أن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال : إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضيّاً، فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . فيسمعه الله تعالى، فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة .

ولمّا كان من آداب تلاوة القرآن، ووظائف قراءة الفرقان ، أن القارىء إذا أراد أن يشرع في القراءة يستعيذ بالله من الشيطان ليأمن من وسوسته أثناء القراءة، كما قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (2). فينبغي أن يشار أولاً إلى تبيين معنى الاستعاذة قبل الشروع في تفسير فاتحة الكتاب.

فاعلم أنّ القرّاء اتّفقوا على التلفّظ بالتعوّذ قبل التسمية، واختلفوا في كيفينه .

ص: 19


1- النمل : 29 - 30 .
2- النحل : 98 .

فيقول ابن كثير وأبو عمرو : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ونافع وابن عامر والكسائي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إنّ الله هو السميع العليم، وحمزة: نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. وأبو حاتم : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم .

فمعنی الاستعاذة : الاستجارة والعوذ والعياذ : اللجاً. فمعنى أستعيذ : أستجير، ومعنى أعوذ: ألجأ .

والشيطان في اللغة : هو كلّ متمرّد من الجن والإنس والدوابّ، ولذلك جاء في القرآن : شياطين الإنس والجن، ووزنه فَيعال من : شطنت الدار ، أي بعدت .وقيل : هو فَعْلان من : شاط يشيط ، إذا بطل .والأوّل أصح، لأنه جاء في الشعر شاطن بمعناه، ولقولهم : تشيطن .

والرجيم : فعيل بمعنى مفعول ، من الرجم وهو الرمي.

وملخّص معناها : أني أستجير بالله ، أو ألجأ إلى الله من شر الشيطان. أي: البعيد من الخير ، المفارق أخلاقه أخلاق جميع جنسه . وقيل : المبعد من رحمة الله . والرجيم :أي: المطرود من السماء المرميّ بالشهب الثاقبة . وقيل : المرجوم باللعنة.

(إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ ) لجميع المسموعات (الْعَلِيمُ) المعلومات.

بجميع وروي عن ابن عباس أن الله سبحانه أمر رسوله بالاستعاذة أوّلاً ، ثمّ أمره أن يفتتح الكلام باسمه السامي على هذا الوجه .

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ الباء متعلق بمحذوف تقديره: بسم الله أقرأ ، لأنّ الّذي يتلوه مقروء، وكذلك يضمر كلّ فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له، وذلك أولى من أن يضمر «أبدأ»، لصريح دلالته على ما يشرع فيه . والباء للاستعانة . وقيل : للمصاحبة، والمعنى : متبركاً باسم الله أقرأ ، كالباء في قوله: ﴿ تَنْبُتُ بِالدُّهْن ﴾(1)

ص: 20


1- المؤمنون : 20 .

أي مع الدهن، وكذلك قول الداعي للمعرس : بالرفاء والبنين، معناه : أعرست ملتبساً بالرفاء والبنين.

وإنما قدّر المحذوف متأخّراً لأنّهم يبتدؤن بالأهم عندهم، ويدلّ على ذلك قوله : (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرِيهَا وَمُرْسَهَا ﴾ (1)، وقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فإنّه أهمّ وأدلّ على الاختصاص، وأدخل في التعظيم ، وأوفق للوجود ، لأنّ وجوده تعالى مقدّم على كلّ ما سواه، فينبغي أن يكون اسمه في اللفظ كذلك . وهذا وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه، ويحمد على نعمه، ، ويسأل من فضله .

وإنما كسرت الباء ومن حق الحروف المفردة أن تفتح ك«واو» العطف لاختصاصها بلزوم الحرفيّة والجرّ ، بخلاف الكاف والواو واللام (2)، فكسرت لمشابهتها بلام الأمر ولام الجرّ داخلةً على المظهر في لزوم الحرفية ، وإن كانت الفتحة أولى بهما ، ليتميّز لام الأمر عن لام التأكيد، فإنّهما يدخلان المضارع، ولام التأكيد مفتوح على أصله . ولام الجرّ يدخل المظهر والمضمر ، فإذا دخل على المظهر يكون مكسوراً ليتميّز عن لام الابتداء، فإنّهما يدخلان المظهر، ومفتوحاً إذا دخل على المضمر ، لأنّ لام الجرّ يدخل على المضمر إذا كان متصلاً ، ولام الابتداء يدخل على المضمر إذا كان منفصلاً ، فيتحصل التمييز بين لام الجرّ ولام الابتداء في المضمر بنفس المضمر ، ولا يحتاج إلى الكسر .

وإنّما قيل : بسم الله ، ولم يقل : بالله ، لأنّ التبرك والتيمن والاستعانة بذكر اسمه ، أو للفرق بين اليمين والتيمّن .

وأصل الاسم «سِمو» عند البصريين ، فهو من الأسماء التي حذفت أعجازها

ص: 21


1- هود : 41 .
2- أي : لام الابتداء .

لكثرة الاستعمال، وبنيت أوائلها على السكون ،وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل، لأنّ من دأبهم أن يبتدوا بالمتحرّك ويقفوا على الساكن. ويشهد له تصريفه على أسماء، وأسامي، وسمّى، وسمّيت. ومجيء «سمىً» ك«هدىً» لغة فيه. والقلب بعيد غير مطّرد. واشتقاقه من «السموّ» لأنه رفعة للمسمّى وشعار له ومن «السِّمَة» عند الكوفيين. وأصله : وَسْمٌ ، حذفت الواو وعُوِّضت عنها همزة الوصل ليقلّ إعلاله . وردّ : بأنّ الهمزة لم تُعْهَد داخلةً على ما حذف صدره في كلامهم . وفي لغاته : سِمٌ وسُم .

والاسم غير المسمّى ، لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارّة، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار كالعربي القديم والجديد، ويتعدّد تارة كالألفاظ المترادفة ، ويتحد أخرى كالأسماء المشتركة، والمسمّى لا يكون كذلك .

ولم يكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال. وطوّلت الباء عوضاً عنها. وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال لكاتبه : طوّل الباء ، وأظهر السينات ودوّر الميم .

و «الله» أصله إله ، فحذفت الهمزة وعوّض عنها حرف التعريف ، ولذا قيل في النداء : يا الله بقطع الهمزة ، كما يقال : يا إله ،إلّا أنّه مختص بالمعبود بالحق ، فإنّ الإله في أصله لكلّ معبود ثمّ غلب على المعبود بحق . ومعناه : أنه الذي يحق له العبادة لا غير .

واشتقاقه من أله إلاهة واُلوهة واُلوهيّة، بمعنى عبد، ومنه تأله أي صار إلهاً، واستأله أي: استعبد .

وقيل : من ألِهَ إذا تحيّر، إذ العقول تتحيّر في معرفته. وأصله ولاه ، فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسر عليها أو من : ألِهتُ إلى فلان، أي: سكنت إليه، لأنّ القلوب تطمئن بذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته ، أو من : أله ، إذا فرغ من أمر نزل

ص: 22

عليه وآلهه غيره: أجاره ، إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره . أو من : ألِهَ الفصيل، إذا أولع بأمّه ، إذ العباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد .

وقيل : أصله : لاه ، مصدر : لاه يليه لَيْهاً ولاها ، إذا احتجب وارتفع ، لأنه تعالى محجوب عن إدراك البصر ، ومرتفع على كلّ شيء وعمّا لا يليق .

وقيل : إله ك: إعاء وإشاح، فإنّ أصلهما وعاء ووشاح. ويردّه الجمع على آلهة دون أولهة .

وقيل : هو اسم غير صفة ، لأنك تصفه فتقول : إله واحد، ولا تصف به فلا تقول : شيء إله . والأظهر أنه وصف في أصله، لكنّه لمّا غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار كالعلم - مثل الثريّا والصعق - أجري مجراه في إجراء الوصف عليه، وامتناع الوصف به.

وقيل : أصله «لاها» بالسريانيّة ، فعُرِّب بحذف الألف الأخيرة وإدخال اللام عليه ، وفخّم لامه إذا انفتح أو انضمّ ما قبله. وحذف ألفه لحن .

و «الرحمن» فعلان من: رحم، كغضبان من غضب والرحيم فعيل منه كعظيم. وفي الرحمن تأكيد من المبالغة ما ليس في الرحيم، ولذلك قيل: الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين خاصة .

ورووا عن الصادق (علیه السّلام) أنه قال : الرحمن اسم خاص بصفة عامة ، والرحیم اسم عام بصفة خاصّة .

وما روي عن عكرمة أنّه قال : الرحمن برحمة واحدة، والرحيم بمائة رحمة، فهو مقتبس من قول الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم): إن الله مائة رحمة ، وأنّه أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه، بها يتعاطفون ويتراحمون، وأخر تسعاً وتسعين لنفسه، يرحم بها عباده يوم القيامة .

وروي أنّ الله قابض هذه إلى تلك فيكملها مائة يرحم بها عباده يوم القيامة .

ص: 23

ولا يخفى أنّ الرحمن أبلغ من الرحيم، لأنّ زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى ، كما ، كما في: قطع وقطّع ، وكبار وكبّار. وزيادة المعنى في الرحمن بالنسبة إلى معنى الرحيم تارة باعتبار الكمّيّة، وأخرى باعتبار الكيفية. فعلى الأوّل قيل : يا رحمن الدنيا ، لأنه يعمّ المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة ، لأنه يخصّ المؤمن. وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ، لأنّ النعم الأخروية كلّها جسام، وأمّا النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة.

وتقديم الرحمن على الرحيم، والقياس يقتضي الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، إمّا لاختصاص إطلاقه عليه سبحانه كاختصاص لفظة «الله» به، لقوله تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ ﴾(1) فصار كالعلم من حيث إنّه لا يوصف به غيره، لأن معناه : المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غیره، لأنّ ما عداه مستفيض بلطفه وإنعامه، ولأنّ الرحمن دلّ على جلائل النعم وأصولها ، وذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها ، فيكون كالتتمة والرديف له . وإمّا لتقدّم رحمة الدنيا .

والرحمة في اللغة : رقّة القلب، وانعطاف يقتضي التفضّل والإحسان ومنه : الرحم، لانعطافها على ما فيها، وأسماء الله تعالى إنما يؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادىء التي تكون انفعالات.

روي عن علي بن موسى الرضا (علیه السّلام)لأنه قال : إِنَّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أقرب إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها.

وروي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال : إذا قال المعلّم للصبيّ : قل : بسم الله الرحمن الرحيم، كتب الله براءة للصبي، وبراءة لأبويه، وبراءة للمعلّم.

وعن ابن مسعود: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرا :

ص: 24


1- الإسراء : 110 .

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، فإنّها تسعة عشر حرفاً ، ليجعل الله كلّ حرف جُنّةَ من واحد منهم .

واعلم أنّ تخصيص تسميته سبحانه بهذه الأسماء دون سائر صفاته الأخرى ليعلم أنّ المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلّها : عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، فيتوجه بالتوجه التام إلى جناب القدس، ويتمسّك بحبل التوفيق ويشغل سره ،بذكره، والاستمداد به عن غيره، ويتشوّق بأن يحمد المنعم الحقيقي الذي أعطى جميع نعم العاجلة والآجلة ويقول :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري من نعمة وغيرها . والتعريف فيه للجنس، ومعناه الاشارة إلى ما يعرفه كلّ أحد من أن الحمد ما هو . وقيل : للاستغراق، إذ الحمد في الحقيقة كلّه له ، إذ ما من خير إلا هو موليه بوسط أو بغير وسط . وفيه إشعار بأنه تعالى قادر حي مريد عالم ، إذ الحمد لا يستحقه إلّا من كان هذا شأنه .

والمدح هو الثناء على الجميل مطلقاً ، تقول : حمدتُ زيداً على علمه وكرمه، ولا تقول : حمدتُه على حسنه ، بل مدحته . وقيل : هما أخوان .

وأمّا الشكر فعلى النعمة خاصّة، قولاً وعملاً واعتقاداً. فالحمد باعتبار المورد أخصّ من الشكر ، وباعتبار المتعلّق أعمّ .

ولمّا كان الحمد أشيع للنعمة وأدلّ عليها ، لخفاء الاعتقاد، جعل رأس الشكر والعمدة فيه ، كما قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): الحمد رأس الشكر . فالمعنى في كونه رأس الشكر : أنّ الذكر باللسان أجلى وأوضح وأدلّ على مكان النعمة، وأشيع للثناء على موليها من الاعتقاد وعمل الجوارح . ونقيض الحمد الدم، ونقيض الشكر الكفران .

وإنّما عدل ب( الْحَمْدُ) عن النصب الذي هو الأصل في كلامهم، على أنه من

ص: 25

المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة، كقولهم : شكراً وعجباً ونحو ذلك ، إلى الرفع على الابتداء، للدلالة على ثبات المعنى واستقراره واستمراره، دون تجدّده. وحدوثه في نحو قولك : أحمد الله حمداً، ومنه قوله تعالى: (قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلامٌ) (1) رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيم (علیه السّلام) حيFاهم بتحية أحسن من تحيّتهم، لأنّ الرفع دالّ على ثبات معنى السلام دون تجدّده. فمعنى الْحَمْدُ لِلَّهِ : الثناء الحسن الجميل، والمدح الكامل الجزيل للمعبود المنعم لجلائل النعم .

(رَبِّ الْعَالَمِينَ) المربّي والمالك والمنشىء للخلائق والأمم. وهو في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً، ثمّ وصف به للمبالغة كالصوم والعدل . وقيل : هو نعت من : رَبَّه يرُبِّه فهو ربُّ . ولم يطلق الربِّ إلّا في الله وحده، ويقيّد في غيره فيقال : ربّ الدار ، وربّ الضيعة، وكقوله تعالى : (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) (2).

والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم ،والقالب غلب فيما يعلم به الصانع، وهو كلّ ما سواه من الأجسام والجواهر والأعراض ، فإنّها - لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب الوجود لذاته - تدلّ على وجوده. وإنّما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة . وغلّب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون ، وإن كان اسماً غير صفة ، لدلالته على معنى العلم ، فهو بمنزلة سائر أوصافهم.

وقيل : اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع .

وقيل : عنى به الناس هاهنا فإنّ كلّ واحد منهم عالم، من حيث إنّه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض ، يعلم به الصانع كما يعلم بما

ص: 26


1- هود : 69 .
2- یوسف : 50 .

أبدعه في العالم، ولذلك سوى بين النظر فيهما وقال: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) (1). وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها .

ووجه إيثار هذه الصفة بين صفات الله تعالى بعد الحمد : أنّ العارف لمّا رأى نعم الله تعالى على غيره واضحة، كما شاهد آثارها على نفسه لائحة ، عرف أنّه ربّ الخلائق أجمعين، فينبغي أن يقول بعد ذلك : ربّ العالمين، ولما رأى شمول فضله للمربوبين ، وعموم رزقه للمرزوقين، فبالحري أن يقول بعده : ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وقد مضى تفسيرهما .

قال الرمّاني (2): إنه سبحانه ذكر في البسملة العبودية فوصل ذلك للتنبيه بذكر النعم التي يستحق بها العبادة، وهاهنا ذكر الحمد فوصله بذكر ما يستحق الحمد من النعم، فليس فيه تكرار .

واعلم أن العارف إذا رأى بعض العباد حامداً شكوراً، وبعضهم كنوداً كفوراً. علم أن وراءهم يوماً يثاب فيه الشكور ويعاقب فيه الكفور ، فلزمه أن يقول بعد هذه الأوصاف الجميلة والنعوت الجليلة : ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) . قرأه عاصم والكسائي ويعقوب، ويعضده قوله: ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً)(3). وقرأ الباقون : (ملك) ، لقوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ﴾ (4) ، ولقوله :( مَلِكِ النَّاسِ) (5)، ولما فيه : من التعظيم .

ص: 27


1- الذاريات : 21 .
2- حكاه عنه الطبرسي في مجمع البيان 1 : 23 .
3- الانفطار : 19 .
4- غافر : 16 .
5- الناس : 2 .

والمالك هو المتصرف فى الأعيان المملوكة كيف شاء، واشتقاقه من الملك . والمَلِك هو المتصرّف بالأمر والنهي مشتق من المُلْك . ويوم الدين يوم الجزاء، ومنه : كما تَدين تُدان.

وأضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراءً له مجرى المفعول به على الاتساع، كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار تقديره : يا سارق متاع أهل الدار في الليل. ومعناه : مالك الأمور يوم الدين على طريقة جعل المتوقع الذي لابد من وقوعه بمنزلة الواقع ، ومثل ذلك قوله تعالى : ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) (1). أو : له الملك في هذا اليوم على وجه الاستمرار وعلى التقديرين تكون الإضافة حقيقيّة معدّة لوقوعه صفة للمعرفة، وإنّما تكون غير حقيقية إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال، فكان في تقدير الانفصال ، كقولك : زيد مالك الساعة أو غداً، ولمّا كان هاهنا بمعنى الماضي أو الاستمرار فكانت إضافة حقيقية تصلح أن تكون وصفاً للمعرفة.

وقيل : الدين : الشريعة . وقيل : الطاعة . والمعنى : يوم جزاء الدين وتخصيص اليوم بالإضافة إما لتعظيمه، أو لتفرّده تعالى بنفوذ الأمر فيه.

وهذه الأوصاف - التي هي كونه سبحانه ربّاً مالكاً للعالمين، لا يخرج منهم شيء من ملكوتيته وربوبيته، وكونه منعماً بالنعم المتواترة الباطنة والظاهرة، وكونه مالكاً للأمر كله في الدار الآخرة، بعد الدلالة على اختصاص الحمد في قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) - فيها دلالة باهرة على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء، بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتّب الحكم على الوصف يشعر بعليته له. وإذا وصل العارف الطالب إلى هذا المقام علم أنّ له خالقاً ورازقاً رحيماً، یحیی ويميت ، ويبدىء ويعيد، وهو الحي الذي لا يشبهه شيء، والإله الّذي

ص: 28


1- الأعراف : 44 .

لا يستحق العبادة سواه.

ولما صار الموصوف بهذا الوصف كالمدرك بالعيان والمشاهد بالبرهان ،فكأنّ المعلوم المميّز بتلك الصفات العظام صار عياناً، والمعقول مشاهداً ، والغيبة حضوراً، فقال : يا من هذا شأنه وهذه صفاته (إيَّاكَ نَعْبُدُ) أَي : نخصّك بالعبادة في كلّ الحالات ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ونخصّك بطلب المعونة في جميع المهمّات فتقديم المفعول إنّما هو لقصد الاختصاص، ولهذا قال ابن عبّاس : معناه : نعبدك ولا تعبد غيرك .

واعلم أنّ «إيّا» ضمير منفصل للمنصوب والكاف والهاء والياء اللاحقة به في «إياك و إيَّاه» و «إياي» لبيان الخطاب والغيبة والتكلّم ، ولا محلّ لها من الإعراب كالتاء في «أنت» والكاف في «أرأيتك»، إذ هي حروف عند المحققين، وليست بأسماء مضمرة كما قاله بعضهم. ومن عادة العرب التفنّن في الكلام، والعدول من أسلوب إلى آخر تنشيطاً للسامع ، فإنّ لكلّ جديد لذة ، ويسمّى هذا التفاتاً. وهو قد يكون من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى الخطاب، ومن الغيبة إلى التكلّم ، كقوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ﴾ (1) ، وقوله: ﴿ وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ) (2) والفائدة المختصة به في هذا الموضع قد ذكرت آنفاً .

والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل، ومنه : طريق مُعَبَّد أي : مذلّل، ولهذا لا تحسن إلا لله سبحانه الذي هو مولى أعظم النعم .

وقدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي ، وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة .

والضمير المستكنّ في الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري

ص: 29


1- یونس : 22 .
2- فاطر : 9 .

الجماعة ، أو لَه ولسائر الموحدين ، فأدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم، وخلط حاجته بحاجتهم لعلّها تقبل ببركتها ويجاب إليها ، ولهذا شرعت الجماعة. وكرّر الضمير للتنصيص على أنه المستعان لا غير.

وأطلقت الاستعانة ليتناول كلّ مستعان فيه . والأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض، فيكون قوله: (اهْدِنَا) بياناً للمطلوب من المعونة، كأنه قيل : كيف أعينكم؟ فقالوا : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) . وعلى الأوّل يكون هذا إفراداً لما هو المقصود الأعظم.

والهداية دلالة بلطف، ولذلك يستعمل في الخير ، وقوله تعالى: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ (1) على التهكّم والاستهزاء. وأصلها أن يتعدّى باللام أو ب «إلى» ، كقوله : ﴿ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (2) ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (3) فعومل معاملة اختار في قوله : (واخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ ﴾ (4).

والسراط - بالسين - الجادّة ، من : سرِط الشيء إذا ابتلعه، لأنه يسترط المارّة إذا سلكوه، وبالصاد من قلب السين صاداً لأجل الطاء، وهي اللغة الفصحى. وقرأ قنبل عن ابن كثير ورويس عن يعقوب بالسين، وحمزة بالإشمام ، والباقون بالصاد. والصراط المستقيم هو الدين الحق الذي لا يقبل الله عن العباد غيره. وإنّما سمّي الدين صراطاً لأنه يؤدّي لمن يسلكه إلى الجنّة، كما أنّ الصراط يؤدّي لمن يسلكه إلى مقصده . والمعنى المراد من (اهْدِنَا) : زدنا هدى بمنح الألطاف ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدى) (5). ورووا عن أمير المؤمنين أن معناه : ثبّتنا .

ص: 30


1- الصافات : 23 .
2- الإسراء : 9 .
3- الشورى : 52 .
4- الأعراف : 155 .
5- محمد : 17 .

وهداية الله تتنوّع أنواعاً لا تحصى، لكنّها تنحصر في أجناس مترتّبة.

الأوّل : إفاضة القوى التي بها يتمكّن العبد من الاهتداء إلى مصالحه، كالقوّة العقليّة، والحواسّ الباطنة، والمشاعر الظاهرة.

والثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد، وإليه أشار بقوله : ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (1)، وقوله : (فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (2).

والثالث: الهداية بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وعناه بقوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (3)، وقوله : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (4).

والرابع : أن يكشف على قلوبهم السرائر، ويريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة وهذا مختص بالأنبياء والأولياء، وإليه أشار بقوله : (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهُ ﴾ (5)، وبقوله : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (6).

ثمّ أراد أن يبيّن سبحانه أنّ الصراط المستقيم هو طريق المؤمنين فقال على سبيل البدليّة : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وهو في حكم تكرير العامل، فكأنه قال : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم. وفائدة هذا البدل التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير ، والإشعار بأنّ الصراط المستقيم بيانه وتفسيره : صراط من خصّهم الله بعصمته، وأمدهم بخواص نعمته واحتج بهم على بريته من الأنبياء والأولياء

ص: 31


1- البلد : 10 .
2- فصلت : 17 .
3- الأنبياء : 73 .
4- الإسراء : 9 .
5- الأنعام: 90 .
6- العنكبوت : 69 .

والصدّيقين والشهداء والصالحين، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِجِينَ ) (1) فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة على آكد الوجوه، كما تقول : هل أدلّك على أكرم الناس فلان ؟ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم من قولك : هل أدلّك على فلان الأكرم ؟ لأنك بينت كرمه مجملاً أوّلاً ، ومفصّلاً ثانياً، وأوقعت فلاناً تفسيراً للأكرم فجعلته علماً في الكرم، فكأنك قلت : من أراد رجلاً جامعاً للكرم فعليه بفلان ، فهو المعين لذلك لا غير .

وأطلق الإنعام ليشمل كلّ إنعام والإنعام : إيصال النعمة، وهي في الأصل الحالة التي يستلدّها الانسان، فأطلقت لما يستلده من النعمة .

وقرأ حمزة (عليهم ) بضم الهاء وإسكان الميم، نظراً إلى أصله المفرد وهو (هم) . وكذلك : لديهم ، وإليهم. وقرأ يعقوب بضمّ كلّ هاء قبلها ياء ساكنة، في التثنية والجمع المذكر والمؤنث ، نحو : عليهما، وفيهما ، وعليهم، وفيهم، وعليهنّ، وفيهنّ . وقرأ الباقون عليهم وأخواتها بالكسر أمناً من اللبس ،وأهل الحجاز وصلوا الميم انضمّت الهاء قبلها أو انكسرت.

ونعم الله - وإن كانت لا تحصى ، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) (2) - تنحصر في جنسين : دنيوي، وأخروي.

والأوّل قسمان: موهبي، وكسبي . والموهبي قسمان: روحاني ، كنفخ الروح فيه ، وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق . وجسماني ، كتخليق البدن والقوى الحالة فيه، والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء. والكسبى كتزكية النفس عن الرذائل، وتحليتها بالأخلاق الحسنة ، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة ، وحصول الجاه والمال .

ص: 32


1- النساء : 69 .
2- النحل : 18 .

والثاني : أن يعفو ما فرط عنه، ويرضى عنه، ويبوئه في أعلى عليّين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين.

والمراد هنا هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله، فإنّ ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر .

وروي عن ابن عباس أنّ المراد من( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) هم الذين كانوا أتباع موسى وعيسى ومطيعين لأوامرهما ونواهيهما . ويؤيد ذلك قوله (عزّ و جلّ) بعد ذلك بدلاً منه : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) يعني : اليهود ، لقوله تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ) (1) ﴿ وَلَا الضَّالِّينَ) يعني : النصارى، لقوله تعالى : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً) (2) والمعنى: أنّ المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال. ويحتمل أن يكون صفة له ، وإن كان «غير» لا يقع صفة للمعرفة ولا يتعرّف بالإضافة إلى المعرفة ، لأنّ( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) لا تعيين فيه ، كقوله :

... وَلَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئيمِ يَسُبُّني ...

ولأنَّ (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ و(الضَّالِّينَ) خلاف المنعم عليهم، فليس في «غير» إذن الابهام الذي أبى له أن يتعرّف فتعيّن تعين الحركة من غير السكون. والمعنى: أنّهم جمعوا بين نعمة العصمة وبين السلامة من غضب الله والضلالة . وقال الحسن : إنّ الله تعالى لم يبرى اليهود عن الضلالة بإضافة الضلال إلى النصارى ، ولم يبرىء النصارى عن الغضب بإضافة الغضب إلى اليهود ، بل كلّ واحدة من الطائفتين مغضوب عليهم وضالون إلّا أنّ الله يخص كلّ فريق بسمة يعرف بها ويميز بينه وبين غيره بها وإن كانوا مشتركين في صفات كثيرة .

وقيل : المراد بالمغضوب عليهم والضالين جميع الكفّار، وإنما ذكروا بالصفتين

ص: 33


1- المائدة : 60 و 77 .
2- المائدة : 60 و 77 .

لاختلاف الفائدتين.

ويتجه أن يقال : المغضوب عليهم العصاة، والضالون الجاهلون بالله تعالى، لأنّ المنعم عليهم من وفّق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، فكان المقابل له من اختل إحدى قوّتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه ، لقوله تعالى في القاتل عمداً: ﴿ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) (1)، والمخلّ بالعلم جاهل ضال ، لقوله تعالى : (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) (2).

واعلم أنّ الغضب عبارة عن ثوران النفس لإرادة الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مرّ (3). فمعنى غضب الله : إرادة الانتقام منهم وإنزال العقاب بهم ، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده. ومحل «عليهم» الأولى نصب على المفعولية. ومحلّ عليهم» الثانية رفع على الفاعليّة، و «لا» مزيدة لتأكيد ما في «غير» من معنى النفي ، فكأنه قال : لا المغضوب عليهم ولا الضالين، ولذلك جاز أنا زيداً غير ضارب كما جاز أنا زيداً لا ضارب، وإن امتنع : أنا زيداً مثل ضارب . وأصل الضلال الهلاك ، ومنه : (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) (4) أي : أهلكها . والضلال في الدين هو الذهاب عن الحق.

وأعجب بضلالة أهل الخلاف أنّهم يقولون: «آمين» في آخر الفاتحة مع أنّهم لم يثبتوه في المصاحف ويتركون البسملة في أوّلها وأوائل سائر سور القرآن مع أنّهم يثبتونها في مفاتيح جميع السور وماذا إلا الضلال بعد الحق ، فهم خارجون عن الصراط المستقيم داخلون في غضب الله ، وآيسون عن رحمة الرحمن الرحيم ،مستوجبون السخط والعذاب الأليم، كاليهود والنصارى وسائر أهل الجحيم .

ص: 34


1- النساء : 93 .
2- یونس : 32 .
3- في ص : 24 .
4- محمّد : 8 .

سورة البقرة

آیة 1 - 3

بسم الله الرحمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴿2﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)

مدنية إلّا آية، وهي قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ) (1) الآية ، فإنّها نزلت بمنى في حجّة الوداع . وهي عند الكوفيين مائتان وست وثمانون آية .

أبي، عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): من قرأ سورة البقرة فصلوات الله عليه ورحمته ، وأعطي من الأجر كالمرابط في سبيل الله سنة لا تسكن روعته قال : يا أبي مر المسلمين أن يتعلّموا سورة البقرة، فإنّ تعلّمها بركة ، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة . قلت : يا رسول الله، ما البطلة ؟ قال : السحرة .

وقال النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) : من قرأ البقرة وآل عمران جاء يوم القيامة تظلّانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين.

وروی سهل بن سعد قال : قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : إنّ لكلّ شيء سناماً وسنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته نهاراً لم يدخل في بيته شيطان ثلاثة أيام. ومن قرأها في بيته ليلاً لم يدخل في بيته شيطان ثلاث ليال .

ص: 35


1- البقرة : 281 .

وسئل النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): أي سور القرآن أفضل ؟ قال : البقرة ؛ قيل : وأي آي البقرة أفضل؟ قال: آية الكرسي.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم الم) اختلف في هذه الحروف المقطعة المفتتح بها السور، فورد عن أئمتنا (علیهم السّلام) أنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها ولا يعلم تأويلها غيره .

وروت العامة عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنه قال : إنّ لكلّ كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.

وعن الشعبي : أنّ الله في كلّ كتاب سرّاً، وسرّه في القرآن حروف التهجي في أوائل السور .

وقال الأكثرون في ذلك وجوهاً :

منها : أنّها أسماء للسور يعرف كل سورة بما افتتحت به .

ومنها : أقسام أقسم الله تعالى بها ، لكونها مباني كتبه، ومعاني أسمائه وصفاته ، وأصول كلام الأمم كلّها .

ومنها: مفاتيح أسماء الله وصفاته، لقول ابن عبّاس في «الم»: معناه : أنا الله أعلم ، و (المر) معناه : أنا الله أعلم وأرى و (المص) معناه : أنا الله أعلم وأفصل . والكاف من (كهيعص ) من كافي، والهاء من هادي، والياء من حكيم ،والعين من عليم ،والصاد من صادق .

ومنها : أنّ كلّ حرف منها يدلّ على مدّة قوم وآجال آخرين بحساب الجمل، كما قاله أبو العالية متمسكاً بما روي أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لما أتاه اليهود تلا عليهم «الم» البقرة فحسبوه وقالوا كيف ندخل في دين مدّته إحدى وسبعون سنة ؟! فتبسّم رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فقالوا : فهل غيره ؟ فقال : المص والر والمر . فقالوا: خلطت علينا فلا ندري بأيّها نأخذ، فإنّ تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم

ص: 36

دليل على ذلك .

ومنها : أنّ المراد بها أنّ هذا القرآن الّذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم ، فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله ، لأنّ العادة لم تجر بأنّ الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم.

وعند المحقّقين أنّ هذه الفواتح وغيرها من الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمّياتها حروف الهجاء التي ركبت منها الكلم. وحكمها أن تكون موقوفة كأسماء الأعداد ، تقول : ألف لام ميم، كما تقول : واحد اثنان ثلاثة ، فإذا وليتها العوامل أعربت فقيل : هذه ألفٌ ،و كتبت ،لاماً ، ونظرت إلى ميم.

ثم إنه سبحانه ذكرها مفردة وثنائية وثلاثية ورباعيّة وخماسية، إيذاناً بأنّ المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة ومركبة من حرفين فصاعداً إلى خمسة ، وتنبيهاً على أنّ المتلوّ عليهم كلام منظوم ممّا ينظمون به كلامهم ، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا من أوّلهم إلى آخرهم - مع تظاهرهم وقوّة فصاحتهم - عن الإتيان بما يدانيه ، وإشعاراً بأنّ أوّل ما يقرع الأسماع مستقل بنوع من الإعجاز ، فإنّ النطق بأسماء الحروف مختص بمن خطّ ودرس، فأمّا فأمّا من الأُمّي الّذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة والتلاوة، سيّما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنّه ، وهو أنّه إذا تأملت ما أورده الله تعالى في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر اسماً إن لم تعد الألف فيها حرفاً برأسها، وهي : الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم إذا عُدّ فيها الألف.

ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أنواع

ص: 37

الحروف. بيان ذلك : أنّ فيها من المهموسة نصفها : الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن المجهورة نصفها : الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديدة نصفها : الألف والطاء والكاف والقاف، ومن الرخوة نصفها : اللام والراء والميم والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء، ومن المنفتحة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية نصفها : القاف والصاد والطاء، ومن المنخفضة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون، ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء.

ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأنواع المعدودة مكثورة بالمذكورة (1)، فسبحان الذي دقت في كلّ شيء حكمته! وقد علمتَ أنّ معظم الشيء وجلّه ينزّل منزلة كلّه ، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته ، فكأنّ الله عدد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجّة إياهم.

وممّا يدلّ على أنه تعمّد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعاً في تراكيب الكلم ، أنّ الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين، وهي فواتح سورة البقرة وآل عمران والروم، والعنكبوت، ولقمان والسجدة ، والأعراف، والرّعد، ويونس وإبراهيم، وهود، ويوسف ، والحجر .

وأنه ذكر ثلاث مفردات، وهي: «ق» «ن»(2) «ص» في ثلاث سور، لأنها توجد في الأقسام الثلاثة : الاسم والفعل والحرف.

وأربع ثنائيّات، وهي: «طه» و «يس» و «طس» و«حم» لأنها تكون

ص: 38


1- أي مغلوبة بالكثرة، أي المذكورة غالبة على غير المذكورة، ومنه: كاثرة، أي غالبة بالكثرة.
2- وهي في مفتتح سورة القلم : (نَ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) .

الحرف بلا حذف ك«بل»، وفي الفعل بحذف ك«قل»، وفي الاسم بغير حذف ك«من»، وبحذف ك«دم» في تسع سور ، لوقوع الثنائي في كلّ واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه الفتحة والضمّة والكسرة . ففي الأسماء : من وإذ وذُو . وفي الأفعال : قل وبع وخف . وفي الحروف : إن ومن ومذ .

وثلاث ثلاثيّات، وهي: «الم» و «الر» و «طسم» لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة ، فإنّ سور (الم) ستّ ، و (الر) خمس ، و (طسم) اثنان ، تنبيهاً على أن أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر عشرة منها للأسماء، وثلاثة للأفعال.

ورباعيتين، وهما: (المص) و(المر) .

وخماسيّنين ، وهما : (كهيعص) و (حمعسق) تنبيهاً على أنّ لكلّ منهما أصلاً كجعفر وسفرجل، وملحقاً كقردد وحجنفل . ولم تعد بأجمعها في أوّل القرآن لما فيه من إعادة التحدّي ، وتكرير التنبيه، والمبالغة فيه.

ولمّا كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعيّة ذكر من الزوائد العشرة التي تجمعها (اليوم تنساه) سبعة أحرف منها تنبيهاً على ذلك .

وقيل في مفتتح هذه السورة : إنّ الألف من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج، واللام من طرف اللسان وهو وسطها، والميم من الشفة وهي آخرها، جمع بينها تنبيهاً على أنّ العبد ينبغي أن يكون أوّل كلامه وأوسط كلامه وآخر كلامه ذكر الله . وقيل : إنّ الألف إشارة إلى الله ، واللام إلى جبرئيل، والميم إلى محمد فيكون المعنى : أنّ الله سبحانه نزل بواسطة جبرئيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم .

(ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ . وهو مصدر سمّي به المفعول للمبالغة ، أو فعال بني للمفعول كاللباس، ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه ممّا يكتب . وأصل الكتب الجمع، ومنه : الكتيبة

ص: 39

وقيل : «ذلك» إشارة إلى «الم» إن أوّل بالمؤلّف من هذه الحروف أو فسّر بالسورة أو القرآن فإنّه لمّا تكلّم به وتقضى أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعداً فأشير إليه بما يشار به إلى البعيد وتذكيره متى أريد ب«الم» السورة لتذكير الكتاب، فإنّه خبره أو صفته الذي هو هو. أو إلى الكتاب، فيكون صفته والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بقوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (1) ، أو في الكتب المتقدّمة .

فإن جعلت هذه الحروف المقطعة أسماء الله أو القرآن أو السور كان لها حظ من الإعراب، إما الرفع على الابتداء ، أي : المؤلّف من هذه الكلمات متحدّى به ، أو الخبر ، أي : هذا المتلوّ المتحدّى به مؤلّف من هذه الكلمات، أو النصب بتقدير فعل القسم ونزع الخافض على طريقة الله لأفعلنّ بالنصب، فإنّ أصله أقسم بالله ، فنزع الخافض واعمل فعل القسم فيه، أو الجرّ على إضمار حرف القسم.

وإن أبقيتها على معانيها ، فإن قدرت بالمؤلّف من هذه الحروف كان في حيّز الرفع بالابتداء أو الخبر على ما مرّ . وإن جعلتها مقسماً بها يكون كلّ كلمة منها منصوباً بنزع الخافض، أو مجروراً بتقدير حرف الجرّ على اللغتين في : الله لأفعلنّ، وتكون جملةً قسميّةً بالفعل المقدّر له .

وإن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتاً منزلة منزلة حرف التنبيه، لم يكن لها محلّ من الإعراب كالجمل المبتدأة والمفردات المعدودة.

وقال في جوامع البيان: إن جعلت (الم) اسماً للسورة ففيه وجوه :

أحدها: أن يكون ا(لم) ،مبتداً ، و (ذلك) مبتدأ ثانياً، والكتاب خبره والجملة خبر المبتدأ الأوّل . فيكون المعنى : أنّ ذلك هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمّى كتاباً، كأن ما سواه من الكتب ناقص بالإضافة إليه ، كما تقول :

ص: 40


1- المزّمّل : 5 .

هو الرجل ، أي : الكامل في الرجولية .

الثاني : أن يكون الكتاب صفة، فيكون المعنى : هو ذلك الكتاب الموعود.

والثالث : أن يكون التقدير : هذه الم فتكون جملة ، و ذلِكَ الْكِتَابُ جملة أخرى.

وإن جعلت (الم) بمنزلة الصوت كان ذلك مبتدأ ، والكتاب خبره ، أي : ذلك الكتاب المنزّل هو الكتاب الكامل ، أو الكتاب صفته والخبر ما بعده، أعني : قوله :(لَا رَيْبَ فِيهِ ) أي : ذلك الكتاب لا شكّ في حقيقته .

والريب مصدر: رابه يريبه ، إذا حصل فيه الريبة. وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها، سمّي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة. وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنّ الشكّ ريبة، والصدق طمأنينة»(1).

و «لا ريب» مبنيّ لتضمّنه معنى «من»، منصوب المحل على أنه اسم «لا» النافية للجنس العاملة عمل «إنّ»، لأنها نقيضها ، ولازمة للأسماء لزومها. و«فيه» خبره على الظاهر، ولم يقدّم كما قدّم في قوله تعالى: (لَا فِيهَا غَوْلُ) (2)، لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين الكتب كما قصد ثمّة، بل المراد نفي الريب عنه ، وإثبات أنّه حق وصدق لا باطل ،وكذب، كما كان المشركون يدعونه ، فلو الظرف حرف النفي لقصد إلى ما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً آخر فيه الريب لا فيه . وحقيقة المعنى أنّه من وضوح دلالته بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه ، إذ لا مجال للريبة فيه بعد النظر الصحيح في كونه وحياً بالغاً حدّ الإعجاز ، لا أن أحداً لا يرتاب فيه ألا ترى إلى قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا... (3) الآية ؟

ص: 41


1- جامع الجوامع 1 : 22 - 23 .
2- الصافات : 47 .
3- البقرة : 23 .

والمشهور الوقف على «فيه » . وبعض القرّاء يقف على «لا ريب». فلا بدّ لمن يقف عليه أن ينوي خبراً. ونظيره قوله: ﴿ لَا ضَيْر )(1). والتقدير : لا ريب فيه ، فيه (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ . فعلى الثاني يكون (هدىً) مبتدأ و (فيه) خبره. وعلى تقدير الوقف على (فيه) يكون (هدىً) خبر مبتدأ محذوف على تقدير : هو هدىً ، أو منصوباً على الحال.

والأولى أن يقال : إنّها أربع جمل مستأنفة متناسقة يقرر اللاحقة منها السابقة، ولذلك لم يدخل العاطف بينها . ف(الم) جملة دلّت على أنّ المتحدّى به هو المؤلّف من جنس ما يركبون منه كلامهم. و (ذلِكَ الْكِتَابُ) جملة ثانية مقرّرة لجهة التحدّي بأنّه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. و (لَا رَيْب فيه) ثالثة تشهد على کماله ، إذ لا كمال أعلى ممّا للحق واليقين . و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) بما يقدّر له جملة رابعة تؤكّد كونه حقاً لا يدور الشكّ حوله .

والهدى مصدر على «فعَل» كالسُّرى ، وهو الدلالة الموصلة إلى المطلوب، لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله : ل(َعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (2). ولأنه لا يقال : مهديّ إلّا لمن اهتدى إلى المطلوب. وقد يوضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» للمبالغة.

والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه تعاطي ما به العقاب من فعل أو ترك . وسمّاهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى: متقين ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلاً فله سلبه ، وقوله تعالى : ﴿ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً) (3) أي : صائراً إلى الفجور، فكأنّه قال : هدى للصائرين إلى التقى . ولم يقل : هدىً للضالين ، لأنّ الضالّين

ص: 42


1- الشعراء : 50 .
2- سباً : 24 .
3- نوح : 27 .

فريقان: فریق علم بقاؤهم على الضلالة، وفريق علم مصيرهم إلى الهدى ، فلا يكون هدىً لجميعهم .

وروي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال : جماع التقوى في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ...) (1) الآية . وقيل : التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك . وقيل : المتقي الذي اتقى ما حُرّم عليه، وفعل ما أوجب عليه . وقيل : هو الذي يتقي بصالح أعماله عذاب الله .

وسأل عمر بن الخطّاب كعب الأحبار عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شوك ؟ قال : نعم . قال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت وتشمّرت فقال كعب ذلك التقوى.

فنظمه بعض الناس فقال :

خلّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى ***واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصى

واعلم أن للتقوى ثلاث مراتب :

الأولى : التوقّي عن العذاب المخلّد بالتبرء عن الشرك ، وعليه قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) (2).

والثانية : التجنّب عن كلّ ما يؤثم به من فعل أو ترك حتى الصغائر ، وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع ، وهو المعني بقوله تعالى : ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) (3).

ص: 43


1- النحل : 90 .
2- الفتح : 26 .
3- الأعراف : 96 .

والثالث : أن يتنزّه عمّا يشغل سرّه عن الحق ، ويقطع عمّا سواه في جميع الأحوال. وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (1). وقد فسّر قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) على الأوجه الثلاثة .

قال صاحب الكشّاف والأنوار(2) ما حاصله : إنّ هذه الجمل الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ، ونظمت هذا النظم العجيب ، لم تخل كلّ واحدة منها من نكتة ذات جزالة ، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأحسنه، وهو بيان أنّ هذا الكتاب المتحدّى به مؤلّف من هذه الحروف المتداولة بين الناس. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة. وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف حذراً عن إيهام الباطل كما مرّ . وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد»، وإيراده منكراً للتعظيم ، وتخصيص الهدى بالمتقين باعتبار الغاية ، وتسمية المشارف للتقوى متقياً إيجازاً وتفخيماً لشأنه. زادنا الله اطلاعاً على أسرار كلامه وتبييناً لنكت تنزيله، وتوفيقاً للعمل بما فيه .

وقوله عزّ اسمه : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ إِمّا أن يكون مجروراً بأنه صفة للمتقين، أو منصوباً أو مرفوعاً على المدح على تقدير : أعني الذين ، أو : هم الذين يؤمنون. وإما أن يكون منقطعاً عما قبله مرفوعاً على الابتداء، وخبره «أولئك على هدى»، فيكون الوقف على «هدى للمتقين» تامّاً . وعلى التقادير ، تخصيص الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر، إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى .

واعلم أنّ الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، مأخوذ من الأمن ، كأن المصدّق أمن المصدَّق من التكذيب والمخالفة. وعُدّي بالباء فقيل : آمن به، لأنه

ص: 44


1- آل عمران : 102 .
2- الكشّاف 1 : 37 ، أنوار التنزيل 1 : 50 .

ضمّن معنى، أقرّ واعترف . ويجوز أن يكون من قياس : فعلته فأفعل، فيكون «آمن» بمعنى : صار ذا أمن في نفسه بإظهار التصديق .

وحقيقة الإيمان في الشرع هو التصديق والاعتراف بما علم بالضرورة أنه من دین محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، من المعرفة بالله وصفاته وبرسله وبجميع ما جاءت به رسله، ومن ذلك البعث والجزاء وغيرهما من أحوال المعاد فمن أخل بالاعتقاد وحده فمنافق، ومن أخل بالإقرار فكافر. والعمل لا يكون جزء الإيمان على الأصح ، فمن أخلّ به فهو مؤمن فاسق .

والغيب مصدر وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (1).

والمراد به الخفيّ الّذي لا يدركه الحسّ ، ولا يقتضيه بديهة العقل. وهو :قسمان: قسم لا دليل عليه، وهو المعني بقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ )(2). وقسم نصب عليه دليل كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله، وهو المراد به في الآية .

هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول. وإن جعلته حالاً على تقدیر : ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء. والمعنى: أنهم يؤمنون غائبين عنكم ، لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم.

وقيل : المراد بالغيب القلب والمعنى : يؤمنون بقلوبهم، لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم .

فالباء على الأوّل للتعدية، وعلى الثاني للمصاحبة، وعلى الثالث للآلة .

ص: 45


1- الأنعام : 73 .
2- الأنعام : 59 .

ثمّ عطف سبحانه على الإيمان - الذي هو أشرف من الأعمال البدنية ، لا بتناء صحتها عليه - ذكر الصلاة التي هي رأس العبادات البدنية وأفضلها، فقال: وَ(يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ) أي : يواظبون عليها لأدائها من قولهم : قامت السوق إذا نفقت ، وأقمتها إذا جعلتها نافقة ، فإذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه، وإذا أضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه .

أو يتشمّرون لأدائها من غير فتور ولا توان من قولهم : قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه وتجلّد . وضدّه : قعد عن الأمر وتقاعد.

أو يؤدّونها، عبّر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام ، كما عبّر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح .

أو يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ واعوجاج في أفعالها من قولهم : أقام العود إذا قومه .

وهذا أظهر من الأوّلين ، لأنه أشهر، وإلى الحقيقة أقرب وأفيد ، لتضمّنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله ، لا المصلّون الذين هم في صلاتهم ساهون .

والصلاة فَعْلَةٌ من : صلّى إذا دعا، كالزكاة من : زگی ، كتبتا بالواو على لفظ المفخّم . وإنّما سمّي الفعل المخصوص بها لاشتمالها على الدعاء. وقيل: أصل «صلى» حرّك الصَّلَوَين، لأنّ المصلّي يفعله في ركوعه وسجوده. وقيل من : صليت العود، إذا لينته بالنار، لأنّ المصلّي لأن قلبه وذهب قساوته بها .

ثم عطف على ذلك العبادة المالية التي هي الإنفاق، للجمع بين العبادات البدنية والمالية ، فقال : ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ . الرزق في اللغة : الحظّ، قال الله

ص: 46

تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ (1). وبإجماع الإمامية الرزق: ما صح أن ينتفع به، وليس لأحد منعه شرعاً.

وهذه الآية دالة على أن الحرام لا يكون رزقاً ، لأنه تعالى مدحهم بالإنفاق ممّا رزقناهم، والمنفق من الحرام لا يستحق المدح بالإنفاق، فلا يكون رزقاً .

وأسند الرزق إلى نفسه للإعلام بأنّهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يسمّى رزقاً من الله، و «من» للتبعيض ، فكأنه يقول : ويخصون بعض المال الحلال بالتصدّق حذراً لشوب(2) الإسراف المنهي عنه . ويجوز أن يراد به الزكاة المفروضة لإقرانه بالصلاة. ويجوز أن يراد هي وغيرها من الصدقات والنفقات في وجوه البرّ. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : وممّا علّمناهم يبون . ومنه قيل : معناه : وممّا خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون . والأولى حمل الآية على عمومها. وتقديم المفعول للاهتمام به، والمحافظة على رؤوس الآي.

آية 4 - 5

والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمُ یُوقِنُونَ ﴿4﴾ أُولَنكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأَوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿5﴾

وبعد ذكر أحوال المؤمنين على العموم مدح الله سبحانه مؤمني أهل الكتاب -كعبد الله بن سلام و اضرابه - على الخصوص، كتخصيص ذكر جبرئيل وميكائيل بعد الملائكة، تعظيماً لشأنهم، وترغيباً لغيرهم، وتعريضاً لأهل الكتاب، فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) يعنى : القرآن بأسره والشريعة بجميعها .

والإنزال نقل الشيء من أعلى إلى أسفل، وهو إنّما يلحق المعاني بتوسّط الحوقه الذوات الحاملة لها. ويحتمل أن نزول الكتب الإلهية على الرسل، بأن يتلقّفه

ص: 47


1- الواقعة : 82 .
2- كذا في الخطّية ، ولعل الصحيح : من شوب .

الملك من الله تعالى تلقّفاً روحانيّاً، أو يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به فيلقيه على الرسول .

وإنما عبّر عنه بلفظ المضيّ وإن كان بعضه مترقّباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد أو تنزيلاً للمنتظر منزلة الواقع، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ (1)، فإنّ الجنّ لم يسمعوا جميعه، ولم يكن الكتاب حينئذٍ كلّه منزلاً

(وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) يعني سائر الكتب السابقة، والإيمان بها إجمالاً فرض عين، وبالأوّل تفصيلاً ، لأنا متعبّدون بتفاصيله، بخلاف الشرائع السالفة .

(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) إيقاناً زال معه ما كان اليهود والنصارى عليه من أنّ الجنّة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى، وأنّ النار لن تمسهم إلّا أياماً معدودة، واختلافهم في نعيم الجنّة أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره ؟ وفي دوامه وانقطاعه. وفي تقديم الصلة وبناء يوقنون» على «هم» تعريض لمن عداهم من أهل الكتاب بأنّ اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق ولا صادر عن إيقان .

فهذه الآية معطوفة على «الذين يؤمنون بالغيب»، فمؤمنوا أهل الكتاب داخلون معهم في جملة المتقين دخول أخصين تحت الأعم. ويحتمل أن يراد بهم الأوّلون بأعيانهم . ووسط بالعاطف الجامع ليدلّ على أنّهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل، والإتيان بما يصدّقه من العبادات البدنية والمالية ، وبين الإيمان بما لا طريق إليه غير السمع. وكرّر الموصول فيها تنبيهاً على بيان السبيلين.

واليقين إتقان العلم بنفي الشكّ والشبهة عنه نظراً واستدلالاً ، ولذلك لا یوصف به علم القديم ولا العلوم الضرورية

ص: 48


1- الأحقاف : 30 .

والآخرة تأنيث الآخر ، صفة الدار بدليل قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ) (1) فغلبت في الموصوف كالدنيا . وعن نافع أنّه خفّفها بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام.

ولمّا وصف المتّقين بهذه الصفات بين ما لهم عنده تعالى فقال :( أُولَئِكَ عَلَى هُدى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). الجملة في محلّ الرفع بالخبرية إن كان «الذين يؤمنون بالغيب» مبتدأ، وإلا استئناف فلا محلّ لها ، فكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدّمة ، أو جواب سائل قال : ما للموصوفين بهذه الصفات اختصّوا بالهدى ؟ ونظيره : أحمد ه : أحسنت حسنت إلى زيد صديقك القديم حقيق بالاحسان، فإنّ اسم الإشارة هاهنا كإعادة الموصوف - أعني المتقين - بصفاته المذكورة، وهو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم ،وحده ، لما فيه من بيان المقتضي وتلخيصه، فإنّ ترتب الحكم على الوصف إيذان بأنّه الموجب له .

ومعنى الاستعلاء في قوله : «على هدىً» تمثيل تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء وركبه ، وذلك إنّما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من المحجج، والمواظبة على محاسبة النفس في العمل. ونكر «هدىً» للتعظيم ، فكأنه أريد به ضرب لا يبلغ كنهه.

ومعنى «من ربِّهم» أنّهم منحوه وأعطوه من عنده، وهو اللطف والتوفيق على أعمال البرّ .

وفي تكرير «أولئك» تنبيه على أنّهم تميّزوا بكلّ واحدة من الخصلتين- اللتين هما الفلاح والهدى - عن غيرهم. ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين ، فإنّ كونهم على هدى غير كونهم من أهل الفلاح، بخلاف قوله : (أُولَئِكَ

ص: 49


1- القصص : 83 .

كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أَوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (1)، فإِنَّ التسجيل بالغفلة والتشبيه بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقرّرة للأولى ، فلا تناسب العطف .

و«هم» سمّاه البصريون فصلاً، والكوفيون عماداً. وفائدته الدلالة على أنّ المذكور بعده خبر لا صفة، واختصاص المسند بالمسند إليه .

والمفلح : الفائز بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر . والمفلج بالجيم مثله . وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين - نحو : فلق وفلذ وفلى - يدلّ على الشق والفتح وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الذين بلغك أنّهم المفلحون في الآخرة ، أو الإشارة إلى ما يعرفه كلّ أحد من حقيقة المفلحين وخصوصياتهم.

فتأمل كيف نبّه سبحانه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتّى: بناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الايجاز، وتكريره ، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل ، لإظهار قدرهم، والترغيب فى اقتفاء أثرهم. وقد تشبّث به الوعيديّة في خلود الفسّاق من أهل القبلة في العذاب. ورُدّ : بأنّ المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، لا عدم الفلاح أصلاً.

آية 6 - 7

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرَتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿6﴾ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

ولما قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفي

ص: 50


1- الأعراف : 176 .

وهم عنده، وبيّن أنّ الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفّى على أثره بذكر أضدادهم، العتاة الأشقياء من الكفّار الّذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يُغني عنهم الآيات والنذر ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَنْذَرْتَهُمْ) يا محمد (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي سواء عليهم إنذارك وترك إنذارك . والإنذار : التخويف من عقاب الله تعالى. ولم يعطف قصّتهم على قصّة المؤمنين كما عطف في قوله: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ (1) لتباينهما في الغرض، فإنّ الأولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه، والأخرى مسوقة لشرح تمرّدهم وانهماكهم في الضلال.

و«إنّ» من الحروف التي شابهت الفعل المتعدّي في عدد الحروف، والبناء على الفتح، ولزوم الأسماء، وإعطاء معانيه ، ودخولها على اسمين، ولذلك عملت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني ، إيذاناً بأنه فرع في العمل وفائدة «أن» تأكيد النسبة وتحقيقها.

وتعريف الموصول إما للعهد والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود أو للجنس يتناول كلّ من صمّم على الكفر .

والكفر لغة : ستر النعمة، وأصله الكفر بالفتح ، وهو الستر . ومنه قيل للزارع والليل : كافر، ولكمام الثمرة كافور . وفي الشرع : إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به .

و «سواء» اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر، وهو خبر «إن»، و«أنذرتهم أم لم تنذرهم» مرفوع على الفاعلية ،كأنه قيل: إنّ الّذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. والفعل إنّما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له ، أما لو أطلق وأريد به اللفظ أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمناً على الاتساع

ص: 51


1- الانفطار : 13 - 14 .

فهو كالاسم في الإضافة والإسناد، كقوله تعالى : (وإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) (1)، وقوله:( يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) (2)، وقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، ومثل: «ضرب» فعل ماض .

وإنّما عدل هاهنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدّد وحسن دخول الهمزة و «أم» عليه لتقرير معنى الاستواء عليه وتأكيده، فإنّهما جرّدتا عن معنى الاستفهام لمجرّد الاستواء، كما جرّدت حرف النداء عن الطلب لمجرّد التخصيص في قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، فإنّ حرف النداء يستعمل للنداء والاختصاص، وقد سلب عنه معنى النداء وبقي معنى الاختصاص، و«أيتها العصابة» تفسير للنون في «لنا» كأنّه قال : اللهم اغفر للعصابة .

وإنّما اقتصر عليه (3) دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشدّ تأثيراً في النفس، من حيث إن دفع الضرّ أهمّ من جلب النفع ، فإذا لم ينفع كانت البشارة بعدم النفع أولى.

واعلم أنّه سهّل الثانية وفصل بالألف ب ج (4)، وأبدل الثانية ألفاً أو سهلها بلا فصل ج ، وسهل الثانية بلا فصل د ، وخفّفهما مع الفصل أو سهل الثانية مع الفصل ل ، وقصر وحقّق م ن ش .

وقوله ( لَا يُؤْمِنُونَ﴾ جملة مفسّرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء، فلا

ص: 52


1- البقرة : 91 .
2- المائدة : 119 .
3- أي : على الإنذار .
4- هذه الحروف رموز لأوائل أسامي القرّاء ، والظاهر بمراجعة كتب التفاسير أن «ب» لابن عامر ، و «ج» لأهل الحجاز ، و «د» لأهل المدينة ، و «ل» أو «ك» لأهل الكوفة أو الكسائي ، و «م» لأبي عمرو ، و «ن» للحلواني ، و «ش» لورش . ويحتمل غير ذلك ، لاختلاف القرّاء في قراءة الهمزتين المجتمعتين في كلمة واحدة ، فليراجع كتب التفسير والقراءات .

محلّ لها ، أو حال مؤكّدة، أو بدل عنه، أو خبر ل «إن» والجملة قبلها اعتراض وفائدة الإنذار في حقهم بعد علم الله تعالى بأنه لا ينجع : إلزام الحجّة ، وحيازة الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) فضلَ الإبلاغ، ولذلك قال : (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) ولم يقل : عليك . وفي الآية إخبار بالغيب إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم ، كأبي جهل وأضرابه، فهي من المعجزات.

واحتجّت الأشاعرة بهذه الآية على جواز التكليف بالممتنع ، لأنّ الله سبحانه أخبر عن الكفّار بأنّهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان، وهو ممتنع ، لأنه معلوم العدم، لعلم الله أنّ الكفّار يستمرّون على كفرهم فلو آمنوا لزم انقلاب علم الله جهلاً وخبره كذباً، وشمل إيمانهم الإيمان بأنّهم لا يؤمنون ، فيجتمع الضدّان .

وأجيب : أنّ فرض العلم بعدم الإيمان هو بعينه فرض المعلوم الّذي هو عدم الإيمان، لأنّ شرط العلم مطابقته للمعلوم، وحينئذٍ يكون امتناع الإيمان المفروض العدم امتناعاً لاحقاً بسبب الفرض، وهو بسبب الفرض، وهو لا يؤثر في إمكان الإيمان الثابت للكفّار لذاته، بمعنى أنّه غير راجع له ، لأنّ ما بالذات لا يتصوّر إرتفاعه عنها بسبب عارض من فرض وغيره، والتكليف بالفعل إنما هو مشروط بإمكانه الذاتي وهو متحقق. والحاصل : أنّ العلم تابع للمعلوم، وأنّ التابع لا يكون علة للمتبوع ، ولو صح هذا الدليل لزم نفي قدرته تعالى، لأنه عالم بجميع المعلومات، فإذا كان ما علم وجوده واجباً وما علم عدمه ممتنعاً وكلاهما غير مقدور الله لم يبق مقدور أصلاً، وذلك باطل اتفاقاً. ويمتنع تكليف الضدّين في الإخبار عن المكلّفين بالإيمان بأنّهم لا يؤمنون، لجواز ورود الإخبار حال غفلتهم .

ولمّا أعرضوا عن الحق عناداً ولجاجاً وعتوّاً واستكباراً، وتمكن ذلك الإعراض في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم ، شبّههم الله تعالى بالوصف الخلقي المجبول عليه، فقال : (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ

ص: 53

غِشَاوَةٌ ). وهذا كما يقولون : فلان مجبول على كذا ومفطور عليه ، يريدون أنّه بليغ في الثبات عليه .

وقيل : المراد به تمثیل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن ، أو قلوب أشخاص مقدّرُ ختمُ الله عليها ، أي : لو قدر وفرض ختم الله على قلوب لكانت قلوبهم مماثلة لها .

أو الختم في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، لكن لما كان صدوره عنه بإقداره تعالى إيَّاه وتمكينه عليه أسند إليه الفعل إسناد الفعل إلى المسبّب .

أو المراد أن أعراقهم لمّا رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى القسر والإلجاء، ثم لم يقسرهم الله إبقاء على غرض التكليف الذي من شأنه الاختيار، عبّر عن تركه بالختم، فإنّه سدّ لإيمانهم وفيه إشعار على رسوخ أمرهم في الغي ، وتناهي إنهماكهم في الضلال والبغي.

أو يكون ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولون : ﴿ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرُ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) (1) تهكّماً واستهزاء بهم.

أو يكون ذلك في الآخرة، وإنّما أخبر عنه بالماضي لتحققه وتيقن وقوعه ويشهد له قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيِاً وَبُكْماً) (2).

أو المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة فيبغضونهم وينفرون عنهم . وعلى هذا المنهاج كلامنا فيما يضاف إلى الله تعالى من طبع وإضلال ونحوهما.

ولا يجوز إسناد الختم في هذه الآية والطبع في قوله : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ

ص: 54


1- فصّلت : 5 .
2- الإسراء : 97 .

عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) (1) والإضلال في قوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ) (2) والإقساء في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً )(3) والإغفال في قوله: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ ﴾ (4)، إلى الله تعالى على الحقيقة، لمنافاته التكليف الّذي مناطه الاختيار، ولعدم فائدة الأمر والنهي ، ولاستلزامه القبح على الله، والله يتعالى عن فعل القبيح علوّاً كبيراً. وأيضاً كيف يتخيّل خلق القبيح وقد وردت الآية ناعية على الكفّار شناعة صفتهم وسماجة حالهم، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم ؟ وبواقي الأدلّة والبراهين على هذا المطلوب أحلناها إلى علم الكلام خوفاً من الإطناب.

وقال فى الكشّاف : «لا ختم ولا تغشية ثَمّ على الحقيقة، وإنّما هو من باب المجاز. ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما : الاستعارة والتمثيل . أما الاستعارة فأن تجعل «قلوبهم»، لأن الحق لا ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده، و«أسماعهم»، لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف استماعه، كأنها مستوثق منها بالختم ، و«أبصارهم»، لأنها لا تجتلي آيات الله المعروضة ودلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين ، كأنما غطّي عليها وحجبت بينها وبين الإدراك. وأما التمثيل فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التى كُلّفوها وخُلقوا من أجلها بأشياء ضُرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية (5).

وقوله: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ) معطوف على «قلوبهم» ، لقوله تعالى: ﴿وَخَتَمَ عَلَى

ص: 55


1- النحل : 108 .
2- الرعد : 27 .
3- المائدة : 13 .
4- الكهف : 28 .
5- الكشّاف 1 : 48 .

سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) (1)، وللوفاق على الوقف عليه، ولأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختمُ الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها من فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة . وكرّر الجارّ ليكون أدلّ على شدّة الختم في الموضعين ، واستقلال كلّ منهما بالحكم.

وتوحيد «السمع» للأمن عن اللبس ، واعتبار الأصل، فإنّه مصدر في أصله والمصادر لا تجمع، أو على تقدير مضاف مثل : وعلى حواس سمعهم.

والأبصار جمع بصر، وهو إدراك العين، كما أنّ البصيرة نور القلب وهو ما به يستبصر ويتأمل. وقد يطلق مجازاً على القوة الباصرة وعلى العضو. وكذا السمع. ويجوز أن يراد بهما في الآية العضو ، لأنه أشدّ مناسبة للختم والتغطية، وبالقلب ما هو محلّ العلم، وقد يطلق ويراد به العقل والمعرفة ، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبُ ﴾ (2). وإنّما جاز إمالة الألف الصاد لأنّ الراء المكسورة مع تغلب المستعلية ، لما فيها من التكرير .

والختم والكتم أخوان ، لأنّ في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطّلع عليه . والغشاوة الفعالة من : غشاه إذا غطاه ، بنيت لما اشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة . و «غشاوة» مرفوع بالابتداء عند سيبويه ، وبالجارّ والمجرور عند الأخفش .

ثم وعدهم لما يستحقونه فقال : (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ). العذاب كالنكال بناءً ومعنىً. وأصله الإمساك والمنع ، ومنه : الماء العذب، لأنه يقمع العطش ويردعه، ثمّ اتسع وأطلق على كلّ ألم شديد وإن لم يكن نكالاً، أي: عقاباً يردع الجاني عن المعاودة ، فهو أعمّ منهما . وقيل : اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذب

ص: 56


1- الجاثية : 23 .
2- ق : 37 .

والعظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير، فكما أن الحقير دون الصغير فالعظيم فوق الكبير، ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً تقول : رجل عظيم جنّته أو خطره.

ومعنى التنكير في «غشاوة» و «عذاب عظيم» أن على أبصارهم غشاوة ليس ممّا يتعارفه الناس، وهو التعامي عن الآيات، ولهم من الآلام العظام نوع لا يعلم كنهه إلا الله .

آية 8 - 16

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿1﴾ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴿11﴾ أَلَا إِلَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكن لا يَشْعُرُونَ ﴿12﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا أَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكن لا يَعْلَمُونَ ﴿13﴾ وَإِذَا لَقُوا الذينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطينهمْ قَالُوا إنا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ ﴿14﴾ اللَّهُ يَسْتَهْزِئَ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿15﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ اسْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تَجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

ولما افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا دينهم الله ، وواطأت فيه قلوبهم

ص: 57

ألسنتهم ، ووافق سرّهم علنهم، وفعلهم قولهم، ثمّ تنّى بطريق التقابل والتضاد بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً قلوباً وألسنة ، فثلّث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا ، وهم الذين قال فيهم : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ ) (1)وسمّاهم المنافقين، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده، لأنّهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً، وبالشرك استهزاءً وخداعاً، ولذلك أنزل فيهم : (إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾(2) ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية هي أشأم الأعداد عرفاً، فنعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم وسفّههم، واستجهلهم واستهزأ بهم ، وسجّل بطغيانهم وعمههم ، ودعاهم صمّاً وبكماً وعمياً، وضرب لهم الأمثال الشنيعة، فعطفهم على قصّة الّذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة فقال : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر) .

النّاس أصله أناس لقولهم : إنسان وإنس وأناسي ، فحذفت الهمزة وعوّض عنها حرف التعريف ، ولذلك لا يكاد يجمع بينهما . وهو اسم جمع ، إذ لم يثبت فعال من أبنية الجمع مأخوذ من إنس، لأنهم يستأنسون بأمثالهم، أو أنس، لأنهم ظاهرون مبصرون، ولذلك سمّوا بشراً، كما سمّي الجنّ جنّاً لاجتنانهم. واللام فيه للجنس، و «من» موصوفة، إذ لا عهد وكأنه قال : ومن الناس ناس يقولون . وقيل : للعهد، والمعهود هم الذين كفروا، و«من» موصولة يراد بها ابن أبي رأس المنافقين وأصحابه، فإنّهم من حيث إنّهم صمّموا على النفاق دخلوا في عداد الكفّار المختوم على قلوبهم، واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا

ص: 58


1- النساء : 143 .
2- النساء : 145 .

الجنس، فإنّ الأجناس تتنوّع بزيادات يختلف فيها أبعاضها، فتكون الآية تقسيماً للقسم الثاني .

واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان، وادّعاء منهم كذباً بأنّهم احتازوا الإيمان من المبدأ والمعاد وأحاطوا بأوّله وآخره، وكشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الغي والفساد، لأنهم كانوا يهوداً وإيمان اليهود بالله ليس بإيمان ، لقولهم : (عُزَيرٌ ابْنُ الله ) (1) وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ، لأنهم يعتقدون أنّ الجنّة لا يدخلها غيرهم، وأنّ النار لن تمسّهم إلّا أياماً معدودة وغيرها ، ويرون المؤمنين أنهم آمنوا بمثل إيمانهم. فكان قولهم: «آمنا بالله وباليوم الآخر» خبثاً مضاعفاً وكفراً ذا وجهين ، لأنّ قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق فهو كفر لا إيمان، فإذا قالوه على وجه النفاق، خديعةً للمؤمنين واستهزاءً بهم، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثاً إلى خبث ، وكفراً إلى كفر .

وفي تكرير الباء ادّعاء الإيمان منهم بكلّ واحد على الأصالة والاستحكام. والقول هو التلفّظ بما يفيد ، ويقال بمعنى المقول، وللمعنى المتصوّر في النفس المعبّر عنه باللفظ ، وللرأي والمذهب مجازاً.

والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي ، أو إلى أن يدخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النار النار ، لأنه آخر الأوقات المحدودة التي لا حدّ للوقت بعده .

ثمّ أنكر سبحانه ما ادعوه ونفى ما انتحلوا إثباته، فقال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ . وكان أصله وما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل، لكنّه عكس تأكيداً ومبالغة في التكذيب، لأنّ إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان، ولذلك أكّد النفي بالباء.

ص: 59


1- التوبة : 30 .

وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء.

وهم في هذا القول يزعمون أنّهم (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) . الخدع أن توهم صاحبك خلاف ما تخفيه من المكروه لتزلّه عمّا هو بصدده. وأصله الإخفاء، ومنه المخدع للخزانة والمخادعة تكون بين اثنين وخداعهم مع الله ليس على ظاهره، لأنه لا يخفى عليه خافية، ولأنهم لم يقصدوا خديعته، بل المراد إمّا مخادعة رسول الله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنّه خليفته ، وهذا مثل أن يقال : قال الملك كذا ، وإنّما القائل وزيره أو خاصّته الذين قولهم قوله . ويؤيّده قوله تعالى : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ (1)﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ) (2). وإما أن صورة صنيعهم مع الله - من إظهار الإيمان، واستبطان الكفر ، وصنع الله معهم في إخفاء حالهم، وإجراء أحكام الاسلام عليهم، وهم عنده أخبث الكفّار وأهل الدرك الأسفل من النار ، استدراجاً لهم ، وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم، وإجراء أحكام الاسلام عليهم مجازاةً لهم بمثل صنيعهم - صورة صنيع المتخادعين .

ويحتمل أن يراد ب«يخادعون» يخدعون، لأنه بيان «يقول»، إلّا أنّه أخرج زنة «فاعَلَ» للمبالغة ، فإنّ الزنة لمّا كانت للمغالبة ، والفعل متى غولب فيه فاعله كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض استصحبت ذلك ، لأنه يزيد قوة الداعي دفعاً لمعارضته. وللمبالغة المذكورة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾ . وغيرهم يقرؤون : يخدعون ، لأنّ المخادعة لا تتصوّر إلا بين اثنين .

وكان غرضهم في إظهار الإيمان مع كفر الباطن أن يدفعوا عن أنفسهم ما يتطرّق بالكفرة من النوائب الصادرة عن المسلمين، وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين

ص: 60


1- النساء : 80 .
2- الفتح : 10 .

من الإكرام والإعطاء ، وأن يختلطوا بالمسلمين فيطّلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى معانديهم، وغير ذلك من المقاصد والأغراض والمعنى أن دائرة الخداع راجعة إليهم ، وضررها يحيق بهم ولا يعدوهم إلى غيرهم، وأنّهم في ذلك خدعوا أنفسهم لمّا غرّوها بذلك ، وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الباطلة، وحملتهم على مخادعة من لا يخفى عليه خافية .

والنفس ذات الشيء وحقيقته، ثم قيل للروح ، لأنّ نفس الحي بها، وللقلب لأنه محلّ الروح، وللدّم، لأنّ قوامها به وللماء لفرط حاجتها إليه، وللرأي في قولهم : فلان يؤامر نفسه، إذ الأمر ينبعث عنها . والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم. ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم ، أي : هم إنما يخدعون ذواتهم وقلوبهم و آراءهم .

﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ لا يحسّون بذلك ، لتمادي غفلتهم ، فإنّ الشعور علم الإنسان الشيء علم حسّ ، ومشاعر الإنسان حواسّه .جعل الله لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواّس.

ثم فسّر علة عدم شعورهم بخدعهم أنفسهم في القول المذكور فقال: ﴿في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ . أستعير المرض الذي هو يعرض البدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله للأعراض النفسانية التي تخلّ بكمالها ، كالجهل وسوء الاعتقاد والغلّ والحسد على رسول الله والمؤمنين، وغير ذلك مما هو فساد وآفة ، لأنها مانعة عن نيل الفضائل، أو مؤدّية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية، شبيهة بالمرض ، كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك. فالمراد به هنا ما في قلوبهم من الكفر والحقد والحسد على رسول الله والمؤمنين. ويجوز أن يراد في الآية كلا المعنيين، فإن قلوبهم كانت متألمة تحرّقاً على ما فات عنهم من الرئاسة،

ص: 61

وحسداً على ما يرون من إثبات أمر الرسول واستعلاء شأنه يوماً فيوماً، ونفوسهم كانت مؤوفة (1) بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ونحوها .

(فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بسبب ما ينزل على رسوله من الوحي، فيكفرون ويزدادون كفراً إلى كفرهم، فكأنه سبحانه زادهم ما ازدادوه، فأسند الفعل إلى المسبب، كما أسنده إلى السورة في قوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ) (2) لكونها سبباً . أو أراد : كلّما زاد الله رسوله نصرةً على الأعداء وتمكنا وتبسّطاً في البلاد واستعلاءً لشأنه يوماً فيوماً ، فزادهم الله غمّهم بما زاد في إعلاء أمره واعتلاء ذكره، فازدادوا غلّاً وحسداً، أو ازدادت قلوبهم ضعفاً وجبناً حين شاهدوا شوكة المسلمين، وإمداد الله لهم بالملائكة، وقذف الرعب في قلوبهم . أو زاد الله غمّ قلوبهم التي كانت متألمة تحرّقاً على ما فات عنهم من الرئاسة بما زاد في إعلاء أمره وارتفاع ذكره.

وهذا عذاب لهم في الدنيا (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة ، أي : مؤلم ، يقال : ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع. وصف به العذاب للمبالغة على طريقة قولهم : جَدَّ جَدُّهُ. وذلك العذاب المؤلم لهم (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) أي : بسبب كذبهم . و «ما» مصدريّة . والكذب هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به. وفي هذا إشارة إلى قبح الكذب، وأن لحوق العذاب الأليم من أجل كذبهم .

وقرأها عاصم وحمزة والكسائي ، وقرأ الباقون (يكذّبون» من : كذّبه ، لأنهم يكذّبون الرسول بقلوبهم. أو من «كذّب» الذي هو للمبالغة أو التكثير، فيكون لازماً. وفيه مبالغة إمّا باعتبار الكيف أو الكم، مثل: بيّن الشيء وموّتت البهائم أو من : كذَّب الوحشي، إذا جرى شوطاً ووقف لينظر ما وراءه، فإنّ المنافق متحيّر متردّد.

ص: 62


1- أي أصابتها آفة .
2- التوبة : 125 .

ثم عطف على «يكذبون» قوله : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) . ويجوز أن يكون معطوفاً على «يقول»، لأنك لو قلت : ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا، صح الكلام. والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به ونقيضه الصلاح . وكان فساد المنافقين في الأرض بميلهم إلى الكفّار، وإفشاء أسرار المسلمين إليهم ، وإغرائهم عليهم بتهييج الحروب والفتن، فإنّ ذلك يؤدّي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث ، ومنه إظهار المعاصي، والإهانة بالدّين، فإنّ الإخلال بالشرائع والإعراض عنها ممّا يوجب الهرج والمرج ويخلّ بنظام العالم. والقائل هو الله تعالى ، أو الرسول، أو بعض المؤمنين. وقرأ الكسائي بإشمام الضمّ الأوّل . وإسناد «قيل» إلى «لا تفسدوا» و «آمنوا» و «آمنّا» باعتبار إسناده إلى اللفظ ، كأنّه قيل : وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام، فلا يرد كيف صح أن يسند «قيل» إلى « لا تفسدوا» ، وكذا إلى «آمنًا» و «آمنوا»، وإسناد الفعل إلى الفعل ممّا لا يصحّ ؟

وقوله: ﴿ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ جواب ل«إذا»، وردّ للناصح على سبيل المبالغة . والمعنى: أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك، فإنّ شأننا ليس إلا الإصلاح، وان حالنا متمحضة عن شوائب الفساد ، لأنّ «إنّما» يفيد قصر ما دخله على ما بعده. وإنّما قالوا ذلك لأنهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح ، لما في قلوبهم من المرض كما قال الله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ﴾ (1).

ثم ردّ الله لما ادعوه أبلغ ردّ بقوله : ( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) وأبلغيّته للاستئناف به ، وتصديره بحرفي التأكيد ، أعني : «ألا» المنبّهة على تحقق ما بعدها ، فإنّ همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقاً،

ص: 63


1- فاطر : 8 .

ونظيره : (أليس ذلك بقادر )(1) و «إنّ» المقرّرة للنسبة ، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، والاستدراك بقوله: ﴿ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ .

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) هذا من تمام النصح والإرشاد، فإنّ كمال الإيمان بمجموع الأمرين : الإعراض عمّا لا ينبغي، وهو المراد بقوله: «لا تفسدوا في الأرض»، والإتيان بما ينبغي، وهو المعني بقوله : آمنوا (كَمَا آمَنَ النَّاسُ) في حيّز النصب على المصدر، و «ما» مصدريّة ، أي : آمنوا إيماناً كإيمان الناس واللام للعهد، أي كإيمان أصحاب رسول الله ، وهم ناس معهودون، أو عبدالله بن سلام وأضرابه، أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم أو للجنس، فإنّ اسم الجنس كما يستعمل لمسمّاه مطلقاً، يستعمل لما يستجمع المعاني المقصودة منه والمخصوصة ولذلك يسلب عن غيره فيقال : زيد ليس بإنسان والمراد الكاملون في الانسانية - أي : المؤمنون، كأنهم الناس على الحقيقة، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل - العاملون بقضيّة العقل .

وعلى التقادير : (قَالُوا) في جواب الناصح :( أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) الاستفهام للإنكار ، واللام مشارٌ بها إلى الناس، كما تقول لصاحبك : إن زيداً قد سعى بك ، فيقول : أو قد فعل السفيه ؟ وإنّما سفّهوهم لاعتقاد فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإنّ أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالٍ كصهيب وبلال ، أو لعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسّر «الناس» بعبد الله بن سلام وأشياعه. والسفه خفّة وضعف في الرأي يقتضيهما نقصان العقل، والحلم يقابله.

فردّ الله تعالى قولهم وجهلهم بقوله : (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فإنّ الجاهل بجهله على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المعترف بجهله، فإنّه ربّما يعذر وتنفعه الآيات والنذر .

ص: 64


1- القيامة : 40 .

وإنّما فصلت هذه الآية ب«لا يعلمون» والّتي قبلها ب«لا يشعرون» لأنه أكثر طباقاً لذكر السفه، فإنّ الفساد يدرك بالحسّ فناسب « لا يشعرون» ، أي : لا يحسّون وإنّ خفّة العقل والرأي يدرك بالعقل فناسبت « لا يعلمون». ولأن الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحق والباطل ممّا يفتقر إلى نظر وتفكّر ، وأمّا النفاق وما فيه من الفتن والفساد من التغاور والتحارب والتناحر فإنّما يدرك بأدنى تفطّن وتأمّل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم ، فهو كالمحسوس والمشاهد . ولأنه قد ذكر السفه فكان ذكر العلم معه أحسن .

ثم بيّن سبحانه ما كانوا يعاملون مع المؤمنين والكفّار فقال : ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : صادفوهم، من اللقاء بمعنى المصادفة ؛ يقال : لقيته ولاقيته إذا صادفته واستقبلته، ومنه ألقيته : إذا طرحته ، فإنّك بطرحه جعلته بحيث يلقى . (قَالُوا آمَنَّا) كما آمنتم بالله ورسوله .

﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ من خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه ، أو من خلاك ذمّ أي: عداك ومضى عنك ، ومنه : القرون الخالية . والمراد ب«شياطينهم» الذين ماثلوا الشيطان في تمردهم، وهم المظهرون كفرهم ، وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر ، أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم والنون عند سيبويه إمّا أصليّة من : شطن ، إذا بعد ، فإنّه بعيد عن الصلاح، وإما زائدة من شاط، إذا بطل ، كما مرّ (1) في الاستعاذة .

والمعنى : إذا فارقوا المؤمنين وانفردوا مع رؤسائهم من الكفّار أو المنافقين الذين أمروهم بالتكذيب أو مضوا إليهم (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي : إِنَّا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم. خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعليّة، والشياطين بالجملة الاسمية المؤكّدة ب«إنّ» لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان، وبالثانية

ص: 65


1- في ص 20 .

تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه.

وقوله : (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) تأكيد لما قبله، لأن المستهزىء بالشيء المستخفّ به مصرّ على خلافه . ويجوز أن يكون بدلاً منه، لأن من حقر الاسلام فقد عظم الكفر ، أو استئنافاً، فكأنّ الشياطين قالوا لهم لما قالوا إنا معكم : إن صح ذلك فما لكم توافقون المؤمنين وتدعون الإيمان ؟ فأجابوا بذلك .

والاستهزاء السخرية والاستخفاف ، يقال : هزأت واستهزأت بمعنى كأجبت واستجبت . وأصله الخفّة من الهزء وهو القتل السريع ؛ يقال : هزأ فلان إذا مات على مكانه، وناقة تهزأ ، أي : تسرع وتخفّ .

(اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ) يجازيهم على استهزائهم بإنزال الهوان والحقارة بهم. سمّي جزاء الاستهزاء باسمه، كما سمّي جزاء السيّئة سيّئة في قوله: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ (1)، إمّا لمقابلة اللفظ باللفظ، أو لكونه مماثلاً له في القدر، أو يرجع الله وبال الاستهزاء عليهم، فيكون كالمستهزىء بهم، من باب إطلاق اسم السبب الذي هو الاستهزاء على المسبّب الذي هو وبال الاستهزاء. أو يعاملهم معاملة المستهزىء. أمّا في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم، واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان. وأمّا في الآخرة فبأن يفتح لهم وهم في النار باباً إلى الجنّة ، فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سدّ عليهم الباب، وذلك قوله : ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) (2).

وإنّما استؤنف به ولم يعطف ليدلّ على أنّ الله تعالى تولّى مجازاتهم على أبلغ الوجه بحيث استهزاؤهم ليس باستهزاء، ولا يؤبه له في مقابلته لما ينزل بهم عن النكال ، ويحلّ بهم من الهوان والذل ، ولم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم بذلك.

ص: 66


1- الشورى: 40 .
2- المطفّفين : 34 .

ولم يقل : الله مستهزىء بهم، ليطابق قولهم ، إيماءً بأن الاستهزاء يحدث حالاً فحالاً، ويتجدّد حيناً بعد حين ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم كما قال:( أولا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْن) (1)، وما كانوا في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار.

(وَيَمدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) من : مدّ الجيش وأمده، إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره. وكذلك مد الدواة وأمدها : زادها ما يصلحها . ومنه : مددت السراج والأرض ، إذا استصلحتهما بالزيت والسماد ومده الشيطان في الغيّ وأمده : إذا وصله بالوساوس حتى يتلاحق غيّه ويزداد انهماكاً فيه ، لا من المدّ في العمر، فإنّه يعدّى باللام ك: أملي له .ويدلّ عليه قراءة ابن كثير : ويمدّهم.

والمعنى: أنه يمنعهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين، ويخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم، فتبقى قلوبهم متزايدة الرّين والظلمة كتزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين . أو مكّن الشيطان من إغوائهم، ولم يمنعه منهم قسراً وإلجاء، فزادهم طغياناً ، فأسند ذلك الزائد إلى الله سبحانه ، لأنه مسبّب عن فعله بهم من منع الألطاف بسبب إصرار كفرهم ، إسناد الفعل إلى المسبِّب .

والطغيان : الغلوّ في الكفر، ومجاوزة الحدّ في العتوّ. وأصله تجاوز الشيء عن مكانه . قال الله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ)(2).

وأضاف الطغيان إليهم لئلّا يتوهّم أنّ إسناد الفعل إليه سبحانه على الحقيقة، بل يدلّ على أنّ الطغيان والتمادي في الضلال ممّا اقترفته نفوسهم واجترحته أيديهم ، وأنّ الله بريء منه، ردّاً لاعتقاد الكفرة القائلين: (لو شاء الله ما أشركنا) (3).

ص: 67


1- التوبة : 126 .
2- الحاقّة : 11 .
3- الأنعام : 148 .

ونفياً لوهم من عسى يتوهّم عند إسناد المد إلى ذاته لولم يضف الطغيان إليهم أن الطغيان فعله، فلمّا أسند المدّ إليه على الطريق الذي ذكر أضاف الطغيان إليهم ليميط الشبهة ويقلعها ، ويدفع في صدر من يلحد في صفاته. ومصداق ذلك : أنه حين أسند المدّ إلى الشياطين أطلق الغيّ ولم يقيده بالإضافة في قوله : ( وإخوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيّ) (1) والعمه مثل العمى، إلّا أنّ العمه في الرأي والبصيرة خاصة، وهو التحيّر والتردّد لا يدري صاحبه أين يتوجّه، والعمى في البصر .

(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) اختاروها عليه واستبدلوها به. وأصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان، ثم أستعير للإعراض عمّا في يده محصّلاًبه غيره، سواء كان من المعاني أو الأعيان، ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعاً في غيره والضلالة : الجور عن القصد وفقد الاهتداء ؛ يقال : ضلّ منزله، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين والمعنى: أنهم أخلّوا بالهدى الذي جعل الله لهم بالفطرة الّتي فطر الناس عليها محصّلين الضلالة التي ذهبوا إليها ، أو اختاروا الضلالة واستحبّوها على الهدى .

ثم رشّح للمجاز بقوله : (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) فإنّه لمّا استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلاً لخسارتهم . والربح الفضل على رأس المال. والتجارة : طلب الربح بالبيع والشراء وأسند الخسران إلى التجارة وهو لأربابها على الاتساع، لتلبسها بالذي هو له في الحقيقة وهو الفاعل، أو لمشابهتها إيَّاه من حيث إنّها سبب الربح والخسران .

(وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) لطرق التجارة، فإنّ المقصود منها سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف، فلمّا اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم واختل عقلهم، ولم

ص: 68


1- الأعراف : 202 .

يبق لهم رأس مال يتوسّلون به إلى درك الحق ونيل الكمال ، فبقوا خاسرین آیسین عن الربح فاقدين للأصل.

آية 17 - 18

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لا يُبْصِرُونَ ﴿17﴾ صُمٌّ بُكُمْ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴿18﴾

ولمّا جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل الذي يصوّر المعقول في صورة المحسوس ، زيادةً في التوضيح والتقرير، فإنّه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد لأنه يريك المتخيَّل محققاً والمعقول محسوساً ، ولهذا أكثر الله في كتبه ذكر الأمثال وفشت في كلام الأنبياء والحكماء ، قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) (1) ، ومن سور الانجيل سورة الأمثال، فقال سبحانه: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ).

والمثل في الأصل بمعنى النظير والشبيه ؛ يقال : مِثْل ومَثل ومثيل، كشِبه وشَبَه وشبِيه ، ثم شاع في القول السائر الممثل مضربه بمورده: مثل. وهذا سمّي عند علماء البيان بالاستعارة التمثيليّة، ولا يضرب إلا ما فيه غرابة ، ولذا حوفظ عليه وحُمي من التغيير، ثم استعير لكلّ حال أو قصّة لها شأن وفيها غرابة، مثل قوله تعالى : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (2) وقوله : ( وَاللَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ) (3).

والاستيقاد طلب الوقود والسعي في تحصيله، وهو سطوع النار وارتفاع

ص: 69


1- العنكبوت : 43 .
2- الرعد : 35 .
3- النحل : 60 .

لهبها . والنار جوهر لطيف مضيء حارٌ محرق. والنور ضؤها وضوء كل نير، وهو نقيض الظُّلمة . واشتقاقها من نار ينور نوراً إذا نفر ، لأن فيها حركة واضطراباً.

و «الذي» بمعنى الذين، كما في قوله : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) (1) ، إِن جعل مرجع الضمير في «بنورهم»، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الجمع الذي استوقد . على أنّ المنافقين لم يشبه ذواتهم بذات المستوقد بل شبّهت قصتهم بقصة المستوقد ونحوه قوله : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) (2)، وقوله: ﴿ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِي عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (3)، فلا يلزم تشبيه الجماعة بالواحد والمعنى حالهم العجيبة الشأن وقصتهم كحال الذي استوقد ناراً.

(فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) أي : النار ما حول المستوقد إن جعلتها متعدية. ويحتمل أن تكون غير متعدّية مسندة إلى ما حوله، والتأنيث للحمل على المعنى ، لأن ما حول المستوقد أشياء وأماكن، أو إلى النار و «ما» موصولة في معنى الأمكنة نصب على الظرف ، أو مزيدة وحوله ظرف. وتركيب الحول للدوران. وقيل للعام : حول ، لأنه يدور .

وقوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ﴾ جواب «لمّا » ، والضمير ل«الذي»، وجمعه للحمل على المعنى . وعلى هذا إنما قال : بنورهم ، ولم يقل : بنارهم ، لأنه المراد من إيقادها، أو استئناف أجيب به اعتراض سائل يقول ما بالهم شبّهت حالهم بحال مستوقد نطفأت ناره ؟ فقيل له : ذهب الله بنورهم أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان والضمير على الوجهين للمنافقين . والجواب محذوف كما في قوله

ص: 70


1- التوبة : 69 .
2- الجمعة : 5 .
3- محمد : 20 .

تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) (1) للإيجاز وأمن الإلباس ، كأنه قيل : فلمّا أضاءت ما حوله خمدت فبقوا متحيّرين متحسّرين على فوت الضوء.

وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى إمّا لأنّ الإطفاء حصل بسبب خفيّ أو أمر سماوي كريح أو مطر ، أو للمبالغة ، ولذلك عدّي الفعل بالباء دون الهمزة، لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك ، يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له فهو أبلغ من الإذهاب. ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى قوله : «فلما أضاءت» إلى النور ، فإنّه لو قيل : ذهب الله بضوئهم، احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمّى نوراً، والغرض إزالة النور عنهم رأساً ، ألا ترى كيف قرّر ذلك وأكّده بقوله: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ) فذكر الظلمة التي هي عدم النور بالكلّية، وجمعها ، ووصفها بأنها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبح أصلاً . و«ترك» في الأصل بمعنى: طرح وخلّى، وله مفعول واحد ، وإذا ضمّن معنى «صيّر» تعدّى إلى مفعولين، وجرى مجرى أفعال القلوب كقول عنترة (2) :

فتركته جَزَرَ السّباعِ ينشنَهُ...

أي: طعمة السباع يأكلنه . ومنه قوله تعالى: «وتركهم في ظلمات». أصله :هم في ظلمات، ثم دخل «ترك» فنصب الجزأين . والظلمة مأخوذة من قولهم ما ظلمك أن تفعل كذا ؟ أي: ما منعك ؟ لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية. وظلماتهم : ظلمة الكفر ، وظلمة النفاق، وظلمة يوم القيامة. أو ظلمة الضلال، وظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمد أو ظلمة شديدة كأنّها ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض .

ص: 71


1- يوسف : 15 .
2- ديوان عنترة : 26 . وعجز البيت : يقضمن حسن بنانه والمعصم .

ومفعول «لا يبصرون» من قبيل المطروح المتروك غير المنويّ المقدّر ، وكأنّ الفعل غير متعدّ . والمعنى : لا يكون لهم بصر .

مثّل الله سبحانه في هذه الآية إظهار إيمانهم - من حيث إنّه يحقن الدماء، ويحفظ الأموال والأولاد ، ويوجب مشاركتهم المسلمين في المغانم والأحكام - بالنار الموقدة للاستضاءة ، وذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إيَّاها وإذهاب نورها . أو هذه الآية مثل ضربه الله تعالى لمن أتاه ضرباً من الهدى فأضاعه، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد، فبقي متجبّراً متحسّراً ، تقريراً وتوضيحاً لما تضمنته الآية الأولى . ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون، فإنّهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم، ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة، أو ارتد عن دينه بعد ما آمن.

ولمّا سدّوا مسامعهم عن الإصغاء إلى الحقّ ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، ويتبصّروا الآيات بأبصارهم ، جعلوا كأنهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُميّ ) أي : إيفت (1) مشاعرهم الّتي هي أصل الإحساس والإدراك ، وانتفت قواهم ، كقوله :

صُمٌ إِذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بهِ *** وإن ذُكِرْتُ بسُوءٍ عِندَهُم أَذِنُوا

أصَمُّ عن الشيء الذي لا أريده *** وأسمَعُ خَلْقِ اللهِ حين أريدُ

وإطلاقها عليهم على طريقة التمثيل لا الاستعارة، إذ من شرطها أن يطوى ذكر المستعار له ،بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لولا القرينة ، كقول زهير :

لدى أسدِ شاكى السّلاح مُقَذَّفِ *** له لِبَدٌ أظفارُهُ لم تُقَلَّمِ

وهاهنا وإن طوى ذكره لحذف المبتدأ لكنّه في حكم المنطوق به. هذا إذا جعلت

ص: 72


1- أي : صارت مشاعرهم ذات آفة .

الضمير للمنافقين، فتكون الآية نتيجة التمثيل. وإن جعلته للمستوقدين فهي على حقيقتها . والمعنى: أنّهم لمّا أوقدوا ناراً ، فذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات هائلة ، أدهشتهم بحيث اختلت حواسهم وانتقصت قواهم.

والصمم أصله صلابة من اكتناز الأجزاء، ومنه قيل : حجر أصمّ وقناة صمّاء، سمّي به فقدان حاسة السمع، لأنّ سببه أن يكون باطن الصماخ مكتنزاً لا يكون فيه تجويف يشتمل على هواء يسمع الصوت بتموّجه والبكم الخرس .والعمى عدم البصر عمّا شأنه أن يبصر، وقد يقال لعدم البصيرة. وقوله : (فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ معناه : لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه وضيّعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، تسجيلاً عليهم بالطبع، أو بقوا متحيّرين جامدين في مكانهم لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخّرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه ؟ والفاء للدلالة على أنّ اتّصافهم بالأحكام السابقة سبب لتحيّرهم واحتباسهم .

آية 19 - 20

أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فيه ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابَعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحيط بالكافرينَ ﴿19﴾يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )

ثمّ ضرب مثلاً آخر لحالهم عطفاً على «الّذي استوقد» ليكون كشفاً لحالهم بعد كشف، وإيضاحاً غبّ إيضاح، فإنّه كما يجب على البليغ في مظانّ الإجمال

ص: 73

والإيجاز أن يُجمل ويوجز ، فكذا الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصّل ويشبع، فقال مزيداً (1) للكشف والإيضاح : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) على تقدير مضاف، أي مثلهم كمثل ذوي صيّب، لقوله : (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ) . و«أو» في الأصل للتساوي في الشكّ ، ثم اتّسع فيها فأطلقت للتساوي من غير شك ، مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، ومن ذلك قوله : «أو كصيّب». ومعناه: أن قصّة المنافقين مشبهة بهاتين القصّتين، وأنّهما سواء في صحة التشبيه بهما، وأنت مخيّر في التمثيل بهما، أو بأيتهما شئت.

والصيّب فيعل من الصوب، وهو النزول من عال، يقال للمطر والسحاب ذي الصوب، والآية تحتملهما . وتنكيره لأنه أريد نوع من المطر شديد. وتعريف السماء للدلالة على أنّ الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء كلّها ، فإنّ كلّ أُفق منها يسمّى سماءً ، كما أنّ كلّ طبقة منها سماء. ويؤيّده ما في الصيب من المبالغة من جهة الأصل والبناء والتنكير . وقيل : المراد بالسماء السحاب، فاللام لتعريف الماهية. والمعنى : مَثَلهم كمثل قوم أخذهم المطر النازل من السحاب.

(فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) إن أريد بالصيب المطر . فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر، وظلمة غمامه ظلمة الليل. وجعل الصيب مكاناً للرعد والبرق لأنهما في أعلاه ومنحدره ملتبسين به وإن أريد به السحاب فظلماته سُحمته وتطبيقه مع ظلمة الليل . وارتفاعها بالظرف ،وفاقاً ، لأنه معتمد على موصوف.

والرعد صوت يسمع من السحاب. واشتهر بين علماء المعقول أن سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح .والبرق ما يلمع من السحاب، من : برق الشيء بريقاً. وكلاهما مصدر في الأصل، ولذلك لم يجمعا .

وجاءت هذه الأشياء منكرة لأنّ المراد أنواع منها، فكأنه قيل : في الصيّب

ص: 74


1- فى الخطّية : مزيّة ، والظاهر أنها تصحيف : مزيداً .

ظلمات داجية، ورعد قاصف ، وبرق خاطف، فأصحاب الصيّب المنعوت بهذه الصفات الهائلة (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ﴾ . والضمير راجع إلى أصحاب الصيّب . والمضاف وإن حذف لفظه وأقيم الصيّب مقامه لكن معناه باقٍ، فيجوز أن يعوّل عليه . وهذه الجملة استئناف، فكأنّه لمّا ذكر ما يؤذن بالشدّة والهول قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك ؟ فأجيب بها. وإنّما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة.

ويتعلّق قوله : (مِنَ الصَّوَاعِقِ ) ب«يجعلون» ، أي: من أجلها يجعلون. والصاعقة : قصفة رعد هائل معها نار لطيفة حديدة ، لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه، :أي: أهلكته ، من الصَّعق وهو شدة الصوت. وقد تطلق على كلّ هائل مسموع أو مشاهد. ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدّة الصوت. وبناؤها أن يكون صفة لقصفة الرعد، أو للرعد والتاء إمّا للمبالغة كما في الراوية بمعنى كثير الرواية للشعر وغيره ، أو مصدر كالعافية والكاذبة.

وقوله : ( حَذَرَ الْمَوْتِ ) نصب على العلّة ، أي : يضعون أناملهم في آذانهم لخوف أن يموتوا بهذه الأصوات الشديدة الهائلة لأجل الصواعق ، أو بالإحراق. والموت زوال الحياة. وفي الكشّاف :« الموت فساد بنية الحيوان ؛ وقيل : عرض لا يصحّ معه إحساس معاقب للحياة»(1). فهو يضادّها ، لقوله: ﴿ خَلَقَ الْمَوْتَ والحَيَاةَ ) (2). ورُدّ بأنّ الخلق بمعنى التقدير، والأعدام مقدّرة.

(وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) لا يفوتونه كما لا يفوت المحاطُ به المحيط ، لا يخلّصهم الخداع والحيل والجملة اعتراضية لا محلّ لها .

ولمّا ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدّة والهول فكأن قائلاً قال : فكيف

ص: 75


1- الكشّاف 1 : 85 .
2- الملك : 2 .

حالهم مع مثل ذلك البرق ؟ فقيل : (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ )فهو استئناف ثانٍ و«كاد» من أفعال المقاربة ، وضعت لدنوّ الخبر من الوجود لعروض سببه ، لكنّه لم يوجد إما لفقد شرط أو لعروض مانع . و «عسى» موضوعة لرجائه، ف«كاد» خبر محض، ولهذا جاءت متصرّفة ، بخلاف عسى وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلاً مضارعاً ، تنبيهاً على أنه المقصود بالقرب ، من غير «أن»، ليؤكد القرب بالدلالة على الحال. وقد تدخل عليه حملاً لها على عسى ، كما تحمل عليها بالحذف من خبرها المشاركتهما في أصل معنى المقاربة والخطف الأخذ بسرعة .

وقوله : ﴿ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) استئناف ثالث ، کأنّه جواب لمن يقول : كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق وخفيته ؟ فأجيب بذلك . و«أضاء» إمّا متعدِّ والمفعول محذوف بمعنى : كلّما نوّر لهم ممشى شرعوه ، أو لازم بمعنى : كلّما لمع لهم مشوا في مطرح نوره وكذلك أظلم، فإنّه جاء متعدّياً منقولاً من ظلم الليل، ويشهد له قراءة «أظلم» على البناء للمفعول . وإنّما قال مع الإضاءة: كلّما، ومع الإظلام : إذا ، لأنهم حراص على المشي ، فكلما صادفوا منه فرصة اغتنموها، ولا كذلك التوقف . ومعنى قاموا وقفوا وثبتوا ، ومنه : قامت السوق إذا ركدت ، وقام الماء : إذا جمد .

(وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ أي : ولو شاء أن يذهب بسمعهم بقصيف الرّعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب بهما ، فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه . ولقد كثر حذفه في «شاء» و «أراد» حتى لا يكاد يذكر إلا في الشيء المستغرب ، كقوله :

فلو شِئْتُ أَنْ ابْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ

وكقوله تعالى : ( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ﴾ (1).

ص: 76


1- الأنبياء : 17 .

و «لو» من حروف الشرط دالّة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني، ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه. وفائدة هذه الشرطيّة إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه من البرق والرعد. وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)ٌ تقرير لهذه الشرطيّة ودليل عليها ، فإنّ المشيئة فرع القدرة .

ولمّا كان إسناد مشيئة الله تعالى بالأمور (1) القبيحة ، ونسبة إرادته إلى الأفعال السيئة - كإيجاد الكفر والمعاصي في العباد على ما هو مذهب الأشاعرة - ضروري البطلان، لاستلزامه رفع الاختيار الذي هو مناط التكليف الشرعي، وعموم قدرة الله تعالى على الأشياء لا يستلزم أن يكون كلّها في تحت مشيئته وإرادته كما لا يخفى فما قال البيضاوي: «إنّ فائدة هذه الشرطية التنبيه على أن تأثير الأسباب في مسبّباتها مشروطة بمشيئة الله تعالى، وأنّ وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته ، وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كالتصريح به والتقرير له»(2) أمر غير معقول .

و«الشيء» ما يصحّ أن يوجد ، وهو يعمّ الواجب والممكن، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، فيعم الممتنع . ولمّا كان مشروطاً (3) في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلاً فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلّها، فكأنه قيل : إنّ الله على كلّ شيء مستقيم - أي: قابل لتأثيره فيه - قدير. ونظيره : فلان أمير على الناس، أي: على من وراءه منهم ، ولم يدخل فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس ويختص هاهنا بالممكن، بدليل أنّ القدرة لا يمكن أن يتعلّق إلّا بشيء ممكن، كما قال سيبويه في كتابه: «إنّ الشيء يقع على كلّ ما أخبر عنه من

ص: 77


1- كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح : إلى الأمور.
2- أنوار التنزيل 1 : 102 .
3- في الخطّية : مشروط ، والصحيح ما أثبتناه .

قبل أن يعلم أذكر هو أم أُنثى»(1). وهو مذكر أعمّ العامّ - كما أنّ الله أخصّ الخاصّ - يجري على الجسم والعرض والقديم ، تقول : شيء لا كالأشياء أي : معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم والمحال .

والقدرة : هو التمكّن من إيجاد الشيء . وقيل : صفة تقتضي التمكن . وقيل : قدرة الانسان هيئة بها يتمكن من الفعل، وقدرة الله تعالى عبارة عن نفي العجز عن الأشياء الممكنة. والقادر : هو الّذي إن شاء ،فعل، وإن لم يشأ لم يفعل والقدير : الفعّال لما يشاء على ما يشاء، ولذلك قلّما يوصف به غير الباري تعالى. واشتقاق القدرة من القدر ، لأنّ القادر يوقع الفعل على مقدار قوته ، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته .

وفي الكشّاف والأنوار: «الظاهر أنّ التمثيلين المذكورين من جملة التمثيلات المؤلّفة ، وهو أن تشبَّه كيفيّة منتزعة من مجموع تضامت أجزاؤه وتلاصقت حتى صارت شيئاً واحداً ، بأخرى مثلها ، كقوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ) (2) الآية ، فإنّه تشبيه حال اليهود في جهلهم بما معهم من التوراة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة والغرض منهما تمثيل حال المنافقين من الحيرة والشدّة بما يكابد من انطفأت ناره بعد إيقادها في ظلمة، أو بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف وخوف من الصواعق .

ويمكن جعلهما من قبيل تمثيل المفرد، وهو أن تأخذ أشياء فرادى فتشبهها بأمثالها ، كقوله : ( وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظُّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (3). فيشبّه في الأوّل ذوات المنافقين بالمستوقدين، وإظهارهم الايمان

ص: 78


1- كتاب سيبويه 14:1 .
2- الجمعة : 5 .
3- فاطر : 19 - 21 .

باستيقاد النار ، وما انتفعوا به من حقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك بإضاءة النار ما حول المستوقدين وزوال ذلك عنهم على القرب بإهلاكهم وإفشاء حالهم، وإبقاؤهم في الخسار الدائم والعذاب السرمد بإطفاء نارهم والذهاب بنورهم.

ويشبّه في الثاني أنفسهم بأصحاب الصيّب، وإيمانهم المخالط بالكفر والخداع بصيّب فيه ظلمات ورعد وبرق ، من حيث إنه وإن كان نافعاً في نفسه لكنّه لمّا وجد في هذه الصورة عاد نفعه ضرّاً، ونفاقهم حذراً عن نكايات المؤمنين بجعل الأصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت، وتحيّرهم لشدّة الأمر وجهلهم بما يأتون ويذرون ، بأنّهم كلّما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن تخطف أبصارهم، فخطوا خطىً يسيرة ، ثم إذا خفي وفتر لمعانه بقوا متقيدين لا حِراك بهم» (1).

آية 21 - 22

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ منَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِله أَندَاداً وَأَنتُم تَعْلَمُونَ (22)

ولمّا عدّد فرق المكلّفين وذكر خواصّهم ومصارف أمورهم أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات هزّاً للسامع وتنشيطاً له، واهتماماً بأمر العبادة وتفخيماً لشأنها ، وجبراً لكلفة العبادة بلدة المخاطبة ، فقال : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا

ص: 79


1- الكشّاف 1 : 80 ، أنوار التنزيل 1 : 103 - 104 ، والنصّ للثاني .

رَبَّكُمْ» . «يا» حرف وضع لنداء البعيد ، وأمّا نداء القريب فوضع له «أي» و«الهمزة» ، ثم استعمل «يا» في مناداة من سها وغفل وإن قرب، تنزيلاً له منزلة من بعد، فإذا نودي به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معني به جدّاً. وقد ينادى به القريب تنزيلاً له منزلة البعيد، لجلال عظمة المنادى ونهاية حقارة المنادي ، كقول الداعي : يا الله يا ربّ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد. وهو مع المنادى جملة مفيدة ، لأنّه نائب مناب الفعل .

و «أيّ» اسم مبهم جعل وصلة إلى نداء المعرف باللام، فإنّ إدخال «يا » عليه متعذر ، لتعذر الجمع بين حرفي التعريف. وأعطي حكم المنادى ، وأجري عليه المقصود بالنداء وصفاً موضحاً ليزيل إبهامه والتزم رفعه إشعاراً بأنه المقصود. وأقحمت هاء التنبيه بين الصفة وموصوفها تأكيداً، وتعويضاً عمّا يستحقه «أي» من المضاف إليه ، فإنّه لازم الإضافة . وقد كثر في كتاب الله النداء على هذه الطريقة لاستقلاله بأبلغ تأكيد ، وهو التدرّج من الإبهام إلى التوضيح. والإتيان بكلمة التنبيه المقحمة بين «أيّ» وصفته لتعاضد وصفته لتعاضد حرف النداء بتأكيد معناه . وكلّ ما نادى الله تعالى له عباده - من حيث إنّها أمور عظام من الأمر والنهي والوعد والوعيد وغير ذلك، من حقها أن يتفطّنوا إليها ويقبلوا بقلوبهم عليها ، وأكثرهم عنها غافلون - حقيق بأن ينادى له بالآكد الأبلغ .

والجموع واسماؤها المحلاة للعموم حيث لا عهد. ويدلّ عليه صحة الاستثناء منها ، والتوكيد بما يفيد العموم ، كقوله تعالى : ( فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (1). فالناس يعمّ الموجودين وقت النزول لفظاً ومن سيوجد ، لما تواتر من دينه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) و أنّ مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ، ثابت إلى قيام الساعة معنى ،إلا ما خصّه الدليل .

ص: 80


1- الحجر : 30 .

وما روي عن علقمة والحسن: أنّ كلّ شيء نزل فيه( يَا أَيُّهَا النَّاسُ) مَكّيّ و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فمدني، على تقدير صحته لا يوجب تخصيصه بالكفّار، ولا أمرهم بالعبادة حالة الكفر ، فإنّ المأمور به هو المشترك بين بدء العبادة والزيادة فيها والمواظبة عليها . فالمطلوب من الكفّار هو الشروع فيها بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع، فإنّ من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتمّ إلا به، وكما أنّ الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فالكفر يمنع وجوب الصلاة فالكفر لا يمنع وجوب العبادة، بل يجب رفعه والاشتغال بها عقيبه . ومن المؤمنين (1) ازديادهم وثباتهم عليها . فلا يرد أن الكفّار لا يعرفون الله ولا يقرون به فكيف يعبدونه ؟ والمؤمنين عابدون ربّهم فكيف أمروا بها ؟ وإنّما قال: ربّكم ، تنبيهاً على أنّ الموجب للعبادة الربوبية .

وقوله : ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة جرت عليه تعالى للتعظيم والتعليل. ويحتمل أن يكون صفة موضحة مميّزة إن خصّ الخطاب بالمشركين وأريد بالربّ أعم من الربّ الحقيقي والآلهة التي يسمونها أرباباً والخلق : إيجاد الشيء على تقدير واستواء. وأصله التقدير ، يقال : خلق النعل ، إذا قدرها وسوّاها بالمقياس .

وقوله : ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) متناول كلّ ما يتقدّم الإنسان بالذات أو بالزمان منصوب معطوف على الضمير في خلقكم». والجملة أخرجت مخرج المقرَّر عندهم إما لاعترافهم به كما قال الله تعالى : ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ﴾ (2) ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (3)، أو لتمكنهم من العمل به بأدنى نظر .

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ حال من الضمير في «اعبدوا» كأنه قال : اعبدوا ربّكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين، الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين

ص: 81


1- عطف على قوله : فالمطلوب من الكفّار ، أي : والمطلوب من المؤمنين .
2- الزخرف : 87 .
3- لقمان : 25 .

لرحمة الله . نبّه به على أنّ التقوى منتهى درجات السالكين، وهو التبرّي عن ن كلّ شيء سوى الله إلى الله ، وأنّ العابد ينبغي أن لا يغتر بعبادته ، ويكون ذا خوف ورجاء، كما قال الله تعالى : ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ) (1) ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ (2) . أو من مفعول «خلقكم» والمعطوف عليه، على معنى : أنه خلقكم ومَنْ قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى، لترجّح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه .

وتحقيق المرام في هذا المقام أن «العلّ» في الآية واقعة موقع المجاز لا الحقيقة ، لأنّ الله (عزّ و جلّ) عالم الغيب والشهادة، فإطلاق الرجاء عليه حقيقة غير جائز . فالمعنى المراد منه هاهنا : أن الله (عزّ و جلّ) خلق عباده لتعبّدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في إقدارهم وتمكينهم، وهداهم النجدين ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجوّ منهم أن يتقوا ليترجّح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان، ومصداقه قوله تعالى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُم أَحْسَنُ عَمَلاً) (3)، وإنّما يبلو ويختبر من تخفى عليه العواقب ولكن شبّه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار.

وقد جاء «لعلّ» و«عسى» الموضوعان للترجي في مواضع كثيرة من القرآن على سبيل الإطماع ، ولكن لأنه إطماع من كريم رحيم، وإذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة لجري إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به . وأيضاً لمّا كان من ديدن الملوك وما عليه أوضاع أمرهم ورسومهم أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا عسى ولعلّ ، ونحوهما من الكلمات، أو يخيلوا إخالة ، أو يظفر منهم بالرمزة أو الابتسامة أو النظرة الحلوة، فصدور ذلك من

ص: 82


1- السجدة : 16 .
2- الإسراء : 57 .
3- الملك : 2 .

مالك الملوك ذي العزّ والكبرياء أولى وأخرى.

وقيل : تعليل للخلق أي خلقكم لكي تتقون كما قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ) (1). وهو ضعيف ، إذ لم يثبت في اللغة مثله. وغلّب المخاطبين على الغائبين على إرادتهم جميعاً. ولمّا كانت التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدّي ذلك إلى تنافر النظم ، فلا يرد هلّا قيل : تعبدون لأجل «اعبدوا» ، أو : اتقوا لمكان «تتقون». والآية تدلّ على أنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيّته واستحقاقه للعبادة النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله.

ثم بيّن نعمة أخرى موجبة لاستحقاق معبوديّته فقال : ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فراشا) . وهو صفة ثانية ، أو مدح منصوب أو مرفوع، أو مبتدأ خبره «فلا تجعلوا». وجعل يجيء بمعنى: أوجد ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ)(2). و بمعنى : صيّر ، ويتعدّى إلى مفعولين ، كقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشا ) أي : صيّر بعض جوانبها بارزاً عن الماء، مع ما في طبع الماء من الإحاطة بها، وجعلها متوسطة بين الصلابة واللطافة، حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، وذلك لا يستدعي كونها مسطّحة، لأن كروية شكلها مع عظم حجمها واتساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها.

(وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) أي جعلها قبة مضروبة عليكم. والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدّد ، كالدينار والدرهم . وقيل : جمع سماءة. والبناء مصدر سمّي به المبني، بيتاً كان أو قبة أو خباء. ومنه: بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباءً جديداً .

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) عطف على جعل . (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً

ص: 83


1- الذاريات : 56 .
2- الأنعام : 1 .

لَكُمْ ). خروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سبباً فى إخراجها ومادّة لها كالنطفة للحيوان بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما ، وأودع في الماء قوّة فاعلة وفي الأرض قوّة قابلة يتولّد من اجتماعهما أنواع الثمار . وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلّها بلا أسباب ومواد ، كما أبدع نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في إنشائها مدرجاً من حال إلى حال صنائع وحكم، يجدّد فيها لأولي الأبصار عبراً، وسكوناً إلى عظيم قدرته، ليس في إيجادها دفعة.

و «من» الأولى للابتداء، سواءً أريد بالسماء السحاب، فإن ما علاك سماء، أو الفلك ، فإنّ المطر يبتديء من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض ، كما دلّت عليه ظواهر الكتاب والسنة ، أو من أسباب سماويّة تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء فتنعقد سحاباً ماطراً.

و «من» الثانية للتبعيض، بدليل قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ) (1)واكتناف المنكرين له أعني : ماءً ،ورزقاً، كأنه قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم. وهكذا الواقع، إذ لم ينزل من السماء الماء كلّه، ولا أخرج بالمطر كلّ الثمار ، ولا جعل كلّ المرزوق ثماراً. أو للتبيين و«رزقاً» مفعول به بمعنى المرزوق ، كقولك : أنفقت من الدراهم ألفاً .

وإنّما ساغ «الثمرات» والموضع موضع الكثرة ، لأنه أراد بها جماعة الثمرة التي في قولك : أدركت ثمرة بستانه أي : بعضها ، أو لأنّ الجموع يتعاور بعضها موقع بعض ، كقوله تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) (2) وقوله : ( ثلاثة قروء) (3) موضع

ص: 84


1- فاطر : 27 .
2- الدخان : 25 .
3- البقرة : 228 .

الأقراء ، أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حدّ القلّة، أو تنبيهاً على قلة ثمار الدنيا في جنب ثمار الآخرة.

و «لكم» صفة «رزقاً» إن أريد به المرزوق، ومفعوله إن أريد به المصدر، فكأنّه قال: رزقاً إيَّاكم.

ولمّا علمتم أنّ الله ربّكم ومنعمكم النعم السابقة لا غير فإيّاه اعبدوا ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً) . متعلّق ب«اعبدوا» على أنّه نهي معطوف عليه، أو نفي منصوب بإضمار «أن» جواب له . والندّ المثل المناوىء، من : ندّ ندوداً إذا نفر، وناددت الرجل : إذا خالفته . خصّ بالمخالف المماثل في الذات، كما خص المساوي بالمماثل في القدر وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً، وما زعموا أنّها تساويه في ذاته وصفاته، ولا أنّها تخالفه وصفاته، ولا أنها تخالفه في أفعاله، لأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها وسمّوها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله ، وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير ، فتهكّم بهم، وشنع عليهم بأن جعلوا أنداداً لمن يمتنع أن يكون له ندّ.

وقوله : ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ حال من ضمير «فلا تجعلوا»، ومفعول «تعلمون» مطروح ، أي وحالكم أنّكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي في دقائق الأمور وغوامض الأحوال، فلو تأملتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات ، متفرّد بوجوب الذات متعال عن مشابهة المخلوقات.

واعلم أنّ الله سبحانه قدّم في هاتين الآيتين من موجبات عبادته ومكونات حق الشكر له خلقهم أحياء قادرين أوّلاً ، لأنه سابقة أصول النعم ومقدّمتها ، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما، ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرّهم الّذي لابدّ لهم منه ، وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلبه ومفترشه، ثم خلق السّماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار، ثم ما

ص: 85

سواه (عزّ و جلّ) من شبه عقد النكاح بين السماء والأرض بإنزال الماء منها عليها ، مال والإخراج به من بطنها - أشباه النسل المنتج من الحيوان - من ألوان الثمار رزقاً لبني آدم، ليكون ذلك معتبراً ومتسلّقاً إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف، ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر، ويتفكرون في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وتحتهم ، وأن شيئاً من هذه المخلوقات كلّها لا يقدر على إيجاد شيء منها ، فيتيقنوا عند ذلك أن لا بد لها من خالق ليس كمثلها ، حتى لا يجعلوا المخلوقات له أنداداً . وهم يعلمون أنّها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر.

ولا يخفى على الذكيّ اللبيب المتأمل أن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله تعالى، والنهي عن الإشراك به والإشارة إلى ما هو العلّة والمقتضي، وهو أنّه رتّب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعاراً بأنّها العلّة لوجوبها، ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من السماء والأرض والمطاعم والملابس، فإنّ الثمرة أعمّ من المطعوم والملبوس، والرزق أعم من المأكول والمشروب . ثم لمّا كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته رتب تعالى عليها النهي عن الإشراك به .

آية 23 - 24

وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مَن مَثْله وَادْعُواْ شهَدَاءَكُم مِّنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿23﴾ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعدَّتْ للكافرينَ (24﴾

ولمّا قرّر وحدانيّته وبيّن الطريق الموصل إلى العلم بها ذكر عقيبه ما هو الحجة على نبوة محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، وهو القرآن المعجز بفصاحته التي غلبت فصاحة كلّ منطيق فصيح ، وأفحمت من طولب بمعارضته من كلّ خطيب بليغ مع كثرتهم

ص: 86

وإفراطهم في المضادّة والمضارّة، وتوغلهم على المغالبة، وعرف ما يتعرّف به إعجازه، ويتيقّن أنه من عند الله كما يدّعيه ، فقال : ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا) أي : القرآن العظيم (عَلَى عَبْدِنَا) ورسولنا الكريم لا فَأْتُوا بِسُورَةٍ من أصغر السور كائنة (مِنْ مِثْلِهِ) .

وإنما قال: «نزّلنا» دون «أنزلنا» لأنّ نزوله نجماً نجماً بحسب الوقائع، و آيات آيات على حسب النوازل والحوادث ،على ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر ، من وجود ما يوجد منهم مفرّقاً حيناً فحيناً وشيئاً فشيئاً، حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجدّدة والحاجات السانحة، ولا يلقي الناظم ديوان شعره دفعة ، ولا يرمي الناثر بمجموع خطبه أو رسائله ضربة، فلو أنزله الله لأنزله خلاف هذه العادة جملة واحدة كما قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ (1). فقيل : إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلموا نجماً فرداً من نجومه، سورة من أصغر السور. وهذه علّة التبكيت. وأضاف العبد إلى نفسه تنويهاً بذكره، وتنبيهاً على أنه مختص به منقاد لحكمه .

والسورة : الطائفة من القرآن المسمّاة باسم أقلها ثلاث آيات وواوها إن كانت أصليّة ، فإما أن تسمّى بسورة لأنها طائفة من القرآن محدودة كالبلد المسوّر، أو لأنها محتوية على فنون من العلم ، كاحتواء سور المدينة على ما فيها . وإما أن تسمّى بالسورة التي هي الرتبة ، كما قال النابغة (2) :

ولرَهْطِ حرّابِ وقدٍ سُورَةٌ *** في المَجْدِ لَيْسَ غُرابُها بمُطارِ

لأنّ السُّوَر بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارىء، أوّلها مراتب في

ص: 87


1- الفرقان : 32
2- ديوان النابغة الذبياني : 59 .

الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة ، أو لرفعة شأنها في الدين . وإن كانت واوها منقلبة عن ،همزة ، فلأنها قطعة من القرآن كالسورة التي هي البقية من الشيء.

والحكمة في تقطيع القرآن سوراً إفراد الأنواع، وتجاوب النظم، وتسهيل الحفظ ، والترغيب فيه، وتنشيط القارىء من أسلوب إلى آخر، فإنّه إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثمّ أخذ في آخر كان أنشط له وأهزّ وأبعث على الدّرس ، كما إذا قطع المسافة ميلاً أو فرسخاً نفس ذلك منه ونشطه للسير، ومن ثم جزاً القرّاء القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً.

وضمير «من مثله» ل«ما نزلنا» و «من» للتبعيض أو التبيين أو زائدة عند الأخفش، أي بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النظم . أو ل«عبدنا» و«من» للابتداء ، وحينئذٍ يجوز أن يتعلّق بقوله : «فأتوا». ومعناه : فأتوا بسورة مما هو على صفته في غرابة البيان وحسن النظم، أوهاتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يأخذ من العلماء ولم يقرأ الكتب.

ولا يخفى أنّ ردّ الضمير إلى المنزَّل أوجه، لأنه مطابق لقوله : (بسورة مثله) (1)، وقوله: (لا يأتون بمثله ) (2)، ولأنّ الحديث في المنزل لا في المنزل عليه، فمن حقّه أن لا أن لا يردّ الضمير إلى غيره، لأنّ المعنى : وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فأتوا أنتم نبذاً يماثله ويجانسه. وقضيّة الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أن يقال : وإن ارتبتم في أنّ محمداً منزّل عليه فهاتوا قرآناً من مثله . ولأنهم إذا خوطبوا جميعاً - وهم الجم الغفير - بأن يأتوا بطائفة يسيرة من جنس ما أتى به واحد منهم كان أبلغ في التحدّي من أن يقال لهم : ليأت واحد آخر بنحو ما أتى به هذا الواحد ولأنّ القرآن معجز في نفسه لا بالنسبة إليه، لقوله

ص: 88


1- يونس : 38 .
2- الإسراء : 88 .

تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنَّسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمثْلِ هَذَا القُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ (1) . ولأنّ ردّه على «عبدنا» يوهم إمكان صدوره ممّن لم يكن على صفته ولا يلائمه قوله : ﴿ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ) فإنّه أمر بأن يستعينوا بكلّ من ينصرهم ويعينهم . والشهداء جمع الشهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة ، يعني : ادعوا كلّ من يشهدكم به من الجن والإنس .

(مِنْ دُونِ اللَّهِ) معنى دون: أدنى مكان من الشيء ومنه: تدوين الكتب لأنّه إدناء البعض من البعض، ودونك هذا :أي: خذه من أدنى مكان منك . ثم استعير للرتب ، فقيل : زيد دون عمرو أي في الشرف، ومنه الشيء الدّون. ثم اتّسع فيه فاستعمل في كلّ تجاوز حدّ إلى حدّ قال الله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (2) ، أي : لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين.

و «من» متعلقة ب«ادعوا»، والمعنى: وادعوا إلى المعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله ، فإنّه القادر على أن يأتي بمثله دون كلّ شاهد . أو ب«شهدائكم». والمعنى : ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله ، وزعمتم أنّهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق.

وقيل : من دون الله أي دون أوليائه ومن غير المؤمنين ، يعني : فصحاء العرب ووجوه المشاهد ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله (3).

(إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )أنّه من كلام البشر وجواب الشرط محذوف دلّ عليه

ص: 89


1- الاسراء : 88 .
2- آل عمران : 28 .
3- في هامش الخطية : «وهذا من المساهلة وإرخاء العنان، والإشعار بأن شهداء هم الذين هم وجوه المشاهد وفرسان المقاولة تأبى عليهم الطباع وتجمح بهم الأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد، البيّن عندهم ،فساده، وبان اختلاله منه».

ما قبله . والصدق الإخبار المطابق.

ولمّا بيّن لهم ما يتعرّفون به أمر الرسول وما جاء به وميّز لهم الحق عن الباطل رتّب عليه ما هو كالتتمّة ، وهو قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا )يعني : أنّكم إذا اجتهدتم في معارضته ولم تعارضوه بسورة مثله، وعجزتم جميعاً عن الإتيان بما يساويه أو يدانيه ، ولن يتيسّر لكم ذلك أصلاً ، ظهر لكم أنّه معجز والتصديق به واجب ، فآمنوا به، وإن لم تؤمنوا به وتكذبوه مع وضوح حقيته عندكم ﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) أي : فاتقوا العذاب المعدّ لمن كذّب .

وعبّر عن الإتيان الموصوف بالصفة المذكورة بالفعل الذي يعمّ الإتيان وغيره إيجازاً، فإنّه لو قيل : فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بمثله لاستطيل الكلام ونزّل لازم الجزاء منزلته - وهو : فاتركوا العناد - على سبيل الكناية، تقريراً للمكني عنه ، وتهويلاً لشأن العناد ، وتصريحاً بالوعيد مع الإيجاز.

وصدر الشرطية ب«إن» التي للشكّ والحال يقتضي «إذا» الذي للوجوب، فإنّ القائل سبحانه لم يكن شاكاً في عجزهم، ولذلك نفى إتيانهم نفي تأييد معترضاً بين الشرط والجزاء ، تهكماً بهم وخطاباً معهم على حسب ظنّهم ، فإنّ العجز قبل التأمّل لم يكن محققاً عندهم.

و«تفعلوا» جزم ب«لم» لا ب«إن» الشرط ، لأنها واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متّصلة بالمعمول ، ولأنها لما صيّرته ماضياً صارت كالجزء منه، وحرف الشرط كالداخل على المجموع ، فكأنّه قال : فإن تركتم الفعل ولا تقدرون على إتيانه في مستقبل الزمان ، ولذلك ساغ اجتماعهما ، فإنّ الأصل أن لا يدخل الحرفان المتجانسان في العمل على معمول واحد.

و «لن» ک«لا» في نفي المستقبل غير أنه أبلغ، لأنه موضوع للنفي تأكيداً أو تأييداً. والوقود بالفتح : ما توقد به النار ، وبالضم مصدر والحجارة : جمع حجر .

ص: 90

كجمالة جمع جمل والمراد بها الأصنام التي نحتوها ، وقرنوا بها أنفسهم ، وعبدوها طمعاً في شفاعتها، والانتفاع بها، واستدفاع المضارّ بمكانتها ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (1) . فعذَّبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكانزون بما كنزوه، أو بنقيض ما كانوا يتوقعون زيادة في تحسّرهم.

وعن ابن عبّاس أنها حجارة الكبريت، فإنّ حرارتها أشدّ وأبلغ . ولعلّ المراد هذه الرواية - بعد تسليم صحتها - أنّ الأحجار كلّها لتلك النار كحجارة الكبريت لسائر النيران. وهذا الاحتمال أدخل في المقصود، إذ الغرض تهويل شأن نار الآخرة وتفاقم لهبها بحيث تتقد بما لا يتقد به غيرها، والكبريت يتّقد به كلّ نار وإن ضعفت . فالمعنى: أنّها نار ممتازة عن غيرها من النيران ، لأنّها لا تتّقد إلّا بالناس والحجارة.

ولمّا كانت الآية مدنيّة نزلت بعدما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم: (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) (2)، صحّ تعريف النار ووقوع الجملة صلة ، فإنّها تجب أن تكون قصّة معلومة .

ثمّ قال استئنافاً: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) أي : هيّئت لهم النار المنعوتة، وجعلت عُدّة لعذابهم. ويجوز أن تكون الجملة حالاً بإضمار «قد» من «النار» لا الضمير الذي في «وقودها» للفصل بينهما بالخبر .

واعلم أنّ في الآيتين ما يدلّ على النبوّة من وجوه:

ص: 91


1- الأنبياء : 98 .
2- التحريم : 6 . والقول بأن الآية مكّية للزمخشري في الكشّاف (1 : 102 ) ، وتبعه عليه المصنّف «قده». وأطبق المفسّرون على أنها مدنيّة، واشتمالها على قصّة مارية زوجة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) المشهورة أصدق شاهد على ذلك . والظاهر أنه وهم منه ، مع أنه صرّح في تفسير سورة التحريم (الكشّاف 4 : 562 ) بأنها مدنية .

الأوّل : ما فيها من التحدّي والتحريص على الجدّ وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سُوَر القرآن. ثمّ إنّهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادّة لم يتصدّوا لمعارضته، والتجأوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج.

والثاني : تضمّنهما الإخبار عن الغيب بقوله : (لَنْ تَفْعَلُوا) ، فإنّهم لو عارضوه شيء لامتنع خفاؤه عادة مع أنّ الطاعنين فيه كثيرون في كل عصر .

والثالث : أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لو شكّ في أمره لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة مخافة أن يعارض فتدحض حجّته . وفذلكة الآية الأخيرة دالة على أن النار مخلوقة معدّة لهم الآن .

آية 25

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزقوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رزقا قالوا هَذا الذي رُزقنَا مِنْ قبل وأُتُوا به مُتَشَابِها وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿25﴾

ثمّ عطف حال من آمن بالقرآن ووصف ثوابه على حال من كفر به وكيفيّة عقابه ، على ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب، تنشيطاً لاكتساب ما ينجي ، و تثبيطاً (1) عن اقتراف ما يردي، فقال جل ذكره: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) .

الظاهر عطف هذه على الجمل السابقة. والمقصود عطف حال المؤمنين على حال الكافرين كما مر آنفاً ، لا عطف الفعل نفسه حتى يجب أن يطالب له ما يشاكله

ص: 92


1- ثبّطَه عن الشيء تثبيطاً : إذا شغَلَه عنه، لسان العرب 7: 267 .

من أمر أو نهي فيعطف عليه حينئذٍ. ولا يحتاج إلى ما قال صاحب المفتاح (1) فيه : أنّ «بشّر » معطوف على «قُلْ» مضمراً قبل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسِ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) إذ إضمار القول غير عزيز في القرآن. انتهى كلامه .

أو معطوف على «فَاتَّقُوا»، لأنّ الكفّار المعاندين إذا لم يأتوا بما يعارض القرآن بعد التحدّي ظهر إعجازه، وإذا ظهر ذلك فمن كفر به استوجب العقاب، ومن آمن به استحقّ الثواب، وذلك يستدعي أن يخوَّف هؤلاء ويبشَّر هؤلاء. وهذا كما تقول : يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشّر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم. وإنما أمر الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أو عالم كل عصر أو كل أحد يقدر على البشارة بأن يبشِّرهم ، ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة ، تفخيماً لشأنهم، وإيذاناً بأنّهم أحقاء بأن يبشروا ويهنَّوا بما أعدّ لهم.

والبشارة الخبر السارّ ، فإنّه يظهر أثر السرور في البشرة ، ولذلك قال الفقهاء الكرام : البشارة هي الخبر الأوّل ، حتى إذا قال الرجل لعبيده : من بشرني بقدوم ولدي فهو حرّ ، فأخبروه فرادى عتق أوّلهم، ولو قال : من أخبرني عتقوا جميعاً. وأما قوله تعالى : ( فَبَشِّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (2) فعلى التهكم .

والصالحات جمع صالحة . وهي من الصفات الغالبة التي تجري مجرى الأسماء من حيث إنّه لا يذكر معها موصوف كالحسنة. وهي من الأعمال ما حسّنه الشرع . وتأنيثها على تأويل الخصلة. واللام فيها للجنس، لكن يعتبر الحال (3) لكلّ شخص ما يجب عليه ، فإنّ بعضهم لا يجب عليه الزكاة أو الحج أو غير ذلك .

وعطف العمل على الإيمان إشعاراً بأنّ السبب في استحقاق هذه البشارة

ص: 93


1- مفتاح العلوم.
2- آل عمران : 21 .
3- في الخطّية : لحال ، والصحيح ما أثبتناه .

مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين، فإنّ الإيمان الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق أس ، والعمل الصالح كالبناء عليه . وفيه دليل على أنه خارج عن مسمّى الإيمان، إذ الشيء لا يعطف على نفسه وعلى ما هو داخل فيه .

وقوله : «أنّ لهم» منصوب على نزع الخافض، وإفضاء الفعل إليه .

و «الجنّة» المرّة من الجَنِّ، وهو مصدر جنّه إذا ستره، ومدار تركيبه على الستر ، سمّي بها الشجر المظلل - لالتفاف أغصانه - للمبالغة ، كأنه يستر ما تحته ، ثم البستان لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظلّلة، ثمّ دار الثواب لما فيها من الجنان. وقيل : سمّيت بذلك لأنه ستر في الدنيا ما أعد فيها من أنواع النعم، كما قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةَ أَعْيُن) (1).

وجمعها وتنكيرها لأنّ الجنان على ما ذكره ابن عبّاس سبع :جنة الفردوس، وجنّة العدن، وجنّة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام وعلّيّون . وفي كلّ واحدة منها مراتب و درجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال.

واللام في «لهم» تدلّ على استحقاقهم إيَّاها لأجل الإيمان والعمل الصالح. وهذا لا يكون على الإطلاق ؛ بل بشرط أن يستمرّ على الإيمان حتى يموت وهو مؤمن، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ ) (2)، وقوله تعالى لنبيه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (3)، وأشباه ذلك. ولعلّه سبحانه لم يقيد هاهنا استمرار الإيمان إلى الموت استغناء بالآيات المذكورة.

ص: 94


1- السجدة : 17 .
2- البقرة : 217.
3- الزمر : 65 .

وتعريف الأنهار في قوله : ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) لإرادة الجنس، كما تقول : لفلان بستان فيه الماء الجاري والعنب والفواكه . أو يراد الأنهار المذكورة في قوله : ( فِيهَا أَنْهَارُ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (1) أو يراد أنهارها ، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، كقوله تعالى : ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبا) (2).

والنهر بالفتح والسكون المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، كالنيل والفرات والتركيب للسعة والمراد بها ماؤها على الإضمار أو المجاز. ومعنى «من تحتها من تحت أشجارها كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها . وعن مسروق : أنهار الجنة تجري في غير أخدود.

وقوله : (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) صفة ثانية ل«جنّات»، أو جملة مستأنفة ، كأنّه لمّا قيل :( أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) وقع في قلب السامع : أثمارها مثل ثمار الدنيا أو أجناس أخر ؟ فأزيح بذلك فقيل : إن ثمارها أشباه ثمار جنّات الدنيا - أي : أجناسها أجناسها - وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله . أو خبر مبتدأ محذوف والمعنى هم كلّما رزقوا من أشجار الجنّات نوعاً من أنواع الثمار رزقاً (قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا في الدنيا .

و«كلّما» نصب على الظرف و «رزقاً» مفعول به ، و«من» الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال وأصل الكلام أنّ كلّ حين رزقوا مرزوقاً مبتدأ من الجنّات، مبتدأ من ثمرة ، فصاحب الحال الأُولى: «رزقاً»، وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال. ويحتمل أن يكون من ثمرة» بياناً تقدّم، كما في قولك : رأيت منك أسداً .

و«هذا» إشارة إلى نوع ما رزقوا ، كقولك مشيراً إلى نهر جارٍ : هذا الماء لا

ص: 95


1- محمد : 15 .
2- مريم : 4 .

ينقطع ، فإنك لا تعني به العين المشاهدة منه ، بل النوع المعلوم المستمر بتعاقب جريانه وإن كانت الإشارة إلى عينه. فالمراد أنّ هذا مثل الذي ... الخ، ولكن لمّا استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته.

وجعل ثمر الجنّة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أوّل ما رأت، فإنّ الطباع مائلة إلى المألوف متنفّرة عن غيره، وتتبين لها مزيته وكنه النعمة فيه، إذ لو كان جنساً لم يعهد ظُنّ أنّه لا يكون إلا كذلك، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين. فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم ، وأنّ الكبرى لا تفضل عن حدّ البطّيخة الصغيرة ، ثم يبصرون رمّانة الجنّة تشبع السّكن :أي: أهل الدار والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة الفلكة ، ثم يرون نبق الجنّة كقلال هجر ، كما رأوا ظلّ الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده، ثمّ يرون الشجرة في الجنّة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه ، كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزيّة، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمّان، وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما .

وقيل : معنى «من قبل» قبل هذا في الجنّة ، لأنّ طعامها متشابه في الصورة كما حكي عن الحسن أن أحدهم يؤتى بالقصعة فيأكل منها ، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأُولى، فيقول ذلك ، فيقول الملك : كل فاللون واحد والطعم مختلف. وكما روي أنه (علیه السّلام)قال: «والذي نفس محمد بيده أنّ الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها ، فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها». فيمكن أنّهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك. والأوّل أظهر ، لمحافظته على عموم «كلّما»، فإنّه يدلّ على ترديدهم هذا القول كلّ مرّة رزقوا ، والداعي إلى ذلك فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه التام في الصورة.

وقوله : ( وَأْتُوا بِهِ مُتَشَابِها) اعتراض يقرر ذلك . والضمير على الأوّل راجع

ص: 96

إلى ما رزقوا في الدارين، فإنّه مدلول عليه بقوله :( هَذا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) ، ونظيره قوله تعالى : إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أو فَقِيراً فاللهُ أولى بِهِمَا ) (1) أي : بجنسي الغني والفقير . وعلى الثاني إلى الرزق كما أنّ «هذا إشارة إليه فيكون المعنى: أنّ ما يرزقونه من ثمرات الجنّة يأتيهم متجانساً في نفسه، كما حكي عن الحسن.

وعلى الأوّل لمّا كان التشابه بين ثمرات الدنيا والآخرة حاصلاً في الهيئة الّتي مناط الاسم دون المقدار والطعم، وهو كافٍ في إطلاق التشابه، فلا يقال : إنّ التشابه هو التشابه في الصفة، وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة ، كما قال ابن عباس : ليس في الجنّة من أطعمة الدنيا إلَّا الأسماء.

(وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ). ممّا يستقذر من النساء ويذم من النساء ويذمّ من أحوالهنّ، كالحيض والدّرن ودنس الطبع وسوء الخلق فإنّ التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال وإنّما قال : مطهرة ، ولم يقل طاهرة، لأنّ في «مطهّرة» فخامة لصفتهنّ ليست في طاهرة، وهي الإشعار بأنّ مطهّراً طَهَّر هنَّ، وليس ذاك إِلَّا الله (عز وجل) المريد بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزيّة فيما أعدّلهم . وإفراد الصفة على تأويل الجماعة . والزوج يقال للذكر والأنثى، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخفّ .

وفائدة المطعوم والمنكوح فيها لا يكون إلا محض الالتذاذ لا دفع ضرر الجوع والتوالد وحفظ النوع، فمطاعم الجنّة ومناكحها إنّما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات.

ولمّا كان معظم اللذات الحسنة مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكح على ما دلّ عليه الاستقراء ، وكان ملاك كلّه الثبات والدّوام ، فإنّ كلّ نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزّوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم ، بشّر المؤمنين بوعد

ص: 97


1- النساء : 135 .

الخلود ليدلّ على كمالهم في التنعم والسرور ، فقال : (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دائمون . والخلد والخلود في الأصل الثبات المديد دام أو لم يدم، ولذلك قيل للأثافي والأحجار: خولد، وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حيّاً خلد وهو القلب. ولو كان وضعه للدوام كان ظاهر (1) التقييد بالتأبيد في قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (2) لغواً ، لكنّ المراد به هاهنا الدوام والبقاء اللازم الذي لا ينقطع ، لما يشهد به الآيات والسنن .

واعلم أنه يمكن أن الله تعالى يعيد الأبدان في الآخرة بحيث لا يعنورها الاستحالة ، بأن يجعل أجزاءها مثلاً متقاومة في الكيفية متساوية في القوة ، لا يقوى شيء منها على إحالة الآخر ، متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، كما يشاهد في بعض المعادن.

هذا، وإنّ قياس ذلك العالم وأحواله على ما نجده ونشاهده من نقص العقل وضعف البصيرة. فلا يرد أنّ الأبدان مركبة من أجزاء متضادّة الكيفية، معرّضة للاستحالة المؤدّية إلى الانفكاك والانحلال، فكيف يعقل خلودها في الجنّة ؟

آية 26

«إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴿26﴾

ص: 98


1- في هامش الخطية : «قيد الظاهر لاحتمال أن يكون ذكر الأبد بعد الخلود للتأكيد ، ولكن لا يخفى على من له أدنى مسكة أن التأسيس أصل، فإنّه مستقل المعنى بنفسه ، بخلاف التأكيد، فإنه تابع فلا يكون له استقلال المعنى ، كما بيّن في علم المعاني والبيان. منه رحمه الله » .
2- النساء : 57 .

ولمّا مثّل الله تعالى حال المنافقين بحال المستوقدين ، وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت ، وجعلها أقل من الذباب وأخش قدراً منه قالوا الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فنزلت: (إنّ الله لا يَسْتَحْيِي ) أي : لا يترك (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوْضَةً ) .

فهذه الآية لبيان أنّ ما استنكروه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ليس بموضع الاستنكار ، لأنّ في التمثيل كشف المعنى الممثل له، ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس، فإن كان الممثل له عظيماً كان الممثل به مثله ، وإن كان حقيراً كان الممثل به كذلك ، ليساعد فيه الوهم العقل ، فإنّ المعنى الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأنّ من طبع الوهم الميل إلى الحسّ وحب المحاكاة، وإن كان الممثل أعظم من كلّ عظيم، كما مُثَّل في الإنجيل غلّ الصّدر بالنخالة، والقلوب القاسية بالحصاة، ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير ، وجاء في كلام العرب : أسْمَعُ من قراد وأطيش من فراشة وأعزّ من مخ البعوض ، لا ما قالت الجهلة من الكفّار .

والحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذمّ. وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح وعدم المبالاة بها والخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً.

واشتقاقه من الحياة ، فإنّه انكسار يعتري القوّة الحيوانية فيردّها عن افعالها، فقيل : حيي الرجل أي : انتقص حياته، مثل نسي إذا اعتلت نساه، وهو عرق يخرج من الورك إلى العرقوب ، وحشي إذا اعتل حشاه وهو الفؤاد .

وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث : «إنّ الله يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذَّبه ، إنّ الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردّهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً»، فالمراد به الترك اللازم للانقباض ، كما أن

ص: 99

المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين للمعنى الموضوع له ، فمثل تركه سبحانه تخييب العبد لكرمه بترك ردّ المحتاج إليه حياءً منه، . كذلك المعنيّ في الآية : إنّ الله لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. وإنّما عدل بالاستحياء عن الترك لما فيه من التمثيل الذي هو يتضمّن أمراً محسوساً مشاهداً، بخلاف الترك، فإنّه أمر معنوي غير مشاهد.

و«أن» بصلتها مخفوض المحلّ عند الخليل بإضمار «من»، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه .

و «ما» هذه إبهاميّة، وهي التي إذا اقترنت بنكرة زادته شياعاً ، تقول : أعطني كتاباً ما :أي: أيّ كتاب كان ، أو هي صلة زيدت للتأكيد ، نحو التي في قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ) (1) . والمعنى : أنّ الله أن يمثل للأنداد ما لا شيء أصغر منه وأقلّ.

و ب«عوضة» عطف بيان ل«مثلاً»، أو مفعول ل«يضرب» و «مثلاً» حال عن النكرة مقدّمة عليه، أو انتصبا على أنهما مفعولان «يضرب» لأنه أُجري مجري جعل . والبعوض فعول من البعض ، وهو القطع كالبضع ، فإنّ مدار الباء والعين والضاد على القطع كيف ما تركبت ثم غلب على هذا المعنى.

وقوله : (فَمَا فَوْقَهَا عطف على «بعوضة». وفيه معنيان:

أحدهما: فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلاً ، وهو القلة والحقارة ، كجناحها ، فإنّه ضرب مثلاً للدنيا ، ومنه قوله (علیه السّلام): «ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفّارة لخطاياه حتى نخبة النملة» أي : عضّتها (2).

والآخر : فما زاد عليها في الحجم كالذباب والعنكبوت ، كأنه قصد به ردّ ما استنكروه. والمعنى أنه لا يستحيي ضرب المثل بالبعوض فضلاً عما هو أكبر منه.

ص: 100


1- آل عمران : 159 .
2- العضة : القطعة والفرقة ، لسان العرب 15 : 68 .

وما وقع في الحديث: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ، ومحيت عنه بها خطيئة» يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور (1)، وما زاد عليها في القلّة كنخبة النملة .

ثمّ يفصّل ما أجمل، ويؤكده بما صدّر بحرف التفصيل، ويقول : ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّه الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فلمّا كان «أمّا » التفصيلية يتضمن معنى الشرط يجاب بالفاء. وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد ، ولهذا قال سيبويه : أما زيد فذاهب ، معناه : مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، أي : هو ذاهب لا محالة ، وأنه منه عزيمة جازمة. وكان الأصل دخول الفاء على الجملة، لأنّها الجزاء، لكن كرهو إيلاءها حرف الشرط، فأدخلوها على الخبر، وعوّضوا المبتدأ عن الشرط لفظاً .

وفي تصدير الجملتين بها إحماد لأمر المؤمنين، واعتداد بعلمهم، وذم بليغ للكافرين على قولهم والضمير فى «أنّه» للمثل أو ل«أن يضرب». و«الحق»: الثابت الّذي لا يسوغ إنكاره ، يعمّ الأعيان الثابتة، والأفعال الصائبة، والأقوال الصادقة ، من قولهم : حَقَّ الأمر إذا ثبت.

(وَأمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ )على سبيل الإنكار والاستحقار : ﴿ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بهَذَا مَثَلاً ) . كان الحريّ أن يقال : وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَعْلَمُونَ ، ليطابق قرينه ويقابل قسيمه، لكن لمّا كان قولهم هذا دليلاً واضحاً على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ، ليكون كالبرهان عليه .

و «ما» يحتمل أن تكون استفهاميّة ، و «ذا» اسماً موصولاً بمعنى «الّذي» وما بعده صلته ، والمجموع خبر «ما» فيكون كلمتين. وأن تكون «ذا» مركبة مع «ما»

ص: 101


1- خرّ خروراً : سقط من علوّ إلى أسفلى . أشار إلى ما في صدر الحديث من أن رجلاً خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب ، فقالت عائشة : سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إلى آخر الحديث . انظر صحيح مسلم ج 4 : 1991 ح 46 .

فيكون كلمة واحدة، بمعنى: أيّ شيء، منصوب المحلّ على المفعولية. والأحسن في جوابه الرفع على الأوّل والنصب على الثاني ، ليطابق الجواب السؤال .

والإرادة نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه. وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع والأوّل مع الفعل، والثاني قبله وكلا المعنيين غير متصوّر اتصاف الباری تعالی به فالمراد منها علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل والوجه الأصلح، فإنّه يدعو القادر إلى تحصيله . وقيل : إرادته لأفعاله : أنه غير ساءِ ولا مكره ولأفعال غيره أمره بها. فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته، لأنه لم يأمر بها ، خلافاً للأشعرية. وعند المتكلمين : هي معنى يوجب للحيّ حالاً لأجلها يقع منه الفعل على وجه دون وجه أو المراد ترجيح أحد مقدوريه على الآخر، و تخصیصه بوجه دون وجه .

وفي «هذا» استحقار واستر ذال . و «مثلاً» منصوب على التمييز أو الحال.

وقوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) جواب «ماذا» ، أي: إضلال كثير وإهداء كثير، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدّد أو جارٍ مجرى التفسير وبيان الجملتين المصدّرتين ب«أما»، وتسجيل بأن فريق العالمين بأنّه الحق ، وفريق الجاهلين المستهزئين ،به کلاهما موصوف بالكثرة بالنسبة إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم، فإنّ المهديين قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال ، كما قال تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(1) . وأن العلم بكونه حقاً من باب الهدى، وأنّ الجهل بوجه إيراد المثل والإنكار لحسن مورده من باب الضلالة ويحتمل أن يكون كثرة الضالين من حيث العدد وكثرة المهديين باعتبار الفضل والشرف ، كما قال :

قليل إذا عدّوا *** كثير إذا شدّوا

ص: 102


1- سبأ : 13 .

وقال :

إنّ الكرام كثير في البلاد وإن *** قَلُّوا كما غيرهم قل وإن كثروا

وإسناد الإضلال إلى الله سبحانه إسناد الفعل إلى السبب، لأنه لمّا ضرب المثل فضل به قوم واهتدی به ،قوم تسبّب لضلالهم وهداهم .

(وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) أي: الخارجين عن حد الإيمان. والمراد بالإضلال التخلية، فإنّ الله سبحانه لمّا علم أنّ الكفّار لإصرارهم ورسوخهم في الكفر وعنادهم وجحودهم وإستكبارهم لا ينجع فيهم اللطف والتوفيق، فيخلّيهم الضلالة، ويمنع منهم الألطاف الهادية . أو المراد حكمه بضلالتهم. ولا يجوز أن يكون إسناد الإضلال إلى الله على الحقيقة، لقبحه واستلزامه الظلم، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. وأيّ عاقل يعتقد أن يضاف إلى الله تعالى الإضلال الذي أضافه إلى الشيطان وإلى فرعون والسامري بقوله : ( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلَا كَثِيراً ) (1) وقوله : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) (2) وقوله : ( وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) (3).

وأصل الفسق الخروج عن القصد، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله .

وقال الفرّاء (4) : إنّ قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً )حكاية عمّن قال : ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به قوم ويهتدي به قوم ، ثمّ قال سبحانه: ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) فبيّن تعالى أنه لا يُضِلُّ إِلَّا ضالاً فاسقاً راسخاً في الكفر . وعلى التفسير الأوّل كلامه تعالى ابتداء. وكلاهما حسن .

واعلم أن للفسق درجات ثلاث:

الأولى التغابي، وهو أن يرتكب المعصية أحياناً مستقبحاً إياها .

ص: 103


1- يس : 62 .
2- طه : 79 و 85 .
3- طه : 79 و 85 .
4- معاني القرآن 1 : 23 .

والثاني : الإنهماك ، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها .

والثالث : الجحود، وهو أن يرتكبها مستصوباً إيّاها . فإذا شارف هذا المقام وتخطّى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولابس الكفر ، وما دام هو في درجة التغابي والانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن ، لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان، ولقوله تعالى : ( وإنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (1) . والمعني بالآية هو الثالث .

آية 27

الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿27﴾

ثمّ وصف الفاسقين بالذمّ وقرّر الفسق فقال : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ﴾ النقض فسخ تركيب الشيء، وأصله في طاقات الحبل، واستعماله في إبطال العهد، من حيث إنّ العهد يستعار له الحبل لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر . والعهد: الموثّق ، ووضعه لما من شأنه أن يتعهد ويراعى كالوصية واليمين.

وهذا العهد إمّا العهد المأخوذ ما (2) ركز في العقول من الحجة القائمة على عباده الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسوله . وقوله: ﴿وَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (3) على هذا المعنى أو المأخوذ بالرسل على الأمم بأنهم إذا بعث . إليهم رسول مصدّق بالمعجزات صدقوه واتبعوه، ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه، وأشار إليه بقوله : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ ) (4) ونظائره .

ص: 104


1- الحجرات: 9 .
2- كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح بما .
3- الأعراف : 172 .
4- آل عمران : 187 .

وقيل : عهود الله ثلاثة : عهد أخذه على جميع ذرية آدم بأن يقرّوا بربوبيّته، وعهد أخذه على الأنبياء بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وعهد أخذه على العلماء بأن ببّينوا الحق ولا يكتموه.

والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ للعهد والميثاق اسم لما يقع به الوثاقة ، وهي الاستحكام والمراد به ما وثق الله به عهده من الآيات والكتب، أو ما وتقوه به من الالتزام والقبول ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر، فهو من التوثقة، كالميلاد والميعاد بمعنى الولادة والوعد و «من» للابتداء، فإنّ ابتداء النقض بعد الميثاق. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى ، أي : من بعد توثقه عليهم.

(وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) المراد كلّ قطيعة لا يرضاها الله ، كقطع الأرحام، والإعراض عن موالاة المؤمنين، والتفرقة بين النبيين والكتب في التصديق ، وترك الجماعات المفروضة ، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ ، فإنّه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد .

والأمر طلب الفعل ممّن هو دون الآمر علوّاً واستعلاء، وبعثه عليه. وبه سمّي الأمر الذي هو واحد الأمور، لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بأمر يأمر ، فقيل له : أمر ، تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به كما قيل له شأن. والشأن الطلب والقصد ، يقال : شأنت شأنه ، أي : قصدت قصده.

و«أن يوصل» يحتمل النصب والجرّ على أنّه بدل من «ما» أو ضميره. والثاني أحسن لفظاً ، لقربه، ومعنى ، لأنه لو جعل بدلاً من الأوّل، والحال أنّ المبدل منه في حكم الساقط ، يرتفع المأمور به بالكلية ، بخلاف جعله بدلاً من الثاني.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمنع عن الإيمان، والاستهزاء بالحق، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه .

(أَوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ الّذين خسروا بإهمال العقل عن النظر ، واقتناص ما

ص: 105

يفيدهم الحياة الأبديّة، فاستبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح، والانكار والطعن في الآيات بالإيمان بها ، والعقاب بالثواب .

آية 28 - 29

كَيفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿29﴾

ولمّا وصفهم بالكفر وسوء المقال وخبث الفعال خاطبهم على طريقة الالتفات ، ووبخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك ، فقال إنكاراً وتعجيباً لكفرهم : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ) إيثار «كيف» الموضوع لإنكار الحال على الهمزة الاستفهامية لإفادة التعجيب لكفرهم بإنكار الحالة التي يقع عليها على الطريق البرهاني ، لأنّ صدوره لا ينفك عن حال وصفة ، فإذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها استلزم ذلك إنكار وجوده، فهو أبلغ وأقوى في إنكار الكفر من «أتكفرون»، وأوفق لما بعده من الحال والمعنى: أخبروني على أي حال تكفرون .

(وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً) وحالكم أنّكم كنتم أجساماً لا حياة لها، عناصر وأغذية، وأخلاطاً ونطفاً ومضغاً مخلقة وغير مخلّقة.

﴿ فَأَحْيَاكُمْ) فجعلكم أحياء بخلق الأرواح ونفخها فيكم. وعطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه، لأنّ الإحياء يحصل عقيب كونهم جماداً مستعداً للحياة بلا تراخ، بخلاف البواقي، فإنّ الموت قد تراخي عن الإحياء، والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت - إن أريد به النشور - تراخياً ظاهراً، وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه. والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور ، ولهذا عطف عليه بثمّ الموضوعة للتراخي فقال : ﴿ ثُمّ يُمِيتُكُمْ) بعد هذه

ص: 106

الحياة عند تقضّي آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالنشور يوم نفخ الصور، أو للسؤال في القبر ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون) بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم .

وقرأ يعقوب: «ترجعون» في جميع القرآن بصيغة المجهول (1)، أي: تنشرون إليه من قبوركم للحساب، فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه.

وسمّي الحشر رجوعاً إلى الله لأنه رجوع إلى حيث لا يكون أحد يتولّى الحكم فيه غير الله ، كما تقول : رجع أمر القوم إلى الأمير، ولا يراد به الرجوع من مكان إلى مكان ، وإنّما يراد به أنّ النظر صار له خاصة دون غيره.

واعلم أنّ الواو في قوله : (وَكُنْتُمْ أمْوَاتاً) للحال كما فسرناه. وترك لفظة «قد» فيه ، مع أنه لا يقال : جئت وقام الأمير ، بل وقد قام ، لأنّ الواو لم تدخل على (كُنْتُمْ أَمْوَاتاً) وحده، بل على جملة قوله : (كُنْتُمْ أَمْوَاتاً( إلى قوله : (تُرْجَعُونَ ﴾ . والمعنى : كيف تكفرون بالله وقصتكم أنّكم كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم، فجعلكم أحياء، ثمّ يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم بعد الموت ، ثم يحاسبكم .

ولمّا كان الحاضر الذي وقع حالاً هو العلم بالقصة كأنه قيل : كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصّة بأوّلها وآخرها فلا يرد عليه : أن بعض القصّة ماضٍ وبعضه مستقبل ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالاً حتى يكون فعلاً حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه .

ولمّا كان معنى الاستفهام في «كيف» الإنكار ، وإنكار الحال متضمناً لإنكار الذات على سبيل الكناية ، كأنه قيل : ما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه! كما

ص: 107


1- هذا سهو من قلمه الشريف «قده» ، والصحيح : بصيغة المعلوم، والقراءة المتبعة في المصاحف بصيغة المجهول ، فتكون القراءة المخالفة إذن بالمعلوم. والمفسّرون أيضاً صرّحوا بأن يعقوب قرأها بفتح التاء ، انظر مجمع البيان (1) : (70) أنوار التنزيل (1 : 131 ) .

فسّرنا به فلا يقال : قد آل المعنى إلى قولك : على أي حال تكفرون في حال علمكم بهذه القصة، وهذا سؤال عن المعلوم، فما وجه صحته ؟

واعلم أيضاً أنّ علمهم بأنّه يحيبهم ثمّ إليه يرجعون من حيث تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل ، فنزّل التمكن منزلة العلم في إزاحة العذر، سيّما وفي الآية تنبيه على ما يدلّ على صحتهما، وهو أنه تعالى لمّا قدر على إحيائهم أولاً قدر على أن يحيبهم ثانياً ، فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته .

ويجوز أن يكون الخطاب مع الكفّار والمؤمنين جميعاً، فإنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد والنبوّة وأوعدهم على الكفر أكّد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة والخاصة، واستقبح صدور الكفر منهم، واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة، فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم . أو مع المؤمنين خاصة، لتقرير المنّة عليهم، وتبعيد الكفر عنهم على معنى : كيف يتصوّر منكم الكفر و (كُنْتُمْ أَمْوَاتاً ) ، أي : جهّالاً ، فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان، ثمّ يميتكم الموت المعروف ، ثمّ يحييكم الحياة الحقيقية ، ثم إليه ترجعون فينبئكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ؟ !

وإنّما عدّ الموت من النعم وهو يقطع النعم في الظاهر لأنّ الموت يقطع التكليف ، فيصل المكلّف بعده إلى الثواب الأبدي والنعيم السرمدي ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) (1).

وفي هذه الآية دلالة على أنّ الله تعالى لم يرد من عباده الكفر ، ولا خلقه فيهم ، لأنه لو أراد منهم أو خلقه فيهم لم يجز أن يضيفه إليهم بقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ).

ثمّ بيّن نعمة أخرى مرتبة على الأولى بقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ) أي :

ص: 108


1- العنكبوت : 64 .

لأجلكم وانتفاعكم به في دنياكم (مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بأن تتمتعوا منه بفنون المطاعم والمناكح والمراكب والمناظر البهجة، وفي دينكم بأن تنظروا فيه وما يتضمنه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم. فالنعمة الأولى خلقهم أحياء قادرين مرّة بعد أخرى، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم ويتمّ به معاشهم. وفي هذا دلالة على أنّ أصل الأشياء الإباحة إلى أن يمنع الشرع بالنهي ، وجاز لكلّ أحد أن يتناولها ويستنفع بها . وجميعاً» نصب على الحال من قوله : (ما في الْأَرْضِ) .

(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ) أي : قصد إليها بإرادته بعد خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر ، من قولهم : استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً، من غير أن يلوي على شيء.وأصل الاستواء طلب السواء، وإطلاقه على الاعتدال والاستقامة والانتصاب لما فيه من تسوية وضع الأجزاء. ولا يمكن حمله عليه، لأنه من خواص الأجسام، فإنّه تعالى منزّه عن الانتصاب. وضدّه وهو الاعوجاج فيكون بمعنى : قصد إليها بإرادته .

وقيل : (اسْتَوَى) أي : استولى وملك . والأوّل أوفق للأصل، والصلة المعدّى بها ، والتسوية المترتبة عليه بالفاء والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية ، أو

جهات العلوّ .

و«ثمّ» التفاوت ما بين الخلقين، وفضل خلق السماء على خلق الأرض، كقوله: ﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (1)، وكما تقول لصاحبك : أليس قد أعطيتك ثمّ رفعت منزلتك ؟ لا للتراخي في الوقت فإنّه يخالف ظاهر قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَيْهَا) (2) ، فإنّه يدلّ على تأخّر دحو الأرض - المتقدم على خلق ما فيها -

ص: 109


1- البلد : 17 .
2- النازعات: 30 .

عن خلق السماء وتسويتها . اللهمّ إلَّا أن يقال : إنّ الله خلق الأرض قبل السماء غير أنّه لم يدحها ، فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك . ودحوها : بسطها ومدها ، كما ورد عن النبي : دحيت الأرض من مكة». فالأرض كلّها بعد الخلق تكون تحت مكة ، ثمّ بعد ذلك دحاها في أقطار العالم.

(فَسَوَيْهُنَّ) وعدّلهنَّ وخلقهنّ مصونة من العوج والفطور. و«هن» ضمير السماء إن فسّرت بالأجرام وجهات العلوّ ، لأنها جمع ، وإلا فمبهم ، تفسيره ما بعده، كقولهم : ربِّه رجلاً .

(سَبْعَ سَمَوَاتٍ) بدل أو تفسير. وإن صح أنّ الأفلاك تسعة - كما ظنّ أصحاب الإرصاد - فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضمّ إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف .

﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيء عليم) وأسكن نافع برواية قالون وأبو عمرو والكسائي الهاء في نحو : فهو ولهو ووهو، تشبيهاً لها بعَضد (1). فيه تعليل ، كأنّه قال : ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلّها خلق ماخلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع. واستدلال بأنّ من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان عليماً ، فإنّ إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصوّر إلا من عالم حكيم رحيم . وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أنّ الأبدان بعدما تفتنت وتبدّدت أجزاؤها، واتصلت بما يشاكلها ، كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشدّ شيء منها ، ولا ينضم إليها ما لم يكن معها ، فيعاد منها كما كان ؟!

واعلم وفقك الله تعالى في الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى الحق أنّ صحّة الحشر مبنيّة على ثلاث مقدّمات، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين:

ص: 110


1- أي : أنها تشبه لفظ «عَضُد » حيث إن العرب تخفّفه بإسكان الضاد: عضد، وهي لغة مشهورة مستعملة . راجع الكشف عن وجوه القراءات السبع 1 : 234 .

أمّا الأولى، فهو أنّ مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة. وأشار إلى البرهان عليها بقوله : ( وَكُنْتُمْ َأمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (1)، فإنّ تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدلّ على أنّها قابلة لها بذاتها، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير.

وأمّا الثانية والثالثة ، فإنّه عالم بها وبمواقعها قادر على جمعها وإحيائها . وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقاً وأعجب صنعاً، فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم، وأنه تعالى خلق ما خلق خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت واختلال مراعى فيه مصالحهم وسدّ حاجاتهم، وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته، جلت قدرته، ودقّت حكمته.

وفي هذه الآية أيضاً دلالة على أنّ صانع السماء والأرض قادر عالم، وأنه تعالى إنّما يفعل الفعل لغرض ، وأنّ له على الكفّار نعماً يجب شكره عليهم بها .

آية 30

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إني جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴿30﴾

ثمّ عدد نعمة ثالثة تعمّ الناس كلّهم، وهو خلق آدم وإكرامه وتفضيله على سكّان ملكوته بأمرهم بالسجود ، فقال : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ «إذ» ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى، كما وضع إذا لزمان نسبة مستقبلة تقع فيه أخرى، ولذلك تجب إضافتهما إلى الجمل، ك«حيث» في المكان. وبنيتا تشبيهاً بالموصولات. واستعملتا للتعليل والمجازاة ومحلهما النصب

ص: 111


1- البقرة : 28 .

أبداً بالظرفية ، فإنّهما من الظروف الغير المتصرّفة . وأما قوله: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) (1) ونحوه ، فعلى تأويل : أذكر الحادث إذ كان كذا، فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه . وعامله في الآية «قالوا» أو «اذكر».

والملائكة جمع ملأك على الأصل، كالشمائل في جمع شَمأل ، والملك مخفّفة، والتاء لتأنيث الجمع، وهو مقلوب مألك من الألوكة، وهي الرسالة ، لأنّهم وسائط بين الله وبين رسله وبالاتفاق هم ذوات موجودة قائمة بأنفسها .

وفي حقيقتهم اختلاف بین العلماء، فذهب أكثر المسلمين إلى أنّها أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة، مستدلّين بأنّ الرسل كانوا يرونهم كذلك. وزعم الحكماء أنّها جواهر مجرّدة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، منقسمة إلى قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى :( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) (2). وهم العليّون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي (لَا يَعْصُوْنَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ (3). وهم المدبّرات أمراً ، فمنهم : سماوية ومنهم ارضية .والمقول لهم في هذه الآية الملائكة كلّهم، لعموم اللفظ وعدم المخصص وقيل: ملائكة الأرض الذين هم بعد الجانّ (4) .

و «جاعل» من «جعل» الذي له مفعولان أي: إنّى مصير فى الأرض خليفة.

ص: 112


1- الأحقاف : 21 .
2- الأنبياء : 20 .
3- التحريم : 6 .
4- كذا في الخطّية، ولعلّ الصحيح : ملائكة الأرض الذين أسكنهم فيها بعد الجانّ ، راجع مجمع البيان 1 : 74 .

فأعمل الجاعل فيهما ، لأنه بمعنى الاستقبال، ومعتمد على مسند إليه وهو «إنّي». ويجوز أن يكون بمعنى خالق .

والخليفة : مَن يخلف غيره وينوب منابه ، والهاء للمبالغة . والمراد به آدم (علیه السّلام) لأنه كان خليفة الله في أرضه وكذلك كلّ نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض، وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وتنفيذ أمره فيهم ، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه ، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقى أمره بغير وسط ، ولذلك لم يستنبىء ملكاً، كما قال : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً) (1). ألا ترى أنّ الأنبياء لمّا فاقت قوتهم واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أرسل الله إليهم الملائكة، ومن كان منهم أعلى رتبة كلّمه بلا واسطة ، كما كلّم موسى في الميقات ومحمّداً (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ليلة المعراج . ونظير ذلك في الطبيعة أنّ العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم - لما بينهما من التباعد - جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ، ليأخذ من هذا ويعطي ذلك .

أو خليفة من سكن الأرض قبله ، فإنّ الملائكة كانوا سكّان الأرض ، فخلفهم آدم فيها وذريته . واستغنى بذكر آدم عن ذكر بنيه كما يستغنى بذكر أبي القبيلة في قولك : مضر وربيعه أو أريد من يخلفكم ، أو خلفاً يخلفكم .

وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة ، وتعظيم شأن المجعول ، بأن بشّر (عزّ و جلّ) بوجوده سكّان ملكوته، ولقبه بالخليفة قبل خلقه، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم ،وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره ، فإنّ ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شرّ كثير .

قال أكثر المفسّرين (2) : إنّ الله تعالى خلق في الأرض قبل آدم خلقاً يقال لهم :

ص: 113


1- الأنعام: 9 .
2- انظر التبيان 1 : 133 ، مجمع البیان 1 : 74 ، الدر المنثور 1 : 111 .

الجانّ، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فبعث الله ملائكة أجْلَتهم من الأرض ، وفرّقتهم في الجزائر والجبال ، وكان هؤلاء الملائكة سكّان الأرض بعدهم ، فبما قال الله سبحانه لهم : (إِنِّي جَاعِلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة ) قاسوا بالشاهد على الغائب (قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) تعجّباً من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها كما فعل بنو الجانّ، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية. وهذا السؤال ليس سؤال اعتراض، بل سؤال استكشاف عمّا خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد ،واستخبار عمّا يرشدهم ويزيح شبهتهم، كسؤال المتعلّم معلّمه عمّا يختلج في صدره، فليس باعتراض على الله تعالى، ولا طعن في بنى آدم على وجه الغيبة، فإنّهم أعلى من أن يظنّ بهم ذلك ، لقوله : (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (1). وقيل : عرفوا ذلك بإخبار من الله ، أو تلقٍ من اللوح، أو استنباط عمّا ركز في عقولهم أنّ العصمة من خواصّهم.

والسّفك والسبك والسفح والشنّ أنواع من الصّبّ . فالسفك يقال في الدّم والدّمع ، والسبك في الجواهر المذابة والسّفح في الصبّ من أعلى، والشنّ في الصَبّ من فم القربة ونحوها، وكذلك السنّ.

وقوله : ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) حال مقرّرة لجهة الإشكال كقولك : أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج ؟! والمعنى أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك ؟ والمقصود منه الاستفسار عمّا رجّحهم مع ما هو متوقع منهم من الاستخلاف لا العجب والتفاخر . وكأنّهم علموا أنّ المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار :أمره شهويّة وغضبيّة تؤدّيان به إلى الفساد وسفك الدماء، وعقليّة تدعوه إلى المعرفة والطاعة ، فقالوا: ما الحكمة في استخلافه وهو

ص: 114


1- الأنبياء : 26 - 27 .

باعتبار تينك القوّتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلاً استخلافه ؟ وأما باعتبار القوّة العقليّة فنحن نقيم ما يتوقع منها سليماً عن عروض تلك المفاسد وغفلوا عن فضيلة كلّ واحدة من القوّتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل متمرنة على الخير، كالعفّة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف ، ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد ، كالإحاطة بالجزئيات، واستنباط الصناعات، واستخراج منافع الكائنات من القوّة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف. وإليه أشار تعالى إجمالاً بقوله : (قَالَ إنّي أَعْلَمُ) من المصالح والحكم في ذلك (مَا لَا تَعْلَمُونَ) وخفي عليكم وجه الحكمة .

والتسبيح تبعيد الله السوء، وكذلك التقديس، من سبح في الأرض والماء، وقدس : إذا ذهب فيها وأبعد، ويقال : قدس إذا طهر ، لأنّ مطهر الشيء مبعّد له عن الأقذار .

و«بحمدك» في موضع الحال، أي ملتبسين بحمدك على ما ألهمتنا معر ووفّقتنا لتسبيحك ، ولولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكّن منعبادتك. تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم.

و«نقدّس لك» بمعنى نطهر نفوسنا نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك . وقيل : اللام مزيدة ،ومعناه حينئذٍ : ننزّهك عمّا لا يليق بك من صفات النقص، ولا نضيف إليك القبائح . وروي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال : «إنّ الملائكة سألت الله أن يجعل الخليفة منهم، وقالوا : نحن نقدّسك ونطيعك ولا نعصيك كغيرنا ، قال : فلمّا أجيبوا بما ذكر في القرآن علموا أنهم تجاوزوا ما لهم ، فلاذوا بالعرش استغفاراً، فأمر الله تعالى آدم بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتاً يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقربون ، فقال الله تعالى للملائكة : إنّي أعرف بالمصلحة منكم، وهو معنى قوله: (إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ . وهذا يدلّ على أنه تعالى لا يفعل القبيح، لأنه لو كان يحسن منه كلّ شيء لم يكن لهذا الكلام معنى.

ص: 115

آية 31 - 33

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِتُو بأَسْمَاءِ هؤلاء إن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿21﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿32﴾ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿33)

ثم بيّن لهم بعض الحكم والمصالح في خلق الخليفة في الأرض بقوله : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) بخلق علم ضروري بها فيه . والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالباً، ولذلك يقال : علّمته فلم يتعلّم. و«الأسماء» في تقدير : أسماء المسمّيات ، فحذف المضاف إليه، لكونه معلوماً مدلولاً عليه بذكر الأسماء، لأنّ الإسم لابد له من مسمّى ، وعوّض منه اللام كقوله : (واشْتَعَلَ الرَّأْسُ) (1). وليس التقدير : وعلّم آدم مسمّيات الأسماء، فيكون حذفاً للمضاف، لأن التعليم تعلّق بالأسماء لا بالمسمّيات ، لقوله : (أنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء) (أَنْبِئهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) فكما علّق الإنباء بالأسماء لا بالمسمّيات، ولم يقل : أنبئوني بهؤلاء وأنبئهم بهم ، وجب تعليق التعليم بها.

ومعنى تعليم أسماء المسمّيات أنّه أراه الأجناس الّتي خلقها ، وعلّمه أنّ هذا اسمه فرس وهذا اسمه كذا، وعلّمه أحوالها وما يتعلّق بها من المنافع الدينية والدنيويّة. وعن ابن عبّاس ومجاهد وسعيد بن جبير وأكثر المتأخرين علّمه جميع

ص: 116


1- مريم : 4 .

الأسماء والصناعات وعمارة الأرضين والأطعمة والأدوية، واستخراج المعادن وغرس الأشجار ومنافعها ، وجميع ما يتعلّق بعمارة الدين والدنيا .

وقيل : علّمه أسماء الأشياء كلّها ما خلق وما لم يخلق، بجميع اللغات التي يتكلّم بها ولده بعده ، فأخذ عنه ولده اللغات، فلما تفرّقوا تكلّم كلّ قوم بلسان ألفوه واعتادوه ونسوا غيره.

و «آدم» اسم أعجمي : آزر وشالخ . وقيل : اسم عربي مشتق من الأُدمة، أو الأدَمَة بالفتح بمعنى الأسوة، أو من أديم الأرض، لما روي عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه سبحانه قبض قبضة من جميع الأرض - سهلها وحزنها - فخلق منها آدم، فلذلك يأتي بنوه ضروباً مختلفة. أو من الأُدم والأُدمة بمعنى الألفة.

والاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء، ودليلاً يرفعه إلى الذهن من الألفاظ والصفات والأفعال . واستعماله عرفاً في اللفظ الموضوع لمعنى، سواء كان مركباً أو مفرداً، مخبراً عنه أو خبراً أو رابطة بينهما، واصطلاحاً في المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة . والمراد به في الآية إمّا الأوّل أو الثاني.

وملخّص المعنى : أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة ، وقوى متباينة، مستعدّاً لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها، وأصول العلم، وقوانين الصناعات وكيفيّة آلاتها .

﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ) الضمير للمسمّيات المدلول عليها ضمناً، إذ التقدير أسماء المسمّيات كما ذكر (1). والمراد بالمسمّيات ذوات الأشياء أو مدلولات الألفاظ . وتذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء.

ص: 117


1- في ص : 116 .

(فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ) تبكيتاً لهم وتنبيهاً على عجزهم عن أمر الخلافة، فإنّ التصرّف والتدبير وإقامة المعدلة قبل تحقق المعرفة والوقوفعلى مراتب الاستعدادات وقدر الحقوق محال ، لا تكليفاً ليكون من باب التكليف بالمحال . والإنباء إخبار فيه إعلام ، ولذلك يجري مجرى كلّ منهما .

(إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة لعصمتكم، أو أنّ خلقهم واستخلافهم وهذه صفتهم لا يليق بالحكيم، وهو وإن لم يصرحوا به لكنّه لازم مقالهم .

ثمّ أخبر سبحانه عن الملائكة بالرجوع إليه والتسليم لأمره فقال : (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا). هذا اعتراف بالعجز والقصور وإشعار بأن سؤالهم كان استفساراً ولم يكن اعتراضاً ، وأنه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان والحكمة في خلقه، وإظهار لشكر نعمته بما عرفهم وكشف لهم ما اعتقل عليهم . ومراعاة للأدب بتفويض العلم كلّه إليه .

و «سبحان» مصدر كغفران، ولا يكاد يستعمل إلّا مضافاً منصوباً بإضمار فعله ، ك:معاذ الله . وقد أجري علماً للتسبيح بمعنى التنزيه . وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال، ولهذا جعل مفتاح التوبة فقال موسى (علیه السلام): (سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) (1) وقال يونس : (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (2).

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بجميع المعلومات، وهو صفة مبالغة للعالم (الحَكِيمُ )المحكم للأفعال، والمبدع الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة.

و «أنت» فصل . وقيل : تأكيد للكاف كما في قولك : مررت بك أنت. وإن لم يجز مررت بأنت، إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع، ولهذا جاز :يا هذا

ص: 118


1- الأعراف : 143 .
2- الأنبياء: 87 .

الرجل ، ولم يجز : يا الرجل . وقيل : مبتدأ خبره ما بعده، والجملة خبر «إنّ».

وفي هذه الآية دلالة على أنّ العلوم كلّها من جهته تعالى ، فإنّ العلوم لا تخلو إما أن تكون ضروريّة فهو الذي فعلها، وإما أن تكون استدلالية فهو الذي أقام الأدلّة عليها ، فلا علم لأحد إلا ما علمه تعالى.

ثم خاطب الله تعالى آدم تبييناً لفضله على الملائكة بقوله : (قَالَ يَا آدَمُ أنْبِتهُمْ ) أي : أعلم الملائكة و(أخبرهم بأسْمَائِهِمْ) بأسماء المسمّيات،فعلّق الإنباء بالأسماء لا بالمسمّيات، فلم يقل : أنبئهم بهم ، لما قلناه من أنّ التعليم متعلّق بالأسماء.

(فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ ﴾ أخبر الملائكة (بأسْمَائِهِمْ ﴾ أي: باسم كلّ شيء ومنافعه ومضاره وخواصّه (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) أي : أعلم ما غاب عنكم فلم تشاهدوه، كما أعلم ما حضر كم فشاهدتموه. والهمزة للإنكار دخلت على حرف الجحد فأفادت الإثبات والتقرير .

(وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ) ما تعلنونه ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) ما تضمرونه. وهذا استحضار لقوله تعالى: «أعلم ما لا تعلمون لكنّه جاء به على وجه أبسط ليكون كالحجّة عليه، فإنه تعالى لمّا علم ما خفي عليهم من أمور السموات والأرض وما ظهر لهم من أحوالهم الظاهرة والباطنة علم ما لا يعلمون. وفيه تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى، وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبيّن لهم.

وقيل : (مَا تُبْدُونَ) قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها، و «ما تكتمون» استبطانهم أنّهم أحقاء بالخلافة، وأنه تعالى لا يخلق خلقاً أفضل منهم . وقيل : ما أظهروا من الطاعة وأسرّ إبليس منهم من المعصية .

وعلمهم بصحة قول آدم ومطابقة الأسماء المسمّيات إما لعلمهم بنبوته وإمّا أن يكون الله تعالى جعل لهم العلم الضروري بصحة الأسماء ومطابقتها للمسمّيات .

ص: 119

إما عن طريق ، أو ابتداءً بلا طريق ، فلأجل ذلك علموا تميّزه واختصاصه. وإما أن يكون لهم لغات مختلفة، فكل قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيره ، فلمّا أراد الله التنبيه على نبوّته علّمه جميع تلك الأسماء، فلمّا أخبرهم بها علم كلّ فريق مطابقة ما أخبر به من الأسماء للغته، وعلم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كلّ قبيل. ولا شبهة أنّ إحاطة عالم واحد بأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة دالة على صحّة قوله .

وفي هذه الآيات دلالة على أن تعليمه سبحانه الأسماء كلّها بما فيها من المعاني وفتق لسانه بذلك معجزة أقامها الله للملائكة ، دالّة على نبوّته وجلالة قدره تفضيله عليهم . وأنّ شرف الإنسان بمزيّة العلم وفضله. وأنّه شرط في الخلافة . وأنّ التعليم يصح إسناده إلى الله تعالى، وإن لم يصح إطلاق المعلّم عليه ، لأن اللغات توقيفيّة . وأنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم، وإلا لتكرّر قوله : أنت العليم الحكيم. وأنّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة. وأن آدم أفضل من الملائكة ، لأنه أعلم منهم ، والأعلم أفضل ، لقوله تعالى :( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (1). وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها.

آية 34

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إبليسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ منَ الكافرينَ ﴿34﴾

ولمّا أنبأهم بالأسماء وعلّمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له سجدة تعظيم ، اعترافاً بفضله ومزيّة درجته ، وأداءً لحقه، واعتذاراً عمّا قالوا فيه فقال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) . وقيل : أمرهم به قبل أن يسوّي خلقه، لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا

ص: 120


1- زمر: 9 .

سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (1) امتحاناً لهم، وإظهاراً لفضله .

والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر نحو : اذكر ، وإلّا عطفه بما يقدّر عاملاً فيه على الجملة المتقدّمة ، بل القصّة بأسرها على القصّة الأخرى.

وهي نعمة رابعة عدّها عليهم. والكلام في أنّ المأمورين بالسجود الملائكة كلّهم أو طائفة ما منهم سبق. والسجود في الأصل تذلّل مع تطامن وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة.

والمأمور به هنا إما المعنى الشرعى على قول أكثر العامة ، فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى ، وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيماً لشأنه، أو سبباً لوجوبه، فكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون نموذجاً للمبدعات كلّها بل الموجودات بأسرها ، ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني، ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات، أمرهم بالسجود تذلّلاً لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته ، وشكراً لما أنعم عليهم بواسطته. فاللام فيه كاللام في قول حسان في مدح أمير المؤمنين (علیه السّلام) :

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم *** وأعرف الناس بالقرآن والسنن

وفي قوله تعالى : (أقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (2) .

وإمّا المعنى اللغوي، وهو التواضع لآدم تحيّة وتعظيماً له ، كسجود إخوة يوسف له .والمروي عن أئمّتنا (علیهم السّلام) أنّه على وجه التكرمة لآدم والتعظيم لشأنه وتقديمه عليهم. وهو قول قتادة أيضاً وجمع من العلماء، واختاره علي بن عيسى.

ص: 121


1- الحجر : 29 .
2- الإسراء : 78 .

ولهذا جعل أصحابنا رضي الله عنهم هذه الآية دالّة على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة، حيث إنّه سبحانه أمرهم بالسجود لآدم ، وذلك يقتضي تعظيمه وتفضيله عليهم ، وإذا كان المفضول لا يجوز تقديمه على الفاضل علمنا أنّه أفضل من الملائكة .

وهذا الوجه أوجه وأحسن من الوجه الأوّل، لأنه لو كان على الوجه الأوّل لما امتنع إبليس من ذلك ، ولما استعظمته الملائكة، وقد نطق القرآن بأن امتناع إبليس عن السجود إنّما هو لاعتقاده تفضيله به وتكرمته، مثل قوله تعالى( أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) (1) وقوله :( أنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (2) ولوجب أن يعلمه الله بأنّه لم يأمره بالسجود على جهة تعظيمه وتفضيله عليه ، وإنّما أمره على الوجه الآخر الذي لا تفضيل فيه، ولم يجز إغفال ذلك، فإنّه سبب معصية إبليس وضلالته، فلما لم يقع ذلك علمنا أن الأمر بالسجود له لم يكن إلا على وجه التعظيم والتفضيل والإكرام والتبجيل.

وعلى هذا (فَسَجَدُوا) معناه : فسجد الملائكة سجدة تعظيم وتكريم لآدم إِلَّا (إِبْلِيسَ أَبَى) امتنع عمّا أِمر به ﴿وَاسْتَكْبَرَ) من أن يعظمه ويتلقاه بالتحية، أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه .

والإباء : الامتناع باختيار والتكبّر : أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره والاستكبار طلب ذلك .

(وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) أي : في علم الله تعالى، أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إيَّاه بالسجود لآدم، اعتقاداً بأنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر

ص: 122


1- الإسراء : 62 .
2- الأعراف : 12 .

بالتخضع للمفضول والتوسّل به كما أشعر به قوله :( أنَا خَيْرٌ مِنْهُ) (1) جواباً لقوله : (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ اسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ) (2) واستخفافه بنبيّ الله لا بترك الواجب وحده .

و «إبليس» اسم أعجمي . واختلف فيه هل كان من الملائكة أم لا ؟ فذهب قوم إلى أنّه كان منهم ، وهو المروي عن ابن عبّاس وابن مسعود وقتادة. وقال الشيخ المفيد رحمه الله : إنّه كان من الجن خاصّة، ولم يكن من الملائكة . وقد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمة الهدی (علیه السّلام) وهو مذهب الإمامية والحسن البصري وعلي بن عيسى الرماني والبلخي وغيره. واحتجوا على صحة هذا القول بأشياء:

أحدها : قوله تعالى : ( إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) (3). ومن أطلق لفظ الجنّ لم يجز أن يعني به إلا الجنس المعروف، وكلّ ما في القرآن من ذكر الجنّ مع الإنس يدلّ عليه .

وثانيها : قوله تعالى : ( لَا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (4) فنفى المعصية (5) عنهم نفياً عاماً .

وثالثها : أنّ إبليس له نسل وذرّيّة، قال الله تعالى : ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّ ) (6). وقال الحسن : إبليس أب الجنّ كما أن آدم أب الإنس، وإبليس مخلوق من النار والملائكة روحانيون خلقوا من الريح في قول بعض،

ص: 123


1- الأعراف: 12 .
2- ص : 75 .
3- الكهف : 50 .
4- التحريم : 6 .
5- أي : عن الملائكة المذكورين في صدر در الآية .
6- الكهف : 50 .

ومن النور في قول الحسن ، لا يتناسلون ولا يطعمون ولا يشربون.

ورابعها قوله تعالى : ( جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً) (1). ولا يجوز على

رسل الله الكفر ولا الفسق ولو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب. واستثناء الله تعالى إيّاه منهم لا يدلّ على كونه من جملتهم، وإنما استثناه منهم لأنه كان مأموراً بالسجود معهم، فلما دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم .

وقال في الكشّاف (2) : الاستثناء متّصل ، لأنه كان جنّيّاً واحداً بين أظهر الألوف من الملائكة مغموراً بهم ، فغلبوا عليه في قوله : (فَسَجَدُوا) ، ثمّ استثنى استثناء واحد منهم. ويجوز أن يكون منقطعاً ، كقوله تعالى: ﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) (3).

ويؤيّد صحة هذا القول ما رواه الشيخ ابو جعفر بن بابويه رحمه الله في كتاب النبوة بإسناده عن ابن أبي عمير، عن جميل بن درّاج عن أبي عبدالله (علیه السّلام)قال: «سألته عن إبليس أكان من الملائكة، أو كان يلي شيئاً من أمر السماء ؟ فقال : لم يكن من الملائكة، ولم يكن يلي شيئاً من أمر السماء، وكان من الجن، وكان مع الملائكة ، وكانت الملائكة ترى أنّه منها ، وكان الله يعلم أنه ليس منها ، فلمّا أمر بالسجود لآدم كان منه الذي كان». وكذا رواه العياشي في تفسيره. (4)

ومن قال : إنّه كان من الملائكة فأجاب عن الأدلّة المذكورة بأجوبة سخيفة ضعيفة ، لا نطوّل بذكرها الكتاب.

ص: 124


1- فاطر : 1 .
2- الكشّاف 1 : 127 .
3- النساء : 157 .
4- تفسير العياشي 1 : 34 ح 16 .

آية 35 - 37

وقلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنُ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا منْهَا رَغَداً حيث شئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذه الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿35﴾ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (137)

ثم ذكر الله سبحانه ما أمر به آدم (علیه السّلام) بعدما أنعم عليه، من اختصاصه بالعلوم التي بها أوجب له الإعظام وأسجد له الملائكة الكرام ، فقال : ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ . نون «قلنا» نون الكبرياء والعظمة لا نون الجمع والسكنى من السكون ، لأنها استقرار ولبث . و«أنت» تأكيد أكد به المستكن ليصح العطف عليه. وإنّما لم يخاطبهما أوّلاً تنبيهاً على أنّه المقصود بالحكم والمعطوف عليه تبع له .

و«الجنّة» دار الثواب، لأنّ اللام للعهد ولا معهود غيرها . ومن زعم أنّها لم تخلق بعد قال : إنّه بستان كان بأرض فلسطين أو بين فارس وكرمان خلقه الله امتحاناً لآدم وحمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند كما في قوله :( اهْبِطُوا مِصْراً ) (1) والقول الأوّل أشهر وأصح وأكثر . ومن يزعم أنّ جنة الخلد من يدخلها لا يخرج منها غير صحيح، لأن ذلك إنّما يكون إذا استقرّ أهل الجنّة فيها للثواب، فأما قبل ذلك فإنّها تفنى، لقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (2).

وعن ابن عبّاس وابن مسعود أنّه لمّا أخرج إبليس من الجنّة لامتناعه من

ص: 125


1- البقرة : 61 .
2- القصص : 88 .

السجود ولعن وطرد بقى آدم وحده فاستوحش إذ ليس معه من يسكن، فخلقت حوّاء ليسكن إليها .

وروي أنّ الله تعالى ألقى على آدم النوم وأخذ منه ضلعاً، فخلق منه حوّاء، فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة فقال : من أنت ؟ قالت : امرأة ، قال : لم خلقت ؟ قالت : خلقت لتسكن إليّ ، فقالت الملائكة : ما اسمها يا آدم؟ قال: حوّاء قالوا لم سمّيت حوّاء ؟ قال : لأنها خلقت من حيّ. وقيل : خلقت قبل أن يسكن آدم الجنّة، ثمّ أدخلا معاً في الجنّة.

وفي كتاب النبوّة : أنّ الله تعالى خلق آدم من الطين، وخلق حوّاء من آدم فهمة الرجال الماء والطين، وهمة النساء الرجال.

ومعنى الآية : اتّخذ يا آدم أنت وامرأتك الجنّة مسكناً ومأوى ﴿وَكُلًا مِنْهَا) أي : من ثمرات الجنّة وطعومها (رَغَداً ) كثيراً واسعاً رافها لاعناء فيه، فإنّ الرغد بمعنى سعة العيش، وهو صفة مصدر محذوف ، أي : رزقاً واسعاً (حَيْثُ شِئْتُمَا) أَيّ مكان من بقاع الجنة شئتما. وسّع الأمر عليهما إزاحة للعلّة والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها .

واعلم أنّ هذا الأمر للإباحة بالاتفاق، وأما قوله : ( وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) للتعبّد (1) ، أي : لا تقرباها بالأكل لا مجرّد الدنوّ منها . ويدلّ عليه أنّ المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف لا بالدنو منها ، ولذلك قال :(فَأَكَلَا مِنْهَا) (2) وهو نهي تنزيه، وكانا بالتناول منها تاركين نفلاً وفضلاً.

﴿ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ مجزوم عطف على «تقربا»، أو منصوب جواب للنهي :أي: الباخِسَيْن الثواب لأنفسكما بترك هذا المندوب إليه . وفي الآية مبالغة في

ص: 126


1- كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح : فللتعبّد .
2- طه : 121 .

النهي عن تناول تلك الشجرة - الذي يثمر الحرمان من الثواب العظيم، الذي هو الخلود في جنّات النعيم مع مزيد التكريم - وهي تعليق النهي بالقرب الذّي هو من مقدّمات التناول مبالغةً في ترك الإقدام به (1) ، وتنبيهاً على أن القرب من الشيء يورث ميلاً مّا به(2) ، فينبغي أن لا يحوما حول ما نهي (3) عنهما مخافة أن يقعا فيه. وجعله سبباً لأن يكونا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بنقص حظهما بالإتيان بما يخلّ بالكرامة والنعيم ، فإنّ الفاء تفيد السببية . ولا يجوز أن يكون نهي تحريم، ويكون آدم فاعلاً لقبيح، لأنّ الأنبياء(علیه السّلام) لعصمتهم لا يجوز عليهم القبائح، لا صغيرها ولا كبيرها قبل البعثة ،وبعدها كما بيّن في كتب الكلام كالتجريد ونهج المسترشدين وغيرهما .

و«الشجرة» هي الحنطة أو الكرمة أو التينة أو الكافور، أو شجرة من أكل منها أحدث والأوّل أشهر.

ثم بيّن الله سبحانه حال آدم بعد سكونه مع حوّاء في الجنّة فقال : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ) أي : أصدر زلّتهما الشيطان - يعني : إبليس - عن الشجرة ، وحملهما على الزلّة بسببها وإزلاله قوله : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾ (4) وقوله : (مَا نَهَكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) (5) ، ومقاسمته إيَّاهما بقوله : (إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (6). نسب الإزلال إلى الشيطان لما وقع بدعائه ووسوسته ، أو أزلهما عن الجنّة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما ، كما تقول : زلّ عن مرتبته ، وزلّ عنّي ذلك ، إذا ذهب عنك . ويعضده

ص: 127


1- كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح على الترتيب : الإقدام عليه ... ميلا ما إليه ... نُهيا عنه
2- كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح على الترتيب : الإقدام عليه ... ميلا ما إليه ... نُهيا عنه
3- كذا في الخطّية ، ولعلّ الصحيح على الترتيب : الإقدام عليه ... ميلا ما إليه ... نُهيا عنه
4- طه : 120 .
5- الأعراف : 20 - 21 .
6- الأعراف : 20 - 21 .

قراءة حمزة فأزالهما، وهما متقاربان في المعنى، غير أنّ أزل تقتضي عشرة مع الزوال، بخلاف الإزالة .

واختلف في كيفية وصول إبليس إلى آدم وحواء حتى وسوس إليهما، وإبليس قد أخرج من الجنّة حين أبى السجود وهما في الجنّة، فقيل : إنّ آدم كان يخرج إلى باب الجنّة، وإبليس لم يكن ممنوعاً من الدنو منه، فكان يكلّمه ، وكان هذا قبل أن أهبط إلى الأرض وبعد أن أخرج من الجنّة . وقيل : إنّه كلّمهما من الأرض بكلام عرفاه وفهماه منه . وقيل : إنّه دخل في فقم الحيّة وخاطبهما من فقمها، والفقم : جانب الشدق (1). وقيل : تمثل بصورة دابة فدخل ولم تعرفه الخزنة . وقيل : إنّه منع من الدخول على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة ، ولم يمنع أن يدخل للوسوسة ابتلاءً لآدم وحواء . وقيل : إنّه راسلهما بالخطاب . وظاهر القرآن على أنّه شافههما بالخطاب . والعلم عند الله .

وعلى التقادير (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ) أي : من الكرامة والنعيم. أضاف الإخراج إلى الشيطان لأنّه كان السبب فيه. وإنّما أخرج الله آدم من الجنّة ، لأنّ المصلحة اقتضت بعد تناوله الشجرة إهباطه إلى الأرض وابتلاءه بالتكليف وسلبه ثياب الجنّة ، كما تقتضي الحكمة الإفقار بعد الإغناء والإماتة بعد الإحياء ومن جملة المصلحة أن يكون ذلك لطفاً له ولذرّيته في اجتناب الأولى والخطايا واتقاء المآتم ، والتنبّه على أنّه أخرج من الجنّة بترك الأولى، فكيف يدخلها ذو خطايا جمّة ؟ !

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا) أي: انزلوا من الجنّة، خطاب لآدم وحواء ، لقوله : (اهْبِطَا مِنْهَا جَميعاً) (2). وجمع الضمير لأنهما أصلا الإنس، فكأنّهما الإنس كلّهم ، أوهما وإبليس أخرج منها ثانياً بعدما كان يدخلها للوسوسة. وقيل: من السماء إلى

ص: 128


1- الشدق بفتح الشين وكسرها : زاوية الفم من باطن الخدّين .
2- طه : 123 .

الأرض.

(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوُّ) حال استغني فيها عن الواو بالضمير . والمعنى: متعادين يبغي بعضكم على بعض بتضليله ، يعني : آدم وذريته وإبليس وذريته. ولم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إيَّاه، ولكن حسده الملعون وخالفه، فنشأت بينهما العداوة، فعداوة آدم له إيمان وعداوة إبليس له كفر . وأما على الوجه الذي يتضمّن أن الخطاب يختص بآدم وحواء فالمراد منه أنّ ذرّيّتهما يعادي بعضهم بعضاً. وعلّق الخطاب بهما للتلازم بين الذرّيّة وبين أصلها .

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) موضع استقرار، أو استقرارٌ (وَمَتَاعٌ) تمتع بالعيش (إلى حِينٍ) . يريد به وقت الموت أو القيامة. قال السراج : لو قيل : لكم في الأرض مستقرّ ومتاع، لظنّ أنّ ذلك غير منقطع ، فقيل: إلى حين، أي: إلى حين انقطاعه.

وفي الآية دلالة على أنّ الله تعالى لا يريد المعصية، ولا يصدّ أحداً عن الطاعة ، ولا يخرجه عنها ، ولا يرضى بالمعصية، ولا يحدثها في المكلّف، لأنه نسب ذلك إلى الشيطان، جلّ ربّنا وتقدّس عمّا نسبه إلى إبليس والشياطين. ويدلّ أيضاً على أن لوسوسة إبليس تأثيراً في المعاصي.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها . وقرأ ابن كثير بنصب «آدم» ورفع «كلمات» على أنّها استقبلته وبلغته.و أصل الكلمة الكلم وهو التأثير المدرك بإحدى الحاستين السمع والبصر ، كالكلام والجراحة.

وهي قوله تعالى : ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )(1). وقيل : سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدّك ، لا إله

ص: 129


1- الأعراف : 23 .

إلّا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

وعن ابن عباس قال : يا ربّ ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى، قال: يا ربّ ألم تنفخ فيّ الروح من روحك ؟ قال : بلى، قال : يا ربّ ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ :قال : بلى قال : ألم تسكنّي جنّتك ؟ قال : بلى قال : يا ربّ إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنّة ؟ قال : نعم .

وقيل : هي قوله : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ربِّ إِنِّي ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين، فتب عليّ إنّك أنت التواب الرحيم . وقيل : بل هي : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .

وفي رواية أهل البيت (علیهم السّلام): أن آدم (علیه السّلام) رأى مكتوباً على العرش أسماء معظمة مكرّمة ، فسأل عنها ، فقيل له : هذه أسماء أجلّ الخلق منزلةً عند الله ، والأسماء : محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فتوسّل آدم إلى ربّه بهم في قبول توبته ورفع منزلته .

(فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ فرجع عليه بالرحمة وقبول التوبة . وإنّما رتبه بالفاء على تلقّي الكلمات لتضمّنه معنى التوبة، وهو الاعتراف بترك الندب والندم عليه والعزم على أن لا يعود إليه. واكتفى بذكر آدم لأنّ حوّاء كانت تبعاً له في الحكم، ولذلك طوى ذكر النساء فى أكثر القرآن والسنن .

﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوابُ) الرجاع على عباده بالمغفرة ، أي : كثير القبول للتوبة مرّة بعد أخرى ، أو الذي يكثر إعانتهم على التوبة باللطف والتوفيق . وأصل التوبة الرجوع فإذا وصف بها العبد كان رجوعاً عن المعصية أو ترك الأولى، وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها الرجوع عن العقوبة أو الحرمان عن الثواب المرتب على فعل الندب إلى المغفرة أو إلى إعطاء الثواب

(الرَّحِيمُ) المبالغ في الرحمة وفي الجمع بين الوصفين وعد للتائب بالإحسان مع المغفرة.

ص: 130

قال الحسن البصري : لم يخلق الله آدم إلا للأرض، ولو لم يعص لأخرجه على غير تلك الحال. وقال غيره : يجوز أن يكون خلقه للأرض إن عصى ، ولغيرها إن لم يعص . وهو الأقوى.

واعلم أنّ التوبة عبارة عن الندم على ما مضى من القبيح، والعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح، فإنّ هذه التوبة أجمع المسلمون على سقوط العقاب عندها، واختلفوا فيما عداها وكلّ معصية الله تعالى يجب التوبة منها . وعندنا يصح التوبة من ترك الندب ، ويكون ذلك على وجه الرجوع إلى فعله. وعلى هذا يحمل توبة الأنبياء (علیهم السّلام) في جميع ما نطق به القرآن. وقبول التوبة وإسقاط العقاب عندنا تفضّل من الله تعالى، لكن لما وعدنا الله تعالى بذلك علمنا أنه لا يخلف الميعاد .وعند جميع المعتزلة واجب عليه .

وأما التوبة من قبيح مع الإقامة على قبيح آخر يعلم أو يعتقد قبحه ، فعند أكثر المتكلمين هي صحيحة، وعند أبي هاشم وأصحابه لا يصح . ودليل الأوّلين أنه كما يجوز أن يمتنع عن قبيح لقبحه مع أنه يفعل قبيحاً آخر وإن علم قبحه ، كذلك يجوز أن : يندم من قبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه .

آية 38 - 39

«قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)»

ولمّا أمر سبحانه أوّلاً بإهباطهم من الجنّة إلى السماء أمرهم ثانياً بإهباطهم إلى الأرض فقال : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً) فلا تكرير في الإهباط . و«جميعاً» حال في اللفظ تأكيد في المعنى، كأنه قيل : اهبطوا أنتم أجمعون ، ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد ، كقولك : جاؤا جميعاً.

ص: 131

وقيل : المراد من هذا الإهباط هو الإهباط الأوّل، وتكراره للتأكيد. وقيل: الإهباط الأوّل إنّما كان في حال عداوة بعضهم لبعض، والثاني إنما كان للابتلاء والتكليف ، كما يقال : إذهب سالماً معافى ، اذهب مصاحباً ، وإن كان الذهاب واحداً، لاختلاف الحالين .

فبعد بيان حال الأولى بيّن الثانية بقوله : ( فإمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أَي : بيان ودلالة برسول ابعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم. وعلى هذا القول يكون الخطاب في قوله: ﴿اهْبِطُوا) لآدم وحوّاء وذريتهما ، و «ما» مزيدة أكدت به «إن» ولذلك حسن تأكيد الفعل بالنون ، وإن لم يكن فيه معنى الطلب. والمعنى : إن يأتينكم منّي هدىً بإنزال أو إرسال (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) بأن يقتدي برسولي ويؤمن به وبكتابه (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العقاب فضلاً عن أن يحلّ بهم مكروه ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على فوت الثواب والمحبوب فيحزنوا عليه. وأما الخوف والحزن في الدنيا فإنّه يجوز أن يلحقهم، لأنّ من المعلوم أنّ المؤمنين لا ينفكون منه . وجواب الشرط الأوّل الشرط الثاني مع جوابه .

والآية تدلّ على أنّ الهدى قد تثبت ولا يحصل الاهتداء، وأنّ الاهتداء إنّما يقع بالاتباع والقبول.

وإنما جيء بحرف الشكّ وإتيان الهدى كائن لا محالة للإيذان بأنّ الإيمان بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب، وأنه لولم يبعث رسولاً ولم ينزل كتاباً كان الإيمان به وتوحيده واجباً لما ركب فيهم من العقول، ونصب لهم من الأدلّة، ومكنهم من النظر والاستدلال.

وكرّر لفظ الهدى ولم يضمر لأنه أراد بالثاني أعم من الأوّل، وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل ، أي : فمن اتبع ما أتاه مراعياً فيه ما يشهد به العقل فلا خوف عليهم، والخوف إنّما يكون على المتوقع والحزن على الواقع، فنفى عنهم العذاب

ص: 132

وأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه .

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا) جحدوا رسلنا (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) بدلالاتنا الهادية المنزلة أو ما يعمّها والمعقولة أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ الملازمون للنارِ ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دائمون مؤبّدون .

هذه الآية عطف على (فَمَنْ تَبِعَ) إلى آخرها ، قسيم له كأنّه قال : ومن لم يتبع بل كفروا بالله وكذبوا بآياته أو كفروا بالآيات جناناً وكذبوا بها لساناً ، فيكون الفعلان متوجّهين إلى الجار والمجرور .

والآية في الأصل العلامة الظاهرة، ويقال للمصنوعات من حيث إنّها تدلّ على وجود الصانع وعلمه وقدرته ، ولكلّ طائفة من كلمات القرآن المتميّزة عن غيرها بفصل . واشتقاقها من أيّ لأنها تبيّن أيّاً من أيّ أو من أوى إليه وأصلها أيّة ، أو أؤية كتمرة، فأبدلت عينها ألفاً على غير قياس، أو أيَيَة ، أو أوَيَة كرَمَكة فأعلّت ، أو آئية كقائلة فحذفت الهمزة تخفيفاً.

وفي الآية دلالة على أن من مات مصرّاً على كفره غير تائب منه وكذّب بآيات ربّه فهو مخلّد في نار جهنّم .

آية 40 - 42

«يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)»

واعلم أنه سبحانه لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وعقبها تعداد النعم

ص: 133

العامة تقريراً لها - فإنّها من حيث إنّها حوادث محكمة تدلّ على محدث حكيم له الخلق والأمر وحده لا شريك له ، ومن حيث إنّ الإخبار بها على ما هو مثبت في الكتب السابقة ممن لم يتعلّمها ولم يمارس شيئاً منها إخبار بالغيب معجز يدلّ على نبوّة المخبر عنها، ومن حيث اشتمالها على خلق الإنسان وأصوله وما هو أعظم من ذلك تدلّ على أنه قادر على الإعادة كما كان قادراً على الإبداء - خاطب أهل العلم والكتاب منهم ، وأمرهم بأن يذكروا نعم الله عليهم، ويوفوا بعهده في اتّباع الحقّ واقتضاء الحجج، ليكونوا أول من آمن بمحمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وما أنزل عليه ، فقال :

( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي : يا أولاد يعقوب. والابن : من البناء، لأنه مبني على أبيه ، ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه، فيقال : أبو الحرب وبنت الفكر . و«إسرائيل» لقب يعقوب، ومعناه بالعبريّة : صفوة الله ، وقيل : عبد الله .

(اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) :أي: استحضروها في أنفسكم بالتفكر فيها والقيام بشكرها وتوحيد النعمة باعتبار الجنس، وتقييدها بهم، لأنّ الإنسان غيور حسود بالطبع، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط، وإن نظر إلى ما أنعم الله عليه حمله حبّ النعمة على الرضا والشكر.

وقيل : أراد بها ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون والغرق، ومن العفو عن اتخاذ العجل، فإنّ النعمة على الآباء نعمة على الأبناء، لتشرفهم بفضيلة الآباء ، وعليهم من إدراك زمن محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) المبشر به في التوراة والإنجيل.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) بالإيمان والطاعة. وسمّي ذلك عهداً لأنّ الله أخذ عليهم العهد بذلك في يوم الميثاق في الكتاب، أو لتأكيده بمنزلة العهد. ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ بحسن الإثابة .

و «العهد» يضاف إلى المعاهد والمعاهد والأولى أن يكون الأوّل مضافاً إلى

ص: 134

الفاعل والثاني إلى المفعول فإنّه تعالى عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وإنزال الكتب، ووعد لهم بالثواب على حسناتهم. وللوفاء بهما عرض عريض، ، فأوّل مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ، ومن الله حقن الدم والمال، وآخرها منّا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلاً عن غيره، ومن الله الفوز بنهاية القرب الدائم المسمّى باللقاء الأبدي .

وما روي عن ابن عباس : أوفوا بعهدي في اتباع محمّد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أوف بعهدكم في رفع آصار التكليف وشدّتها، وعن غيره : أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب ، أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوف بالكرامة والنعيم المقيم ، فبالنظر إلى وسائط مراتب الوفاء.

ويجوز أن يكون كلاهما مضافاً إلى المفعول ، والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة .

وتفصيل هذين العهدين قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) إِلَى قوله (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي) (1).

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فيما تأتون وتتركون، وخصوصاً في نقض العهد، وهو آكد في إفادة التخصيص من إياك نعبد لما فيه - مع تقديم المفعول - من تكرير المفعول، والفاء الجزائيّة التي تدلّ على تضمّن الكلام معنى الشرط ، كأنه قيل : إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون والرهبة عبارة عن خوف مع تحرّز .

والآية متضمّنة للوعد والوعيد ، ودالة على وجوب شكر النعمة - وفي الحديث : التحدّث بالنعم شكر - وعلى الوفاء بالعهد، وأن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحداً إلّا الله ، وأن عظم المعصية في جحود النعم وكفرانها، ولحوق الوعيد الشديد بكتمانها، وعلى ثبوت أفعال العباد، إذ لو لم تكن لهم أفعال لما صحّ العهد

ص: 135


1- المائدة : 12 .

والأمر والنهي والوعد والوعيد ، ولأدّى إلى بطلان الرسل والكتب .

ثمّ قال مخاطباً لليهود: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ) على محمّد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) من القرآن (مُصَدِّقاً) حال كونه موافقاً (لِمَا مَعَكُمْ) إفراد الإيمان بالأمر به والحثّ عليه لأنه المقصود والعمدة للوفاء بالعهود .

وتقييد المنزل بأنّه مصدّق لما معهم من الكتب الإلهية - من حيث إنّه نازل حسبما نعت فيها ، أو مطابق لها في القصص والمواعيد، والدعاء إلى التوحيد، والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش . وفيما (1) يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح ، من حيث إنّ كلّ واحدة منها حق بالإضافة إلى زمانها مراعى فيها صلاح من خوطب بها، حتى لو نزل المتقدّم في أيّام المتأخّر لنزل على وفق المتأخّر، ولذلك قال (علیه السلام) : «لو كان موسی حيّاً لما وسعه إلّا اتّباعي» - تنبيه (2) على أن اتباعها لا ينافي الإيمان به، بل يوجبه ، ولذلك عرّض بقوله : ( وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أي : الواجب عليكم أن تكونوا أوّل من آمن ،به لأنّكم من أهل النظر في معجزاته والعلم بشأنه، ومستفتحون به على الكفرة، ومبشرون بزمانه .

و «أوّل كافر» خبر عن ضمير الجمع، بتقدير : أول فريق أو فوج، أو بتأويل : لا يكن كلّ واحد منكم أوّل كافر به كما يقال : كسانا الأمير حلّة، أي كسا كلّ واحد منا حلّة.

ولما كان المراد منه التعريض بأنه كان يجب أن يكون اليهود أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته وتبشيرهم الناس به، واستفتاحهم به على الذين كفروا، وكانوا

ص: 136


1- عطف على : في القصص ، أي : مطابق لها فيما يخالفها من الأحكام، ولكن من حيث إن كلّ واحدة منها حق بالإضافة إلى زمانها .
2- خبر ل: وتقييد المنزل .

يقولون : إنا نتّبعه قبل أن يكون الناس كلّهم آمنوا به، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، كقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ﴾ (1) لا الدلالة على ما نطق به الظاهر ، كقولك : أما أنا فلست بجاهل . فلا (2) يرد كيف نهوا عن التقدّم في الكفر وقد سبقهم مشركوا العرب ؟ أو يكون المراد منه : ولا تكونوا أوّل كافر به من أهل الكتاب. ويجوز أن يراد : ولا تكونوا مثل أوّل كافر به ، يعني : من أشرك به من أهل مكة ، أي : ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة موصوفاً ، مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له.

وقيل : الضمير في «به» لما معكم لأنهم إذا كفروا بما يصدّقه فقد كفروا به. و«أوّل» أفعل لا فعل له . وقيل : أصله أو أل من : وأل ، أو أأول من : آلَ فقلبت همزته واواً وأدغمت.

﴿ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) ولا تستبدلوا بالإيمان بها حظوظ الدنيا، فإنّها وإن جلّت قليلة بالإضافة إلى ما يفوت عنكم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان.

روي عن أبي جعفر (علیه السلام) وغيره في هذه الآية أنه قال: «كان حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظائرهما من اليهود لهم رئاسة في قومهم ورسوم وهدايا منهم ومأكلة على اليهود في كلّ سنة ، فكرهوا بطلانها بأمر النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) - :أي: فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله - فاختاروها عليه، فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره، فذلك هو الثمن الذي أريد في الآية .

فالمعنى: لا تستبدلوا بما في التوراة من بيان صفة محمّد ونعته ثمناً قليلاً، أي عرضاً يسيراً من الدنيا . وقيل : كانوا يأخذون الرّشا فيحرّفون الحق ويكتمونه.

ص: 137


1- البقرة : 89 .
2- جواب ل: ولما كان ، في أوّل العبارة .

وفي هذه الآية دلالة على تحريم أخذ الرّشا في الدين، فإنّه لا يخلو إما أن يكون أمراً يجب إظهاره أو يحرم إظهاره، فالأخذ على مخالفة كلا الوجهين حرام. وهذا الخطاب يتوجّه أيضاً على علماء السوء من هذه الأمة إذا اختاروا الدنيا على الدّين، فتدخل فيه الشهادات والقضايا والفتاوى وغير ذلك.

(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الدنيا. ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادي لما في الآية الثانية فصلت بالرهبة التي مقدّمة التقوى . ولأنّ الخطاب بالأولى لمّا عمّ العالم والمقلّد أمرهم بالرهبة التي مبدأ السلوك ، والخطاب بالثانية لمّا خصّ أهل العلم أمرهم بالتقوى التي هي منتهى السلوك.

وقوله : ( وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) عطف على ما قبله واللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشيء مشتبهاً بغيره . والمعنى : لا تخلطوا الحق المنزل في التوراة بالباطل الّذي تخترعونه وتكتمونه، فيختلط الحق بالباطل ولا يبقى تميز بينهما . أو : ولا تجعلوا الحق مشتبهاً بباطلكم الّذي تكتبونه في خلاله حتى رفع التمييز بينهما . فالباء على الأوّل صلة مثل قولك : لبست الشيء بالشيء وخلطته، وعلى الثاني للاستعانة ، كالّتي في قولك : كتبت بالقلم .

(وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) جزم داخل تحت حكم النهي ، كأنّهم أمروا بالإيمان وترك ،الضلال ونهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحق والإخفاء على من لم يسمعه ، أو منصوب بإضمار «أن» على أنّ الواو للجمع ، ويسمّى واو الصرف أيضاً، الصرفه المعطوف عن إعراب المعطوف عليه. والمعنى : ولا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق ، كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . وفيه نظر ، لتوهّم أنّ المحظور هو الجمع بينهما لا كلّ واحد منهما كالجمع بين الأكل والشرب، إلا أن يقال : إنّ قرينة المقام دالّة على تحريم كلّ منهما كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً

ص: 138

أوْ كَفُوراً) (1)، إذ لا يجوز أن يريد : أطع أحدهما ، لقرينة الإثم والكفور .

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) عالمين بأنّكم لابسون كاتمون، فإنّه أقبح، إذ الجاهل قد يعذر.

آية 43 - 44

وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرَ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿44﴾

ثمّ أمرهم الله بفروع الإسلام بعد ما أمرهم بأصوله، فقال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) أدّوها بأركانها ﴿ وَآتُوا الزَّكَاةَ) أعطوا الزكاة المفروضة ، يعني : صلاة المسلمين ،وزكاتهم، فإنّ غيرهما كلاصلاة ولا زكاة وهذا دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بها.

والزكاة: من زكا الزرع ، إذا نما ، فإنّ إخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم أو من الزكاء بمعنى الطهارة، فإنّها تطهر المال عن الخبث والنفس عن البخل .

(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) من المسلمين ، لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم ، أو المراد به صلاة الجماعة، فكأنّه قال : وأقيموا الصلاة وصلوها مع المصلّين لا منفردین، فإنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ (2) بسبع وعشرين درجة . وقيل : الركوع الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع.

ثمّ وبّخهم على وجه التقرير والتعجيب فقال : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ) البرّ التوسع في الخير ، ومنه البَرّ وهو الفضاء الواسع. ويتناول كلّ خير ، ولذلك قيل : البرّ

ص: 139


1- الانسان : 24 .
2- أي : المنفرد ، والفذّ : الفرد . (لسان العرب 3: 502) .

ثلاثة : برّ في عبادة الله تعالى، وبرّ في مراعاة الأقارب، وبرّ في معاملة الأجانب. (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ وتتركونها من البرّ ترك المنسيات. وعن ابن عباس أنها نزلت في أحبار المدينة كانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين : اثبتوا على ما أنتم عليه من اتباع محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، وهم لا يؤمنون به ولا يتبعونه . وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون.

ثمّ بكّتهم بقوله : ( وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ) كقوله : «وأنتم تعلمون» أي: تتلون التوراة وفيها الوعيد على العناد وترك البرّ ومخالفة القول العمل. أَفَلَا تَعْقِلُونَ توبيخ عظيم ، يعني : أفلا تفطنون لقبح صنيعكم فيصدّكم استقباحه عن أرتكابه ؟ أو أفلا عقل لكم يمنعكم عمّا تعلمون وخامة عاقبته ؟ والعقل في الأصل الحبس، ثمّ سمّي به الإدراك الإنساني، لأنه يحبسه عما يقبح ، ويعقله على ما يحسن .

والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه سوءَ صنيعه وخبث نفسه ، وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل، وحاثّة الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم فيقيم ، لا أنّها تمنع الفاسق عن الوعظ ، فإنّ الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر .

روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أُسري بي علی أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ممّن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.

آية 45 - 47

وَاسْتَعينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاة وأنهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴿45﴾ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَهُم مُلاقُوا رَبَّهِمْ وَأَنهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿46﴾ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتيَ الَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلَتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿47﴾

ولمّا أمر الله اليهود بما يشق عليهم، لما فيه من الكلفة وترك الرئاسة

ص: 140

والإعراض عن المال أمرهم بعد ذلك بالاستعانة على حوائجهم بالصبر والصلاة، فقال : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) بحبس النفس على ما أنتم فيه من ضيق المعاش، وانتظار النجح والفرج توكّلاً على الله ، أو بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات ، لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس ، وهذا مروي عن ائمّتنا (1) (علیهم السّلام).

﴿ وَالصَّلَاةِ) وبالتوصّل والتوسل إلى الصلاة والالتجاء إليها ، فإنّها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما، والتوجّه إلى الكعبة، والعكوف للعبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النية بالقلب، ومجاهدة الشيطان، ومناجاة الحق، وقراءة القرآن، والتكلّم بالشهادتين، وكفّ النفس عن الأكل والنوم والجماع حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب . روي أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة .

ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء، وأن يستعان على البلايا بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في رفعه. والأوّل أظهر وأشهر. ويؤيّده ما روي عن ابن عبّاس أنه نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع وتنحى عن الطريق فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثمّ قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : اسْتَعِينُوا بالصبر والصَّلاة.

و(إنَّها ) أي : الاستعانة بهما أو الصلاة، وحينئذٍ تخصيصها بها لعظم شأنها ، لاستجماعها ضروباً من الصبر لَكَبِيرَةٌ) الثقيلة شاقّة، كقوله : (كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) (2) (إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) أي : المخبتين ، لأنهم الذين يتوقعون ما ادّخر للصابرين على مشاقها فتهون عليهم، بل يستلذّون بسببه متاعبها، ومن ثمّ قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : وجعلت قرّة عيني في الصلاة، وقال لبلال: روّحنا .

ص: 141


1- انظر تفسير العياشي 1 : 43 ح 40 - 41 .
2- الشورى : 13 .

والخشوع : التطامُن والإخبات والخضوع اللين والانقياد ولذلك يقال: الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب .

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ يتوقّعون (أنّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ ﴾ لقاء ثوابه ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ) إِلَى نيل ما عنده (رَاجِعُونَ ﴾ أو يتيقنون أنهم يحشرون إلى الله فيجازيهم ، وكأنّ الظنّ لمّا شابه العلم في الرجحان أطلق عليه لتضمّن معنى التوقع. ولا يجوز أن يكون المراد من اللقاء رؤية الله ، لاستحالة إطلاقها عليه كما قرّر في الكلام.

﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قد مرّ (1) تفسيره ، وكرّره للتأكيد ، أو ذكر الأوّل مجملاً وهذا مفصلاً ، أو في الأوّل ذكّرهم نعمه على أنفسهم، وفي الثاني على آبائهم .

(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) عطف على نعمتي ، أي : اذكروا تفضيلي آباءكم (عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ أي : عالمي زمانهم، لأنّ أمّتنا أفضل الأمم بالإجماع، كما أن نبينا (علیه السّلام) أفضل الأنبياء ، بدليل قوله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (2) فيريد تفضيل آبائهم الذين كانوا في زمان موسى (علیه السّلام) وبعده - قبل أن يغيّروا دينهم - بما منحهم من العلم والإيمان والعمل الصالح، وجعلهم أنبياء وملوكاً مقسطين.

وقيل : المراد به تفضيلهم في أشياء مخصوصة، وهي إنزال المنّ والسّلوى ، وما أرسل الله فيهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب، إلى غير ذلك من النعم العظيمة، مثل تغريق فرعون، والآيات الكثيرة التي يخفّ معها الاستدلال، ويسهل بها الميثاق . وتفضيل الله إيّاهم في أشياء مخصوصة لا يوجب أن يكونوا أفضل الناس على الإطلاق، كما يقال : حاتم أفضل الناس في السخاء.

ص: 142


1- في ص : 134 ذيل آية : 40 .
2- آل عمران : 110 .

آية 48

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴿48﴾

ولمّا بين سبحانه نعمه العظام عليهم أنذرهم في كفرانها بيوم القيامة ، فقال: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً) أي ما فيه من الحساب والعذاب وَلَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق ولا تدفع عنها مكروهاً، أو شيئاً من الجزاء، فيكون نصبه على المصدر. وإيراده منكراً مع تنكير النفسين للتعميم والإقناط الكلّي . والجملة صفة «يوماً» والعائد محذوف، تقديره: لا تجزي فيه .

(وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) أَي : من النفس الثانية العاصية أو من الأولى وكأنه أريد بالآية نفى أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كل وجه محتمل، فإنّه إمّا أن يكون قهراً، أو غيره. والأوّل النصرة. والثاني إما أن يكون مجاناً ، أو غيره . والأوّل على أنّها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها ، كما لا يجزي عنها شيئاً أن يشفع له . والثاني إما بأداء ما كان عليه وهو أن يجزي عنه، أو بغيره، وهو أن يعطي عنه عدلاً أي فداءً .

والشفاعة من الشفع، كأنّ المشفوع له كان فرداً فجعله الشفيع شفعاً بضمّ نفسه إليه . والعدل الفدية . وقيل : البدل . وأصله التسوية ، سمّي به الفدية لأنها سُوّيت بالمفدى . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : ولا تقبل بالتاء.

﴿ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ يمنعون من عذاب الله . والضمير لما دلّت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة . وتذكيره بمعنى العباد والأناسي . والنّصرة أخصّ من المعونة ، لاختصاصها بدفع الضرّ .

ص: 143

قال المفسّرون (1): حكم هذه الآية مختص باليهود، لأنهم قالوا: نحن أولاد الأنبياء وآباؤنا يشفعون لنا ، فأقنطهم الله عن ذلك . ويدلّ على ذلك أنّ الأمّة أجمعت على أنّ للنبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) شفاعة مقبولة وإن اختلفوا في كيفيتها، فعندنا هي مختصة بدفع المضارّ وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين . وقالت المعتزلة : هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين.

وهى ثابتة عندنا للنبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، والأئمة من أهل بيته الطاهرين، ولصالحي المؤمنين ، وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين. ويؤيده الحديث المتواتر عند الأمة المرحومة من الموافق والمخالف أن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال: «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»، وما جاء في روايات أصحابنا رضوان الله عليهم مرفوعاً إلى النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «إنّي أشفع يوم القيامة فأُشَفّع، ويشفع عليٌّ فَيُشَفَّعُ ، ويَشْفَعُ أهل بيتي فيشفّعون ، وإن أدنى المؤمنين شفاعةً ليشفع في أربعين من إخوانه كلّ قد استوجب النار ».

آية 49 - 52

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مَنْ آل فرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلَكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿49﴾ وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنْظُرُونَ ﴿50﴾ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿51﴾ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿52﴾

ص: 144


1- انظر التبيان 1 : 214 ، الكشّاف 1 : 136 ، مجمع البیان 1 : 103 ، أنوار التنزيل 1 : 152 .

ثم فصّل سبحانه النعم التي أجملها فيما قبل، فقال عطفاً على «نعمتي» -عطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة - : ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) أَصل آل أهل ، لأنّ تصغيره أهيل ، فأبدل الهاء ألفاً لقرب المخرج، وخص بالإضافة إلى أولي الخطر كالأنبياء والملوك ، فلا يقال : آل الإسكاف والحجّام.

و «فرعون» لقب ملك العمالقة ، ككسرى وقيصر لملكي الفرس والروم. وكانت العمالقة أولاد عمليق بن أدد بن ارم بن سام بن نوح ولم يكن في الفراعنة أحد أشدّ غلظة وأقسى قلباً من فرعون موسى ، ولعتوهم اشتق منه : تفرعن ، إذا عتا وتجبّر . وكان فرعون موسى مصعب بن ريّان ، وقيل : هو ابنه الوليد من بقايا عاد ، وفرعون يوسف (علیه السّلام) ريان، وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة .

والمعنى : وإذ خلّصناكم من قوم فرعون وأهل دينه ﴿ يَسُومُونَكُمْ) يبغونكم ، من : سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً. وأصل السوم الذهاب في طلب الشيء ، يقال : سام السلعة إذا طلبها ، ثم يعدّى بمفعولين (سُوءَ الْعَذَابِ) أفظعه، فإنّه أقبح بالإضافة إلى سائره. والسوء مصدر: ساء يسوء. ونصبه على أنه مفعول ل(يَسُومُونَكُمْ) والجملة حال من الضمير المنصوب في (نجيناكم) أو من آل فرعون أو منهما جميعاً ، لأنّ فيها ضمير كلّ واحد منهما .

وقوله: ﴿ يُذَبِّحُونَ أبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) بيان ل«يَسُومُونَكُمْ» ولذلك لم يعطف ، أي : يستبقونهنَّ وَيَدعونهنّ أحياء ليستعبدن وينكحن على وجه الاسترقاق، وهذا أشدّ من الذبح وإنّما فعلوا بهم ذلك لأنّ الكهنة أنذروا فرعون بأنّه يولد مولود ويكون على يده هلاكك ، كما أنذر ،نمرود، فلم يغن عنهما بحفظهما ، وكان ما شاء الله أن يكون .

وروي أن فرعون رأى في المنام كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت ،مصر ، فأحرقتها وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، فهاله

ص: 145

ذلك ، ودعا الكهنة والسحرة ،والقافة، فسألهم عن رؤياه، فقالوا: إنّه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك وتبديل دينك ، فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بني إسرائيل ، وجمع القوابل من أهل مملكته ، فقال لهنّ : لا يسقط على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلّا قتل، ولا جارية إلا تركت! ووكل طائفة عليهنّ ، فكنّ يفعلن ذلك . وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل، فدخل رؤساء القبط على فرعون فقالوا : إنّ الموت قد وقع في بني إسرائيل، فتذبح صغارهم ويموت كبارهم، فيوشك أن يقع علينا الأعمال الشاقة التي هم يصنعون لنا من البناء والحراثة وغيرهما . فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها فترك، وولد مو موسى في السنة التي يذبحون فيها، على وجه يذكر في سورة القصص.

( وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ ﴾ محنة إن أشير ب«ذلكم» إلى صنيعهم، ونعمة إن أشير به إلى الإنجاء. وأصله الاختبار، لكن لما كان اختيار الله عباده تارة بالمحنة وتارة بالمنحة أطلق عليهما. ويجوز أن يكون إشارة إلى المجموع، ويراد به الامتحان الشائع بينهما مِنْ رَبِّكُمْ﴾ بتسليطهم عليكم ، أو ببعث موسى وتوفيقه لتخليصكم ، أو بهما عظيم صفة بلاء.

وفي ا الآية تنبيه على أنّ ما يصيب العبد من خير أو شرّ اختبار من الله تعالى، فعليه أن يشكر على المسارّة ويصبر على المساءة ليكون من خير المختبرين .

ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى عليهم فقال : ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فلقناه و فصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك بسلوككم فيه ، يعني : يتفرّق الماء عند سلوككم، فكأنّما فرّق بكم كما يفرّق بين الشيئين بما يوسّط بينهما ، أو بسبب إنجائكم. ويجوز أن يكون في موضع الحال، بمعنى: فرقناه ملتبساً بكم. وروي أنه كان طرفا البحر أربعة فراسخ . (فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) أراد

ص: 146

فرعون وقومه، واقتصر على ذكرهم للعلم بأنه كان أولى به ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ )ذلك جميعاً ، أو غرقهم، أو إطباق البحر عليهم، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذلّلة، أو جُتَتَهم التي قذفها البحر إلى الساحل ، أو ينظر بعضكم بعضاً.

روي عن ابن عبّاس أنه تعالى أمر موسى أن يسري ببني إسرائيل، فخرج بهم وهم كانوا ستمائة ألف وعشرين ألفاً، فصبّحهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، فصادفوهم على شاطيء البحر ، فقال فرعون : ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ) (1)، فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برهج (2) دوابّ فرعون، فقالوا: یا موسی أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا هذا البحر أمامنا وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه .

فقال موسى (علیه السّلام): ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) (3) الآية ، فقال له يوشع بن نون : بِمَ أُمرتَ ؟ قال : أمرت أن أضرب بعصاي البحر . قال :اضرب، فضربه فظهر به اثنا عشر طريقاً يابساً ، فسلكوها ، فقالوا : یا موسی نخاف أن يغرق بعضنا ولا نعلم ، ففتح الله فيها الروازن فترا أوا وتسامعوا حتى عبروا البحر.

ثمّ لمّا وصل إليه فرعون ورآه منفلقاً وكان على فرس حصان أدهم، فهاب دخول الماء، تمثل له جبرئيل على فرس أنثى، وتقدّم البحر، فلما رآها الحصان تقدّم خلفها ثمّ تقدّم قوم فرعون، فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين.

وهذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل، ومن الآيات الملجئة

ص: 147


1- الشعراء : 54 - 55 .
2- الرَّهَج : الغبار. (لسان العرب 2 : (284 ) .
3- الأعراف : 129 .

إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى . ثمّ إنهم بعد رؤية هذه المعجزة الباهرة الظاهرة اتخذوا العجل وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)(1) فهم بمعزل من الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتِّباع عن أمة محمد(صلّی الله علیه و آله و سلّم)، لأنّ ما تواتر من معجزاته أمور نظريّة دقيقة تدركها الأذكياء.

ولمّا عاد بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وعد الله موسى أن يعطيه التوراة ، وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجّة، كما حكى الله سبحانه عن هذه الوعدة بقوله : ﴿وَإِذْ وَعَدْنَا (2) مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) عبّر عن ذي القعدة وعشر ذي الحجّة بالليالي ، لأنها غرر الشهور، فإنّ العرب يبنون حسابهم على سير القمر وهو يطلع في الليل .

وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : ﴿وَاعَدْنَا) لأَنه تعالى وعده الوحي، ووعده موسى المجيء للميقات إلى الطور، فخلّف موسی أصحابه واستخلف عليهم هارون ، فمكث على الطور أربعين ليلة وأنزل عليه التوراة في الألواح .

﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها أو معبوداً (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد موسى، أي: مضيّه إلى الطور ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) بإشراككم الذي حصل باتخاذكم العجل إلهاً.

﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ) حين تبتم . والعفو محو الجريمة ، من : عفا إذ ادرس (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أَي : الاتِّخاذ (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكرواعفوه.

وتفصيل هذه القصة سيجيء إن شاء الله تعالى في مواضعه .

ص: 148


1- البقرة : 55 .
2- في المصحف الكريم واعدنا ، ويظهر أن المصنف يرجّح قراءة : وَعَدْنا ، سيما بملاحظة قوله : وقرأ ابن كثير .

آية 53 - 59

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿53﴾ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿54﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن تُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةَ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿55﴾ ثُمَّ بَعَثْناكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿56﴾ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا من طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلَمُونَ ﴿57﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذه القرية فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿58﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كانوا يفسُقُونَ (51)

ثمّ بيّن نعمة إعطاء التوراة عليهم ، فقال : ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ) يعني : التوراة الجامع بين كونه كتاباً وحجّة تفرق بين الحق والباطل ، كقولك : رأيت الغيث والليث :أي: الرجل الجامع بين الجود والجراءة . وقيل : أراد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى، أو بين الكفر والإيمان، من العصا واليد وغيرهما من الآيات . وقيل : الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو النصر

ص: 149

الذى فرّق بينه وبين عدوّه ، كقوله تعالى : (يَوْمَ الْفُرْقَانِ) (1) یرید به یوم بدر. ( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ لكى تهتدوا بتدبّر الكتاب والتفكّر في الآيات ، أو بما فيه من البشارة بمحمّد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)و بيان صفته .

(وَإِذْ قَالَ) واذكروا إذ قال : (مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ لعبدة العجل من قومه بعد رجوعه من الطور إليهم (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ )أَضررتم بها (باتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) إِلهاً ومعبوداً (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ) فَاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم براءً من التفاوت في الخلق وعدم التناسب ، ومميّزاً بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة. وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره، إما على سبيل الإنشاء كقوله : برأ الله آدم من الطين ، أو التفصّي كقولهم : برىء المريض من مرضه والمديون من دينه .

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بخعاً (2) كما هو الظاهر، أو ليقتل بعضكم بعضاً إتماماً لتوبتكم . وقيل : أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة والفاء الأولى للتسبيب ، لأنّ الظلم سبب التوبة ، والثانية للتعقيب لأنّ المعنى : فاعزموا على التوبة فبعد ذلك اقتلوا أنفسكم .

روي أنّ الرجل كان يبصر ولده وقريبه فلم يمكنه إمضاء أمر الله للشفقة والمرحمة ، فأرسل الله عليهم ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، فأخذوا يقتلون من الغداة إلى المساء، حتى دعا موسى وهارون وقالا : یا ربِّ هلکت بنو إسرائيل البقية البقية ، فكشفت الضبابة ونزلت التوبة، فسقطت الشفار من أيديهم، وكانت القتلى سبعين ألفاً.

﴿ ذَلِكُمْ) إشارة إلى التوبة مع القتل : (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) من إيثار الحياة

ص: 150


1- الأنفال : 41.
2- بَخَعَ نفسه : قتلها غيظاً أو غمّاً . (لسان العرب : 5) .

الفانية ، من حيث إنّه طهرة من الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمديّة.

وقوله : (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) متعلّق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى (علیه السّلام)لهم ، تقديره : إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ، أو عطف على محذوف إن جعلته خطاباً من الله لهم على طريقة الالتفات كأنّه قال : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارؤكم . وذكر البارىء مكرّراً وترتيب الأمر عليه إشعار بأنّهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقرة التي هي مثل في الغباوة، وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن يسترد منه ، ولذلك أمروا بالقتل .

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) الَّذي يكثر توفيق التوبة أو قبولها من المذنبين (الرَّحِيمُ) الّذي يبالغ في الإنعام عليهم.

﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) لأجل قولك ، أو لن نقرّ لك بأنّ الّذي أعطاك التوراة وكلّمك هو الله ، أو بأنك نبيٌ (حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) عياناً. وهي في الأصل مصدر قولك : جهرت بالقراءة، استعيرت للمعاينة. ونصبها على المصدر، لأنها نوع من الرؤية ، أو الحال من الفاعل أو المفعول، أي: ذوي جهرة. قيل: إنّ القائلين هذا القول هم السبعون الذين اختارهم موسى للميقات فصعقوا. وقيل: عشرة آلاف من قومه.

(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) نار وقعت من السماء فأحرقتهم . وقيل : صيحة جاءت من السماء . وقيل : جنود سمعوا بحسيسها فخرّوا صعقين مينين يوماً وليلة ، لفرط العناد والتعنّت وطلب المستحيل ، فإنّهم ظنّوا أنه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته. (وَانْتُمْ تَنْظُرُونَ) ما أصابكم.

(ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ) أحييناكم لاستكمال آجالكم (مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) بسبب الصاعقة . وقيد البعث بما بعد الموت لأنه قد يكون عن إغماء أو نوم كقوله تعالى :

ص: 151

(ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ) (1) (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة البعث بعد الموت.

أجمع المفسّرون إلا شرذمة يسيرة أنّ الله تعالى لم يكن أمات موسى (علیه السّلام) كما أمات قومه، ولكن غشي عليه بدليل قوله : (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾ (2) والإفاقة إنّما تكون من الغشيان.

وفي الآية دلالة على أن قول موسى (علیه السّلام): (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (3)كان سؤالاً لقومه ، لأنه لا خلاف بين أهل التوراة أن موسى (علیه السّلام) لم يسأل الرؤية إلا دفعة واحدة، وهي التي سألها لقومه. وعلى أنّ الرجعة في الدنيا جائزة. وقول من قال: إنّ الرجعة لا يجوز إلا في زمن نبي ليكون معجزة له ودلالة على نبوّته ، باطل ، لأنّ عندنا بل عند أكثر الأمّة يجوز إظهار المعجزات على أيدي الأئمة والأولياء (علیهم السّلام)، والأدلّة على ذلك مذكورة في كتب الكلام.

(وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ )جعلنا فوقكم السحاب ظلة تحفظكم من حرّ الشمس حين كنتم في التيه أربعين سنة.

﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) الترنجبين (4) والسّماني (5) . قيل : كان ينزل عليهم المنّ مثل الثلج من الصبح إلى الطلوع لكلّ إنسان صاع ويبعث الجنوب تحشر عليهم السماني، فيذبح الرجل ما يكفيه، وينزل بالليل عمود نار يسيرون في

ص: 152


1- الكهف : 12 .
2- الأعراف : 143 .
3- الأعراف : 143 .
4- المنّ كالطَّرَنجَبين ، وفي الحديث : الكَمْأَةُ من المنّ . وقيل : المنّ طلّ ينزل من السماء وقيل : هو شبه العسل كان ينزل على بني إسرائيل . السان العرب (13 : 418) . وفی فرهنگ فارسی للدكتور محمد معین (1 : 1072) ترنجبین معرّب ترنگبین ، ترشحات و شیرابه های برگ و ساقههای گیاه خارشتر که از لحاظ شیمیائی نوعی از «منّ» میباشد
5- السُّمَانَى : طائر ، واحدته سماناة . (لسان العرب 13 : 220) .

ضوئه ، وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلى .

وقلنا لهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) أَي : من الشهيّ اللذيذ الذي أعطيناكم وجعلناه رزقاً لكم (وَمَا ظَلَمُونَا) وما نقصونا بكفرهم أنعُمَنا . وفيه اختصار، تقديره : فظلموا بأن كفروا هذه النعم (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ بالكفران ، لأنه لا يتخطّاهم ضرّه .

ومجمل هذه القصّة : أنّه لمّا ابتلاهم الله بالتّيه بسبب قولهم لموسى (علیه السّلام): (فاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ) (1) حین أمرهم بالمسير إلى بيت المقدس وحرب العمالقة ، بقوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ المقدَّسَةَ) (2) على تفصيل يجيء في موضعه إن شاء الله ، فوقعوا في التّيه ، كلّما ساروا تاهوا في قدر خمسة فراسخ أو ستّة ، فكلما أصبحوا ساروا إلى المساء فإذاهم في مكانهم الذي ارتحلوا منه كذلك ، حتى تمّت المدّة وهي أربعون سنة . وفي التيه توفّي موسى وهارون، ثم خرج يوشع بن نون إلى حرب العمالقة.

وعن الصادق (علیه السّلام) كان ينزل المنّ على بني إسرائيل من بعد الفجر إلى طلوع الشمس ، فمن نام في ذلك الوقت لم ينزل نصيبه ، فلذلك يكره النوم في ذلك الوقت إلى طلوع الشمس .

﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ ) يعني : بيت المقدس. وقيل: أريحا من قرى الشام، أمروا به بعد التّيه ، وفيها كان بقايا من قوم عاد، وهم العمالقة ورأسهم عوج ابن عنق ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) أكلاً واسعاً بطيب النفس . ونصبه على المصدر، أو الحال من الواو.

﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ) باب القرية التي أمروا بدخولها ، أو القبة التي كانوا يصلّون

ص: 153


1- المائدة : 24 .
2- المائدة : 21 .

إليها فإنّهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى . وقيل : هو باب حطة، وهو الباب الثامن (سُجَّداً) منحنين خاضعين متواضعين ، أو ساجدين الله شكراً على إخراجهم من التّيه .

(وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي: مسألتنا أو أمرك حطّة. وهي فعلة منالحطّ ، كالجلسة . ومعناه : حطّ عنا ذنوبنا حطّةً. وهو أمر بالاستغفار. أو على أنه مفعول «قُولُوا» ، أي : قولوا هذه الكلمة .

وقيل : معناه أمرنا أن نحطّ في هذه القرية وتقيم بها . وعن عكرمة أنهم أمروا أن يقولوا : لا إله إلا الله ، لأنها تحطّ الذنوب . وروي عن الباقر (علیه السّلام) أنه قال : نحن باب حطّتكم.

(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) نصفح ونعف عن ذنوبكم بسجودكم ودعائكم. وقرأ نافع بالياء، وابن عامر بالثناء على البناء للمفعول.

وخطايا أصله خطايي كخطائع. فعند سيبويه أنّه أبدلت الياء الزائدة همزةً لوقوعها بعد الألف، واجتمعت ،همزتان فأبدلت الثانية ياءً ثم قلبت الياء ألفاً، وكانت الهمزة بين ألفين ، فأبدلت ياءً . وعند الخليل قدّمت الهمزة على الياء ثم فعل بهما ما ذكر .

﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) ثواباً ، أي : من كان محسناً منكم كانت تلك الكلمة سبباً في زيادة ثوابه، ومن كان مسيئاً كانت له توبة ومغفرة. فجعل الامتثال توبة للمسيء ، وسبب زيادة الثواب للمحسن. وأخرجه في صورة الجواب إلى الوعد إيهاماً بأنّ المحسنين بصدد ذلك وإن لم يفعلوه ، فكيف إذا فعلوه ! وأنّه يفعله لا محالة .

ثمّ بيّن سبحانه أنهم قد عصوا فيما أُمروا ، فقال : ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ أي : بدّلوا بما أُمروا به من التوبة والاستغفار طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا .

ص: 154

قيل : إنّهم قالوا بالسريانية : حِطَّا سمقاثا، أو خَيطا سَمْقاثا . ومعناه : حنطة حمراء. وكان قصدهم في ذلك الاستهزاء ومخالفة الأمر. وخالفوا في دخول الباب أيضاً، فإنّه طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، فلم يخفضوها ودخلوا زاحفين على أستاههم.

(فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)كرّره مبالغة في تقبيح أمرهم، وإشعاراً بأنّ الإنزال عليهم لظلمهم، بوضع غير المأمور به موضعه قولاً وفعلاً ، أو على أنفسهم بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها.

(رجزا ) أي : عذاباً مقدّراً (مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ بسبب فسقهم والرّجز في الأصل ما يكره عنه . وكذلك الرّجس. والمراد به الطاعون.

روي عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : أنه مات به فى ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفاً من كبرائهم وشيوخهم ، وقيل : سبعون ألفاً، وبقي الأبناء فانتقل عنهم العلم والعبادة . وكأنّه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يشير إلى أنّهم عوقبوا بإخراج الأفاضل من بينهم.

آية 60

وَإذ استسقى مُوسَى لقومه فقلنا اضرب بَعَصَاكَ الحَجَرَ فانفجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناس مَشرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿60﴾

ثمّ عدّ سبحانه على بني إسرائيل نعمة أخرى مضافة إلى النعمة الأولى، فقال : ( وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ) أي : طلب وسأل موسى ربّه أن يسقي قومه ماءً لمّا عطشوا في التّيه (فَقُلْنَا اضْرِب بَعَصَاكَ الْحَجَر) اللام فيه للعهد، على ما روي أنه كان حجراً طوريّاً مربّعاً حمله موسى معه ،وكانت تنبع من كل وجهه ثلاث أعين ، تسيل كلّ عين في جدول إلى سبط، وكانوا اثني عشر نقيباً ، وجنودهم كانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً .

ص: 155

أو حجراً أهبطه آدم من الجنّة، ووقع إلى شعيب، فأعطاه مع العصا.

أو الحجر الّذي فرّ بثوبه لمّا وضعه عليه ليغتسل، وبرّأه الله به عمّا رموه من الأُدرة (1)، فأشار إليه جبرئيل بحمله.

.أو للجنس. وهذا أظهر في الحجّة. كما قيل : إنّه لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، ولكن لما قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها ؟ حمل حجراً في مخلاته (2)، وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر ، ويسقي كلّ يوم ستمائة ألف مع دوابهم ، ويضربه بها إذا ارتحل فييبس. فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً، فأوحى الله إليه : لا تقرع الحجارة وكلّمها تطعك ، لعلهم يعتبرون .

وقيل : كان الحجر من رخام، وكان ذراعاً في ذراع. وقيل: مثل رأس الإنسان . وقيل : كان من أس الجنّة والعصا عشرة أذرع على طول موسى من آسِ الجنّة ، وله شعبتان تتّقدان فى الظلمة نوراً ، وبه ضرب البحر فانفلق، وهو الذي صار ثعباناً.

وقوله : ﴿فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) متعلّق بمحذوف تقديره : فإن ضربت فقد انفجرت منه، أو فضرب فانفجرت ، كما مرّ (3) في قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ) .

(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) كلّ سبط عينهم التي يشربون منها ، فقلنا لهم: كلوا المنّ والسلوى ﴿ وَاشْرَبُوا) هذا الماء العذب (مِنْ رِزْقِ اللهِ ) يريد : هذا المطعم والمشرب (وَلَا تَعْثَوا فِي الْأَرْضِ) لا تعتدوا فيها (مُفْسِدِينَ) حال إفسادكم. وإنّما قيّد العثي به لأنه - وإن غلّب على الفساد - قد يكون منه ما ليس بفساد كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، ومنه ما يتضمّن صلاحاً ،راجحاً كقتل الخضر

ص: 156


1- الأدْرَةُ ، بالضم : نفخة في الخصية . (لسان العرب 4: 15) .
2- المِخْلاةُ : ما يجعل فيه العلف ويعلّق في عنق الدابة . (المنجد : 195) .
3- في ص : 51 .

الغلام وخرقه السفينة .

ومتى قيل : كيف كان يجتمع ذلك الماء الكثير في ذلك الحجر الصغير ؟

قلنا : إنّ ذلك من آيات الله الباهرة والأعاجيب الظاهرة ، الدالّة على أنّها من فعل الله تعالى ، المنشىء للأشياء، القادر على ما يشاء، فلا بدع من كمال قدرته و جلال عزّته أن يبدع خلق المياه الكثيرة ابتداءً ، معجزةً لموسى، ونعمةً عليه وعلى قومه . ومن استبعد ذلك من الملاحدة الذين لم يقدروا الله حق قدره، فالكلام عليهم إنما يكون في وجود الصانع وإثبات صفاته واتساع مقدوراته، ولا معنى للششاغل بالكلام معهم في الفرع مع الخلاف في الخلاف في الأصل .

وقال في أنوار التنزيل في هذا الموضع: «ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله ، وقلّة تدبّره في عجائب صنعه، فإنّه لمّا أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر وينفر عن الخل ويجذب الحديد ، لم يمتنع أن يخلق الله حجراً يسخّره لجذب الماء من تحت الأرض، أو لجذب الهواء من الجوانب، ويصيّره ماءً بقوّة التبريد ، ونحو ذلك» (1).

آية 61

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿61﴾

ص: 157


1- أنوار التنزيل 1 : 156 .

ولمّا عدّد سبحانه فيما قبل ما أعطاه عليهم من النعم والإحسان ذكر ما قابلوا به تلك النعم من الكفران ، وسوء الاختيار لنفوسهم بالعصيان ، فقال : ﴿وَاذْ قُلْتُمْ) :أي: قال أسلافكم من بني إسرائيل : (يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ) لا نطيق حبس أنفسنا (عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) يريد به ما رزقوا في التّيه من المنّ والسّلوى، وبوحدته أنّه لا يختلف ولا يتبدّل ، كقولهم : طعام مائدة الأمير واحد ولو كان على مائدته ألواناً، وفلان لا يأكل إلا طعاماً واحداً، يريدون أنّه لا يتغيّر ألوانه، ولذلك ملوا وسئموا ، أو نوعاً واحداً ، لأنهما معاً طعام أهل التلذذ وهم كانوا فلاحة ، فاشتاقوا إلى أصلهم، واشتهوا على ما ألِفوه.

(فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ )سله لنا بدعائك إيَّاه (يُخْرِجْ لَنَا) يظهر لنا ويوجد . وجزمه بأنّه جواب (فَادْعُ) ، فإنّ دعوته سبب الإجابة (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من الإسناد المجازي وإقامة القابل مقام الفاعل ، و«من» للتبعيض .

وقوله : ( مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) تفسير وبيان وقع موقع الحال . وقيل : بدل بإعادة الجارّ .

والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطائبه التي يأكلها الناس، كالنعناع والكرفس والكرّاث والفوم : الحنطة. ويقال للخبز ومنه : فَوِّموا لنا ، أي : اخبز وا لنا . وقيل : الثوم .

(قال) :أي: الله أو موسى (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى) أقرب منزلة وأدون قدراً. وأصل الدنوّ القرب في المكان، فاستعير للخسّة، كما استعير البعد للشرف والرفعة، فقيل : بعيد المحلّ بعيد الهمة ، يريدون الرفعة والعلو. (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) يريد به المن والسلوى فإنّه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي .

(اهْبِطُوا مِصْراً) انحدروا من التّيه إلى مصر من الأمصار يقال : هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج منه .

ص: 158

والمصر البلد العظيم. وأصله الحاجز بين الشيئين . وقيل : أراد به العلم، وصرفه لسكون وسطه ، كنوح ولوط ، وفيهما العجمة والتعريف، أو على تأويل ،البلد، فما فيه إلا سبب واحد .

(فَإِنَّ لَكُمْ) في مصر (مَا سَأَلْتُمْ) من نبات الأرض. وقد تمّ الكلام هاهنا . ثمّ استأنف حكم الذين اعتدوا في السبت، والذين قتلوا الأنبياء، فقال: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضُربت عليه، أو ألصقت بهم من ضرب الطين على الحائط والمسمار على الخشب ، أي : ألزموا الذلّة إلزاماً لا تبرح بينهم ، كما يضرب المسمار على الشيء، مجازاةً لهم على كفران النعمة . واليهود في غالب الأمر أذلاءومساكين، إما على الحقيقة، أو على التكلّف مخافة أن تضاعف جزيتهم.

﴿وَبَآؤُا بِغَضَبٍ مِنَ الله) رجعوا به ، أو صاروا أحقاء بغضبه، من : باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له. وأصل البوء المساواة .

(ذَلِكَ) إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلّة والمسكنة والبوء بالغضب (بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ بسبب كفرهم (بِآيَاتِ اللهِ) بالمعجزات التي من جملتها ما عدّ عليهم من فلق البحر وإظلال الغمام، وإنزال المن والسلوى، وانفجار العيون من الحجر ، أو بالكتب المنزلة كالإنجيل والقرآن وآية الرجم والآية التي فيها نعت محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) من التوراة.

(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ) أي : وبأنّهم يقتلون الأنبياء، فإنهم قتلوا شعيا وزكريّا ويحيى وغيرهم (بِغَيْرِ الْحَقِّ) بغير جرم عندهم، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم، وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحبّ الدنيا.

(ذَلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم من الكفر والقتل (بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله في كلّ شيء، فإنّ العصيان والاعتداء سبب

ص: 159

القسوة التي هي سبب الكفر والقتل. فجرّهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات وقتل النبيين ، ولهذا صغار الذنوب سبب يؤدّي إلى ارتكاب كبارها كما أنّ صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحرّي كبارها .

وقيل: «ذلك» إشارة أيضاً إلى ضرب الجزية والذلة والبوء بالغضب، فكرّر الإشارة للدلالة على أنّ ما لحقهم من ضرب الذلّة والمسكنة والبوء بالغضب كما هو بسبب الكفر والقتل، كان أيضاً بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله .

واعلم أنّ التخلية بين الكفّار وقتل الأنبياء إنّما جاز لينال الأنبياء من رفع المنازل والدرجات ما لا ينالونه بغير القتل، فليس ذلك بخذلان ، كما أنّ التخلية بين المؤمنين والأولياء والمطيعين وبين قاتليهم ليست بخذلان لهم.

آية 62

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿62)

وبعد ذكر حال أهل الكفر والعناد بشر أهل الإيمان الحقيقي بالفوز الأبدي والفلاح السرمدي يوم المعاد بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أظهروا الإيمان بألسنتهم من غير مواطاة القلوب، يريد به المنافقين، لانخراطهم في سلك الكفرة .

﴿ وَالَّذِينَ هَادُوا) تهوّدوا . يقال: هاد وتهوّد إذا دخل في اليهوديّة، وهو هائد.و يهود إما عربي من «هاد» إذا تاب، سمّوا بذلك لما تابوا من عبادة العجل . وأصله الميل ، كقوله تعالى : ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) أي : ملنا. ويقال لمن تاب : هاد ، لأنّ من تاب عن شيء مال عنه . وقيل : سمّوا بذلك لأنّهم مالوا عن دين الاسلام وإمّا معرّب

ص: 160

يهو ذا ، فكأنّهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب . والجمع هود.

(وَالنَّصَارَى) جمع نصران كالندامى والياء في نصراني للمبالغة، كما في أحمري . سمّوا بذلك لأنهم نصروا المسيح ، أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها : نصران أو ناصرة ، فسمّوا باسمها أو من اسمها .

(وَالصَّابِئِين)َ قوم بين النصارى والمجوس. قيل: أصل دينهم دين نوح (علیه السّلام) . وقيل : هم عبدة الملائكة . وقيل : عبدة الكواكب . وهو إن كان عربيّاً فمن «صبا» إذا خرج. وقرأ نافع وحده «الصابين» بالياء، إمّا لأنه حذف الهمزة تخفيفاً، أو لأنه من «صبا» إذا مال ، لأنّهم مالوا من دين اليهوديّة والنصرانية إلى عبادة الملائكة أو الكواكب ، أو من الحق إلى الباطل.

(مَنْ آمَن) من هؤلاء الكفرة (باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيماناً خالصاً عن صميم القلب بالمبدأ والمعاد، ودخل الإسلام دخولاً صادقاً (وَعَمِلَ صَالِحاً) أي : وعمل عملاً صالحاً بمقتضى شرع الإسلام (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم) الَّذِي وعد لهم على إيمانهم وعملهم (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) حين يخاف الكفّار من العقاب (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ حين يحزن المقصّرون على تضييع العمر وتفويت الثواب.

واعلم أن «من» مبتدأ خبره (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) ، والجملة خبر «إنّ» أو بدل من اسم «إنّ» وخبرها «فلهم أجرهم ، والفاء لتضمّن المسند إليه معنى الشرط. وردّ منع سيبويه دخولها في خبر إنّ من حيث إنّها لا تدخل الشرطيّة وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ﴾ (1).

والآية دالّة على أنّ الإيمان إنّما هو التصديق والاعتقاد بالقلب، لأنه تعالى عطف على من آمن قوله : «وعمل صالحاً». ومن حمل ذلك على التأكيد أو الفضل فقد ترك الظاهر .

ص: 161


1- البروج : 10 .

آية 63 - 66

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿63﴾ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴿64﴾ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوا منكُمْ في السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴿65﴾ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلفهَا وَمَوْعظة للمُتقينَ ﴿66﴾

ثمّ عاد سبحانه إلى خطاب بني إسرائيل فقال : ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) أَي : عهدكم باتباع موسى والعمل بالتوراة ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّور حتى قبلتم الميثاق . وذلك أن موسى (علیه السّلام) لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقّة كبرت عليهم وأبوا قبولها ، فأمر جبرئيل فقلع الطور فظلّله فوقهم حتى قبلوا. وقال موسى إن قبلتم ما آتيتكم به، وإلّا أرسل الجبل عليكم ، فأخذوا التوراة وسجدوا الله ملاحظين إلى الجبل خوف الوقوع عليهم، فمن ثَمّ يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم.

وقلنا لكم بعد رفع الطور فوقكم : (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ) من كتاب التوراة (بِقُوَّةٍ) بجدّ وصميم عزيمة ﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ﴾ ادرسوه ولا تنسوه، أو تفكروا فيه. فإنّ التفكر ذكر بالقلب، أو اعملوا به (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لكي تتقوا المعاصي، أو رجاء منكم أن تكونوا متقين . ويجوز أن يتعلّق بالقول المحذوف ، أي : قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا، فإنّ إرادة الله على أفعال العباد غير موجبة لها، بل إرادته على أفعال يوجب صدورها.

﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن الوفاء بالميثاق (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي : بعد أخذه

ص: 162

فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتوفيقكم للتوبة، أو بمحمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) المغبونين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط والضلال في فترة من الرسل.

و «لو» في الأصل لامتناع الشيء لامتناع غيره ، فإذا دخل على «لا» أفاد إثباتاً ، وهو امتناع الشيء لثبوت غيره. والاسم الواقع بعده عند سيبويه مبتدأ، خبره واجب الحذف بدلالة الكلام عليه، وسدّ الجواب مسدّه ، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف.

﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوا مِنْكُمْ) عرفتم الّذين جاوزوا ما حُدّ لهم( في السَّبْتِ) من تعظيمه، واشتغلوا بالصيد . اللام موطّئة للقسم. والسبت مصدر «سبتت اليهود» إذا عظّمت يوم السبت. وأصله القطع أمروا بأن يتجردوا فيه للعبادة، ولا يرتكبوا فيه بغيرها، فاعتدى فيه ناس منهم في زمان داود (علیه السّلام) ، واشتغلوا فيه بالصيد .

روي أنّهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها : أيْلَة ، وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك وأخرج خرطومه، فإذا مضى تفرّقت، فحفروا حياضاً وشقوا إليها الجداول ، وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت، فيحبسونها ويصطادونها يوم الأحد ، فذلك الحبس هو اعتداؤهم .

(فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ أي : كونوا جامعين بين صورة القردة والخسوء ، وهو الصغار والطّرد . وقوله: ﴿ كُونُوا قِرَدَةً) ليس بأمر ، إذ لا قدرة لهم عليه ، وإنّما المراد سرعة التكوين، وأنهم صاروا كذلك كما أراد بهم.

عن ابن عبّاس : مسخهم الله تعالى عقوبة لهم، وكانوا يتعاوون، وبقوا ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا، ثمّ أهلكهم الله ، وجاءت ريح فهبّت بهم وألقتهم في الماء، وما مسخ الله تعالى أمة إلا أهلكها. وبإجماع الأمة هذه القردة

ص: 163

والخنازير ليست من نسل أولئك ، ولكن مسخ أولئك على صورة هؤلاء.

(فَجَعَلْنَاهَا) أي: بالمسخة أو العقوبة (نَكَالاً) عبرة تنكل المعتبر بها ، أي :تمنعه ، ومنه النكل للقيد (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَها) لما قبلها وما بعدها من الأمم، إذ ذكرت حالهم في زبر الأولين، واشتهرت قصتهم في الآخرين، أو لمعاصريهم ومن بعدهم، أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها ، أو لأهل تلك القرية وما حولها، أو لأجل ما تقدّمها من ذنوبهم وما تأخّر منها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِين) من قومهم، أو لكلّ متّق سمعها .

آية 67 - 71

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لَقَومِه إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخذنا هُزُوا قَالَ أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿67﴾ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَين لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكُرْ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرونَ ﴿68﴾ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَين لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاهُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴿69﴾ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّينَ لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ ﴿70﴾ قال إنهُ يَقُول إِنهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُول تثيرُ الأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بالحَقِّ فذبَحُوهَا وَمَا كادُوا يَفْعَلُونَ (71)

روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ موسر قتل ابنه بنو أخيه ليرثوه ، فطرحوه على طريق سبط من أسباط بني إسرائيل، ثم جاؤا يطالبون بدمه فأمرهم الله أن

ص: 164

يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيى فيخبرهم بقاتله، كما أخبر الله سبحانه بذلك وقال :

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) أوّل هذه القصّة قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُم نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ (1) ، وإنّما قدّمت عليه لاستقلال ما فيها بنوع من مساويهم، وهو الاستهزاء بالأمر، والاستقصاء في السؤال بترك المسارعة إلى الامتثال .

والحاصل : أنّ كلّ واحدة من هاتين القصّتين مستقلة بنوع من التقريع، وإن كانتا متّصلتين متّحدتين . فالأولى : لتقريعهم على الاستهزاء، وترك المسارعة إلى الامتثال ، وما يتبع ذلك . والثانية : للتقريع على قتل النفس المحرّمة، وما يتبعه من الآية العظيمة . فلو عمل على عكسه لكانت قصّة واحدة ولذهب الغرض في تثنية التقريع.

قَالُوا في جواب موسى ( أَتَتَّخِذُنَا هُزُوا) أتجعلنا مكان هزؤ، أو أهله، أو مهزوءً بنا ، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء، استبعاداً لما قاله واستخفافاً به. وإنّما احتاج الكلام إلى هذا التأويل لأنّ مفعولي (اتخذ) في الأصل مبتدأ أو خبر والاتحاد بينهما واجب .

وقرأ حمزة عن نافع بالسكون ، وحفص عن عاصم بالضّمّ وقلب الهمزة واواً، مثل كُفْؤاً وكُفُواً .

(قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ لأنّ الهزء في مثل ذلك جهل وسفه، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان، وأخرج ذلك في صورة في صورة الاستعاذة استفظاعاً له .

(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِي) المراد ما حالها وصفتها ؟ لا حقيقتها.

ص: 165


1- البقرة : 72 .

فكان حقه أن يقولوا : أي بقرة هي ؟ أوكيف هي ؟ لا أن يسألوا عن حقيقة البقرة كما هو مدلول ﴿ مَا هِيَ )فإنّ ما يسأل به الجنس غالباً. لكنّهم لما رأوا ما أمروا به على حال عجيبة الشأن، لم يوجد بها شيء من جنسه ، وهي أن تكون بقرة مينة يضرب ببعضها ميت فيحيى ، فأجروا ما أمروا به مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله .

(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةً لَا فَارِضٌ) لا مسنّة ، يقال : فرضت البقرة فروضاً من الفرض وهو القطع ، كأنها فرضت سنّها وبلغت إلى نهاية الأجل ﴿ وَلَا بِكْرُ) ولا فتيّة . وتركيب البكر للأوّليّة، ومنه البكرة والباكورة. وتذكيرهما لأنه اسم لا صفة.

﴿ عَوَانُ) نَصَف ووسط ﴿ بَيْنَ ذَلِكَ) إِنّما يشار به إلى مؤنّثين ، وإنّما هو للإشارة إلى واحد مذكّر ، لأنه على تأويل ما ذكر من الفارض والبكر ، للاختصار في الكلام، ولذلك أضيف إليه «بين» فإنّه لا يضاف إلا إلى متعدّد. وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة ، لادّعاء تعيينه وكمال وضوحه بحيث كأنّه مرئيّ ومنظور .

وعود هذه الكنايات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدلّ على أنّ المراد بها معيّنة، ويلزم منه جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة . ومن أنكر ذلك زعم أنّ المراد بها بقرة من شِقّ البقر غير مخصوصة، ثم انقلبت مخصوصة بسؤالهم ، ويلزمه النسخ قبل الفعل، فإنّ التخصيص إبطال للتخيير الثابت بالنص . والحق جوازهما . ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ .

والمروي عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم): لو ذبحوا أدنى بقرة لأجزأتهم ، ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم. والاستقصاء شؤم.

وأيضاً يدلّ على القول الثاني تقريعهم بالتمادي وزجرهم عن المراجعة بقوله : ﴿فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴾ أي ما تؤمرونه بمعنى ما تؤمرون به من قوله :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *** فقد تركتك ذا مال وذا نسب (1)

ص: 166


1- لعمرو بن معدي كرب ، وقيل : لأعشى طرود ، راجع الكامل للمبرد 1 : 28 ، المؤتلف والمختلف : 17 ، شرح شواهد المغني 2 : 727 رقم 512 .

أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير .

(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةً صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا) الفقوع خلوص الصّفرة بحيث لا يشوبها شيء من لون آخر ، ولذلك تؤكّد به فيقال : أصفر فاقع، كما يقال : أسود حالك ، وأبيض يقق، وأحمر قاني، وأخضر ناضر ومدهام. وفي إسناده إلى اللون وهو صفة صفراء لملابسته بها فضل تأكيد كأنه قيل : صفراء شديدة الصفرة صفرتها ، فهو من قولك : جدّ جدّه، وجنونك مجنون.

عن وهب : إذا نظرت إليها خُيّل إليك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها. عن عليّ صلوات الله عليه : من لبس نعلاً صفراء قلّ همّه ، لقوله تعالى: ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِين ) أي : تعجبهم وتفرحهم لحسن لونها . والسرور أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه، مشتق من السرّ . وكذا عن الصادق (علیه السّلام) : من لبس نعلاً صفراء لم يزل مسروراً حتى يبليها ، ثم تلا هذه الآية .

وقوله : (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ )تكرير للسؤال الأوّل، واستكشاف زائد عن الأوّل، وقوله تعالى : ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) اعتذار عن تكرير السؤال :أي: إنّ البقر الموصوف بالتعوين والصفرة الفاقعة كثير، فاشتبه علينا، فأي فرد منه نذبح ؟ ! (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى المراد ذبحها، أو إلى القاتل.

واعلم أنّ المراد من كلمة الاستثناء هاهنا التيمن والتبرك، وإظهار فرط رغبتهم في الاهتداء، كما هو واقع في المحاورات والمقاصد بين الناس. ويؤيده ما في الحديث : لولم يستثنوا لما يُيّنت لهم آخر الأبد، أي: لولم يقولوا : إن شاء الله ، وإلا لم يكن للشرط بعد الأمر معنى، لأنّ الأمر مفيد لإيقاع الفعل قطعاً، ومستلزم للإرادة كما هو مذهبنا وكلمة «إن» للتردّد بين الإيقاع وعدمه. وحينئذٍ لا يكون

ص: 167

حجّة للأشاعرة ، على أنّ الحوادث كلّها بإرادة الله تعالى ، وأنّ الأمر قد ينفك عن الإرادة بأن أمر كلّ المكلّفين بالإيمان والطاعة وأراد من بعضهم الإيمان دون ،بعض فيوجد ما أراد

(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةً لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ ) أي : لم تذلل للكراب الذي هو شق الأرض لأجل حرث البذر ، ولا لسقي الحروث . ولا ذلول صفة لبقرة، بمعنى غير ذلول . و «لا» الثانية مزيدة لتأكيد الأوّل. والفعلان صفتا ذلول ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية .

(مُسَلَّمَةٌ ) سلّمها الله تعالى من العيوب، أو سلّم أهلها من العمل، أو أخلص لونها ، من : سلم كذا إذا خلص له .

(لاشِيَةَ فِيهَا ) لا لون فيها يخالف جلدها وهي في الأصل مصدر : وشاه وَشْياً وشِيَةً ، إذا خلط بلونه لوناً آخر، ومنه ثور موشى القوائم ، أي : هي صفراء كلّها حتى قرنها وظلفها.

(قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أي : بحقيقة وصف البقرة، وحققتها لنا بالأوصاف المبينة الموضحة ، بحيث ارتفع التشابه ، فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلّها .

وقوله : (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) استثقال لاستقصائهم واستبطائهم، وأنّهم لتطويلهم المفرط وكثرة استكشافهم كادت تنتهي سؤالاتهم، وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمّقهم ليذبحوا البقرة ، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل، أو لغلاء ثمنها ، إذ روي أنّ شيخاً صالحاً منهم كان له عجلة ، فأتى بها الغيضة (1) وقال : اللّهمّ إنّي أستودعكها لابني حتى يكبر، فشبّت وكانت وحيدة بتلك الصفات، فساوموها اليتيم وأمّه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً، وكانت البقرة في ذلك الوقت بثلاثة دنانير ، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة.

ص: 168


1- الغَيْضَةُ : الأجَمَةُ، وهي مغيضُ ماءٍ يجتمع فينبت فيه الشجر . (لسان العرب : 202) .

واعلم أنّ «كاد» من أفعال المقاربة وضع لدنوّ الخبر حصولاً، فإذا دخل عليه النفي قيل : معناه الإثبات مطلقاً ، وقيل : ماضياً، والصحيح أنه كسائر الأفعال. ولا ينافي قوله : ( وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) قوله : (فَذَبَحُوهَا) لاختلاف وقتيهما ، إذ المعنى: أنهم ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم، وانقطعت تعلّلاتهم، ففعلوا كالمضطرّ الملجأ إلى الفعل .

آية 72 - 73

وإذ قتلتُمْ نَفْساً فَاذَارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿72﴾ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعقِلونَ ﴿73)

ثمّ بيّن سبحانه المقصود من الأمر بالذبح فبدأ بذكر القتل فقال : ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) خطاب الجمع لوجود القتل فيهم (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) أي: اختصمتم في شأنها ، إذ المتخاصمان يدراً - أي يدفع - بعضهم بعضاً ، أو تدافعتم، بأن طرح كلُّ قتلها عن نفسه إلى صاحبه، من الدرء بمعنى المنع والدفع. وأصله تدارأتم، فأدغمت التاء في الدّال ، واجتلبت لها همزة الوصل، لتعذر الابتداء بالساكن.

(وَاللهُ مُخْرِجٌ) مظهر لا محالة (مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) من أمر القتل، ولا يتركه مكنوناً مخفيّاً. وأعمل «مخرج» لأنه حكاية مستقبل ، كما أعمل (باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ﴾ (1) لأنه حكاية حال ماضية .

وهذه جملة اعتراضيّة بين المعطوف والمعطوف عليه، وهما قوله : اداراتم وقوله : (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ) . والضمير إما للنفس والتذكير على تأويل الشخص أو القتيل ، أي : اضربوا هذا الشخص أو هذا المقتول (بِبَعْضِهَا) أي بعض كان . وقيل :

ص: 169


1- الكهف : 18 .

بأصغريها ، أي : اللسان والقلب . وقيل : بلسانها . وقيل : بفخذها اليمنى. وقيل: بالعظم الّذي يلي الغضروف، وهو أصل الأذن . وقيل : بالأذن . وقيل : بالبضعة بين الكتفين . وقيل : بالعجب، وهو أصل الذَّنَب من الدابة ما ضمّت عليه الورك.

روي أنهم لمّا ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دماً وقال : يا نبي الله قتلني فلان وفلان ابنا عمّي ، ثم سقط ميّتاً، فأخذا وقتلا، ولم يورّث قاتل بعد ذلك .

وقوله : (كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى) يدلّ على ما حذف ، وهو : فضربوه فَحيِيَ والخطاب مع من حضر حياة القتيل ، أو من حضر نزول الآية.

(وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) دلائله على كمال قدرته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكي يكمل عقلكم، وتعلموا أنّ من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلّها، لعدم وجه الاختصاص حتى تنكروا البعث، أو لكي تعملوا على قضية العقل.

ولعلّه سبحانه إنّما لم يحيه أوّلاً وشرط فيه ما شرط لما فيه من التقرب ، واداء الواجب ، ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل، والشفقة على الأولاد، والتعوّذ من الهزؤ ، وتجهيل الهازىء بما لا يعلم كنهه، وأن من حق الطالب أن يقدّم قربة، ومن حق المتقرّب أن يتحرّى الأحسن ويغالي بثمنه، وأن الزيادة في الخطاب نسخ له ، وأنّ النسخ قبل الفعل جائز ، وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه ، لأدائه إلى البداء.

آية 74

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿74﴾

ولما قدّم سبحانه ذكر المعجزات القاهرة والأعلام الظاهرة، بين شدّة قساوة قلوبهم وما فعلوا بعدها من العصيان والطغيان اللذين من لوازم القساوة، فقال عزّ

ص: 170

اسمه : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ ) القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة ، كما في الحجر . وقساوة القلب مَثَل في إبائه عن الاعتبار ، و «ثم لاستبعاد القسوة مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يعني : إحياء القتيل أو جميع ما عدد من الآيات، فإنّها ممّا توجب لين القلب ورقته ، ونحوه (ثُمّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (1).

(فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ) في قسوتها أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً منها، عطف على معنى الكاف . والمعنى: أنّها في القساوة مثل الحجارة، أو زائدة عليها ، أو عليه على حذف المضاف، أي: أنّها مثلها أو مثل أشدّ منها قسوة، كالحديد ، فحذف المضاف وأضيف المضاف إليه مقامه .

وإيثار «أشدّ» على «أقسى» مع أنّ القسوة ممّا يخرج منها أفعل التفضيل وفعل التعجب ، لما في «أشدّ من المبالغة ، فهو أبين وأدلّ على فرط القسوة، وللدلالة على اشتداد القسوتين، كأنه قيل : اشتدّت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشدّ قسوة.

و «أو» للتخيير أو للترديد الّذي يتضمن التشكيك ، بمعنى : أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها . وترك ضمير المفضّل عليه لعدم الإلباس، كقولك : زيد كريم وعمرو أكرم.

ثمّ عدّل التفضيل بقوله : ( وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ) التفجِّر التفتّح بسعة وكثرة والمعنى: أنّ الحجارة تتأثر وتنفعل، فإنّ منها ما يفتّح بخروق واسعة تندفق منه المياه الكثيرة ، وتتفجّر منه الأنهار العظيمة كالفرات.

﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ) أصله : يتشقق ، أدغم التاء في الشين ، أي : ينخرق طولاً أو عرضاً (فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ) :أي: العيون النابعة لا الأنهار الجارية، فيكون هذا غير الأوّل .

ص: 171


1- الأنعام : 2

﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ) يتردّى من أعلى الجبل (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله ، وأنها لا تمتنع على ما يريد الله منهم، وقلوب هؤلاء لا تخشى ولا تلين مع أنّهم عارفون بصدق محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، فقلوبهم أقسى من الحجارة. ثمّ وعدهم بقوله : (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أيّها المكذِّبون . وهذا قراءة ابن كثير ونافع ويعقوب وخلف وأبو بكر ضمّاً إلى ما بعده، والباقون بالياء (1). فالمراد : عمّا يعمل هؤلاء الكفرة أيّها المسلمون .

آية 75 - 78

«أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)»

ثم خاطب الرسول والمؤمنين فقال : (أفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) أَن يصدّقكم اليهود، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم من طريق النظر والاعتبار، والانقياد للحق بالاختيار ، كقوله: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) (2) ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) طائفة من أسلافهم (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ) يعني التوراة ويعلمون أنه حق ويعاندونه (ثُمَّ

ص: 172


1- كذا في النسخة الخطية، وفي نقل القراءة عن هؤلاء اختلاف ، راجع التبيان 1: 306 ، مجمع البيان 1 : 138 ، أنوار التنزيل 1 : 164 .
2- العنكبوت : 26 .

يُحَرِّفُونَهُ ﴾ كنعت محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، وآية الرجم ، وجعل الحلال حراماً والحرام حلالاً . اتِّباعاً لأهوائهم ، وإعانة لمن يرشوهم، أو تأويل آية متشابهة فيفسرونها بما يشتهون .

وروي أنّهم من السبعين المختارين سمعوا كلام الله وما أمر به ونهى حين كلّم موسى بالطور، فقالوا : سمعنا أنّ الله يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا.

(مِنْ بَعْدِ مَا عَقِلُوهُ) فهموه بعقولهم، ولم يبق لهم فيه ريبة وشبهة في صحّته (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَنهم كاذبون مفترون.

وخلاصة معنى الآية : أنّ أحبار هؤلاء ومقدّميهم كانوا على هذه الحالة، فما طمعكم بسفلتهم وجهالهم ؟! وأنّهم إن كفروا وحرّفوا فلهم سابقة في ذلك .

وفي هذه الآية دلالة على عظم الذنب في تحريف الشرع. وهو عام في إظهار البدع في الفتاوى والقضايا وجميع أمور الدين .

روي عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) أنه قال : كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين، إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمّد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فيحاجّوكم به عند ربّكم، فنزلت: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني : لقيهم منافقوهم (قَالُوا آمَنًا﴾ صدّقنا بأنكم على الحق ، ورسولكم هو المبشر به في التوراة.

﴿ وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ﴾ الّذين لم ينافقوا (إِلَى بَعْضٍ) أي : إلى الّذين نافقوا منهم واجتمعوا في خلاء، وهو الموضع الذي ليس فيه غيرهم (قَالُوا )أَي : الذين لم ينافقوا منهم عاتبين على من نافقِ (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم، وبيّن لكم في التوراة من نعت محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) . أو الذين نافقوا لأعقابهم، إظهاراً للتصلّب في اليهوديّة، ومنعاً لهم عن إظهار ما وجدوا في كتابهم ، فينافقون المؤمنين واليهود. فالاستفهام على الأوّل للتقريع، وعلى الثاني للإنكار .

ص: 173

(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ليحتجّوا عليكم بما أنزل ربّكم في كتابه . جعلوا محاجّتهم بكتاب الله وحكمه محاجّة عنده، كما يقال : عند الله كذا، ويراد به أنه في كتابه وحكمه . وقيل : عند ذكر ربّكم، أو يكون المراد : ليكون لهم الحجّة عليكم عند الله يوم القيامة القيامة في إيمانكم بمحمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، إذ كنتم مخبرين بصحة أمره من كتابكم.

وقوله : (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) من تمام كلام اللائمين، تقديره : أفلا تعقلون أنهم يحاجّونكم به فيحجّونكم. ويحتمل أن يكون خطاباً من الله تعالى للمؤمنين متصلاً بقوله : «أفَتَطْمَعُونَ»، والمعنى: أفلا تعقلون حالهم وأن لا مطمع لكم في إيمانهم ؟!

(أَوَلَا يَعْلَمُونَ) يعني : هؤلاء المنافقين، أو اللائمين، أو كليهما ، أو إيَّاهم والمحرّفين (أنّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ) ما يخفون من الكفر ، أو ممّا فتح الله عليهم ﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ يظهرون من الإيمان والكلمات المحرّفة عن موضعه ومعانيه، أو يعلم جميع ما يسرون وما يعلنون، ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان.

(وَمِنْهُمْ) من هؤلاء اليهود (أمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة ويتحقّقوا ما فيها، أو التوراة (إلَّا أمَانِي) استثناء منقطع ، كقوله : ( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنّ) (1). والأماني جمع أمنيّة . وهي في الأصل ما يقدّره الإنسان في نفسه من منى إذا قدّر ، ولهذا تطلق على اختلاق الكذب، لأنه يقدّر في نفسه، وعلى ما يتمنّى، لأنّ المتمنِّي يقدّر في نفسه ويحرز ما يتمنّاه ، وعلى ما يقرأ، لأنّ القارىء يقدّر أنّ كلمة كذا بعد كذا ، كقوله :

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة *** تمنّي داود الزبور على رسل (2)

والمعنى : لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليداً من المحرّفين، أو مواعيد خالية عن الحجّة سمعوها منهم من أنّ الله تعالى يعفو عنهم ولا يؤاخذهم

ص: 174


1- النساء : 157 .
2- لحسّان بن ثابت ، كما في هامش الكشاف 1 : 157 . ولم نجده في ديوانه .

بخطاياهم ، وأنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وأنّ الجنّة لا يدخلها إلّا من كان هوداً، وأنّ النار لن تمسّهم إلّا أياماً معدودة، أو إلّا ما يقرؤون قراءة عارية عن معرفة المعنى ،وتدبّره ، وهو لا يناسب وصفهم بالأمية.

(وإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ما هم إلا قوم يظنّون لا علم لهم . وقد يطلق الظنّ بإزاء العلم على كلّ رأي واعتقاد من غير قاطع، وإن جزم به صاحبه، كاعتقاد المقلّد والزائغ عن الحق لشبهة .

وفي هذه الآية دلالة على أنّ التقليد فيما طريقه العلم غير جائز ، وأنّ الحجّة بالكتاب قائمة على جميع الخلق، وإن لم يكونوا عالمين إذا تمكنوا من العلم به، وأنّ من الواجب أن يكون التعويل على معرفة معاني الكتاب لا على مجرّد تلاوته.

آية 79 - 82

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ ليَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيل لهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْل لَهُمْ ممَّا يَكسِبُونَ ﴿79﴾ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ 80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطيئتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿81﴾ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر علماء اليهود فقال : ﴿فَوَيْلٌ) هو علم التحسّر والهُلْك ، فيجوز الابتداء به وإن كان على صورة النكرة، وفي الأصل مصدر لا فعل

ص: 175

له . وعن ابن عبّاس : الويل في الآية العذاب . وقيل : جبل في النار . وروي الخدري عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه وادٍ في جهنّم يهوى فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره. (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ ) يعني : المحرّف منه . ويحتمل أن يكون المراد منه ما كتبوه من التأويلات الزائغة . وقوله : ( بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد ، كقولك : كتبته بيميني .

﴿ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كي يحصّلوا به عرضاً من أعراض الدنيا ، كالرّشا على التحريف واستبقاء الرسوم والوظائف، فإنّه وإن جلّ قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العقاب الدائم. والمراد منه ما يأخذونه من عوامهم في كلّ عام .

(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ يعني : المحرّف ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) مِن الرشا. والتكرار للتأكيد والمبالغة .

عن ابن عبّاس : أنّ أحبار اليهود وجدوا صفة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) مكتوبة في التوراة : أكحل ، أعين ، رَبعة (1) حسن الوجه ، فمحوه من التوراة حسداً وبغياً، فأتاهم نفر من قريش، فقالوا: أتجدون في التوراة نبيّاً منّا ؟ قالوا : نعم نجده طويلاً أزرق ، سَبْط (2) الشعر . ذكره الواحدي بإسناده في الوسيط.

وعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) وجماعة من أهل التفسير : أنّ أحبار اليهود حرّفوا صفة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في التوراة ليوقعوا الشكّ بذلك للمستضعفين من اليهود.

(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) المسّ : اتصال الشيء بالبشرة بحيث يتأثّر الحاسّة به . واللمس كالطلب له ، ولذلك يقال : ألمسه فلا أجده . ومعناه : أن اليهود قالوا : لن تصيبنا النار (إلَّا أيّاماً مَعْدُودَةً) محصورة قليلة.

روي أنّ بعضهم قالوا: نعذِّب بعدد أيام عبادة العجل أربعين يوماً، وبعضهم

ص: 176


1- الأكحل : الذي يكون عينه شديدة السواد والأعين : الذي عظم سواد عينه في سعة . والربعة : الوسيط القامة .
2- سَبط الشعر : سهل واسترسل . والسبط من الشعر : نقيض الجعد .

قالوا: مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنّما نعذِّب مكان كلّ ألف سنة يوماً ، فردّ الله تعالى على اليهود قولهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا َأيّاماً مَعْدُودَةً )فقال خطاباً لرسوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) وعداً موثقاً بما تزعمون. وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال ، والباقون بإدغامه. (فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) الفاء هي الفصيحة ، أي : المظهرة بشرط مقدّر ، أي : إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده. وفيه دليل على أن الخلف في خبره محال .

(أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ «أم» معادلة لهمزة الاستفهام، بمعنى أيّ الأمرين كائن على سبيل التقرير ،للعلم بوقوع أحدهما ، أو منقطعة بمعنى : بل ،تقولون، على التقرير والتقريع.

(بَلَى) إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زماناً مديداً ودهراً طويلاً. وتختصّ بجواب النفي ، أي : بل تمسّكم النار على سبيل الخلود بدلالة قوله : (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) :أي: من عمل خصلة أو فعلة قبيحة . والفرق بين السيّئة والخطيئة :أنّها تقال فيما يقصد بالذات ، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض، لأنّها من الخطأ . والكسب استجلاب النفع.

وقيل : المراد بالسيئة هنا الشرك، فالتنوين للتعظيم ، أي : سيّئة أكبر السيئات، وهي الشرك. وهو مروي عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة وغيرهم وتفسيرها بالكبيرة كما قال الحسن لا تكون حجّة على خلود صاحب الكبيرة ، كما قالت المعتزلة .

ويؤيّد ذلك قوله : ( وَأحَاطَتْ بِهِ خَطِيئتُهُ ) أي : استولت عليه، وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها ، لا يخلو عنها شيء من جوانبه، ولم يتفصّ (1) عنها بالتوبة، وهذا إنّما يصح في شأن الكافر، لأنّ غيره وإن لم يكن له سوى تصديق

ص: 177


1- أي :لم يتخلّص .

قلبه والإقرار بلسانه، فلم تحط الخطيئة به .

وتحقيق ذلك : أنّ من أذنب ذنباً ولم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله، والانهماك فيه، وارتكاب ما هو أكبر منه ، حتى تستولي عليه الذنوب ، وتأخذ بمجامع قلبه، فيصير بطبعه مائلاً إلى المعاصي، مستحسناً إياها، معتقداً أن لا لذة سواها، مبغضاً لمن يمنعه عنها ، مكذِّباً لمن ينصحه فيها ، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَآوُا السُّوَأى أنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ ) (1) ، ولهذا فسّر السلف الخطيئة هنا بالكفر.

وقرأ نافع : خطيئاته بصيغة الجمع ، ليكون تصريحاً بمعنى الإحاطة.

(فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) ملازموها في الآخرة، كما أنهم ملازمون أسبابها في الدنيا (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) دائمون أبداً. ومن فسّرها بالكبيرة التي هي ما دون الشرك من غير المعتزلة، فسّر الخلود بالمكث الطويل.

ولمّا جرت عادة الله سبحانه وتعالى على أن يشفع وعيده بوعده، لترجي رحمته ويخشى عذابه، قال بعد ذكر الوعيد : ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) عطف العمل الصالح على الإيمان يدلّ على خروجه عن مسماه ، كما هو مذهبنا ، إذ العطف يقتضي المغايرة (أوْلَئِكَ َأصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .

آیة 83

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَقُولُوا للنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُعْرِضُونَ (83)

ص: 178


1- الروم : 10 .

ثم عاد سبحانه إلى ذكر بني إسرائيل فقال : ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي : واذكر إذ أخذنا ميثاق اليهود (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا الله) وحده دون ما سواه من الأنداد. إخبار في معنى النهي ، كقوله : ( وَلَا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ (1) ، وكما تقول : تذهب إلى فلان تقول له كذا تريد الأمر. وهو أبلغ من صريح النهي، لما فيه من إيهام أنّ المنهي سارع إلى الانتهاء، فهو يخبر عنه . ويؤيده قراءة عبدالله وأبي : لا تعبدوا وعطف «قولوا» عليه ولابد من إرادة القول، أي: قلنا لهم لا تعبدون إلّا الله .

وقيل : «لا تعبدون» جواب القسم، لأنّ أخذ الميثاق في معنى القسم ، كأنه قيل : حلّفناهم لا تعبدون .

وقيل : معناه : أن لا تعبدوا، فلما حذف «أن» رفع كقوله :

ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى (2)

أي: لأن أحضر الحرب، أو على أن أحضر الحرب.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتاء، حكاية لماخوطبوا به ، والباقون بالياء، لأنهم غيّب.

(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) متعلّق بمحذوف تقديره : وتحسنون، أو أحسنوا بهما ما فرض عليكم من فعل المعروف بهما ، والقول الجميل، وخفض جناح الذلّ لهما، والتحنّن عليهما، والدعاء بالخير لهما . ﴿وَذِي الْقُرْبَى) عطف على الوالدين ، أي : تحسنون بذي القربي بالصلة والعطيّة . وهو القريب والرحم . وَالْيَتَامَى أَي : باليتامى، بأن تعطفوا عليهم بالرأفة والرحمة. جمع یتیم کندیم وندامى. (وَالْمَسَاكِينِ) بأن تؤتوهم حقوقهم التي أوجبها الله عليكم في أموالكم. جمع مسكين، مفعيل من السكون ، كأنّ الفقر أسكنه .

ص: 179


1- البقرة : 282 .
2- الطرفة بن العبد ، كما في هامش الكشّاف 1 : 159 .

( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أي : قولاً حسناً . وسمّاه حسناً للمبالغة. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب : حَسَناً، بفتحتين على أصله. وعن الباقر (علیه السّلام): قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم.

ولمّا أمكن قتالهم مع حسن القول في دعائهم إلى الإيمان، كما قال الله تعالى : (أُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (1) وقال: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (2) ، فلا تكون الآية منسوخة بآية السيف (3) كما قال بعضهم (4).

(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) أي : أدّوها بحدودها وأركانها (وَآتُوا الزَّكَاةَ) أعطوها أهلها . يريد بهما ما فرض عليهم في ملّتهم.

﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ هذا على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، إذ حقّه أن يقول : ثمّ تولّوا عطفاً على «وإذ أخذنا». ومعناه : تولّيتم عن الميثاق وتركتموه. ويحتمل أن يكون الخطاب مع الموجودين في عهد رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ومن قبلهم على التغليب أي أعرضتم عن الميثاق (إلَّا قَليلاً مِنْكُمْ) يريد من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن أسلم منهم (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) قوم عادتكم الإعراض عن الوفاء بالمواثيق والطاعة وأصل الإعراض الذهاب عن المواجهة إلى أحد الجانبين.

واعلم أنّ في هذه الآية دلالة على ترتيب الحقوق، قيده سبحانه بذكر حقّه، وقدّمه على كلّ حقّ، لأنه الخالق المنعم بأصول النعم. ثمّ ثنّى بحق الوالدين .

ص: 180


1- النحل : 125 .
2- الأنعام : 108 .
3- التوبة : 5 و 29 .
4- هو قتادة ، حكاه عنه الشيخ الطوسي «قدس سره» في التبيان 1: 331 .

وخصهما بالمزيّة ، لكونهما سبباً للوجود ، وإنعامهما بالتربية . ثم ذكر ذوي القربي ،لأنهم أقرب إلى المكلّف من غيرهم. ثم ذكر حق اليتامى لضعفهم و عجزهم. ثم الفقراء لفقرهم .

آية 84 - 86

«وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿84 )ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86 )

وبعد الإخبار عن أخذ الميثاق من اليهود ذكر نقض مواثيقهم وعهودهم بقوله : ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) أي : ميثاق أسلافكم الذين كانوا في زمن موسى والأنبياء صلوات الله على نبينا وعليهم أجمعين . وإنّما أضاف الميثاق إليهم لما كانوا أخلافاً لهم ومعتقدين الهم ومعتقدين عقيدتهم .و قوله: ﴿ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) على نهج قوله: «لَا تَعْبُدُونَ». والمراد به أن لا يتعرّض بعضهم بعضاً بالقتل والإجلاء عن الوطن. وإنّما جعل قتل الرجل غيره قتل نفسه لاتصاله به نسباً أو

ص: 181

ديناً ، أو لأنه يوجبه قصاصاً، فيكون بمنزلة من قتل نفسه

وقيل : معناه : لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم ، أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبديّة، فإنّه القتل في الحقيقة، ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنّة التي هي داركم الأبديّة، فإنّه الجلاء الحقيقي .

(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بالميثاق واعترفتم بلزومه (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ جملة حالية توكيداً ، كقولك : أقرّ فلان شاهداً على نفسه . وقيل : وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق . فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازاً.

﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ معنى «ثمّ» استبعاد لما ارتكبوه بعد أخذ الميثاق منهم والإقرار به والشهادة عليه . وأصلها للتراخي في الزمان ، ثمّ استعمل في التراخي الرتبي .

و «أنتم)» مبتدأ و «هَؤُلَاء» خبره. ومعناه : أنتم أيها المقرّون الشاهدون بعد ذلك هؤلاء الناقضون ، يعني : أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين، كقولك : رجعت بغير الوجه الّذي خرجت به تنزيلاً لتغيّر الصفة منزلة تغيّر الذات. وعدّهم باعتبار ما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان حضوراً ، وباعتبار ما سيحكي عنهم - وهو قوله : أَوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَروُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ (1) - غيّباً .

وقوله : ﴿ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) إِمّا حال والعامل فيها معنى الإشارة، أو بيان لقوله: «ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ». وقيل: «هؤلاء» تأكيد ، والخبر هو الجملة . وقيل : هؤلاء» بمعنى الذين، والجملة صلته، والمجموع هو خبر «أنتم».

وقوله : (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) حال من فاعل «تخرجون» أو ،مفعوله، أو كليهما .والتظاهر: التعاون من الظهر. وقرأ عاصم والكسائي وحمزة بحذف إحدى التاءين تخفيفاً.

ص: 182


1- البقرة : 86 ، وسياتي تفسيرها في ص : 184 .

( وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى) من غير ملّتكم ، أي : وأنتم مع قتلكم من تقتلون من فريقكم إذا وجدتم أسيراً من الأسارى في أيدي غيركم من أعدائكم. (تُفَادُوهُمْ ) .

روي أن قريظة كانوا حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج، فإذا اقتنلا عاون كلّ فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها ، وإذا أسر أحد الفريقين جمعوا له حتى يفدوه بعد تقضّي الحرب، تصديقاً لما في التوراة ، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، لا يعرفون جنّة ولا ناراً، ولا قيامة ولا كتاباً ، فوبّخ الله هؤلاء اليهود بما فعلوا .

وقيل : معناه : إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدوا لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم كقوله : (أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ (1).

وقرأ حمزة: أسرى .وهو جمع أسير كجرحى وجريح، وأسارى جمعه ،کسکری وسكارى . وقيل : هو أيضاً جمع أسير .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر : تفدوهم، وغيرهم تفادوهم، لأن الفعل بين الاثنين .

(وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) متعلّق بقوله: ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) وما بينهما اعتراض، والضمير للشأن ، أو مبهم تفسيره: إخراجهم ، أو راجع إلى ما دلّ عليه «تخرجون» من المصدر . و «إخراجهم» بدل أو بيان. والمعنى: وإخراجكموهم من ديارهم حرام عليكم، كما أنّ تركهم أسرى في أيدي عدوّهم حرام عليكم ، فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوّهم، وهما جميعاً في الحكم لازم عليكم ؟!

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ ) أي : بالفداء (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) أي : بحرمة

ص: 183


1- البقرة : 44 .

القتال والإجلاء. (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )كقتل قريظة وسبيهم، وضرب الجزية على غيرهم. وأصل الخزي ذلّ بما يستحيا منه ، ولذلك يستعمل في كلّ من الذلّ والاستحياء ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) الّذي أعده الله لأعدائه، وهو العذاب الذي لا رَوْح فيه مع اليأس من التخلّص ، لأنّ عصيانهم أشدّ ، ولهذا أكد هذا الوعيد بقوله: ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ أي : الله سبحانه لا يغفل عن أفعالهم، بل هو حافظ لها ومجاز عليها .

وقرأ عاصم في رواية المفضّل : «تردون» على الخطاب ، لقوله تعالى :( مِنْكُمْ) ، وابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ويعقوب : «عما يعملون» بالياء، على أنّ الضمير «من».

واعلم: أنّ هذه الآية لا تقتضي صحة اجتماع الإيمان والكفر الذي هو منافٍ للمذهب الصحيح، لأنّ المعنى أنهم أظهروا التصديق ببعض الكتاب والإنكار ببعض. وفيها تسلية لنبينا (صلّی الله علیه و آله و سلّم) و في ترك قبول اليهود قوله وانحيازهم عن الإيمان ،به فكأنّه يقول : كيف يقبلون قولك ويسلّمون لأمرك ويؤمنون بك وهم لا يعملون بكتابهم مع إقرارهم به وبأنه من عند الله تعالى ؟ !

(أَوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) آثروا الحياة الدنيا على الآخرة ، ورضوا بها عوضاً من نعيم الآخرة (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) بنقص الجزية في الدنيا، وتهوين التعذيب في الآخرة ( وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ أي : لا ينصرهم أحد بدفعهما عنهم .

آية 87

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴿87)

ص: 184

ثم ذكر سبحانه إنعامه عليهم بإنزال كتابه وإرسال رسله إليهم ، وما قابلوه به من تكذيبهم فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) يعني : أعطيناه التوراة جملة واحدة ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أرسلنا على أثره الرسل أي رسولاً بعد رسول، يتبع الآخر الأوّل في الدعاء إلى وحدانيّة الله تعالى، والقيام بشرائعه على منهاج واحد، لأنّ كلّ من بعثه الله نبياً بعد موسى إلى زمن عيسى (علیه السّلام)- كيوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم - فإنّما بعثه بإقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ذلك ، كقوله : (ثُمّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرى ﴾ (1) :أي واحداً بعد واحد . يقال : قفاه إذا أتبعه، وقفّاه به أتبعه إيّاه من القفا، نحو: ذَنَبَه من الذَنَب (2).

﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) المعجزات الواضحات الدالة على نبوّته، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيّبات ، أو الإنجيل الّذي هو جامع للآيات الفاصلة بين الحلال والحرام.

وعيسى بالعبريّة أيشوع ، بمعنى المبارك . ومريم بمعنى الخادم . وهو بالعربية من رامه يريمه ريماً إذا فارقه، وريم بالرجل إذا قطع به، على وزن مفعل، إذ لم يثبت فَعْيَل . وزَيْر في مقابلته أي رجل كثير الزيارة للنساء. قال رؤبة :

قلت لزَيْر لم تصله مَرْيَمُه *** ضليل أهواء الصبا تندّمه (3)

ص: 185


1- المؤمنون: 44 .
2- ذَنَبَهُ يَذنُبُه : تلا ذنبه فلم يفارق أثره . (لسان العرب 1 : 390) .
3- الزَيْرُ : من يكثر مودّة النساء وزيارتهنّ . والمريم : من تكثر مودّة الرجال وزيارتهم . ولعلّ معناه : أن ندمه ضال ضائع في أهواء الصّبا.

(وَأَيَّدْنَاهُ) قوّيناه ﴿ بِرُوحِ الْقُدُسِ) بالروح المقدّسة، كقولك : حاتم الجود، ورجل صدق، في إضافة الاسم إلى المصدر أراد به جبرئيل، أي أيّدنا عیسى بجبرئيل من أوّل صغره إلى كبره، فكان يسير معه حيث سار، ولمّا همّ اليهود بقتله لم يفارقه حتى صعد به إلى السماء، وكان تمثّل لمريم عند حملها به وبشرها به .

وقيل : روح عيسى، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته على الله ، ولذلك أضافها إلى نفسه، أو لأنه لم تضمّه الأصلاب والأرحام الطوامث ، أو لغلبة الروحانية عليه، فشابه الروحانيين، أو الإنجيل، أو الاسم الأعظم الذي كان يحيي به الموتى. وقرأ ابن كثير القدس بالإسكان في جميع القرآن .

ثم خاطب اليهود توبيخاً وتعجيباً فقال : يا معشر اليهود (أفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) :أي: بما لا تحبّه ، يقال : هوي بالكسر هوىً إذا أحبّ ، وهوى بالفتح هُويّاً بالضمّ إذا سقط . ووسط بين الفاء وما تعلّقت به - وهو قوله : «وآتينا» - همزة التوبيخ والتعجيب في شأنهم. ويجوز أن يكون استئنافاً، والفاء للعطف على مقدّر ، أي : أأعرضتم فكلما ... إلخ.

وقوله : «استكبرتم» مجمل تفصيله قوله : (فَفَريقاً كَذَّبْتُمْ ) عن الإيمان واتباع الرسل ، كموسى وعيسى (وَفَريقاً تَقْتُلُونَ) كزكريا ويحيى،فالفاء لتفصيل الاستكبار ويجوز أن يكون للسببية . وإنّما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها في النفوس، وتصويراً لها في القلوب، فإنّ الأمر فظيع ، ومراعاة للفواصل، أو للدلالة على أنّكم بعد فيه، فإنّكم حاولتم قتل محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ولولا أنّي أعصمه منكم ، ولذلك سحر تموه وسممتم له الشاة.

ص: 186

وقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم) عند موته : ما زالت أكلة خيبر تعادّني (1) ، فهذا أوان قطعت أبهري. له وأضاف الفعل المذكور إليهم وإن باشره آباؤهم ، لأنهم رضوا بفعل أسلافهم فأضيف الفعل إليهم .

آية 88

وَقَالُوا قُلُوبَنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَليلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)

ثم رجع الكلام إلى الحكاية عن اليهود وعن سوء مقالهم وفعالهم فقال : ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) جمع أغلف، أي مغشّاة بأغطية خلقيّة لا يصل إليها ما جاء به محمد ولا تفهمه ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن ، كقولهم: ﴿قُلُوبُنَا فِي أكِنَّةٍ) (2) . وقيل : أصله غُلُف جمع غلاف فخفّف، أي: أنّها أوعية العلم لا تسمع علماً إلا وعته ولا تعي ما تقول، أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره.

ثمّ ردّ الله عليهم لما قالوا بقوله : (بَل لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ ) أي : ليس ذلك كما زعموا أنّ قلوبهم خلقت كذلك، لأنها خلقت على الفطرة ، لكن الله لعنهم وخذلهم بسبب صميم كفرهم ، وأبعدهم من رحمته، لتوغلهم في عنادهم ولجاجهم فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ﴾ فإيماناً قليلاً يؤمنون . و «ما» مزيدة للمبالغة في التقليل، وهو إيمانهم ببعض الكتاب، وذلك قليل بالإضافة إلى ما جحدوه من حرمة القتال والإجلاء والتصديق بنبينا (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وبما جاء به. وقيل : أراد بالقلّة العدم، كما يقال : قل ما رأيت هذا قطّ ، أي : ما رأيته قط. وهذا أصح، لموافقته لمذهبنا في أنه لا إيمان لهم أصلاً .

ص: 187


1- في هامش الخطية: «من : «من العداد ، وهو اهتياج وجع اللديغ منه». أي: تراجعني ويعاودني ألم سمّها في أوقات معلومة . والأبهر : الظهر . والأبهران : العرقان اللذان يخرجان من القلب .انظر مستدرك الحاكم 3: 58 .
2- فصّلت : 5 .

آية 89 - 91

«وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

عن ابن عبّاس : كانت اليهود يستفتحون ، أي : يستنصرون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فلمّا بعثه الله من العرب ولم يكن من بني إسرائيل كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ونحن أهل الشرك ، وتصفونه وتذكرون أنه مبعوث ، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم . فنزلت.

﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) يعني : القرآن (مُصَدِّقُ لِمَا مَعَهُمْ) من الكتب التي أنزلها الله تعالى قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما. وجواب «لما» محذوف، نحو: كذبوا به، واستهانوا بمجيئه ، وما أشبه ذلك ، دلّ على المحذوف جواب «لمّا» الثانية .

ص: 188

(وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ﴾ أي : يستنصرون (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) على المشركين ، ويقولون : اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان ، المنعوت في التوراة ، لنقتل المشركين معه قتل عاد وإرم . أو يفتحون عليهم ، ويعرفونهم أن نبياً يبعث منهم، وقد قرب زمانه والسين للمبالغة - أي : يسألون أنفسهم الفتح عليهم، كالسِّين في «استعجب واستسخر » - والإشعار بأن الفاعل يسأل ذلك عن نفسه .

(فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرفُوا) من الحقِّ( كَفَرُوا بِهِ ﴾ حسداً وخوفاً على رئاستهم وانسداد وظائفهم كما مرّ (فَلَعْنَةُ اللهِ ﴾ أي : غضبه وعقابه (عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ أي : عليهم . فأتى بالمظهر موضع المضمر للدلالة على أنّهم لعنوا لكفرهم ، فيكون اللام للعهد. ويجوز أن يكون للجنس، ويدخل اليهود فيه دخولاً قصدياً ، لأن الكلام سيق بالأصالة فيهم.

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) «ما» نكرة بمعنى شيء مميّزة لفاعل «بئس» المستكن، واشتروا صفته . ومعناه : باعوا أو اشتروا بحسب ظنّهم ، فإنّهم ظنّوا أنّهم خلّصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا والمخصوص بالذم قوله :( أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ الله ).

ولمّا كان البيع والشراء إزالة ملك المالك إلى غيره بعوض يعتاضه منه، ثمّ يستعمل ذلك في كلّ معتاض من عمله عوضاً خيراً كان أو شرّاً، واليهود أوبقوا نفوسهم بكفرهم بمحمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وأهلكوها ، فخاطبهم الله بما كانوا يعرفونه ، فقال : بئس الشيء الذي رضوا به عوضاً من الإيمان بالله ، وما أنزله الله على نبيّه ، وما أعدّ لهم به من ثواب الله ، الكفر به وما أعد لهم بكفرهم من النار.

(بَغْياً ) طلباً لما ليس لهم ، وحسداً لمحمّد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، إذ كان من ولد إسماعيل، وكانت الرسل قبل من بني إسرائيل، وهو علة «يكفروا» دون «اشتروا» للفصل.

(أن يُنَزِّلَ اللهُ ﴾ لأن ينزّل ، أو حسدوه على أن ينزل الله . وقرأ ابن كثير وأبو

ص: 189

عمرو ويعقوب بالتخفيف (مِنْ فَضْلِهِ) يعني : الوحي والنبوَّة (عَلَى مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِه)ِ على من اختاره للرسالة، كما تقتضيه حكمته الباهرة .

﴿ فَبَاءُ و بِغَضَبٍ عَلَى غَضَب) للكفر والحسد على من هو أفضل الخلق . وقيل : لكفرهم بمحمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بعد عيسى ، أو بعد قولهم : عزير ابن الله ، وقولهم : يد الله مغلولة ، أو لأجل تضييعهم أحكام التوراة ونعوت خير الأنبياء، وغير ذلك من أنواع كفرهم ، فصاروا أحقًاء لغضب مترادف متعاقب.

(وَلِلْكَافِرِينَ﴾ وللجاحدين نبوّة محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) (عَذَابٌ مُهِينٌ) يريد به إذلالهم ، بخلاف عذاب العاصي ، فإنّه طهرة لذنوبهم، وتمحيص وتكفير لها ، فمن ينتقل من عذاب النار إلى الجنّة من عصاة المؤمنين لا يكون عذابه مهيناً .

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) يعمّ الكتب المنزلة بأسرها (قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ) أي : بالتوراة ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) يجحدون بما سواه، حال من الضمير في «قالوا» :أي: قالوا ذلك والحال أنّهم يكفرون بما وراء التوراة. و«وراء» في الأصل مصدر جعل ظرفاً، ويضاف إلى الفاعل فيراد ما يتوارى به وهو خلفه وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه ، ولذلك عدّ من الأضداد .

﴿وَهُوَ الْحَقُّ) والضمير لما وراءَه والمراد به القرآن (مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ )من التوراة ، لأنّ تصديق محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وما أنزل معه من القرآن مكتوب عندهم في التوراة. وهو حال مؤكّدة تتضمّن ردّ مقالتهم بأنّهم لما كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها .

ثمّ ردّ الله تعالى عليهم قولهم : نؤمن بما أنزل علينا فقال: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ﴾ اعتراضاً عليهم بقتل الأنبياء مع ادّعاء الإيمان بالتوراة ، والتوراة لا تسوّغه. وإنّما أسند القتل إليهم لأنه فعل آبائهم وأنّهم راضون به عازمون عليه كما مرّ غير مرّة . وقرأ نافع وحده : أنبئاء الله مهموزاً في كلّ القرآن .

ص: 190

مأخوذاً من النبأ بمعنى الخبر ، والباقون بالياء من النبوة بمعنى الرفعة.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ الإيمان بكتاب من كتب الله لا يصح إذا لم يحصل الإيمان بما سواه من كتب الله المنزلة التي هي مثله في اقتران المعجزة .

آية 92-93

وَلَقَدْ جَاءَكُم مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِه وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿92﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأَشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئسمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانَكُمْ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

ثم حكى سبحانه عنهم ما يدلّ على قلّة بصيرتهم في الدين، وضعفهم في اليقين ، فقال : ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسى بالبَيِّنَاتِ ) يعني : الآيات التسع المذكورة قوله : ( وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ )(1) الدالة على صدقه (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إِلهاً معبوداً (مِنْ بَعْدِهِ) بعد مجيء موسى بالبينات، أو بعد ذهابه إلى الطور (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) واضعون العبادة في غير موضعها. وهو حال ، يعني : اتخذتم العجل ظالمين بعبادته، أو بالإخلال بآيات الله ، أو اعتراض بمعنى: وأنتم قوم عادتكم الظلم.

ومساق الآية لإبطال قولهم : نؤمن بما أنزل علينا، والتنبيه على أنّ طريقتهم مع الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) و طريقة أسلافهم مع موسى ، لا لتكرار القصّة .

وكذا ما بعدها، وهو قوله : ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيْثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا )

ص: 191


1- الإسراء : 101 .

أي : قلنا لهم خذوا (مَا آتَيْنَاكُمْ) ما أمرتم به في التوراة (بِقُوَّةٍ) بجد (وَاسْمَعُوا) سماع طاعة ( قَالُوا سَمِعْنَا) قولك (وَعَصَيْنَا) أمرك ، أي : سمعناه ولكن لا سماع طاعة ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) تداخل فيها حبّه ، ورسخ فيها صورته لفرط شغفهم وحرصهم بعبادته ، كما يتداخل الصبغ الثوب، والشراب أعماق البدن . و«في قلوبهم» بيان لمكان الإشراب، كقوله : (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بطونهم نارا) (1).

وليس معنى «أشربوا» أنّ غيرهم فعل ذلك بهم ، بل هم الفاعلون ، كما يقول القائل : أنسيت ذلك من النسيان، وليس يريد أنّ غيره فعل ذلك غيره فعل ذلك به، ويقال : أوتي فلان علماً جمّاً، وإن كان هو المكتسب . وقيل : إنّما أشرب حبّ العجل قلوبهم مَنْ زينه عندهم ودعاهم إليه ، كالسامري وشياطين الإنس والجن .

وقوله : ( بِكُفْرِهِمْ) معناه بسبب كفرهم، وذلك لأنهم كانوا مجسمة أو حلولية ، ولم يروا جسماً أعجب منه ، فتمكّن في قلوبهم ما سوّل لهم السامري. وليس المعنى أنّهم أشربوا حبّ العجل جزاءً على كفرهم، لأنّ محبّة العجل كفر قبيح والله سبحانه لا يفعل الكفر في العبد لا ابتداءً ولا جزاء ؛ بل معناه أنّهم بسبب كفرهم بالله أشربوا حبّ العجل.

﴿ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ ) أي : بالتوراة والمخصوص بالذم محذوف، نحو عبادة العجل ، أو هذا الأمر، أو ما يعمّه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث إلزاماً عليهم (إن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) تقرير للقدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وتقديره : إن كنتم مؤمنين بها ما أمركم إيمانكم بهذه القبائح، وما رخص لكم فيها إيمانكم بها ، أو إن كنتم مؤمنين بها فبئس ما أمركم به إيمانكم بها ، لأن المؤمن لا يتعاطى إلا ما يقتضيه إيمانه، لكنّ الإيمان بها لا يأمرهم بذلك ، فإذا لستم بمؤمنين .

ص: 192


1- النساء : 10 .

ففي هذا نفي عن التوراة أن يكون يأمر بشيء يكرهه الله من أفعالهم ، وإعلام بأنّ الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، ويحملهم عليه آراؤهم.

آية 94-96

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

ثم عاد سبحانه إلى الاحتجاج على اليهود بما فضح به أحبارهم وعلماءهم. ودعاهم إلى قضيّة عادلة بينه وبينهم ، فقال : (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً) خاصة بكم كما قلتم : لن يدخل الجنّة إلا من كان هوداً، ونصبها على الحال من الدار (مِن دُونِ النَّاسِ) سائرهم أو المسلمين، واللام للعهد على الاحتمال الثاني ( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) لأنّ من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاقها ، وأحبّ التخلّص إليها من الدار التي فيها أنواع المشاق والهموم والآلام والغموم، وتمنّى سرعة الوصول إلى نعمها اللذيذة العظيمة الدائمة، كما روي أن عليّاً (علیه السّلام) كان يطوف بين الصفين بصفّين في غلالة (1)، فقال له ابنه الحسن (علیه السّلام): ما هذا بزي المحاربين، فقال : يا بني لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط أم سقط الموت عليه .

وقال عمّار بصفّين : الآن ألاقي الأحبّة ، محمداً وحزبه، ويروى أن حبيب بن

ص: 193


1- الغِلالةُ : الثوب الذي يلبس تحت الثياب أو تحت درع الحديد .

مظاهر ضحك يوم الطّف، فقيل له في ذلك ، فقال : أي موضع أحق بالسرور من هذا الموضع ؟ والله ما هو إلا أن يقبل علينا هذا القوم بسيوفهم فنعانق الحور العين .

وقال حذيفة - رضي الله عنه - حين احتضر : جاء حبيب على فاقة ، لا أفلح من ندم :أي: على التمنّي، سيّما إذا علم أنّ الدار الآخرة سالمة لا يشاركه فيها غيره .

(وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من موجبات النار، كالكفر بمحمد(صلّی الله علیه و آله و سلّم) والقرآن وتحريف التوراة ولمّا كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان آلة لقدرته ، بها عامة صنائعه، ومنها أكثر منافعه، عبّر بها عن النفس تارة والقدرة أخرى وهذا من المعجزات، لأنه إخبار بالغيب، وكان كما أخبر ، لأنهم لو تمنوا لَنُقِل واشتهر ، فإنّ التمنّي ليس من عمل القلب ليخفى ، بل هو أن يقول: ليت لي كذا، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولي المطاعن في الاسلام أكثر من الذرّ ، وليس أحد منهم نقل ذلك .

وروى الكلبي عن ابن عبّاس أنه قال : كان رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يقول لهم : إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا : اللّهمّ أمتنا، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلا غصّ (1) بريقه فمات مكانه . وبرواية أخرى عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): لو تمنوا الموت لغصّ كلّ إنسان بريقه فمات مكانه، وما بقي يهودي على وجه الأرض.

﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تهديد لهم، وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم من دخول الجنّة ونفيه عمّن هو لهم .

ثمّ أخبر عن حرصهم على الحياة بقوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ) من «وجد» بعقله الجاري مجرى «علم»، كقولهم: وجدت زيداً ذا

ص: 194


1- غصَّ بالطعام والماء : اعترض في حلقه شيءٌ منه فمنعه التنفّس.

الحفاظ (1) ومفعولاه «هم» و «أحرص». وتنكير حياة لأنه أريد فرد مخصوص من أفرادها، وهي الحياة المتطاولة.

﴿ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا )محمول على المعنى، فكأنه قال : أحرص من الناس ومن الذين أشركوا . وإفرادهم بالذكر للمبالغة فإنّ حرصهم شديد، إذ لم يعرفوا إلا الحياة العاجلة، وللزيادة في التوبيخ والتقريع، فإنّه لما زاد حرصهم وهم مقرون بالجزاء على حرص المنكرين، دلّ ذلك على علمهم بأنهم صائرون إلى النار .

ويجوز أن يراد وأحرص من الذين أشركوا، فحذف لدلالة «أحرص الناس» عليه .

وقيل : من الذين أشركوا المجوس، لأنهم كانوا يحیّون مملوكهم ويقولون : عش ألف نيروز وألف مهرجان قال ابن عباس : هو قول بعض الأعاجم منهم لمن عطس : هزار سال بزي (2).

ويجوز أن يكون «من الذين أشركوا» خبر مبتدأ محذوف صفته (يَوَدُّ أحَدُهُمْ) على أنه أريد بالذين أشركوا اليهود، لأنهم قالوا: عزير ابن الله ، أي : ومنهم ناس يود أحدهم. وهو على الوجهين الأولين بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف .

وقوله : (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ )حكاية لودادهم . و«لو» بمعنى ليت. وكان أصله لو أعمّر ، فأجري على الغيبة لقوله : «يودٌ»، كقولك : حلف بالله ليفعلنّ . وأصل سنة سنوة ، لقولهم : سنوات . وقيل : سنهة كجبهة، لقولهم : سانهته ، وتسنّهت النخلة إذا أتت عليها السنون .

﴿ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أَن يُعَمَّرَ) الضمير «أحدهم» و«أن يعمّر»

ص: 195


1- يقال : إنه لذو حفاظ ، أي : أن له أنفة .
2- زي بالفارسية بمعنى : عش ، وهزار بمعنى ألف ، وسال بمعنى : عام ، أي : عش ألف سنة .

فاعل مزحزحه ، أي : وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره، يعني: لا يبعّده منه أن يطول له البقاء، لأنه لابد للعمر من الفناء أو لما دلّ عليه يعمّر» من مصدره، و «أن يعمّر» بدل منه . أو مبهم و أن يعمّر مبينه . والزحزحة التنحية والتبعيد.

(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) فيجازيهم . في هذه الآية دلالة على أنّ الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا مذموم، وإنّما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة ، وتلافي الفائت بالتوبة والإنابة ، ودرك السعادة بالإخلاص في العبادة، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (علیه السلام) في قوله : بقية عمر المؤمن لا قيمة له ، يدرك بها ما فات، ويحيي بها ما أمات.

آية 97 - 98

قُلْ مَن كَانَ عَدُوًا لجبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قلبك بإذن الله مُصَدّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿97﴾ مَن كَانَ عَدُوا لِله وَمَلَائِكَته وَرُسُلِهِ وَجبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴿98﴾

عن ابن عباس : أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك لمّا قدم النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان ؟

فقال : تنام عيناي وقلبي يقظان.

قالوا :صدقت یا محمد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة ؟

فقال : أمّا العظام والعصب والعروق فمن الرجل، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة.

قالوا: صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه وليس فيه من شبه أخواله شيء، أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شيء ؟

ص: 196

فقال : أيّهما علا ماؤه كان الشبه له .

قالوا : صدقت يا محمّد .

قالوا: فأخبرنا عن ربّك ما هو ؟ فأنزل الله سبحانه ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) إلى آخر السورة .

فقال ابن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك ، أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك ؟

فقال له : جبرئيل .

قال : ذاك عدوّنا ينزل بالقتال والشدّة وسائر النوازل والمصائب، وأشدّها أنّه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرّبه بُخْتَ نصر ، فبعثنا من يقتله، فرآه ببابل غلاماً مسكيناً فدفع عنه جبرئيل ، وقال : إن كان ربّكم أمره بهلاككم فلا يسلّطكم عليه، وإلا فبم تقتلونه ؟ وميكائيل ينزل الخصب واليسر والرخاء والسلام، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك، فنزلت: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لجبريل) .

قرأ حمزة والكسائي على وزن سلسبيل . وقرأ ابن كثير : جبريل ، بكسر الراء وحذف الهمزة وقرأ عاصم : جبرئل كجحمرش. وقرأ الباقون : جبريل كقنديل. ومنع صر فه للعجمة والتعريف . ومعناه عبدالله .

(فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) فإِن جبريل نزل القرآن أضمر ما لم يسبق ذكره فخامة لشأنه. كأنّه لتعيّنه وفرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره (عَلَى قَلْبِكَ) فَإِنّه القابل الأول للوحي، ومحلّ الفهم والحفظ. وكان حقه على قلبي ، لكنّه جاء على حكاية كلام الله ، كأنّه قال : قل ما تكلّمت به (بإِذْنِ اللهِ) بأمره وتيسيره، حال من فاعل «نزل» مُصَدِّقاً موافقاً (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب ﴿ وَهُدى وَبُشْرَى) وهادياً ومبشّراً بالنعيم الدائم (لِلْمُؤْمِنِينَ) أحوال من مفعوله . وإنّما خصّ الهدى بالمؤمنين من

ص: 197

حيث كانوا هم المهتدين به العاملين بما فيه ، وإن كان هدى لغيرهم لغيرهم أيضاً .

والظاهر أنّ جواب الشرط «فإنّه نزّله». والمعنى: فمن عادى منهم جبريل فقد خلع ربقة الإنصاف ، أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه، فإنّه نزّل كتاباً مصدّقاً لما بين يديه من الكتب، فيكون مصدّقاً لكتابهم، فلو أنصفوا لأحبّوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما يصحح الكتاب المنزل عليهم ، فحذف الجواب وأقيم علّته مقامه ، أو من عاداه فالسبب في عداوته أنّه نزّل عليك.

وقيل : محذوف ، مثل : فليمت غيظاً ، أو فهو عدوّ لي وأنا عدوّه، كما قال : (مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) أراد بعداوة الله مخالفته عناداً ، أو معاداة المقربين من عباده ، وصدّر الكلام بذكره تعالى تفخيماً لشأنهم ، كقوله : ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾ (1).

وأفرد الملكان بالذكر لمزيّة ،فضلهما ، كأنهما من جنس آخر ، وهو (2) مما ذكر أنّ التغاير في الوصف ينزّل منزلة التغاير في الذات والتنبيه على أنّ معاداة الواحد والكلّ سواء في الكفر واستجلاب العداوة من الله تعالى، وأن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع، إذ الموجب لمحبتهم و عداوتهم على الحقيقة واحد. ولأنّ المحاجّة كانت فيهما .

ولم يقل : «فإنّه» لئلا يتوهم أنه يرجع إلى جبرئيل أو ميكائيل . ووضع الظاهر وهو «للكافرين» موضع المضمر - أعني : لهم - للدلالة على أنه تعالى عاداهم لكفرهم ، وأنّ عداوة الملائكة والرّسل كفر .

وقرأ نافع : ميكائل كميكاعل ، وأبو عمرو ويعقوب وعاصم : ميكال كميعاد.

ص: 198


1- التوبة : 62 .
2- أي : وتنزيل الملكين منزلة كونهما من جنس آخر من قبيل ذكر الخاص بعد العام، فإن مغايرة وصفهما لأوصاف سائر الملائكة تنزّل منزلة التغاير في الذات .

آية 99 - 103

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)»وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)

عن ابن عبّاس أنّ ابن صوريا قال لرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): يا محمّد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية فتتبعك لها فأنزل الله : ( وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) ظاهرات واضحات تفصل بين الحق والباطل. وهي القرآن وما فيها من الدلالات وسائر المعجزات (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الفَاسِقُونَ) أي: المتمردون من

ص: 199

الكفرة . والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره، فإن كان في الكفر فهو أعظم الكفر ، وإن كان فيما دون الكفر فهو أعظم المعاصي، كأنه متجاوز عن حده واللام للجنس. والأولى أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب.

( أوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً) الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على محذوف تقديره : أكفروا بالآيات وكلّما عاهدوا عهداً ؟ أراد به العهد الذي أخذه الأنبياء على أممهم أن يؤمنوا ويطيعوا الأوامر الإلهيّة (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) نقضه . وأصل النبذ الطرح والرفض، لكنّه يغلب فيما ينسى . وإنما قال: «فريق» لأنّ بعضهم لم ينقض .

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) بالتوراة وليسوا من الدين في شيء، فلا يبالون بنقض الميثاق ، ولا يعدّونه ذنباً ، ولهذا كانت اليهود موسومين بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا وكم عاهدوا لرسول الله فلم يفوا. فينقضون عهدهم في كلّ مرّة . وهذا ردّ لما يتوهّم أنّ الفريق هم الأقلّون، أو أنّ من لم ينبذ جهاراً فهم يؤمنون به خفاءً.

(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِن عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) كعيسى ومحمد (نَبَذَ فريق) ترك وألقى طائفة (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ ) يعني التوراة ، لأنّ كفرهم بالرسول المصدّق لها كفر بها فيما يصدّقه ، ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيدين بالآيات وقيل : القرآن .

وقوله : (وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) مثّل لإعراضهم عنه رأساً بالإعراض عمّا يرمى به وراء الظهر ، لعدم الالتفات إليه .

(كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أنّه كتاب الله ، يعني : أنّ علمهم به راسخ، ولكن يتجاهلون عناداً. قال الشعبي : هو بين أيديهم يقرؤنه ، ولكن نبذوا العمل به. وقال سفيان بن عيينة : أدرجوه في الحرير والديباج وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلّوا حلاله ، ولم يحرموا حرامه . فالنبذ بهذا المعنى .

وهاتان الآيتان دالتان على أن معظم اليهود أربع فرق :

ص: 200

فرقة آمنوا بالتوراة ، وقاموا بحقوقها، كمؤمني أهل الكتاب وهم الأقلّون المدلول عليهم بقوله : ( بَلْ أكثرهم لَا يُؤْمِنُونَ).

وفرقة جاهروا بنبذ عهود التوراة وتخطّي حدودها تمرّداً وفسوقاً . وهم المعنيّون بقوله : «نبذه فريق منهم».

وفرقة لم يجاهر وا بنبذها ، ولكن نبذوا لجهلهم بها . وهم الأكثرون .

وفرقة تمسكوا بها ظاهراً، ونبذوها حقيقة ،عالمين بالحال بغياً وعناداً. وهم المتجاهلون.

﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ ﴾ عطف على نبذ » أي : هذا الفريق المذكور من اليهود نبذوا كتاب الله ، واتبعوا كتب السحر الّتي تقرؤها أو تتبعها الشياطين من الجنّ أو الإنس أو منهما (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي: على عهد ملكه، أو في زمان ملكه، على أن يكون «على» بمعنى «في» و «تتلوا» حكاية حال ماضية .

قيل : يسترقون السمع، ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ويلقونها إلى الكهنة ، وهم يدوّنونها ويعلمون الناس. وفشا ذلك في عهد سليمان حتى قيل : إن الجن يعلمون الغيب ، وإنّ هذا علم سليمان، وملك سليمان تمّ بهذا العلم، وإنّه تسخّر به الإنس والجن والريح له.

وعن السدّي أنّ سليمان (علیه السّلام) كان قد جمع كتب السحرة ووضعها في خزانته، قيل : كتمها تحت كرسيه لئلا يطّلع عليها الناس ولا يعلموا بها، فلمّا مات سليمان (علیه السّلام) استخرجت السحرة تلك الكتب وقالوا : إنّما تم ملك سليمان بالسحر، وبه سخّر الإنس والجن والطير ، وزيّنوا السحر في أعين الناس بالنسبة إلى سليمان، وشاع ذلك في اليهود، وقبلوه لعداوتهم لسليمان.

﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾ هذا تكذيب للشياطين ، ودفع لما افتروا عليه من العمل بالسحر. عبّر عن السحر بالكفر ليدلّ على أنه كفر ، وأنّ من كان نبياً كان معصوماً

ص: 201

عنه ﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا باستعمال السحر وتدوينه في الكتب. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : ولكن بالتخفيف ورفع الشياطين( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) إغواءً وإضلالاً . والجملة حال عن الضمير .

قال التفتازاني : علم السحر هو مزاولة النفوس الخبيثة لأفعال وأقوال يترتب عليها أمور خارقة للعادة (1).

وقال البيضاوي: «السحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان ممّا لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستتب - أي: لا يتمّ - إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس ، فإنّ التناسب شرط في التضام والتعاون، وبهذا يميز الساحر عن النبي والولي» (2) انتهى كلامه .

وما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية، أو بخفّة اليد في تقليب الأشياء، وخفّة الأعمال ، نحو المشي على الأرسان (3) واللعب بالمهاريق واللحاق، فهو شبيه بالسحر، وتسمّى بالشعبدة منسوبة إلى رجل اسمه ،شعباد، وهو معرّب، وأصله خفّة اليد في تقليب الأشياء، وخفّة الأعمال، ولا يكون سحراً حقيقياً، وكلّها حرام عند علمائنا .

وقال في المجمع: «إنّ السحر خدع وتمويهات لا حقيقة لها، يخيّل أنّ لها حقيقة . وقيل : إنّه يمكن الساحر أن يقلب الإنسان حماراً، ويقلبه من صورة إلى صورة، وينشىء الحيوان على وجه الاختراع وهذا باطل، ومن صدق به فهو لا يعرف النبوّة ، ولا يأمن من أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع. ولو أن الساحر قدر على نفع أو ضرّ وعلم الغيب ، لقدر على إزالة الممالك واستخراج الكنوز من

ص: 202


1- شرح المقاصد 5 : 79 .
2- أنوار التنزيل 1 : 175 .
3- جمع الرَسَن ، وهو الحبل المعروف .

معادنها، والغلبة على البلدان بقتل الملوك من غير أن ينالهم مكروه ،وضرر فلمّا رأيناهم أسوء الناس حالاً ، وأكثرهم مكيدة واحتيالاً ، علمنا أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك . فأما ما روي من الأخبار أن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) سحر ، فكان يرى أنه فعل ما لم يفعله ، أو أنه لم يفعل ما فعله فأخبار مفتعلة لا يلتفت إليها، وقد قال الله تعالى حكاية عن الكفّار : (إنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) (1)، فلو كان السحر عمل فيه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لكان الكفّار صادقين في مقالهم ، وحاشا النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)من كل صفة نقص تنفّر عن قبول قوله ، فإنّه حجّة الله على خليقته ، وصفوته على «بريّته» (2).

(وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ) إِمّا عطف على «ما تتلوا» أي : واتبعوا ما أنزل على الملكين ، أو على «السحر» أي : يعلمون الناس ما أنزل على الملكين. والمراد بهما واحد ، والعطف لتغاير الاعتبار، فإنّ اعتبار السحر الذي أنزل على الملكين غير اعتبار السحر الذي يعلّمه الناس، أو لأنّ الثاني أقوى من الأوّل.

وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ، تمييزاً بينه وبين المعجزة، فإنّ السحر كان كثيراً في ذلك الوقت، وابتلاءً من الله تعالى للناس، فمن تعلمه منهما وعمل به كان كافراً، ومن تجنّبه أو تعلّمه لأن لا يعمل به ولكن ليتوقاه كان مؤمناً. ونعم ما قيل:

عرفت الشرّ لا للشرّ لكن لتوقّيه *** ومن لم يعرف الشرّ من الخير يقع فيه

كما ابتلى قوم طالوت بالنهر (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ منّي)(3).

وما روي أنّهما طعنا في بني آدم لكثرة عصيانهم ، وزكّيا أنفسهما بالعصمة والطهارة، وافتخرا عليهم ، فلأجل هذا افتتنا فمثلا بشرين وركب فيهما الشهوة ،

ص: 203


1- الإسراء : 47 ، الفرقان : 8 .
2- مجمع البیان 1 : 177 .
3- البقرة : 249 .

فتعرّضا لامرأة يقال لها ،زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك، ثم صعدت إلى السماء بما تعلّمت منهما ، فمحكي عن اليهود ، وبطلانه لا يخفى على من قال بعصمة الملائكة .

وقيل : رجلان سمّيا ملكين باعتبار صلاحهما.

وحكي عن ابن عبّاس أنّ« ما أنزل» نفي معطوف على «ما كفر» تكذيب لليهود في هذه القصة.

وقوله : (بِبَابِلَ) ظرف أو حال من «الملكين»، أو الضمير في «أنزل». والمشهور أنه بلد من نواحي الكوفة (هَارُوتَ وَمَارُوتَ) عطف بيان للملكين . ومنع صرفهما للعجمة والعلميّة، ولو كانا من الهرت والمرت - بمعنى الكسر - لانصرفا .

ومن جعل «ما» نافية أبدلهما من الشياطين بدل البعض، وما بينهما اعتراض . وفي هذا التأويل يكون هاروت وماروت رجلين من جملة الناس أو الجنّ، ويكون الملكان اللذان نفي عنهما السحر جبرئيل وميكائيل ، فإنّ سحرة اليهود كانت تدّعي أن الله أنزل السحر على لسان جبرئيل وميكائيل على سليمان، فأكذبهم تعالى في ذلك .

وعلى الوجه الأوّل قوله: ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ) معناه : ما يعلّمان أحداً حتى ينصحاه ويقولا له : إنما نحن اختبار وابتلاء من الله ، فمن تعلّم منا وعمل به كفر، ومن تعلّم وتوقى عمله ثبت على الإيمان (فَلَا تَكْفُر ) باعتقاد جوازه والعمل به .

وعلى الوجه الثاني معناه : ما يعلّمانه حتى يقولا : إنا مفتونان فلا تكن مثلنا .

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا) الضمير لما دلّ عليه من أحد» فإنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم أي فيتعلّم الناس من هاروت وماروت ﴿ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) :أي: من علم السحر الذي يكون سبباً للتفريق بين الزوجين من حيلة

ص: 204

وتمويه ، كالنفث في العقد، ونحو ذلك ممّا لا يكون له حقيقة في الوجود، بل محض التخيل والتمويه ، فيحدث بينهما عند سماعهما أو إبصارهما صنعة هذه الحيل النشوز والخلاف، لا أنّ السحر له أثر في نفسه، بدليل قوله : ( وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) :أي: لا يلحقون بغيرهم ضرراً (إلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) أي : بمشيئته، لأنّه ربّما يحدث الله عنده فعلاً فعلاً من أفعاله ابتلاءً منه، وربّما لم يحدث ، أو إلّا بعلمه ، فيكون على وجه التهديد .

﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ) لأَنهم يقصدون به العمل، أو لأن العلم يجرّ إلى العمل غالباً ﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ) إذ مجرّد العلم به غير مقصود ، ولا نافع في الدارين .

(وَلَقَدْ عَلِمُوا ) أي : اليهود (لَمَنِ اشْتَراهُ) :أي: استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى واللام موطئة للقسم . والأظهر أنّها لام الابتداء علّقت «علموا» عن العمل. ﴿ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) من نصيب ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنفُسَهُمْ) ما باعوا به حظ أنفسهم، حيث اختاروا التكسب بالسحر ، أو اشتروها به على ما مرٌ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ .

إنّما نفى العلم عنهم مع إثباته أوّلاً على سبيل التوكيد القسمي، لأن معناه : لو كانوا يعملون بعلمهم، فجعلهم حين لم يعملوا به كأنّهم منسلخون عن العلم. أو الذين علموا هم الشياطين . أو الدين خبّر عنهم بأنّهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم والّذين لم يعلموا هم الذين تعلموا السحر أو الأوّل العلم الإجمالي بقبح العمل أو ترتب العقاب من غير تفصيل، والثاني هو العلم التفصيلي بالقبح والعقاب الأليم والعذاب العظيم.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) بالرسول والكتاب ﴿وَاتَّقَوْا) واتقوا الله بترك المعاصي کنبذ كتاب الله تعالى، واتباع السحر وكتب الشياطين لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرُ هذا جواب «لو». وأصله : لأثيبوا مثوبة من الله خيراً ممّا شروا به أنفسهم ، فحذف الفعل ،

ص: 205

وركب الباقي جملة اسمية لتدلّ على ثبات المثوبة والجزم بخيريتها. وحذف المفضّل عليه إجلالاً للمفضّل من أن ينسب إليه . وتنكير المثوبة ، لأنّ المعنى : لشيء من الثواب خير .

وقيل : «لو» للتمنّي ، كأنه قيل : وليتهم آمنوا، ثم ابتدأ بقوله : «لمثوبة».

وإنّما سمّي الجزاء ثواباً أو مثوبة لأنّ المحسن يثوب إليه، أي: يرجع .

(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أنّ ثواب الله خير ممّا هم فيه، وقد علموا ، ولكنّ الله سبحانه جهّلهم ، لتركهم التدبّر أو العمل بالعلم .

آية 104 - 105

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿104﴾ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مَن رَّبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفضلِ العَظيمِ ( 105)

ولمّا شرح الله تعالى قبائح السلف من اليهود شرع في قبائح المعاصرين منهم لرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، وجدّهم واجتهادهم في الطعن والقدح في دينه ، فقال : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا ).

الرعي حفظ الغير لمصلحته . وكان المسلمون يقولون للرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إذا ألقى إليهم شيئاً من العلم : راعنا :أي: راقبنا وتأنّ بنا فيما تلقّننا حتى نفهمه ونحفظه ، وسمع ذلك اليهود فافتر صوه و خاطبوه به مریدین نسبته إلى الرعن وهو الحمق ، أو سبّه بالكلمة العبرانية التي كانوا يتسابّون بها، وهي راعينا، فنهي المؤمنون عنها ، وأمروا بما يفيد تلك الفائدة ، ولا يقبل التلبّس ، وهو : انظرنا ، بمعنى: انظر إلينا ، فحذف حرف الجرّ ، أو بمعنى : انتظرنا ، من «نظره» إذا انتظره .

ص: 206

(واسْمَعُوا) وأحسنوا الاستماع بآذان واعية وأذهان حاضرة، حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة أو واسمعوا سماع قبول ، لا كسماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا . أو واسمعوا ما أمرتم به بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه .

(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يعني : للذين سبّوا رسول الله عذاب مؤلم موجع.

روي أنّ طائفة من اليهود كانوا يظهرون مودّة المؤمنين، ويزعمون أنهم يودّون لهم الخير ، فنزلت: ﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) أَي : ولا يود الذين كفروا من المشركين . والودّ محبّة الشيء مع تمنيه، ولذلك يستعمل في كلّ منهما . و «من» للتبيين، لأنّ الّذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون ، كقوله تعالى : ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ (1) ﴿ أَن يُنزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِن رَبِّكُمْ) مفعول «يودٌ» و «من» الأولى مزيدة للاستغراق، والثانية للابتداء. وفسّر الخير بالوحي ، وكذلك الرحمة ، كقوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) (2).

والمعنى : أنّ اليهود والمشركين يرون أنفسهم أحق بالوحي ، فيحسدونكم به، وما يحبّون أن ينزل عليكم شيء من الوحي، وبالعلم والنصرة. ويحتمل أن يكون المراد به ما يعمّ ذلك . والأوّل مروي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وعن أبي جعفر الباقر(علیه السّلام).

(وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ )بالنبوّة( مَنْ يَشَاء) ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة فيستنبئه ويعلّمه الحكمة وينصره .

(وَاللهُ ذُو الفَضْلِ الْعَظيم) إشعار بأن إيتاء النبوّة من الفضل العظيم ، كقوله :

ص: 207


1- البيّنة : 1 .
2- الزخرف : 32 .

إِنْ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (1)، وأن حرمان بعض عباده عن الاستنباء ليس لضيق فضله، بل لمشيئته على وفق اقتضاء المصلحة . والحكمة فيه : أنّ كلّ خير نال عباده في دينهم أو دنياهم فإنّه من عنده، ابتداءً منه إليهم، وتفضّلاً عليهم من استحقاق منهم لذلك عليه .

آية 106

مَا نَسَحْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿106)

روي أنهم طعنوا في النسخ ، فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ؟! فنزلت: (مَا نَنْسَحْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُفْسِها ).

اللغة النسخ في بمعنى إزالة الصورة عن الشيء وإثبات غيرها فيه ، كنسخ الظلّ للشمس، ثمّ استعمل لكلّ إزالة ونقل ، كقولك : نسخت الريح الأثر أي أزالته ، ونسخت الكتاب أي نقلته، ومنه التناسخ ونسخ الآية بيان انتهاء التعبّد بقراءتها أو الحكم المستفاد منها ، أو بهما جميعاً. وإنساؤها إذهابها عن القلوب، ومثله قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ ) (2) :أي: إلّا ما شاء الله أن تنساه.

و «ما» شرطيّة جازمة نسخ»، منتصبة به على المفعوليّة .

وقرأ ابن عامر : تُنْسِخ من «أنسخ» أي: نأمرك بنسخها. وابن كثير وأبو عمرو تنسأها ، أي : نؤخّرها من النَّسأ.

والمعنى : أنّ كلّ آية نذهب بها على ما توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة،

ص: 208


1- الإسراء : 87 .
2- الأعلى : 6 - 7 .

من إزالة لفظها وحكمها معاً ، أو من إزالة ،أحدهما إلى بدل أو لا إلى بدل نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا بما هو خير للعباد في النفع والثواب سهولةً وصعوبةً أو مِثْلِهَا) فيهما .

وقرأ أبو عمرو بقلب الهمزة ،ألفاً ، ونُنْسِخها ، يعني : نأمر جبرئيل بإعلامك. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ أو بما هو خير منه .

والآية دلّت على جواز النسخ وتأخير الإنزال ، إذ الأصل اختصاص «أنّ» وما يتضمنها - ك«من» و «ما» وغيرهما - بالأمور المحتملة ، وذلك لأن الأحكام شرعت والآيات نزلت لمصالح العباد و تكميل نفوسهم، فضلاً من الله ورحمة ، وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص ، كأسباب المعاش ، فإنّ النافع في عصر قد يضر في غيره.

واحتج بها من منع النسخ بلا بدل ، أو بدل أثقل ، ونسخ الكتاب بالسنّة ، فإنّ الناسخ هو المأتي به بدلاً، والسنة ليست كذلك .

والكلّ ضعيف، إذ قد يكون عدم الحكم أو الأثقل أصلح وأنفع والسنّة ما أتى به الله تعالى وأمر به . وليس المراد بالخير والمثل ما يكون كذلك في اللفظ ، فإنّه قد يكون خيراً ومثلاً فى المصلحة والأجر .

آية 107 - 108

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِي وَلَا نَصِيرٍ ﴿107) أَمَّ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سَلَ مُوسَى مِن قبل وَمَن يَبَدَّل الكفر بالإيمان فقد ضل سَوَاءَ السَّبيل (108 )

ولمّا بيّن لهم أنّه مالك أمورهم ومدبّرها على حسب مصالحهم، من نسخ الآيات وغيره، قرّر على ذلك بقوله :( أَلَمْ تَعْلَمْ) الخطاب للنبي، والمراد هو

ص: 209

وأمّته، لقوله : (وَمَا لَكُمْ﴾ . وإنّما أفرده لأنه أعلمهم ومبدأ علمهم (أنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فهو يملك تدبيركم، ويجريه على حسب مصالحكم ، وهو أعلم بما يتعبّدكم به من ناسخ ومنسوخ. فهو كالدليل على قوله :(أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وعلى جواز النسخ، ولذلك ترك العاطف.

(وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي : سواه (مِن وَليّ ) يقوم بأمركم ﴿وَلَا نَصِير) أي : ناصر ينصركم بما يكون صلاحاً لكم. والفرق بين الولي والنصير : أن الولي قد يضعف عن النصرة ، والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) كقول اليهود له : (أَرنَا اللَّهَ جَهْرَةً)(1) وغير ذلك . «أم» معادلة للهمزة في (أَلَمْ تَعْلَمْ) أي : ألم تعلموا . أنّه مالك الأمور ، قادر على الأشياء كلّها، يأمر وينهى كما أراد أم تعلمون وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى (علیه السّلام). أو منقطعة ، والمراد بل يوصيهم بالثقة فيما أصلح لهم ممّا يتعبّدهم ، وترك الاقتراح عليه كما اقترحت اليهود على موسى، من الأشياء التي عقباها وبال عليهم .

وفي المجمع: «عن ابن عبّاس أنّه قال : إنّ رافع بن حرملة ووهب بن زيد قالا لرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء جهاراً ،نقرؤه، وفجّر لنا أنهاراً نتّبعك ونصدّقك ، فنزلت هذه الآية» (2). وقيل : في المشركين لما قالوا : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ﴾ (3).

(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ) ومن ترك الثقة بالآيات البيئة وشك فيها واقترح غيرها ﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) أي : ذهب عن قصد الطريق المستقيم حتى حتى وقع

ص: 210


1- النساء : 153 .
2- مجمع البیان 1 : 183
3- الإسراء : 93 .

في الكفر بعد الإيمان. ومعنى الآية : لا تقترحوا فتضلّوا وسط السبيل، ويؤدّي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد ، وتبديل الكفر بالإيمان.

آية 109 - 110

«وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)»

روي أنّ فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود كحييّ بن أخطب، وكعب بن الأشرف ، وأضرابهما - قالوا لحذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم ؟ ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ، ونحن أهدى منكم سبيلاً.

فقال عمّار : كيف نقض العهد فيكم ؟

قالوا: شدید .

قال : فإنّي قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت .

فقالت اليهود : أما هذا فقد صباً .

وقال حذيفة: وأمّا أنا فقد رضيت بالله ربّاً، وبمحمد نبيّاً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً ، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخواناً .

ثم أتيا رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، وأخبراه ، فقال : أصبتما خيراً وأفلحتما ، فنزلت. (وَدَّ﴾ أي : تمنِّى (كَثِيرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) يعني : أحبارهم، كفنحاص ، وزيد بن قيس، وحييّ بن أخطب ،وكعب بن الأشرف وأمثالهم (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ﴾ أي : أن

ص: 211

يردّوكم يا معشر المؤمنين، أي: يرجعوكم ، فإنّ «لو» تنوب عن «أن» في المعنى وهو التوقع، دون اللفظ وهو العمل (مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً )مرتدّين ، وهو حال من ضمير المخاطبين وإنّما قال: «كثير» لأنّه إنّما آمن منهم القليل، كعبدالله بن سلام وكعب الأحبار .

(حَسَداً) علّة «ود» . وقوله : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ )يجوز أن يتعلّق ب«ودّ»، أي : تمنّوا ذلك من قبل أنفسهم وتشهّيهم ، لا من قبل التديّن والميل مع الحق ، لأنّهم ودوا ذلك ( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) أَي من بعد ما ظهر لهم أنكم على الحق بالمعجزات والنعوت المذكورة في التوراة ، فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق ؟ ! أو ب«حسداً»(1) أي : حسداً منبعثاً من أصل نفوسهم، فيكون على طريق التوكيد.

(فَاعفُوا واصْفَحُوا) العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح ترك تشريبه ، أي : فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عمّا يكون منهم من الجهل والعداوة (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) الذي هو الإذن في قتالهم، أو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير ، وإذلال من سواهم من اليهود بضرب الجزية عليهم.

حكي عن ابن عباس (2) أنه منسوخ بآية السيف (3). وفيه نظر ، إذ الأمر غير مطلق ؛ بل مقيّد بغاية .

(إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على الانتقام منهم.

ولمّا أمر سبحانه بالصفح عنهم حتى يأمرهم بالقتال، عقّبه بالأمر بالصلاة والزكاة، ليستعينوا بهما على ما شقّ عليهم من شدّة عداوة اليهود لهم، كما قال :

ص: 212


1- يعني : يجوز أن يتعلّق قوله تعالى : ( من عند أنفسهم) بقوله تعالى : (حسداً) .
2- حكاه عنه الشيخ في التبيان 1 : 407 .
3- التوبة : 5 ، 29 .

(وَاسْتَعِيْنُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ )(1) فقال : ( وَأَقِيْمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) عطفاً على «فاعفوا». فأمرهم بالصبر والمخالفة واللجأ إلى الله بالعبادة والبرّ .

(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) كصلاة أو صدقة وغيرهما من الطاعات (تَجِدُوهُ) أي: ثوابه (عِنْدَ اللهِ ). وفي هذا دلالة على أن ثواب الخيرات والطاعات لا يضيع ولا يُحبط ولا يبطل، لأنه إذا أحبط لا يجدونه . ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم لا يضيع عنده عمل عامل.

آية 111 - 112

وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانیِّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿111 » بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿112)

ثمّ حكى الله سبحانه نبذاً من أقوال اليهود والنصارى ودعاويهم الباطلة ، فقال عطفاً على قوله : ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُوداً أو نَصَارَى) المراد به: وقالت اليهود : لن يدخل الجنّة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فلفّ بين القولين ثقةً بأنّ السامع يردّ إلى كلّ فريق قوله ، وأمناً من الالتباس ، لما علم من الخلاف بين الفريقين، وتضليل كلّ واحد منهما لصاحبه. ونحوه قوله : ( وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى ) (2) .

والهود جمع الهائد كعائذ وعوذ بمعنى التائب. يقال: هاد يهود هوداً، إذا تاب ورجع إلى الحق. وتوحيد الاسم المضمر في «كان» وجمع الخبر لاعتبار اللفظ والمعنى .

ص: 213


1- البقرة : 45 .
2- البقرة : 135 .

(تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) إشارة إلى الأماني المذكورة، وهي : أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربّهم، وأن يردّوهم كفّاراً، وأن لا يدخل الجنة غيرهم ، أي : تلك الأماني الكاذبة أمانيهم . والجملة اعتراض والأمنيّة أفعولة من التمنّي، كالأضحوكة والأعجوبة.

(قُلْ هَاتُوا) هلموا أحضروا (بُرْهَانَكُمْ) حجّتكم البيّنة على اختصاصكم بدخول الجنّة (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم، فإنّ كلّ قول لا دليل عليه غير ثابت، بل باطل وليس هذا بأمر ، بل هو تعجيز وإنكار ، بمعنى أنّه إذا لم يمكنكم الإتيان ببرهان يصحح مقالتكم فاعلموا أنه باطل فاسد.

وفي هذه الآية دلالة على فساد التقليد ، ألا ترى أنّه لو جاز التقليد لما أمروا بأن يأتوا فيما قالوه ببرهان. وفيها أيضاً دلالة على جواز المحاجة في الدين.

(بَلَى) إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنّة (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ﴾ أخلص له نفسه بأن لا يشرك به غيره، أو قصده . وقيل : وجّه وجهه لطاعة الله . وقيل : فوّض أمره إلى الله . وقيل : استسلم لأمر الله ، وخضع وتواضع الله ، لأنّ أصل الإسلام الخضوع والانقياد . وأصله (1)العضو المخصوص ،المعلوم، تسميةً باسم أشرف أعضاء النفس (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ) الَّذِي وعد له على عمله (عِنْدَ رَبِّهِ) ثابتاً عنده لا يضيع ولا ينقص.

والجملة جواب «مَنْ» إن كانت شرطيّة، وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمّنها معنى الشرط ، فيكون الردّ بقوله: «بلى وحده. ويحسن الوقف عليه.

ويجوز أن يكون «مَنْ أسلم» فاعل فعل مقدّر ، مثل : بلى يدخلها من أسلم ،

ص: 214


1- يعني : وأصل التسليم والانقياد الخضوع الله تعالى بالوجه، وهو أشرف أعضاء النفس فسمّي تسليم النفس باسم أشرف أعضائها .

ويكون «فله أجره» معطوفاً على «يدخلها من أسلم».

(وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة .

آية 113

وَقَالَت الْيَهُودُ لَيسَت النّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَت النَّصَارَى لَيسَت اليهودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلَفُونَ ﴿113)

روي أنّ وفد نجران لما قدموا على رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أتاهم أحبار اليهود، فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت النصارى لهم نحوه، وكفروا بموسى والتوراة ، فنزلت: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ) أي: أمر يصح ويعتد به من الدِّينِ (وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) الواو للحال، والكتاب للجنس ، أي : قالوا ذلك وحالهم أنّهم من أهل العلم والكتاب والتلاوة.

(كَذَلِكَ) مثل ذلك الذي سمعت (قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) كعبدة الأصنام والمعطّلة مِثْلَ قَوْلِهِمْ هذا تفسير لقوله : «كَذَلِكَ» والمعنى: أنهم يقولون : كلّ أهل دين ليسوا على شيء. وبّخهم الله على المكابرة والتشبّه بالجهال ، ونظمهم أنفسهم في سلك من لا يعلم.

ولمّا قصد بهذا القول كلّ فريق إبطال دين الآخر من أصله، والكفر بنبيّه وكتابه، مع أنّ ما لم ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل به فلا يرد أنّهم صدقوا في هذا القول ، لأنّ كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء، فكيف وبخهم الله به ؟

(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بين الفريقين ( يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العقاب . وقيل : حكمه بينهم أن يكذِّبهم ويدخلهم النّار.

ص: 215

آية 114 - 115

«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)»

روي أنّ النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلّوا فيه، وأنّ الروم غزوا أهله فخربوه، وأحرقوا التوراة، وقتلوا وسبوا، وفي شأنهم نزلت : ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ ثاني مفعولي «منع»، تقول : منعته كذا. ومثله ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا ) (1). ويجوز أن يكون منصوباً بأنّه مفعول ،له بمعنى : منعها كراهة أن يذكر . وهو حكم عام في جنس مساجد الله ، وإن كان السبب خاصاً، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً: ومن أظلم ممّن آذى الصالحين.

(وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) بالهدم أو بتعطيل مكان مرشّح للصلاة، بمنع دخول المؤمنين فيها .

وروي عن الصادق (علیه السلام) أنّ المراد بذلك قريش حين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول مكة والمسجد الحرام وبه قال بعض (2) المفسّرين.

(أُوْلَئِكَ أي : المانعون ( مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخشوع، فضلاً عن أن يجترؤا على تخريبها. أو ما كان

ص: 216


1- الإسراء : 94 ، الكهف : 55 .
2- كابن زيد ، والبلخي ، والجبائي ، والرماني ، راجع التبيان 1 : 416 .

الحق أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلاً عن أن يمنعوهم منها أو ما كان لهم في علم الله تعالى وقضائه فيكون وعداً للمؤمنين بالنصرة واستخلاص المساجد منهم ، وقد أنجز وعده .

وقيل : معناه النهي عن تمكينهم من الدخول في مسجد من المساجد. وهو مذهب الإماميّة . فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن ينادي: ألا لا يحجّن بعد هذا العام - يعني : عام الحديبية - مشرك ، ولا يطوفنّ بالبيت عريان. وجوّزه أبو حنيفة ،ومنع مالك ، وفرّق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره. والحق الأوّل، لإجماع أهل الحق على المنع .

(لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) قتل وسبي ، أو ذلّة بضرب الجزية عليهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )في نار جهنم بكفرهم وظلمهم.

(وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) يريد بهما ناحيتى الأرض أي له الأرض كلّها لا يختص به مكان دون مكان، فإن مُنعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجداً (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا) ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) أي : جهته التي أمر بها ، فإنّ إمكان التولية لا يختص بمسجد أو مكان . أو فئم ذاته ، أي : عالم مطلع بما يفعل فيه .

(إنَّ اللهَ وَاسِعٌ) بإحاطته بالأشياء أو برحمته، يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم (عَلِيمٌ) بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها .

وقيل : نزلت في صلاة التطوّع على الراحلة للمسافر أينما توجهت، وأمّا الفرائض فقوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )(1). يعني : أنّ الفرائض لا تصلّيها إلا إلى القبلة. وهو المروي عنهم (علیهم السلام). قالوا: وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماء على راحلته أينما توجّهت، حيث خرج إلى خيبر ، وحين رجع من مكة، وجعل

ص: 217


1- البقرة : 144 و 150 .

الکعبة خلف ظهره .

قيل : في قوم عميت عليهم القبلة في السفر فصلّوا إلى أنحاء مختلفة، فلمّا أصبحوا تبينوا خطأهم. وعلى هذا لو أخطأ المجتهد ثمّ تبين له الخطأ لم يلزمه التدارك .

وقيل : هي توطئة لنسخ القبلة، وتنزيه للمعبود أن يكون في حيّز وجهة ، كما زعم المجسمة .

آية 116 - 117

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَديعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيكون ( 117)

روي أن اليهود قالوا: عزير ابن الله ، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله ، ومشركو العرب قالوا : الملائكة بنات الله ، فنزلت في شأنهم: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) معطوفاً على «قالت اليهود» أو «منع». وقرأ ابن عامر بغير واو ﴿سُبْحَانَهُ) تنزيه و تبعيد له عن ذلك ، فإنّه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء، فردّ الله تعالى لما قالوه، وبيّن فساده( بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ كُلُّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ منقادون، لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه، وكلّ ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكونه الواجب لذاته ، فلا يكون له ولد ، لأنّ من حق الولد أن يجانس والده.

وإنّما جاء ب«ما» الذي لغير أولي العلم ، وقال : «قانتون» على تغليب أولي لعلم، تحقيراً لشأنهم.

وتنوين «كلّ» عوض عن المضاف إليه ، أي : كلّ ما فيهما . ويجوز أن يراد: كلّ من جعلوه ولداً له مطيعون مقرون بالعبوديّة، فيكون إلزاماً بعد إقامة الحجة .

واحتج بها الفقهاء على أنّ من ملك ولده عتق عليه، لأنه تعالى نفي الولد

ص: 218

بإثبات الملك ، وذلك يقتضي تنافيهما .

فالآية مشعرة على فساد ما قالوه (1) من ثلاثة أوجه:

أحدها : قوله .«سُبْحَانَهُ».

والثاني : (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ)

والثالث : قوله : (كُلُّ لَهُ قَانِتُونَ )

ولمّا نزّه سبحانه نفسه عن اتخاذ الأولاد، ودلّ عليه بأنّ له ما في السموات والأرض، أكد ذلك بحجّة رابعة وقال : ( بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) من إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها أي بديع سماواته وأرضه، من «بدع» فهو بديع. وقيل: هو بمعنى المبدع ، كما يجيء السميع بمعنى المسمع ، أي : منشيء السّماوات والأرض من غير سبق مثال .

وتقرير هذه الحجّة أنّ الوالد عنصر الولد المنفصل بانفصال مادته عنه ، . والله سبحانه مبدع الأشياء كلّها، فاعل على الإطلاق، منزه عن الانفعال، فلا يكون والداً.

والإبداع اختراع الشيء لا عن شيء دفعة. وهو أليق بهذا الموضع من الصنع الذي هو تركيب الصورة بالعنصر، والتكوين الذي يكون بتغيير وفي زمان غالباً.

(وَإِذَا قَضَى أَمْراً) :أي: أراد شيئاً. وأصل القضاء إتمام الشيء قولاً ، كقوله : (وَقَضَى رَبُّكَ )(2)، أو فعلاً كقوله : (فَقَضُهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ) (3). وأطلق على تعلّق الإرادة الإلهيّة بوجود الشيء من حيث إنّه يوجبه . ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) مِن «كان» التامة ، أي : أحدث فيحدث. وليس المراد به حقيقة أمر وامتثال ، بل تمثيل

ص: 219


1- أي : ما قالوه من اتخاذ الولد .
2- الإسراء : 23 .
3- فصّلت : 12 .

حصول ما تعلّقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقّف.

فالمعنى: أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، كالمأمور المطيع إذا أمر لا يتوقف. أكد بهذا استبعاد الولادة، لأنّ من كانت هذه صفته في كمال القدرة فحاله مبائنة لحال الأجسام في توالدها. ففيه تقرير لمعنى الإبداع ، وإيماء إلى حجّة خامسة ، وهي : أن اتخاذ الولد ممّا يكون بأطوار ومهلة ، وفعله تعالى يستغني عن ذلك .

وقرأ ابن عامر بالنصب على «أن المقدّر ، والباقون بالرفع على تقدير : فهو يكون .

والسبب في الضلالة أنّ أرباب الشرائع المتقدّمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى باعتبار أنه السبب الأوّل ، حتى قالوا : إنّ الأب هو الربّ الأصغر ، والله سبحانه وتعالى هو الربّ الأكبر ، ثمّ ظنّت الجهلة منهم أنّ المراد به معنى الولادة، فاعتقدوا ذلك تقليداً ، ولذلك كفر قائله ، ومنع منه مطلقاً، حسماً لمادة الفساد.

آية 118 - 121

«وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)»

ص: 220

ولمّا بين سبحانه حالهم في إنكارهم التوحيد، وإذعانهم عليه اتخاذ الأولاد، عقّبه بذكر خلافهم في النبوّات، وسلوكهم في ذلك طريق التعنّت والعناد، فقال: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) أي : جهلة المشركين . قيل : المتجاهلون من أهل الكتاب. ونفى العلم عنهم ، لأنهم لم يعملوا به، فكأنّهم لا يعلمون (لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ) هلا يكلمنا كما يكلّم الملائكة وكلّم موسى ؟ أو يوحي إلينا بأنك رسوله أوْ (تَأْتِينَا آيَةً) حجّة على صدقك . والأوّل استكبار، والثاني جحود أنّ ما آتاهم آيات الله ، استهانة به وعناداً.

(كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) حيث اقترحوا الآيات على موسى وعيسى فقالوا : أرنا الله جهرة، هل يستطيع ربّك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ ( تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد كقوله : (أَتَوَاصَوْا بِهِ) (1).

(قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ) يعني الحجج والمعجزات التي يعلم بها صحة نبوّة محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي : يستدلون بها من الوجه الذي يجب الاستدلال ،به فأيقنوا أنّها آيات يجب الاعتراف بها، والاكتفاء بوجودها عن غيرها . أو يوقنون الحقائق ، لا يعتريهم شبهة ولا عناد وفيه إشارة إلى أنهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات، أو لطلب مزيد يقين، وإنما قالوه عتوّاً وعناداً.

ثمّ بيّن تأييده نبيه محمداً بالحجج، وبعثه بالحق ، فقال : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ) متلبساً به، أو مؤيّداً به (بشيراً) من اتبعك بالثواب الأبدي (وَنَذِيراً) من خالفك بالعقاب السرمدي ، فلا بأس عليك إن أصروا وكابروا، ولا يجب عليك أن تجبرهم على الإيمان. وفي هذه تسلية له (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، لئلا يضيق صدره بإصرارهم على الكفر .

ص: 221


1- الذاريات : 53 .

(وَلَا تُسْأَلُ) أي : لا نسألك (عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغت وبذلت جهدك في دعوتهم ، كقوله : ( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (1).

وقرأ نافع ويعقوب: لا تسأل على أنه نهي عن السؤال عن حالهم، تعظيماً العقوبة الكفّار ، كأنّها لفظاعتها لا تقدر أن تخبر عنها ، أو السامع لا يصبر على استماع خبرها ، بل يجزع غاية الجزع ، فنهاه عن السؤال والجحيم : المتأجج من النار.

وكأن اليهود قالوا: لن نرضى عنك وإن طلبت رضانا جهدك حتى تتّبع ملتنا، فحكى الله كلامهم بقوله: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) مبالغة في إقناط الرسول عليه الصلاة والسلام عن إسلامهم، فإنّهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم فكيف يتبعون ملّته ؟! (قُلْ) جواباً لهم عن قولهم (إِنَّ هُدَى اللَّهِ) يعني : إنّ هدى الله الذي هو الإسلام (هُوَ الهُدَى) إلى الحق، وهو الذي يصح أن يسمّى هدى، لا ما تدعون إليه .

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ) أي : آراء هم الزائغة والبدع المضلة. والفرق بين الملّة والهوى : أنّ الملّة ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه ، من «أمللت الكتاب» إذا أمليته، والهوى رأي يتبع الشهوة يعني: لو اتبعت شهواتهم المردية ﴿ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي الوحي، أو الدين المعلوم صحته بالدلائل والبراهين ﴿ مَالَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) يدفع عنك عقابه. وهو جواب «لئن». وهذا على سبيل الفرض، لأنه تعالى علم أنّ نبيه لا يتبع أهواءهم، فجرى مجرى قوله : لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾(2).

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) يريد : مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام ،

ص: 222


1- الرعد : 40 .
2- الزمر : 65 .

وشعبة بن عمرو، وتمام بن يهودا، وأسد وأسيد ابني كعب ، وابن يامين ، وابن صوريا، ونظرائهم يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ بمراعاة اللفظ عن تحريف صفة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وحكم الرجم وغيرهما، والتدبّر في معناه، والعمل بمقتضاه. وهو حال مقدّرة، والخبر ما بعده، أو خبر . وعن قتادة وعكرمة : المراد أصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، والكتاب هو القرآن.

عن الصادق (علیه السلام) : «حق تلاوته» هو الوقف عند ذكر الجنة والنار، يسأل في الأولى، ويستعيذ في الأخرى.

(أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) بكتابهم دون المحترفين، أو أولئك يؤمنون بالقرآن (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ﴾ أي : لأجل تحريفه والكفر بما يصدقه، أو لم يؤمن بالقرآن (فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

آية 122 - 123

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلَتُكُمْ عَلَى الْعَالَمينَ ﴿122﴾ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْس عَن نَفْس شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ولا تنفعُهَا شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿123)

ولمّا صدّر قصتهم بالأمر بذكر النعم، والقيام بحقوقها ، والحذر عن إضاعتها، والخوف عن الساعة وأهوالها ، ختم به الكلام أيضاً ، إبلاغاً في التنبيه والاحتجاج وتأكيداً للتذكرة ، ومبالغة في النصيحة ، وقال : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ) . فتكرار هذا الكلام يكون لمزيّة التنبيه، ومبالغة للتذكير. وتفسيره كما مضى.

ص: 223

آية 124

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَنتَهنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَاماً قال وَمِن ذريَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴿124)

وبعد ذكر قصة أهل الكتاب بين ملة إبراهيم على نبينا وعليه السلام وخصاله الحميدة، وخلاله المرضيّة، ليتأسوا به في الإسلام وقواعده، فإنّهم كانوا يعتقدون به ويعظمونه ، فقال : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ )كلّفه بأوامر ونواهي، والابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء، لكنّه لمّا استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظنّ ترادفهما . والضمير لإبراهيم، وحسن لتقدّمه لفظاً وإن تأخّر رتبة ، لأن الشرط أحد التقدّمين.

والكلمات قد تطلق على المعاني، فلذلك فسّرت بالخصال الثلاثين المحمودة : عشر في براءة (التَّائِبُونَ العَابِدُونَ ) (1) وعشر في الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ) (2) إلى آخر الآيتين، وعشر في المؤمنين(3)، و (وَسَأَلَ سَائِلُ ﴾ (4) إلى قوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) .

وبالعشر (5) الّتي هي من سننه خمس في الرأس : الفرق، وقص الشارب والسواك والمضمضة والاستنشاق. وخمس في البدن: الختان، والاستحداد (6)، والاستنجاء، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط . وبمناسك (7) الحج، وبالكواكب،

ص: 224


1- التوبة : 112 .
2- الأحزاب : 35 .
3- المؤمنون : 1 - 10 .
4- أي : في السورة التي فيها (سأل سائل) وهي سورة المعارج : 22 - 34 .
5- أي : وفسّرت الكلمات أيضاً بالعشر التي ...
6- في هامش الخطّية : المراد به حلق العانة . منه»
7- عطف على : وبالعشر ، أي : وفسرت الكلمات بمناسك ...

والقمرين ، وذبح الولد والنار ، والهجرة(1).

فالله سبحانه عامله بها معاملة المختبر بهنّ ليظهر حاله على العالمين، ويقتدوا به وبما تضمنته الآيات التي بعدها، وبجميع الأخلاق الحسنة . (فَاتَمَّهُنَّ) أي : فقام بهنّ حق القيام ، وأدّاهنّ حق التأدية، من غير تقصير وتوان، لقوله تعالى: (وَإبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (2).

روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه في كتاب النبوة بإسناده مرفوعاً إلى المفضّل بن عمر ، عن الصادق (علیه السّلام)، قال : سألته عن قول الله : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) ما هذه الكلمات ؟

قال : هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربِّه فتاب عليه، وهي أنه قال: يا ربّ أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت عليّ، فتاب الله عليه، إنّه هو التواب الرحيم .

فقلت له : يابن رسول الله فما يعني بقوله : «فَأَتَمَّهُنَّ»؟

قال : أتمّهنّ إلى القائم اثني عشر إماماً، تسعة من ولد الحسين (علیه السّلام).

قال المفضّل : فقلت له : يابن رسول الله فأخبرني عن قول الله (عزّ وجلّ) (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (3)؟

قال : يعني بذلك الإمامة ، جعلها الله في عقب الحسين إلى يوم القيامة .

فقلت: يابن رسول الله فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن، وهما جميعاً ولدا رسول الله وسبطاه وسيدا شباب أهل الجنّة.

فقال : إنّ موسى وهارون نبيّان مرسلان أخوان، فجعل الله النبوّة في صلب

ص: 225


1- في هامش الخطّية: «أي : من الكوفة إلى الشام . منه» .
2- النجم : 37 .
3- الزخرف : 28 .

هارون دون صلب موسى، ولم يكن لأحد أن يقول : لِمَ فعل الله ذلك ، وإنّ الإمامة خلافة الله ، ليس لأحد أن يقول : لم جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن ، لأنّ الله تعالى هو الحكيم في أفعاله ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

(قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) استئناف إن أضمرت ناصب «إذ»، وهو «اذكر» مثلاً ، كأنه قيل : فماذا قال له ربِّه حين أتمهنّ ؟ فأجيب بذلك . أو بيان لقوله : ابتلی» فتكون الكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والإسلام. وإن نصبته ب«قال» فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها . وجاعل من (جعل) الذي له مفعولان والإمام اسم لمن يؤتم به على زنة الإله، كالإزار لما يؤتزر به، أي : يأتمّون بك في دينهم ، وإمامته عامة ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذرّيّته مأموراً باتباعه .

وقوله : (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) عطف على الكاف ، كأنه قال : وجاعل بعض ذرّيّتي ، كما يقال لك : سأكرمك، فتقول : وزيداً. والذرّيّة نسل الرجل، فُعْلِيَّة أو فُقُولة ، قلبت راؤها الثالثة ياءً، كما «تَقَضيتُ» في «تَقَضَّضْتُ»، من الذرّ بمعنى التفريق . أو فُقُولة أو فعيلة، قلبت همزتها ياء، من الذرء بمعنى الخلق.

والمعنى : قال إبراهيم بعد أن جعله الله إماماً للناس ليأتمّوا به في دينهم ويفوزوا بخير الدارين بتدبيره، وتنتظم أمورهم بسياسته : اجعل يا رب بعض ذريتي إماماً .

(قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) :أي: من كان ظالماً من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة ، وإنّما يناله من لا يفعل ظلماً. فهذا الجواب إجابة إلى ملتمسه، وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة لنفسهم أو لغيرهم، وأنهم لا ينالون الإمامة، لأنّها أمانة من الله تعالى وعهد والظالم لا يصلح لها، وإنّما ينالها البررة الأتقياء منهم.

ص: 226

وقال في الكشّاف : «وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماماً قطّ ، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ؟! والإمام إنّما هو لكفّ الظلمة ، فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم» (1) انتهى كلامه.

ففيه دليل على وجوب العصمة للإمام، سواء كان نبيّاً أو من استخلفه للإمامة، قبل البعثة والنصب أو بعدهما . فالفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح للإمامة من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا تجب إطاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدّم للصلاة، وعلى جميع أهل الاسلام يجب أن ينهوه عمّا صدر منه من الأمور المستقبحة شرعاً وعقلاً ، ويتنفّروا ويكرهوا عن أفعاله القبيحة ؟! وعلى (2) أنه يجوز أن يعطي ذلك بعض ولده إذا لم يكن ظالماً ، لأنه لولم يرد أن يجعل أحداً منهم إماماً للناس لوجب أن يقال في الجواب : لا ، أو : لا ينال عهدي ذرّيّتك .

وقال صاحب المجمع : «استدلّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإمام لا يكون إلا معصوماً عن القبائح، لأنّ الله سبحانه نفى أن ينال عهده - الذي هو الإمامة - ظالم ، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً، إما لنفسه وإما لغيره .

فإن قيل : إنّما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه، فإذا تاب لا يسمّى ظالماً ، فيصحّ أن يناله.

فالجواب : أنّ الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالماً ، فإذا نفى أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها، والآية مطلقة غير مقيّدة بوقت دون وقت فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلّها، فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد» (3).

ص: 227


1- الكشّاف 1 : 184 .
2- عطف على : ففيه دليل ، أي : وفيه أيضاً دليل على جواز إعطاء الإمامة لمن لم يكن ظالماً من ولده .
3- مجمع البيان 1 : 202 .

آية 125

وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿125)

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ ):أي: الكعبة، غلب عليها كالنجم على الثريا (مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) مرجع يثاب ، أي : يرجع إليه كلّ عام، أي: يثوب إليه الحجّاج والعمار. أو موضع ثواب يثابون بحجّه واعتماره (وَأَمْنا ) أي : وموضع أمن لا يتعرّض لأهله، كقوله : (حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (1). أو يأمن حاجه من عذاب الآخرة ، من حيث إنّ الحجّ يجب ما قبله ، أو لا يتعرّض ولا يؤخذ الجاني الملتجىء إليه حتى يخرج، لكن يضيّق عليه في المطعم والمشرب والبيع والشراء حتى يخرج منه فيقام عليه ، فإن أحدث فيه ما يوجب الحدّ أقيم عليه الحدّ فيه، لأنه هتك حرمة الحرم. وكان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له، وهذا شيء كانوا قد توارثوه من دين إسماعيل ، فبقوا عليه إلى أيام نبيّنا (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

وقوله : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى) على إرادة القول أي وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه. أو اعتراض معطوف على مضمر، تقديره : ثوبوا إليه واتخذوا على أنّ الخطاب لأمّة محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) .

ومقام إبراهيم هو الموضع الذي كان فيه الحجر الذي فيه أثر قدمه حين قام عليه ودعا الناس إلى الحجّ ، أو وضع قدمه عليه قبل بناء البيت، فظهر أثر قدمه فيه . وهو الأصح ، كما سيجيء تفصيله. فأمر بالصلاة عنده بعد الطواف كما روى جابر أنّه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين .

ص: 228


1- العنكبوت : 67 .

وقرأ نافع وابن عامر: واتَّخَذوا بلفظ الماضي، عطفاً على «جعلنا» أي: واتخذ الناس المقام الموسوم بإبراهيم موضع الصلاة ومن قرأ «واتَّخِذوا» على الأمر وقف على قوله : ( وأمناً». ومن قرأ : «اتّخذوا» على الخبر لم يقف ، لأن قوله : «واتّخذوا» عطف على «جعلنا».

وسئل الصادق (علیه السّلام) عن الرجل يطوف بالبيت طواف الفريضة، ونسي أن يصلي ركعتين عند مقام إبراهيم (علیه السّلام)؟ فقال : يصلّيهما ولو بعد أيام ، إنّ الله تعالى قال : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَام إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى) .

وفي المقام دلالة ظاهرة على نبوّة إبراهيم، فإنّ الله تعالى جعل الحجر تحت قدمه كالطين، حتى دخلت قدمه فيه، فكان في ذلك معجزة له.

وروي عن أبي جعفر الباقر (علیه السّلام) قال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة : مقام إبراهيم، وحجر بني إسرائيل، والحجر الأسود، واستودعه الله إبراهيم (علیه السّلام) حجراً أبيض ، وكان أشد بياضاً من القرطاس، فاسود من خطايا بني آدم .

وبرواية عبدالله بن عمر عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)قال : الركن والمقام ياقوتنان من ياقوت الجنّة ، طمس الله نورهما، ولولا أنّ نورهما طمس لأضاءا ما بين المشرق

والمغرب.

عن ابن عبّاس قال : لمّا أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر فوضعهما بمكة وأتت على ذلك مدّة، ونزلها الجرهميون ، وتزوّج إسماعيل امرأة منهم، وماتت هاجر ، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر ، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم (علیه السّلام) وقد ماتت هاجر ، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته أين صاحبك ؟

قالت : ليس هنا ذهب يتصيّد. وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد ثمّ يرجع .

ص: 229

فقال لها :إبراهيم : هل عندك ضيافة ؟

قالت : ليس عندي شيء، وما عندي أحد.

فقال لها إبراهيم (علیه السّلام) : إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي فليغيّر عتبة بابه .

وذهب إبراهيم (علیه السّلام)، فجاء إسماعيل (علیه السّلام) ووجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟

قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا، كالمستخفّة بشأنه.

قال : فما قال لك ؟

قالت : قال لي : اقرئي زوجك السلام وقولي فليغيّر عتبة بابه فطلقها وتزوّج أخرى.

فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته : أين صاحبك ؟

قالت : ذهب يتصيّد، وهو يجيء الآن إن شاء الله ، فانزل يرحمك الله .

قال لها : هل عندك ضيافة ؟

قالت : نعم ، فجاءت باللبن واللحم ، فدعا لهما بالبركة ، فلو جاءت بخبز أو بُر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله بُراً وشعيراً وتمراً.

فقالت : انزل حتى أغسل رأسك ، فلم ينزل، فجاءت بالمقام، فوضعته على شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه، فبقي أثر قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الأيمن، تمّ حوّلت المقام إلى شقه الأيسر، فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدمه عليه ، فقال لها : إذا جاءك زوجك فاقرئيه السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك .

ص: 230

فلمّا جاء إسماعيل (علیه السّلام)وجد ريح أبيه فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟

قالت : نعم، شيخ أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم ريحاً ، فقال لي كذا وكذا، وقلت له كذا وكذا ، وغسلت رأسه ، وهذا موضع قدميه على المقام .

قال إسماعيل لها: ذاك إبراهيم (علیه السّلام).

وقد روى هذه القصة عليّ بن إبراهيم (1) ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان ، عن الصادق (علیه السّلام)، وقال في آخرها: «إذا جاء زوجك فقولي له : قد جاء هاهنا شيخ وهو يوصيك بعتبة بابك خيراً ، قال فأكبّ إسماعيل على المقام يبكي ويقبّله.

(وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيْلَ) أمرناهما وألزمناهما (أن طَهِّرَا بَيْتِي) بأن طهرا. ويجوز أن تكون مفسّرة ، بمعنى «أي» التفسيرية ، لتضمّن العهد معنى القول. يريد : طهراه من الأوثان التي كان المشركون يعلّقونها على باب البيت والأنجاس وسائر الخبائث ، كالفرث والدّم الّذي كان يطرحه المشركون عند البيت قبل أن يصير في يد إبراهيم وإسماعيل . وأضاف البيت إلى نفسه تفضيلاً له على سائر البقاع. أو أخلصاه.

(لِلطَّائِفِينَ﴾ أي : الدائرين حوله (وَالْعَاكِفِينَ) المجاورين له المقيمين بحضرته لا يبرحون ( وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) أي : المصلين. جمعراكع وساجد، لأنّ الركوع والسجود من أركان الصلاة وهيئاتها، فتسميتها بأشرف أفعالها .

روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): أن الله في كلّ يوم وليلة مائة وعشرين رحمة تنزل السماء على هذا البيت، ستّون منها للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين.

ص: 231


1- لم نجده في تفسير القمي ، بل أورده في مجمع البيان 1: 381.

آية 126

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمَنَا وَارْزُقُ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَات مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئسَ الْمَصِيرُ ( 126)

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا) أي: هذا البلد، أو المكان، يعني: مكة (بَلَداً آمناً) ذا أمن ، كقوله تعالى : ( فِي عِيْشَةٍ رَاضِيَةٍ ) (1) أي : ذات رضى أو آمناً من فيه ، كقولك : ليل نائم .

قيل : إنّ الحرم كان آمناً قبل دعوة إبراهيم، وإنما تأكّدت حرمته بدعائه.

ويحتمل أن يكون معناه : ربّ اجعل أمنيّة هذا البلد ثابتة دائمة إلى يوم القيامة .

وقيل : إنّما صار حرماً آمناً بدعائه ، وقبل ذلك كان كسائر البلاد.

ويؤيّد الأوّل قول النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يوم فتح مكة : إن الله تعالى حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحلّ لأحد من بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار .

روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم (2)، عن أبيه ، عن النضر بن سويد، عن هشام، عن الصادق (علیه السّلام)قال: «إنّ إبراهيم (علیه السّلام)كان نازلاً في بادية الشام، فلما ولد إسماعيل من هاجر اغتمّت سارة من تلك غمّاً شديداً، لأنه لم يكن له منها ولد، وكانتتؤذي إبراهيم في هاجر وتغمّه ؛ فشكا ذلك إبراهيم إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه : إنما مثل المرأة مثل الضّلع المعوجّ، إن تركته استمتعت به، وإن رمت أن تقيمه كسرته . وقد قال القائل في ذلك .

ص: 232


1- الحاقة : 21 ، القارعة : 7 .
2- تفسير القمي 1 : 60 .

هي الضَّلَعُ المَوْجَاء لَستَ تُقيمها *** ألا إن تقويم الضلوع انكسارها (1)

ثم أمره أن يخرج إسماعيل وأمّه عنها فقال: أي ربِّ إلى أي مكان ؟ قال : إلى حرمي وأمني، وأوّل بقعة خلقتها من أرضي، وهي مكّة. وأنزل عليه جبرئيل بالبراق ، فحمل هاجر وإسماعيل وإبراهيم . فكان إبراهيم (علیه السّلام) لا يمرّ بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلا قال : يا جبرئيل إلى هاهنا إلى هاهنا فيقول جبرئيل : لا إمض إمض، حتى وافى مكة، فوضعه في موضع البيت، وقد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع عليها .

فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر ، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساءً كان معها، فاستظلّت تحته ، فلمّا سرّحهم إبراهيم ووضعهم وأراد الانصراف سرحهم عنهم إلى سارة قالت له هاجر : لِمَ تدعنا في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟

فقال إبراهيم (علیه السّلام): ربي أمرني أن أضعكم في هذا المكان، ثم انصرف عنهم.

فلمّا بلغ كداء، وهو جبل بذي طوى التفت إليهم إبراهيم (علیه السّلام)فقال : (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ إِلى قوله : (يَشْكُرُونَ) (2)، ثم مضى وبقيت هاجر.

فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل، فقامت هاجر في الوادي حتى صارت إلى موضع المسعى فنادت : هل في الوادي من أنيس ؟ فغاب عنها إسماعيل ، فصعدت على الصفا، ولمع لها السراب في الوادي وظنت أنّه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت، فلما بلغت المسعى غاب عنها إسماعيل، ثم لمع لها السّراب في ناحية

ص: 233


1- لم يرد هذا البيت في المصدر ، وإنما استشهد به الطبرسي في مجمع البيان 1 : 208 . وهو لحاجب بن ذبيان استشهد به ابن منظور في لسان العرب 8: 226 .
2- إبراهيم : 37 .

الصفا، وهبطت إلى الوادي تطلب الماء. فلمّا غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا، فنظرت إلى إسماعيل، حتى فعلت ذلك سبع مرات. فلمّا كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه ، فعادت حتى جمعت حوله رملاً ، وإنّه كان سائلاً فزمته (1) بما جعلته حوله ، فلذلك سمیت زمزم .

وكانت جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات، فلمّا ظهر الماء بمكّة عكفت الطير والوحوش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكّف الطير على ذلك المكان، فأتبعوها حتى نظروا إلى امرأة وصبي نزلوا في ذلك الموضع قد استظلوا بشجرة، قد ظهر لهم الماء ، فقال لها جُرهُم : من أنتِ وشأنك وشأن هذا الصبي ؟

قالت : أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن (علیه السّلام) وهذا ابنه أمره الله أن ينزلنا هاهنا .

فقالوا لها : أتأذنين أن نكون بالقرب منكم ؟

قالت : حتى أسأل إبراهيم (علیه السّلام) .

قال: [إنّ الأرض قد طويت له] (2) فزارهما إبراهيم يوم الثالث، فقالت له هاجر : يا خليل الله إنّ هاهنا قوماً من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منا أفتأذن لهم ؟

فقال إبراهيم : نعم فأذنت هاجر لجرهم، فنزلوا بالقرب منهم وضربوا خيامهم، وأنست هاجر وإسماعيل بهم .

فلمّا زارهم إبراهيم في المرّة الثانية ونظر إلى كثرة الناس حولهم سرّ بذلك

ص: 234


1- زَمَّ الشيءَ يَزُمُّهُ : شدّه . وزمّ القربة ملأها . وزَمْزَمْتُهُ زَمْزَمَةً : إذا جمعته ورددت أطراف ما انتشر منه . انظر لسان العرب 12: 272 و 275 .
2- كذا في النسخة الخطية ، ولم ترد في المصدر.

سروراً شديداً. وكانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كلّ واحد منهم شاة وشاتين، وكانت هاجر وإسماعيل يعيشان بها .

فلما بلغ مبلغ الرجال أمر الله تعالى إبراهيم أن يبني البيت . فقال : يا ربّ في أيّ بقعة ؟

قال : في البقعة التي أنزلت على آدم القبة ، فأضاءت الحرم.

قال: ولم تزل القبة التي أنزلها الله تعالى على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان في زمن نوح، فلمّا غرقت الدنيا رفع الله تلك القبة ، وغرقت الدنيا ولم تغرق مكة، فسمّي البيت العتيق، لأنه أعتق من الغرق.

فلما أمر الله إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه ، فبعث الله جبرئيل (علیه السّلام)، فخطّ له ، فخط له موضع البيت، وأنزل عليه القواعد من الجنّة. وكان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشد بياضاً من الثلج ، فلما لمسته أيدي الكفّار اسود.

قال : فبنى إبراهيم البيت ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى، فرفعه إلى السماء تسعة أذرع ، ثم دله على موضع الحجر، فاستخرجه إبراهيم ووضعه في موضعه الذي هو فيه . وجعل له بابين باباً إلى المشرق وباباً إلى المغرب، فالباب الّذي إلى المغرب يسمى المستجار . ثمّ ألقى عليه الشيح (1) والإذخر ، وعلّقت هاجر على بابه كساءً كان معها ، وكانوا يكونون (2) تحته .

فلمّا بناه وفرغ حجّ إبراهيم وإسماعيل ، ونزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان خلت من ذي الحجّة ، فقال : يا إبراهيم قم فارتَوِ من الماء، لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء، فسمّيت التروية لذلك . ثمّ أخرجه إلى منى فبات بها، ففعل به ما فعل

ص: 235


1- في المصدر : الشجر . والشّيحُ : نبات سهلي ، له رائحة طيبة . والإِذْخِرُ : حشيش طيب الرائحة السان العرب 502:2 ، و 303:4).
2- في المصدر : يكنون ، من كنّ إذا استتر ، أي : يستظلون تحته .

بآدم .

فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِنا ) (1) ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ) أنواع (الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الْآخِر) أبدل «من آمن» من «أهله» بدل البعض للتخصيص يعني : وارزق المؤمنين منهم خاصّة .

(قَالَ وَمَن كَفَر)َ عطف على «مَن آمن»، كما أن قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) (2) عطف على الكاف في «جَاعِلُكَ ». أي : وارزق من كفر . والمعنى: أنّ الله تعالى قال : قد استجبت دعوتك فيمن آمن منهم ومن كفر .

وإنّما خص إبراهيم(علیه السّلام) المؤمنين بالدعاء حتى قال سبحانه: «وَمَنْ كَفَرَ»، لأنّ الله كان أعلمه أنه يكون في ذرّيّته ظالمون بقوله: ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِيْنَ ﴾ (3) ، فاقتصر طلب الرزق على المؤمنين قياساً على ما سبق، فعرفه الفرق بين الرزق والإمامة ، لأنّ الاستخلاف استرعاء يختصّ بمن لا يقع منه الظلم ، بخلاف الرزق ،فإنّه قد يكون استدراجاً للمرزوق، وإلزاماً للحجة .

ويجوز أن يكون وَمَنْ كَفَرَ» مبتداً تضمّن معنى الشرط ، وقوله : (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) خبره . والكفر وإن لم يكن سبب التمتيع لكنّه سبب تقليله ،بأن يجعله مقصوراً بحظوظ الدنيا غير متوسّل به إلى نيل الثواب، ولذلك عطف عليه قوله : (ثُمَّ اضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) أي : ألزّه(4) لزّ المضطرّ الذي لا يملك الامتناع ممّا أضطره إليه ، وذلك لكفره و تضييعه ما متّعته به من النعم.

ص: 236


1- تفسير القمي : 60/1 - 62 .
2- البقرة : 124 .
3- البقرة : 124 .
4- في هامش الخطية : «لزَّه يلزّه إذا شدّه وألصقه . منه» . وفي لسان العرب (5 : 404) : لَنَّ الشيء بالشيء يَلُزُّه : ألزمه إيَّاه .

و «قليلاً» نصب على المصدر، أي: تمتيعاً قليلاً، أو على الظرف أي في زمان قليل، وهو الحياة الدنيا . وقرأ ابن عامر : فأُمتِعُه ، من أمتع بمعنى متّع .

(وبِئْسَ المَصِيرُ) المخصوص بالذم محذوف، وهو العذاب.

آية 127 - 129

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلُ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) ربَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَةٌ مُسْد مُسْلِمَةً لكَ وَأَرَنَا مَنَاسَكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿128) رَبَّنَا وَابْعَتْ فيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أنتَ العَزِيزُ الحكيم ( 129)

﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ) مِنَ الْبَيْتِ حكاية حال ماضية والقواعد جمع القاعدة ، وهيالأساس لما فوقه. وهي صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات ، ولعلّه مجاز من المقابل للقيام ومنه : قَعْدَكَ اللهَ (1). ورفعُ القواعد : البناء عليها ، لأنها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، أي: ارتفعت وتطاولت .ويجوز أن يكون المراد بها سافات (2) البناء، لأنّ كلّ ساف قاعدة لما یبني عليه ويوضع فوقه. وفي إبهام القواعد وتبيينها تفخيم شأنها ، ولهذا لم يقل : قواعد البيت .

(وَإِسْمَاعِيلُ) قيل : كان يناوله الحجارة وإبراهيم يبني ولكنّه لمّا كان له مدخل في البناء عطف عليه . وقيل : كانا يبنيان في طرفين، أو على التناوب.

ص: 237


1- أي : نشدتك الله . (لسان العرب 3: 363) .
2- السَّافُ في البناء : كلّ صفٌ من اللبن أو الطين . (لسان العرب 9 : 166) .

والأوّل أصحّ عندنا .

وقال في الكشّاف: «روي أنّ الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنّة، له بابان من زمرد شرقي و غربي ، وقال لآدم (علیه السّلام): أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي . فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشياً، وتلقته الملائكة فقالوا بَرّحجّك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وحجّ آدم أربعين حجّة من أرض الهند إلى مكة على رجليه ، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيّام الطوفان إلى السماء ،الرابعة، فهو البيت المعمور. ثمّ إنّ الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه، وعرّفه جبرئيل مكانه .

وقيل : بعث الله سحابة أظلّته ، ونودي : أن ابن على ظلّها، لا تزد ولا تنقص .

وقيل : بناه من خمسة أجبل طور سيناء، وطور زيتا ولبنان والجودي واسّسه من حراء، وجاء جبرئيل بالحجر الأسود من السماء.

وقيل : تمخّض (1) أبو قبيس فانشق عنه ، وقد خبىء فيه في أيام الطوفان وكان ياقوتة بيضاء من الجنّة ، فلمّا لمسته الحُيَّض في الجاهليّة اسود»(2).

وفي كتاب العيّاشي بإسناده عن الصادق (علیه السّلام) قال: «إنّ الله أنزل الحجر الأسود من الجنّة لآدم وكان البيت درّة بيضاء فرفعه الله إلى السماء وبقي أساسه، فهو حيال هذا البيت . وقال : يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ، لايرجعون إليه أبداً، فأمر الله سبحانه إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت على القواعد» (3).

ص: 238


1- أي : تحرّك جبل أبي قبيس.
2- الكشّاف 1 : 187 .
3- تفسير العياشي 1 : 60 ح 98 .

وعن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «أول شيء نزل من السماء إلى الأرض لهو البيت الذي بمكة ، أنزله الله ياقوتة حمراء ، ففسق قوم نوح في الأرض ، فرفعه» (1).

روي عن الباقر(علیه السّلام) : أن إسماعيل أوّل من شقّ لسانه بالعربية، وكان أبوه يقول له وهما يبنيان البيت : يا إسماعيل هابي ابن، أي: أعطني حجراً فيقول له إسماعيل بالعربية : يا أبة هاك حجراً، فإبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة.

(رَبَّنَا) أي يقولان : ربّنا . وهذا الفعل المقدّر في محلّ النصب على الحال، أي : حال كونهما يقولان : (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) وفيه دلالة على أنّهما بنيا الكعبة مسجداً لا سكناً، لأنهما طلبا من الله القبول الذي معناه الإثابة، والثواب إنما يطلب على الطاعات. (إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ ) لدعائنا (العَلِيمُ) بنياتنا .

(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَينِ لَكَ ) أي : مخلصين لك من أسلم وجهه الله ، أو مستسلمين لك خاضعين منقادين. والمراد طلب الزيادة في الإخلاص أو الخضوع أو الثبات عليه أي زدنا إخلاصاً أو خضوعاً وإذعاناً لك أو ثباتاً عليه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا) أي: اجعل بعض ذرّيّتنا (أمَّةٌ مُسْلِمَةٌ لَكَ) . ويجوز أن تكون «من» للتبيين ، كقوله: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) (2) قدّم على المبيّن (3).

وإنّما خصّا الذرّيّة بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة، ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ، ألا ترى أنّ المقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على

ص: 239


1- تفسير العياشي 1 : 60 ح 100 .
2- النور : 55 .
3- وهو قوله تعالى: «أمّة مسلمة لك»، والتقدير : واجعل أمّة مسلمة لك من ذرّيّتنا، كما أن التقدير في قوله تعالى (في سورة الطلاق : 12): (خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ) : سبع سماوات ومثلهنّ من الأرض.

السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم ؟! وخصّا بعضهم لما أُعلما أنّ في ذرّيّتهما ظلمة . وقيل : أراد بالأمة أمة محمّد (صلّی الله علیه و آله و سلّم). وروي عن الصادق (علیه السّلام) : أنه أراد بالأمة بني هاشم خاصّة .

(وَأرِنَا) من رأى : بمعنى أبصر أو عرّف، ولذا لم يتجاوز مفعولين ، أي : عرّفنا وبصرنا (مَنَاسِكَنَا) متعبداتنا في الحجّ ، لنقضي عباداتنا على حدّ ما توقفنا عليه . والنسك في الأصل غاية العبادة، وشاع في الحجّ، لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة .

وقرأ ابن كثير ويعقوب : أرْنَا ، قياساً على «فَخُذ» في فَخِذ . وفيه إجحاف في الإسقاط ، لأنّ الكسرة المنقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها، إلا أن يقرأ بإشمام الكسرة.

(وَتُبْ عَلَيْنَا) قالا هذه الكلمة انقطاعاً إلى الله ، إرشاداً لذرّيّتهما ليقتدوا بهما ، أو استتابة لذرّيّتهما أو معناه إرجع علينا بالرحمة المتفضّلة الموجبة لمزيد الثواب . وليس المراد استنابتهم عن معصيتهم، لأنّ الأدلة القاهرة قد دلّت على عصمة الأنبياء عن الصغائر والكبائر (إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ )الرجاع إلى الرضوان والمغفرة ، أو كثير القبول للتوبة الرَّحِيمُ لمن تاب من عبادك.

(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ) فى الأمة المسلمة (رَسُولاً مِنْهُمْ) من أنفسهم وهو نبيّنا محمّد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، ولم يبعث من ذرّيّتهما غير محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، فهو المجاب به دعوتهما ، كما قال (علیه السّلام): «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمّي» وسائر الأنبياء الذين بعد إبراهيم من نسل إسحاق .

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) يقرأ عليهم ويبلّغهم ما يوحى إليه من دلائل التوحيد والنبوّة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ )القرآن ( وَالْحِكْمَة ) ما يكمل نفوسهم منالمعارف والأحكام الشرعية. وعن أنس: هي الفقه بالتأويل. (وَيُزَكِّيهِمْ) عن أدناس الشرك

ص: 240

والمعاصي . وعن ابن عبّاس معناه : ويجعلهم مطيعين مخلصين. والزكاء : هو الطاعة والإخلاص للّه سبحانه .

(إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ) القوي الذي لا يقهر ولا يغلب على ما يريد، ومن جملته بعث النبي المنعوت الْحَكِيمُ المحكم البدائع صنعتك .

آية 130 - 131

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿130 ﴾ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِم قَالَ أَسْلَمْتُ لَرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿131)

﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ) التي هي الحق. هذا استبعاد وإنكار لأن يكون في العقلاء من يرغب عن ملته الواضحة وطريق الحق ، أي : لا يرغب أحد عن ملّته (إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ). محلّه الرفع على المختار بدلاً من الضمير المستكن في «يَرْغَبُ» . وصحّ البدل لأنّ «من يرغب» غير موجب ، كقولك : هل جاءك أحد إلا زید؟

ومعنى «سفه نفسه» امتهنها واستخفّ بها. وأصل السفه الخفّة . وقيل : معناه : جهل قدره، أو جهل نفسه بما فيها من الآيات الدالّة على أنّ لها صانعاً ليس كمثله شيء.

قال المبرّد وثعلب : سفه بالكسر ،متعد، وبالضم لازم ويشهد له ما جاء في الحديث: «الكبر أن تسفه الحق ، وتغمص (1) الناس».

وقيل : أصله : سفه نفسه على الرفع، فنصب على التمييز نحو : غَبِن رأيه ، وألِم رأسَه . أو : سفه في نفسه ، فنصب بنزع الخافض .

ص: 241


1- أي : تحتقرهم وتستصغرهم .

والأوّل أوجه ، لشذوذ تعريف المميّز ، وبعد نزع الخافض منها .

ثمّ بيّن خطأ رأي من رغب عن ملّته بقوله: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ) اجتبيناه بالرسالة (فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الفائزين. فمن كان صفوة العباد وخيرتهم في الدنيا مشهوداً له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة ، كان حقيقاً بالاتِّباع له لا يرغب عنه إلا سفيه أو متسفّه، أذلّ نفسه بالجهل والإعراض عن النظر.

ومعنى «أسْلِم» في قوله : (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أخطر ببالك النظر في الدلائل المفضية به إلى التوحيد لتخلص الله العبادة (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ) أي : نظرت وعرفت خالق العالم فعبدته خالصاً. وقيل: إن معنى «أسلم» أذعن وأطع .

وهذه الآية ظرف ل «اصْطَفَيْنَاهُ» وتعليل له ، أي : اخترناه في ذلك الوقت. أو منصوب بإضمار أذكر ، كأنه قيل : أذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدّم ، بسبب المبادرة إلى إخلاص السرّ والإذعان حين دعاه ربِّه إلى التوحيد على طريق النظر ، فأخطر بباله دلائله المؤدّية إلى المعرفة الداعية إلى التوحيد وسائر أصول قواعد الاسلام.

وعن ابن عبّاس : إنّما قال ذلك إبراهيم (علیه السّلام) حين خرج من السّرب (1).

وروي أنّ عبدالله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام ،فقال لهما : قد علمنا أنّ الله تعالى قال في التوراة : إنّي باعث من ولد إسماعيل نبيّاً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن فهو ملعون ، فأسلم سلمة ، وأبى مهاجر أن يسلم ، فنزلت: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ )الى آخر الآيتين.

ص: 242


1- السَّرَبُ : الحفير تحت الأرض ، أو الغار والكهف .

آیة 132 - 134

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿132 ﴾ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إذْ قَالَ لَبَنيه مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهَا وَاحدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلَمُونَ ﴿133﴾ َتلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿134)

روي أن اليهود قالوا لرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): ألست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات ؟ فنزلت: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيْهِ ). التوصية التقدّم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة. وأصلها الوصل ، يقال : وصاه إذا وصله، وفصاه إذا فصله، كأنّ الموصي يصل فعله بفعل الوصيّ . والضمير في «بها» للملّة، أو لقوله: «أَسْلَمْتُ» على تأويل الكلمة أو الجملة وقرأ نافع وابن عامر : أوصى . والأول أبلغ .

(وَيَعْقُوبُ) عطف على إبراهيم ، أي : وصّى بها عنه يعقوب. وهو ابن إسحاق . عن ابن عباس : إنّما سمّي يعقوب لأنه وعيصاً كانا توأمين، فتقدّمعيص وخرج يعقوب على أثره آخذاً بعقبه.

(يَا بَنِيَّ ) على إضمار القول عند البصريين، ومتعلّق ب«وصى» عند الكوفيين، لأنه نوع من القول.

وبنو إبراهيم كانوا أربعة : إسماعيل وإسحاق، ومدين، ومدان. وفي الكواشي (1): ثمانية ، الأربعة المذكورة وزمران، ويفشان، ويَشبُق، وشَوُّخ. وقيل:

ص: 243


1- هو موفّق الدين أحمد بن يوسف الكواشي الشافعي الموصلي المفسّر ، له التفسير الكبير والصغير ، وتوفّي سنة 680 . الكنى والألقاب 3 : 101 . ولم يكن تفسيره لدينا، ولعله لم يطبع إلى الآن .

أربعة عشر .

وبنو يعقوب اثنا عشر يوسف، وابن یامین وروبيل، ويهودا، وشمعون، و تفتوني ، ولاوان، ودان ، وقهاب، ويشجر ، ونقتالي، وجادو.

وقيل: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا ، وبشسوخور، وزبولون، ودَوْنى، ونفتوني، وكودا، وأوشير ، وبنيامين ، ويوسف (1).

(إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ أي : أعطاكم دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان، ووفقكم للأخذ به، لقوله: ﴿ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أَي : فلا يكن موتكم إلا على كونكم ثابتين على الإسلام، فظاهره النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام والمقصود هو النهى عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا، والأمر بالثبات على الإسلام، كقولك: لا تصل إلا وأنت خاشع، فلا تنهاه عن الصلاة ، ولكن على ترك الخشوع وتغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه، وأن من حق الموت أن لا يحلّ بهم . ونظيره في الأمر : مت وأنت شهيد ، وليس مرادك الأمر بالموت ، ولكن على صفة الشهداء.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي حاضرين، جمع الشهيد بمعنى الحاضر. «أم» منقطعة، أي بل أكنتم شهداء ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، أي : ما كنتم حاضرين (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) حين احتضر وقال لبنيه ما قال، فلِمَ تدعون اليهوديّة عليه ؟! أو متصلة بمحذوف تقديره : أكنتم غائبين أم كنتم شهداء ؟

وقيل : الخطاب للمؤمنين والمعنى ما شاهدتم ، وإنما علمتموه من الوحي.

(إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ) بدل من إذْ حضر» مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أيّ شيء تعبدونه من بعد وفاتي ؟ فحذف المضاف . أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام ،

ص: 244


1- في ضبط هذه الأسماء اختلاف ، انظر التبيان 1 : 482 ، مجمع البيان 1 : 217 ، أنوار التنزيل 1 : 190 .

وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما . ولفظة «ما» يسأل به عن كلّ شيء ما لم يعرف، فإذا عرف خص العقلاء ب«من» إذا سئل عن تعيينه . ويجوز أن يقال : (مَا تَعْبُدُونَ ) سوال عن صفة المعبود ، كما إذا سئل عن وصف زيد قيل : ما زيد ؟ أفقيه أم طبيب ؟

(قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) عطف بيان لآبائك . وجعل إسماعيل وهو عمّه من جملة آبائه، لأنّ العمّ أب والخالةأمّ، لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوّة، لا تفاوت بينهما، ومنه قوله (علیه السّلام) : عمّ الرجل صنو (1) ،أبيه ، أي : لا تفاوت بينهما ، كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. وقال في العبّاس: هذا بقيّة آبائي. وقال: ردّوا عليّ أبي فإنّي أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود. وقدّم ذكره على إسحاق لأنه كان أكبر منه ، وكان عم يعقوب، وجعله أباً له ، وكان جدّاً لنبينا .

وقوله : (إلهاً وَاحِدا ) بدل من (إلَهَ آبَائِكَ) كقوله: ﴿ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ) (2). وفائدته التصريح بالتوحيد، ونفي الوهم الناشيء من تكرير المضاف ،لتعذّر العطف على المجرور أو نصب على الاختصاص، أي: نريد باله آبائك إلها واحداً.

(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) حال من فاعل «نعبد»، أو مفعوله ، لرجوع الضمير إليه في «له» ، أو منهما . ويحتمل أن يكون اعتراضاً ، أي : ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون له التوحيد، أو مذعنون . ويجوز أن يكون جملة معطوفة على .«نعبد)».

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ إشارة إلى الأمة المذكورة، يعني: أن إبراهيم ويعقوب وبنيهما قد مضت . والأمة في الأصل ما يقصد به ويسمّى بها الجماعة، لأنّ الفرق تؤمها ، أي : تقصدها .

ص: 245


1- الصنو : الأخ ، وإذا خرجت نخلتان من أصل واحد فكل واحدة منها صِنو.
2- العلق : 15 - 16 .

(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ) لكلِّ أجر عمله . والمعنى: أنّ أحداً لا ينفعه كسب غيره، متقدّماً كان أو متأخّراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم، فانتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، وإنّما تنتفعون باتباعهم ، كما وقع في الحديث: «يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم يعني لا يكن من الناس إتيان الأعمال، و منكم إتيان الأنساب، بل ليكن من الجميع إتيان الأعمال.

(وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ولا تؤاخذون بسيئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم.

وفي هذه الآية ردّ للذين افتخروا بآبائهم كما كان دأب الجاهلية، ودلالة على بطلان قول المجبّرة : إنّ الأبناء يؤاخذون بذنوب الآباء ، وإنّ ذنوب المسلمين تحمل على الكفّار .

آية 135- 136

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿136)

عن ابن عبّاس : أنّ عبدالله بن صوريا وكعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وجماعة من اليهود ونصارى أهل نجران خاصموا أهل الإسلام كلّ فرقة تزعم أنّها أحقّ بدين الله : من غيرها، فقالت اليهود : نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وقالت النصارى : نبينا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا الإنجيل أفضل

ص: 246

الكتب، وكلّ فريق منهما قالوا للمؤمنين : كونوا على ديننا، فنزلت ﴿وَقَالُوا ) أي : أهل الكتاب من اليهود والنصارى (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى ) «أو»للتنويع. والمعنى : مقالتهم أحد هذين القولين ، فقالت اليهود كونوا هوداً، وقالت النصاري: كونوا نصارى تَهْتَدُوا تصيبوا طريق الحق . هذا جواب الأمر.

﴿ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ) أي : بل نكون ملة إبراهيم أي أهل ،ملته أو بل نتّبع ملة إبراهيم ﴿ حَنِيفاً) مائلاً عن كلّ دين باطل إلى دين الحق، حال من المضاف أو المضاف إليه ، كقولك : رأيت وجه هند قائمة . وأصل الحنف الميل في القدمين . وتحنّف إذا مال .

وقوله (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ عطفاً على «حنيفاً» تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، لأن كلاً منهم يدعي اتباع إبراهيم وهو على الشرك.

﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ ﴾ الخطاب للمؤمنين ، لقوله : (فَإِن آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ﴾ (1) أمرهم سبحانه بإظهار ما تدينوا به على الشرع، فبدأ بالإيمان بالله، لأنّهأوّل الواجبات بالإضافة إلينا ، أو سبب للإيمان بغيره .

ثم ثنّى بالإيمان بالقرآن والكتب المنزلة على الأنبياء ﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) أَي : بالقرآن ، قدّمه على سائر الكتب لتقدّمه بالشرف ، وإن كان متأخراً بالزمان (وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ) أي: بالصحف، وهي وإن نزلت إلى إبراهيم، لكنّهم لمّا كانوا متعبّدين بتفصيلها داخلين تحت أحكامها، فهي أيضاً منزلة إليهم، كما أنّ القرآن منزل إلينا .

والأسباط جمع سبط، وهو وهو الحافد . يريد به حفدة يعقوب، أو أبناء يعقوب و ذراريهم، فإنّهم حفدة إبراهيم وإسحاق (علیهما السّلام) ، وكان الحسن والحسين (علیهما السّلام) سبطي رسول الله ، أي: حافديه .

ص: 247


1- البقرة : 137 ، وسيأتي تفسيرها في ص 348 .

(وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ) أي : بالتوراة والإنجيل . أفردهما بالذكر بحكم أبلغ ، لأنّ أمرهما بالإضافة إلى موسى وعيسى مغاير لما سبق، والنزاع وقع فيهما ﴿ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) جملة المذكورين منهم وغير المذكورين (مِنْ رَبِّهِمْ) منزلاً عليهم من ربِّهم .

﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ أي: لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى ، بل نؤمن بجميع الأنبياء وكتبهم . ولمّا كان «أحد» في سياق النفي مفيداً للعموم، فصح دخول «بين» عليه .

(وَنَحْنُ لَهُ﴾ أَي : اللَّهُ (مُسْلِمُونَ) مذعنون مخلصون.

آية 137 - 138

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكفيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبغَةً وَنَحْنُ لهُ عَابِدُونَ ﴿138)

ولما نزل قوله تعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ» الآية قرأها النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)على اليهود والنصارى ، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى أنكروا وكفروا، وقالت النصارى : إنّ عیسى ليس كسائر الأنبياء، لأنه ابن الله ، فنزلت: (فَإِنْ آمَنُوا) آمن هؤلاء الكفّار (بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ ) أي : إيماناً مثل إيمانكم بالله وكتبه ورسله . فالباء مزيدة و«ما» مصدريّة (فَقَدِ اهْتَدَوا ) أي : سلكوا طريق الهدى .

هذا من باب التبكيت والتعجيز كقوله تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ (1) لأن دين الحق واحد لا مثل له، وهو دين الإسلام، ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً

ص: 248


1- البقرة : 23

(فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (1) ، فلا يوجد إذن دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين.

فقيل: «فإن آمنوا بكلمة الشك على سبيل الفرض والتقدير ، أي : فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا.

وفيه : أنّ دينهم الذي هم عليه وكلّ دين سواه مغاير له غير مماثل، لأنه حق

وهدى، وما سواه باطل وضلال. ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه : عليه : هذا هو الرأي الصواب، فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك، ولكنك تريد تبكيت صاحبك ، أو توقيفه على أنّ ما رأيت لا رأي وراءه .

ويجوز أن لا تكون الباء صلة زائدة، وتكون للاستعانة ، كقولك : كتبت بالقلم وعملت بالقدوم (2)، أي : فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها فقد اهتدوا .

(وَإِن تَوَلَّوْا) عمّا تقولون لهم ولم ينصفوا ، أو أعرضوا عن الإيمان بالجميع (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) فما هم إلا في شقاق الحق ، وهو المناواة (3) والمخالفة ، فإنّ كلّ واحد من المتخالفين في شقّ غير شق الآخر ، وليسوا من طلب الحق في شيء . أي : فإن تولّوا عن الشهادة والدخول في الإيمان .

(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) أي : يكفيك ويدفع عنك يا محمد شرّ اليهود والنصارى. وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم، وإجلاء بني النضير، وضرب الجزية على الفريقين. ففيه تسلية وتسكين للمؤمنين، ووعد لهم بالحفظ والنصر على من

ص: 249


1- آل عمران : 85 .
2- آلة للنحت والنجر .
3- في هامش الخطية : «ناواه : عاداه . منه» .

ناواهم ، والضمان من الله لإظهار نيّته عليهم ، وكفايته من يشاقه من اليهود والنصارى. وفيه دلالة على صحة نبوّته، لأنّه تعالى قد أنجز وعده، فوافق المخبر الخبر . ومعنى السين أنّ ذلك كائن لا محالة ، وإن تأخّر إلى حين .

﴿( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) من تمام الوعد. يعني: أنّه يسمع أقوالكم، ويعلم إخلاصكم ونيّاتكم من إظهار الدين، فهو مستجيبكم وموصلكم إلى مرادكم ومجازيكم لا محالة. أو وعيد للمعرضين، يعني: أنه أنه يسمع يبدون، ويعلم ما يخفون من الحسد والحقد، وهو معاقبهم عليه .

(صِبْغَةَ اللهِ ﴾ أي : صبغنا صبغته . فنصبها على أنه مصدر مؤكّد لقوله:( آمَنَا﴾ (1)، كما انتصب (وَعْدَ اللهِ ﴾ (2) عمّا تقدّمه . وقيل : على الإغراء ، أي : عليكم صبغة الله ، بمعنى : الزموها . وقيل : على البدل من (ملة إبراهيم) (3). وهي فعلة من «صبغ» كالجلسة من «جلس» وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ .

والمراد بها فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فإنّها حلية الإنسان كما أنّ الصبغة حلية المصبوغ أو هدانا هدايته فأرشدنا حجّته. أو طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره وسمّاه صبغة، لأنّ أثره ظهر عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ ، وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب أو للمشاكلة، فإنّ النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماءٍ أصفر يسمونه المعموديّة، ويقولون : هو تطهير لهم وبه تتحقق نصرانيتهم، فأمر المسلمون أن يقولوا آمنا بالله وصبغنا بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم، أو طهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيركم.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) :أي: لا صبغة أحسن من صبغته، لأنه يصبغ عباده بالإيمان ، ويطهرهم به من أوساخ الكفر ، فلا صبغة أحسن من صبغة الله .

ص: 250


1- في الآية (136 - 135) من سورة البقرة ، ومضى تفسيرها في ص : 247 .
2- النساء : 122 ، یونس : 4
3- في الآية (136 - 135) من سورة البقرة ، ومضى تفسيرها في ص : 247 .

(وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ تعريض بهم ، أي : لا نشرك به كشرككم . وهو عطف على «آمنّا»، وذلك يقتضي دخول قوله : «صِبْغَةَ اللهِ» في مفعول « قُولُوا». ولمن نصبها على الإغراء أو البدل أن يضمر «قولوا » معطوفاً على «الزموا» أو «اتبعوا ملّة إبراهيم» ، و«قولوا آمنا بدل اتبعوا، لئلا يلزم تخلّل الأجنبي - وهو قوله: «صبغة الله» -بین المعطوف والمعطوف عليه، فإنّ ذلك موجب لفكّ النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه .

آية 139 - 141

«قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)»

روي أنّ أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلّهم منا ، فلو كنت نبياً لكنت منا، فنزلت: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا) أتجادلوننا فِي اللهِ في شأنه واصطفائه نبياً من العرب دونكم ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) لا اختصاص له بقوم دون قوم، بل نشترك جميعاً في أنا عبيده فهو ربّنا يصيب برحمته من يشاء من عباده إذا كان أهلاً للكرامة، كما اقتضت حكمته .

﴿ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) يعني : أن العمل هو أساس الأمر، فكما أنّ لكم أعمالاً يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها، فإنّ لنا أيضاً أعمالاً معتبرة في ذلك ، فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا .

ص: 251

﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ موحّدون نخلصه بالإيمان والطاعة دونكم خلاصة المعنى : أنّ كرامة النبوّة إمّا تفضّل من الله على من يشاء، والكلّ فيه سواء، وإمّا إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلّي بالإخلاص فلا تستبعدوا أن يؤهّل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوة . وهذا كالتبكيت والإلزام لهم.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) «أم» منقطعة ، والهمزة للإنكار . وعلى قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالتاء يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في «أتحاجوننا» ، فتكون متصلة، بمعنى: أيّ الأمرين تأتون : المحاجّة ، أو ادّعاء اليهوديّة أو النصرانية على الأنبياء ؟ وعلى القراءة الأولى لا تكون إلا منقطعة .

ثم وبّخهم الله تعالى بقوله : (قُلْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله) وقد نفى الأمرين عن إبراهيم بقوله : ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًا وَلَا نَصْرَانِيَا ) (1)، واحتج عليه بقوله: ﴿وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إلَّا مِنْ بَعْدِهِ ) . وهؤلاء المعطوفون على إبراهيم أتباعه في الدين وفاقاً.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ ) يعني : شهادة الله لإبراهيم بالحنيفية، والبراءة عن اليهوديّة والنصرانية والمعنى: لا أحد أظلم منأهل الكتاب، لأنّهم كتموا هذه الشهادة، أو منا لو كتمنا هذه الشهادة. وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله تعالى لمحمّد بالنبوّة في كتبهم وغيرها . و «من» للابتداء كما في قوله: ﴿ بَراءَةٌ مِنَ اللهِ ) (2)، وكما في قولك: هذه شهادة منّي لفلان.

﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد لهم. وقرىء بالتاء، أي: لا يخفى على

ص: 252


1- آل عمران : 67 ، 65.
2- التوبة : 1 .

الله شيء من المعلومات، فكونوا على حذر من الجزاء على أعمالكم بما تستحقونه من العذاب.

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) تكرار للمبالغة في التحذير والزجر عمّا استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم . وقيل : الخطاب فيما سبق لهم وفي هذه الآية لنا، تحذيراً عن الاقتداء بهم. وقيل : المراد بالأمة في الأوّل الأنبياء، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى ، فلا تكرار .

آية 142

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِلّهِ المَشْرِقُ وَالْمَعْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿142)

ثم ذكر الذين عابوا المسلمين بالانصراف عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة، فقال : (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) الجهال الخفاف الأحلام الذين استمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر . يريد به المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين وفائدة تقديم الإخبار توطين النفس لسماع هذا المكروه، وإعداد الجواب (مَا وَلَّهُمْ ﴾ ما صرفهم (عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) يعني : بيت المقدس. والقبلة في الأصل الحال التي عليها الإنسان من الاستقبال، فصارت عرفاً للمكان المتوجّه نحوه للصَّلاة (قُل لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أَي : بلاد المشرق والمغرب، والأرض كلّها ، لا يختصّ به مكان دون مكان ، وإنما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) وهو ما ترتضيه الحكمة وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى .

ص: 253

آية 143

وَكَذَلكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ممَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيْمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿143)

ثمّ بيّن سبحانه فضل هذه الأمة على سائر الأمم ، فقال : ﴿ وَكَذَلِكَ) إشارة إلى مفهوم الآية المتقدّمة ، أي : كما جعلناكم مهديّين إلى الصراط المستقيم، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ أي خياراً ، أو عدولاً مزكّين بالعلم والعمل. وهو في الأصل اسم المكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب، ثمّ استعير للخصال المحمودة ، لوقوعها بين طرفي إفراط و تفريط، كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهوّر والجبن ، ثمّ أطلق على المتصف بهذه الخصال، مستوياً فيه الواحد والجمع والمذكّر والمؤنّث ، كسائر الأسماء التي وصف بها . واستدل به على أنّ الإجماع حجّة ، إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم.

ومتى قيل : إذا كان في الأمّة من ليس هذه صفته، فكيف وصفت جماعتهم بذلك ؟

فالجواب : أنّ المراد به من كان بتلك الصفة، ولأنّ كلّ عصر لا يخلو من جماعة هذه صفتهم، ولا يكون الاستمساك على حجية الإجماع إلّا لوجود الإمام المعصوم في جملتهم، فالحقيقة الحجة قول الإمام لا اجتماع الأمة .

ويؤيده ماروى بريد بن معاوية العجلي ، عن الباقر (علیه السّلام) قال: «نحن الأمة

ص: 254

الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجّته في أرضه». وفي رواية أخرى قال : «إلينا يرجع الغالي وبنا يلحق المقصّر».

وروى أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي، عن علي (علیه السّلام): أن الله تعالى إيانا عنى بقوله : «جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (1).

(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) علّة للجعل أي : لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج وأنزل من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد وما ظلم، بل أوضح السبل وأرسل الرسل، فبلغوا ونصحوا، ولكن الذين كفروا حملتهم الشهوات النفسانية على الإعراض عن الآيات البيئة ، فتشهدون على معاصريكم وعلى الذين قبلكم وبعدكم ( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) أي : شاهداً عليكم بما يكون من أعمالكم، فيزكيكم ويعلم بعدالتكم.

روي: «أنّ الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبيّنة على أنّهم قد بلغوا وهو أعلم بهم إقامة للحجّة على المنكرين، فيؤتى بأمة محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) فيشهدون لهم ، فتقول الأمم : من أين عرفتم ؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)فيسأل عن حال أمته ، فيشهد بعدالتهم».

وهذه الشهادة وإن كانت لهم ، لكن لمّا كان الرسول كالرقيب المهيمن على أمته عدّي ب«على»، كما في قوله : (كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ (2). وأخّرت الصلة أوّلاً لأنّ الغرض في الأوّل إثبات شهادتهم على الأمم ،وقدّمت آخراً للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم.

ص: 255


1- شواهد التنزيل 1 : 119 ح 129 .
2- المائدة : 117 .

وقيل : الشهود أربعة : الملائكة، والأنبياء، وأمة محمّد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، والجوارح ، كما قال : ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم) (1) الآية .

﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا) «التي» ليست بصفة القبلة بل هي المفعول الثاني .ل(جعل)». يعني : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة ، لأنه كان يصلّي إليها بمكة، ثمّ لما هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس تألّفاً لليهود أو لليهود. أو هي الصخرة ، لقول ابن عبّاس : كانت قبلته بمكة بيت المقدس ، إلّا أنّه يجعل الكعبة بينه وبينه. فالمخبر به على الأوّل الجعل الناسخ، وعلى الثاني الجعل المنسوخ والمعنى: أنّ أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس .

(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) إِلَّا لنمتحن النّاس، ونعلم من يتبعك في الصلاة إلى الصخرة ممّن يرتد عن دينك آلفاً لقبلة آبائه أو لتعلم الآن ممّن يتبع الرسول ممّن لا يتبعه. وعلى الأوّل معناه : ما رددناك إلى التي كنت عليها إلا لنعلم الثابت على الاسلام ممّن ينكص على عقبيه، لقلقه وضعف إيمانه .

وإنّما قال: «لِنَعْلَمَ» ولم يزل عالماً بذلك لأن معناه : لنعلمه علماً يتعلّق الجزاء، وهو أن يتعلّق علمه به موجوداً حاصلاً فهذا ونظائره باعتبار التعلّق الحالي الذى هو مناط الجزاء ، لا بأن يكون علمه تعالى غاية الجعل ، إذ هو سبحانه لم يزل عالماً.

وقيل : ليعلم رسوله والمؤمنون، لكنّه أسند إلى نفسه لأنهم خواصه. أو المعنى : لنميّز الثابت من المتزلزل ، كقوله تعالى: (لِيَمِينَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (2).

ص: 256


1- النور : 24 .
2- الأنفال : 37 .

فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه . وهو الأصح ، لأنه واضح خالٍ عن التعسّف .

والعلم إمّا بمعنى المعرفة، أو معلّق عن العمل، لما في «من» من معنى الاستفهام، أو مفعوله الثاني «مِمَّنْ يَنْقَلِبُ» ، أي: لنعلم من يتبع الرسول متميّزاً ممّن ينقلب .

(وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ «إِن» هي المخفّفة من الثقيلة، و«اللام» هي الفارقة بينها وبين الناصبة ، وعند الكوفيين هي النافية، واللام بمعنى إلا . وهذا مستبعد. والضمير في «كانت)» لما دلّ عليه قوله: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا) من الجعلة ، أو التولية ، أو الردّة، أو التحويلة، أو القبلة. والمعنى وقد كانت هذه الجعلة الثقيلة شاقّة، أو ما كانت إلا ثقيلة على الناس (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) إلى حكمة الأحكام، وهم الثابتون على الايمان والاتباع لرسول الله . وفي الكشّاف : «يحكى عن الحجّاج أنّه قال للحسن : ما رأيك في أبي تراب ؟ فقرأ قوله: ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) قال : وعليٌّ منهم ، وهو ابن عم رسول الله ، وختنه على ابنته، وأقرب النّاس إليه ، وأحبّهم »(1).

(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيْعَ إِيمَانَكُمْ ) أي : ثباتكم على الإيمان . وقيل : إيمانكم بالقبلة المنسوخة ، بل شكر صنيعكم، وأعدّ لكم الثواب الجزيل . وقيل : معناه من صلّى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة، لما روي عن ابن عبّاس أنّه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لما وجّه إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل من إخواننا ؟ فنزلت: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيْعَ إِيمَانَكُمْ ) أي : صلاتكم إلى بيت المقدس .

(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ فلا يضيع أجورهم، ولا يدع صلاحهم. و تقديم الرؤوف مع أنّه أبلغ من الرحيم محافظة على الفواصل.

ص: 257


1- الكشّاف 1 : 201 .

آية 144 - 146

«قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)»

قال المفسرون : كانت الكعبة أحبّ القبلة إلى رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، لأنه قبلة أبيه إبراهيم وأقدم القبلتين ، وأدعى للعرب إلى الإيمان، لأنها مفخرة العرب ومطافهم، ولمخالفة اليهود . فقال لجبرئيل (علیه السلام) : وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها . فقال له جبرئيل: إنّما أنا عبد مثلك، وأنت كريم على ربّك ، فادع ربّك واسأله . ثم ارتفع جبرئيل ، واستحيى رسول الله أن يسال ذلك ربّه ، فيديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبرئيل الذي توقّع، فنزلت: ﴿قَد نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ تردّد وجهك في جهة السماء تطلّعاً للوحي ﴿ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً﴾ فلنمكّننّك من استقبالها ، من قولك : ولّيته كذا ، إذا صيّرته والياً له ، أو فلنجعلنّك تلى جهتها دون جهة بيت المقدس (تَرْضَيها) تحبّها وتتشوّق إليها ، لمقاصد دينية أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته.

﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ) أصرف وجهك (شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ) نحوه، وهو منصوب

ص: 258

على الظرف أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أي : في جهته وسمته . وقيل الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء، من «شطر » إذا انفصل، ودار شطور :أي: منفصلة عن الدور ، ثمّ استعمل لجانب الشيء وإن لم ينفصل كالقطر . والحرام المحرّم ، أي : محرّم فيه القتال، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرّضوه وإنّما ذكر المسجد دون الكعبة لأنه(صلّی الله علیه و آله و سلّم) كان في المدينة، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها حرج عليه، بخلاف القريب.

روي أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثمّ وجّه إلى نحو الكعبة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين، وهو (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في مسجد بني سلمة، وقد صلّى ركعتين من الظهر، فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسمّي المسجد مسجد القبلتين .

وخصّ الرسول بالخطاب أوّلاً تعظيماً له، وإيجاباً لرغبته، ثمّ عمّم تصريحاً بعموم الحكم، وتأكيداً لأمر القبلة، وتحضيضاً للأمة على المتابعة ، فقال : ﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ) أينما كنتم من الأرض، في برّ أو بحر ، سهل أو جبل (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فهو خطاب لجميع أهل الآفاق (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) يعني : علماء اليهود والنصارى (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ) أنّ التحويل أو التوجه إلى الكعبة هو الحق (مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ صادراً منه ، لأنه كان في بشارة أنبيائهم رسول الله ، وفي كتبهم أنه يصلّي القبلتين (وَمَا) كان (اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعد ووعيد للفريقين.وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء.

ثمّ بيّن رسوخ كفرهم وعنادهم بقوله: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ) برهان قاطع وحجّة ساطعة على أنّ الكعبة قبلة ، واللام موطئة للقسم (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) جواب القسم المضمر ، وقد سدّ مسدّ جزاء الشرط . والمعنى : ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها بحجّة ، وإنما خالفوك مكابرة وعناداً ، لعلمهم بما في كتبهم من نعتك وكونك على الحق.

ص: 259

﴿وَمَا أَنتَ بِتَابِعِ قِبْلَتَهُمْ) قطع لأطماعهم، فإنّهم قالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنّا نرجوا أن تكون صاحبنا الذي ننتظره، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم ، وقبلتهم وإن تعدّدت ، لأنّ اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس ، لكنّها متحدة بالبطلان ومخالفة الحق .

﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) فإنّ اليهود تستقبل الصخرة، والنصارى مطلع الشمس، لا يرجى توافقهم ، كما لا يرجى موافقتهم لك ، لتصلّب كلّ حزب فيما هو وثباته عليه .

﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ) على سبيل الفرض والتقدير (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) :أي: ولئن اتِّبعتهم مثلاً بعد ما بان لك الحق وجاءك فيه الوحي (إِنَّكَ إِذا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ لمن المرتكبين الظلم الفاحش.

أكّد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه ، وهي : تصدير الكلام بالقسم المضمر أوّلاً ، ثمّ تصدير الجملة ب«إنّ» التي تفيد التأكيد والتحقيق ثانياً ، والتركيب من الجملة الاسمية ثالثاً، وإدخاله في جملة الظالمين دون قوله : فإنّك ظالم رابعاً، واللام في قوله : لَمِنَ الظَّالِمِينَ» خامساً، وإسناد اتباع الباطل بعد حصول العلم بعدم جوازه سادساً، وتنزيل اتباعهم في شيء واحد منزلة اتباع أهوائهم سابعاً، تعظيماً للحق المعلوم، وتحريضاً على اقتفائه، وتحذيراً عن متابعة الهوى، واستفظاعاً لصدور الذنب عن الأنبياء، وتحذيراً وتهجيناً لحال من يترك الدليل بعد تبيينه .

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) يعني : علماء هم (يَعْرِفُونَهُ) الضمير للرسول وإن لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإيذان بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام أي : يعرفون رسول الله بأوصافه معرفة جليّة (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) كمعرفتهم أبناءهم، لا يلتبسون عليهم بغيرهم.

قيل : سأل عمر عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أعلم به مني بابني ، قال : ولم ؟ قال : لأني لست أشكّ في محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)أنه نبي ، فأما ولدي فلعلّ والدته خانت .

ص: 260

وخصص الأبناء لأنّ الذكور أشهر وأعرف، وهم بصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق . وقيل : الضمير للعلم أو للقرآن أو التحويل. والأوّل أصحّ.

﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُم يَعْلَمُونَ ) تخصيص لمن عاند واستثناء معنويّ لمن آمن منهم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ، أو لجهّالهم الذين قال فيهم : ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) (1).

آية 147 - 152

«الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)»

«وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)»

(الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مبتدأ وخبر. وهو كلام مستأنف . وفيه وجهان أن يكون

ص: 261


1- البقرة : 78 .

اللام للعهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، وأن يكون للجنس على معنى: الحقِّ ما ثبت أنّه من الله تعالى كالّذي أنت عليه ، لا ما لم يثبت كالّذي عليه أهل الكتاب. ويجوز أن يكون الحق» خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الحق، فيكون «مِن رَبِّكَ» في محلّ النصب على الحال ، أو يكون خبراً بعد خبر .

﴿ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ) الشاكّين أنّه من ربّك ، أو في كتمانهم الحقّ عالمین به وليس المراد به نهي الرسول عن الشكّ فيه ، لأنه غير متوقّع منه ، بل إمّا تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشكّ فيه ناظر ، أو أمر الأمّة باكتساب المعارف المزيلة للشكّ على الوجه الأبلغ ، لأنّ النهي عن الشيء أمر بضده.

﴿ وَلِكُلِّ وِجْهَةٌ) ولكلّ أمة من أهل الأديان المختلفة قبلة، والتنوين عوض المضاف إليه (هُوَ مُوَلِّيهَا) أحد المفعولين محذوف ، أي : هو مولّيها وجهه ، أو الله تعالى مولّيها إيَّاه. وقرأ ابن عامر : مُوَلّاها، أي: هو مُوَلّى تلك الجهة ، أي : جعل وجهه إياها وجاعله هو الله . ويجوز أن يكون المعنى : ولكلّ منكم يا أمّة محمد جهة يصلي إليها ، جنوبية أو شمالية ، أو شرقية أو غربيّة ، حال كون كلّ منها مسامتة للكعبة .

(فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ) أي : سارعوا إلى الطاعات من أمر القبلة وغيره ممّا ينال به سعادة الدارين، أو الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت .

(أَيْنَ مَا تَكُونُوا) في أي موضع تكونوا من موافق ومخالف، مجتمع الأجزاء ومتفرّقها (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) يحشركم الله إلى المحشر للجزاء، أو أينما تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض أرواحكم . قال الرضا (علیه السّلام) : وذلك والله أن لو قام قائمنا يجمع يجمع الله إليه جميع شيعتنا من جميع البلدان . وقيل : معناه : أي موضع كنتم من الجهات المختلفة يجمعكم، ويجعل صلواتكم كأنّها إلى جهة

ص: 262

واحدة، وكأنّكم حاضري المسجد . (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الإماتة والإحياء والجمع.

﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ومن أي بلد خرجت للسفر ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ) إِذا صلّيت ﴿وَإِنَّهُ) وإنّ هذا المأمور به (لَلْحَقُّ) للثابت الذي لا يزول بنسخ ﴿ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ). وقرأ أبو عمرو بالياء. وهذا تهديد لهم في المخالفة .

﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) كرّر هذا الحكم لتعدّد علله ، فإنّه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل : تعظيم الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بابتغاء مرضاته، وجري العادة الإلهيّة على أن يولّى أهل كلّ ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميّز بها كما وقع في كتب أهل الكتاب ، ودفع حجج المخالفين على ما يبيّنه مع أنّ القبلة لها شأن والنسخ من مظان الفتنة والشبهة، فالحري أن يؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى.

(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة) علة لقوله : «فَوَلُّوا» . والمعنى: أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأنّ النبيّ المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، وأنّ محمّداً يجحد ديننا ويتبعنا في قبلتنا ويدفع احتجاج المشركين بأنه يدّعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته .

﴿ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ استثناء من الناس، أي: لئلا يكون لأحد من الناس حجّة إلا المعاندين منهم ، فإنّهم يقولون : ما تحوّل إلى الكعبة إلّا ميلاً إلى دين قومه وحبّاً لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء ، أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم. وتسمية هذه حجّة مثل قوله : ( حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ )(1) لأنّهم يسوقون مساقها . وقيل : الحجّة بمعنى الاحتجاج.

ص: 263


1- الشورى : 16 .

(فَلَا تَخْشَوْهُمْ) فلا تخافوهم، فإنّ مطاعنهم لا تضرّكم ﴿وَاخْشَوْنِي) فلا تخالفوا ما أمرتكم( وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) علّة محذوف، أي: وأمرتكم بالتحويل لإتمامي النعمة عليكم ، وإرادتي اهتداءكم. أو عطف على علّة مقدّرة مثل : واخشوني لأحفظكم منهم ، أو لأوفّقكم ولأتمّ نعمتي عليكم، أو عطف على (لِئَلَّا يَكُونَ).

وفي الحديث: «تمام النعمة دخول الجنّة». وعن علي (علیه السلام) «تمام النعمة الموت على الاسلام». وروي عن ابن عبّاس قال : ولأتمّ نعمتي عليكم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فأنصركم على أعدائكم، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأما في الآخرة فجنّتي ورحمتي .

وروي عن علي (علیه السّلام) قال : «النعم ستة : الإسلام، والقرآن ، ومحمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، والستر ، والعافية، والغنى عمّا في أيدي الناس».

(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) أي : لكي تهتدوا، ولعلّ» من الله واجب . وقيل : لتهتدوا إلى ثوابها . وقيل : إلى التمسك بها .

وقوله : (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) متّصل بما قبله، أي: ولأتمّ نعمتي عليكم في أمر القبلة، أو في الآخرة بالثواب، كما أتممتها بإرسال رسول منكم. وإما أن يتعلّق بما بعده ، أي : كما ذكر تكم بإرسال الرسول فاذكروني بالطاعة .

(يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا) يوحى إليه بأدلّة التوحيد والنبوة ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ ويحملكم على ما تصيرون به أزكياء من الأمر بطاعة الله واتباع مرضاته (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) وأحكام الشريعة . وفي المجمع (1): أنّ المراد بالآيات والكتاب والحكمة القرآن، جمعاً بين صفاته، لاختلاف فائدتها (وَيُعَلِّمُكُم مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) بالفكر والنظر ، إذ لا طريق لكم إلى معرفته سوى

ص: 264


1- مجمع البیان 1 : 233 .

الوحي ، ولا سبيل لكم إلى علمه إلا من جهة السمع. وكرّر «يعلمكم» ليدلّ على أن هذا التعليم جنس آخر ، أي : ليس من جنس ما يحصل بالفكر .

(فَاذْكُرُونِي) بأنواع الطاعة (أذْكُرْكُمْ )بصنوف الثواب والرحمة وقيل: اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدّة والبلاء، واذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة. وعن الباقر (علیه السّلام) قال : قال النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إن الملك ينزل الصحيفة من أوّل النهار وأوّل الليل، يكتب فيها عمل ابن آدم، فأملوا في أوّلها خيراً وفي آخرها خيراً، فإنّ الله تعالى يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله ، فإنّ الله تعالى يقول : اذكروني اذكركم».

وَاشْكُرُوا لِي ما أنعمت عليكم وَلَا تَكْفُرُونِ بجحد نعمائي وعصيان أمري.

آية 153 - 154

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153﴾ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكن تشْعُرُونَ ﴿154)

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) بحبس النفس على اجتناب المعاصي والحظوظ النفسيّة المحرّمة، وعلى تحمّل الطاعات والعبادات. وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (علیه السّلام) في قوله :«الصبر صبران : صبر على ما تكره، وصبر على ما تحبّ» . ﴿وَالصَّلَوَةِ) الّتي هي أم العبادات، وأفضلها في الدين ، لأنها معراج المؤمنين، والمناجاة لربّ العالمين، وتتضمّن الذكر والخشوع والخضوع ، وتذكّر المبدأ والمعاد والوعد والوعيد.

ص: 265

(إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالمعونة والنصرة، والتوفيق في أداء العبادات والاجتناب من المقبّحات. ولا يجوز أن يكون «مع» هاهنا بمعنى الاجتماع، لأنّ ذلك من صفات الأجسام، تعالى الله عن ذلك . وفي الآية دلالة على أنّ في الصلاة لطفاً للعبد ، لأنه سبحانه أمرنا بالاستعانة بها، ويؤيده قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الصَّلَوَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (1).

ولمّا أمر الله سبحانه عباده بالصبر والصلاة رغبهم في الجهاد بقوله : (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيْلِ اللهِ أَمْوَاتُ) :أي: هم أموات (بَلْ أَحْيَاءٌ) هم أحياء (وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ) ما حالهم عن الحسن: أنّ الشهداء أحياء عند الله تعالى، تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الرّوح والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوّاً وعشيّاً، فيصل إليهم الوجع وشدّة الألم. وفيها دلالة على أنّ الأرواح جواهر قائمة بأنفسها ، مغايرة لما يحسّ من البدن، تبقى بعد الموت دراكة ، وعليه جمهور الصحابة والتابعين. وعن مجاهد : يرزقون ثمر الجنّة، يجدون ريحها وليسوا فيها . وقالوا: يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة، فيحيبها ويوصل إليها النعم وإن كانت في حجم الذرّة . وقيل : نزلت في شهداء بدر ، وكانوا أربعة عشر رجلاً، ستّة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار .

وروى الشيخ محمد بن يعقوب الكليني في الكافي(2)، والشيخ أبو جعفر في تهذيب (3)الأحكام، مسنداً إلى عليّ بن مهزيار، عن الحسن ، عن القاسم بن محمد، عن الحسين بن أحمد، عن يونس بن ظبيان ،والشهيد في الذكرى (4)، عن يونس ،

ص: 266


1- العنكبوت: 45 .
2- الكافي 3: 245 ح 6 .
3- تهذيب الأحكام 1 : 466 ح 1256 .
4- ذكرى الشيعة 2 : 91 .

قال: «كنت عند أبي عبد الله ا(علیه السّلام)جالساً ، فقال : ما تقول الناس في أرواح المؤمنين ؟

قلت : يقولون : في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش.

فقال أبو عبدالله (علیه السّلام): سبحان الله ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر . يا يونس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا ، يأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا».

وعنه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن أبي بصير قال: «سألت عن أرواح المؤمنين ، فقال : في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان» (1).

آية 155 - 157

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿155﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156﴾ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَ أُولَئِكَ همُالمُهْتَدُونَ ﴿157)

ولمّا بين سبحانه ما كلّف عباده من العبادات عقبه ببيان ما امتحنهم من فنون المشقات ، فقال خطاباً للمؤمنين : ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ ولنصيبنّكم إصابة من يختبر لأحوالكم ، ليظهر على أهل العالم هل تصبرون على البلاء وتستسلمون لحكم الله أم لا ؟ (بِشَيءٍ) بشيء قليل (مِنَ الْخَوْفِ) خوف قصد المشركين وسائر الأعداء ﴿ وَالجوع) بسبب تشاغلهم بالجهاد في سبيل الله عن المعاش، واحتياجهم إلى الذي لحقهم ، أو الصوم. وإنّما قلله بالإضافة إلى ما وقاهم عنه ليخفّف عليهم،

ص: 267


1- تهذيب الأحكام 1 : 466 ح 1527 .

ويريهم أنّ رحمته لا تفارقهم، أو بالنسبة إلى معانديهم في الآخرة. وإنّما أخبرهم به قبل وقوعه ليوطّنوا عليه نفوسهم.

(وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ) عطف على شيء أو الخوف. وسبب النقص الانقطاع بالجهاد عن العمارة . وقيل : المراد هلاك المواشي، أو أداء الزكوات والصدقات، أو مطلق الخسران والغبن ( وَالأنْفُسِ) بالأمراض، أو بموت الأقارب والأحبة في الجهاد وغيره (وَالثَّمَرَاتِ) بذهاب حمل الأشجار بسبب الآفات السماوية ، وارتفاع البركات، أو لاشتغالهم بالقتال عن عمارة البستان، وعن مناكحة النسوان، فتقلّ ثمرات البساتين وحمل البنات والبنين بذلك . وقيل : أراد به موت الأولاد، لأنّ الولد ثمرة القلب .

وعن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم ، فيقول الله : أقبضتم ثمرة قلبه ؟ فيقولون : نعم ، فيقول الله : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد.

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) بما لهم على الصبر في تلك المشاق والمكاره من المثوبة الجزيلة والعاقبة الجميلة .

ثمّ وصف عزّ اسمه الصابرين بقوله : (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) نالتهم بلية في النفس أو المال فوطنوا أنفسهم على ذلك احتساباً للأجر (قَالُوا إِنَّا للهِ﴾ إقراراً بالعبوديّة والملكيّة، أي: نحن عبيد الله ومماليكه ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ إقراراً بالبعث والنشور :أي: نحن إلى حكمه نصير. ولهذا قال علي (علیه السّلام): «إنّ :قولنا : «إنّا لله» إقرار على أنفسنا بالملك «وإنّا إليه راجعون» إقرار على أنفسنا بالهلك».

والخطاب للرسول ، أو لمن تتأتى منه البشارة. والمصيبة تعمّ ما يصيب

ص: 268

الإنسان من مكروه ، لقوله (علیه السّلام) : «كلّ شيء يؤذي المؤمن فهو مصيبة». وليس الصبر بالاسترجاع باللسان، بل به وبالقلب، بأن يتصوّر معنى الاسترجاع، وهو أنّه ما خلق لأجله، وأنه راجع إلى جزاء ربّه ، ويتذكّر نعم الله عليه ليرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه ، فيهون على نفسه ويستسلم له.

والمبشّر به محذوف دلّ عليه قوله : ( أوْلَئِكَ) الذين وصفهم الله بأنهم من الصابرين المسترجعين المستسلمين لقضاء الله (عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الصلاة في الأصل الدعاء ومن الله العطوفة والرأفة المستلزمتان المغفرة والتزكية واللطف والإحسان جمع بينها وبين الرحمة للتنبيه على كثرتها وتنوعها، كقوله: ﴿ رَأفَةً وَرَحْمَةً) (1) و (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (2). والمعنى : عليهم رأفة بعد رأفة ، ورحمة أي رحمة .

وعن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه».

وعن الصادق (علیه السلام) ، عن آبائه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كتبه الله من أهل الجنّة : من كانت عصمته شهادة أن لا إله إلا الله ، ومن إذا أنعم الله عليه النعمة قال : الحمد الله ، ومن إذا أصاب ذنباً قال أستغفر الله ، ومن إذا أصابته مصيبة قال : إنّا لله وإنا إليه راجعون».

روي: «أنّه طفى سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون فقيل : أمصيبة هي ؟ قال : نعم ، كلّ شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة».

(وَأَوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) للحق والصواب، حيث استرجعوا وسلّموا أنفسهم لحكم الله وقضائه.

ص: 269


1- الحديد : 27 .
2- التوبة : 117 .

آیه 158

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴿158)

ولمّا ذكر الله سبحانه امتحان العباد بالتكليف والإلزام مرّة ، وبالمصائب والآلام أخرى، ذكر سبحانه أنّ من جملة ذلك أمر الحج الذي يتضمن المشاقّ الكثيرة والمتاعب العظيمة ، فقال : ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ) هما علما جبلين بمكّة (مِن شَعَائِرِ اللهِ ﴾ من أعلام مناسكه، جمع شعيرة وهي العلامة أي : هما من أعلام مناسكه ومتعبّداته (فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ) . الحجّ لغة القصد، والاعتمار الزيارة، فغلبا شرعاً على قصد البيت وزيارته على الوجهين المخصوصين، فهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان ومعناه : إذا قصده لأجل أداء النسكين المعروفين ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أصله : يتطوّف ، فأدغم .

وإِنما قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) والسعي بينهما واجب، لأنه كان على الصّفا أساف، وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة، فمسخا حجرين، فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلمّا طالت المدّة عبدا وكان أهل الجاهليّة إذا سعوا مسحوهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان تحرّج المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية، ورفع عنهم الجناح بهذه الآية، والإجماع على أنه مشروع في الحج والعمرة.

(وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً) أي من تبرع بالسعي بين الصفا والمروة بعد ما أدّى الواجب من حجّ أو عمرة ، أو من تطوّع بالخيرات وأنواع الطاعات. ونصبه على أنّه صفة مصدر محذوف ، أو بحذف الجارّ وإيصال الفعل إليه ، أو بتعدية الفعل، لتضمّنه معنى «أتى» أو «فعل». وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: يَطَّوّع، وأصله : يتطوّع فأدغم ، مثل : يطَّوّف (فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ) مثيب على الطاعة (عَلِيمٌ) لا يخفى عليه

ص: 270

خافية، فلا يبخس أحداً حقه.

وفي هذه الآية دلالة على أن السعي بين الصفا والمروة عبادة، ولا خلاف في ذلك ، وإنّما الخلاف في وجوبه ، فهو عندنا واجب في الحج والعمرة بالإجماع، وبه قال الحسن وعائشة ومذهب الشافعي أنه واجب وركن . وقال : إنّ السنّة أوجبت السعي ، وهو قوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «كتب عليكم السعي فاسعوا ». وعن أحمد : سنّة، وبه قال أنس، لقوله تعالى (فَلَا جُنَاحَ) . وهو ضعيف، لأنّ نفي الجناح يدلّ على الجواز الداخل في معنى الوجوب، فلا يدفعه. وعن أبي حنيفة : أنه واجب يجبر بالدم.

آية 159 - 160

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيّْنَّاهُ لِلنَّاسِ في الكتاب أُولَئِكَ يَلعَنَهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللّأَعِنُونَ ﴿159﴾ إِلَّا الَّذِينَ تَأبُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿160)

ثمّ حثّ الله سبحانه على إظهار الحقّ وبيانه، ونهى عن إخفائه وكتمانه، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ كأحبار اليهود (ما أنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ) الحجج الدالّة على صحة نبوّة محمد المكتوبة في كتابهم الشاهدة عليها . وهو جمع بيّنة ،فعيلة من البيان، وهو ظهور الحق، وكلّ ما قام به حق يسمّى بينة وحجّة وبرهاناً (وَالهُدَى) وهو ما يهدي إلى وجوب اتباعه من الأدلة الهادية إلى نعته ، والأمر باتباعه والإيمان به . وقيل : المراد بالأوّل الأدلة النقلية، وبالثاني الأدلة العقلية (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ) الخّصناه للناس (فِي الكِتَابِ) في التوراة ، بحيث لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم،فكتموا ذلك المبين الملخّص (أوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ أي : الّذين يتأتّى يتأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة ومؤمني الثقلين .

ص: 271

(إلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ أي : ندموا على ما فعلوا من الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب عنه (وَأَصْلَحُوا)ما أفسدوا من أحوالهم فيما يستقبل من الأوقات، وتداركوا ما فرط منهم (وَبَيَّنُوا) للناس ما بينه الله في كتابهم، ليمحوا سمة الكفر عنهم ، ويتمّ توبتهم ، ويعرفوا بضدّ ما عرفوا ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين ﴿ فَأُوْلَئِكَ أتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ أقبل توبتهم بالمغفرة ﴿ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة .

وفي هذه الآية دلالة على أن كتمان الحقّ مع الحاجة إلى إظهاره من أعظم الكبائر، وأنّ من كتم شيئاً من العلوم الدينية وفعل مثل فعلهم فهو في أعظم الجرم . وقد روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». وفيها أيضاً دلالة على وجوب الدعاء إلى التوحيد والعدل، لأنّ في كتاب الله ما يدلّ عليهما ، تأكيداً لما في العقول من الأدلة.

آیة 161 - 162

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴿161﴾ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظرُونَ ﴿162)

وبعد بيان حال من كتم الحق ، وحال من تاب منهم، عقّبه بحال من يموت من غير توبة منهم ومن الكفّار عموماً ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي : من لم يتب من الكاتمين ومن غيرهم من الكفرة المصرّين حتى ماتوا (أوْلئِكَ عَلَيْهِمْ) استقر عليهم (لَعْنَةُ اللهِ) إبعادهم عن رحمته وإيجاب العقاب عليهم ﴿ وَالمَلئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ أراد بالناس من يعتد بلعنه من خلقه، وهم المؤمنون خاصة . قيل : الأوّل لعنهم أحياءً، وهذا لعنهم أمواتاً ، بدليل قوله : (خَالِدِينَ فِيهَا)

ص: 272

دائمين في اللعنة أو النار ، وإضمارها قبل الذكر تفخيماً لشأنها وتهويلاً ، أو اكتفاء بدلالة اللعن عليها . وقيل : يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ ﴾ أي: يكون عذابهم على وتيرة واحدة، فلا يخفّف أحياناً ويشتد أحياناً (وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ لا يمهلون من الإنظار ، أو لا ينتظرون ليعتذروا، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة.

آية 163

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( 163 )

عن ابن عبّاس قال : إنّ كفّار قریش قالوا يا محمد صف لنا وانسب لنا ربّك ، فنزلت: (وَإلَهُكُم) خالقكم والمنعم عليكم بجميع النعم من أصولها وفروعها، ولا شيء سواه بهذه الصفة، ولا يقدر عليها، فإنّ كلّ ما سواه إما نعمة وإما منعم عليه (إلهُ وَاحِدٌ)خطاب للعام، أي: المستحق منكم للعبادة واحد فرد في الإلهية لا شريك له، فلا يصح أن يعبد غيره ويسمّى إلهاً (لا إلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير للوحدانية ، وإزاحة لأن يتوهّم أنّ في الوجود إلهاً غيره ولكن لا يستحق منهم العبادة (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ كالحجّة عليها ، فإنّه سبحانه لمّا كان مولى النعم كلّها أصولها وفروعها، وما سواه إمّا نعمة أو منعم عليه، فلا يستحق العبادة أحد غيره . وهما خبران آخران لقوله : «إلَهُكُمْ» أو لمبتدأ محذوف.

قال في المجمع : «الآية متصلة بما قبلها وما بعدها، فاتصالها بما قبل كاتصال الحسنة بالسيئة لتمحو أثرها، ويحذر من مواقعتها ، فإنّه لما ذكر الشرك وأحكامه أتبع ذلك بذكر التوحيد وأحكامه واتصالها بما بعدها كاتصال الحكم بالدلالة على صحته، لأنّ ما ذكر في الآية التي بعدها هي الحجة على صحة التوحيد» (1).

ص: 273


1- مجمع البيان 1 : 244 .

آية 164

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء من ماء فأَحْيَا به الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِیفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿164)

روي أنّ للمشركين كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، فلما سمعوا هذه الآية قالوا : إن كنت صادقاً فائت بآية نعرف بها صدقك ، فنزلت: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) في إنشائهما على سبيل الاختراع والابتداع . جمع السماوات وأفرد الأرض، لأنّ السماوات طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة، بالجنس واللون والقطر والكبر، بخلاف الأرضين.

﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ تعاقبهما ، فإنّ كلّاً منهما يعقب الآخر ، كقوله تعالى : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلفَةً) (1)، أو اختلافهما في الجنس والصفة، من اللون والطول والقصر والحركة والسكون .

(وَالفُلْكِ) والسفن الحاملة للأثقال والأحمال (الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) أي : بالّذي ينفعهم، فتكون ما موصولة، أو بنفعهم،فتكون مصدريّة. وتوصيف الفلك للاستدلال بالبحر وأحواله . وتخصيصه بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه، ولذلك قدّمه على ذكر المطر والسحاب، لأنّ منشأهما البحر في غالب الأمر . وتأنيث الفلك لأنه بمعنى السّفينة .

﴿ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَآءٍ) يعني: من مطر «من» الأولى للابتداء،

ص: 274


1- الفرقان : 62 .

والثانية للبيان . والسماء يحتمل الفَلَك والسحاب وجهة العلوّ (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) فعمّر به الأرض بعد خرابها بالنبات، أو بأهل الأرض بإخراج الأقوات وَبَثَّ ونشر وفرّق (فِيْهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ ، عطف على «أنزل» أي : ما بثّ فيها من كلّ حيوان يدبّ ، أو على «أحيا» فإنّ الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالمطر. هذا استدلال بنزول المطر، وتكوّن النبات به ، وبثّ الحيوانات في الأرض .

﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ) في مهابها قبولاً ، ودبوراً، وشمالاً، وجنوباً. وفي أحوالها: باردة ، وحارّة ، ولينة وعاصفة وقرأ حمزة والكسائي على الإفراد (وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ﴾ المذلّل الله تعالى (بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) لا ينزل ولا ينكشف - مع أنّ الطبع يقتضي أحدهما - حتى يأتي أمر الله . وقيل : مسخّر الرياح تقلّبه في الجوّ بمشيئة الله يمطر حيث شاء. واشتقاقه من السحب، لأنّ بعضه يجرّ بعضاً .

(لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتفكرون فيها، وينظرون إليها بعيون عقولهم، ويعتبرون بها ، لأنها دلائل على عظيم القدرة وعجيب الحكمة .

وفي المجمع : «قد بيّن العلماء تفصيل ما تدلّ عليه فقالوا :

أمّا السماوات والأرض فيدلّ تغيّر أجزائهما، واحتمالهما الزيادة والنقصان وأنّهما من الحوادث لا ينفكان عن حدوثهما . ثم إن حدوثهما وخلقهما يدلّ على أنّ لهما خالقا لا يشبههما ولا يشبهانه، لأنه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم القادر لنفسه الذي ليس بجسم ولا عرض، إذ جميع ما هو بصفة الأجسام والأعراض محدث ، ولابد له من محدث ليس بمحدث، لاستحالة التسلسل، ويدلّ كونهما على جهة الإتقان والإحكام والاتساق والانتظام على كون فاعلهما عالماً حكيماً.

وأمّا اختلاف الليل والنهار ، وجريهما على وتيرة واحدة، وأخذ أحدهما من

ص: 275

صاحبه الزيادة والنقصان وتعلّق ذلك بمجاري الشمس والقمر، فيدلّ على عالم مدبّر يدبّرهما على هذا الحدّ ، لا يسهو ولا يذهل من جهة أنّها أفعال محكمة واقعة على نظام وترتيب، لا يدخلها تفاوت ولا اختلال.

وأمّا الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، فيدلّ حصول الماء على ما تراه من الرقة واللطافة التي لولاهما لما أمكن جري السفن عليه، وتسخير الرياح لإجرائها في خلاف الوجه الذي يجري الماء إليه، على منعم دبّر ذلك لمنافع خلقه، ليس من جنس البشر، ولا من قبيل الأجسام، لأنّ الأجسام يتعذر عليها فعل ذلك .

وأمّا الماء الذي ينزل من السماء فيدلّ إنشاؤه وإنزاله قطرة قطرة، لا تلتقي أجزاؤه ، ولا تتألّف في الجوّ فينزل مثل السيل، فيخرب البلاد والديار . ثمّ إمساكه في الهواء - مع أنّ من طبع الماء الانحدار - إلى وقت نزوله بقدر الحاجة وفي أوقاتها، على أنّ مدبّره قادر على ما يشاء من الأمور، عالم حكيم خبير .

وأمّا إحياء الأرض بعد موتها ، فيدلّ بظهور الثمار وأنواع النبات وما يحصل به من أقوات الخلق ، وأرزاق الحيوانات، واختلاف طعومها وألوانها وروائحها ، واختلاف مضارها ومنافعها في الأغذية والأدوية، على كمال قدرته، وبدائع حكمته سبحانه من عليم حكيم ، ما أعظم شأنه !!

وأما بثّ كلّ دابّة فيها ، فيدل على أنّ لها صانعا مخالفاً لها منعماً بأنواع النعم ، خالقا للذوات المختلفة بالهيئات المختلفة في التراكيب المتنوعة، من اللحم والعظم. والأعصاب والعروق، وغير ذلك من الأعضاء والأجزاء المتضمّنة لبدائع الفطرة وغرائب الحكمة ، الدالة على عظیم قدرته وجسیم نعمته .

وأما الرياح ، فيدلّ تصريفها بتحريكها وتفريقها في الجهات، مرّة حارّة ومرّة باردة ، وتارة لينة وأخرى عاصفة، وطوراً عقيماً وطوراً لاقحة، على أن مصرّفها قادر على ما لا يقدر عليه سواه، إذ لو اجتمع الخلائق كلّهم على أن يجعلوا الصبا

ص: 276

دبوراً والشمال جنوباً لما أمكنهم ذلك .

وأما السحاب المسخّر فيدلّ على أن ممسكه هو القدير الذي لا شبيه له ولا نظير ، لأنه لا يقدر على تسكين الأجسام بغير علاقة ولا دعامة إلا الله سبحانه، القادر لذاته ، لا نهاية المقدوراته.

فهذه هي الآيات الدالة على أنه سبحانه صانع غير مصنوع ، قادر لا يعجزه شيء عالم لا يخفى عليه شيء، حيّ لا تلحقه الآفات، ولا تغيّره الحادثات، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير. استشهد بحدوث هذه الأشياء على قدمه وأزليته، وبما وسمها به من العجز والتسخير على کمال قدرته، وبما ضمّنها من البدائع على عجائب خلقته.

وفيها أيضاً أوضح دلالة على أنه سبحانه المنّان على عباده بفوائد النعم، المنعم عليهم بما لا يقدر غيره على الإنعام بمثله من جزيل القسم ، فيعلم بذلك أنّه سبحانه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه.

وفي هذه الآية أيضاً دلالة على وجوب النظر والاستدلال، وأن ذلك هو الطريق إلى معرفته ، وفيها البيان لما يجب فيه النظر وإبطال التقليد» (1).

وفي الأنوار: «اعلم أنّ دلالة هذه الآيات على وجود الإله (عزّ و جلّ) ووحدته من وجوه كثيرة ، يطول شرحها مفصلاً. والكلام المجمل أنها أمور ممكنة وجد كلّ منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة وأنحاء مختلفة، إذ كان من الجائز مثلاً أن لا تتحرّك السماوات أو بعضها كالأرض، وأن تتحرّك بعكس حركاتها ، وبحيث تصير المنطقة دائرة مارّة بالقطبين، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلاً، وعلى هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها، فلا بد من موجد قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته، وتقتضيه مشيئته متعالياً عن معارضة غيره، إذ لو كان معه إله

ص: 277


1- مجمع البيان 1 : 247

يقدر على ما يقدر عليه الآخر. فإن توافقت إرادتهما فالفعل إن كان لهما لزم اجتماع مؤثّرين على أثر واحد وإن كان لأحدهما لزم ترجيح الفاعل بلا مرجّح، وعجز الآخر المنافي لإلهينه ، وإن اختلفت لزم التمانع والتطارد ،كما أشار إليه بقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (1) . وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله ، وحثّ على البحث والنظر فيه» (2). ولهذا قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي : لم يتفكر فيها .

آية 165 - 167

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)»

وبعد بيان التوحيد بالأدلّة الواضحة ذكر حال الكفرة المصرين على الكفر والعناد، الذين يتخذون آلهة أخرى من الجمادات ، فقال : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً) أمثالاً من الأصنام التي يعبدونها . وقيل : من الرؤساء الذين كانوا

ص: 278


1- الأنبياء : 22 .
2- أنوار التنزيل 1 : 205 - 206 .

يطيعونهم، بدلالة قوله تعالى بعد ذلك : (إِذْ تَبَرّأ الَّذِينَ اتَّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ) (1). وقال الباقر : «هم أئمّة الظلمة وأشياعهم» . ولعلّ المراد أعم منهما ، وهو ما يشغل عن طاعة الله (عزّ و جلّ).

(يُحِبُّونَهُمْ) يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب (كَحُبِّ الله ) حباً كحبّ الله ، أي : كتعظيمه والإضافة إلى الفاعل أي : كما يحبّ الله . وإنما استغني عن ذكر من يحبّه ، لأنّه غير ملبس . وقيل : كحبّهم الله . وعن ابن عبّاس : كحبّكم الله ، أي : كحبّ المؤمن الله ، أي : يسوون بينه وبينهم في محبّتهم ، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه . والمحبّة ميل ،القلب من الحبّ، استعير لحبّة القلب، ثمّ اشتق منه الحبّ، لأنه أصابها ورسخ فيها. ومحبّة العبد الله إرادة طاعته، والاعتناء بتحصيل مراضيه ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه ، وتوفيقه في الطاعة، وصونه عن المعاصي.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) لا تنقطع محبّتهم الله ، بخلاف محبّة الأنداد، فإنّها الأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب، ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى الله عند الشدائد، ويعبدون صنماً زماناً ويعدلون منه إلى غيره، أو يأكلونه ، كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة، والحيس هو تمر وأقط (2) وسمن .

ولمّا ذكر الذين اتخذوا الأنداد بين حالهم في المعاد بقوله: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : ولو يعلم هؤلاء الذين أشركوا باتخاذ الأنداد (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) أَي : إذا عاينوا العذاب يوم القيامة، فأجرى المستقبل مجرى الماضي لتحققه ، كقوله : (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) (3).

وقوله : (أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) سادٌ مسدّ مفعولي «يرى». وجواب «لو»

ص: 279


1- البقرة : 166 .
2- الأقْطُ : الجبن والقطعة منه .
3- الأعراف : 44 .

محذوف، أي: لو يعلمون أن القدرة كلّها الله على كلّ شيء من الثواب والعقاب وغيره دون أندادهم، ويعلمون شدّة عقابه للظالمين حين شاهدوا أنواع عذابهم يوم القيامة ، لكان لهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ، ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم ، فندموا أشدّ الندم ، فحذف الجواب لعدم الوصول إلى كنهه .

وقرأ ابن عامر ويعقوب ونافع ولو ترى على أنه خطاب للنبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، أي : ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً وخطباً جسيماً. وابن عامر : إذ يُرَوْنَ على البناء للمفعول . ويعقوب (إنّ) بالكسر ، وكذا ﴿ وَأنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ) على الاستئناف أو على إضمار القول.

﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتَّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) بدل من «إذ يرون» أي: إذ تبرّاً المتبوعون - وهم الرؤساء - من الأتباع الضعفاء (وَرَأَوُا العَذَابَ) أي رائين له ، والواو للحال ، و«قد» مقدّرة . وقيل : عطف على «تَبَرَّأ». ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) يحتمل العطف على «تَبَرَّأ»، أو «رَأوا»، أو الحال والأول أظهر .ومعنى الأسباب : الوُصل الّتي كانت بينهم يتواصلون عليها من الأتباع ، والاتفاق على الدين، وسائر الأغراض الداعية إلى ذلك والمعنى : زال عنهم سبب يمكن أن يتوصل به من مودّة أو عهد أو قرابة، فلا ينتفعون بشيء من ذلك. وأصل السبب الحبل الذي يرتقى به الشجر .

(وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي : وقال الأتباع (لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ «لو» للتمنِّي ، ولذلك أجيب بالفاء، أي: ليت لنا عوداً إلى الدنيا( فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ)من الرؤساء فيها كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا في الآخرة .

(كَذَلِكَ) مثل ذلك الإراء الفظيع (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) ندامات. وهي ثالث مفاعيل «يُري» من رؤية القلب، وإلا فحال ، يعني : تنقلب حسرات عليهم، فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾

ص: 280

أصله: وما يخرجون فعدل إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلوص والرجوع إلى الدنيا . وفي «هُم» دلالة على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص.

آية 168 - 169

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)»

ولما قدم سبحانه ذكر التوحيد وأهله ، والشرك وأهله ، أتبع ذلك بذكر ما تتابع منه سبحانه على الفريقين من النعم والإحسان، ليجعلوها وسيلة إلى شكر منعمها الحقيقي ، وينقادوا لأمره، وينتهوا عن اتباع الشيطان، لما في ذلك من الجحود لنعمه والكفران ، فقال خطاباً عاماً لجميع المكلّفين من بني آدم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا) لفظه لفظ الأمر ومعناه الإباحة (مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً) . عن ابن عباس : أنها نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الملابس ولذيذ المطاعم. و «حلالاً» مفعول «كلوا» أو صفة مصدر محذوف، أو حال «مِمَّا فِي الأَرْضِ». و«من» للتبعيض، لأنّ كلّ ما في الأرض غير مأكول (طَيِّباً) طاهراً من كلّ شبهة . وقيل : الطيب هو الحلال، فجمع بينهما لاختلاف اللفظين تأكيداً. وقيل : معناه تستطيبونه وتستلذونه في العاجل والآجل.

(وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ) يقال : اتّبع خطواته، ووطىء على عقبه، أي اقتدى به واستنّ بسنّته . فالمعنى : لا تقتدوا به في اتِّباع الهوى ، فتحرّموا الحلال وتحللوا الحرام.

ص: 281

وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة بتسكين الطاء ، وهما لغتان، جمع خطوة، وهو ما بين قدمي الخاطي، وهي المرّة من الخطو كالغَرفة والغُرفة ، والقَبضة والقُبضة.

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة، وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه ، ولذلك سمّاه ولياً في قوله: ﴿أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) (1).

وهذه الآية دالّة على إباحة المأكل إلّا ما دلّ الدليل على حظره، فجاءت مؤكدة لما في العقل.

ثم بيّن عداوته ووجوب التحرّز عن متابعته ، فقال : ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالفَحْشَاءِ﴾ أي : لا يأمركم بخير قط، واستعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على الشر، تسفيهاً لرأيهم ، وتحقيراً لشأنهم. والسوء والفحشاء ما أنكره العقل، واستقبحه الشرع والعطف لاختلاف الوصفين، فإنّ ما أنكره العقل سوء لاغتمام العاقل به وفحشاء باستقباحه إيّاه . وقيل : السوء يعمّ القبائح، والفحشاء ما يتجاوز الحد في القبح من الكبائر ، كالشرك وقتل النفس المعصومة والزنا . وقيل : الأول ما لا حدّ فيه ، والثاني ما شرع فيه الحدّ .

(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) كاتخاذ الأنداد، وتحليل المحرّمات،وتحريم الطيِّبات . ويدخل فيه كلّ ما يضاف إلى الله تعالى ممّا لا يجوز عليه ، وجميع الاعتقادات الباطلة والمذاهب الفاسدة. وفيه دليل على المنع من اتباع الظنّ رأساً . وأمّا اتباع المجتهد لما أدّى إليه ظن مستند إلى مدرك شرعي - كخبر الواحد - فوجوبه قطعي ، والظنّ في طريقه، فإنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعية الحكم ، كما بين في الكتب الأصولية.

ص: 282


1- البقرة : 257

آية 170 - 171

«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)»

عن ابن عباس قال : دعا النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) و اليهود إلى الإسلام فقالوا : بل تتبع ما وجدنا عليه آباءنا من التمسك باليهوديّة ، فهم كانوا خيراً منا وأعلم ، فنزلت: (وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن وشرائع الإسلام عدل عن الخطاب عنهم للنداء على ضلالتهم، فإنّه لا ضالّ أضل من المقلّد كأنّه التفت إلى العقلاء وقال لهم : أنظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون ؟ والقائل لهم : النبي والمسلمون (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) وجدناهم عليه ، وقيل : نزلت في المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله تعالى من الحجج والآيات، فجنحوا إلى التقليد في عبادة الأصنام.

(أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ) الواو للحال أو العطف، والهمزة للردّ والتعجيب . وجواب «لو» محذوف ، أي : لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لا تبعوهم. وهو دليل على منع التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد، وأمّا اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام - فهو في الحقيقة ليس بتقليد، بل اتباع الغير لما أنزل الله تعالى .

ثمّ ضرب الله سبحانه مثلاً للكفّار في تركهم إجابة من يدعوهم إلى التوحيد وركونهم إلى التقليد ، فقال : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا )المضاف مقدر، تقديره : مثل

ص: 283

داعي الذين كفروا إلى الإيمان (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) أو : مثل الذين كفروا كمثل بهائم الَّذي ينعق ﴿ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً )دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت وزجر ، ولا تفقه شيئاً آخر ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون.

والمعنى: أنّ الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم، ولا يتأملون فيما يقرّر معهم، فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مقصده، وتحسّ بالنداء ولا تفهم معناه .

وقيل : معناه : ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم، كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته، فكذلك هؤلاء يتبعونهم على ظاهر حالهم ولا يفقهون أهم على حق أم على باطل ؟

وقيل : هو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه ، وهو التصويت على البهائم. وهذا يغني عن الإضمار، لكن لا يساعده قوله: ﴿إِلّا دُعَاء ونِدَاءً) لأنّ الأصنام لا تسمع ، إلا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركّب .

﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عمّي ) رفع على الذمّ ، أي : هم صمُّ (فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) أي : بالفعل، للإخلال بالنظر .

آية 172 - 173

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله إن كُنتُم إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿172 ﴾ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخنزيرِ وَمَا أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَ غَيْرَ بَاغِ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِیمٌ(173 )

ثم خاطب سبحانه المؤمنين، وذكر نعمه الظاهرة عليهم وإحسانه التامّ

ص: 284

عليهم ، فقال : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) :أي: كلوا من مستلذات ما رزقناكم ، لأنّ كلّ ما رزقه الله تعالى لا يكون إلا حلالاً . ثمّ أمرهم بالقيام بحقوقها ، فقال : ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) الّذي رزقكم إيَّاها وأحل لكم ، فإنّ عبادته لا تتم إلا بالشكر (إنْ كُنْتُم إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إن صح أنّكم تخصّونه بالعبادة، وتقرّون أنّه المنعم على الحقيقة . وفي الحديث :« يقول الله: إنّي والجن والإنس في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري».

ولما ذكر سبحانه إباحة الطيّبات عقبه بتحريم المحرّمات ، فقال : ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ ) أي : أكلها والانتفاع بها، وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعيّة، والسنّة ألحقت بها ما أبين من حيّ (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنْزِيرِ) خصّ اللحم بالذكر لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان، وسائر أجزائه كالتابع له في الحرمة ﴿وَمَا أهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) :أي: رفع به الصوت عند ذبحه للصنم، والإهلال أصله رؤية الهلال ، لكن لمّا جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رؤي سمّي ذلك إهلالاً ، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان بغير التكبير .

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغِ) على مضطر آخر بالاستيثار لنفسه عليه أو بقصد اللذّة (وَلَا عَادٍ) سد الرمق أو الجوعة . وعنهم (علیه السّلام) غير باغ على إمام المؤمنين ، فإنّ نفسه معرّض للقتل في حكم الدين، فلا يجوز أن يستبقى فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ أَي : لا حرج عليه في تناوله (إنَّ الله غَفُورٌ )بما فعل (رَحِيمٌ) بما رخّصه فيه .

قال في المجمع: «إنّما ذكر المغفرة لأحد الأمرين : إمّا ليبيّن أنّه إذا كان يغفر المعصية فإنّه لا يأخذ بما رخّص فيه ، وإما لأنه وعد بالمغفرة عند الإنابة إلى طاعة الله ممّا كانوا عليه من تحريم ما لم يحرّمه الله ، من السائبة والبحيرة وغيرهما» (1).

فإن قلت : «إنّما» يفيد قصر الحكم على ما ذكر ، وكم من حرام لم يذكر ؟

ص: 285


1- مجمع البيان 1 : 257 - 258 .

قلت : المراد قصر الحرمة على ما ذكر ممّا استحلوه لا مطلقاً ، أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل : إنّما حرّم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها .

آية 174 - 176

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿174 ﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴿175 ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا في الكتاب لفي شقاق بَعيد ( 176)

ثم عاد الكلام إلى ذكر اليهود الذين تقدّم ذكرهم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ) ويستبدلون بتحريفه ( ثَمَناً قَلِيلاً) عرضاً حقيراً وهو الرشوة، أو المراد الوظائف المرسومة المأخوذة عن رعاياهم كما من (أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) إما في الحال ادّعاءً ، لأنّهم أكلوا ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه ، فكأنّه إذا أكل ما يؤدّي إلى النار أكل النار ، كقولهم : أكل فلان الدم ، إذا أكل الدية التي هي بدل منه . أو في المآل حقيقة ، أي : لا يأكلون يوم القيامة إلّا النّار. ومعنى (في بطونهم» ملء بطونهم ، يقال : أكل في بطنه، وأكل في بعض بطنه

﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ) عبارة عن غضبه عليهم، وتعريض بحرمانهم حال مقابليهم - وهم أهل الجنّة - في إكرام الله إياهم بكلامه والزلفى من الله (وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ ولا يثني عليهم، ولا يصفهم بأنّهم أزكياء ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مؤلم .

ص: 286

(أَوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالهُدَى) في الدنيا ﴿ وَالعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ) فِي الآخرة بكتمان الحق للمطامع والأغراض الدنيوية (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ تعجب من حالهم في جرأتهم على النار والتباسهم بموجبات النار من غير مبالاة. و «ما» تامة مرفوعة بالابتداء، وتخصيصها كتخصيص قولهم : «شر أهرٌ ذا ناب. أو استفهامية وما بعدها خبرها ، أي : أي شيء صبرهم ؟ أو موصولة وما بعدها صلة والخبر محذوف، أي الذي صبّرهم شيء عظيم. يقال : أصبره على كذا وصبره بمعنى .

(ذَلِكَ) ذلك العذاب (بأنَّ الله) بسبب أنّ الله (نَزَّلَ الكِتَابَ بِالحَقِّ) فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان (وإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ) في كتب الله ، فاللام فيه للجنس، واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله وكفرهم ببعض . أو في التوراة، فاللام للعهد، واختلفوا بمعنى : تخلّفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها ، أو خلّفوا خلاف ما أنزل الله مكانه أي حرّفوا ما فيها . أو في القرآن واختلافهم فيه قولهم : سحرٌ ، وتقول ، وكلام علّمه بشر ، وأساطير الأولين ( لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) لفي خلاف بعيد عن الحق، غير مجتمعين على الصواب.

آية 177

«لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)»

ولمّا حوّلت القبلة أكثروا الخوض في نسخها ، وزعم كلّ واحد من الفريقين

ص: 287

أنّ البرّ هو التوجّه إلى قبلته وصرفوا أكثر أوقاتهم إلى البحث عنه ، حتى اشتغلوا عن أكثر أمورهم، فنزلت: (لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ) البر ّكلّ فعل مرضيّ . ومعناه : ليس البرّ ما أنتم عليه، فإنّه منسوخ ، بل البرّ إنما يكون ما اتّبعه المؤمنون . وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة ، فقيل : ليس البرّ الذي يجب صرف الهمة إليه مقصوراً بأمر القبلة . أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمر القبلة. وقرأ حمزة وحفص البرّ بالنصب ،بتقديم الخبر على الاسم.

(وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ) أي : لكنّ البرِّ الذي ينبغي أن يهتم به برّ من برّ من آمن بالله ، أو ولكن ذا البرّ من آمن بالله . يدخل فيه جميع ما لا يتم معرفة الله إلا به، كمعرفة حدوث العالم، وإثبات المحدث، وصفاته الواجبة والجائزة ، وما يستحيل عليه تعالى، ومعرفة عدله وحكمته ﴿ وَاليَوْمِ الآخِرِ ﴾ يدخل فيه: التصديق بالبعث، والحساب والعقاب، والثواب (وَالمَلَئِكَةِ )بأنّهم عباد الله المكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (1) ﴿وَالكِتَابِ) وبالكتب المنزلة، ومنها القرآن ﴿ وَالنَّبِيِّينَ﴾ وبالأنبياء كلّهم، وأنهم معصومون ، وخاتمهم محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، والتمسك بها لازم لجميع المكلّفين إلى يوم القيامة وقرأ نافع وابن عامر : ولكن ، بالتخفيف ورفع البرّ .

(وَآتَى المَالَ ﴾ أعطاه (عَلَى حُبِّهِ) أي : حبّ المال والشحّ به، كما قال ابن مسعود، عن رسول الله حين سئل عنه : «أيّ الصدقة أفضل ؟ قال : أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل العيش وتخشى الفقر ، لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا، ولفلان كذا ». وقيل : الضمير الله تعالى أو للمصدر، أي: حبّ الله أو حبّ الإيتاء ، أي : يعطيه وهو طيب النفس . والجار والمجرور في موضع الحال.

ص: 288


1- اقتباس من الآية (26 - 27) من سورة الأنبياء .

﴿ ذَوِي الْقُرْبَى وَاليَتَامَى) يريد المحاويج منهم، ولم يقيّد لعدم الالتباس. وقدّم ذوي القربي لأنّ إيتاء هم صدقة وصلة ، كما قال : صدقتك على المسكين صدقة ، وعلى ذي رحمك اثنتان». وقال (علیه السّلام) لفاطمة بنت قيس لما قالت : يا رسول الله ، إنّ لي سبعين مثقالاً من ذهب ، فقال :« اجعليها في قرابتك» وعن الباقر والصادق (علیهما السّلام): أنّ المراد قرابة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، كما في قوله : ( قُلْ لَا أَسْأَلُكُم عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى) (1) . (وَالمَسَاكِينَ) جمع المسكين، وهو الذي أسكنته الخلّة، وهي الحاجة . أو دائم السكون إلى النّاس، لأنه لا شيء له كالمسكير للدائم السكر ( وَابْنَ السَّبِيلِ ) المسافر المنقطع به جعل من أبناء السبيل لملازمته له، كما يقال للصّ القاطع: ابن الطريق . وقيل : هو الضيف، لأن السبيل يرعف (2) به، :أي يقدّمه إلى بيت الضيف. والقول الأوّل مروي عن أبي جعفر (علیه السّلام) و مجاهد، والثاني عن ابن عباس وقتادة وابن جبير (وَالسَّائِلِينَ) الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال . وقال (علیه السّلام): «للسائل حق وإن جاء على فرسه». (وَفِي الرِّقَابِ) أي: صرف المال في تخليصها بمعاونة المكاتبين ، أو فكّ الأسارى، أو ابتياع الرقاب لعتقها .

(وَأَقَامَ الصَّلوةَ ) المفروضة، أي أدّاها لميقاتها وعلى حدودها (وَآتَى الزَّكُوةَ) أعطى زكاة ماله. يحتمل أن يكون المقصود منه ومن قوله : «آتَى المَالَ » الزكاة المفروضة ، ولكن الغرض من الأولى بيان مصارفها، وبالثاني أداؤها والحثّ عليها . وأن يكون المراد بالأوّل نوافل الصدقات، أو حقوقاً كانت في المال سوى الزكاة. وعن الشعبي قال : إنّ في المال حقاً سوى الزكاة، وتلا هذه الآية ، فقال : ذكر إيتاء المال في هذا الوجوه، ثمّ قفّاه بإيتاء الزكاة .

ص: 289


1- الشورى : 23 .
2- رَعَفَ يَرْعَفٌ : سبق وتقدّم . (لسان العرب 9 :123) .

﴿ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) عطف على «مَنْ آمَنَ». والمراد بالعهد جميع العهود والنذور التي بينهم وبين الله ، والعقود التي بينهم وبين الناس، وكلاهما يلزم الوفاء به .

(وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ) نصب على الاختصاص أو المدح، ولم يعطف، بأن قال والصابرون ، لفضل الصبر في الشدائد على سائر الأعمال. عن الزهري : البأساء في الأموال، والضرّاء في الأنفس كالمرض ( وَحِينَ البَأْسِ) وقت مجاهدة العدو.

(أَوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي: صدقوا الله فيما قبلوا منه والتزموه علماً وتمسكوا به عملاً ، في الدين واتباع الحق وطلب البرّ (وَأَوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ) عن

الكفر وسائر الرذائل بوسيلة فعل هذه الفضائل .

وهذه الآية الشريفة جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها، دالّة عليها ضريحاً أو ضمناً ، فإنّها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء: صحة الاعتقاد، وحسن المعاشرة، وتهذيب النفس . وقد أشير إلى الأوّل بقوله: «مَنْ آمَنَ» إلى قوله : (وَالنَّبِيِّينَ» وإلى الثاني بقوله : «وَآتَى المَالَ إلى قوله : « وَفِي الرِّقَابِ»، وإلى الثالث بقوله : «وَأَقَامَ الصَّلَاةَ» إلى آخرها، ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظراً إلى إيمانه واعتقاده، وبالتقوى اعتباراً بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق، وإليه أشار بقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان».

واستدلّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ المعني بها أمير المؤمنين (علیه السّلام)، لأنه لا خلاف بين الأمّة أنّه كان جامعاً لهذه الخصال، فهو مراد بها قطعاً، ولا قطع على كون غيره جامعاً لها، ولهذا قال الزجاج والفرّاء : إنها مخصوصة بالأنبياء المعصومين ، لأنّ هذه الأشياء لا يؤدّيها بكلّيّتها على حق الواجب فيها إلا الأنبياء (علیهم السلام) .

ص: 290

آية 178 - 179

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)»

ولمّا بين سبحانه أنّ البرّ لا يتم إلا بالإيمان والتمسّك بالشرائع، بيّن أحكامها ، وبدأ بحفظ الدماء والجراح، لأنّه الأهم، فإنّه سبب بقاء الحياة الذي به انتظام العالم، ولا تحصل العبادة إلا به، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ) أي فرض وأوجب القصاص، أي: المساواة (فِي القَتْلَى) جمع المقتول، وهو أن يفعل بالقاتل ما فعله بالمقتول (الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ وَالأنْثَى بالأنثى).

روي أنه كان في الجاهليّة بين حيّين من أحياء العرب دماء، وكان لأحدهما طول وفضل على الآخر ، فأقسموا : لنقتلنّ بالعبد منا الحرّ منكم ،وبالمرأة منّا الرجل منكم، وبالرجل منّا الرجلين منكم ، بجراحة منا جراحتين منكم ونتزوّج بنسائكم بغير مهور ، فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمر فيها أن يتقابلوا على طريق المساواة . ولا خلاف أن المراد به قتل العمد، فإنّ العمد هو الذي يجب فيه القصاص، دون يجب فيه القصاص ، دون الخطأ المحض وشبيه العمد قال الصادق(علیه السّلام): «لا يقتل حرّ بعبد ، ولكن يضرب ضرباً شديداً، ويغرم دية العبد». ولا يقتل الرجل بالمرأة ، إلا إذا أدى إلى أهله نصف ديته .

ص: 291

فإن قلت : كيف قال : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى والأولياء مخيّرون بين القصاص والعفو وأخذ الدية .

قلت : المراد أنه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص، والفرض قد يكون مضيّقاً وقد يكون مخيّراً فيه، أو فرض عليكم التمسك بما حدّ لكم، وترك مجاوزته إلى ما لم يجعل لكم. ويجب على القاتل تسليم النفس إلى أولياء المقتول . ويجوز قتل العبد بالحرّ والأنثى بالذكر إجماعاً. وليس في الآية ما يمنع ذلك ، لأنه لم يقل : ولا تقتل الأنثى بالذكر، ولا العبد بالحرّ. فما تضمنته الآية معمول به وما قلناه مثبت بالإجماع، ولقوله سبحانه : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) (1) . و تفصيل هذا المبحث يحال إلى الكتب الفقهيّة .

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ ) من جهته (شَيْءٌ) أي: شيء من العفو، على أنه كقولك: سير بزيد بعض السير وطائفة من السير ، لأنّ «عفا» لازم لا يتعدّى إلا بواسطة «عن» ، فلا يصح أن يكون شيء» في معنى المفعول به.

وإنّما قيل : شيء من العفو ، للإشعار بأنه إذا عفي له طرف من العفو ، بأن يعفى عن بعض الدم، أو عفا عنه بعض الورثة ، تمّ العفو وسقط القصاص، ولم تجب إلا الدّية .

وقيل: «عفي» بمعنى : ترك، و«شيء» مفعول به، وهو ضعيف، إذ لم يثبت «عفا الشيء» بمعنى : تركه ، بل أعفاه ، ومنه قوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «واعفوا اللحى».

فإن قلت : إن «عفا » يتعدّى ب«عن» لا باللام ، فما وجه قوله : «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ»؟ قلت : يتعدّى ب«عن» إلى الجاني وإلى الذنب فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه ، قال الله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ ) (2) و (عَفَا اللهُ عَنْهَا )(3). فإذا تعدّى إلى الذنب

ص: 292


1- المائدة : 45 .
2- التوبة : 43 .
3- المائدة : 101 .

قيل : عفوت لفلان عمّا جنى، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه. وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل : فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه ، يعني : ولي الدم ، فاستغنى عن ذكر الجناية.

وأخوه هو وليّ المقتول . وذكر بلفظ الأخوّة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من أخوة الإسلام.

(فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءً إِلَيْهِ بإِحْسَانٍ) أي : فليكن أوفا لأمر، أو فعلى العافي اتّباع وهذه توصية للعافي والمعفو عنه جميعاً، أي: فليتّبع الوليّ القاتل بالمعروف، بأن لا يشدّد في الطلب ، أو لا يطالبه إلّا مطالبة جميلة ، وينظره إن كان معسراً، ولا يطالب بالزيادة على حقه، وليؤد إليه المعفو له بدل الدم أداءً بإحسان، بأن لا يمطله .

(ذُلِكَ ) أي : الحكم المذكور في العفو والدية ، أو النهي عن تجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) لما فيه من التسهيل والتفع. قيل: كتب على اليهود القصاص وحده ، وعلى النصارى العفو، وخيّرت هذه الأمة بينهما وبين الدية ، تيسيراً عليهم، وتقديراً للحكم على حسب مراتبهم، فالأفضل أن يختار العفو ، والأوسط الدية ، ثمّ يختار القصاص.

(فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) بأن قتل بعد قبول الدية أو العفو، أو تجاوز ما شرع من قتل غير القاتل (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي:نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة . وقيل : في الدنيا ، بأن يقتل لا محالة ، لقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)« لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية».

ثم بيّن سبحانه وجه الحكمة في إيجاب القصاص، فقال: ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةً) وفيه فصاحة عجيبة وبلاغة بليغة من أنّ القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل ظرفاً للحياة، من قبيل جعل الشيء محلّ ضده. وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة معنى : أنّ لكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص

ص: 293

حياة عظيمة ، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، ويقتلون بالمقتول غير ،قاتله، فتقع الفتنة، فكانت في القصاص حياة أي حياة ، أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، فسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود، فكان القصاص سبب حياة نفسين.

ويحتمل أن يكون كلا الظرفين خبرين ، ل«حياة»، وأن يكون أحدهما خبراً والآخر صلة له ، أو حالاً من الضمير المستكن فيه .

وقال في المجمع: ونظيره من كلام العرب القتل أنفى للقتل، إلّا أنّ ما في القرآن أكثر فائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة، وأحسن تأليفاً بالحروف المتلائمة.

أمّا كثرة الفائدة ، فلأنّ فيه جميع ما في قولهم : القتل أنفى للقتل، وزيادة ،معانٍ منها : إبانة العدل لذكره القصاص، ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه وهو الحياة، ومنها : الاستدعاء بالرغبة والرهبة ، وحكم الله به.

وأما الإيجاز في العبارة، فإن الذي هو نظير : القتل أنفى للقتل، قوله : القصاص حياة ، وهو عشرة أحرف ، وذلك أربعة عشر حرفاً .

وأما بعده من الكلفة، فهو أن في قولهم : القتل أنفى للقتل ، تكريراً غيره أبلغ منه .

وأمّا الحسن بتأليف الحروف المتلائمة، فإنه مدرك بالحس وموجود باللفظ ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة ، لبعد الهمزة من اللام، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام»(1).

ثمّ نادى أرباب العقول الصافية إلى التأمل في حكمة القصاص من استبقاء

ص: 294


1- مجمع البيان 1 : 266 .

الأرواح وحفظ النفوس، بقوله : ( يَا أُوْلِي الألْبَابِ) أي : يا ذوي العقول الكاملة تأمّلوا في شرع القصاص وما يتعلّق به (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) القتل خوفاً من القصاص، أو لعلكم تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له وغير ذلك من المعاصي .

آية 180 - 182

كُتبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴿180﴾ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمَعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿181 ﴾ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿182)

ثم بيّن سبحانه شريعة أخرى، وهي الوصية ، فقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ) أي، حضر أسبابه وظهر أماراته (إن تَرَكَ خَيْراً) مالاً . وقيل : مالاً كثيراً، لما روي عن علي (علیه السّلام): «أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهم أو ستّمائة ، فمنعه وقال : قال الله تعالى : «إن تَرَكَ خَيْراً» والخير هو المال الكثير». وهذا هو المأخوذ به عندنا ، لأن قوله (علیه السّلام) حجة .

و (الوَصِيَّةُ) مرفوع «كُتِبَ». وتذكير فعلها للفصل، أو على تأويل : أن يوصي، أو الإيصاء، ولذلك ذكّر الراجع في قوله : «فَمَنْ بَدَّلَهُ». والعامل في «إذا». مدلول «كُتِبَ» - أي: وجب - لا «الوَصِيَّةُ»، لتقدّمه عليها (لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقَرَبِينَ) :أي لوالديه وأقاربه ( بِالمَعْرُوفِ ) أي : بالشيء الذي يعرف العقلاء أنه لا جور فيه ولا حيف، فلا يفضّل الغنيّ، ولا يتجاوز الثلث. وروي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «من لم يحسن وصينه عند موته كان نقصاً في مروءته وعقله».

ص: 295

(حقّاً) مصدر مؤكّد ، أي : حق ذلك حقاً واجباً (عَلَى المُتَّقِينَ) على من آثر التقوى.

قالوا : إنّ هذا الحكم كان في بدء الإسلام، فنسح بآية المواريث ، وبقوله : «إنّ الله أعطى كلّ ذي حق حقه، ألا لا وصيّة لوارث».

وفيه بحث، لأن آية المواريث لا تعارضه، بل تؤكده، من حيث إنها تدلّ على تقديم الوصيّة مطلقاً والحديث من الآحاد ولم يجوز أصحابنا نسخ القرآن بخبر الواحد وقالوا : إنّ الوصية لذي القرابة من أوكد السنن .

ورووا عن الباقر (علیه السّلام) أنه سئل : هل تجوز الوصية للموارث ؟ فقال : نعم ، وتلا هذه الآية».

وروى السكوني ، عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، عن علي (علیه السّلام) قال : «من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية».

وروي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «من مات بغير وصيّة مات ميتةً جاهلية».

وروي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنه قال: «ما ينبغي لامرىء مسلم أن يبيت إلّا ووصيّته تحت رأسه».

ثمّ أوعد سبحانه على تغيير الوصيّة ، فقال : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) غيّر الإيصاء عن وجهه ، من الأوصياء والشهود (بَعْدَ مَا سَمِعَهُ) وصل إليه وتحقق عنده ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) :أي: فَما إثم الإيصاء المغيّر أو إثم التبديل إلا على مبدّليه ، دون غيرهم من الموصي والموصى له، لأنه الذي حاف(1) وخالف الشرع، والموصي والموصى له بريئان من الحيف. وفي الآية دلالة على أن الوصي أو الوارث إذا فرّط في الوصيّة أو غيرها لا يأثم الموصي بذلك ، ولم ينقص من أجره شيء، وأنه لا يجازى أحد على عمل غيره.

ص: 296


1- أي : جار وظلم .

(إنَّ اللهَ سَمِيعٌ ) لما قاله الموصي من العدل أو الجنف (عَلِيمٌ) بما يفعله الوصيّ من التصحيح أو التبديل . وقيل : سميع بجميع المسموعات، عليم بجميع المعلومات. وعلى التقادير وعيد للمبدل بغير حق.

ولما تقدّم الوعيد لمن بدّل الوصيّة، بيّن في هذه الآية أنّ ذلك يلزم مَنْ غيّر حقّاً باطل، فأمّا مَنْ غيّر باطلاً بحق فهو محسن ، فقال : (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ) أي : توقّع وعلم ، وقد شاع في كلامهم : أخاف أن يقع كذا ، يريدون التوقع والظنّ الغالب الجاري مجرى العلم (جَنَفاً) ميلاً عن الحق بالخطأ في الوصيّة (أو إثْماً) تعمّداً للحيف (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) بين الورثة والموصى لهم، بإجرائهم على نهج الشرع (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) في هذا التبديل، لأنه تبديل باطل إلى حق ، بخلاف الأوّل (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وعد للمصلح. وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم، وكون الفعل من جنس ما يؤثم.

آية 183 - 184

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿183 ﴾ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىسَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينِ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَیرٌ لَهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿184)

ثمّ بيّن سبحانه فريضة أخرى ، فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ) فرض ووجب (عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ )من الأنبياء وأممهم ، من لدن عهد آدم إلى عهدكم. يروى عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنه قال : أولهم آدم يعني : أن الصوم عبادة قديمة ما أخلى الله أمّة من إيجابها عليهم لم يوجبها عليكم وحدكم.

ص: 297

وفيه توكيد للحكم، وترغيب في الفعل ، وتطييب على النفس.

والصوم في اللغة الإمساك عمّا تنازع إليه النفس . وفي الشرع الإمساك عن المفطرات المعلومة شرعاً ، فإنّها معظم ما تشتهيه الأنفس.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) المعاصي ، فإنّ الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدأها ، والصائم أردع لنفسه عن مواقعة السوء. عن النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «خصاء أمتي الصوم». وعنه (علیه السّلام) : «من لم يستطع الباه فليصم ، فإنّ الصوم له وِجاء» (1). أو تتقون بالمحافظة عليها وتعظيمها (2) بعدم الإخلال بأدائه، لأصالته وقدمه. وتخصيص المؤمنين بالخطاب لقبولهم لذلك، ولأنّ العبادة لا تصح إلا منهم، ووجوبه عليهم لا ينافي وجوبه على غيرهم.

(أيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) مؤقّتات بعدد معلوم أو قلائل، فإنّ القليل من المال يعدّ عدّاً، كقوله : ﴿ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ) ((3)، والكثير يهال (4) هيلاً .ونصبها ليس بالصيام لوقوع الفصل بينهما ، بل بإضمار «صوموا» لدلالة الصيام عليه . والمراد بها رمضان، أو ما وجب صومه قبل وجوبه ونسخ به ، وهو عاشوراء، أو ثلاثة أيام من كلّ شهر، كما قال قتادة . أو ب«كما كتب» على الظرفية ، أو على أنه مفعول ثانٍ ل«كتب عليكم» على السعة .

وقيل : معناه : صومكم كصومهم في عدد الأيام كما روي أنّ رمضان كتب على النصارى ، فوقع في برد أو حرّ شديد، فحوّلوه إلى الربيع، وزادوا عليه عشرين

ص: 298


1- الباه : النكاح والجماع . والوَجءُ : أن ترضّ أنثيا الفحل - أي تدقّ وتكسر - رضاً شديداً - يذهب شهوة الجماع. ومعنى الحديث : أن من لم يستطع التزويج فعليه بالصوم، فإنه سبب كسر الشهوة . وقريب منه الحديث الأول .
2- أي : بالمحافظة على عبادة الصوم وتعظيمها ، ومرجع الضمير يعلم بقرينة المقام .
3- يوسف : 20 .
4- يُهَالُ أي : يصبٌ .

كفّارة لتحويله . وقيل : زادوا ذلك لموتان أصابهم.

(فَمَن كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) يضرّه الصوم (أوْ عَلَى سَفَرٍ) أو راكب سفر (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي: فعليه صوم عدّة أيّام المرض أو السفر من أيام أخر إذا أفطر ، فحذف الشرط والمضاف إليه للعلم بها. وفيه دلالة على أن المسافر والمريض مكتوب عليهما الإفطار، وأن يصوموا أياماً أُخر. وهو المروي عن أئمتنا (علیهم السّلام) وعند الشافعيّة هذا على سبيل الرخصة. وقول أكثر الأصحاب والتابعين من العامّة موافق لمذهبنا .

وفي الحديث : «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر». «وليس من البرّ الصيام في السفر» .

وروى العياشي بإسناده مرفوعاً إلى محمد بن مسلم عن أبي عبدالله قال : «لم يكن رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يصوم في السفر تطوعاً ولا فريضة، حتّى نزلت هذه الآية بكراع الغميم عند صلاة الفجر، فدعا رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بإناء فشرب وأمر الناس أن يفطروا ، فقال قوم: قد توجّه النهار ولوصمنا يومنا هذا ، فسمّاهم رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) العصاة ، فلم يزالوا يسمون بذلك الإسم حتى قبض رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)»(1).

وأيضاً عنه (علیه السّلام) : «الصيام في شهر رمضان في السفر كالمفطر في الحضر».

وعنه (علیه السّلام) قال : «لو أنّ رجلاً مات صائماً في السفر لما صليت عليه».

وعنه (علیه السّلام) قال: «من سافر أفطر وقصّر ، إلا أن يكون رجلاً سفره إلى صيد ، أو في معصية الله». وروي أن عمر بن الخطاب أمر رجلاً صام في السفر أن يعيد صومه .

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) وعلى المطيقين للصيام الّذين لا عذر لهم إن أفطروا (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِيْنٍ) نصف صاع . وقيل : مد . وكان ذلك في بدء الإسلام، فإنّه

ص: 299


1- تفسير العياشي 1 : 81 ح 190 .

فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوا ، فاشتدّ عليهم ، فرخّص لهم في الإفطار والفدية، ثمّ نسخ بقوله: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) .

وقيل : هو الرخصة في الإفطار والفدية لمن يتعبه الصوم ويجهده، وهم الشيوخ والعجائز والمراضع، فيكون حكمه ثابتاً. فهذا القول موافق لمذهبنا .

وروى أصحابنا عن أبي عبد الله (علیه السّلام) أن معناه : وعلى الذين يطيقون الصوم ثم أصابهم كبر وعطاش وشبه ذلك فدية لكلّ يوم مدّ من طعام .

وقرأ نافع وابن عامر برواية ابن ذكوان بإضافة الفدية إلى الطعام وجمع المساكين. وقرأ هشام مساكين بغير إضافة الفدية إلى الطعام.

﴿ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فزاد على مقدار الفدية (فَهُوَ) أَي : التطوّعَ (خَيْرٌ لَهُ). وقرأ حمزة والكسائي : يطّوّع ، أي : يتطوّع ( وَأَنْ تَصُومُوا) رفع على الابتداء ، أي : صيامكم أيها المطيقون وجهدكم طاقتكم (خَيْرُ ) أي : أفضل ثواباً (لَكُمْ) من الفدية وتطوّع الخير ، أو منهما ومن التأخير للقضاء (إن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة . وجوابه محذوف ، دلّ عليه ما قبله ، أي : اختر تموه . وقيل : معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبّر علمتم أنّ الصوم خير لكم من الفدية والتطوّع.

آية 185

«شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)»

ثمّ بيّن سبحانه وقت الصوم ، فقال : (شَهْرُ رَمَضَانَ) مبتدأ خبره ما بعده، أو

ص: 300

خبر محذوف تقديره ذلكم شهر رمضان، أو بدل من الصيام على حذف المضاف ، أي: كتب عليكم صيام شهر رمضان، ورمضان مصدر «رمض» إذا احترق من الرمضاء ، فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ، كما قيل : ابن دأية للغراب، بإضافة الابن إلى دأية (1) البعير ، لكثرة وقوعه عليها إذا دبرت (2). والدأية الموضع الذي يقع عليه القتب (3). ومنع الصرف للتعريف والألف والنون. وقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): من صام رمضان، فعلى حذف المضاف لا من الالتباس. وإنّما سمّي به لارتماضهم ، أي : احتراقهم فيه من حرّ الجوع والعطش، أو لارتماض الذنوب فيه.

(الَّذِي أَنزِلَ فِيهِ القُرآنُ) :أي: ابتدأ فيه إنزاله ، وكان ذلك في ليلة القدر . وقيل : أنزل فيه جملة إلى السماء الدنيا، ثمّ نزل إلى الأرض نجوماً على حسب صلاح العباد.

وروى الثعلبي بإسناده عن أبي ذر الغفاري، عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)أنه قال : «أنزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لستّ ، وفي رواية أخرى لثلاث مضين من شهر رمضان، وأنزل إنجيل عيسى(علیه السلام) لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وأنزل زبور داود لثمان عشرة ليلة مضت من رمضان وأنزل الفرقان على محمد(صلّی الله علیه و آله و سلّم) لأربع وعشرين من شهر رمضان. وهذا بعينه رواه العياشي (4)) عن أبي عبدالله عن آبائه ، عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

وقيل : معناه : أنزل فى شأنه القرآن، وهو فرض صومه وإيجابه على الخلق.

ص: 301


1- الدَّأْيَةُ : فقار الكاهل في مجتمع ما بين الكتفين من كاهل البعير خاصة . انظر السان العرب 14 : 247 - 248)
2- الدَّبَرَةُ : قرحة الدابة والبعير ، أو الجرح الذي يكون في ظهر الدّابّة .
3- القَتَبُ : الرَّحل .
4- تفسير العياشي 1 : 80 ح 184 .

فيكون «فيه» بمعنى: في فرضه ،كما يقول القائل : أنزل في الزكاة كذا، أي: في فرضها.

ثمّ وصف سبحانه القرآن بقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ) حال من القرآن ، أي : هادياً لهم بإعجازه ودالّاً لهم على ما كُلّفوه من العلوم (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى) أَي : ودلالات بينة مما يهدي إلى الحقِّ عن ابن عبّاس : المراد بالهدى الأوّل الهدى من الضلالة، وبالثاني : بيان الحلال والحرام . وقيل : المراد بالأوّل ما كلّف من العلوم ، وبالثاني ما يشتمل عليه من ذكر الأنبياء وشرائعهم وأخبارهم ، لأنها لا تدرك إلا بالقرآن (وَالفُرْقَانِ ) أي : ممّا يفرّق بين الحق والباطل.

وروي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنه قال : «القرآن جملة الكتاب ، والفرقان المحكم الواجب العمل «به». ويجوز تسمية الكتاب الفرقان تسمية الكلّ بأشرف أجزائه.

روى الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن أبي الورد ، عن أبي الجعفر (علیه السّلام) قال : «خطب رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) الناس في آخر جمعة من شعبان، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس إنّه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، وهو شهر ،رمضان فرض الله صيامه وجعل قيام ليلة فيه بتطوّع صلاة كمن تطوّع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور ، وجعل لمن تطوّع فيه بخصلة من خصال الخير والبرّ كأجر من أدى فريضة من فرائض الله فيما سواه، ومن أدّى فيه فريضة من فرائض الله كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور وهو شهر الصبر ، وإنّ الصبر ثوابه الجنّة . وهو شهر المواساة. وهو شهر يزيد الله في رزق المؤمن فيه. ومن فَطّر فيه مؤمناً صائماً كان له بذلك عند الله عتق رقبة، ومغفرة لذنوبه فيما مضى.

فقيل له : يا رسول الله ليس كلّنا يقدر على أن يفطر صائماً.

قال : فإنّ الله تعالى كريم، يعطي هذا الثواب لمن لم يقدر منكم إلّا على

ص: 302

مذقة (1) من لبن يفطر صائماً، أو شربة من ماء عذب، أو تمرات، لا يقدر على أكثر من ذلك . ومن خفّف فيه عن مملوكه خفّف الله عليه حسابه.

وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة، وآخره الإجابة والعتق من النار .

ولا غنى بكم فيه عن أربع خصال: خصلتين ترضون الله بهما، وخصلتين لا غنى بكم عنهما . أما اللتان ترضون الله بهما : فشهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّى رسول الله . وأمّا اللتان لا غنى بكم عنهما: فتسألون الله فيه حوائجكم والجنّة، وتسألون الله فيه العافية، وتتعوّذون من النار».

وقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب ، وعمله مضاعف».

﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ) فمن حضر في الشهر مقيماً غير مسافر (فَلْيَصُمْهُ) فليصم فيه . والأصل : فمن شهد فيه فليصم فيه، لكن وضع المظهر موضع المضمر الأوّل للتعظيم ، ونصب على الظرف ، كقولك : شهدت يوم الجمعة وحذف الجارّ ونصب الضمير الثاني على الاتساع.

﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر) حدّ المرض الذي يوجب الإفطار ما يخاف بالصوم الزيادة المفرطة فيه. وحدّ السفر الذي يوجب الإفطار ثمانية فراسخ كما يشهد له الروايات الواردة عن أئمتنا صلوات الله عليهم . وتكريره لتخصيص قوله : «فَمَن شَهِدَ»، أو لئلا يتوهّم نسخه كما نسخ قرينه، وهو قوله : «وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ».

﴿ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ) أي : يريد أن يبسّر عليكم في الرخصة للمريض والمسافر ، إذ لم يوجب الصوم عليهما . وقيل : يريد بكم اليسر في جميع أموركم، ولا يعسّر بالتضييق عليكم ، فلهذا نفى عنكم الحرج في الدين .

ص: 303


1- المَذِيقُ : اللبن الممزوج بالماء ، والمَذقَةُ : الطائفة منه .

وأمركم بالحنيفيّة السمحة التي لا إصرَ فيها، ومن جملة ذلك ما أمركم بالإفطار في السفر والمرض. وفيه دلالة على بطلان قول المجبّرة ، فإنّهم قائلون بجواز تكليف ما لا يطاق .

﴿ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ) معطوفه محذوف ، دلّ عليه ما سبق، أي: وشرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، والمرخص له بالقضاء مراعاة لعدة ما أفطر فيه، والترخيص في إباحة الفطر لتكملوا العدّة ﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) شرع ذلك . فهذه علل الفعل المحذوف على سبيل اللف، فإنّ قوله : «وَلِتُكْمِلُوا» علّة الأمر بمراعاة العدّة ، وَلِتُكَبِّرُوا الله» علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته، «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» علّة الترخيص والتيسير ، أي : إرادة أن تشكروا ويجوز أن يكون «وَلِتُكْمِلُوا» معطوفاً على علّة مقدّرة، كأنه قيل : يريد الله ليسهل عليكم ولتكملوا العدّة. وعن عاصم : ولتكملوا بالتشديد.

والمراد بالتكبير عندنا التكبير عقيب أربع صلوات : المغرب والعشاء ليلة الفطر، والغداة ، وصلاة العيد على مذهبنا . وقيل : التكبير عند الإهلال. وقيل: المراد به : ولتعظموا الله على ما أرشدكم له من شرائع الدين .

وإنّما عدّي فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمّناً معنی الحمد ، كأنّه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم . و «ما» يحتمل المصدر والخبر ، أي : على هدايتكم، أو على الذي هداكم إليه.

آية 186

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿186 ﴾

ولما ذكر سبحانه الصوم الذي هو مظانّ إجابة الدعاء ، فقال بعد ذلك : ﴿وَإِذَا

ص: 304

سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي : فقل لهم : إني قريب. وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم، ونحوه قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ) (1). روي أن أعرابيّاً قال الرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): قريب ربّنا فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه ؟ فنزلت هذه الآية».

وقوله : ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) تقرير للقرب، ووعد للداعي بالإجابة (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ) إذا دعوتهم للإيمان والطاعة ، كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم ( وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أمر بالثبات والمداومة عليه. روي عن الصادق (علیه السلام) أنّ معناه : وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أَي : راجين إصابة الرشد، وهو إصابة الحقّ.

فإن قلت : نحن نرى كثيراً من الناس يدعون الله فلا يجيبهم، فما معنى قوله «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ»؟

قلت : المراد أنه ليس أحد يدعو الله على ما توجبه الحكمة إلا أجابه الله . فإنّ الداعي إذا دعا يجب أن يسأل ما فيه صلاح له في دينه ، ولا يكون مفسدة له ولا لغيره ، فالآية عامة مخصصة بهذا الشرط .

فإن قلت : ما تقتضيه الحكمة لابد أن يفعله سبحانه، فما معنى الدعاء وإجابته ؟

قلت : إنّ الدعاء عبادة في نفسها ، يعبد الله سبحانه بها، لما في ذلك من إظهار الخضوع والافتقار إليه سبحانه. وأيضاً فإنه لا يمتنع أن يكون وقوع ما سأله إنّما صار مصلحة بعد الدعاء، ولا يكون مصلحة قبل الدعاء.

ويؤيد ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: «قال النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): ما من

ص: 305


1- ق : 16 .

مسلم دعا إلى الله تعالى بدعوة ، ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم، إلا أعطاه بها إحدى خصال ثلاث : إما أن يعجل دعوته، وإما أن يدّخر له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه السوء».

وروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اِنّ العبد ليدعو الله وهو يحبّه، فيقول : يا جبرئيل لا تقض لعبدي هذا حاجته وأخرها ، فإنّي أحبّ أن لا أزال أسمع صوته ، وإنّ العبد ليدعو الله وهو يبغضه فيقول : يا جبرئيل اقض لعبدي هذا حاجته بإخلاصه وعجّلها، فإنّي أكره أن أسمع صوته» .

وروي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنه قال: «ربّما أخّرت عن العبد إجابة الدعاء، ليكون أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الأمل».

وقيل لإبراهيم بن أدهم: «ما بالنا ندعوا الله سبحانه فلا يستجيب لنا ؟ فقال :لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم رسول الله فلم تتبعوا سنّته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه، وأكلتم نعمة الله فلم تؤدّوا شكرها ، وعرفتم الجنّة فلم تطلبوها وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه، ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس».

قال في الأنوار: «واعلم أنّه لمّا أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدّة ، وحثّهم على القيام بوظائف التكبير والشكر ، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم، مجيب لدعائهم، مجازيهم على أعمالهم ، تأكيداً له، وحثّاً عليه»(1).

ص: 306


1- أنوار التنزيل 1 : 218 .

آية 187

«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)»

ثمّ بيّن أحكام الصوم فقال : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ) الجماع (إِلَى نِسَائِكُمْ) عن الصادق (علیه السّلام): كان الأكل محرماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراماً بالليل والنهار ، وكان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: مطعم بن جبير، نام قبل أن يفطر، وحضر حفر الخندق فأغمي عليه، وكان قوم من الشبّان ينكحون بالليل سرّاً في رمضان ، فنزلت الآية ، فأحل النكاح بالليل والأكل بعد النوم». وليلة الصيام الليلة الّتي تصبح منها صائماً.

والرفث أصله القول الفاحش، فكنّي به عن الجماع، لأنه لا يكاد يخلو من قبح، فيجب أن يكنّى عنه . وعدّي ب«إلى» لتضمّنه معنى الإفضاء. وإيثاره هاهنا بين الكنايات من الإفضاء والمس والغشيان والإتيان وغيرها استهجاناً لما ارتكبوه قبل الإباحة ، ولذلك سمّاه خيانة . وعن ابن عبّاس : أنّ إظهار هذه الخيانة أوّلاً صدر عن عمر ، فإنّه باشر بعد العشاء فندم وأتى النبي الا واعتذر إليه، فقام رجال واعترفوا بما صنعوا .

ص: 307

وقوله : ( هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) استئناف يبيّن سبب الإحلال ، وهو قلة الصبر عنهنّ ، وصعوبة الاجتناب عنهنّ ، لكثرة المخالطة، وشدّة الملابسة، وتلاصق أبدانكم بهنّ التصاق اللباس بالبدن فلمّا كان الرجل والمرأة يعتنقان ، ويشتمل كلّ واحد على واحد ، شبّه باللباس أو لأنّ كلّاً منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي تخونونها بالمعصية، ولا تؤدّون الأمانة بالامتناع عن المباشرة ، أو تظلمونها بتعريضها للعقاب، وتنقيص حظها من الثواب .والاختيان أبلغ من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب.

(فَتَابَ عَلَيْكُمْ) قبل توبتكم لما تبتم ممّا اقترفتموه ، فرخّص لكم وأزال التشديد عنكم (وَعَفَا عَنْكُمْ) ومحا عنكم أثره (فَالْآنَ باشِرُوهُنَّ) أَي : جامعوهنّ حين نسخ عنكم تحريم المباشرة . والأمر للإباحة بعد الحظر . وفيه دليل على جواز نسخ السنّة بالقرآن .والمباشرة إلزاق البشرة بالبشرة كنّي به عن الجماع (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) واطلبوا ما قدره لكم ، وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد. والمعنى: أنّ المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد فإنّه الحكمة من خلق الشهوة وشرع النكاح لا قضاء الشهوة وحدها، أو اطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال الذي بيّنه في كتابه .

﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) هذا أيضاً أمر الاباحة (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) أَي : يظهر ويتميّز لكم على التحقيق (الخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ) شبّه أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، وما يمتدّ معه من ظلمة الليل بخيطين أبيض وأسود. واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله : «مِنَ الفَجْرِ» عن بيان الخيط الأسود، الدلالته عليه، وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل ، كما أنّ قولك : رأيت أسداً مجاز ، فإذا زدت من فلان رجع تشبيهاً. ويجوز أن يكون «من» للتبعيض، فإنّ ما

ص: 308

يبدو بعض الفجر .

وروي أنها نزلت ولم ينزل «مِنَ الْفَجْرِ»، فقال عدي بن حاتم للنبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إِنِّي وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود، فكنت أنظر فيهما فلا يتبيّن لى فضحك رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) حتى رئيت نواجذه، ثمّ قال: يابن حاتم إنّما ذلك بياض النهار وسواد الليل، فابتداء الصوم من هذا الوقت، ثمّ نزل: «من الفجر». فإن صح هذا النقل، وكان قبل دخول رمضان، فتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز.

﴿ثُمَّ َأتِمُّوا الصِّيَامَ) من وقت طلوع الفجر الثاني، وهو المستطير المعترض الذي يأخذ الأفق، وهو الفجر الصادق الذي يجب عنده الصلاة (إلَى اللَّيْلِ ) هذا بيان آخر وقته وإخراج الليل عنه، فينتفي صوم الوصال ، أي : أتموه إلى وقت دخول الليل ، وهو بعد غروب الشمس. وعلامة دخوله سقوط الحمرة من جانب المشرق ، وإقبال السواد منه إلى قامة الرأس. وعند العامة دخول الليل بمجرد استتار القرص . والأوّل مذهب فقهائنا إلّا علم الهدى (1) قدّس سرّه .

وبعد حكم الصوم بين حكم الاعتكاف الذي يكون الصوم من جملة شروطه، فقال : ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) معتكفون فيها، أي: في حال اعتكافكم فيها . والاعتكاف هو اللبث في المسجد الأعظم من كل بلد، يكون أقلّه ثلاثة أيام. وعند بعض علمائنا (2) الاعتكاف إنّما يكون في المساجد الأربعة لا غير المسجد الحرام ومسجد النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة. والمراد بالمباشرة الوطء فقط عند أكثر العامة. وعند مالك وابن زيد الوطء وكلّ ما

ص: 309


1- للاستزادة انظر جواهر الكلام 7 109 .
2- كالطبرسي في مجمع البیان 2 : 281 .

دونه من قبلة وغيرها . وهو مذهبنا استناداً إلى الروايات المنقولة عن أئمتنا (علیه السّلام) .

روي عن قتادة : كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع، فنهوا عن ذلك . فترك المباشرة شرط آخر لصحة الاعتكاف والشروط والأحكام المتعلّقة بالاعتكاف مذكورة في كتب الفقه .

(تِلْكَ) أي : الأحكام التي ذكرت (حُدُودُ اللهِ ) حرمات الله ومناهيه ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا) فلا تأتوها نهى أن يقرب الحدّ الحاجز بين الحق والباطل لئلا يداني الباطل، فضلاً عن أن يتخطى عنه ، كما قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «إن لكلّ ملك حمى ، وأن حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه». والرتع حول الحمى القرب منه . وهو أبلغ من قوله : «فلا تعتدوها» . وقيل : معناه : وتلك فرائض الله فلا تقربوها بالمخالفة ﴿كَذَلِكَ) أي: مثل ذلك البيان (يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ) حججه ودلائله (لِلنَّاسِ) على ما أمرهم به ونهاهم عنه (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ مخالفة الأوامر والنواهي.

آية 188

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الحُكّام لتأكلوا فريقًا مَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

ثم بين سبحانه شريعة أخرى من شرائع الإسلام نسقاً على ما تقدّم من بيان الحلال والحرام ، فقال : ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ﴾ أي : لا يأكل بعضكم مال بعض(بِالبَاطِلِ) بالوجه الذي لم يبحه الله . و «بين» نصب على الظرف أو الحال من الأموال ( وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكّام) عطف على المنهي. والإدلاء الإلقاء، أي: ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكّام ، أو لا تلقوا بها إلى حكّام السوء على وجه الرشوة (لِتَأْكُلُوا )بالتحاكم (فريقاً) طائفة (مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْم) بما يوجب

ص: 310

إثماً ، كشهادة الزور واليمين الكاذبة، أو ملتبسين بالإثم أو بالصلح (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنّكم مبطلون ظالمون في الدعوى وفي أخذ الأموال، فإنّ ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح .

روي: «أنّ عبدان الحضرمي ادعى على امرىء القيس الكندي قطعة أرض، ولم يكن له بيّنة، فحكم رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بأن يحلف ،امرىء القيس فهمّ به ، فقرأ (علیه السّلام): (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) (1) فارتدع عن اليمين وسلّم الأرض إلى عبدان ، فنزلت هذه الآية».

وروي أن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)قال الخصمين اختصما عنده : «إنما أنا بشر مثلكم ، فلعلّ بعضكم ألحن (2) بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئاً، فإن ما أقضي له قطعة من النار . فبكيا فقال كلّ واحد منهما : حقّي لصاحبي ، فقال : اذهبا فتوخّيا (3)، ثمّ استهما، ثم ليحلّلْ كلّ واحد منكما صاحبه».

آية 189

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)»

ثمّ بين سبحانه شريعة أخرى فقال : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) روي أنّ معاذ

ص: 311


1- آل عمران : 77 .
2- أي: أقوم بها من صاحبه ، وأقدر عليه ، من اللحن بمعنى الفطنة .
3- توخّى الأمر : تعمّده وتطلبه دون سواه . واستهم القوم : تقارعوا .

ابن جبل قال: «يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً كالخيط ، ثم يزيد حتى يستوي، ثمّ لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، ولا يكون على حالة واحدة ؟ فنزلت».

والمعنى : يسألونك عن أحوال الأهلة في زيادتها ونقصانها، ووجه الحكمة في ذلك (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ) أي : معالم لهم يحتاجون إلى مقاديرها في صومهم وفطرهم وعدد نسائهم ومحلّ ديونهم (وَالحَجِّ) ومعالم لحجهم يعرف بها وقته . وهذا تخصيص بعد التعميم، للاهتمام بشأنه.

وملخّص المعنى : أنهم لمّا سألوا عن لمّا سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدّل أمره، فأمره الله تعالى أن يجيب بأنّ الحكمة الظاهرة في ذلك أن يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم، ومعالم للعبادات الموقتة يعرف بها أوقاتها، خصوصاً الحج، فإنّ معرفة وقت الحج موقوفة عليها. والمواقيت جمع ميقات من الوقت. والفرق بينه وبين المدّة والزمان : أنّ المدّة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها، والزمان مدّة مقسومة، والوقت الزمان المفروض لأمر.

روي أنّ الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا داراً ولا فسطاطاً من بابه ، بل إن كانوا من أهل المدر ينقبون في ظهر بيوتهم نقباً منه يدخلون ويخرجون ، أو يتخذون سلّماً يصعدون فيه ، وإن كانوا من أهل الوبر يجعلون فرجة خلف الخباء يخرجون ويدخلون منه، ويعدّون ذلك برّاً، فبيّن الله تعالى لهم أنّه ليس ببرّ ، فقال : ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا) أي: ليس البرّ بتحرّ جكم من دخول الباب وإتيانكم البيوت من ورائها (وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى ) أي : برّ من اتقى المحارم والشهوات غير المشروعة.

ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين، أو أنه لما ذكر أن الأهلة

ص: 312

مواقيت الحجّ ، وهذا أيضاً من أفعالهم في الحجّ، ذكره للاستطراد، أو أنهم لمّا سألوا عما لا يعنيهم ، ولا يتعلّق بعلم النبوّة ، وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم النبوّة، عقب بذكر جواب ما سألوه تنبيهاً على أنّ اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك . ويهتموا بالعلم بها .

وكذا قال في المجمع : «قيل : إنّه سبحانه لمّا بيّن أنّ أمورنا مقدّرة بأوقات قرن به قوله : « وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا» ، أي: فكما أنّ أموركم مقدّرة بأوقات، فلتكن أفعالكم جارية على الاستقامة باتباع ما أمر الله به ، والانتهاء عمّا نهى عنه ، لأنّ اتِّباع ما أمر به خير من اتباع ما لم يأمر به» (1) .

﴿ وَأَتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) إِذ ليس في العدول برّ، وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ، أي الأمور كان. ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم ، وأنّ مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره. والمعنى : ليس البرّ وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكنّ البرّ برّ من اتقى ذلك وتجنّبه ، ولم يجسر على مثله .

قال : وأتوا البيوت من أبوابها ، أي : وباشروا الأمور من وجوهها الّتي يجب أن تباشر عليها ، ولا تعكسوا والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب، من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شكّ في ذلك حتى لا يسأل عنه .

(وَاتَّقُوا اللهَ) في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )لكي تظفروا بالهدى والبرّ .

ص: 313


1- مجمع البیان 2 : 284 .

آية 190 - 194

«وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)»

ثمّ بيّن سبحانه أمر الجهاد الذي هو معظم أركان الإسلام، فقال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ جاهدوا لإعلاء كلمته وإعزاز دينه (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ )قِيلَ : كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمتقاعدين، لما روي أنّ المشركين صدّوا رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) عام ،الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء، وخاف المسلمون وهم يومئذٍ كانوا ألفاً وأربعمائة أن لا يفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم والشهر الحرام، وكرهوا ذلك، فنزلت وعن الربيع بن أنس : هي أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة، فكان رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يقاتل من قاتل ويكفّ عمّن كفّ .

ص: 314

وقيل : معناه : الّذين يناصبونكم القتال، ويتوقع ذلك منهم، دون غيرهم من المشائخ والصبيان والرهبان والنساء أو الكفرة كلّهم، فإنّهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده ، فهم في حكم المقاتلين .

( وَلَا تَعْتَدُوا ) بابتداء القتال، أو بقتال المعاهد، أو المفاجأة به من غير دعوة ، أو المثلة ، أو قتل من نهيتم عن من النساء والصبيان والشيوخ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ) لا يريد بهم الخير.

روي عن أئمتنا (علیه السّلام) أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) (1). وكذلك قوله : «واقتلوهم حيث ثقفتموهم» ناسخ لقوله: ﴿وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ (2).

ثم خاطب المؤمنين مبيّناً لهم كيفية القتال مع الكافرين، فقال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) وجدتموهم في حلّ أو حرم. وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء علماً كان أو عملاً، وهو يتضمّن معنى الغلبة، ولذلك يستعمل فيها (وَأَخْرِجُوهُم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ) أي : مكة ، كما أخرجوكم منها، وقد فعل ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح.

(وَالْفِتْنَةُ ) أي : المحنة الشديدة التي يفتتن بها الإنسان، كالإخراج من الوطن المألوف (أشَدُّ مِنَ القَتْلِ) أصعب منه ، لدوام تعبها وتألم النفس بها جدّاً، ومنه قول القائل :

لقتلٌ بحد السيف أهون موقعاً *** على النفس من قتل بحدّ فراق

وقيل لبعض الحكماء : ما أشدّ من الموت ؟ قال : الّذي يتمنّى فيه الموت.

ص: 315


1- النساء : 77 .
2- الأحزاب : 48 .

وقيل : معناه : شركهم في الحرم وصدّهم إيَّاكم عنه أشدّ من قتلكم إياهم فيه . ويسمّى الكفر فتنة لأنه يؤدّي إلى الهلاك كالفتنة، أو لأنه فساد يظهر عند الاختبار.

ثمّ نهى ابتداء المسلمين بالقتال أو بالقتل في الحرم، فقال: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ) لا تفاتحوهم بالقتال وهتك حرمة المسجد الحرام (حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ حتى يبتدأ المشركون بذلك (فإن قَاتَلُوكُمْ) بدءُوكم بذلك (فَاقْتُلُوهُمْ) فلا تبالوا بقتالهم ثَمَّ ، فإنّهم الذين هتكوا حرمته. وقرأ حمزة والكسائي : ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم ، فإن قتلوكم . والمعنى : حتى يقتلوا بعضكم كقولهم : قَتَلَنا بنو أسد «كَذَلِكَ» مثل ذلك الجزاء (جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ جزاؤهم، فيفعل بهم مثل ما فعلوا (فَإِنِ انتَهَوْا) عن القتال والكفر (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر لهم ما قد سلف .

وفي الآية دلالة على وجوب إخراج الكفّار من مكة ، كقوله : «حَتَّى لَا تَكُونَ فِتنَةٌ». والسنّة قد وردت أيضاً بذلك ، وهو قوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان». وعلى أنّه تقبل توبة القاتل عمداً، لأنّه بيّن أنه عزّ اسمه يقبل توبة المشرك، والشرك أعظم من القتل.

ثم بيّن سبحانه غاية وجوب القتال، فقال مخاطباً للمؤمنين : ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) شرك ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ خالصاً له ليس للشيطان فيه نصيب (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي : فلا تعتدوا على المنتهين، لأنّ مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، إذ لا يحسن عقلاً وشرعاً أن يظلم إلّا من ظلم، فوضع العلة وهي : «فَلَا عُدْوَانَ» موضع الحكم وهو : فلا تعتدوا وسمّي جزاء الظلم باسمه للمشاكلة والزواج ، كقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) . أو إن تعرّضتم للمنتهين صرتم ظالمين ، وينعكس الأمر عليكم . والفاء الأولى للتعقيب ، والثانية للجزاء.

ص: 316

روي قاتل المشركون المسلمين عام الحديبية في ذي القعدة، واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه، فكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته، فبين الله سبحانه جواز القتال في الشهر الحرام بلا كراهة فقال : (الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ)، يعني : هذا الشهر بذلك الشهر، وهتکه بهتکه فلا تبالوا به. قوله: ﴿ وَالحُرُمَاتُ قِصَاصُ احتجاج عليه ، أي : كلّ حرمة - وهو ما يجب أن يحافظ عليها - يجري فيها القصاص، بأن يهتك له حرمته، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم مثل ذلك ، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم. ثمّ أكد ذلك بقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) أي : فجازوه (بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) لا أزيد منه ﴿ وَاتَّقُوا اللهَ) في حال كونكم منتصرين، ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ) فيحرسهم ويصلح شأنهم.

آية 195

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿195 )

ولمّا أوجب سبحانه القتال في سبيل الله عقّب بذلك الانفاق فيه، فقال: (وَأَنْفِقُوا) من أموالكم (فِي سَبِيلِ اللهِ ) في الجهاد وأبواب البرّ، ولا تمسكواكلّ الإمساك ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بالإسراف وتضييع وجه المعاش، بل راعوا حدّ الوسط، فإنّ خير الأمور أوسطها. ويقرب منه ما روي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) : «لو أنّ رجلاً أنفق ما في يده في سبيل الله ما كان أحسن، ولا وفّق لقوله تعالى : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ » أو بالكفّ عن الغزو والإنفاق فيه، فإنّه يقوّي العدوّ ويسلّطهم على إهلاككم . ويؤيده ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنّه قال : لمّا أعزّ الله تعالى الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نقيم فيها

ص: 317

ونصلحها ، فنزلت . أو بالإمساك وحبّ المال، فإنّه يؤدّي إلى الهلاك المؤبد ، ولذلك سمّي البخل هلاكاً، وهو في الأصل انتهاء الشيء في الفساد.

والإلقاء طرح الشيء . وعدّي ب«إلى» لتضمّن معنى الانتهاء. وقيل: الباء مزيدة والمراد بالأيدي الأنفس والتهلكة والهلاك والهلك واحد، فهي مصدر ، ومثله التضرّة والتسرّة ، أي : لا توقعوا أنفسكم في الهلاك . وقيل : معناه : لا تجعلوها آخذة بأيديكم، أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها ، فحذف المفعول.

( وَأحْسِنُوا) أعمالكم وأخلاقكم ، أو تفضّلوا على المحاويج بالاقتصاد (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) في الأعمال والأخلاق ، أو المقتصدين في الإنفاق .

وفي الآية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس، وعلى جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف، لأن في ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة .

وفيها دلالة على جواز الصلح مع الكفّار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين، كما فعله رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) عام الحديبية ، وفعله أمير المؤمنين (علیه السّلام) بصفين ، وفعله الحسن (علیه السّلام) مع معاوية من المصالحة لما تشتت أمره وخاف على نفسه وشيعته .

فإن عورضنا بأنّ الحسين (علیه السّلام) قاتل وحده ؟

فالجواب أنّ فعله (علیه السّلام) يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّه ظنّ أنّهم لا يقتلونه ، لمكانه من رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

والآخر : أنّه غلب على ظنّه أنّه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبراً. كما فعل بابن عمّه مسلم ، فكان القتل مع عزّ النفس والجهاد أهون عليه .

ص: 318

آية 196 - 197

«وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)»

ثمّ أعاد الله سبحانه الكلام إلى فرض الحجّ والعمرة على العباد بعد بيانه فريضة الجهاد، فقال: ﴿ وَأتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ ) ائتوا بهما تامّين كاملين مستجمعي مناسكهما بشرائطهما وأركانهما لوجه الله خالصاً ، وأقيموهما إلى آخر ما فيهما . وظاهر الأمر يقتضي الوجوب، فدلّ الأمر بإتمامهما على أن العمرة واجبة مثل الحج، كما هو مذهبنا ومروي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام)وعلي بن الحسين (علیه السّلام) وسعيد بن جبير ومسروق والسدّي، وبه قال الشافعي في الجديد. وقال أهل العراق: إنها مسنونة . وهذا خلاف الظاهر، وخلاف ما روي عن الأئمة المعصومين صلوات الله

ص: 319

عليهم . وأركان أفعال الحجّ وشرائطها مذكورة في كتب الفقه ، فلا نطوّل الكتاب بذكرها .

(فَإِنْ أَحْصِرْتُمْ) منعتم ، يقال : أحصر الرجل إذا منع من مراده بعدوّ أو بمرض أو غيرهما ، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ أَحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ (1). وحُصر إذا حبسه عدوّ عن المضيّ، أو سجن، ومنه قيل للمحبس : الحصير. وهما بمعنى المنع في كلّ شيء، مثل صدّه وأصدّه . فعند أبي حنيفة كلّ منع بعدوّ أو مرض أو غيرهما يثبت له حكم الإحصار. وعند مالك والشافعي وأحمد يختص بمنع العدو وحده، وأما المنع بالمرض فقالوا : يبقى على إحرامه ، ولا يتحلّل حتى يصل إلى البيت، فإن فاته الحجّ جعل ما يفعل المفوت من عمل العمرة عليه والهدي والقضاء. هذا إذا لم يشترط عندهم ، أما مع الشرط فالصد والحصر سواء.

وعند أصحابنا الإماميّة أنّ الإحصار يختص بالمرض والصدّ بالعدوّ . ولمّا كان لكلّ منهما حكم ليس للآخر اختصّ باسم ، فإنّ حكم الممنوع بالمرض أن يبعث هديه مع أصحابه أصحابه، ويواعدهم يوماً لذبحه، فيتحلّل في ذلك اليوم من كلّ شيء، إلّا من النساء حتى يحجّ في القابل إن كان حجّه واجباً، أو يطاف عنه للنساء إن كان حجّه ندباً. والممنوع بالعدوّ يذبح هديه حينئذ ويحلّ له كلّ شيء حتى النساء، كما ذكره الله تعالى في قوله : «فإن أَحْصِرْتُمْ».

﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي ) أي : فعليكم ما استيسر ، أو فالواجب ما استيسر أو فاهدوا ما استيسر . يقال : يسر الأمر واستيسر ، وصعب واستصعب ضدّه . والهدي جمع الهدية . وقيل : مفرد مؤنّثه هدية، وجمعه هديّ بتشديد الياء، واشتقاقه من الهديّة . وقيل : من «هداه» إذا ساقه إلى الرشاد، لأنه يساق إلى الحرم. والمعنى : إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلّل، تحلّل بذبح هدي يتيسّر عليه، من بدنة أو بقرة أو

ص: 320


1- البقرة : 273 .

شاة حيث أحصر .

﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) أي : لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ ،محلّه أي مكانه الذي يجب أن ينحر فيه . والمحلّ بكسر الحاء يطلق على المكان والزمان. ومحلّه منى يوم النحر إن كان الإحرام بالحج، ومكة إن كان الإحرام بالعمرة فهذا إن كان محصراً بالمرض. وأما إن كان مصدوداً بالعدوّ فمحلّه الموضع الذي يصدّ فيه، لأن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) نحر هديه بالحديبية.

(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضاً يحوجه إلى الحلق (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) يحتاج فيه إلى الحلق للمداواة، أو تأذى بهوامّ رأسه أو جراحة فحلق لذلك (فَفِدْيَةٌ) فعليه فدية ، أي : بدل وجزاء يقوم مقامه (مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكِ ﴾ بيان لجنس الفدية . وأما قدرها فقد روي عن أئمتنا (علیهم السّلام) أن الصيام ثلاثة أيّام، والصدقة على ستّة مساكين، وروي عشرة ، والنسك شاة، وهو مخيّر فيها. ورووا ذلك عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال لكعب بن عجرة: لعلّك آذاك هوامك ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : احلق وصم ثلاثة أيّام، أو تصدّق بفَرَق على ستة مساكين، أو انسك شاة». والفَرَقُ(1) ثلاثة أصوع . والنسك مصدر . وقيل : هو جمع نسيكة ، أي : ذبيحة .

ولما ذكر حكم المحصر ومن به أذى أو مرض قال : ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ الإحصار، يعني : فإذا لم تحصر وا وكنتم في حال أمن وسعة (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ) فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج . وقيل : من استمتع بعد التحلّل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام قاصداً إلى أن يحرم بالحجّ (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي) فعليه دم استيسره بسبب التمتع من هدي المتعة.

ص: 321


1- الفَرَق : مكيال ضخم لأهل المدينة معروف .

وهو واجب بالإجماع على خلاف في أنه نسك أو جبران ، فعندنا وعند أبي حنيفة أنّه نسك يؤكل منه ، وعند الشافعي هو جبران جارٍ مجرى الجنايات ولا يؤكل منه .

واعلم أنّ حجّ التمتع قد يكون ابتداءً ، كمن يحرم أولاً بالعمرة ثمّ بعد قضاء مناسكها يحرم بالحجّ، وذلك ممّا لا نزاع في مشروعيته . وقد يكون بالعدول عن حج الإفراد، فإنّ من دخل مكة محرماً بحج الإفراد فالأفضل أن يعدل إلى عمرة التمتّع ويتمّ حج التمتع . وهذا الذي منعه جميع فقهاء العامة متمسكين بقول عمر : متعتان في عهد رسول الله ، أنا أحرمهما وأعاقب عليهما . وأمّا من دخل قارناً فلا يجوز العدول .

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أَي : الهدي (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ) فعليه صيامها في أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلّل والأفضل أن يصوم يوماً قبل التروية، والتروية ، وعرفة (1) ﴿وَسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ) إلى بلادكم وأهاليكم. ولو أقام بمكة انتظر قدر وصول صحبه إلى بلده أو مضيّ شهر.

﴿ تِلْكَ عَشَرَةُ ﴾ فذلكة (2) الحساب . وفائدتها أن لا يتوهم أن الواو بمعنى «أو» ، كقولك : جالس الحسن وابن سيرين، وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب، وفي أمثال العرب : علمان خير من علم، وأنّ المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة، فإنّه يطلق لهما (كَامِلة) صفة مؤكّدة تفيد المبالغة في محافظة العدد، فإنّ فيه زيادة توصية بصيامها، وأن لا يتهاون بها، ولا ينقص من عددها، كما تقول للرجل إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به وكان منك بمنزلة : الله الله لا تقصّر ، أو مبيّنة كمال العشرة ، فإنّه أوّل عدد كامل، إذ به تنتهي

ص: 322


1- أي : الأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوماً قبلهما .
2- في هامش النسخة الخطية : «الفذلكة في الحساب إجماله بعد التفصيل، وذلك بأن يذكر أولاً تفاصيله ثم تجمل تلك التفاصيل ، ويكتب مؤخّر الحساب : فذلك كذا وكذا . منه».

الأحاد وتتمّ مراتبها أو صفة مقيّدة تفيد كمال بدلينها من الهدي أي كاملة في وقوعها بدلاً من الهدي.

(ذَلِكَ) إشارة إلى التمتع . وقال الشافعي إلى الهدي أو الصيام. والحق الأوّل ، لأنّ اللام في ذلك للبعيد ، وذكر التمتع أبعد من الهدي وأيضاً فإنّه أجمع فائدة (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ) فعند الشافعي لم يكن عليهم هدي ولا صيام. وحاضروه من كان بينهم وبينه ثمانية وأربعون ميلاً فما دون من كلّ جانب ، لما رواه زرارة(1) عن الصادق (علیه السّلام). والقول بأنه اثنا عشر ميلاً لم نظفر بدليل متين فيه.

(وَاتَّقُوا الله) في المحافظة على أوامره ونواهيه ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) لمن خالف أمره وتعدى حدوده.

(الْحَجُّ أَشْهُرُ) أي وقته كقولك البرد شهران . وقيل : أشهر الحج أشهر فحذف المضاف . وقيل : جعل الحج الأشهر لمّا كان الحجّ فيها ، كقولك : ليل نائم (مَعْلُومَاتٌ) معروفات، وهي شوّال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة. وإنّما سمّي شهران وبعض الشهر أشهراً إقامة للبعض مقام الكلّ . والأصح أنّها شوّال وذو القعدة وذو الحجة عند أصحابنا، وبه قال مالك ، لأنّ الأشهر جمع، والجمع لا يصدق على أقلّ من ثلاثة وإطلاق الاسم على الكلّ حقيقة وعلى البعض مجاز ، والأصل عدمه. ومعنى كونها أشهر الحجّ أنّ الإحرام بالحجّ أو بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج لا يصح إلا فيها.

(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ ) أي : أوجب على نفسه بأن أحرم فيهن بالحج

ص: 323


1- لم نجد لزرارة رواية عن الصادق (علیه السّلام) في هذا الباب . نعم ، روى عن الباقر(علیه السّلام) ، انظر التهذيب 5 : 33 ح 98 ، الاستبصار 2: 157 ح 516 ، الوسائل 8: 187 «ب» 6 من أبواب أقسام الحج ح 3 و 7 .

(فَلَا رَفَثَ) فلا جماع عندنا . وقيل : الفحش من الكلام ﴿وَلَا فُسُوقَ) ولا كذب عندنا . وقيل : لا خروج عن حدود الشريعة بارتكاب المحظورات (وَلَا جِدَالَ) وهو قول : لا والله وبلى والله ، صادقاً وكاذباً عندنا وقالوا : إنّه المراء والسباب، أي: لامراء مع الرفقاء والخدم والمكارين (في الحَجِّ) في أيامه . نفى الثلاثة على قصد النهي للمبالغة ، والدلالة على أنّها حقيقة بأن لا تكون، وما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحج أقبح ، كلبس الحرير في الصلاة والتطريب (1) بقراءة القرآن، لأنّ الحج خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة.

وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأولين بالرفع على معنى : لا يكونن رفت ولا فسوق ، والثالث بالفتح ، على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف ، كأنه قيل : ولا شكّ ولا خلاف في الحج ، وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب، فيقفون بالمشعر الحرام ولا يروحون إلى عرفة، ويقولون : إنا سدنة البيت لا يجوز لنا أن نخرج إلى الحلّ، وكانوا يقدّمون الحجّ ويؤخرونه سنة ، فارتفع الخلاف بأن أمروا بأن يقفوا أيضاً بعرفة، ولا يحجون إلّا في الوقت المعيّن المأمور به شرعاً، فقد ارتفع الخلاف في الحج.

ثمّ حثّ على أفعال الخير والبرّ عقيب النهي عن الشرّ ليستبدل به ويستعمل مكانه ، فقال : ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرِ يَعْلَمْهُ اللهُ) فيجازيكم به أحسن الجزاء (وَتَزَوَّدُوا) لمعادكم بالأعمال الصالحة والخصال الحسنة ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ) عن المحارم والقبائح، وعن عدم الامتثال بأوامر الله تعالى. قيل : نزلت في أهل اليمن ، كانوا يحجون ولا يتزوّدون، ويقولون : نحن متوكلون، ونحن نحج بيت الله ، فيكونون كَلّاً على الناس، فأمروا أن يتزوّدوا في طريق الحج ، ويتقوا الإبرام

ص: 324


1- في هامش النسخة الخطية : «التطريب ما يفعل به بعض الأعاجم، من الألحان المؤدية إلى زيادة حرف وتغير حرف منه .

والإلحاح في الاستطعام على الناس، فإنّ خير الزاد الاجتناب عن هذا العمل ﴿وَاتَّقُونِ) فيما أمرتكم (يَا أُولِي الألْبَابِ) فإنّ قضيّة اللب خشية الله وتقواه، ومن لم يتقه فكأنّه لا لبّ له . حثّهم على التقوى، ثمّ أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى، فيتبرّوا عن كلّ ما سواه، وهو مقتضى العقل المعرّى عن شوائب الهوى فلذلك خصّ أولي الألباب بهذا الخطاب .

آية 198 - 199

«لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)»

قيل : كانوا يتأثّمون بالتجارة في الحجّ، فرفع الله سبحانه التحرّج عمّن يتجر في الحجّ بقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تَبْتَغُوا) فى أن تطلبوا (فَضْلاً ) رزقاً وعطاءً (مِنْ رَبِّكُمْ) وهو النفع والربح في التجارة . وقيل : كان عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية، يقيمونها مواسم الحج ، وكانت معائشهم منها ، فلمّا جاء الإسلام تأثّموا منه ، فكفّوا عن البيع والشراء، فلم تقم لهم سوق ، فنزلت هذه الآية . وقيل : كان في الحجّ أجراء ومكارون ، وكان الناس يقولون : هؤلاء الدّاجّ (1) وليسوا بالحاجّ، فبيّن سبحانه أنه لا إثم على الحاج في أن يكون أجيراً لغيره أو مكارياً .

(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِن عَرَفَات) الإفاضة الدفع بكثرة، من إفاضة الماء وهي صبّه

ص: 325


1- الدّاجُ : الذين مع الحاج من الأجراء والمكارين والأعوان . (لسان العرب 2 : 263) .

بكثرة. وأصله : أفضتم أنفسكم ترك ذكر المفعول به كما ترك في: دفعوا من موضع كذا .

وعرفات علم للبقعة، سمّيت بالجمع كأذرعات (1) وقنّسرين. وحدّها من الأراك إلى ذي المجاز إلى ثويّة إلى عرَنة . وسمّيت عرفات لأنّ إبراهيم (علیه السّلام) عرفها بعد أن وصفها الله له . وقيل : لأن آدم وحواء اجتمعا فيه فتعارفا . وقيل : إنّ جبرئيل (علیه السّلام)كان يُري إبراهيم (علیه السّلام) المناسك ، فيقول : عرفت عرفت . وقيل : إنّ إبراهيم (علیه السّلام) رأى ذبح ولده ليلة الثامن، فأصبح يتروّى يومه أجمع يفكر أهو أمر من الله أم لا ؟ فسمّي يوم التروية ، ثم رأى الليلة الثانية ذلك، فلما أصبح عرف أنه من الله . وقيل : إنّ آدم (علیه السّلام) اعترف بذنبه ، وقيل : سمّيت بذلك لارتفاعها وعلوّها، ومنه عرف الديك ، لارتفاعه .

وإنّما نوّن وكسر وفيه العلمية والتأنيث، لأنّ تنوين الجمع تنوين المقابلة، لا تنوين التمكين الّذي هو مختص بالصرف، وذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض، لعدم الصرف، وهنا ليس كذلك. أو لأنّ التأنيث لا يخلو إمّا أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدّرة، كما في سعاد، فالّتي في لفظها ليست للتأنيث ، وإنّما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها ، لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنّث مانعة من تقديرها، كما لا يقدّر تاء التأنيث في بنت ، لأنّ التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث ، فأبت تقديرها .

واعلم أنه لا خلاف في وجوب الوقوف بعرفة ، لقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «الحج عرفة». وهو ركن يبطل الحجّ بتركه عمداً. ووقته من الزوال يوم التاسع إلى الغروب. هذا للمختار ، أمّا المضطر فإلى طلوع فجر النحر .

ص: 326


1- أذرعات بلد بالشام. وقنسرين مدينة بينها وبين حلب مرحلة .

(فَاذْكُرُوا الله) بالتلبية والتهليل والدعاء . وقيل : بصلاة العشاءين (عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ ﴾ جبل يقف عليه الإمام ، ويسمّى قزح . والمشعر : المعلم ، لأنه معلم للعبادة. وسمّيت المزدلفة جمعاً لأنّ آدم اجتمع فيها مع حوّاء، وازدلف منها ، أي : دنا منها . وقيل : لأنه يجمع فيها بين الصلاتين. ووصف بالحرام لحرمته. وفيه إشعار بوجوب الكون به كما يقوله أصحابنا، لأنّ الذكر المأمور به عنده يستلزم الكون به ، فيكون واجباً . وهو ركن كالوقوف بعرفات، ولو أخلّ بهما سهو بطل حجّه ، لا بأحدهما فتجزىء بالآخر . ووقته من طلوع الفجر العاشر إلى طلوع شمسه للمختار، وللمضطر إلى الزوال. وحده من المأزمين (1) إلى الحياض إلى وادي محسّر. وعند العامة الوقوف فيه مستحب .

﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَيْكُمْ) «ما» مصدريّة أو كافّة ، أي : اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة لأداء شكرها ، فإنّ الشكر على النعمة واجب . أو واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ولا تعدلوا عنه ( وَإِن كُنتُم مِنْ قَبْلِهِ) قبل الهدى (لَمِنَ الضَّالِّينَ ) أي : الجاهلين، لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه. و«إنْ» هي المخفّفة من الثقيلة .

روي عن جابر : أن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لما صلى الفجر بالمزدلفة بغلس - وهو الظلمة الباقية عند أوّل الفجر المعترض - ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام، فدعا وكبّر وهلّل ولم يزل واقفاً حتى أسفر.

﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) أي: من عرفة لا من المزدلفة . والخطاب مع قريش ، كما نقل عن الباقر (علیه السلام) و ابن عبّاس وجماعة أنّ الأمر لقريش وحلفائهم،

ص: 327


1- في هامش النسخة الخطّية : «المأزم: كلّ طريق ضيّق بين الجبلين وموضع الحرب أيضاً مأزم. ومنه ومنه سمّي الموضع الذي بين المشعر وبين عرفة مأزمين . منه» .

ويقال لهم الحُمْس (1)، لتشدّدهم في دينهم ، فإنّهم كانوا يقفون بجمع وسائر العرب بعرفة، ويرون ذلك ترفّعاً على الناس، فلا يساووهم في الموقف، ويقولون : نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه، فأمرهم الله تعالى بموافقة سائر العرب.

وقيل: «النَّاسُ» هو آدم (علیه السّلام). وقيل : هو إبراهيم (علیه السّلام)، أي : أفيضوا من حيث أفاض . وسمّاه بالناس كما سمّاه أمّة (2)، وكما قال : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ) (3) . والمراد نعيم بن مسعود. أو أنه أراد إبراهيم (علیه السّلام) وولديه، وفي ذلك تنبيه على أن الحج من السنن القديمة. وعن الجبّائي : المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي ،والنحر :قال والآية تدلّ عليه لأنه قال: «فَإِذَا أفَضْتُمْ مِن عَرَفَاتٍ» ثمّ قال : «ثُمَّ أفِيضُوا» فوجب أن يكون إفاضة ثانية، فدل ذلك على أنّ الإفاضتين واجبتان.

وقال في كنز العرفان: «هذا الوجه أقوى في نفسي، لأنه ذكر إفاضة عرفات أولاً ، ، فوجب كون هذه غير تلك، تكثيراً للفائدة بتغاير الموضوع. وأيضاً تكون «ثُمّ» على حقيقتها من المهلة والترتيب ، فيكون «أفيضُوا» معطوفاً على: اذكروا، والمهلة هي أوّل الوقت إلى آخره. والمراد بالناس على هذا قيل : هم الحمس، كما حكينا وقوفهم بالمزدلفة . وقيل : هو إبراهيم . وقيل : آدم كما ذكر . وعلى القول الأوّل معنى الترتيب أنّ التراخي كما يكون في الزمان كذا يكون في المرتبة ، كقوله تعالى : ( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ (4) فإنّ مراتب العلم

ص: 328


1- في هامش النسخة الخطية : «الحمس : الشدّة ، والأحمس : المكان الصلب، والأحمس أيضاً: الشديد الصلب في الدين . منه» .
2- النحل : 120 .
3- آل عمران : 173 .
4- التكاثر : 3 - 4 .

متفاوتة بحسب حال النفس في البعد عن العوائق، كذلك نقول هنا : إنّ مطلق الإفاضة المأمور به أوّلاً يقصر رتبة عن الإفاضة المقيدة المأمور بها ثانياً»(1).

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) اطلبُوا منه المغفرة بالندم على ما سلف في جاهليتكم من تغيير المناسك ونحوه . وفيه تنبيه على أنّ الإتيان بأفعال الحج سبب معدّ لاستحقاق الغفران وإفاضة الرّحمة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) كثير المغفرة (رَحِيمٌ) واسع الرحمة ، يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه .

آية 200 - 203

«فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)»

روي أنّ العرب إذا فرغوا من مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، فيعدون فضائل آبائهم ويذكرون أيّامهم، فنزلت: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فإذا أدّيتم أفعال حجّكم وفرغتم منها ﴿ فَاذْكُرُوا الله) فأكثروا ذكره وبالغوا فيه (كَذِكْرِكُمْ

ص: 329


1- كنز العرفان 1 : 306 - 307 .

آبَاءَكُمْ) كما تفعلون بذكر آبائكم في المفاخرة ، أو تعداد محاسن آبائكم (أوْ أَشَدَّ ذكرا) مجرور مجرور عطفاً على ما أضيف إليه الذكر في قوله : «كَذِكْرِكُمْ» بمعنى : أو كذكر قوم أشدّ منكم ، أو منصوب عطفاً على «آبَاءَكُمْ» وذكراً من فعل المذكور بمعنى : أو كذكركم أشدّ مذكوريّةً من آبائكم.

ثمّ فصّل الذاكرين إلى مقلّ لا يطلب بذكر الله إلا الدنيا، وإلى مكثر يطلب به خير الدارين، وبه حثّ على الإكثار والإرشاد إليه ، فقال : ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا) اجعل إيتاءنا ومنحتنا في الدنيا ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) من نصيب وحظّ ، لأنّ همّته مقصورة على الدنيا الدنيّة ، أو من طلب خلاق ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) من الصحة والكفاف وتوفيق الطاعات والخيرات (وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً) من الثواب العظيم والأجر الجزيل ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ بالعفو والمغفرة .

وروي عن عليّ (علیه السّلام): «الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار امرأة السوء». وعن الحسن: «الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنّة». و«قِنَا عَذَابَ النَّارِ» معناه : احفظنا من الشهوات من والذنوب المؤدّية إلى النار . وروي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «من أوتي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الدنيا وآخرته، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار ».

(أوْلَئِكَ) إشارة إلى الفريق الثاني، أي: أولئك الداعون بالحسنتين (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) من جنس ما اكتسبوا من الأعمال الحسنة، وهو الثواب الّذي هو المنافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا ، أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم منه بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة. وسمّي الدعاء كسباً لأنه من الأعمال، والأعمال موصوفة بالكسب . ويجوز أن يكون «أولئك» للفريقين، فإنّ

ص: 330

لكلّ فريق نصيباً من جنس ماكسبوا ، ومصداقه قول الباقر (علیه السّلام): «ما يقف أحد على تلك الجبال برّ ولا فاجر إلا استجاب الله له ، أما البرّ فيستجاب له في آخر ته ودنياه، وأمّا الفاجر فيستجاب له في دنياه»(1).

(واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ) يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة ، فلا يشغله حساب أحد عن حساب غيره .

وروي أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة . وروي في مقدار فواق(2)ناقة وعن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنه قال : معناه أنّه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة . وقيل : معنى سَريعُ الحِسَابِ» أنّه يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد ، فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة.

واعلم أنّ المراد بالذكر الذكر اللساني تارة والقلبي أخرى، لكن المقصود بالذات هو الثاني، وأمّا الأوّل فترجمان للثاني، ومنبه للقلب عليه، لكونه في الأغلب مأسوراً فى يد الشواغل البدنية والموانع الطبيعيّة، وهذا هو السرّ في تكرار الأذكار والتسبيحات والتحميدات وغيرها. والأمر في هذه الأزمنة الشريفة والأمكنة المنيفة التي هي مظانّ الإجابة لا يقتضي انقطاعه بانقطاع المناسك ، لأنّ دلالة مفهوم المخالفة باطلة كما تقرّر في الأصول.

ولمّا كان الذكر متضمّناً للعبادات القلبية والتوجهات السرية إلى الله أمره به في مواضع أخر من المشاعر، فقال: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ) كبّروه في أدبار الصلوات الخمس عشرة : أوّلها الظهر يوم النحر لمن كان بمنى، وعقيب عشر لمن كان بغيرها . وصورته : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر ، ولله الحمد ، الله

ص: 331


1- الكافي 4 : 262 ح 38 ، الوسائل 8 : 114) ب (62) من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 2.
2- الفواق ما بين الحلبتين من الوقت ، لأنها تحلب وتترك سويعة يرضعها الفصيل لتدرّ ثم تحلب .

أكبر على ما هدانا ، والحمد لله على ما أولانا ، والله أكبر على مارزقنا من بهيمة الأنعام . وقيل : مطلق الذكر عند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها في أيام التشريق ، وهو الحادي عشر ويسمّى يوم القرّ ، ويوم الثاني عشر ويسمّى يوم الصدر، ويوم الثالث عشر ويسمّى يوم النفر . وسمّيت أيام التشريق لتشرق لحوم الأضاحي فيها . وقيل : تشرّق القمر فيها طول الليل.

(فَمَن تَعَجَّلَ) استعجل النفر (فِي يَوْمَيْنِ) يوم القرّ وبعده ، أي : ومن نفر في أيام التشريق بعد رمي الجمار (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) باستعجاله ﴿وَمَن تَأَخَّرَ ) في النفر حتى رمى في اليوم الثالث من أيام التشريق (فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) الصيد والنساء. ومعنى نفي الإثم بالتعجيل والتأخير التخيير بينهما والردّ على أهل الجاهليّة، فإنّ منهم من أنّم المتعجّل ومنهم من أتم المتأخر ﴿وَاتَّقُوا اللهَ) باجتناب معاصيه في مجامع أموركم ( وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للجزاء بعد الإحياء، فيجازيكم على أعمالكم. وأصل الحشر الجمع وضمّ المتفرّق .

آية 204 - 206

«وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)»

وبعد ذكر أحوال المؤمنين المنقادين للأحكام المذكورة، والكافرين المعاندين المنكرين لها بين أحوال المنافقين المذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) يروقك ويعظم في قلبك.

ص: 332

والتعجب حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه (فِي الحَيَوَةِ الدُّنْيَا) متعلّق ب«قَوْلُهُ» :أي: ما يقوله في أمور الدنيا وأسباب المعاش ودقائق تدابيره فيها، أو في معنى الدنيا ، فإنّها مراده من ادعاء المحبّة وإظهار الإيمان، أو «يُعْجِبُكَ» أي : يعجبك قوله في الدنيا حلاوة وفصاحة، ولا يعجبك في الآخرة، لما يعتريه من الدهشة والحُبسة (1).

﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) يحلف ويستشهد الله على أنّ ما في قلبه موافق لكلامه من محبتك والإيمان بك وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ شديد العداوة والجدال للمسلمين. والخصام المخاصمة. ويجوز أن يكون جمع خصم، كصعب وصعاب، بمعنىأشدّ الخصوم خصومة . وإضافة ألاّ إلى الخصام بمعنى «في».

قيل : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، وكان حسن المنظر حلو المنطق، يوالي رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، ويدعي الإسلام. وقيل: عامة في المنافقين ، كانت تَحْلَولى (2) ألسنتهم ، وقلوبهم أمرٌ من الصَّبر .

(وَإِذَا تَوَلَّى) أدبر وانصرف عنك ، وقيل : إذا غلب وصار والياً (سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ) كما فعله الأخنس بثقيف ، إذ بيّتهم وأحرق زروعهم ، وأهلك مواشيهم، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف أو بالظلم، ، حتى يمنع الله بشؤمه المطر ، فيهلك الحرث والنسل ﴿ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) لا يرتضيه ، فاحذروا غضبه عليه .

وفيه دلالة على بطلان قول المجبّرة : إنّ الله تعالى يريد القبائح، لأنه سبحانه نفى عن نفسه محبّة الفساد، والمحبّة هي الإرادة ، لأنّ كلّ ما أحبّ الله أن يكون فقد أراد أن يكون ، وما لا يحبّ أن يكون لا يريد أن يكون.

ص: 333


1- الحُبسة : تعذّر الكلام.
2- أي : كان منطقهم حلواً ، واحْلَوْلى الشيء : صار حلواً. والصَّبِر : عصارة شجر مرّ .

(وَإِذَا قِيْلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ) من قولك: أخذته بكذا، إذا حملته عليه وألزمته إيَّاه . يعني : حملته الأنفة وحميّة الجاهليّة على الإثم الذي يؤمر باتقائه لجاجاً (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) كفته جزاءً وعذاباً. وجهنّم علم لدار العقاب، وهو في الأصل مرادف للنّارِ (وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) جواب قسم مقدّر، والمخصوص محذوف، للعلم به و «المِهَادُ»: الفراش . وقيل : ما يوطاً للجنب .

وفي هذه الآية دلالة على أنّ من تكبّر عن قبول الحق إذا دعي إليه كان مرتكباً أعظم كبيرة ، ولذلك قال ابن مسعود : إنّ من الذنوب التي لا تغفر أن يقال للرجل : اتق الله ، فيقول : عليك نفسك .

آیة 207

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بالعباد (207)

ثم عاد سبحانه إلى وصف المؤمن الآمر بالمعروف في قوله : «وَإِذَا قِيلَ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّة» فقال : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ) يبيعها ، أي : يبذلها في الجهاد، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) لابتغاء مرضاته وطلب رضوانه . وإنّما أطلق عليه اسم البيع لأنه إنما فعله لطلب رضا الله ، كما أنّ البائع يطلب الثمن بالمبيع.

روى السدي، عن ابن عبّاس أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب (علیه السّلام) حين هرب النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) من المشركين إلى الغار ، و نام علي (علیه السّلام)على فراش النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) . نزلت هذه الآية بين مكة والمدينة. وهذه الرواية رواها الثعلبي أيضاً في تفسيره.

وروي أنّه لمّا نام على فراشه قام جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه وجبرئيل ينادي: بخ بخ ، ومن مثلك يابن أبي طالب ؟!

وعن عكرمة : نزلت في أبي ذر الغفاري لأنّ أهل أبي ذرّ أخذوا أبا ذرّ

ص: 334

فانفلت منهم ، فقدم على النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

وقيل : نزلت في صهيب بن سنان أراده المشركون على ترك الإسلام، وقتلوا نفراً كانوا معه ، فقال لهم : أنا شيخ كبير ، إن كنت معكم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضركم ، فخلّوني وما أنا عليه وخذوا مالي، فقبلوا منه ماله ، وأتى المدينة.

وقيل : نزلت في كل مجاهد في سبيل الله .

(وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) حيث كلّفهم الجهاد، وعرضهم لثواب الشهداء في يوم المعاد .

آية 208 - 210

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)»

ثم خاطب أهل النفاق بأن أطيعوا الله باطناً كما أظهروها، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) السّلم بالفتح والكسر الاستسلام والطاعة، ولذلك يطلق في الصلح والإسلام ، فتحه ابن كثير ونافع والكسائي، وكسره الباقون. و «كافّة» اسم للجملة، لأنها تكفّ الأجزاء من التفرّق ، حال من الضمير أو السّلم، لأنّها تؤنّث كالحرب . والمعنى: استسلموا الله وأطيعوه جملة، ظاهراً وباطناً.

وقيل : الخطاب لأهل الكتاب . والمعنى: أدخلوا في الإسلام بكلّيتكم، ولا تخلطوا به غيره من تعظيم السبت وتحريم الابل وألبانها ، أو بشرائع الله كلّها . والأنبياء والكتب جميعاً أو الخطاب للمسلمين. والمعنى : لا تخلّوا بشيء من

ص: 335

أحكام الإسلام وشعبه . وروى أصحابنا أنه الدخول في الولاية.

(وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ) بالتفرّق والتفريق ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة .

ولمّا أمر سبحانه عباده بالطاعة عقبه بالوعيد على تركها، فقال: (فَإن زَلَلْتُمْ) تنحّيتم عن الدخول في السلم (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ) الآيات والحجج الشاهدة على أنّه الحق (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يعجزه الانتقام منكم (حَكِيمٌ) لا ينتقم إلا بالحقِّ .

ثمّ عقّب سبحانه ما تقدّم من الوعيد بوعيد آخر، فقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ) استفهام في معنى النفي بقرينة قوله : (إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ) أي : يأتيهم أمره أو بأسه. كقوله : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) (1) وقوله : (إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا) (2) غير أنه ذكر ذاته تفخيماً للبأس، وهذا كما يقال : دخل الأمير البلد، ويراد بذلك جنده. البلد، ويراد بذلك جنده . أو يأتيهم الله ببأسه ، فحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله : «أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» ﴿ فِي ظُلَلٍ) جمع ظلّة كقلّة وقلل، وهي ما أظلّك مِنَ الغَمَامِ ) بيان لظلل . والغمام: السحاب الأبيض. وإنّما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة، فإذا جاء منه العذاب كان أفظع ، لأنّ الشرّ إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب، فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير ؟!

( وَالْمَلَيْكَةُ) بالرفع ، أي : يأتيهم الملائكة، فإنّهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة بيأسه (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أتمّ أمر إهلاكهم وفرغ منه، وهو المحاسبة وإنزال أهل الجنّة فى الجنّة وأهل النار في النار . وضع الماضي موضع المستقبل لدنوّه وتيقن وقوعه (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) في سؤاله عنها ومجازاته

ص: 336


1- النحل : 33 .
2- الأعراف : 5 .

عليها . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو على البناء للمفعول، على أنه من الرجع. وقرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب، على أنه من الرجوع.

آية 211 - 212

«سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)»

ولما ذكر سبحانه شرائع الإسلام وأنّ الناس فيها ثلاث فرق : مؤمن وكافر ومنافق، ثمّ وعد وأوعد ،بيّن بعد ذلك أنّ تركهم الايمان ليس لتقصير في الحجج، ولكن لسوء طباعهم الخبيثة، وخبث أعمالهم السالفة قبل الإسلام فقال تقريعاً لهم : (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أمر للرسول أو لكلّ أحد (كَمْ آتَيْنَاهُم مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) معجزة ظاهرة على أيدي أنبيائهم، أو آية في التوراة شاهدة على صحة نبوة محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) فمنهم من آمن ومنهم من جحد ومنهم من أقرّ ومنهم من بدل . و«كم» استفهامية مقرّرة أو خبريّة، ومحلّها النصب على المفعولية، أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر، و «آية» مميّزها ، و «من» للفصل بين التمييز والمفعول .

(وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ ) أي : آياته، فإنّها سبب الهدى الذي هو أجلّ النعم . وتبديلها بجعلها سبب الضلالة وازدياد الرجس، أو بالتحريف والتأويل والزيغ (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ) من بعد ما تمكن من معرفتها أو من بعد ما عرفها. وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) فيعاقبه أشدّ عقوبة ، لأنه ارتكب أشدّ جريمة .

ص: 337

ثمّ بيّن الله سبحانه أنّ عدولهم عن الإيمان إنّما هو لإيثارهم الحياة الدنيا، فقال : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا) حسنت في أعينهم، وأشربت محبّتها في قلوبهم ، حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها . والمزين هو الشيطان، حسنها في أعينهم بوساوسه ، فلا يريدون غيرها . ويجوز أن يجعل ما خلق الله فيها من الأشياء المشتهاة وماركبه فيهم من الشهوة لها تزييناً ، لأنّ التكليف لا يتم إلا مع الشهوة.

(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يريد فقراء المؤمنين كبلال وعمّار وصهيب أي : يستر ذلونهم ويستهزؤون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبي. و«من» للابتداء ، كأنهم جعلوا مبدأ السخرية .

( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ) لأنّهم في علّيين، وهم في أسفل السافلين في سجّين . أو حالهم عالية رفيعة، لأنهم في كرامة وهم في هوان ومذلّة . أو لأنهم يتطاولون عليهم، فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا . وإنّما قال: «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا» بعد قوله: «مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» ليدلّ على أنهم متقون ، وأنّ استعلاء هم استعلاءهم للتقوى ليكون حثّاً وبعثاً للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك .

(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) في الدارين (بِغَيْرِ حِسَابٍ) بغير تقدير، فيوسع في الدنيا استدراجاً تارة وابتلاء أخرى ، أو يعطى أهل الجنة ما لا يأتى عليه الحساب.

آية 213

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتابَ بِالْحَقِّ لَيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لَمَا اخْتَلَفُوا فيه منَ الْحَقِّ بإذنه وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿213 )

ص: 338

ثمّ بيّن سبحانه أحوال من تقدّم من الكفّار تسلية للنبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فقال :(كَانَ النَّاسُ أَمَّةً وَاحِدَةً) متّفقين على الحق فيما بين آدم وإدريس أو نوح أو بعد الطوفان ، أو متفقين على الجهالة والكفر في فترة إدريس أو نوح. والأوّل أوجه. ويؤيّده ما روي عن ابن عباس أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة الحق. والأمة عبارة عن القوم المجتمعين على شيء واحد بعضهم ببعض . ﴿فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي : اختلفوا فبعثهم الله تعالى. وعلى الوجه الثاني : فبعد بعثهم اختلف الكفّار عليهم ، وإنّما حذف لدلالة قوله : «فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ».

وروي عن أبي جعفر الباقر(علیه السّلام) أنه قال: «كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلّالاً، فبعث الله النبيين» وعلى هذا فالمعنى: أنهم كانوا متعبّدين بما في عقولهم، غير مهتدين إلى نبوّة ولا شريعة، ثم بعث الله النبيين بالشرائع لما علم أنّ مصالحهم فيها .

وعن كعب الأحبار : الذي علمته من عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً، والمرسل منهم ثلاث مائة وثلاثة عشر ، والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون .

( وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ) يريد به الجنس، ولا يريد أنه أنزل مع كلّ واحد كتاباً يخصّه ، فإنّ أكثر هم لم يكن لهم كتاب يخصّهم ، وإنّما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم (بالحَقِّ) حال من الكتاب ، أي : ملتبساً بالحق شاهداً به (لِيَحْكُمَ) أي : الله أو النبي المبعوث أو كتابه (بَيْنَ النَّاسِ) في زمانهم (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) أي : في الحق الذي اختلفوا فيه، أو فيما التبس عليهم .

(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ) في الحق أو الكتاب (إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي : الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر ، فجعلوا ما أنزل مزيحاً للاختلاف فيه، سبباً لاستحكامه (مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ حسداً بينهم وظلماً.

ص: 339

لحرصهم على الدنيا .

(فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ) «من» بيان لما اختلفوا فيه قبل إنزال الكتاب ، أي : للحق الذي اختلف فيه من اختلف (بإذنه ) بأمره، أو بإرادته ولطفه (وَاللهُ يَهْدِي) باللطف والتوفيق (مَن يَشَاءُ) من المكلّفين المسترشدين للحقِّ (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا يضلّ سالكه، فهو طريق الإسلام.

آية 214

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مسَّتهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الّلهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَريبٌ ﴿214)

ثم ذكر سبحانه ما جرى على المؤمنين من الأمم الخالية ، تسلية لنبيه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ولأصحابه فيما نالهم من المشركين وأمثالهم، وتشجيعاً لهم على ثباتهم مع مخالفيهم، لأنّ سماع أخبار الصالحين يرغب في مثل أحوالهم، فقال خاطباً به النبي والمؤمنين : (أمْ حَسِبْتُمْ) «أم» منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها التقرير وإنكار الحسبان واستبعاد (أن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) ولم يأتكم ، فإنّ أصل «لمّا » لم ، زيدت عليها ما، وفيها توقع (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ) حالهم التي هي مثل في الشدّة ، أي : مثل ما امتحنوا به (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) بيان له على الاستئناف والبأساء نقيض النعماء ، والضرَّاء نقيض السرّاء . وقيل : البأساء القتل والضرّاء الفقر . أو البأساء شدّة الفقر ، والضرّاء المرض والجوع والخروج عن الأهل والمال.

(وَزُلْزِلُوا) وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة بما أصابهم من الشدائد والأهوال ( حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) لتناهي الشدّة واستطالة المدّة، بحيث تقطعت حبال الصبر. وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدّة

ص: 340

وتماديه في العظم ، لأنّ الرسل مع اقتدارهم التامّ في تحمّل الشدائد العظيمة ، متى لم يبق لهم صبر في مثل هذه الدواهي العظمى حتى ضجّوا ، كان البلاء غاية في الشدّة التي لا مطمح وراءها وقرأ نافع: «يَقُولُ» بالرفع على أنه حكاية حال ماضية، كقولك : مرض فلان حتّى لا يرجونه( مَتَى نَصْرُ اللهِ ) استبطاءً له لتأخّره (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) استئناف على إرادة القول، أي فقيل لهم ذلك إسعافاً لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر .

وفيه إشارة إلى أن الوصول إلى الله تعالى، والفوز بالكرامة عنده ؛ برفض الهوى واللذات، ومكابدة الشدائد والرياضات، كما قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «حفّت الجنة بالمكاره ، وحقت النار بالشهوات».

وعن قتادة والسدّي : نزلت هذه الآية يوم الخندق لمّا اشتدت المخافة ،وحوصر المسلمون في المدينة، فدعاهم الله تعالى إلى الصبر و وعدهم النصر.

وقيل : نزلت في حرب أحد لمّا قال عبد الله بن أبي لأصحاب النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): إلى متى تقتلون أنفسكم ؟ لو كان محمد نبيّاً ما سلّط الله عليه الأسر والقتل .

وعن عطاء: نزلت في المهاجرين من أصحاب النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إلى المدينة، إذ تركوا ديارهم وأموالهم ومستهم الضرّاء.

آیة 215

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مَنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَليمٌ ﴿215)

وبعد أن رغب العباد بهذه الآية في تحمّل المشاق في التكاليف الشرعية، والأمر بالصبر فيها، خصوصاً في الجهاد الذي يكون الرياضة والمشقّة فيه أصعب

ص: 341

وأشقّ، بين وجوه مصارف الأموال التي من جملتها الإنفاق في الجهاد، فقال: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) أيّ شيء ينفقونه . روي عن ابن عبّاس أنّ عمرو بن الجموح الأنصاري كان شيخاً كبيراً ذا مال كثير ، فقال : يا رسول الله بماذا أتصدّق ؟ وعلى من أتصدّق ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .

ولمّا كان السؤال عن الإنفاق يتضمّن السؤال عن مصرف النفقة ، لأنّ النفقة لا يعتدّ بها إلا إذا وقع موقعها ، فلذلك جاء الجواب ببيان مصارفها ، فقال : (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) :أي: من مال وإيثار «خير» على مال للدلالة على أنّه ممّا ينتفع به، لأنّ ما لا ينتفع به لا يسمّى خيرًا ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ مرّ معناه (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) في معنى الشرط (فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) جوابه، أي: إن تفعلوا من عمل صالح يقربكم إلى الله فالله يعلم كنهه ويوفي ثوابه . وليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به .

آية 216

كُتبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَیرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تعْلَمُونَ (216)

ثمّ بيّن كون الجهاد مصلحة لمن أمر به وإن لم يتعلّق علمه بها ، فقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) شاقٌّ عليكم . وهو مصدر نعت به للمبالغة ، أو فعل بمعنى مفعول ، كالخبز بمعنى المخبوز (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وهو جميع ما كلّفوا به ، فإنّ الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم وسبب فلاحهم، ومن ذلك القتال، فإنّكم تكرهونه لما فيه من المخاطرة بالروح ، وهو خير لكم، لما فيه من إحدى الحسنيين : إمّا الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنّة . ﴿وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ وهو جميع ما نهوا عنه ، فإنّ النفس تحبّه وتهواه، وهو يفضي بها إلى

ص: 342

الردى، ومن ذلك القعود عن الجهاد لمحبّة الحياة ، وهو شرّ لما فيه من الذل والفقر في الدنيا، وحرمان الغنيمة والأجر في العقبى وإنّما ذكر «عسى» لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها .

(وَالله يَعْلَمُ) ما هو خير لكم وما يصلحكم (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ذلك . وفيه دلالة على أنّ الأحكام الشرعية تتبع المصالح الراجحة وإن لم يعرف عينها.

آیة 217

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿217)

قال المفسرون : بعث رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) سريّة من المسلمين، وأمر عليهم عبدالله بن جحش الأسدي، وهو ابن عمة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، ليترصّد عيراً لقريش فيها عمرو بن عبدالله الحضرمي، وذلك قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة ، فانطلقوا حتى هبطوا نجلة (1) ، فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في عير تجارة قريش في غرّة رجب، وكانوا يظنّون أنه من آخر جمادى الآخرة ، فقتلوه وأسّروا اثنين وغنموا عيره ، وكان ابن الحضرمي أوّل قتيل قتل بين

ص: 343


1- اسم موضع . وفي معجم البلدان (5 : 272) : النُّجل : قرية أسفل صفينة بين أفيعية وأفاعية، وهي مرحلة من مراحل طريق مكة .

المسلمين والمشركين ، وذلك الفيء أوّل فيء أصابه المسلمون، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف، ويبذعرّ (1) فيه الناس إلى معائشهم، فركب وفد من قريش حتى قدموا على النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فقالوا : أتحلّ القتال في الشهر الحرام ؟ فنزلت: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) بدل الاشتمال من الشهر ، فالسائلون هم المشركون سألوه تشنيعاً وتعبيراً . وقيل : أصحاب السريّة تألّماً ممّا وقع منهم من قتل الحضرمي ، وقالوا: لا تبرح حتى تنزل توبتنا .

( قُلْ قِتَالُ فِيهِ كَبِيرٌ) أي : ذنب كبير (وَصَدُّ) صرف ومنع (عَن سَبِيلِ اللهِ ﴾ أي الإسلام، أو ما يوصل العبد إلى الله تعالى من الطاعات (وَكُفْرٌ بِهِ ) أي : بالله (وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ) على إرادة المضاف، أي: وصدّ المسجد الحرام. ولا يحسن عطفه على «سبيل الله»، لأنّ عطف قوله : «وَكُفْرٌ بِهِ» على «وَصَدُّ» مانع منه، إذ لا يتقدّم العطف على الموصول على العطف على الصلة، ولا على الهاء في «به»، لأنّ العطف على الضمير المجرور إنّما يكون بإعادة الجارّ .

﴿ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) أهل المسجد ، وهم النبي والمؤمنون (أكبَرُ عِنْدَ اللهِ ﴾ ممّا فعلته السريّة خطاً وبناءً على الظنّ . وهو خبر عن الأشياء الأربعة المعدودة من كبائر قريش. وأفعل ممّا يستوي فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث (وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) :أي: وما ترتكبونه من الإخراج والشرك أفظع مما ارتكب أصحاب السرية من قتل الحضرمي .

عن ابن عبّاس: لمّا نزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة وأخرج خمسها، وهو أوّل خمس وغنيمة في الإسلام كما مرّ ، وقسم الباقي بعد الخمس في السريّة . وفيه دلالة على إخراج الخمس من أصل الغنيمة .

﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) إخبار عن دوام عداوة

ص: 344


1- ابْذَعَرُّوا ، أي : تفرّقوا . الصحاح 2 : 588 .

الكفّار للمسلمين ، وأنّهم لا ينفكّون عنها حتى يردّوهم عن دينهم. و «حَتَّى» معناه التعليل ، كقولك : أعبد الله حتى أدخل الجنّة ، أي : يقاتلوكم كي يردّوكم عن دينكم (إِنِ اسْتَطَاعُوا) استبعاد لاستطاعتهم ، كقول الواثق بقوته على قِرنه(1): إن ظفرت بي فلا تُبْقِ عليّ، وإيذان بأنهم لا يردّونهم.

﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ) يرجع (مِنكُمْ عَن دِينِهِ ﴾ إلى دينهم (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرُ) أَي : حال كونه على الردّة (فَأَوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) النافعة (فِي الدُّنْيَا)لما يفوتهم بإحداث الردّة ممّا للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام ﴿ وَالآخِرَةِ) لما يفوتهم من الثواب (وَأوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ كسائر الكفرة .

آية 218

إنَّ الذينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبيل الله أولئكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿218 )

روي أنّ عبدالله بن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرمي ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر ، فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) صدقوا الله ورسوله (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا) قطعوا عشائرهم وفارقوا منازلهم وتركوا أموالهم ﴿ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ وقاتلوا الكفّار في طاعة الله الّتي هي سبيله المشروعة لعباده. وكرّر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد ،كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء. وإنّما جمع بين هذه الأشياء لبيان فضلها والترغيب فيها ، لا لأنّ الثواب لا يستحق على واحد منها على الانفراد (أَوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ ﴾ وهي : النصر والغنيمة في الدنيا، والمثوبة العظمى في العقبى (وَاللهُ غَفُور)ٌ لما فعلوا خطأ وقلّة احتياط (رَحِيمٌ﴾ بأجزل الأجر والثواب.

عن قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمة، ثمّ جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون.

ص: 345


1- القرن بالكسر : الكفو والنظير في الشجاعة والحرب .

وأنّه من رجا طلب ، ومن خاف هرب.

وقال الحسن : ذكر المغفرة والرحمة هاهنا لإرادة إيجاب الرجاء والطمع على المؤمنين، لأنّ رجاء رحمة الله من أركان الدين واليأس من رحمة الله كفر ، كما قال : (لَا يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ) (1)، والأمن من عذابه خسران ، كما قال: ﴿ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ) (2) فمن الواجب على المؤمن أن لا ييأس من رحمته، ولا يأمن من عقوبته . ويؤيده قوله : ﴿ يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ (3) وقوله : ﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ (4).

آية 219 - 220

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قل فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ من نَفْعهمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذلِكَ يُبينُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 219) في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِح وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿220﴾

ثم ذكر سبحانه بيان حكم آخر من أحكام الشريعة ، فقال : ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) روي أن جماعة من الصحابة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أفتنا في

ص: 346


1- يوسف : 87 .
2- الأعراف : 99 .
3- الزمر : 9 .
4- السجدة : 16 .

الخمر، فإنّها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت . والمراد بالخمر كلّ مائع بالأصالة، مسكر ، مخالط للعقل، مغطّ عليه . وكأنّها سمّيت بالمصدر من «خمره خمراً» إذا ستره للمبالغة ، ومنه الخِمار . وهو حرام إجماعاً. وكذا حرام عندنا كلّ ما أسكر في الجملة وإن لم يسكر قليله ،وذهب أبو حنيفة إلى أنّ نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتدّ حلّ شربه ما دون السكر والحق خلافه، للروايات المأثورة عن أئمتنا (علیهم السّلام).

وعن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «كل مسكر حرام». وأنه لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها ومشتريها ، وساقيها ، وآكل ثمنها، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه .

وقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : «شارب الخمر كعابد الوثن».

وعن عليّ (علیه السّلام): «لو وقعت قطرة من خمر في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذّن عليها، ولو وقعت في بحر ثمّ جفّ ونبت فيه الكلاء لم أرعه».

والميسر مصدر من «يسر» كالموعد والمرجع من فعلهما. واشتقاقه من اليسر ، كأنه أخذ مال الغير بيسر من غير كد، أو من اليسار والهمزة للسلب ، لأنّه سلب يساره والمراد بالقمار كلّه حتى لعب الصبيان بالجوز والبيض . وهو المروي عن أمتنا (علیهم السّلام).

وعن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «إياكم وهاتين اللعبتين المشؤومتين، فإنّهما من ميسر العجم».

و عن علي (علیه السّلام): «إنّ النرد والشطرنج من الميسر» .

واعلم أنّ مذهب الإماميّة أنّ الخمر محرّمة في جميع الشرائع، وما أبيحت في شريعة قطّ . وكذا كل مسكر . وأوردوا في ذلك أخباراً عن أئمّتهم (علیهم السّلام).

وأما المفسرون فقالوا: نزل في الخمر أربع آيات فنزل بمكة ﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ

ص: 347

النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ) (1) . وكان المسلمون يشربونها، وهي لهم حلال . ثمّ إنّ عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر، فإنّها مذهبة للعقل ، فنزلت: ﴿ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) ، فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبدالرحمن بن عوف ناساً منهم ، فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم، فقرأ صلى الله عليه وسلم «قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدونَ» بحذف كلمة «لا» فنزلت: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) (2)، فقلّ من يشربها . ثمّ دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد بن أبي وقاص، فلمّا شربوا وسكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار ، فضربه أنصاري بلحي (3) بعير ، فشجّه موضحة ، فشكا إلى رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فقال عمر : اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ) إِلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ﴾ (4)، فقال عمر : انتهينا يا رب .

ولمّا كان سؤالهم عن حكم الخمر والميسر والتصرّف فيهما لا عن حقيقتهما ، فمعنى الآية : ويسألونك عن تعاطي الخمر والميسر (قُلْ فِيهِمَا) في تعاطيهما (إِثْمٌ كَبِيرٌ) حيث إنّه يؤدّي إلى الإعراض عن المأمور به وارتكاب المحظور ﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) من الطرب وكسب المال والالتذاذ ومصادقة الفتيان، وفي الخمر خصوصاً تشجيع الجبان وتوفير المروءة وتقوية الطبيعة (وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) ، أي : المفاسد الّتي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقّعة منهما، ولهذا قيل : إنّ هذه الآية محرّمة للخمر، فإنّ المفسدة إذا ترجّحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل وأمّا

ص: 348


1- النحل : 67 .
2- النساء : 43 .
3- اللّحي ، بفتح اللام : عظم الحنك الذي عليه الأسنان، ومنبت اللحية من الإنسان وغيره.
4- المائدة : 90 - 91 .

ما ذكره المفسّرون وفقهاء العامة من كونها كانت حلالاً باطل بإجماعنا والنقل الصحيح عن أئمتنا كما ذكر .

روي أن عمرو بن الجموح سأل أولاً رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) عن المنفق والمصرف ؟ فنزلت الآية المتقدّمة، ثمّ سأل عن كيفية الإنفاق ؟ فنزلت: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ أي شيء ينفقونه ؟ ﴿ قُلِ العَفْوَ) وهو نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع ، ومنه يقال للأرض السهلة العفو والمعنى أن ينفق ما تيسر له بذله ، ولا يبلغ منه الجهد.

عن ابن عباس : أنّ المراد بالعفو ما فضل عن الأهل والعيال . وعن أبي عبد الله (علیه السّلام) : أن العفو الوسط من غير إسراف ولا إقتار . وعن الباقر (علیه السّلام): أن العفو ما فضل عن قوت السنة . قال : ونسخ ذلك بآية الزكاة . وقيل : أفضل المال وأطيبه.

روي أن رجلاً أتى النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم، فقال: خذها مني صدقة ، فأعرض عنه ، حتى كرّر عليه مراراً ، فقال : هاتها مغضباً ، فأخذها فخذفها (1) خذفاً لو أصابه لشجّه ، ثمّ قال : يأتي أحدكم بماله كلّه يتصدّق به ويجلس يتكفّف (2) الناس ! إنّما الصدقة عن ظهر غنى.

اعلم أن كلام الصادق (3) (علیه السّلام) يدل على الإلتزام بالأوساط في الإنفاق كلّه واجباً كان أو مندوباً، صدقة وغيرها، وهو طريق السلامة والأمن من الإفراط والتفريط الموبقين . وكلام الباقر (4) (علیه السّلام) يدلّ على استحباب الصدقة بما فضل عن

ص: 349


1- أي : رمى بها من بين سبّابتيه .
2- أي : يمدّ كفّه إليهم يستعطي .
3- تفسير العياشي 1 : 106 ح 314 - 315 ، الوسائل 15 : 258) ب (25) من أبواب النفقات ح 3، 14 ، 15 .
4- رواه عن الباقر (علیه السّلام) في مجمع البيان 1 : 316 .

القوت ، وبذلك وردت أخبار كثيرة وترغيبات عظيمة ، حتى إن زين العابدين (1) (علیه السّلام) كان يتصدّق بفاضل كسوته .وكلام ابن عبّاس يدلّ على كراهية الصدقة بما هو توسعة على العيال ، ولذلك قال (علیه السّلام): «لا صدقة وذو رحم محتاج». وعلى كراهية ما لم يبق غنى، فإن آل إلى الاعدام ولا كسب له ربما يصير حراماً، خصوصاً مع وجود العيال . والقول الرابع يدلّ على أنه تستحب الصدقة بالمال اللذيذ والشهيّ . وكذلك نقل عن الحسن (علیه السّلام) أنه كان يتصدق بالسكّر ، فقيل له في ذلك فقال : إنّي أحبّه ، وقد قال الله تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (2).

(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ﴾ أي : مثل ما بيّن أنّ العفو أصلح من الجهد، أو ما ذكر من الأحكام. والكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف ، أي : تبييناً مثل هذا التبيين. وإنّما وحد العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ في الدلائل والأحكام (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) في أمور الدارين فتأخذون بالأصلح والأنفع فيهما، وتتجنّبون عمّا يضركم ولا ينفعكم، أو عمّا يضركم أكثر مما ينفعكم.

روي أنه لما نزلت : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً) (3) اعتزلوا اليتامى وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم والاهتمام بمصالحهم، فشقّ ذلك عليهم وكاد يوقعهم في الحرج، فذكر ذلك لرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فنزلت . ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى) :أي: القيام بأحوالهم والتصرّف في أموالهم (قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) :أي: مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم خير من مجانبتهم. ثمّ حتّهم على المخالطة بقوله : (وَإنْ تُخَالِطُوهُمْ ﴾ وتعاشروا (فَإِخْوَانُكُمْ) في الدين، ومن حق الأخ أن يخالط أخاه . وقيل : المراد بالمخالطة المصاهرة (واللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أَي : لا يخفى

ص: 350


1- مناقب ابن شهر اشوب 154:4 .
2- آل عمران : 92 .
3- النساء : 10 .

على الله من داخلهم بإصلاح وإفساد فيجازيه على حسب قصد مداخلته، فهذا وعد ووعيد لمن خالطهم للاصلاح أو الافساد .

(وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) لحملكم على العنت، وهو المشقّة، وضيق عليكم في أمر اليتامى ومخالطتهم ، ولم يجوّز لكم مداخلتهم ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) غالب يقدر على الإعنات (حَكِيمٌ) يفعل ما توجبه الحكمة وتتسع له الطاقة .

آية 221

وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنْ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿221)

ثم بين حكماً آخر من أحكام الشريعة فقال : ( وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعثه رسول الله إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين، وكان قويّاً شجاعاً ، فدعته امرأة يقال لها عناق إلى نفسها فأبى، وكان يهواها، فقالت : ألا نخلو؟ فقال : إنّ الإسلام حال بيننا، فقالت: هل لك أن تتزوّج بي ؟ فقال : حتى أستأذن رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فلمّا رجع استأذن في التزوّج بها ، فنزلت ومعناه : ولا تتزوجوا النساء الكافرات (حَتَّى يُؤْمِنَّ )يصدّقن بالله ورسوله .

وهي عامة عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفّار أهل الكتاب وغيرهم، فإنّ أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى : ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ) إِلى قوله سبحانه: ﴿ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (1)، ولقول النصارى

ص: 351


1- التوبة : 30 - 31 .

بالتثليث (1) والمتأخّرون (2) من أصحابنا حكموا بحلّ الكتابيات متعة لا غير وهو أقوى ، كما قرّر في علم الفقه .

وعن ابن عبّاس ومجاهد أنّ هذه الآية منسوخة في الكتابيات بالآية التي في المائدة : ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ)(3). وعن سعيد بن جبير وقتادة أنّها مخصوصة بغير الكتابيّات . وعن ابن عمر وبعض الزيديّة أنّها على ظاهرها في تحريم نكاح كلّ كافرة كتابية كانت أو مشركة وهو مذهبنا. وسيأتي بيان آية المائدة في موضعها إن شاء الله تعالى.

﴿وَلَأمَةٌ) :أي: المملوكة ﴿ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ ) من حرّة مشركة ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) بحسنها وجمالها أو مالها . والواو للحال ، و«لو» بمعنى «إن» الموضوعة للاستقبال، وهو كثير .

﴿ وَلَا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ) ولا تزوّجوا منهم المؤمنات (حَتَّى يُؤْمِنُوا) وهو على عمومه (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) من حرّ مشرك ﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) جماله أو ماله. هذا تعليل للنهي عن مواصلتهم، وترغيب في مواصلة المؤمنين .

قال في الكشّاف (4): المراد بالأمة المرأة حرّة كانت أو مملوكة، وكذا المراد بالعبد الرجل حرّاً كان أو مملوكاً ، فإنّ الناس عبيد الله وإماؤه.

(أُوْلَئِكَ) إشارة إلى المشركين والمشركات (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أَي : الكفر المؤدّي إلى النار ، فلا يليق موالاتهم ومصاهرتهم( واللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) أي إلى الاعتقاد والعمل الموصلين إليهما . أو أولياء الله - يعني : المؤمنين - يدعون إليهما بالإرشاد والهداية فهم الأحقّاء بالمواصلة . فعلى هذا حذف المضاف وأقام

ص: 352


1- المائدة : 73 .
2- راجع مسالك الافهام 7 360 .
3- المائدة : 5 .
4- الكشّاف 1 : 264 .

المضاف إليه ،مقامه، تفخيماً لشأنهم. (بِإِذْنِهِ) بتوفيق الله تعالى وتيسيره للعمل الذي يوصل إلى الجنّة (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ) أي : أوامره ونواهيه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لكى يتّعظوا ، أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر ، لما ركز في العقول من ميل الخير ومخالفة الهوى.

آية 222

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴿222 )

روي أنّ أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيّض، ويتجنبون مؤاكلتهنّ ومشاربتهنّ ، كفعل اليهود والمجوس، واستمر ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر من الصحابة عن ذلك فنزلت: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيض)، هو مصدر : حاضت محيضاً، نحو: جاء مجيئاً وبات مبيتاً. ولعلّه سبحانه ذكر «يَسْأَلُونَكَ» يغير الواو ثلاثاً ثمّ بها ثلاثاً، لأنّ السؤالات الأول كانت في أوقات متفرّقة، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد، فلذا ذكرها بحرف الجمع .

(قُلْ هُوَ أذى ) أي : الحيض شيء نجس يستقذر ، ويؤذي من يقربه نفرة منه وكراهة له ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ ) أي : فاجتنبوا مجامعتهن في وقت حيضهنّ ، لما روي أنّها لما نزلت أخذ المسلمون بظاهر اعتزالهنّ ، فأخرجوهنّ من بيوتهم، فقال ناس من الأعراب : يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلكت الحيّض ، فقال (علیه السّلام): «إنّما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم الله بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم». وهو الاقتصاد بين إفراط اليهود وتفريط النصارى فإنّهم كانوا

ص: 353

يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض. ووصفه بالأذى، وترتيب الحكم عليه بالفاء، للإشعار بأنّه العلّة في وجوب الاعتزال عنهنّ.

(وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ) بالمجامعة (حَتَّى يَطْهُرْنَ) تأكيد للحكم وبيان لغايته ، وهي أن ينقين من الحيض، أو يغتسلن بعد الانقطاع. ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : يطّهّرن ، أي : يتطهّرن، بمعنى : يغتسلن، وقوله بعده : «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ» فإنّه يقتضي تأخّر جواز الإتيان عن الغسل. :وقيل: توضأن أو غسلن الفرج بعد انقطاع الدم.

وقال صاحب كنز العرفان (1) : اختلف في مدّة زمان الاعتزال وغايتها، قال الشافعي حتى تغتسل ، ويحتج بأنه جمع بين القراءتين، ولقوله : (فإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ) فلا يجوز وطؤها حتى تطهر وتتطهّر . وقال أبو حنيفة : بالجمع بين القراءتين، بأنّ له أن يطأها في أكثر الحيض بعد الانقطاع وإن لم تغتسل، وفي أقلّه لا يقربها بعد الانقطاع إلا مع الاغتسال، وأما أصحابنا فجمعوا بينهما، بأنه قبل الغسل جائز على كراهية، وبعده لا كراهية. وقال بعض أصحابنا بقول الشافعي. وليس بشيء، لأنّ «تفعّل» قد جاء بمعنى «فعل» كالمتكبّر في أسماء الله تعالى، وكقولك : تطعّمت الطعام، بمعنى : طعمته .

(مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله ) أي : إتياناً صادراً من الجهة التي يحلّ أن يؤتين منها. ولا تقربوهنّ من حيث لا يحلّ، بأن يكن محرمات أو معتكفات أو صائمات . وقال الفرّاء : لو أراد الفرج لقال «في حيث»، فلما قال من حيث علمنا أنه أراد من الجهة التي أمركم الله بها . وعن ابن عبّاس معناه : من حيث أمركم الله بتجنّبه، وهو محلّ الحيض، أعني : القبل . وقيل : من حيث الطهر دون الحيض. وقال محمد بن الحنفية : من قبل النكاح دون الفجور.

ص: 354


1- كنز العرفان 1 : 43 - 45 .

﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) عن النجاسات الباطنة، وهي الذنوب (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) بالماء من النجاسات الظاهرة ، أو المتنزهين عن الفواحش والأقذار ،كمجامعة الحائض .

آية 223

نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئتُم وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿223)

ولمّا بين سبحانه أحوال النساء في الطهر والحيض عقبه بقوله: ﴿نِسْاَؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ مواضع حرث، أو ذوات حرث لكم. شبههنّ بها للأمر المشترك بينهما، وهو مطلق الانتفاع من الولد واللذة (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أي مواضع حرثكم - :يعني : نساءكم - كما تأتون المحارث (أنَّى شِئْتُمْ) من أين شئتم أو كيف شئتم ، كما تأتون أراضيكم التي تحرثونها من أي جهة شئتم . وقال : الضحّاك : متى شئتم . وهو خطأ عند أهل اللغة ، لأنّ «أنّى» لا يكون إلا بمعنى: من أين كما قال : (أَنَّى لَكِ هُذَا ﴾ (1) .

واستدلّ مالك بقوله : «أَنَّى شِئْتُمْ» على جواز إتيان المرأة في دبرها . ورواه عن نافع عن ابن عمر. وحكاه زيد بن أسلم عن محمد بن المكندر. وبه قال كثير (2)من أصحابنا، وبه وردت الأخبار الصحيحة (3) عن أئمتنا (علیهم السّلام)، فتخصيص الحرث بالنسل حسب ضعيف .

(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) ما يدّخر لكم الثواب بإرسال الأعمال الصالحة .

وقيل : هو طلب الولد، فإنّ في اقتناء الولد الصالح تقديماً عظيماً، لقوله (علیه السّلام):

ص: 355


1- آل عمران : 37
2- راجع مسالك الأفهام 7 :57 .
3- انظر الوسائل 14 : 102 ب (73) من أبواب مقدّمات النكاح .

«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث : ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، و علم ينتفع به بعد موته».

وقيل : هو التسمية عند الوطء. ويؤيّده ما روي عن ابن عبّاس قال: «قال النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : إذا أراد أحدكم أن يأتي أهله فليقل : بسم الله ، اللهم جنبني الشيطان، وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإن قدّر بينهما ولد لم يضره شيطان».

وقيل : هو التزوّج بالعفائف ، ليكون الولد صالحاً طاهراً.

﴿ وَاتَّقُوا الله) بالاجتناب عن معاصيه، فلا تجتروا على المناهي (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ) ملاقوا جزائه، فتزوّدوا ما لا تفتضحون به (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الكاملين بالكرامة والنعيم المقيم ، بوسيلة فعل الحسنات وترك المقبحات. أمر الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أن ينصحهم، ويبشر من صدقه وامتثل أمره منهم.

آية 224 - 227

«وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)»

ولمّا بين سبحانه أحوال النساء، وأمر العباد بإتيانهنّ، وما يحلّ منهنّ، عقبه بذكر الإيلاء، وهو اليمين التي تحرم الزوجة بها، وابتدأ بذكر مطلق الأيمان أوّلاً تأسيساً لحكم الإيلاء ، فقال : ( وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) . روي أنّ عبدالله

ص: 356

ابن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته ، وكان يقول : إنّي حلفت بهذا فلا يحلّ لي أن أصلح بينهما ، فنزلت . والعرضة فعلة بمعنى المفعول، كالقبضة والغرفة ، والفعلة للمقدار أي : اسم ما يعرض من أيّ شيء كان ، سواء كان العارض حاجزاً بين شيئين، كما يقال : فلان عرضة دوننا، أو لم يكن بل يكون معرّضاً للشيء ، كما يقال : فلان عرضة للناس ، أي : نصب للوقوع فيه .

فعلى هذا يحتمل أن تكون الآية من المعنى الأوّل ، أي : ولا تجعلوا الله حاجزاً لأيمانكم، أي حاجزاً لما حلفتم عليه فالمراد بالأيمان الأمور المحلوف عليها. وحينئذ تسمية المحلوف عليه يميناً يكون لتلبسه باليمين ، كقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها ، فأت الذي هو خير». ويكون قوله : ( أن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ) عطف بيان لأيمانكم . أي : للأمور التي هي البر والتقوى والإصلاح . كذا قيل .

وفيه بحث، لأنّ حمل الأيمان على المحلوف عليه إن صحّ كان مجازاً، ولا يصار إليه إلا مع تعذّر الحقيقة ، وليست متعذرة ،لجواز أن تكون الآية من المعنى الثاني ، أي : لا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم ، أي : لا تكثروا الحلف به حتّى في المحقّرات وفي غير المهمّات، لا في المهمّات الضرورية، ولذلك ذمّ الحلاف بقوله : ﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهين) (1). ويكون «أن تَبرُّوا» علة للنهي ، أي : أنهاكم عن ذلك ، إرادة برّكم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس، فإنّ الحلّاف مجترىء على الله ، والمجترىء لا يكون بارّاً ولا متقياً ولا موثوقاً به في إصلاح ذات البين.

ويستفاد من التأويل الأوّل أنه متى تضمّن اليمين ترك برّ أو تقوى أو إصلاح، فإنّها باطلة لا يجب العمل بمضمونها، ويجوز ،مخالفتها ، ومن الثاني النهي عن كثرة

ص: 357


1- القلم : 10 .

الأيمان وإن كانت صادقة ، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة. كذا قاله في كنز العرفان (1).

(واللهُ سَمِيعٌ) لأيمانكم (عَلِيمٌ) بنيّاتكم .

كان هاهنا موضع سؤال مقدر تقديره : إذا نهى الله عن جعل الله عرضة للأيمان هلك الناس، لكثرة حلفهم بالله. فأجاب بقوله: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ . اللغو: الساقط الّذي لا يعتد به من كلام وغيره. واللغو من اليمين : الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان، وهو ما يجري على عادة اللسان ويسبق به. من قول: لا والله وبلى والله ، من غير عقد قلبي ، إذا تكلّم به جاهلاً بمعناه.

والمعنى : لا يؤاخذكم الله بلغو اليمين الذي لا قصد معه ، ولا يلزمكم به كفّارة وعقوبة ﴿ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) بما قصدتم من الأيمان، وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم ، فإنّ كسب القلب هو العقد والنيّة ، فالأيمان المأخوذ بها ما نوت قلوبكم وقصدته . وفي هذا إشارة إلى اشتراط القصد في اليمين والنية ، فلا يقع يمين الغضبان غضباً يرتفع معه القصد، وكذا الساهي والغافل .

(واللهُ غَفُورٌ) حيث لم يؤاخذ (حَلِيمٌ) حيث لا يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد تربّصاً للتوبة.

وبعد ذكر حكم مطلق الأيمان بيّن حكم الإيلاء ، فقال : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسَآئِهِمْ) :أي: يحلفون على أن لا يجامعوهنّ. والإيلاء الحلف، وتعديته ب«على»، ولكن لمّا ضمن هذا القسم معنى البعد عدّي ب«من»، فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم مولين أو حالفين (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ )مبتدأ ما قبله خبره أو فاعل الظرف . والتربّص الانتظار والتوقف، أضيف إلى الظرف على الاتساع، أي: للمولي حق التلبّث في هذه المدّة ، فلا يطالب بفيء ولا طلاق .

ص: 358


1- كنز العرفان 2 : 119 .

وصيغة الإيلاء أن يقول الرجل لامرأته : والله إنّي لا أقربك ، ثمّ قام على يمينه . والحكم في ذلك أنّ المرأة إذا رفعت أمرها إلى الحاكم أنظر زوجها بعد الرفع إليه أربعة أشهر ، ويقول له بعد مضي الأشهر الأربعة : إذا لم تراجع زوجتك فيء أو طلّق.

(فَإِنْ فَاؤُوا) أي: رجعوا بأن يكفّروا عن اليمين، ويجامعوا عند القدرة عليه، أو يراجعوا بالقول عند العجز عن الجماع (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمولي إثم حنثه إذا كفّر ، أو ما توخّى بالإيلاء من ضرار المرأة بالفئة التي هي كالتوبة .

(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ) وإن صمّموا قصد الطلاق وتلفظوا به مع الشرائط المعتبرة فيه (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لطلاقهم (عَلِيمٌ ﴾ بغرضهم فيه .

آية 228

«وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)»

ولمّا أجرى الكلام إلى الطلاق بيّن بعد ذلك أحكام عدة الطلاق بقوله : (وَالْمُطلَّقَاتُ) يعني : المدخول بهنّ من ذوات الحيض غير الحوامل، لأنّ في الآية بيان عدّتهنّ، ولما دلّت الآيات والأخبار أنّ حكم غيرهنّ خلاف ما ذكر. وكذا الحكم مختص بالحرّة ، فإنّ الأمة عدّتها قرءان إذا كانت مستقيمة الحيض، فاللفظ مطلق في تناول الجنس، صالح لكلّه ،وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كاللفظ المشترك.

ص: 359

(يَتَرَبَّصْنَ » خبر في معنى الأمر . وتغيير العبارة للتأكيد والإشعار بأنه ممّا يجب أن يسارع إلى امتثاله، فكأنّهنّ امتثلن الأمر بالتربّص، فهو سبحانه يخبر عنه، كقولك في الدعاء : رحمك الله . وبناؤه على المبتدأ يزيده فضل تأكيد.

وقوله: ﴿ بِأَنْفُسِهِنَّ) تهييج وبعث لهنّ على التربّص ، فإن نفوس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن بأن يقمعنها ويحملنها على التربّص . والمعنى: ينتظرن بأنفسهنّ (ثَلَثَةَ قُرُوءٍ) منصوب على الظرف أو المفعول به ، أي : ينتظرن مدّة ثلاثة قروء أو مضيّها .

وقروء جمع قرء. وهو يطلق للحيض ، كقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «دعي الصلاة أيام أقرائك». وللطهر الفاصل بين حيضهنّ وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض، وهو المراد به في الآية عندنا وعند الشافعي ، لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض، كما قالت الحنفية ، لقوله تعالى : فطلقوهنّ لعدّتهنَّ) (1) أي : وقت عدّتهنّ ، والطلاق المشروع لا يكون في الحيض .

وجاء المميز على جمع الكثرة دون القلّة التي هي الأقراء، لأنهم يستعملون كلّ واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية ، ألا ترى إلى قوله : «بأنفسهنّ» وما هي إلا نفوس كثيرة . ولعلّ القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع القرء من الأقراء، فأوثر عليه تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المهمل، مثل قولهم : ثلاثة شسوع في موضع أشسع ، لفقد السماع فيه.

﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) من الولد والحيض، استعجالاً في العدّة وإبطالاً لحق الرجعة، وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ، ولئلا يشفق على الولد فيترك طلاقها ، أو كتمت حيضها وقالت - وهي حائض - : قد طهرت، استعجالاً للطلاق. وفيه دليل

ص: 360


1- الطلاق : 1 .

على أنّ قولها مقبول في ذلك .

(إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ليس المراد منه تقييد نفي الحلّ بإيمانهنّ، بل التنبيه على أنّ من حق المؤمن ألا يجترىء على مثله من العظائم.

(وَبُعُولَتُهُنَّ ) أي : أزواج المطلقات (أحقُّ بِرَدِّهِنَّ) إلى النكاح، والرجعة إليهنّ (فِي ذَلِكَ ) أي : في زمان التربّص ، ولكن إذا كان الطلاق رجعيّاً، للآية التي تتلوها. فالضمير أخص من المرجوع إليه ، ولا امتناع فيه ، كما لو كرّر الظاهر وخصّصه .

والبعولة جمع بعل ، والتاء لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤولة، أو مصدر من قولك : بعل حسن البعولة، نعت به أو أقيم مقام المضاف المحذوف، أي: وأهل بعولتهن.

ومعنى الأحق : أنّ الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها ، وكان هو أحق منها ، لا أن لها حقاً في الرجعة .

(إنْ أرَادُوا إِصْلَاحاً) بالرجعة لما بينهم وبينهنّ ولم يريدوا مضارّتهنّ ، وليس المراد منه شرطيّة قصد الإصلاح للرجعة بل التحريض عليه والمنع من قصد الضرار.

(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) أَي : يجب لهنّ حقوق على الرجال مثل حقوقهم التي تجب لهم عليهنَّ (بِالمَعْرُوفِ) بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس، فلا يكلّفنهم ما ليس لهنّ، ولا يكلّفونهنّ ما ليس لهم . فالمماثلة مماثلة الواجب بالواجب في كونه حسنة، لا مماثلة جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ، بل يقابله بما يليق بالرجال .

(وَالرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) زيادة في الحق وفضل فيه، بقيامهم عليهن، لأنّ حقوقهم في أنفسهن، وحقوقهنّ المهر والكفاف من النفقة والسكني وترك الضرار،

ص: 361

أو شرف وفضيلة ، لأنّهم قوّام عليهن وحرّاس لهنّ يشاركونهنّ في غرض الزواج، ويخصون بفضيلة الرعاية والإنفاق.

وفي كتاب من لا يحضره الفقيه روي عن الباقر (علیه السلام) قال: جاءت امرأة إلى رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) فقالت : يا رسول الله ما حق الزوج على المرأة ؟ فقال لها : تطيعه ولا تعصيه، ولا تتصدق من بيتها شيئاً إلّا بإذنه، ولا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب (1)، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض، وملائكة الغضب وملائكة الرحمة، حتى ترجع إلى بيتها ، فقالت : يا رسول الله من أعظم الناس حقّاً على الرجل ؟ قال : والداه ، قالت : فمن أعظم الناس حقاً على المرأة ؟ قال زوجها، قالت: فما لي من الحق عليه مثل ما له عليّ؟ قال : لا ولا من كلّ مائة واحدة، فقالت: والذي بعثك بالحق نبياً لا يملك رقبتي رجل أبداً» (2)وقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «لو كنت أمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» (3).

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ) يقدر على الانتقام ممن خالف الأحكام حَكِيمٌ يشرعها لحكم ومصالح .

آية 229 - 230

«الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا

ص: 362


1- القَتَبُ : الرّحل الذي يشدّ على الإبل.
2- الفقيه :3: 276 ح 1314 و 1316 .
3- الفقيه :3: 276 ح 1314 و 1316 .

فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)»

روي أنّ في الجاهلية لم يكن للطلاق حدّ، فالرجل منهم إذا طلق امرأته ثمّ راجعها قبل أن تنقضى عدّتها كان له ذلك وإن طلّقها ألف مرّة ، فذكر ذلك لرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فنزلت :(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ) أي : التطليق ، كالسلام والكلام والوداع بمعنى التسليم والتكليم والتوديع، أي: التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق، كقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) (1) أي : كرة بعد كرة ، ومثله : لبيك لا على الجمع والإرسال دفعة واحدة كما قاله الشافعي، فمن طلّق ثلاثاً بلفظ واحد لم يأت بالمرتين ولا بالثالثة ، كما أنّه لمّا أوجب في اللعان أربع شهادات، فلو أتى بالأربع بلفظ واحد لما أتى بالمشروع ولم يحصل حكم اللعان، وكذلك من رمي الجمار بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجز عنه بلا خلاف فكذلك الطلاق.

واحتج أصحابنا بعد أخبارهم التي رووها عن أهل البيت (علیهم السّلام) بما روي في حديث ابن عمر أنّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال : «إنّما السنّة أن تستقبل الطهر استقبالاً فتطلّقها لكلّ قرء تطليقة » (2) فحكموا بتحريم الثلاث المرسلة أو الثنتين المرسلتين، وأنّ ذلك بدعة .

(فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوف ) أي : فالواجب إذا راجعها بعد التطليقتين إمساك

ص: 363


1- الملك : 4 .
2- سنن البيهقي :8 330 .

بمعروف، أي: على وجه سائغ في الشرع . وهو كناية عن ردّها إلى النكاح، إمّا بالرجعة إن كانت العدّة باقية ، أو باستئناف العقد إن انقضت (أوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ) بالطلقة الثالثة (1).

روي أنّ سائلاً سأل رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): أين الثالثة ؟ فقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): هي قوله تعالى : (أوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) . وعند بعضهم المراد بقوله : «أَوْ تَسْريحٌ بِإِحْسَانٍ» ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدّة. وهو المروي عن الباقر والصادق (علیهما السّلام). وهو الأصح ، لأنّ الطلاق لا يقع عندنا بالكناية ، بل بالتصريح.

روي أنّ جميلة بنت عبد الله بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه وهو يحبّها ، فأتت رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) فقالت: يا رسول الله لا أنا ولا ثابت ، لا يجمع رأسي ورأسه شيء والله ما أعتب عليه في دين ولا خلق، ولكنّي أكره الكفر في الإسلام - يعني : أكره أن أقع في الكفر بسبب بغضه - ما أطيقه بغضاً، إنّي رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدهم سواداً، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجهاً. وكان ثابت قد أصدقها حديقة ، فقال : يا رسول الله مرها فلتردّ عليّ الحديقة ، فقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): ما تقولين ؟ قالت : نعم وأزيده، قال: لا حديقته فقط ، فقال لثابت : خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها، فاختلعت منه بها، وهو أوّل خلع كان في الاسلام، فنزلت (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) من المهور . والخطاب مع الحكّام . وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم ، لأنهم الآمرون بهما عند الترافع ، أو مع لأزواج، وما بعده خطاب للحكّام ، ومثل ذلك غير عزيز في القرآن.

فثنّى الضمير بعد ذلك بالنسبة إلى الزوجين ، فقال : (إلَّا أَن يَخَافَا) أَي : يخاف الزوجان ( ألّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ) بأن تركا إقامة أحكامه تعالى فيما يلزمهما من مواجب الزوجيّة، لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها .

ص: 364


1- سنن الدارقطني 4 : 4 ح 2 .

وقرأ حمزة ويعقوب: «يُخافا» على البناء للمفعول، وإبدال «أن» بصلته من الضمير بدل الاشتمال ، كقولك : خيف زيد تركه إقامة حدود الله ، ونحوه (وَأسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (1).

(فَإِنْ خِفْتُمْ) أَيّها الحكّام (ألّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به) على الرجل فيما أخذ ، وعلى المرأة فيما افتدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر ، أو الزيادة على المهر إن كان النشوز والبغض منها وحدها ، وإن كان منهما فيجب في البذل الاقتصار على المهر فما دونه، كما دلّت عليه الروايات الموثقة عن ائمتنا (علیه السّلام) (2) . وقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في حديث ثابت : لا ، حديقته فقط لا يمنع الزائد، لأنّه حكاية حال مطلوب زوجها ، فإنّه لم يطلب سوى الحديقة .

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ ﴾ إشارة إلى ما حدّ من الأحكام فَلَا تَعْتَدُوهَا فلا تتعدّوها بالمخالفة ﴿ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأَوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تعقيب للنهى بالوعيد مبالغة في التهديد .

﴿فَإِن طَلَّقَهَا) متعلق بقوله : «الطلاق مرتان أو تفسير لقوله: «أو تسريح بإحسان» اعترض بينهما ذكر الخلع دلالة على أنّ الطلاق يقع مجاناً تارة وبعوض أخرى. والمعنى : فإن طلّقها مرّة ثالثة بعد المرّتين .

وعن الباقر والصادق (علیهما السّلام) أن هذا إشارة إلى الطلقة الثالثة ، وقوله : «أو تسريح بإحسان» بمعنى ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدّة كما مر .

﴿ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) من بعد ذلك التطليق (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) حتى تتزوّج غيره. والنكاح يسند إلى كلّ منهما كالتزوّج.

وأجمع الفقهاء على أنّه لا بد من الإصابة، لما روي أن امرأة رفاعة قالت

ص: 365


1- الأنبياء : 3 .
2- راجع الوسائل 15: 493 ب ( 4) من أبواب الخلع والمباراة .

لرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «إن رفاعة طلّقني فبثَّ طلاقي ، وأنّ عبدالرحمن بن زبير - بفتح الزاء وكسر الباء - تزوّجني ، وأنّ ما معه هدبة كهدبة الثوب ، فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ قالت : نعم ، قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): لا حتى تذوقي عُسَيلته ، ويذوق عُسَيْلتكِ». فالآية مطلقة قيّدتها السنّة .ويحتمل أن يراد بالنكاح الإصابة، ويكون العقد مستفاداً من لفظ الزوج.

والحكمة في هذا الحكم الردع عن التسرّع إلى الطلاق، والعود إلى المطلّقة ثلاثاً، والرغبة فيها واقتصر ابن المسيب على مجرّد العقد، عملاً بإطلاقها . والإجماع على خلافه.

(فَإِن طَلَّقَهَا) الزوج الثاني ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) على الزوج الأوّل والمرأة (أن يَتَرَاجَعَا) في أن يرجع كلّ منهما إلى الآخر بعقد جديد (إِن ظَنَّا أَن يُقيمَا حُدُودَ الله) إن كان في ظنّهما أن يقيما ما حده الله وشرعه من حقوق الزوجية . ولم يقل : إن علما، لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله . ومن فسّر الظنّ هنا بالعلم فقد رأى رأياً غير سديد من طريقي اللفظ والمعنى ، لأنه لا يقال : علمت أن يقوم زيد، لأنّ «أن» الناصبة للتوقع وهو ينافي العلم، ولأنّ عواقب الأمور غيب لا يتعلّق علمنا بها ، فإنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنّما يظنّ ظنّاً.

ويستفاد من قوله : فإن طلّقها اشتراط كون عقد المحلّل دائماً ، لا منقطعاً ولا بشبهة ، لعدم تحقق الطلاق فيهما .

(وَتِلْكَ) أي : الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يفهمون ويعملون بمقتضى العلم .

واعلم أنّ الحكم المذكور - وهو التحريم في الثالثة إلا مع التحليل - مختصّ بالحرّة، أما الأمة فيكفي في تحريمها طلقتان فيفتقر إلى المحلّل، سواء كان زوجها حرّاً أم عبداً ، للعلم بذلك من السنّة الشريفة وبيان أهل البيت (علیهم السّلام) .

ص: 366

آية 231

«وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)»

ثمّ بيّن ما يفعل بعد الطلاق فقال : ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) بلوغ الشيء هو الوصول إليه . وقد يقال للدنو منه، وهو على الاتساع والأجل يقال للمدّة كلّها، ولمنتهاها وغايتها، فيقال لعمر الإنسان، وللموت الذي به ينتهي . وكذلك الغاية والأمد، لقول النحاة «من» لابتداء الغاية، و«إلى» لانتهاء الغاية . والمراد به في الآية المعنى الأخير ، أي : إذا شارفن وقاربن انتهاء العدّة ، لأنّ بعد انتهائها لا إمساك، فكيف يترتب عليه قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ) ؟ أي : فراجعوهنّ قبل انقضاء العدّة (بِمَعْرُوفِ) بما يجب لها من القيام بمواجبها من غير قصد ضرار بالمراجعة أو (سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أو اتركوهنّ حتى تنقضي عدتهن فيكن أملك بأنفسهن.

روي أنه كان الرجل يطلّق في الجاهليّة ويترك المعتدة حتى تشارف الأجل، ثمّ يراجعها لتطول العدّة عليها ، فنهى الله تعالى عنه بعد الأمر بضدّها، فقال: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً) ولا تراجعوهنّ إرادة الإضرار بهنّ، بالتقصير في النفقة أو المسكن، أو بتطويل العدّة عليهنَّ لا لقصد الرغبة فيهنّ . ونصب «ضراراً» على العلة أو الحال بمعنى مضارّين (لِتَعْتَدُوا) لتظلموهنّ بالتطويل أو الإلجاء إلى الاقتداء

ص: 367

بالمهر. واللام متعلّقة ب«ضراراً»، إذ المراد تقييده (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ بتعريضها لعذاب الله .

(وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوا) بالاستخفاف بأوامره ونواهيه، والإعراض عنها ، والتهاون في العمل بما فيها من قولهم لمن لم يجد في الأمر: إنّما أنت هازىء، كأنه نهى عن الهزء وأراد به الأمر بضدّه . وقيل : كان الرجل يتزوج ويطلق ويعتق ويقول : كنت ألعب، فنزلت .

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) فيما أباحه لكم من الأزواج والأموال ، ومن جملتها الهداية ببعثة سيّد الأنبياء وإنزال القرآن والمراد بذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقوقها ﴿ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ) من القرآن (وَالْحِكْمَةِ) والعلوم الشرعيّة المأخوذة من السنة ، أفردهما بالذكر إظهاراً لشرفهما (يَعِظُكُمْ بِهِ) بما أنزل عليكم ، لتتّعظوا فتؤجروا بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه ﴿وَاتَّقُوا اللهَ) من المعاصي التي تؤدّي إلى عقابه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هذا تأكيد وتهديد لمن يخالف حدود الله .

آية 232

«وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)»

يروى أنّ معقل بن يسار عضل أخته أن ترجع إلى زوجها بعد طلاقه، فنزلت: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) البلوغ هنا الوصول إلى الشيء تامّاً . والأجل هو المدّة كلّها . فقد دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين ، أي : إذا

ص: 368

انقضت عدّتهنَّ (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) لا تمنعوهنّ ظلماً (أَن يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) عن رجوعهنّ إلى أزواجهن . وقال السدي: نزلت في جابر بن عبدالله عضل بنت عمّ له.

وقال الراوندي (1) : الخطاب للأزواج ، لقوله : «وإذا طلقتم النساء»، ولأنه لا ولاية عندنا على البالغة الرشيدة، ولإسناد النكاح إليها في قوله : «أن ينكحن». فعلى هذا يكون المعنى : لا تعضلوهنّ عن أن ينكحن بأكفائهنّ. فتسمية الخطاب أزواجاً تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه على وجه المجاز. والعضل بمعنى الحبس والتضييق ، ومنه : عضلت الدجاجة إذا نشبت بيضتها فلم تخرج .

(إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ ) أي : الخطاب والنساء. وهذا ظرف ل«أن ينكحن» أو «لا تعضلوهنّ» (بِالْمَعْرُوفِ) بما يعرفه الشرع وتستحسنه المروءة. فهو حال من الضمير المرفوع، أو صفة مصدر محذوف ، أي : تراضياً كائناً بالمعروف. وفيه دلالة على أنّ العضل عن التزوّج من غير كفؤ غير منهيّ عنه .

(ذَلِكَ) إشارة إلى ما مضى ذكره من الأمر والنهي . والخطاب للجميع على تأويل القبيل، أو كلّ واحدٍ، أو أن الكاف لمجرّد الخطاب، والفرق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين، أو للرسول على طريقة قوله : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ (2) للدلالة على أنّ حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوّره كلّ واحد. (يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) لأنه المتعظ به والمنتفع .

(ذَلِكُمْ ) أي : العمل بمقتضى ما ذكر (أَزْكَى لَكُمْ) أعظم بركة وأنفع وَأطْهَرُ من أدناس الآثام (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) ما فيه من النفع والصلاح لكم من الأحكام الشرعيّة (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) لا تعلمونه ، لقصور علمكم.

ص: 369


1- فقه القرآن 2 : 181 .
2- الطلاق : 1 .

آية 233

«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)»

ولما بيّن سبحانه حكم الطلاق عقّبه ببيان أحكام الأولاد الصغار في الرضاع والتربية ، فقال : ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ﴾ « يرضعن» مثل «يتربّصن» في خبر في معنى الأمر المؤكِّد للمبالغة ، أي : ولترضع الأمهات أولادهنّ ، إذ لا يجوز أن يكون على حقيقة خبريّة وإلّا لزم الكذب، لأنه قد يرضعن أزيد وأنقص وليس الأمر للوجوب، لأصالة البراءة ، بل لمطلق الرجحان الشامل له وللندب، فمعناه الندب أو الوجوب. أمّا الوجوب فيخص بما إذا لم يرتضع الصبيّ إلا من أمّه ، أو لم يوجد له ظئر ، أو عجز الوالد عن الاستئجار ، أو إرضاع اللِّبَأ ، وهو أوّل لبن يجيء مبدأ الولادة لأنّ الولد لا يعيش بدونه غالباً. أما المندوب فما عداه، فإنّ أفضل اللبن لبن الأم لولدها، فيستحبّ لها أن ترضعه . والوالدات تعمّ المطلقات وغيرهنّ. وقيل : يختص بهنّ ، إذ الكلام فيهن .

(حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ أكّده بصفة الكمال ، لأنه ممّا يتسامح فيه يقول الرجل:

ص: 370

أقمت عند فلان حولين، ولم يستكملهما .

وقوله : ( لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) بيان لمن توجّه إليه الحكم، أي: ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة، أو متعلّق ب«يرضعن»، فإنّ الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئراً، إلا إذا تطوّعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى الإرضاع ولا تجبر على ذلك. فالأمر للوالدات بالإرضاع أمر على الندب . وهو دليل على أنّ أقصى مدة الإرضاع حولان، ولا عبرة به بعدهما، وأنه يجوز أن ينقص عنه ما دام لا يكون موجباً لضرر .الولد. فالحولان منتهى الرضاع وليس فيما دون ذلك حد محدود، وإنما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به.

﴿ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ ﴾ أي : يجب على الذي يولد له يعني : الوالد فإنّ الولد يولد له وينسب إليه لا الأم. ولهذا قيل:

فإنّما أمهات الناس أوعية *** مستودعات وللآباء أبناء(1)

و تغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضي لوجوب الإرضاع ومؤن المرضعة علیه. وقوله : «له» في محلّ الرفع على الفاعلية ، نحو «عليهم» في «غير المغضوب عليهم».

وعلى الوالد (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ) أجرة لهنّ إذا أرضعن ولده (بِالْمَعْرُوفِ) ما يراه الحاكم ويفي به وسعه.

(لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) :أي: لا يلزمها الله إلا دون طاقتها. هذا تعليل لإيجاب المؤن. والتقييد بالمعروف دليل على أنه تعالى لا يكلّف العبد بما لا يطيقه. ﴿ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ﴾ تفصيل له أي لا يكلّف كلّ منهما الآخر ما ليس في وسعه ، ولا يضاره بسبب الولد . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: لا تضارّ بالرفع، بدلاً من قوله : «لا تكلّف»، وأصله على القراءتين:

ص: 371


1- البيت للمأمون بن الرشيد ، راجع الكشّاف 1: 279 .

تضارر على البناء للفاعل، أو الفتح على البناء للمفعول . وعلى الوجه الأوّل يجوز أن يكون بمعنى : تضرّ ، والباء من صلته، أي لا يضرّ الوالدان بالولد، فيفرّط في تعهده ويقصر فيما ينبغي له . وإضافة الولد إليها وإليه أخرى استعطاف لهما عليه، وتنبيه على أنه حقيق بأن يتفقا على استصلاحه والإشفاق، فلا ينبغي أن يضرّا به أو يتضارّا بسببه .

وخلاصة المعنى : أنه لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها، بأن تطلب منه ما ليس بعدل من النفقة والكسوة ، وأن لا يشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد. ولا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولدها بأن يمنعها شيئاً ممّا وجب عليه ، أو يأخذه منها وهي تطلب إرضاعه. وكذلك إذا كان مبنيّاً للمفعول . فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج ، وعن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد.

﴿ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) عطف على قوله : «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ» وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. والمراد بالوارث وارث الأب . والمعنى : وعلى وارث المولود له بعد موته مثل ما أوجب عليه من الرزق والكسوة بالمعروف.

(فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً) صادراً (عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ) بينهما قبل الحولين أو بعدهما. والتشاور والمشاورة والمشورة استخراج الرأي، من : شرت العسل ، إذا استخرجته ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) في ذلك ، زادا على الحولين أو نقصا. وهذه توسعة بعد التحديد وإنّما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الطفل،و حذراً أن يقدم أحدهما على ما يضرّ به لغرض.

﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ) أي: تسترضعوا المراضع أولادكم يقال : أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إيّاه ، كقولك : أنجح الله حاجتي و استنجحته ،إيَّاها ، فحذف المفعول الأوّل للاستغناء عنه ، كما تقول : استنجحت

ص: 372

الحاجة ، ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كلّ مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأوّل ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) فيه . وفيه دلالة على أنّ للزوج أن يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع (إذَا سَلَّمْتُمْ) إلى المراضع (مَا آتَيْتُمْ) ما أردتم إیتاءه ، كقوله تعالى : (إذا قُمْتُمْ إلَى الصَّلوةِ) (1). وقرأ ابن كثير: «ما أتيتم» من: أتى إليه إحساناً إذا فعله .

وقوله: ﴿ بِالمَعْرُوفِ) صلة «سلّمتم» أي : بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً. وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله. وليس التسليم شرطاً لجواز الاسترضاع، بل لسلوك ما هو الأولى والأصلح للطفل، فإنّ المرضعة إذا أخذت الأجرة على الرضاع تصير طيّبة النفس، فتقبل على الطفل بقلبها ، وتراعي مصلحته حقّ المراعاة.

(وَاتَّقُوا الله) مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع ، وقوله : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) حثّ وتهديد .

آیة 234

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿234)

وبعد ذكر عدّة الطلاق بيّن عدة الوفاة بقوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) تقديره : أزواج الذين، وقرينة حذف المضاف قوله : ( وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أو تقديره : والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن

ص: 373


1- المائدة : 6 .

بعدهم، كقولهم : السمن منوان بدرهم، أي: منوان منه .

ومعنى «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ» : يعتددن هذه المدّة ويتركن الزينة. وتأنيث العشر باعتبار الليالي ، لأنها غرر الشهور والأيام، ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قطّ ذهاباً إلى الأيام ، حتى إنّهم يقولون : صمت عشراً. ويشهد له قوله: (إنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) ثمّ قال : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ﴾ (1).

(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) : أي : انقضت عدّتهنَّ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أيّها الأئمّة أو الأولياء أو المسلمون جميعاً (فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ) من التعرّض للخطاب واستعمال الزينة بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي لا ينكره الشرع ومفهومه أنّهنّ لو فعلن ما ينكره فعليهم أن يكفّوهنّ ، فإن قصّروا فعليهم الجناح .

وهذه الآية ناسخة لقوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجِ ) (2) وإن كانت متقدّمة عليها في التلاوة .

﴿ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم عليه .

آية 235

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكُنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقدة النكاح حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿235﴾

ولما قدّم ذكر عدّة النساء وجواز الرجعة فيها للأزواج، عقبه ببيان حال غير

ص: 374


1- طه: 103 - 104 .
2- البقرة : 240 .

الأزواج ، فقال : ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أيّها الرجال فِيمَا (عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) المعتدّات، ولا تصرّحوا به والتعريض والتلويح إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازاً ، كقول السائل : جئتك لأسلم عليك . والكناية هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه و روادفه ، كقولك : طويل النجاد للطويل ، وكثير الرماد للمضياف .

والخطبة بالكسر والضمّ اسم الحالة، غير أنّ المضمومة خصّت بالموعظة. والمكسورة بطلب المرأة ،وتعريض خطبتها أن يقول لها : إنّك لجميلة أو صالحة، أو إنّي أحبّ امرأة صفتها كذا، ويذكر بعض صفاتها، ونحو ذلك من الكلام الذي یوهم أنّه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه . ولا يصرّح بالنكاح فلا يقول : إنّي أريد أن أنكحك أو أتزوّجك .

وفي الكشّاف روى ابن المبارك عن عبدالرحمن بن سليمان، عن خالته قالت: «دخل عليّ أبو جعفر محمد بن علي (علیه السّلام) وأنا في عدّتي، فقال: قد علمت قرابتي من رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)وحق جدّي عليّ وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر الله لك أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك ؟! فقال : أو قد فعلت ؟! وإنّما أخبرتك بقرابتي من رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وموضعي، قد دخل رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)على أم سلمة ، وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفّي عنها ، فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده، حتى أثّر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها، فما كانت تلك خطبة (1) !!» (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ) أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم، فلم تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ) لا محالة لرغبتكم فيهنّ ، وعدم صبركم على السكوت عنهن، وعن الرغبة فيهنّ، خوفاً منكم أن يسبقكم غيركم إليهنّ ، فأباح لكم ذلك . ﴿ وَلَكِن لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرَا) استدراك عن محذوف، دلّ عليه

ص: 375


1- الكشّاف 1 : 282 .

«ستذكرونهنّ» ، أي : فاذكروهن ولكن لا تواعدوهنّ سرّاً. والسرّ كناية عن الوطء، لأنه ممّا يسرُّ ، ثمّ عبّر به عن النكاح الذي هو العقد، لأنه سبب فيه (إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا والمستثنى منه محذوف، أي: لا تواعدوهنّ مواعدة إلا مواعدة معروفة . وقيل : معناه لا تواعدوهنّ جماعاً، وهو أن يقول لها : إن نكحتك كان كيت وكيت يريد: ما يجري بينهما تحت اللحاف، إلا أن تقولوا قولاً معروفاً ، أي : غير رفت وإفحاش في الكلام.

﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ) من : عزم الأمر وعزم عليه. وهو مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدّة ، لأنّ العزم على الفعل يتقدّمه ، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى . والعقدة موضع العقد، وهو ما عقد عليه. ومعناه : لا تعزموا عقدة النكاح في العقدة ( حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ) حتى ينتهي ما كتب وفرض من العدّة .

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ) من العزم على ما لا يجوز (فَاحْذَرُوهُ) ولا تقربوه ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن عزم ولم يفعل خشية من الله (حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة .

آية 236

لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴿236)

ثمّ بيّن حكم الطلاق قبل الفرض والمسيس ، فقال : (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) لا تبعة ولا إثم عليكم (إن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) أي : ما دام لم تجامعوهن (أو تَفْرِضُوا) أو ما لم تفرضوا وتسمّوا (لَهُنَّ فَرِيضَةً) :أي: صداقاً .

قال صاحب الكنز : المراد بالمسّ الجماع. والفرض التقدير. والمراد

ص: 376

بالفريضة المهر المقدّر . ففعيل هنا بمعنى مفعول، والتاء لنقل اللفظ إلى الاسمية. و «أو» هاهنا يحتمل أن يكون بمعنى الواو ، وأن يكون للترديد، وأن يكون بمعنى «إلا أن».

فعلى الأوّل، يكون منطوق الآية : أنكم إن طلّقتم النساء قبل متهنَّ وقبل فرضكم لهنّ مهراً فلا جناح عليكم، قدم جواب الشرط عليه .

وإنّما نفى الجناح لأنّ الطلاق مظنّة الجناح ، لكون النكاح مطلوباً للّه ، فيكون تركه مظنّة ،الكراهة، خصوصاً قبل الدخول، وأمّا بعد الدخول فقد حصل الامتثال وضعفت الكراهية للترك ، فلذلك خص النفي بما قبل المس، أو لأنّ الطلاق بعد الدخول يفتقر إلى الاستبراء وقبله لا .

وقيل : المعنى : لا تبعة على المطلّق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولم يسمّ لها مهراً ، إذ لو كانت ممسوسة لكان عليه المسمّى أو مهر المثل، ولو كانت غير ممسوسة وقد سمّى لها مهراً كان لها نصفه. فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الأولى، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين.

وفيه نظر ، لأنه لو كان ذلك هو المراد لما حسن نفي الجناح مطلقاً، لأنه وإن لم يجب عليه المهر كملاً فإنّه يجب عليه المتعة فكان ينبغي فيه التقييد، لكنّه لم يقيّد، فلم يكن ذلك هو المراد .

وعلى الثاني، يكون المنطوق نفي الجناح قبل المس مطلقاً ، أي : مع الفرض وعدمه، وقبل الفرض مطلقاً، أي: مع المس وعدمه، فيثبت المتعة في الأحوال الأربعة، فتكون واجبة مع الطلاق منضمة إلى نصف المهر وإلى مهر المثل. لكن ذلك لم يقل به أحد من أصحابنا، لكنّه قول الشافعي .

على الثالث ، يكون المنطوق نفي الجناح وثبوت المتعة مع عدم الفرض

ص: 377

فيكون الحكم كالأوّل ، وهو الذي عليه الفتوى إلى هنا كلامه (1).

وأنا أقول: لمّا كان القول الأخير قول جمهور المفسّرين، ولا يذهب أحد منهم إلى القول الثاني إلا شاد منهم ، فبالحري أن يكون القول الثالث راجحاً، ونفى الجناح مختصاً بطلب المهر المسمّى أو المهر المثل، وتخصيص العام شائع عند العلماء لا ينكره أحد، كما قرّر في علم الأصول، فيكون نفي الحسن عن نفي الجناح غير حسن ولا يكون التنافي بينه وبين قوله: ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ) وهو معطوف على مقدّر ، أي : فطلّقوهنّ ومتعوهنّ ، أي : أعطوهنّ من مالكم ما يتمتعن به والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق، وذلك الشيء يختلف باعتبار حال الزوج، كما قال عزّ اسمه (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) :أي: على الغنيّ الّذي هو في سعة لغناه على قدر حاله (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) وعلى الفقير الذي هو في ضيق على قدر حاله. ومعنى قدره مقداره الذي يطيقه . والقدْر والقَدَر لغتان .

وعن الباقر (2) والصادق (علیهما السّلام) أنّ على الغنيّ دابة أو ثوب رفيع أو عشرة دنانير من الذهب، وعلى المتوسط خمسة أو ثوب متوسط، وعلى الفقير دينار أو خاتم، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة : إن نقص مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل .

وفي الآية دلالة صريحة على صحة عقد الدوام من غير ذكر مهر مطلقاً، ويسمّى تفويض البضع . وقد يقال : تفويض المهر، وهو أن يتزوجها بمهر مجمل، كأن يفوّض تقديره إلى أحدهما أو إلى أجنبي، فيلزم ما يقدّره. لكن إن كان هو الزوج لزم كلّ ما يقدّره بما يتملك ، وإن كان الزوجة لزم ما لم يتجاوز مهر السنّة ،

ص: 378


1- كنز العرفان 2 : 206 - 205 .
2- لم نجده فيما لدينا من مصادر الحديث ، وروى الطبرسي في مجمع البيان (1 / 340) عن الباقر والصادق علیهما السلام بمضمون آخر .

وهو خمسمائة درهم والأجنبي حكمه تابع لمن هو من قبله.

(مَتَاعاً بالمَعْرُوفِ ) تمتيعاً بالوجه الذي يستحسنه الشرع والمروءة (حَقًّا) صفة «متاعاً» أو مصدر مؤكّد ، أي : وحُق ّذلك حقّاً (عَلَى المُحْسِنِينَ﴾ الّذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع . وسمّاهم قبل الفعل محسنين للمشارفة، كما قال (علیه السلام): «من قتل قتيلاً فله سلبه»(1) ترغيباً وتحريضاً.

آية 237

وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ للتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿ 237)

ولمّا ذكر حكم المفوّضة أتبعه حكم المفروضة ، فقال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ) تجامعوهنّ (وَقَدْ فَرَضْتُمْ) أوجبتم ﴿ لَهُنَّ فَرِيضَةً )، صداقاً (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي : فلهنّ ، أو فالواجب نصف ما فرضتم لهنّ. وهو دليل على أن المراد بالجناح في الآية المتقدّمة تبعة المهر، وأن لا متعة مع التشطير ، لأنه قسيمها (إلّا أن يَعْفُونَ ﴾ أي : المطلقات الحرائر البالغات غير المولّى عليهن ، لفساد عقولهنّ ، أي : يتركن ما يجب لهنّ من نصف المهر ، فلا يأخذن شيئاً من الأزواج .والصيغة تحتمل التذكير والتأنيث والفرق : أنّ الواو في الأوّل ضمير والنون علامة الرفع، وفي الثاني لام الفعل والنون ضمير . والفعل مبني ، ولذلك لم تؤثر فيه أن الناصبة هاهنا ونصب المعطوف عليه ، أعني قوله : (أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ )وهو الولي الذي يلي عقد نكاحهنّ ، وذلك إذا كانت المرأة صغيرة أو

ص: 379


1- المعجم الكبير للطبراني :7 295 ح 6995 .

سفيهة . وليس له العفو إلا عن بعضه لا جميعه، وهو قول أصحابنا.

(وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) خطاب للأزواج جميعاً، أي: عفوكم أيها الأزواج أقرب لكم لاتقاء الظلم، فإنّ التارك لغيره حقه قد استبرأ لذمته واحتاط ، أو لاتقاء الكلام في حقه، بأن يقال : إنّه طلقها وأدخل عليها ذلّ الخذلان وبخس المهر .

روي عن جبير بن مطعم أنه تزوّج امرأة وطلّقها قبل أن يدخل بها ، فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحق بالعفو . وعند من فسّر «الذي بيده عقدة النكاح» بالزوج قال : له أن يعفو عن جميع النصف .

ولما ذكر عفو المرأة ووليها ذكر عفو الرجل، وجمعه مطابقة لجمع النساء، ولأنه خطاب لكل زوج.

﴿ وَلَا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي : ولا تتركوا أن يتفضّل بعضكم على بعض (اِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ عليم لا يضيع تفضّلكم وإحسانكم.

آية 238 - 239

«حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)»

ولما حثّ الله سبحانه عباده على الاطاعة والامتثال بأنواع الطاعة، خصّ الصلاة بالمحافظة عليها ، لأنّها أعظم الطاعات، ولئلا يشتغلوا عنها بغيرها من الأحكام المشوبة بالحظوظ النفسانية من النكاح وغيره ، فقال : ﴿حَافِظُوا) داوموا (عَلَى الصَّلَوَاتِ) في مواقيتها بأداء أركانها( وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) بين الصلوات. أو الفضلى، من قولهم للأفضل : الأوسط. وتخصيص الصلاة الوسطى بالأمر

ص: 380

بالمحافظة عليها - مع أنها داخلة في الصلوات واللام للاستغراق - لاختصاصها بمزيد فضل يقتضي رفع شأنها ، فإفرادها بالذكر كإفراد النخل والرمان بين الفاكهة، وجبرئيل عن الملائكة .

وهي صلاة العصر ، لقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم ناراً». وقال (علیه السلام) : «إنّها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود (علیه السّلام) حتى توارت بالحجاب».

وعن حفصة : سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)يقرأ هذه الآية هكذا: والصلاة الوسطى صلاة العصر. وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها واجتماع ملائكة الليل والنهار فيها .

وقيل : صلاة الظهر ، لأنها وسط النهار . وكانت أشق الصلوات عليهم ، فكانت أفضل ، لقوله (علیه السّلام): «أفضل الأعمال أحمزها». وروي ذلك أيضاً مرفوعاً.

وقيل : صلاة الفجر . ويؤيده قوله: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ﴾ (1) . ولأنها بين صلاتي النهار والليل.

وقيل : المغرب، لأنها المتوسّط بالعدد.

وقيل : العشاء، لأنها بين جهرتين واقعتين في طرفي الليل.

( وَقُومُوا لِلَّهِ) في الصلاة قانتين دائمين في قيامكم، أو خاشعين ، أو ذاكرين له في القيام والقنوت الذكر فيه. ويؤيّده ما روي عن الصادق (علیه السّلام) أنه قال : القنوت الدعاء في الصلاة في حال القيام». وما شاع عند الفقهاء أنه هو الدّعاء في الصلاة مع رفع اليدين. والأمر الأوّل للوجوب إجماعاً، والثاني على الاختلاف والأكثر على ندبينه ، وهو الأصح .

ولما ذكر سبحانه وجوب المحافظة على الصلوات عقبه بذكر الرخصة في

ص: 381


1- الإسراء : 78 .

عدم حفظ أركانها عند التعذر ، فقال : ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ) فإن كان بكم خوف من عدوّ أو غيره (فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانا) فصلّوا راجلين أو راكبين حيث أمكن. ورجال جمع راجل أو رَجْل بمعناه ، كقائم وقيام. وفيه دليل على وجوب الصلاة حال المسايفة .وإليه ذهب جميع أصحابنا والشافعي. وعند أبي حنيفة لا يصلّى حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف.

(فَإِذَا أَمِنتُمْ) وزال خوفكم (فَاذْكُرُوا اللهَ) صلوا صلاة الأمن مع محافظة الأركان والشروط (كَمَا عَلَّمَكُمْ) مثل ما علمكم من الشرائع وموافقاً له،أو فاشكروا الله على الأمن واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم كيف تصلون في حال الخوف والأمن. و «ما» مصدريّة، أي: كتعليم الله إياكم. ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) مفعول «علّمكم».

آية 240

«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)»

ثم عاد إلى ذكر أحكام الزواج وتوابعها ، فقال : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنْكُمْ ) أي : الذين يتقاربون الوفاة منكم، لأن المتوفّى لا يؤمر ولا ينهى (وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ ). قرأها بالنصب أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم على تقدير : والذين يتوفّون منكم يوصون وصيّة، أو ليوصوا وصيّة ، أو كتب الله عليهم وصيّة ، أو ألزم الله الذين يتوفّون وصيّة. وقرأ الباقون بالرفع على تقدير : وصية الّذين يتوفّون، أو وحكمهم وصيّة ، أو والذين يتوفّون أهل وصيّة ، أو كتب عليهم وصيّة ( مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ) نصب ب«يوصون» إن أضمرت، وإلا فبالوصية. ومعناه :

ص: 382

ما ينتفعن به حولاً من النفقة والكسوة والسكنى (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) بدل أو مصدر مؤكد أي : يمسكن في البيوت إمساكاً غير إخراج ، كقولك : هذا القول غير ما تقول، أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات .

والمعنى: أن حق الذين يتوفّون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يموتوا بأن تمتّع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً ، أي : ينفق عليهن من تركته، ولا يخرجن من مساكنهن . فكان ذلك قبل الإسلام وبدئه ، ثمّ نسخت المدة بقوله : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾ (1) وإن كان متقدماً في التلاوة فهو متأخّر في النزول.

(فَإِنْ خَرَجْنَ) من منزل الأزواج قبل الحول من غير أن يخرجهنّ الورثة. وقيل : إنّ المراد إذا خرجن بعد مضيّ الحول وقد مضت العدّة (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) يا معشر أولياء الميّت (فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ) كالتطيب وترك الحداد والتعرّض للأزواج (مِنْ مَعْرُوفٍ) ممّا لم ينكره الشرع من طلب النكاح والتزيّن . وهذا يدلّ على أنّه لم يجب عليها ملازمة مسكن الزوج للحداد عليه، وإنما كانت مخيّرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها . (وَاللهُ عَزِيزُ) ينتقم ممّن خالفه منهم (حَكِيمٌ يراعي) مصالحهم.

آیة 241 - 242

وَلَلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴿241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿242)

ولما قدّم سبحانه بيان أحوال المعتدّات عقبه ببيان ما يجب لهنّ من المتعة فقال : ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمَعْرُوفِ ) أي : تمتيع بوجه شرعيّ، ، من النفقة والكسوة والمسكن المذكور ، متاعاً إلى الحول .

ص: 383


1- البقرة : 234

وقيل : المراد بالمتاع المتعة، فتكون مخصوصة بالآية المتقدّمة، فإنّ المتعة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها مهر ، فأما المدخول بها فلها مهر مثلها إن لم يسمّ لها مهر ، وإن فرض لها مهر ولم يدخل بها فنصف المهر .

قال الكشّاف (1): «عمّ المطلقات هنا بإيجاب المتعة لهن بعدما أوجبها في لواحدة منهنّ ، وهي المطلقة غير المدخول بها ، وقال : )حَقَّاً عَلَى المُتَّقِينَ) ، كما قال ثمّة : «حقاً عَلَى المُحْسِنِينَ».

وقيل : قد تناولت التمتيع الواجب والندب جميعاً، ويكون اللام للعهد، والتكرير للتأكيد.

(كَذَلِكَ) إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق والعِدَد ( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) وعد بأنّه سيبيّن لعباده من الدلائل الهادية والأحكام اللازمة ممّا يحتاجون إليها معاشاً ومعاداً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لعلكم تفهمونها فتستعملون العقل فيها.

آية 243 - 245

ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشكُرُونَ ﴿242) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244﴾ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَ اللهُ يَقبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِليه تَرْجَعُونَ ﴿245)

ولما ذكر قوله : يبيّن آياته ليعتبروا منها ويجعلوها وسيلة إلى امتثال أوامره

ص: 384


1- الكشّاف 1 : 289 ، والآية في سورة البقرة : 236 .

تعالى عقّبه بأنّ من جملة آياته المعتبرة ما أخبر به بقوله : ألم تر»، تقريراً لمن سمع بهذه القصّة لأهل الكتاب ، وتعجيباً من شأنها. ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع ، لأنّ هذا يجري مجرى المثل في معنى التعجيب.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ) يريد أهل داوردان(1) قرية قبل واسط ، وقع فيهم طاعون ، فخرجوا هاربين، فأماتهم الله تعالى، ثمّ أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم الله ( وَهُمْ أُلوفٌ ) أي : ألوف كثيرة ، قيل : عشرة آلاف وقيل : ثلاثون . وقيل : سبعون . ومن بدع التفاسير معنى ألوف متألفون، جمع آلف أو إلف ، كقاعد وقعود، والواو للحال (حَذَرَ المَوْتِ) مفعول له (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ) :أي: قال لهم الله : موتوا فماتوا، كقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) (2). والمعنى: أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة بأمر الله ومشيئته . وقيل : ناداهم به ملك ، وإنّما أسند إلى الله تعالى تخويفاً وتهويلاً ﴿ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) .

قيل : مرّ حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرّقت أوصالهم، فلوى شدقه (3) وأصابعه تعجّباً ممّا رأى فأوحي إليه : ناد فيهم أن قوموا بإذن الله ، فنادى ، فنظر إليهم قياماً يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت.

وقيل : هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد، فخرجوا ثمّ جبنوا وكرهوا الموت، فاعتلوا وقالوا : إنّ الأرض التي نأتيها بها الوباء فلا تأتيها حتى ينقطع منها الوباء، فأرسل الله عليهم الموت، فلما رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً من الموت، فلمّا رأى الملك ذلك قال : اللهم ربّ يعقوب وإله

ص: 385


1- داوردان بفتح الواو وسكون الراء من نواحي شرقي واسط بينهما فرسخ . انظر معجم البلدان 2 : 434 .
2- البقرة : 117 .
3- الشَّدقُ : جانب الفم .

386

موسى قد ترى معصية عبادك ، فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فأماتهم الله ثمانية أيام ثمّ أحياهم.

(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث يبصرهم ما يعتبرون به ويستبصرون، كما بصركم باقتصاص خبرهم ، أو حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم القيامة ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) لما ذكر من النعمة عليهم، بما أراهم من الآية العظيمة في أنفسهم، ليلتزموا سبيل الله ، ويتجنبوا طريق الردى.

وفائدة ذكر هذه القصّة حثّ المسلمين على التوكل والاستسلام للقضاء ،وتشجيعهم على الجهاد والتعرّض للشهادة.

فلمّا بيّن أنّ الفرار عن الموت غير مخلص، وأنّ المقدّر لا محالة واقع. أمرهم بالقتال، إذ لو جاء أجلهم ففي سبيل الله وإلا فالنصر والثواب.

وقال : (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) لما يقوله المتخلف والسابق ( عَلِيمٌ) بما يضمرانه ، وعلمه محيط بكيفيّة الجزاء وكمّيته .

ثمّ رغّبهم في الجهاد وبذل الأنفس والأموال فيه ، بقوله : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله ) «من» استفهاميّة مرفوعة الموضع بالابتداء، و«ذا» خبره، و«الذي» صفة «ذا» أو بدله . وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي به يطلب ثوابه (قَرْضاً حَسَناً) إقراضاً مقروناً بالإخلاص وطيب النفس، أو مقرضاً حلالاً طيّباً. وقيل : القرض الحسن المجاهدة والإنفاق في سبيل الله (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) فيضاعف جزاءه. أخرجه على سبيل المغالبة للمبالغة ، كما مرّ في ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا انْفُسَهُمْ) (1).

وقرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملاً على المعنى، فإنّ (مَنْ

ص: 386


1- البقرة : 9 .

ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ) في معنى أيقرض الله أحد؟ وقرأ ابن كثير : فيضعفه بالرفع،وابن عامر ويعقوب بالنصب.

(أَضْعَافاً كَثِيرَةً) لا يعلم كنهها إلا الله ، كما روي عن الصادق (علیه السّلام) أنه قال : لما نزلت هذه الآية : ( مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) (1) قال رسول الله : رب زدني، فأنزل الله : ( مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثالِهَا) (2) فقال رسول الله : رب زدني، فأنزل الله سبحانه: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً» والكثير عند الله لا يحصى». وقيل: هي . وقيل : هي أن الواحد بسبعمائة .

و«أضعافاً» جمع ضعف. ونصبه على الحال من الضمير المنصوب ، أو المفعول الثاني، لتضمّن المضاعفة معنى التصيير، أو المصدر ، على أنّ الضعف اسم مصدر، وجمعه للتنويع .

﴿ وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) يقرّر على بعض ويوسّع على بعض وفق ما اقتضت حكمته، فلا تبخلوا عليه بما وسع الله عليكم كيلا يبدّل حالكم ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على ما قدمتم .

قال الكلبي في نزول هذه الآية : «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنّة.

فقال أبو الدحداح الأنصاري - واسمه عمر و بن الدحداح - : يا رسول الله إنّ لي حديقتين إن تصدّقت بإحداهما فإنّ لي مثليها في الجنّة ؟

قال : نعم .

ص: 387


1- النمل : 89 ، القصص : 84 .
2- الأنعام : 160 .

قال : وأم الدحداح معي ؟

قال : نعم .

قال : : والصبية معي ؟ قال : نعم .

قال : فتصدق بأفضل حديقتيه، فدفعها إلى رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فنزلت الآية . فضاعف الله له صدقته ألفي ألف، وذلك قوله : «أضعافاً كثيرة».

فرجع أبو الدحداح، فوجد أم الدحداح والصبية في الحديقة التي جعلها صدقة ، فقام على باب الحديقة، وتحرّج أن يدخلها ، فنادى : يا أمّ الدحداح !

قالت : لبيك يا أبا الدحداح.

قال : إنّي قد جعلت حديقتي هذه صدقة ، واشتريت مثليها في الجنّة ، وأمّ الدحداح معي والصبية معي.

فقالت : بارك الله لك فيما شريت وفيما اشتريت. فخرجوا منها وأسلموا الحديقة إلى النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم).

فقال النبي : كم نخلة متدلّ عذوقها لأبي الدحداح في الجنّة».

آية 246 - 251

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ

ص: 388

عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)»

ولمّا قدّم سبحانه ذكر الجهاد عقّبه بقصة مشهورة في بني إسرائيل تضمّنت

ص: 389

شرح ما نالهم في قعودهم عنه ، تحذيراً من سلوك طريقتهم فيه، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ألم ينته علمك يا محمد (إلَى المَلَا مِن بَنِي إِسْرائيل) الملأ جماعة الأشراف من الناس ، لأنّ هيبتهم تملأ الصدور ، أو لأنهم باجتماعهم للتشاور يملأون المجلس، ولا واحد له كالقوم . و «من» للتبعيض (مِنْ بَعْدِ مُوسَى) أَي: من بعد وفاته. و«من» للابتداء (إِذْ قَالُوا لِنَبِي لَهُمُ) وهو يوشع أو شمعون أو إشمويل، وهو الأعرف (ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً) أنهِض للقتال معنا أميراً ننتهي إلى أمره (نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ بتدبير أمره في الحرب وصواب رأيه فيه. وجزم «نقاتل» على الجواب .

﴿ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ألَّا تُقَاتِلُوا) فصل بين عسى وخبره بالشرط والمعنى: أتوقّع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم . فأدخل «هل» على فعل التوقع مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون تقريراً وتثبيتاً.

(قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أَيّ داعٍ لنا إلى ترك القتال، وأي غرض لنا يوجبه ؟ ﴿ وَقَدْ أَخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا) من أوطاننا (وَأبْنَائِنَا) وأفردنا عن أولادنا. وذلك أنّ جالوت ومن معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، وغلبوا على بني إسرائيل فأخذوا ديارهم، وسبوا أولادهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين.

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر (واللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد والقعود عن القتال .

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً) طالوت اسم أعجمي ، لأنه علم عبري كجالوت وداود. وفيه سببان : التعريف والعجمية. وجعله فعلوتاً من الطول - أصله طولوت - تعسّف ، لأنه يدفعه منع صرفه، فهو عجمي وافق عربياً.

ص: 390

كما وافق حنطا حنطة ورخمان رحماناً .

وروي أنّ نبيهم (علیه السّلام) لما دعا الله أن يملكهم أتي بعصا يقاس بها من يملك عليهم ، فلم يساوها إلّا طالوت .

(قَالُوا) إنكاراً لتملّكه عليهم (أنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا) مِن أين يكون له ذلك ويستأهل ؟ (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ) والحال أنا أحق منه بالملك وراثة ومكنة، ولا بدّ للملك من مال يتقوّى به. وإنما قالوا ذلك لأنّ طالوت كان فقيراً راعياً أو سقاء أو دبّاغاً من أولاد بنيامين بن يعقوب، ولم يكن من سبط النبوّة ولا من سبط الملك ، وإنّما كانت النبوّة في أولاد لاوي بن يعقوب، والملك في سبط يهوذا، ولم يكن طالوت من أحد السبطين .

ولمّا استبعدوا تملّكه لفقره وسقوط نسبه (قَالَ) نبيهم ردّاً عليهم أولاً : (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ اختاره عليكم ، وهو أعلم بالمصالح.

وثانياً: بأنّ الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية وجسامة البدن ليكون أعظم خطراً في القلوب، وأقوى على مقاومة العدوّ ومكابدة الحروب، لا ما ذكرتم، فقال: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً) سعة وامتداداً(فِي الْعِلْمِ) بتدابير الحروب والسياسة، ويجوز أن يكون عالماً بالديانات وبغيرها. وقيل: قد أوحي إليه ونبىء . ﴿وَالْجِسْمِ) بطول القامة على وجه كان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه، وبالوجاهة التامة وكمال الشجاعة، وذلك أعظم في النفوس، وأهيب في القلوب، وأدخل في الحروب.

وثالثاً : بأنه مالك الملك على الإطلاق، فقال: ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ) وفق الحكمة والمصلحة.

ورابعاً : بأنه واسع الفضل يوسّع على الفقير ويغنيه، عالم بمن يليق بالملك، فقال : ﴿ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) بمن يصطفيه للرئاسة والملك .

ص: 391

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ) بعد أن أقام الحجّة على أحقّية طالوت بالملك ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) أي: الصندوق. فعلوت من التوب، وهو الرجوع، لأنّه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه ، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه . وليس بفاعول، لقلّة نحو سلس ،وقلق ولأنه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه. ويريد به صندوق التوراة، وكان من خشب الشمشاد الذي يتخذ منه المشط ، ومموّهاً بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين.

روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبي جعفر (علیه السّلام): «أنّ التابوت كان الذي أنزله الله على أمّ موسى، فوضعت فيه ابنها وألقته في البحر ، وكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلمّا حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آثار النبوّة ، وأودعه إيّاه عند وصيّه يوشع بن نون ، فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفّوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام التابوت عندهم ، فلما عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتابوت رفعه الله عنهم، فلمّا سألوا النبي بعث الله طالوت عليهم يقاتل معهم، ردّ الله عليهم التابوت» (1).

(فيه) في إتيانه (سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ) سكون لكم وطمأنينة ، أو في التابوت :أي: مودع فيه ما تسكنون إليه، وهو التوراة. وكان موسى (علیه السّلام) إذا قاتل قدّمه، فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون .

وقيل : هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها جناحان ورأس كرأس الهرّ وذنب كذنبه ، فتئنّ فيزفٌ التابوت نحو العدوّ وهم يمضون معه ، فإذا استقرّ ثبتوا وسكنوا ونزل النصر

ص: 392


1- تفسير القمي 1 : 81 - 82 .

وقيل : صور الأنبياء من آدم إلى محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم). وعن علي (علیه السّلام): كانت فيه ریح هفّافة (1) من الجنّة ، لها وجه كوجه الإنسان.

(وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هُرُونَ ﴾ رضاض (2) الألواح ، وعصا موسى وثيابه، وعمامة هارون. وآلهما: أبناؤهما أو أنفسهما . وإقحام الآل لتفخيم شأنهما أو أنبياء بني إسرائيل، لأنهم أبناء عمهما ، وهو عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، فكان أولاد يعقوب الهما. (تَحْمِلُهُ المَلَئِكَةُ) روي أنه سبحانه رفعه بعد موسی، فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه، وكان ذلك آية لاصطفاء الله طالوت.

وقيل : كان بعد موسى مع أنبيائهم يستفتحون به ، حتى أفسدوا فغلبهم الكفّار عليه ، وكان في أرض جالوت إلى أن ملك الله طالوت، فأصابهم بلاء حتى هلکت خمس ،مدائن فتشاء موا بالتابوت فوضعوه على تورين أخرجوهما من بلادهم ،فساقتهما الملائكة إلى طالوت.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، وأن يكون ابتداء خطاب من الله تعالى .

(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ) فصل عن موضع كذا إذا انفصل عنه وجاوزه. وأصله فصل نفسه عنه ، ثمّ كثر حذف المفعول حتى صار في حكم اللازم. ومعناه : انفصل عن البلد بالجنود لقتال العمالقة ، وكانوا ثمانين ألف مقاتل . وقيل : سبعين ألفاً.

وروي أنه قال لهم : لا يخرج معهم إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممّن اختاره ثمانون ألفاً، وكان الوقت قيظاً (3)، فسلكوا مفازة وسألوا أن يجري الله

ص: 393


1- في هامش النسخة الخطّية : ريح هفّافة : ساكنة طيبة منه».
2- رُضاضُ الشيء : فتاته وكساره .
3- القيظ : اشتداد الحرّ .

تعالى لهم نهراً.

﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) فليس من أشياعي وأتباعي ﴿وَمَن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) :أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولاً أو مشروباً. وإنّما علم ذلك بالوحي إن كان نبيّاً كما قيل ، أو بإخبار النبي (إلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ استثناء من قوله : «فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي» والجملة الثانية في حكم المتأخرة، إلا أنّها قدّمت للعناية بها، كما قدّم «والصابئون» في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) (1).

ومعناه : الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع، والدليل عليه قوله : (فَشَرِبُوا مِنْهُ ) أي : فكر عوا فيه (إلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) إذ الأصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط . وتعميم الأوّل ليتصل الاستثناء، أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلاً . والقليل كانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً . وقيل : ثلاثة آلاف وعن السدّي أربعة آلاف رجل . ونافق ستة وسبعون ألفاً، ثمّ نافق الأربعة الآلاف إلا ثلاث مائة أنّه من اقتصر على الغرفة كفته لشربه وإداواته (2) ، وبضعة عشر وقيل : ألفاً . روي ومن لم يقتصر غلب عليه عطشه واسودت شفته، ولم يقدر أن يمضي، وهكذا الدنيا لقاصد الآخرة .

﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي : تخطّى النهر طالوت والذين آمنوا معه ، يعني : القليل الذين لم يخالفوه (قَالُوا ) أي : بعضهم لبعض حين رأوا كثرة عدد جنود جالوت (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ) لكثرتهم وقوتهم.

ص: 394


1- المائدة : 69 .
2- الإداوة : المطهرة .

وجالوت جبّار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد ، وكانت بيضته فيها ثلاث مائة رطل. هكذا قال صاحب الكشّاف (1).

(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلَاقُوا الله ) أي : قال الخلّص منهم الذين تيقّنوا لقاء الله وتوقعوا ثوابه ، أو علموا أنّهم يستشهدون عمّا قريب فيلقون الله .

وقيل : إنّ الضمير في «قالوا» للكثير الذين شربوا وانخذلوا، و«الّذين يظنّون» هم القليل الّذين ثبتوا معه وتيقّنوا أنّهم يلقون الله .

(كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٌ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ) بحكمه ونصره وتيسيره. و«كم» تحتمل الخبر والاستفهام . و «من» مبيّنة أو مزيدة . والفئة الفرقة من الناس، من فأوت رأسه إذا شققته، أو من فاء إذا رجع، فوزنها فعة أو فلة. (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر والإثابة.

﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا ظهروا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ) لمحاربتهم ودنوا منهم (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ) صبّب (عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) أي: وفقنا للثبوت في مداحض الحرب بتقوية القلوب وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء ﴿ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) فيه ترتيب بليغ، إذ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثمّ ثبات القدم في مزالق الحرب المسبّب عن النصر ، ثمّ النصر على القوم المترتب عليهما غالباً ، فاستجاب لهم ربِّهم (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ فكسروهم بنصره، أو مصاحبين لنصره إياهم إجابة لدعائهم (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ) .

روي أنّ إيشا أبا داود كان في عسكر طالوت مع ستّة من بنيه أو عشرة، وكان داود أصغرهم يرعى الغنم ، فأوحى الله إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه

ص: 395


1- الكشّاف 1 : 296 .

من أبيه، فجاء وقد كلّمه في الطريق ثلاثة أحجار ، دعاه كل واحد منها وقالت له : إنك بنا تقتل جالوت، فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله، ثمّ زوّجه طالوت بنته.

وروى عليّ بن إبراهيم عن الصادق (علیه السّلام): «أنّ الله تعالى أوحى إلى نبيهم أن جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى (علیه السّلام)، وكان داود شديد البطش شجاعاً قويّاً في بدنه، فلمّا جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوت عليه، فجاء إلى معركة الجهاد ووقف بحذاء جالوت، وكان جالوت على الفيل، وعلى رأسه التاج وفي جبهته ياقوتة يلمع نوره، وجنوده بين يديه، فأخذ داود حجراً من تلك الأحجار التي ذكرت فرمى به في ميمنة جالوت، فوقع عليهم فانهزموا ، وأخذ حجراً آخر ورمى به في ميسرة جالوت، فوقع عليهم فانهزموا ورمى بالثالث إلى جالوت فأصابه موضع الياقوتة في جبهته ووصلت إلى دماغه ووقع في الأرض ميّتاً» (1) .

﴿وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ) أعطاه ملك بني إسرائيل في الأرض المقدّسة ، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قطّ قبل داود (وَالحِكْمَةَ) النبوة ، ولم يكن نبياً قبل قتله جالوت ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) من أمور الدين والدنيا، كصنعة الدروع وكلام الطير.

(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ولولا أنه يدفع بعض الناس ببعض، بأن ينصر المسلمين على الكفّار ويكفّ بهم فسادهم (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ )بشؤمهم وبطلت منافعها، أو لغلب المفسدون وأفسدوا في الأرض.

وقيل : ولولا أنّ الله ينصر المسلمين على الكفّار لعمّ الكفر ونزل العذاب، واستؤصل أهل الأرض.

ص: 396


1- تفسير القمي 1 : 82 - 83 .

وعن علي (علیه السّلام) وقتادة وجمع من المفسّرين أنّ معناه : يدفع الله بالبرّ عن الفاجر الهلاك .

ومثله ما رواه جميل عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال: «إنّ الله يدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي منهم، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإنّ الله ليدفع بمن يزكّي من شيعتنا عمّن لا يزكّي منهم ، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإنّ الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمّن لا يحج منهم ، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا».

وقريب من معناه ما روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: لولا عباد الله ركّع ، وصبيان رضّع، وبهائم رتّع ، لصبّ عليهم العذاب صَبّا» .

وروى جابر بن عبدالله قال : «قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده، وأهل دويرته ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم . وذلك قوله : ( وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) ذو تفضّل ونعمة عليهم في الدنيا على العموم والآخرة على الخصوص.

آية 252 - 253

«تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)»

ص: 397

(تِلْكَ) إشارة إلى القصص التي اقتصها من حديث إماتة الألوف من الناس وإحيائهم ، وتمليك طالوت ونزول التابوت، وانهزام الجبابرة مع شدّة قوّتهم و شوكتهم على يد صبيّ (آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ) دلالات الله على قدرته، نقرأها ، أي : يقرأها جبرئيل عليك بأمرنا بالْحَقِّ بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ ﴾ لما أخبرت بها من غير استماع و تعرّف بقراءة وكتابة .

(تِلْكَ الرُّسُلُ) إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة ، أو الجماعة المعلومة للرسول (فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره.

ثمّ فصّل ذلك التفضيل بقوله : ( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ) من غير سفير وهو موسى. وقيل : موسى ومحمّد(صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، كلّم موسى ليلة الحيرة وفي الطور، ومحمّداً ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى، وبينهما بون بعيد.

(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) أي : منهم رفعه على سائر الأنبياء، بأن فضّله على غيره من وجوه متعدّدة أو بمراتب متباعدة، وهو محمّد(صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، فإنه خص بالدعوة العامة ببعثه إلى جميع الإنس والجنّ، وبالحجج المتكاثرة والمعجزات المتصاعدة إلى ثلاثة آلاف، وقيل إلى ألف، وهو الأصحّ ، وبالمعجزة القائمة إلى يوم القيامة، وهي القرآن وسائر الآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر ، والفضائل العلمية والعملية غير المحصورة وهذا دليل بيّن أنّ من زيد تفضيلاً بالآيات منهم فقد فضّل على غيره، ولمّا كان نبينا (صلّی الله علیه و آله و سلّم)هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها كان هذا المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع ، اللهم ارزقنا شفاعته يوم الدين.

وفي هذا الإبهام من تعظيم شأنه وإعلاء مكانه ما لا يخفى ، لأنّ فيه أنّه العلم المشهور المتعيّن لهذا الوصف المستغني عن التعيين، وقد سئل الحطيئة عن أشعر

ص: 398

الناس، فذكر زهيراً والنابغة قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخّم أمره.

وقيل : إبراهيم خصصه بالخلّة التي هي أعلى المراتب . وقيل : إدريس، لقوله تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ (1) . وقيل : أولوا العزم من الرسل .

﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ) كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ ) مرّ (2) تفسيره . خصّ عيسى بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه وجعل معجزاته سبب تفضيله، لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره.

(وَلَوْ شَاءَ اللهُ ﴾ مشيئة إلجاء وقسر ( مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد الرسل (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ) المعجزات الواضحات ، لاختلافهم في الدين، وتكفير بعضهم بعضاً وتضليلهم، ولم يلجئهم به ، لأنه ينافي التكليف الذي هو مناط الجزاء (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بتوفيقه التزام دين الأنبياء تفضّلاً (وَمِنْهُمْ مَن كَفَرَ» لإعراضه عنه عناداً وإنكاراً (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) كرّره للتأكيد (وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُريدُ) من التخلية لعناد عباده، والعصمة لطلب هدايتهم.

آية 254

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿254﴾

ولمّا قصّ الله سبحانه أخبار الأمم السالفة، وثبت رسالة نبينا (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، وبيّن

ص: 399


1- مریم : 57 .
2- في ص : 186 .

مزيّة مرتبته على سائر الأنبياء، عقّبه بالحثّ على الطاعة ، فقال : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) ما أوجبت عليكم إنفاقه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِي يَوْمَ لَا بَيْعٌ فِيهِ) لا تجارة فيه، أي من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرطتم من الانفاق والخلاص من عذابه، إذ لا بيع فيه فتبتاعوا ما تنفقونه أو تفتدون به من العذاب ﴿وَلَا خُلَّةٌ) صداقة حتّى يسامحكم أخلاؤكم به أو يعينكم عليه (وَلَا شَفَاعَةٌ) (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (1) حتى تتّكلوا على شفعاء تشفع لكم في حطّ ما في ذممكم.

فلفظ شفاعة وإن كان عامّاً إلّا أنّه يراد به الخاص بلا خلاف ولقوله تعالى : (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (2) و (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (3)، ولأنّ الأمّة أجمعت على إثبات الشفاعة يوم القيامة .

وإنّما رفعت الثلاثة مع قصد التعميم لأنها في التقدير جواب : هل فيه بيع أو خلّة أو شفاعة ؟ وقد فتحها ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو على الأصل .

﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) يريد : والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم، أو وضعوا المال في غير موضعه، وصرفوه على غير وجهه، فوضع الكافرون موضعه تغليظاً وتهديداً، كقوله: ﴿وَمَن كَفَرَ) (4) مكان : من لم يحجّ، وإيذاناً بأنّ ترك الزكاة من صفات الكفّار ، كقوله: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكوة ) (5).

ص: 400


1- طه : 109 .
2- الأنبياء : 28 .
3- البقرة : 255 .
4- آل عمران : 97 .
5- فصّلت : 6 - 7 .

آية 255 - 257

«اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)»

ولما قدّم سبحانه ذكر الأمم واختلافهم على أنبيائهم في التوحيد وغيره عقبه بذكر التوحيد، فقال: (اللهُ لا إلهَ إِلَّا هُوَ ) مبتدأ وخبر والمعنى: أنه المستحق للعبادة لا غير. وللنحاة خلاف في أنّه هل يضمر ل «لا» خبر مثل: في الوجود، أو يصح أن يوجد ، أو لا ؟ (الْحَيُّ ) الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء. وهو على اصطلاح المتكلّمين : الذي يصحّ أن يعلم أو يقدر ، وكلّ ما يصح له فهو واجب لا يزول، لامتناعه عن القوّة والإمكان (الْقَيُّومُ) الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه . فَيْعُولٌ من : قام بالأمر إذا حفظه (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) وهو ما يتقدم النوم من الفتور

ص: 401

الذي يسمّى النعاس ﴿ وَلَا نَوْمٌ) وهو حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواسّ الظاهرة عن الاحساس رأساً. وتقديم السنة عليه ، وقياس المبالغة عكسه، بناءً على ترتيب الوجود.

قال فخر الدين الجاربردي (1): ويرد في خاطري أنه قدّم السنة على النوم لأنّه - والله أعلم - لا يذهب الوهم إلى جواز النوم عليه، ويدلّ صريح العقل على امتناعه، لكن يمكن أن يتوهّم جواز السنة فنفاها ، ثمّ ذكر النوم كالتتمة للكلام . وبالجملة، ذكر السنة أهم فقدمها انتهى كلامه .

أقول : ويؤيّد هذا القول ما زعمت اليهود أنّ الله يعرض له التعب واللغوب والفتور من خلق السماوات والأرض ، فلما فرغ من خلقهما يوم الجمعة يستريح يوم السبت.

والجملة نفي للتشبيه، وتأكيد لكونه حيّاً قيوماً ، فإنّ من أخذه نعاس أو نوم كان مؤف الحياة قاصراً في الحفظ والتدبير ، ولذلك ترك العاطف فيه، وكذا في الجملة التي بعده ، وهي : (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) فإنه تقرير لقيموميته ، واحتجاج على تفرّده في الألوهية والمراد بما فيهما : ما وجد فيهما داخلاً في حقيقتهما ، أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما . فهو أبلغ من قوله : له السموات والأرض وما فيهن .

روي أن موسى سأل الملائكة - وكان ذلك من قوله كطلب الرؤية - : أينام ربّنا ؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام، ثمّ قال: خذ بيدك قارورتين مملوءتين، فأخذهما، وألقى الله عليه النعاس فضرب إحداهما على

ص: 402


1- هو أحمد بن الحسين الشافعي نزيل ،تبریز، من فضلاء تلامذة القاضي البيضاوي ، له : شرح الشافية ، وشرح منهاج أستاذه ... توفّي بتبريز سنة 742. الكنى والألقاب 2 : 122 .

الأخرى فانكسرتا، ثم أوحى إليه : قل لهؤلاء : إنى أمسك السموات والأرض بقدرتي ، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا».

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ «مَن» استفهامية مرفوعة الموضوع بالابتداء، و«ذا» خبره ، و الذي » صفة «ذا» أو بدله. ومعنى الاستفهام الانكار والنفي.

وهذا بيان لكبرياء شأنه وملكوته ، وأنّه لا أحد يساويه أو يدانيه، يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة، فضلاً عن أن يعاوقه عناداً أو مناصبة .

والمعنى : أنّه لا يملك أحد أن يتكلّم يوم القيامة في شفاعة الغير إلا إذا أذن له في الكلام. وهذا زعم المشركين، فإنّهم يزعمون أنّ الأصنام تشفع لهم، فأخبر الله تعالى أنّه لا شفاعة عنده إلا بإذنه وأمره.

(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) الضمير لما في السموات والأرض، لأنّ فيهما العقلاء، أو لما دلّ عليه «مَنْ ذَا الَّذِي» من الملائكة والأنبياء ، أي : يعلم ما كان قبلهم وما يكون بعدهم ، ويعلم أحوالهم ، والمرتضى فيهم للشفاعة وغير المرتضى. أو يعلم ما بعدهم وما قبلهم، عكس الأوّل، لأنك مستقبل المستقبل مستدبر الماضي . أو يعلم أمور الدنيا وأمور الآخرة، أو عكسه، أو ما يحسّونه وما يعقلونه، أو ما يدركونه وما لا يدركونه .

(وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ) من معلوماته (إلَّا بِمَا شَاءَ) إلا بما علم واطّلع عليه . والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم كما هو في الحقيقة. وعطف ذلك على ما قبله - أعني : قوله : «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» - لأنّ مجموعهما يدلّ على تفرده بالعلم الذاتي الدالّ على وحدانيته.

﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) هذا تصوير لعظمته وتمثيل مجرّد

ص: 403

كقوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ (1) ، ﴿ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيمَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ (2) ، ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد.

وروي عن ائمتنا (علیهم السّلام) أن المراد بالكرسي العلم . فسمّى العلم كرسيّاً تسمية بمكانه الّذي هو كرسي العالم.

وقال في المجمع (3) : يقال للعلماء : الكراسي ، كما يقال : أوتاد الأرض، لأنّها قوام الدين والدنيا .

والكرسيّ في الأصل اسم لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد، وكأنه منسوب إلى الكرس (4). وهو الملبّد . وقيل : كرسيه ،ملكه، تسمية لمكانه الذي هو كرسي الملك . وقيل : الكرسي سرير دون العرش دونه السموات والأرض. ويؤيّده ما ورد في الحديث : ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة في فلاة ، وما الكرسي عند العرش إلا كحلقة في فلاة .

وروى الأصبغ بن نباتة أنّ عليّاً (علیه السّلام) قال : «السماوات والأرض وما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله . ملك منهم في صورة الآدمييّن، وهي أكرم الصور على الله ، وهو يدعو الله ويتضرّع إليه، ويطلب الشفاعة والرزق لبني آدم والملك الثاني في صورة الثور، وهو سيّد البهائم، وهو الله ويتضرّع إليه ، ويطلب الشفاعة والرزق للبهائم والملك الثالث في صورة النسر ، وهو سيّد الطيور، وهو يدعو الله ويتضرّع إليه ، ويطلب الشفاعة والرزق لجميع الطيور والملك الرابع في صورة الأسد، وهو سيّد السباع، وهو يدعو

ص: 404


1- الأنعام : 91 .
2- الزمر : 67
3- مجمع البيان 1 : 362 .
4- الكِرْسُ : الطين المتلبّد ، أي : الملتزق بعضه ببعض .

ويتضرّع إليه ويطلب الشفاعة والرزق لجميع السباع».

﴿ وَلَا يَؤُدُهُ﴾ من الأود، وهو الاعوجاج، ومعناه : لا يشق على الله ولا يثقله . (حِفْظُهُمَا) أي : حفظ السماوات والأرض ، فحذف الفاعل وأضاف المصدر إلى المفعول به (وَهُوَ العَلِيُّ ) عليّ الشأن المتعالي عن الأنداد والأشباه( العَظِيمُ) عظيم الملك بحيث يستحقر بالاضافة إليه كلّ ما سواه.

قال في الأنوار: «هذه الآية مشتملة على امهات المسائل الإلهيّة، فإنّها دالّة على أنه تعالى موجود واحد في الإلهيّة، متصف بالحياة الذاتية، واجب الوجود لذاته، موجد لغيره، إذ القيّوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره، منزّه عن التحيّز والحلول، مبرء عن التغيّر والفتور لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح ، مالك الملك والملكوت، مبدع الأصول والفروع، ذوالبطش الشديد الذي يشفع عنده إلا من أذن له، عالم الأشياء كلّها جليّها وخفيها ، كلّيها وجزئيها، واسع الملك والقدرة على كلّ ما يصح أن يملك ويقدر عليه، لا يؤده شاق ، ولا يشغله شأن متعال عمّا يدركه ،وهم عظيم لا يحيط به فهم ، ولذلك قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي ، من قرأ بعث الله تعالى ملكاً يكتب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد تلك الساعة » (1).

وقال علي (علیه السّلام):«سمعت نبيكم (صلّی الله علیه و آله و سلّم) على أعواد المنبر وهو يقول : من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنّة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره، والأبيات حوله».

وفي المدارك : «قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): من قرأ آية الكرسي عند منامه بعت إليه ملك يحرسه حتى يصبح». وقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «من قرأ هاتين الآيتين حين يمسي بتين حين يمسي حفظ بهما

ص: 405


1- أنوار التنزيل 1 259 .

حتى يصبح، ومن قرأهما حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي : آية الكرسي ، وأوّل حم (المؤمِن) إلى قوله : إليه المصير » (1).

وفي الكشّاف :«قال(صلّی الله علیه و آله و سلّم) : ما قرأت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها (2) الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخل ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة . يا علي علّمها ولدك وأهلك وجيرانك ، فما نزلت آية أعظم منها» (3) .

وروي: «أنّ الصحابة تذاكروا في أفضل ما في القرآن ، فقال لهم علي (علیه السلام) : أين أنتم من آية الكرسي ؟ ثم قال : قال لي رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): يا علي، سيد البشر آدم، وسيّد العرب محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)ولا فخر، وسيّد الفرس سلمان، وسيّد الروم صهيب وسيّد الحبشة بلال، وسيّد الجبال الطور، وسيّد الشجر السدر، وسيد الشهور الأشهر الحرم، وسيّد الأيام يوم الجمعة، وسيّد الكلام القرآن وسيّد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي» (4).

وفي المصابيح: «قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): من قرأ حم (المؤمن) إلى قوله : وإليه المصير، وآية الكرسي حين يصبح ، حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي بهما حتى يصبح» (5).

وفي الوسيط : «عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة خرقت سبع سماوات ، فلم يلتئم خرقها حتى ينظر الله إلى قائلها فيغفر له، ثمّ يبعث الله إليه ملكاً فيكتب حسناته ويمحو سيئاته إلى الغد من

ص: 406


1- مدارك التنزيل وحقائق التأويل المطبوع بهامش تفسير الخازن 1: 181 .
2- في هامش النسخة الخطية : «يقال : هجر الشيء إذا كان الفاعل مفرداً ، واهتجر الناس إذا كان الفاعل مجموعاً . منه» .
3- تفسير الكشّاف 302:1 .
4- كنز العمّال 2 : 302 302:2 ح 4060 .
5- مصابيح السنة 2 : 120 ح 1544 .

تلك الساعة» (1).

وفي كنز الأخبار (2) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : إذا قرأ المؤمن آية الكرسي وجعل ثوابها لأهل القبور، أدخل الله تعالى في قبر كل ميت من المشرق إلى المغرب أربعين نوراً، ووسع الله عليها قبورهم ورفع لكلّ ميّت درجة ويرفع للقارىء ثواب ستين نبياً، وخلق الله من كل حرف منها ملكاً يسبّح له إلى يوم القيامة».

وفي المجمع (3) عن أبي بن كعب قال: «قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): يا أبا المنذر أيّ آية في كتاب الله أعظم ؟ قلت : الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، قال : فضرب في صدري ثمّ قال : لِيَهنئك العلم ، والذي نفس محمد بيده إنّ لهذه الآية لساناً وشفتين، تقدّس الملك عند ساق العرش».

وروى الثعلبي بإسناده عن ابن عمر قال : قال النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة كان الذي يتولّى قبض نفسه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله أنبياء الله حتى استشهد .

وقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لعلي (علیه السّلام) : يا علي إنّ في آية الكرسي لخمسين كلمة في كلّ كلمة خمسون بركة.

وروي عن أبي جعفر الباقر (علیه السّلام)قال: من قرأ آية الكرسي مرة صرف الله عنه الله ألف مكروه من مكاره الدنيا، وألف مكروه من مكاره الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر ، وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر.

ص: 407


1- الوسيط في تفسير القرآن المجيد 1 : 366 .
2- هذا الكتاب لم يطبع إلى الآن، وفي منهج الصادقين (2 :95) - وهو تفسير للقرآن باللغة الفارسيّة للمؤلّف - : أن كتاب كنز الأخبار من الكتب المعتبرة في أحاديث النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم).
3- مجمع البيان 1 : 360 .

وعن أبي عبدالله (علیه السّلام): أنّ لكلّ شيء ذروة ، وذروة القرآن آية الكرسي» (1).

ولمّا ذكر سبحانه اختلاف الأمم وأنه لو شاء لأكرههم على الدين، ثمّ بين دين الحق وهو التوحيد، عقبه بأنّ الحق قد ظهر والعبد قد خيّر ، فقال : ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) يعني : لم يجر الله أمر الإيمان على القسر والإجبار، بل على التمكين والاختيار، فأمور الدين جارية على التمكّن والاختيار لا على القسر والإجبار. ونحوه ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ (2) أي : لو شاء لأجبرهم على الإيمان، لكنّه لم يفعل، وبنى الأمر على الاختيار . وقيل : هو بمعنى النهي ، أي : لا تكرهوا في الدين.

قالوا: هو منسوخ بآية السيف، وهو قوله تعالى: ﴿ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ (3) . وقيل : مخصوص بأهل الكتاب إذا أدّوا الجزية، لما روي أنّ أنصارياً كان له ابنان تنصّرا قبل المبعث ، ثمّ قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا، فاختصموا إلى رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر إليه فنزلت، فخلّاهما .

(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ ) قد تميّز الإيمان من الكفر بالآيات النيّرة والأدلة الواضحة ، ودلّت الدلائل على أنّ الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية، والكفر غيّ يؤدّي إلى الشقاوة السرمدية ، والعاقل متى تبيّن له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء.

(فَمَنْ يَكْفُرُ بالطَّاغُوتِ) بالشيطان أو الأصنام، أو كل ما عبد من دون الله أو صدّ عن عبادة الله . فَعَلُوتٌ من الطغيان، قلبت عينه ولامه ، يستوي فيه الجمع

ص: 408


1- مجميع البيان 1 : 360 - 361 .
2- یونس : 99 .
3- التوبة : 73 .

والواحد والمذكر والمؤنّث . ﴿ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ)بالتوحيد وتصديق الرسل كلّهم (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) طلب الإمساك من نفسه (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) تأنيث الأوثق ، يعني : بالعصمة الوثيقة المحكمة التي هي أشدّ من الحبل الوثيق المحكم المأمون (لا انْفِصَامَ لَهَا) لا انقطاع لها ، يقال : فصمته فانفصم إذا كسرته فانكسر ، أي : عقد لنفسه عقداً وثيقاً لا يحلّه شبهة ، يعني : كما لا ينقطع من تمسك بالعروة الوثقى، كذلك لا ينقطع أمر من تمسّك بالإيمان بعروض شبهة . وهذا تمثيل لما يعلم بالنظر والاستدلال - من حقية الدين - بالمشاهد المحسوس الذي ينظر إليه عياناً، حتی يتصوّره السامع كأنّه ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده واليقين به ﴿ وَاللهُ سَمِيعٌ) بالأقوال (عَلِيمٌ) بالنيّات. ولعلّه تهديد على النفاق.

ولمّا ذكر سبحانه المؤمن والكافر بيّن وليّ كلّ واحد منهما بقوله : ( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) محبّهم أو متولي أمرهم ومعينهم ونصيرهم في كلّ ما بهم إليه الحاجة، وما فيه لهم الصلاح من أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم . ومعنى «آمَنُوا»: أرادوا أن يؤمنوا( يُخْرِجُهُمْ﴾ بهدايته وتوفيقه ولطفه بنصب الأدلّة لهم وإزاحة العلّة عنهم﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ) ظلمات الكفر والضلالة واتباع الهوى وقبول الوساوس والشبه المؤدّية إلى الكفر (إِلَى النُّورِ ) أي : نور الهدى الموصل إلى الإيمان . والجملة الفعليّة خبر بعد خبر ، أو حال من المستكن في الخبر ، أو من الموصول أو منهما ، أو استئناف مبيّن أو مقرّر للولاية.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) صمّموا على الكفر (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أي : الشياطين ، أو المضلات من الهوى والشيطان وغيرهما أي يتولون أمورهم ﴿ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّور) من نور الأدلّة البينة الموصلة إلى الإيمان (إلى الظُّلُمَاتِ) ظلمات الشرك والانهماك فى الشهوات، أو من نور اليقين إلى ظلمات الشبهات (أَوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ وعيد وتهديد وتحذير، ولعلّ عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم.

ص: 409

آية 258 - 259

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)»

ولمّا بيّن سبحانه أنّه وليّ المؤمنين، وأنّ الكفّار لا وليّ لهم سوى الطاغوت ، تسلية لنبيه (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، قصّ عليه بعده بيان نصح إبراهيم وتمرّد نمرود، وعدم قبوله النصح، لتوغّله في الشرك ، وانهماكه في الكفر ، فقال : (أَلَمْ تَرَ) يا محمّد :أي: ألم ينته علمك ورؤيتك (إلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) أي : إلى من كان كالّذي حاجّ إبراهيم في ربّه الذي يدعو إلى توحيده وعبادته. فكأنّه قال : هل رأيت كالذي حاجّ - أي: خاصم وجادل - إبراهيم، وهو نمرود بن كنعان، وهو أوّل من تجبّر وادّعى الربوبيّة ، وفي هذا تعجيب من محاجته وحماقته (أنْ آتَاهُ اللهُ المُلْكَ ) لأَن آتاه أي :

ص: 410

أبطره إيتاء الملك وحمله على المحاجة ، أو حاج لأجله شكراً له على طريقة العكس ، كقولك : عاديتني لأنّي أحسنت إليك ، أو وقت أن آتاه الله الملك.

ومعنى آتاه الملك : أنّه آتاه ما غلب به وتملك من الأموال من الخدم وكثرة الأتباع. فأمّا إيتاء الملك بمعنى تمليك الأمر والنهي وتدبير أمور الناس وإيجاب الطاعة على الخلق، فلا يجوز أن يؤتيه الله إلا من يعلم أنه يدعو إلى الصلاح والسداد والرشاد، دون من يدعو إلى الكفر والفساد ، لأنّ هذا قبيح والله سبحانه منزّه عن فعل القبيح فيبطل قول صاحب الأنوار (1) في تفسيره : إن قوله : «أنْ آتَاهُ اللهُ المُلْكَ» حجّة على المعتزلة بمنع إيتاء الملك الكافر .

(إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ) ظرف ل«حاجّ» أو بدل من «آتاه» على تقدير : وقت أن آتاه الله (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) بخلق الحياة والموت في الأجساد وقرأ حمزة : ربِّ بحذف الياء تخفيفاً (قَالَ أَنَا أُحْيِي) بالعفو عن القتل ﴿وَأمِيتُ) بالقتل .

(قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ إعراضاً عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه نمرود على نحو هذا التمويه، دفعاً للمشاغبة. وهو في الحقيقة عدول عن مثال خفيّ إلى مثال جليّ من مقدوراته التي يعجز عن الإتيان بها غيره، لا عن حجّة إلى حجّة أخرى ، فقال : ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمُشْرِقِ فَأْتِ بهَا مِنَ الْمَغْرِب )

وقيل : لمّا كسر إبراهيم الأصنام سجنه أياماً ثم أخرجه ليحرقه ، فقال له : من ربِّك الذي تدعو إليه ؟! وحاجّه فيه.

و عن الصادق (علیه السّلام): «أنّ إبراهيم (علیه السّلام) قال له : فأحي من قتلته إن كنت صادقاً، بعد قوله : أنا أحيي وأميت، ثمّ استظهر عليه بما قاله ثانياً».

﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) فصار مبهوتاً ملزماً (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ الَّذِينَ

ص: 411


1- أنوار التنزيل 1 : 260 .

ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية . وقيل : لا يهديهم محجّة الاحتجاج، أو سبيل النجاة ، أو طريق الجنّة يوم القيامة.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ) تقديره : أو أرأيت مثل الذي ، فحذف لدلالة «ألم تر» عليه ، لأنّ كلتيهما كلمة تعجيب. وتخصيصه بحرف التشبيه ، لأنّ المنكر للإحياء كثير ، والجاهل بكيفيّته أكثر من أن يحصى، بخلاف مدّعي الربوبيّة. ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ ، كأنه قيل: أرأيت كالّذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية . وقيل : الكاف مزيدة وتقدير الكلام : ألم تر إلى الذي حاج أو الذي مرّ . وهو عزير بن شرحيا على الرواية المأثورة عن أبي عبدالله (علیه السّلام)، وعليه قتادة وعكرمة والسدّي . وقيل : أرميا . وهو المروي عن أبي جعفر (علیه السّلام). وقيل : الخضر، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم . وقيل : كان المارّ كافراً بالبعث . ويؤيّده نظمه مع نمرود، ولكلمة الاستبعاد التي هي : أنّى يحيي ؟

والقرية بيت المقدس حين خربه بختنصر . وقيل : القرية التي خرج منها الألوف . وقيل : غيرهما واشتقاقها من القري، وهو الجمع .

(وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) خالية ساقطة حيطانها على سقوفها، أي: كانت سقوفها سقطت أولاً ثم وقع البنيان عليها (قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) اعترافاً بالقصور عن معرفة طريق الإحياء، واستعظاماً لقدرة المحيي إن كان القائل مؤمناً ، واستبعاداً إن كان كافراً . و«أنّى» في موضع نصب على الظرف بمعنى متى، أو على الحال بمعنى كيف . ومعناه : أنّى أو كيف يعمر الله هذه القرية ؟ فأطلق لفظ القرية وأراد أهلها .

(فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ) فألبثه ميّتاً مائة عام، أو أماته فلبث ميتاً مائة عام ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ) بالإحياء. قيل : إنّه مات ضحى، وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس.

ص: 412

(قَالَ كَمْ لَبِثْتَ) القائل هو الله تعالى، بأن خلق الصوت في الهواء، فسمع نداء في السماء. وساغ أن يكلّمه وإن كان كافراً ، لأنه آمن بعد البعث أو شارف الإيمان . وقيل : ملك أو نبي .

(قَالَ) قبل النظر إلى الشمس (لَبِثْتُ يَوْماً) ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : ( أوْ بَعْضَ يَوْمٍ) على الإضراب ، وقيل : يقول هذا في الجواب كقول الظان.

(قَالَ بَل لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهُ) لم تغيّره السنون، فإنّ الشيء يتغيّر بمرور الزمان عليه . واشتقاقه من السنة . والهاء أصليّة إن قدرت لام السنة هاءً، وهاء سكت إن قدرت واواً، واشتقاقه من السنوة. وقيل: أصله لم يتسنّن ، من الحماً المسنون فأبدلت النون الثالثة حرف علة، ك: «تقضى البازي» ، أي : تقضّض. وإنّما أفرد الضمير لأنّ الطعام والشراب كالجنس الواحد.

وروي أنّ طعامه كان تيناً وعنباً، وشرابه عصيراً ولبناً، فوجد التين والعنب كما جنيا ، والشراب على حاله .

(وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ) كيف تفرّقت عظامه . وكان له حمار قد ربطه . ويجوز أن يكون المراد : انظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف، كما حفظنا الطعام والشراب من التغيّر ، وذلك من أعظم الآيات . والأوّل أدلّ على الحال ، وأوفق لما بعده. (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ) أي : وفعلنا ذلك لنجعلك آية للنّاس. يريد إحياءه بعد الموت ، وحفظ طعامه وشرابه .

روي أنّه أتى قومه راكباً على حماره وقال : أنا عزير، فكذبوه، فقرأ التوراة من الحفظ - ولم يحفظها أحد قبله - وهم ينظرون في الكتاب، فكانت قراءته موافقة لما في الكتاب حرفاً بحرف فقالوا: هو ابن الله .

وقيل : لمّا رجع إلى منزله كان شاباً وأولاده شيوخاً، فإذا حدثهم بحديث

ص: 413

قالوا: حديث مائة سنة .

روي عن علي (علیه السّلام): «أن عزيراً خرج من أهله وامرأته حامل وله خمسون سنة ، فأماته الله مائة سنة ثم بعثه، فرجع إلى أهله ابن خمسين، وله ابن له مائة سنة ، فكان ابنه أكبر منه ، فذلك من آيات الله».

(وَانْظُرْ إِلَى العِظامِ) هي عظام الحمار، أو عظام الموتى الّذين تعجّبت من إحيائهم (كَيْفَ تُنْشِزُهَا ) كيف نحرّكها ونرفعها من الأرض، فنردّها إلى أماكنها ، وتركب بعضها على بعض . و«كيف» منصوب ب«نُنْشِزُهَا»، والجملة حال من العظام، أي : انظر إليها محياةً. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب : ننشرها ، بالراء المهملة ، من : أنشر الله الموتى، أي: كيف نحيبها .

﴿ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ﴾ فاعل تبيّن» مضمر يفسّره ما بعده، تقديره: فلما تبين له أنّ الله على كلّ شيء قدير (قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، أو يفسّره ما قبله، أي: فلما تبين له ما أشكل عليه . وقرأ حمزة والكسائي : قَالَ اعْلَمْ على الأمر ، والآمر مخاطبه أو هو ،نفسه، خاطبها به على طريق التبكيت .

آية 260

«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)»

ثم ذكر سبحانه ما أراه إبراهيم (علیه السّلام) عياناً من إحياء الموتى، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ

ص: 414

إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي ) بصّرني (كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى) إِنَّما سأل ذلك ليصير علمه عياناً. وقيل : لمّا قال :نمرود أنا أحبي وأميت قال له : إنّ إحياء الله بردّ الروح إلى بدنها. فقال :نمرود هل عاينته ؟ فلم يقدر أن يقول : نعم ، وانتقل إلى تقرير آخر، ثمّ سأل ربّه أن يريه ليطمئن قلبه على الجواب إن سئل عنه مرّة أخرى.

وعن أبي عبدالله (علیه السّلام): «أنه رأى جيفة تمزّقها السباع فيأكل منها سباع البرّ وسباع الهواء ودوابّ البحر، فسأل الله تعالى فقال : يا ربّ قد علمت أنك تجمعها من بطون السباع والطير ودواب البحر ، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك».

(قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة. قال له ذلك وقد علم أنّه أغرق النّاس في الإيمان ليجيب بما أجاب به، فيعلم السامعون غرضه . والهمزة للتقرير . (قَالَ بَلَى) إيجاب بعد النفي، معناه : بلى آمنت (وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) أي : ولكن سألت ذلك لأزيد طمأنينة وسكوناً، بمضامة العلم الضروري العلم الاستدلالي، وتظاهر الأدلّة أزيد للبصيرة واليقين . فأراد بطمأنينة القلب العلم الضروري الذي لا مجال فيه للشك. واللام تعلّقت بمحذوف تقديره : سألت ذلك ليطمئن قلبي .

﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) طاووساً وديكاً وغراباً وحمامة. ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة وفيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنّما يتأتى بإماتة حبّ الشهوات والزخارف الذي هو صفة الطاووس، والصولة المشهور بها الديك ، وخسّة النفس وبعد الأمل المتّصف بهما الغراب ، والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمامة . وإنّما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان، وأجمع لخواصّ الحيوان . والطير مصدر سمّي به، أو جمع كصحب.

(فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) فأمِلْهنَّ واضممهنّ إليك لتتأمّلها وتعرف شأنها ، لئلا تلتبس عليك بعد الإحياء. وقرأ حمزة ويعقوب : فَصِرْهُنّ بالكسر. وهما لغتان. (ثُمَّ اجْعَلْ

ص: 415

عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا) ثمّ جزّئهنّ وفرّق أجزاءهنّ على الجبال التي بحضرتك. قيل : كانت أربعة ، وقيل : سبعة ، وقيل : عشرة (ثُمَّ ادْعُهُنَّ) قل لهنّ : تعالين بإذن الله تعالى ﴿يَأْتِيْنَكَ سَعْيا) ساعيات مسرعات في طيرانهنّ أو في مشيهن على أرجلهنّ.

روي أنّه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها، ويخلط ريشها ودماءها ولحومها، وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر بأن يجعلها بأجزائها على الجبال، على كلّ جبل ربعاً أو سبعاً أو عشراً من كلّ طائر، ثمّ يصيح بها : تعالين بإذن الله ، فجعل كلّ جزء من الريش والعظم واللحم يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهنّ كلّ جنّة إلى رأسها . وقرىء: جُزُءًا، بضمتين.

(وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) لا يعجز عمّا يريده (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة في كلّ ما يفعله . وكفى ذلك شاهداً على فضل إبراهيم، ويمن الضراعة في الدعاء، وحسن الأدب في السؤال، أنّه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه، وأراه عزيراً بعد أن أماته مائة عام .

آية 261 - 266

«مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)قَوْلٌ مَعْرُوفٌ

ص: 416

وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)»

ولما ذكر آيات قدرته التي من جملتها إحياء الموتى، ليدينهم بما دانوا من الأعمال، بعد ذكر أحكام العبادات البدنيّة من الحج والصوم والصلاة والجهاد، بيّن أحكام العبادات المالية التي من جملتها الإنفاق على المجاهدين الذين جاهدوا الكفّار المنكرين لنبوّة الأنبياء وإحياء الموتى، فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ) أي : مثل نفقة الَّذِين ( يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ وهو الجهاد وغيره من أبواب البرّ كلّها . وهو المروي عن أبي عبد الله (علیه السّلام). واختاره أبو علي الجبائي. وقيل: : هي خاصة بالإنفاق

ص: 417

في الجهاد، وأمّا غيره من الطاعات فإنّما يجزى بالواحدة عشرة أمثالها (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) أو مثلهم كمثل باذر حبّة ( أنْبَتَتْ) أخرجت (سَبْعَ سَنَابِلَ)، أسند الإنبات إلى الحبّة لما كانت من الأسباب، كما يسند إلى الأرض والماء، والمنبت على الحقيقة هو الله تعالى. والمعنى : أنه يخرج منها ساق يتشعّب منه سبع شعب (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ) مِنَها ﴿ مِائَةُ حَبَّةٍ ). وهذا التمثيل لا يقتضي وقوعه، وقد يكون في الذرة والدخن، وفي البرّ في الأراضي المغلّة . والغرض منه تصوير مضاعفة الحسنات، كأنّها موضوعة بحذاء العين.

﴿ وَاللهُ يُضَاعِفُ) تلك المضاعفة ، أي : يزيد على سبعمائة (لِمَنْ يَشَاءُ) بفضله، وعلى حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه (وَاللَّهُ وَاسِعٌ) لا يضيق عليه ما يتفضّل به من الزيادة (عَلِيمٌ ) بنيّة المنفق وقدر إنفاقه واستحقاقه الزيادة.

روي: «أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): ربّ زد لأمتي، فنزل قوله : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً) (1)، فقال : رب زد لأمتي، فنزل : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (2)».

ولمّا أمر سبحانه بالإنفاق عقّبه ببيان كيفية الإنفاق ، فقال : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَناً وَلَا أذى) . المنّ : أن يعتدّ على من أحسن إليه بإحسانه ، ويريد أنه أوجب عليه حقاً له، بأن يقول له : ألم أعطك كذا ؟ ألم أحسن إليك ؟ ألم أغنك ؟ ونحوها . والأذى أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه، بأن يقول له : أراحني الله منك ومن ابتلائي بك. ويحتمل أن يكون معنى الأذى أن يعبّس وجهه عليه ، أو يؤذيه بما يدفعه إليه . و«ثمّ» للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وأن تركهما خير من الانفاق ، كما جعل الاستقامة على الإيمان

ص: 418


1- البقرة : 245 .
2- الزمر : 10 .

خيراً من الدخول فيه بقوله : ﴿ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) (1) .

(لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) عدم دخول الفاء - وقد تضمن ما أسند إليه معنى الشرط - إيهام بأنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا، فكيف بهم إذا فعلوا ؟ !

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ردّ جميل ﴿وَمَغْفِرَة) وتجاوز عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول، أو نيل مغفرة من الله بسبب الردّ الجميل ، أو عفو من جهة السائل، لأنه إذا ردّه ردّاً جميلاً عذره (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً) خبر عنهما . وإنما صح الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة . ﴿ وَاللهُ غَنِيٌّ ) عن الانفاق بمنّ وإيذاء (حَلِيمٌ) عن معاجلة من يمنّ ويؤذي بالعقوبة . وفيه نوع من الوعيد.

ثمّ أكّد سبحانه ما قدمه بما ضرب من الأمثال ، فقال : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ) لا تحبطوا أجرها (بِالمَنِّ وَالأذَى بكلّ) واحد منهما (كَالَّذِي) كإبطال المنافق الذي (يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لا يريد بإنفاقه رضا الله وثواب الآخرة ، أو مماثلين الذي ينفق رئاء الناس. والكاف في محلّ النصب على المصدر أو الحال . و«رئاء» نصب على المفعول له أو الحال بمعنى: مرائياً، أو المصدر ، أي : إنفاقاً رئاءً.

(فَمَثَلُهُ﴾ مثل المرائي في إنفاقه (كَمَثَلِ صَفْوَانٍ) كمثل حجر أملس (عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ) مطر عظيم القطر (فَتَرَكَهُ صَلْدا) أملس نقيّاً من التراب الذي كان عليه (لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) :أي: لا ينتفعون بما فعلوا رئاءً، ولا يجدون ثوابه ، كما لا ينتفع أحد بالتراب الذي أذهبه المطر من الحجر الصلد ولا يجده . وضمير (لَا يَقْدِرُونَ﴾ الّذي ينفق، باعتبار المعنى ، لأنّ المراد به الجنس أو الفريق.

ص: 419


1- فصّلت: 30 ، الأحقاف : 13 .

(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الكَافِرِينَ) إلى الخير والرشاد، لتوغل عنادهم ولجاجهم ، وشدّة ،إنكارهم، مع أنهم يعرجون طريق الحق، فيخليهم الله في الكفر والضلالة. وفيه تعريض بأنّ الرئاء والمنّ والأذى على الإنفاق من صفات الكفّار، ولا بدّ للمؤمن أن يتجنّب عنها .

وبعد ذكر الوعيد على المنافقين المنفقين رئاء الناس، وعد المؤمنين المنفقين ابتغاء مرضاة الله ، فقال : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أنْفُسِهِمْ) وتثبيتاً بعض أنفسهم على الإيمان، فإنّ المال شقيق الروح، وبذله أشق على النفس من أكثر العبادات الشاقة، فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلّها. ويجوز أن يراد وتصديقاً للإسلام، وتحقيقاً للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم، لأنه إذا أنفق المسلم في سبيل الله علم أنّ تصديقه بالثواب من أصل نفسه وأصل قلبه. وفيه تنبيه على أنّ حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحبّ المال .

فمثل نفقة هؤلاء في الزكاة (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) كمثل بستان بموضع مرتفع، فإنّ شجره يكون أزكى ثمراً وأحسن منظراً. وقرأ ابن عامر وعاصم : بربوة بالفتح (1) . وهما لغتان فيها . (أصَابَهَا وَابِلٌ) مطر عظيم القطر ( فَآتَتْ أُكُلَهَا ) فأعطيت ثمرتها . وقرأ نافع وأبو عمرو بالسكون تخفيفاً. ﴿ضعْفَيْنِ) مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل. والمراد بالضعف المثل، كما أريد بالزوج الواحد في قوله : (مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (2) . وقيل : أربعة أمثاله. ونصبه على الحال ، أي : مضاعفاً. (فإن لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلُّ) أي : فيصيبها مطر ،لين أو فالّذي يصيبها طلّ، وهو يكفيها، لكرم منبتها ، وبرودة هوائها لارتفاع مكانها. والطلّ : هو المطر الصغير القطر.

ص: 420


1- أي : ضم الراء وفتحها .
2- هود: 40 ، المؤمنون : 27 .

والمعنى : أنّ نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال، وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضمّ إليها من أحواله أو يكون التمثيل لحالهم عند الله بالجنّة على الربوة ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطلّ، وكما أن كلّ واحد من المطرين يضعّف أكل الجنّة ، فكذلك نفقتهم -كثيرة كانت أو قليلة - زاكية عند الله .

(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذير عن الرئاء، وترغيب في الإخلاص.

(أيَوَدُّ أحَدُكُمْ) الهمزة فيه للانكار (أن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) أي : بستان مملوء (مِن نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) جعل الجنّة من النخيل والأعناب، مع ما فيها من سائر الأشجار، تغليباً لهما، لشرفهما وكثرة منافعهما . ثمّ ذكر أنّ فيها من كل الثمرات ليدلّ على اشتمالها على سائر أنواع الأشجار. ويجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع .

(وأصَابَهُ الْكِبَرُ﴾ أي كبر السن، فإنّ الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب. والواو للحال. ويجوز أن يكون للعطف، حملاً على المعنى ، فكأنّه قال : أيودّ أحدكم لو كانت له جنّة وأصابه الكبر ﴿ وَلَهُ ذُرِّيَّةً ضُعَفَاءُ) صغار لا قدرة لهم على الكسب ﴿ فَأَصَابَهَا إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) عطف على «أصابه» أو تكون باعتبار المعنى كما مرّ آنفاً. والإعصار : الريح التي تستدير ثمّ تسطع من الأرض نحو السماء كالعمود.

والمعنى : تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة، ويضم إليها ما يحبطها ، كرئاء وإيذاء في الحسرة والأسف، فإذا كان يوم القيامة واشتد حاجته إليها ووجدها محبطة ، بحال من كانت له جنّة من أبهج الجنان وأبهاها، وفيها أنواع الثمار، فبلغه الكبر وله أولاد ضعفاء والجنّة معاشهم، فهلكت بالصاعقة .

(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي: تتفكرون فيها، فتعتبرون بها.

ص: 421

آية 267 - 272

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)»

لما تقدّم الانفاق وبيان صفة المنفق، وأنّه يجب أن ينوي بالصدقة التقرّب، وأن يحفظها ممّا يبطلها من المنّ والأذى ، بيّن سبحانه صفة الصدقة والمتصدّق عليه ليكون البيان جامعاً ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) من

ص: 422

حلاله ، أو جياده وخياره ﴿وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) ومن طيبات ما أخرجنا من الحبوبات والنباتات والمعدنيات ، فحذف المضاف لتقدّم ذكره.

(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ) ولا تقصدوا الرديء منه، أي: من المال أو ممّا أخرجنا . وتخصيصه بذلك لأنّ التفاوت فيه أكثر (تُنْفِقُونَ) حال من فاعل «تَيَمَّمُوا». ويجوز أن يتعلّق ب«مِنْهُ»، ويكون الضمير للخبيث، والجملة حالاً منه . (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ) أي : وحالكم أنّكم لا تأخذونه في حقوقكم لرداءته( إلّا أن تُغْمِضُوا فِيهِ) إلَّا أن تتسامحوا في أخذه. مجاز من: أغمض بصره إذا غضّه، ويقال : أغمض البائع إذا لم يستقص ، كأنه لا يبصر . وعن ابن عباس «كانوا يتصدّقون بحشف (1) التمر وشراره فنهوا عنه».

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ )عن إنفاقكم، وإنّما يأمركم به لانتفاعكم (حَمِيدٌ) مستحق للحمد أو محمود بقبوله وإثابته .

ثمّ حذّر سبحانه من الشيطان المانع من الصدقة ، فقال : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) بالإنفاق في وجوه البرّ، وبإنفاق الجيّد من المال والوعد في الأصل شائع في الخير والشر. (وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ )ويغريكم على البخل، ومنع الصدقات الواجبة ، إغراء الآمر للمأمور. والعرب تسمي البخيل فاحشاً. وقيل: العاصي.

(وَاللهُ يَعِدُكُم) في الانفاق (مَغْفِرَةً مِنْهُ) لذنوبكم وكفّارة لها (وَفَضْلاً) وخلفاً أفضل ممّا أنفقتم في الدنيا والآخرة (وَاللهُ وَاسِعٌ) أي : واسع الفضل لمن أنفق (عَلِيمٌ) بإنفاقه.

ثم وصف سبحانه نفسه بإعطاء الحكمة العلميّة والعملية، المشتملة على الإنفاق على الوجه المرضي والطريق الحسن عقلاً وشرعاً، لمن اقتضت حكمته ومصلحته ، فقال : ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) تحقيق العلم وإتقان العمل (مَنْ يَشَاءُ) مفعول

ص: 423


1- الحَشَفُ : أردأ التمر ، واليابس الفاسد منه .

أوّل، أخّر للاهتمام بالمفعول الثاني. والحكيم عند الله : هو العالم العامل . وقيل : الحكمة القرآن والفقه (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) بناؤه للمفعول، لأنّه المقصود. وقرأ يعقوب بالكسر ، أي : ومن يؤته الله الحكمة (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) التنكير للتعظيم ، أي : أي خير كثير ، إذ حيزت له خير الدارين .

(وَمَا يَذَّكَّرُ) وما يتعظ بما قص من الآيات، أو وما يتفكر، فإنّ المتفكر كالمتذكّر لما أودع الله تعالى في قلبه من العلوم بالقوة (إِلَّا أَوْلُوا الْأَلْبَابِ) ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى.

وبعد ذكر المعترضة الحالة على الانفاق المستحسن في نظر العقل والشرع . عاد إلى ذكر حال الانفاق وحسن خاتمته ، فقال : ( وَمَا أنْفَقْتُم مِن نَفَقَةٍ) قليلة أو كثيرة، سرّاً أو علانية، في سبيل الله أو في سبيل الشيطان (أوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) بشرط أو بغير شرط، في طاعة أو معصية (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) لا يخفى عليه، فيجازيكم عليه بحسبه ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ الّذين ينفقون في المعاصي وينذرون فيها، أو يمنعون الصدقات ولا يوفون بالنذر (مِنْ أنْصَارٍ) من ينصرهم من الله ، ويمنع عنهم العقاب .

ثم وصف كيفية الانفاق فقال : (إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) فنعم شيئاً إبداؤها. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل، وقالون وأبو عمرو وأبو بكر بكسر النون وإسكان العين أو إخفائها ( وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ ) أي : تعطوها إيَّاهم مع الاخفاء (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فالاخفاء خير لكم . وهذا في التطوّع ولمن لم يعرف بالمال، فإنّ الأفضل في الفرائض لمعروف المال الإظهار دفعاً للتهمة. وعن ابن عباس : صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة وعشرين ضعفاً.

ص: 424

(وَيُكَفِّرَ عَنكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) قرأه ابن عامر وعاصم في رواية حفص بالياء، :أي: والله يكفّر ، أو الاخفاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالنون مرفوعاً، على أنه جملة فعلية مبتدأة، أو اسميّة معطوفة على ما بعد الفاء، أي : ونحن نكفّر . وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون مجزوماً على محلّ الفاء وما بعده. ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ترغيب في الاسرار .

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَيْهُمْ) لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين إلى الانتهاء عمّا نهوا عنه ، من المنّ والأذى والانفاق من الخبيث وغير ذلك، جبراً وقسراً، وإنما عليك الإرشاد والحثّ على المحاسن والنهي عن القبائح، كالمن والأذى وإنفاق الخبيث ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) يلطف بمن يعلم أنّ اللطف ينفع فيه، فينتهي عمّا نهي عنه.

( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) من نفقة معروفة (فَلِأُنْفُسِكُمْ) فهو لأنفسكم لا ينتفع به ،غيركم فلا تمنّوا على من تنفقونه عليه ولا تؤذوه (وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ ) حال، وكأنّه قال: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم غير منفقين إلّا ابتغاء وجه الله ، أي : رضاه وطلب ثوابه أو عطف على ما قبله أي ليست نفقتكم إلّا لابتغاء وجهه، فما لكم تمنّون بها وتنفقون الخبيث. وقيل: نفي في معنى النهي.

(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) من مال( يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جزاؤه وفاءً تامّاً من غير نقص، بل أضعافاً مضاعفة فهو تأكيد للشرطيّة السابقة .

روي أنّ ناساً من المسلمين كانت لهم أصهار ورضاع في اليهود، وكانوا ينفقون عليهم، فكرهوا لما أسلموا أن ينفقوهم، فنزلت . وهذا في غير الواجب، أمّا الواجب فلا يجوز صرفه إلى الكافر .

(وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) لا تنقصون ثواب نفقتكم .

ص: 425

آية 273 - 274

«لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)»

لمّا أمر سبحانه بالنفقة، ورغب فيها بأبلغ وجوه الترغيب وبيّن ما يكمل ثوابها، عقب ذلك ببيان أفضل الفقراء الذين هم مصرف الصدقات، فقال: (لِلْفُقَرَاءِ) متعلّق بمحذوف، والتقدير : اعمدوا للفقراء واجعلوا ما تنفقونه للفقراء، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: صدقاتكم للفقراء (الَّذِينَ أَحَصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أحصرهم الجهاد (لَا يَسْتَطِيعُونَ) لاشتغالهم به ضَرْباً فِي الأَرْضِ ذهاباً فيها للكسب.

قيل : هم أصحاب الصُفّة ، وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر ، فكانوا يسكنون في صفة المسجد، وهي سقيفة يستغرقون أوقاتهم لتعلّم القرآن، ويلتقطون في النهار النوى ويقنعون بدقيقه ، وكانوا يخرجون في كلّ سريّة يبعثها رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فمن عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.

وعن ابن عباس : وقف رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يوماً عليهم فرأى جهدهم وفقرهم وطيب قلوبهم بذلك فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقي من أمتي على التعب الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنّهم رفقائي».

ص: 426

(يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) من أجل تعففهم عن إظهارهم الحال وعن السؤال (تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ) من صفرة الوجه والضعف ورثاثة الحال. والخطاب للرسول الله ، أو لكلّ أحد . (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ الْحَافاً) إلحاحاً. والمعنى لا يسألون، وإن سألوا عن ضرورة سألوا بتلطّف ولم يلحّوا. وقيل : هو نفي للسؤال والإلحاف جميعاً، كقول امرىء القيس:

على لاحب لا يهتدي بمناره (1)

يريد نفي المنار والاهتداء به ونصبه على المصدر، فإنه كنوع من السؤال ، أو على الحال .

﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) ترغيب في الإنفاق، وخصوصاً على هؤلاء.

ثمّ بين كيفية الإنفاق وثوابه، فقال: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِسِراً وَعَلَانِيَةً) أي : يعمّون أوقاتهم وأحوالهم بالصدقة ، لحرصهم على الخير

وعن ابن عباس : نزلت في علي (علیه السّلام)، لم يملك إلا أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية . روي ذلك عن عن الباقر والصادق (علیهما السّلام). وقيل : في ربط الخيل في سبيل الله تعالى، والإنفاق عليها .

(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ خبر «الَّذينَ يُنْفِقُونَ»، والفاء للسببية . وقيل : للعطف، والخبر محذوف ، أي : ومنهم الذين ، ولذلك جوز الوقف على «وَعَلَانِيَةً».

ص: 427


1- دیوان امرىء القيس : 95 وعجز البيت : إذا سافه العود النباطي جرجرا واللاحب : الطريق الواضح.

آية 275 - 276

«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)»

ولمّا حثّ الله سبحانه على الانفاق، وبين ما يحصل للمنفق فيه من الأجر العاجل - وهو نموّ المال وزيادة بركته - والآجل من الثواب العظيم في جنّات النعيم، عقّبه بذكر الربا الذي ظنّه الجاهل زيادة في المال، وهو في الحقيقة محق في المال ، فقال : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبوا) وهو لغة : الزيادة. وشرعاً: هو الزيادة على رأس المال، من أحد المتساويين جنساً، ممّا يكال أو يوزن والمراد بالجنس هنا هو الحقيقة النوعية . ويتحقق ذلك بكون الأفراد يشملها اسم خاص لنوعه . والزيادة قد تكون عينية ، وهو ظاهر ، وحكميّة ، كبيع أحد المتجانسين بمساويه قدراً نسيئة .

والربا من الكبائر المتوعد عليه بالنار في آخر الآية، ولقول الصادق (علیه السّلام): «درهم ربا أعظم عند عند الله من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت الله الحرام». وقال علي (علیه السّلام) : «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الربا خمسة آكله، وموكله، وشاهديه، وكاتبه».

والمراد بأكل الربا في الآية الآخذ. وإنّما خصص الأكل بالذكر لأنه أعظم منافع المال، ولأن الربا شائع في المطعومات. وإنما كتب بالواو-كالصلوة - للتفخيم على لغة من يفخّم . وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع.

روي : أنه كان الرجل في الجاهلية إذا حلّ له مال على غيره وطالبه به يقول

ص: 428

الغريم زد في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك ويقولان : سواء علينا الزيادة في أوّل البيع بالربح أو عند المحلّ لأجل التأخير ، فرد الله عليهم بقوله : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبوا ).

(لَا يَقُومُونَ) إذا بعثوا من قبورهم (إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ) إِلَّا قياماً كقيام المصروع وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبّط الإنسان فيصرع. والخبط حركة على غير النحو الطبيعي وعلى غير اتساق ، كخبط العشواء( مِنَ المَسِّ ) أي : من مس الشيطان، فيختلط عقله فيصير مجنوناً. وهو متعلّق ب«لا يَقُومُونَ» ، أي: لا يقومون من المس الذي بهم بسبب أكل الربا، أو ب«يَقُومُ» أو ب« يتخبّط»، فيكون نهوضهم و سقوطهم كالمصروعين، لا لاختلال عقولهم، ولكن لأنّ الله تعالى أربى في بطونهم ما أكلوه من الربا فأثقلهم. ويكون هذا علامة لآكلي الربا يعرفون بها يوم القيامة، كما أنّ على كلّ عاصٍ من معصيته علامة تليق به، فيعرف بها صاحبها، وعلى كلّ مطيع من طاعته أمارة تليق به يعرف بها صاحبها، وذلك معنى قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إنسٌ وَلَا جَانٌ) (1).

روي عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال : «لما أسري بي إلى السماء رأيت رجالاً بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم ، فقلت من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : هؤلاء أكلة الريا».

روى أصحابنا عن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنه قال : «قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : لما أسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم ولا يقدر عليه من عظم بطنه ، قال : قلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس».

( ذُلِكَ ) أي : ذلك العقاب (بِأَنَّهُمْ) بسبب أَنهم (قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ) الَّذِي لا

ص: 429


1- الرحمن : 39 .

ربا فيه (مِثْلُ الرِّبوا) مثل البيع الذي فيه الربا، يعني: نظموا الربا والبيع في سلك واحد ، لإفضائهما إلى الربح، فاستحلوا الربا استحلال البيع، قياساً على البيع. وهذا باطل ، لأنّ القياس المخالف للنص باطل اتفاقاً. وكان أصل الكلام: إنّما الربا مثل البيع ، ولكن عكس للمبالغة، كأنهم جعلوا الربا أصلاً وقاسوا به البيع .

ثمّ أنكر تسويتهم، وأبطل قياسهم الربا على البيع ، فقال : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبُوا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فمن بلغه وعظ من ربه وزجر ، كالنهي عن الربا (فَانتَهَى) فاتّعظ وتبع النهي وامتنع منه (فَلَهُ مَا سَلَفَ) أَي: ما تقدّم من أخذه الربا وأكله قبل النهي عنه ، فلا يؤاخذ بما مضى منه ولا يسترد منه. وقال الباقر (علیه السّلام): ( من أدرك الإسلام، وتاب ممّا كان عمله في الجاهلية، وضع الله عنه ما سلف».

و «ما» في موضع الرفع بأنّه فاعل الظرف إن جعلت «من» موصولة وبالابتداء إن جعلت شرطية، على رأي سيبويه، إذ الظرف غير معتمد على ما قبله .

(وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ﴾ بأن يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النيّة . وقيل : يحكم في شأنه ولا اعتراض لكم عليه .

(وَمَنْ عَادَ) إلى تحليل الربا بعد التحريم، إذ الكلام فيه (فَأَوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) لأنّ ذلك لا يصدر إلا من كافر مستحلّ للربا، فلهذا توعد بعذاب الأبد.

ثمّ أكد سبحانه ما تقدّم بقوله: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبوا) أي : ينقص ويذهب ببركته ، أو يهلك المال الذي يدخل فيه حالاً بعد حال إلى أن يتلف المال كله (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ أي ينمي ما يتصدّق به، بأن يضاعف عليه الثواب، ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ، ويبارك فيه ، وعنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «أن الله يقبل الصدقات ،

ص: 430

ولا يقبل منها إلا الطيب، فيربيها كما يربي أحدكم مهره (1) أو فصيله ، حتى إنّ اللقمة لتصير مثل أحد». وعنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم): ما نقصت زكاة من مال قط».

(وَاللهُ لَا يُحِبُّ) محبّته للتوابين ولا يرتضي (كُلَّ كَفَّارِ ) مصر على تحليل المحرمات (أثِيمٍ) منهمك في ارتكابه هذا تغليظ في أمر الربا، وإيذان بأنه من فعل الكفّار لا من فعل المسلمين.

آية 277

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)»

وبعد توعيد أصحاب الرّبا وعد المنفقين المنتهين عنه بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وبرسله وبما جاءهم منه (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَوَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) عطفهما على ما يعمّهما لشرافتهما على سائر الأعمال الصالحة (لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من آتٍ (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) على فائت.

آية 278 - 281

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278 ) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)»وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)»

ص: 431


1- المُهر : ولد الفرس .

روي عن الباقر (علیه السّلام): أن الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهلية، وبقي له بقايا على ثقيف ، فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم، فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبوا) أي واتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا، واقتصروا على رؤوس أموالكم (إن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) بقلوبكم ، فإِنّ دليل الإيمان امتثال ما أمرتم به.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) أي : فاعلموا بها، من أذن بالشيء إذا علم به وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عياش فآذنوا ، أي: فأعلموا بها من لم ينته عن ذلك، من الإذن وهو الاستماع، فإنّه من طرق العلم. وتنكير حرب للتعظيم ، أي : نوع عظيم من الحرب. وحرب الله هو حرب رسوله .

وقيل : حرب الله بالنار، وحرب رسوله بالقتال. وذلك يقتضي أن يقاتل المربي بعد الاستتابة حتى يفيء إلى أمر الله ، كالباغي.

عن الصادق (علیه السّلام): «آكل الربا بعد البيّنة يؤدّب ، فإن عاد أدب، وإن عاد قتل».

وقيل : كان العبّاس وخالد شريكين في الجاهليّة، يسلفان في الرباء فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة، فأنزل الله هذه الآية، فقال النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) : «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهليّة موضوع، وأوّل ربا أضعه ربا العباس بن عبدالمطّلب، وكلّ دم في الجاهليّة موضوع، وأول دم أضعه دم ربيعة بن حارث بن عبد المطلب».

﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ) من الارتباء واعتقاد حلّه (فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ) بأخذ الزيادة ( وَلَا تُظْلَمُونَ) بالمطل والنقصان.

ص: 432

ولمّا أمر الله تعالى بأخذ رأس المال من الموسر بيّن بعده حال المعسر، فقال : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ) أي : إن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة (فَنَظِرَةٌ) :أي: فالحكم، أو فالأمر ، أو فعليكم، أو فليكن نظرة ، وهي الإنظار (إلَى مَيْسَرَةٍ) إلى وقت يساره. وهو خبر في معنى الأمر . والمراد فأنظروه إلى وقت يساره. وقرأ نافع بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشرقة.

(وَأَن تَصَدَّقُوا) تصدّقوا بالإبراء (خَيْرٌ لَكُمْ) أكثر ثواباً من الإنظار أو خير ممّا تأخذون المضاعفة ثوابه ودوامه . وقيل : المراد بالتصدق الإنظار ، لقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «لا يحلّ دين رجل مسلم فيؤخّره إلا كان له بكلّ يوم صدقة». (إن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما فيه من الذكر الجميل والأجر الجزيل .

ثمّ حذّر سبحانه المكلّفين من بعد ما تقدّم من أمر الحدود والأحكام، فقال: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللهِ) إلى جزاء يوم القيامة أو يوم الموت، فتأهّبوا لمصيركم إليه . وقرأ أبو عمرو ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم. (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) جزاء ما عملت من خير أو شرٌ (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب وتضعيف عقاب .

وعن ابن عبّاس : أنها آخر آية نزل بها جبرئيل(علیه السلام) ، وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة. وعاش رسول الله(صلّی الله علیه و آله و سلّم) بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقيل : أحداً وثمانين . وقيل : سبعة أيام . وقيل : ثلاث ساعات. وروى أصحابنا أنه توفّي لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة ، ولسنة واحدة من ملك أردشير بن شيرويه بن ابرويز بن هرمز بن أنوشيروان .

آية 282

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ

ص: 433

بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)»

لمّا أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤجّلة وعقود المداينة ، فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنِ ) أي : إذا داين بعضكم بعضاً ، تقول : داينته إذا عاملته بدين نسيئة معطياً أو آخذاً، كما تقول : بايعته إذا بعته أو باعك. وفائدة ذكر الدين لئلا يتوهم من التداين المجازاة، ويعلم تنوّعه إلى المؤجّل والحال وأنّه الباعث على الكتبة، وأن يكون مرجع ضمیر «فَاكْتُبُوهُ». (إلَى أَجَلٍ مُسَمّى) معلوم مؤقت بالأيام أو الأشهر أو السنين، لا بالحصاد وقدوم

ص: 434

الحاج، لأنه غير معلوم (فَاكْتُبُوهُ) في صكّ ، لأنه أوثق وأدفع للنزاع. وبالاجماع هذا الأمر يكون مندوباً إليه . وعن ابن عبّاس : أنّ المراد به السلم. وقال : لمّا حرّم الله الربا أباح السلم.

(وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) أي : كاتب مأمون على ما يكتب بالاحتياط والنصفة، لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص. فقوله: «بِالْعَدْلِ» صفة ل«كَاتِبٌ». وفي هذا دلالة على أنّ الكاتب ينبغي أن يكون فقيهاً، عالماً بدقائق أحكام المعاملات وشروطها، عادلاً حتى يكون مكتوبه موثوقاً معدّلاً بالشرع. والأمر فى الحقيقة للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين.

( وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ) لا يمتنع أحد من الكتاب (أنْ يَكْتُبَ) في الصكّ على الوجه المأمور به (كَمَا عَلَّمَهُ الله) مثل ما علّمه من كتبة الوثائق . وقيل : معناه : لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها، كقوله : وأحسن كما أحسن الله إليك . وهو فرض على الكفاية عند أكثر المفسّرين.

(فَلْيَكْتُبْ) تلك الكتابة المعلمة أمر بها بعد النهي عن الإباء عنها تأكيداً.ويجوز أن تتعلّق الكاف بالأمر، فيكون النهي عن الامتناع منها مطلقة ثمّ الأمر مقيّدة . ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) وليكن المملي مَنْ وجب عليه الحق، لأنه هو المقرّ المشهود عليه في ذمته وإقراره به والإملاء والإملال لغتان نطق بهما القرآن : (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ ) (1).

(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) :أي: المملي أو الكاتب (وَلَا يَبْخَسْ) ولا ينقص (مِنْهُ) أي من الحقِّ أو ممّا أملى عليه (شَيْئا) قدراً وصفة .

(فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيها) مبذّراً محجوراً عليه لسفهه وتبذيره، وهو الذي يصرف أمواله في غير الأغراض الصحيحة ( أوْ ضَعِيفا) صبيّاً أو شيخاً

ص: 435


1- الفرقان : 5 .

مختلاً ( أوْ لَا يَسْتَطِيعُ أن يُمِلَّ هُوَ) أو غير مستطيع للإملاء بنفسه، لعيّ أو لخرس أو جهل باللغة (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) أي: الّذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم إن كان صبيّاً أو مختلّ العقل، أو وكيل أو مترجم عملاً عنه إن كان غير مستطيع .

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان (من رِجَالِكُمْ) من رجال المؤمنين. وهو دليل اشتراط إيمان الشهود، وإليه ذهب علماؤنا وأكثر العامة. (فَإن لَمْ يَكُونَا) فإن لم يكن الشهيدان( رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) فليشهد ، أو فليستشهد رجل وامرأتان.

وشهادة النساء مقبولة عندنا في غير رؤية الهلال والطلاق مع الرجال. وهي مقبولة على الانفراد فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه، مثل العذرة والأمور الباطنة للنساء. وتفصيل ذلك في كتب الفقه، فليطالع ثمّة .

(مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) لعلمكم بعد التهم أن (تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا) في موضع النصب بأنه مفعول له فهذا علّة اعتبار العدد، أي: لأجل أن إحداهما إن ضلّت الشهادة بأن نسيتها (فَتُذَكِّرَ إِحْدَيهُمَا الْأَخْرَى) والعلّة في الحقيقة التذكير ،ولكن لمّا كان الضلال سبباً للتذكير نزّل منزلته ومثله قولهم : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وكأنه قيل : إرادة أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت. وفيه إشعار بنقصان عقلهن، وقلّة ضبطهنّ.

وقرأ حمزة: إن تَضِلَّ على الشرط ، فَتُذَكَّرُ» بالرفع ، كقوله: (وَمَن عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) (1). ويعقوب: فتذكر من الإذكار .

(وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) لأداء الشهادة أو التحمّل. وسمّوا شهداء قبل التحمّل تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع. و«ما» مزيدة. (وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ) ولا تملوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب (صغيراً) كان الحق

ص: 436


1- المائدة : 95 .

أوْ (كَبِيراً) أو مختصراً كان الكتاب أو مشبعاً (إلَى أَجَلِهِ) إلى وقت حلوله الذي اتفق الغريمان على تسميته.

(ذلِكُمْ) إشارة إلى أن تكتبوه لأنه في معنى المصدر، أي: ذلكم الكتب (أقْسَطُ عِندَ اللهِ) أكثر قسطاً (وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ) وأثبت لها ، وأعون على إقامتها. وهما مبنيان من : أقسط وأقام على غير قياس، أو من قاسط ، على طريق النسب، بمعنى: ذي قسط ، وأقوم من قويم ، أي : ذي قويم. وإنّما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجب لجموده . ﴿ وَأدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود ونحو ذلك .

(إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ )حرج وضيق (أَلَّا تَكْتُبُوهَا) في ترك كتابتها ، الاستثناء يكون من الأمر بالكتابة .

والمراد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال والتجارة الحاضرة تعمّ المبايعة بعين أو دين. وبإدارتها بينهم تعاطيهم إيَّاها يداً بيد . فالمعنى: إلّا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد، فلا بأس أن لا تكتبوه، لأنه لا يتوهّم فيه ما يتوهم في التداين من التنازع والنسيان.

ونصب عاصم «تِجَارَةً» على أنّه الخبر ، والاسم مضمر ، تقديره إلا أن تكون التجارة تجارةً حاضرة . ورفعها الباقون على أنه الاسم والخبر «تُدِيرُونَهَا» أو على «كان» التامة .

(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) هذا التبايع أو مطلقاً، لأنه أحوط والأوامر في هذه الآية إلى هنا للاستحباب عندنا وعند جمهور العامة إلا شاذاً منهم، فإنّها للوجوب . ثمّ اختلف في أحكامها ونسخها .

(وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) يحتمل البناء للفاعل والمفعول . والمعنى: نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما ، وعن التحريف والزيادة والنقصان ، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم، أو لا يكلّف الكاتب

ص: 437

الكتابة في حال عذر لا يتفرّغ إليها ، ولا يدعى الشاهد إلى إثبات الشهادة وإقامتها في وقت لا يتفرّغ لها (وإن تَفْعَلُوا) الضرار أو ما نهيتم عنه (فَإِنَّهُ ) فإنّ هذا الضرار (فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ خروج عن الطاعة لاحق بكم.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره ونهيه ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أحكامه المتضمّنة المصالحكم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » كرّر لفظ «الله» في الجمل الثلاث لاستقلالها. فإنّ الأولى حثّ على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة تعظيم لشأنه، ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية. وفي ذلك دلالة على أنّ الأحكام كلّها بتعليم الله ، لا بالقياس والاستحسان.

ذكر علي بن إبراهيم (1) في تفسيره أنّ في سورة البقرة خمسمائة حكم، وفي هذه الآية خاصة خمسة عشر حكماً .

آية 283

«وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)»

ثم ذكر سبحانه حكم الوثيقة بالرهن عند عدم الوثيقة بالاشهاد ، فقال : ﴿وَإنْ كُنْتُمْ) أيّها المتداينون المبايعون (عَلَى سَفَرٍ ) أي : مسافرين ( وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةً ) أي : فالّذي يستوثق به ،رهان أو فعليكم رهان أو فليؤخذ رهان. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : فرُهُن كسُقُف . وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون . وليس الغرض تخصيص الارتهان بحال السفر، ولكنّ السفر لمّا كان مظنّة

ص: 438


1- تفسير القمي 1 : 94 .

لإعواز الكتب والإشهاد أمر المسافر بأن يقيم الارتهان مقام الكتاب والاشهاد ، على سبيل الارشاد إلى حفظ المال والقبض شرط في صحة الرهن عند أكثر علمائنا والجمهور غير مالك .

﴿فَإِن أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) أي : أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنّه به ﴿ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) وهو الذي عليه الحق. أمر بأن يؤدّي الدين إلى صاحب الحق وافياً وقت محله من غير مطل ولا تسويف. وسمّي الدين أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان منه (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في الخيانة وإنكار الحق. وفيه مبالغات .

ثم خاطب الشهود بقوله : ( وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ) أيّها الشهود ويحتمل أن يكون الخطاب للمديونين بشهادتهم إقرارهم على أنفسهم ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا) مع علمه بالمشهود به وتمكنه من أدائها (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) رفع قلبه بآثم، كأنه قيل : يأثم قلبه . والجملة خبر إنّ . وإسناد الإثم إلى القلب لأنّ الكتمان مقترفه، ونظيره : العين زانية والأذن زانية ، أو للمبالغة ، فإنّه رئيس الأعضاء، وأفعاله أعظم الأفعال، فكأنه تمكّن الإثم في نفسه وأخذ أشرف أجزائه . ﴿ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ تهديد ووعيد.

وهذه الآية وما قبلها من بدائع لطف الله تعالى لعباده في أمر معاشهم ومعادهم، وتعليمهم ما لا يسعهم جهله ، وفيها بصيرة لمن تبصّر وكفاية لمن تفكّر .

آية 284

«لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)»

ولما بيّن بيان الشرائع التي هي سبب انتظام أمورهم في الدنيا، ذكر التوحيد

ص: 439

والموعظة والاقرار بالجزاء ليستعدّوا له في الامتثال بالأوامر والانتهاء عن المناهي، :فقال : (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) خلقاً وملكاً ﴿وَإِن تُبْدُوا) تظهروا ﴿ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) يعني ما فيها ممّا يدخل في التكليف من السوء والعزم عليه، لترتب المغفرة والعذاب عليه (يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ويجازيكم عليه يوم القيامة (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ مغفرته ﴿ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) تعذيبه. وقد رفعهما ابن عامر ويعقوب على الاستئناف، وجزمهما الباقون عطفاً على جواب الشرط. ومن جزم بغير فاء جعلهما بدلاً منه ، بدل البعض من الكلّ أو الاشتمال . ﴿ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الإحياء والمحاسبة .

عن عبدالله بن عمر أنّه تلاها فقال : لئن أخذنا الله بهذا لنهلكن، فذكر لابن عبّاس فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن، وقد وجد المسلمون منها مثل ما وجد فنزل ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللهُ ﴾ (1) إلخ .

آية 285

«آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)»

ولمّا ذكر سبحانه فرض الصلاة والزكاة وأحكام الشرع المنتجر (2) للندائد الدنيويّة والأخروية، ختم السورة بذكر تصديق رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وأمته بجميع

ص: 440


1- يأتي تفسيرها في ص : 442 .
2- كذا في النسخة الخطية ، ولم نهتد إلى معنى صحيح له ولعله تحريف : المنجز للفوائد الدنيوية.

أحكامه تعالى وإيمانهم ، فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ ) أي : صدّق محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) (بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها. فهو شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحة إيمانه والاعتداد به، وأنه جازم في أمره غير شاكّ فيه

(وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ) كلّ واحد منهم . يجوز أن يكون عطفاً على الرسول فيكون الضمير - الذي التنوين نائب عنه في قوله: «كلٌّ» - راجعاً إلى الرسول والمؤمنين (بِاللهِ ) أي : صدق بثبوت وحدانيته وصفاته، ونفي التشبيه عنه، وتنزيهه عما لا يليق به (وَمَلَائِكَتِهِ ) أي : وبملائكته ، بأنهم معصومون مطهّرون (وَكُتُبِهِ ) أي : وبأنّ القرآن وجميع ما أنزل من الكتب حق وصدق (وَرُسُلِهِ) وبجميع أنبيائه . فعلى هذا يوقف عليه .

ويجوز أن يكون مبتدأ، فيكون الضمير للمؤمنين ومعناه : كلّ واحد منهم آمن. وبهذا الاعتبار يصح وقوع «كل» بخبره خبر المبتدأ. ويكون إفراد «الرسول» بالحكم إما لتعظيمه ، أو لأنّ إيمانه عن مشاهدة وعيان ، وإيمانهم عن نظر واستدلال. وقرأ حمزة والكسائي : وكتابه يعني القرآن، أو الجنس. والفرق بينه وبين الجمع أنه شائع مع وحدان الجنس ، لا يخرج منه شيء، والجمع في جموعه فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنس من الجموع ، ولذلك الكتاب أكثر من الكتب.

(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) أي : يقولون: لا نفرّق . وقرأ يعقوب: لا يفرّق بالياء ، على أنّ الفعل ل«كلٌّ». والمراد اعترافهم بنفي الفرق بتصديق بعض وتكذيب بعض كما فعله أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

(وَقَالُوا سَمِعْنَا) أجبنا ( وَأطَعْنَا ) أمرك ( غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) اغفر لنا غفرانك ، أو نطلب غفرانك ( وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) وإلى جزائك وثوابك المرجع بعد الموت. وهو إقرار منهم بالبعث .

ص: 441

آية 286

«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)»

ثمّ بيّن سبحانه أنه حيثما أمر ونهى لا يكلف إلّا دون الطاقة، فقال: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) الوسع ما تسع له قدرة الإنسان ولا يضيق عليه ، أي : لا يأمر ولا ينهى أحداً إلا ما يسعه. وهذا إخبار عن عدله ورحمته .

(لَهَا مَا كَسَبَتْ ) أي : ثواب ما اكتسبت من الطاعات، لا يثاب بطاعتها غيرها ( وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) أي: عقاب ما اكتسبت من المعاصي والسيئات، لا يؤاخذ بذنبها غيرها. وتخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشر لأن الاكتساب اعتمال ، والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه، فكانت أجد في تحصيله وأعمل ، بخلاف الخير .

(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا ) أي : إن لم نفعل فعلاً يجب فعله على سبيل السهو (أوْ أَخْطَأنَا ) أي : فعلنا فعلاً يجب تركه من غير قصد، يعني: ترك واجب أو فعل حرام يكون سببهما النسيان والخطأ. ويحسن هذا في الدعاء على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى وإظهار الفقر إلى مسألته والاستعانة به، وإن كان مأموناً منه المؤاخذة بمثله لاستلزامها ،القبح والله تعالى منزّه عنه . ويجري ذلك ذلك مجرى قوله

ص: 442

فيما بعد : ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا) وقوله : ( قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ )(1).

(رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً) عبأً (2) ثقيلاً يأصر صاحبه، أي: يحبسه في مكانه يريد به التكاليف الشاقة (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) حملاً مثل حملك إِيَّاه مَن قبلنا، أو مثل الذي حملته إيّاهم، فيكون صفة ل«إصراً».

والمراد به ما كلّف به بني إسرائيل من قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة، وخمسين صلاة في اليوم والليلة، وصرف ربع المال في الزكاة، أو ما أصابهم من الشدائد والمحن.

(رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) من العقوبات التي لا تحملها الطاقة البشرية النازلة بمن قبلنا. طلبوا الإعفاء عن التكاليف الشاقة التي كلّفها من قبلهم، ثمّ عمّا نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم. والتشديد هاهنا لتعدية الفعل إلى المفعول الثاني.

﴿وَاعْفُ عَنَّا) وامح ذنوبنا( وَاغْفِرْ لَنَا )واستر عيوبنا، ولا تفضحنا بالمؤاخذة (وَارْحَمْنَا) وتعطف بنا ، وتفضّل علينا (أنْتَ مَوْلُينَا) سيدنا ونحن عبيدك، أو أنت متولّي أمورنا وناصرنا (فَانْصُرْنَا) أَعنَّا (عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) بالقهر لهم والغلبة بالحجّة عليهم، فإنّ من حق المولى أن ينصر مواليه على الأعداء. والمراد به عامة الكفّار .

روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : «أنّ الله سبحانه قال عند كلّ فصل من هذا الدعاء، فعلت واستجبت». ولهذا استحبّ الاكثار من هذا الدعاء. ففي الحديث المشهور عن النبي : «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ، لم يؤتهنّ نبي قبلي».

ص: 443


1- الأنبياء : 112 .
2- العِبء - بكسر العين وسكون الباء - : الحمل والثقل من أي شيء كان .

وعنه (علیه السلام) : «أنزل الله آيتين من كنوز الجنّة ، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة ، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل».

ومثل ذلك ما روي عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ، أي : كفتا قيام ليلته».

وعن عبدالله بن مسعود قال: «لما أسري برسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) انتهي به إلى سدرة المنتهى ، فأعطي ثلثا الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته إلا المقحمات»(1).

وفي تفسير الكلبي بإسناد ذكره ، عن ابن عباس قال: «بينا رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إذ سمع نقيضاً ، أي : صوتاً، فرفع رأسه فإذا باب من السماء قد فتح، فنزل عليه ملك وقال : الله يبشرك بنورين لم يعطهما نبيّاً قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لا يقرأهما أحد إلا أعطيته حاجته».

ص: 444


1- أي : الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار ، أي : تلقيهم فيها .

سورة آل عمران

آية 1 - 4

هي مدنيّة كلّها . وعدد آياتها مائتان وعدّ الكوفي (الم)» آية، والإنجيل (1) الثانية آية ، وترك «وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ».

روى أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكلّ آية منها أماناً على جسر جهنّم».

ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة صلّى الله عليه وملائكته حتى تجب الشمس ».

بريدة قال: «قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): تعلّموا سورة البقرة وسورة آل عمران ،فإنّهما الزهراوان وإنهما تظلّان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيابتان، أو فرقان من طير صوافٌ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

«الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)»

ص: 445


1- آل عمران : 48 .

واعلم أنه سبحانه لمّا ختم سورة البقرة بذكر التوحيد والإيمان افتتح هذه السورة بالتوحيد والإيمان أيضاً ، فقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَمَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) قيل : الألف إشارة إلى الآية العميمة، واللام إلى لقاء مرحمته العظيمة ، والميم إلى محبته القديمة فبركة الآية في الدنيا شاملة ونعمة لقائه - التي هي عبارة عن نهاية قرب عباده ومنزلتهم لديه - إلى أرباب الخصوص واصلة، وفيض محبّة الغير المتناهية في الدارين إلى أخص خواصه حاصلة. وباقي وجوه الحروف المقطعة مذكورة في صدر سورة البقرة ، فليطالع ثمّة .

وإنّما فتح الميم في المشهور ، وكان حقها أن يوقف عليها، لإلقاء حركة الهمزة عليها، ليدلّ على أنها في حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج، فإنّ الميم في حكم الوقف ، كقولهم: واحد اثنان لا لالتقاء الساكنين بين الياء والميم ، فإنّه غير محذور في باب الوقف. وقرأ أبو بكر بسكونها، والابتداء بما بعدها على الأصل.

(الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وتفسيرهما في آية الكرسي(1) روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): « أنّ اسم الله الأعظم في ثلاث سور : في البقرة (2) : ( اللهُ لا إلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ القَيُّومُ) . وفي آل عمران : (الله لا إله إلَّا هُوَ الْحَيُّ القَيُّومُ) . وفي طه (3) : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّوم) .

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) القرآن نجوماً (4) (بِالْحَقِّ) بالعدل، أو بالصدق في إخباره، أو بالحجج المحققة أنه من عند الله تعالى وهو في موضع الحال. (مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) من الكتب (وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ) جملةً على موسى وعيسى

ص: 446


1- راجع ص : 401 .
2- البقرة : 255 .
3- طه : 111 .
4- أي : متفرّقاً.

(مِنْ قَبْلُ) من قبل تنزيل القرآن وهما لفظان أعجميان على الصحيح. واشتقاقهما من الورى والنجل، ووزنهما تفعلة وإفعيل تكلّف وتعسّف .( هُدىً لِلنَّاسِ ) أي : لقوم موسى وعيسى ومن قال نحن متعبّدون بشرائع من قبلنا، فسّره على العموم. (وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ) يعني : القرآن كرّر ذكره بما هو نعت له ومدح، من كونه فارقاً بين الحق والباطل، بعد ذكره باسم الجنس، تعظيماً لشأنه، أو أراد جنس الكتب السماويّة، لأنّ كلّها فرقان يفرّق بين الحق والباطل.

روي عن الصادق (علیه السلام) قال : «الفرقان كلّ آية محكمة في الكتاب».

وقيل : المراد به الحجّة القاطعة على من حاج رسول الله في أمر عيسى، كما قال الكلبي ومحمد بن إسحاق والربيع بن أنس : «أنّ وفد نجران قدموا على رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وكانوا ستين راكباً فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وكان العاقب أميرهم وصاحب مشورتهم، وهم لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح والسيد صاحب رحلهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان قد شرف فيهم، وكان ملوك أهل الروم قد شرّفوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده.

فقدموا على رسول الله(صلّی الله علیه و آله و سلّم) المدينة ، ودخلوا مسجده حين صلّى العصر ،عليهم الثياب الحِبَرات وجُبَب وأردية.

يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): ما رأينا وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم ، فأقبلوا يضربون بالناقوس، وقاموا فصلّوا في مسجد رسول الله الله فقال الصحابة : يا رسول الله هذا في مسجدك ؟ فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : دعوهم، فصلّوا إلى المشرق.

فكلّم السيد والعاقب رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

فقال لهما رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : أسلما ؟

ص: 447

قالا : أسلمنا قبلك.

قال : كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير.

قالا : إن لم يكن ولد الله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعاً في عيسى .

فقال لهم النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : ألستم تعلمون أنه لا يكون له ولد إلا ويشبه أباه ؟

قالوا : بلى.

قال : ألستم تعلمون أنّ ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟

قالوا: بلى.

قال : ألستم تعلمون أنّ ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه ؟

قالوا: بلى .

قال : فهل يملك عيسى (صلّی الله علیه و آله و سلّم) من ذلك شيئاً ؟

قالوا : لا .

قال : ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟

قالوا: بلى .

قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم ؟

قالوا: لا .

قال : فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث .

قالوا: بلى

قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ووضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذّي كما يغذّى الصبي، ثمّ كان يطعم ويشرب ويحدث ؟

قالوا: بلى.

قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟

ص: 448

فسكتوا، فأنزل الله تعالى فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية .

ففي شأنهم قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ الله ) من كتبه المنزلة وغيرها من الحجج الهادية (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) بسبب كفرهم (وَاللَّهُ عَزِيزُ) غالب لا يمنع من التعذيب (ذُو انتِقَامٍ) لا يقدر على مثله منتقم . والنقمة عقوبة المجرم، والفعل منه : نقم بالفتح والكسر . وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد والإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوّة ، تعظيماً للأمر، وزجراً عن الإعراض عنه.

آية 5 - 6

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴿5﴾ هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿6﴾

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) أي شيء كائن في العالم. كلياً أو جزئياً. وإنما قدّم الأرض ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، ولأن المقصود بالذكر عدم خفاء ما اقترف فيها من الإيمان والطاعة والكفر والمعصية على الله تعالى، وهو كالدليل على كونه حيّاً.

وقوله : ( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ) أي : من الصور المختلفة المتفاوتة على أيّ صفة يشاء من قبيح أو صبيح، ذكر أو أنثى، طويل أو قصير. كالدليل على القيوميّة، والاستدلال على أنه عالم بإتقان فعله في خلق الجنين و تصویره.

(لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) إذ لا يعلم غيره جملة ما يعلمه، ولا يقدر على مثل ما يفعله (العَزِيزُ الْحَكِيمُ) إشارة إلى كمال قدرته وتناهي حكمته، وتنبيه على كون عيسى مصوّراً في الرحم، ويخفى عليه ما لا يخفى على الله ، فكيف يكون ربّاً كما زعم أهل وفد نجران ؟!

ص: 449

روي عن الصادق (علیه السّلام) : أنّ هذه الآية دلّت على وحدانية الله سبحانه، وكمال ،قدرته، وتمام حكمته، حيث صوّر الولد في رحم الأم على صفة مخصوصة ، وركب فيه من أنواع البدائع من غير آلة ولا كلفة ، وقد تقرّر في عقل كل عاقل أن العالم لو اجتمعوا على أن يخلقوا من الماء بعوضة، ويصوّروا منه صورة في حال ما يشاهدونه ويصرفونه ، لم يقدروا على ذلك ، ولا وجدوا إليه سبيلاً، فكيف يقدرون على الخلق في الأرحام ؟ فتبارك الله أحسن الخالقين .

آية 7

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)»

(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) أي : القرآن (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) أحكمت عبارتها، بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أصله ، تحمل المتشابهات عليها ، وتردّ إليها والقياس أمهات، فأفرد على تأويل كلّ واحدة ، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة.

(وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) مشبّهات محتملات، لا يتضح مقصودها - لإجمال أو مخالفة ظاهر - إلا بالفحص والنظر ، ليظهر فيها فضل العلماء، ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبّرها، وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها، فينالوا بها وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها والتوفيق بينها وبين المحكمات معالي الدرجات. ولو كان القرآن كله محكمات لتعلّق به الناس بسهولة أخذه، ولأعرضوا

ص: 450

عمّا يحتاجون فيه إلى النظر والاستدلال ولو فعلوا ذلك لعطّلوا الطريق الذي يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده، ولكان لا يتبيّن فضل العلماء الذين ينقبون بقرائحهم في استخراج المعاني المتشابهة ، وردّ ذلك إلى المحكم.

وأما قوله : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) (1) فمعناه : أنها حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ. وقوله : ( كِتَاباً مُتَشَابِها )(2) فمعناه : أنه يشبه بعضه بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ .

و«أخر» جمع أخرى. وإنما لم ينصرف لأنه وصف معدول عن الآخر، ولا بلزم منه معرفته، لأن معناه أن القياس أن يعرف ولم يعرف، لا أنه في معنى المعرّف، أو عن آخر من .

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغُ ) أي : ميل وعدول عن الحق، فيتبعون ما تشابه منه كالمبتدعة ( فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) فيتعلّقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه أهل البدعة ممّا لا يطابق المحكم ، ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق (ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ) طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه فيضلّونهم ( وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) وطلب أن يؤوّلوه على ما يشتهونه . ويحتمل أن يكون الداعي إلى الاتباع مجموع الطلبتين، أو كل واحدة منهما على التعاقب . والأوّل يناسب المعاند، والثاني يلائم الجاهل.

(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) الّذي يجب أن يحمل عليه (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) والعلماء الذين رسخوا في العلم، أي: ثبتوا فيه وتمكّنوا. ومن وقف على «الله» فسّر المتشابه بما استأثر الله تعالى بعلمه، كمدّة بقاء الدنيا، ووقت قيام الساعة، وخواص الأعداد كعدد الزبانية ، أو بما دلّ القاطع على أنّ ظاهره غير مراد،

ص: 451


1- هود : 1 .
2- الزمر : 23 .

ولم يدلّ على ما هو المراد والوجه الأوّل مروي عن الباقر (علیه السّلام) ، قال : «كان رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أفضل الراسخين في العلم».

(يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ) استئناف موضح لحال كلّ الراسخين والمعنى: هؤلاء الراسخون العاملون بالتأويل يقولون: آمنا به ، أي : بالمتشابه ، أو حال منهم، أو خبر إن جعلته مبتداً (كُلُّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا ) أي : كلّ واحد منه ومن المحكم من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) أي : لا يتلفظ بالقرآن إلَّا ذوو العقول الصافية الخالصة عن الشوائب النفسانية والكدورات الشهوانية. وهذا مدح للراسخين بجودة الذهن ، وحسن التأمل والتفكر والتذكّر . وإشارة إلى ما استعدّوا به للاهتداء إلى تأويله، وهو تجرّد العقل عن غواشي الحسّ .

واتصال هذه الآية بما قبلها من حيث إنّها في تصوير الروح بالعلم وتربيته وما قبلها في تصوير الجسد وتسويته، أو أنها جواب عن تشبّث النصارى بنحو قوله : ( وَكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)(1)، كما أنه جواب عن قولهم : لا أب له غير الله ، فتعيّن أن يكون هو ابنه . وأجيب بأنّه مصوّر الأجنّة كيف يشاء، فيصوّر من نطفة أب ومن غيرها ، وبأنه مصوّره في الرحم، والمصوّر لا يكون أب المصوّر.

آية 8 - 9

ربَّنَا لا تزغ قلوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) ربَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الميعَادَ ﴿9﴾

قوله : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) من مقال الراسخين . وقيل : استئناف . والمعنى: لا تمنعنا لطفك الّذي معه تستقيم القلوب ، فتميل قلوبنا عن نهج الحقِّ إلى اتّباع

ص: 452


1- النساء : 171 .

المتشابه بتأويل لا ترتضيه (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) بعد إذ لطفت بنا ووفقتنا طريق الهداية. أو معناه : لا تختبرنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا بعد إذ أرشدتنا إلى دينك. ونظيره قوله : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) (1). فأضافوا ما يقع من زيغ القلوب إليه سبحانه ، لأنه كان عند امتحانه وتشديد تكليفه . و «بَعْدَ» نصب على الظرف ، و«إذْ» في موضع الجرّ بإضافته إليه .

(وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً) من عندك، نعمة بالتوفيق والمعونة للثبات على الحق ، تزلفنا إليك، ونفوز بها عندك . أو مغفرةً للذنوب (إنَّكَ أنتَ الْوَهَّابُ) لكلّ سؤل .

(رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) يجمعهم لحساب يوم أو لجزائه ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) (2) (لَا رَيْبَ فِيهِ) في وقوع اليوم، وما فيه من الحشر والجزاء. نبّهوا به على أنّ معظم غرضهم من قولهم: «لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً» ما يتعلق بالآخرة، فإنّها المقصد الأصلي والمال الحقيقي .

(إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) أي : لا يخلف ما وعد المسلمين والكافرين من الثواب والعقاب، فإنّ الإلهيّة تنافي خلف الميعاد. والانتقال من الخطاب إلى الغيبة للإشعار بذلك، وتعظيم الموعود. واستدلّ به الوعيديّة. وأجيب بأنّ وعيد الفسّاق مشروط بعدم العفو ، لدلائل قاطعة ، كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقاً.

آية 10 - 13

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا

ص: 453


1- البقرة : 246 .
2- التغابن : 9 .

وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)»

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) عامّ في الكفرة . وقيل : المراد به وفد نجران أو اليهود، أو مشركو العرب (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي : من رحمته على معنى البدليّة . «من» في قوله: «مِنَ اللهِ» مثل الذي في قوله: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئا ) (1). ومثله : ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ ، أي : لا ينفعه جده من الدنيا بدلك ، أي : بدل طاعتك وعبادتك وما عندك . وقيل : معناه : من عذابه شيئاً، أي : لا يدفع عنهم أموالهم وأولادهم من عذاب الله شيئاً (وَأَوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) حطبها، تتقد النار بأجسامهم.

وقوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) منصوب المحلّ بقوله : «لَنْ تُغْنِي» أو بالوقود. والمعنى : لن تغني عنهم كما لم تغن عن أولئك ، أو توقد بهم كما توقد بأولئك ، كما تقول : إنَّك لتظلم الناس كدأب أبيك تريد : كظلم أبيك، وإن فلاناً لمحارف كدأب أبيه ، تريد كما حورف أبوه أو استئناف مرفوع المحلّ، وتقديره : دأب هؤلاء كدأبهم في الكفر والعذاب. وهو مصدر : دأب في العمل إذا كدح فيه، فنقل إلى معنى

ص: 454


1- النجم : 28 .

ما عليه الإنسان من شأنه وحاله.

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عطف على آل فرعون . وقيل : كلام مستأنف . (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) حال بإضمار «قد» . أو استئناف مفسّر ذاتهم وحالهم، كأنه جواب لمن يسأل عن حالهم. أو خبر إن ابتدأت ب«الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ».

(وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) تهويل للمؤاخذة، وزيادة تخويف للكفرة.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ) قيل : خطاب لمشركي مكة، فإنّهم غلبوا يوم بدر . وقيل : هم اليهود جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في سوق بني قينقاع فقال : يا معشر اليهود احذروا ما نزل بقريش، وأسلموا قبل أن ينزل بكم مثل ما نزل بهم ، فقد عرفتم أنّي نبي مرسل، فقالوا : لا يغرنك أنك لقيت قوماً أغمارا (1) لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، ولئن قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، فنزلت . وقد صدق الله وعده لهم بقتل قريظة، وإجلاء بني النضير وفتح خيبر، وضرب الجزية على من عداهم، وهو من دلائل النبوة والمعنى: ستصيرون مغلوبين في الدنيا، وتحشرون إلى جهنّم في الآخرة.

وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما، على أن الأمر بأن يحكي النبي لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه ، فهو مثل قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ) (2) أي : قل لهم قولي : سَيُغْلَبُونَ.

(وَبِئْسَ الْمِهَادُ) تمام ما يقال لهم أو استئناف، وتقديره : بئس المهاد جهنّم، أو ما يمهدونه لأنفسهم.

(قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةً) الخطاب لقريش أو لليهود. وقيل : للمؤمنين. (فِي فِئَتَيْنِ التقتا) يوم بدر (فِئَةٌ ) أي : فرقة (تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ) أي : في دينه وطاعته ، وهم الرسول وأصحابه (وَأَخْرَى) وفرقة أخرى ك(َافِرَةٌ) وهم مشركو مكة

ص: 455


1- الأغمار جمع غِمْر ، وهو الجاهل الغرّ الذي لم يجرب الأمور.
2- الأنفال : 38 .

(يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين وكان عددهم قريب ألف ، أو مثلي عدد المسلمين، وكان عددهم عدد المسلمين، وكان عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر. وذلك كان بعد ما قلّلهم في أعينهم حتى اجتروا عليهم وتوجهوا إليهم ، فلمّا لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، مدداً من الله تعالى للمؤمنين . فلا منافاة بينه وبين قوله في سورة الأنفال: (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ) (1). أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين - وكانوا ثلاثة أمثالهم - ليثبتوا لهم ، ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله تعالى به في قوله: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)(2). ويؤيده قراءة نافع ويعقوب بالتاء.

(رَأيَ الْعَيْنِ ) رؤية ظاهرة معاينة مكشوفة.

(وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ) نصره ، كما أيّد المسلمين في بدر (إنَّ فِي ذُلِكَ ) أي : في التقليل والتكثير ، أو غلبة القليل عديم العدّة على الكثير شاكي السلاح (لَعِبْرةُ لِأوْلِي الأبْصَارِ) لعظة لذوي البصائر وقيل لمن أبصرهم.

آية 14

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلَكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عندهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴿14﴾

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ) أي : المشتهيات . جعل الله سبحانه الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغةً في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها، وإيماءً على

ص: 456


1- الأنفال : 44 .
2- الأنفال : 66 .

انهمكوا في محبّتها حتى أحبوا شهوتها . والمزين هو الله سبحانه بما جعل في الطباع من الميل إليها، ابتلاءً وتشديداً للتكليف ، كقوله : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ ) (1). أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله ، أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء نوع الإنسان. وعن الحسن زيّنها الشيطان لهم، لأنا لا نعلم أحداً أذمّ لها من خالقها. وعند الجبائي : للشهوة المباحة هو الله تعالى (2) ، للشهوة المحرّمة هو الشيطان.

ثم بين الشهوات بقوله : ( مِنَ النِّسَاءِ) قدّمهنّ لأنّ الفتنة بهنّ أعظم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء». وقال: «النساء حبائل الشيطان». وقال أمير المؤمنين (علیه السّلام): «المرأة شرّ كلّها، وشرّ ما فيها أنه لابد منها، وهي عقرب حلوة اللسعة».

ثمّ ثنّى بقوله : ( وَالْبَنِينَ) لأنّ حبّهم داعٍ إلى جمع الحرام.

ثمّ ثلث بقوله : ( وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) لأنهما - لكونهما وسيلة إلى تحصيل سائر المقاصد والمطالب - أحبّ إلى الناس من غيرهما من الأمتعة الدنيوية والقنطار المال الكثير . وقيل : سبعون ألف دينار. وقيل: مائة ألف دينار. وقيل: ملء مسك ثور. واختلف في أنه فعلال أو فنعال والمقنطرة مأخوذ منه للتأكيد ، كقولهم : بدرة مبدّرة ، وألف مؤلّفة .

(وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) المعلمة. وهي من السومة، وهي العلامة، أو المرعية من : أسام الدابة وسومها . ولمّا كانت الخيل أشرف الحيوانات بعد الإنسان قدمها على قوله : (وَالْأَنْعَامِ) وهي الابل والبقر والغنم ولشرف الحيوانات على الجمادات قدّمها على قوله : (وَالْحَرْثِ) وهو جنس المزروعات.

ص: 457


1- الكهف : 7 .
2- أي : المزيّن هو الله تعالى .

(ذَلِكَ) إشارة إلى ما ذكر (مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي : ما يتمتع بها الإنسان فى زمان الحياة الدنيويّة ( وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) أي : المرجع وهو تحريض على استبدال ماعنده من اللذات الحقيقية الأبديّة بالشهوات الناقصة الفانية .

آية 15 - 17

«قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)»

ثم استأنف كلاماً مقرّراً ، وتقريره : أنّ ثواب الله خير من مستلذات الدنيا ، فقال: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ مِن ذَلِكُمْ) أي من متاع الدنيا ومستلذاتها (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ﴾ اللام متعلّقة ب«خير». واختصّ المتقين لأنهم المنتفعون به ويجوز أن يكون خبراً لقوله : ( جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) ، أو يكون استئنافاً لبيان ما هو خير ، ويرتفع بالخبر على تقدير : هو جنّات ﴿ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرةً) ممّا يستقذر وينفر من النساء (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ ) . قرأ أبو بكر بضم الراء حيث كان إلا الثاني (1) من المائدة، وهو قوله : ( رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ). وهما لغتان (وَاللهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ) أي : بأعمالهم، فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، أو بأحوال الذين اتقوا، فلذلك أعدّ لهم جنّات .

وقد نبه بهذه الآية على مراتب ،نعمه فأدناها متاع الدنيا، وأعلاها رضوان

ص: 458


1- المائدة : 16 ، والأول هو الآية (2) منها .

الله ، لقوله تعالى : (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) (1) ، وأوسطها الجنّة ونعيمها .

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا) أي: صدّقنا بالله ورسوله (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) استرها علينا وتجاوزها عنا (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) . والموصول موضع جرّ ، لكونه صفة للمتقين، أو للعباد، أو موضع رفع، أو نصب على المدح. وفي ترتيب السؤال على مجرّد الإيمان دليل على أنه كافٍ في استحقاق المغفرة أو الاستعداد لها.

ثمّ بيّن صفاتهم الحسنة وسماتهم السيئة بقوله : (الصَّابِرِينَ) على فعل ما أمرهم الله به، وترك ما نهاهم عنه ( وَالصَّادِقِينَ) في إيمانهم وأقوالهم (وَالْقَانِتِينَ) المطيعين . وقيل : الدائمين على العبادة (وَالْمُنْفِقِينَ) أموالهم في سبيل الله (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ) أي : المصلين وقت السحر. وقيل: الذين تنتهي صلاتهم إلى وقت السحر، ثمّ يستغفرونه ويدعون. وتوسيط الواو بین الصفات للدلالة على استقلال كلّ واحد منها وكمالهم فيها ، أو لتغاير الموصوفين بها.

وحصر هذه الصفات لمقامات السالك على أحسن ترتيب، فإنّ معاملته الله تعالى إمّا توسّل وإما طلب والتوسل إمّا بالنفس، وهو منعها عن الرذائل، وحبسها على الفضائل، والصبر يشملهما . وإما بالبدن، وهو إمّا قول، وهو الصدق، وإمّا فعل، وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة, وإما بالمال، وهو الإنفاق في سبيل الخير . وأما الطلب فبالاستغفار ، لأنّ المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها. وتخصيص الأسحار ، لأنّ الدعاء فيها للمتهجدين أقرب إلى الإجابة ، لأن العبادة حينئذ أشق، والنفس أصفى، والقلب أجمع ، سيّما للمتهجدين .

ص: 459


1- التوبة : 72 .

آية 18 - 19

شهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العلمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرُ بآيات الله فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)

ثمّ بيّن وحدانيته بنصب الدلائل الدالّة عليها، وإنزال الآيات الناطقة بها، فقال : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) شَبّه سبحانه دلالته على وحدانيته بالأفعال التي لا يقدر عليها غيره، والآيات الناطقة بتوحيده، مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما، بشهادة الشاهد في البيان والكشف. وكذلك قوله : (وَالْمَلَائِكَةُ) بالإقرار بها ( وَأوْلُوا الْعِلْمِ) بالإيمان بها والاحتجاج عليها . فشبه إقرار الملائكة وأولي العلم بشهادة الشاهد في الكشف والبيان.

(قَائِماً بِالْقِسْطِ) مقيماً للعدل فيما يقسم للعباد من الأرزاق والآجال، وفيما يأمر به عباده من الانصاف والعمل على التسوية فيما بينهم. وانتصابه على أنه حال مؤكدة من اسم الله ، كقوله : ( وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا) (1). وإنما جاز إفراده بها ، ولم يجز : جاء زيد وعمرو راكباً، لعدم اللبس كقوله تعالى : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةٌ ) (2).

(لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) كرّره للتأكيد، ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد، والحكم به بعد إقامة الحجة، وليبني عليه قوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيعلم أنه الموصوف بهما .

ص: 460


1- البقرة : 91 .
2- الأنبياء : 72 .

وقدّم العزيز لتقدّم العلم بقدرته على العلم بحكمته . ورفعهما على البدل من الضمير أو الصفة لفاعل «شَهِدَ».

وفي المدارك (1) روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «من قرأ هذه الآية عند منامه خلق الله تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة . ومن قال بعدها وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة يقول الله تعالى يوم القيامة : إنّ لعبدي عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنّة».

وقال سعيد بن جبير: «كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فلما نزلت : (شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) ، خررن سجّداً». وهو دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله.

وقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ) جملة مستأنفة مؤكدة للأولى، أي: لا دين مرضي عند الله تعالى سوى الإسلام وهو التوحيد والتدرّع بالشرع الذي جاء به محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

وقرأ الكسائي بالفتح (2) على أنه بدل من «أنه»، بدل الكلّ إن فسّر الإسلام بالإيمان أو بما يتضمنه ، وبدل الاشتمال إن فسّر بالشريعة.

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ) من اليهود والنصارى ، أو من أرباب الكتب المتقدّمة، في دين الله الذي بينه رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم). فقال قوم: إنه حق، وقال قوم: إنّه مخصوص بالعرب، ونفاه آخرون مطلقاً أو في التوحيد. فثلث النصارى، وقالت اليهود عزير ابن الله . وقيل : هم قوم موسى اختلفوا بعده . وقيل : هم النصارى

ص: 461


1- مدارك التنزيل المطبوع بهامش تفسير الخازن 1 : 217 .
2- أي : بفتح «أن» في قوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام على أنه بدل من «أنه» في قوله تعالى : (شهد الله أنه لا إله إلا هو ) .

اختلفوا في أمر عيسى . (إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) :أي: من بعد ما علموا حقيقة الأمر، وتمكنوا من العلم بها بالآيات والحجج (بَغْياً بَيْنَهُمْ) حسداً بينهم. وطلباً للرئاسة ، لا لشبهة لهم في الإسلام وخفاء في الأمر .

(وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) لا يفوته شيء من أعمالهم. هذا وعيد لمن كفر منهم .

آیة 20

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّه وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل للّذين أوتوا الكتابَ وَالأميينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بالعباد (20)

(فَإِنْ حَاجُّوكَ) في الدين، وجادلوك فيه بعد ما أقمت الحجج (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لا أشرك فيها غيره. والمعنى: ديني التوحيد ، وهو الأصل الّذي يلزم جميع المكلّفين الاقرار به. وإنما عبّر بالوجه عن النفس لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة، ومظهر القوى والحواس، (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على التاء، وحسن للفصل، أو مفعول معه.

( وَقُلْ لِلَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ ) من اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) الَّذِين لا كتاب لهم ، كمشركي العرب(ء أسْلَمْتُمْ) كما أسلمت لمّا وضحت لكم الحجّة على صحة الإسلام ، أم أنتم بعد على كفركم ؟! ونظيره قوله : (فَهَلْ أَنتُمْ مُنتَهُونَ) (1). وفيه تعيير لهم بالبلادة أو المعاندة لفظه لفظ الاستفهام والمراد الأمر .

(فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا) فقد نفعوا أنفسهم بأن أخرجوها من الضلال إلى الهدى ( وَإِن تَوَلَّوْا ) أي : كفروا ولم يقبلوا وأعرضوا عنه، فلم يضروك (فَإِنَّمَا

ص: 462


1- المائدة : 91 .

عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ) إذ ما عليك إلا أن تبلّغ وقد بلغت (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) وعد ووعيد .

آیة 21 - 22

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتَلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿21﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَاصِرِينَ ﴿22﴾

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله ) يجحدون حجج الله وبيّناته ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي : قتلهم لا يكون إلا بغير حق.

روي عن أبي عبيدة بن الجراح قال:«قلت: يا رسول الله أيّ الناس أشدّ عذاباً يوم القيامة ؟ قال : رجل قتل نبيّاً أو رجلاً أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ثمّ قرأ (علیه السلام) : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٌّ( (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) ، ثمّ قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّاً من أوّل النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل، فأمروا من قتلوهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم، وهو الذي ذكره الله تعالى». وكذا قال المفسّرون (1).

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) هم أهل الكتاب الذين في عصر النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم). قتل أوّلوهم الأنبياء ومتابعيهم من عبّاد بني إسرائيل، وكان هؤلاء راضين بما فعلوا، وقصدوا قتل النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)والمؤمنين ، ولكنّ الله عصمهم . وقد سبق (2)مثله في سورة البقرة.

ص: 463


1- الكشّاف 1 : 347 - 348 ، مجمع البيان 2 : 423 .
2- في ص : 159 ذيل الآية 61 .

وقرأ حمزة : ويقاتلون الذين. وقد منع سيبويه إدخال الفاء في خبر «إنّ»، ك ليت ولعلّ ، ولذلك قيل : الخبر قوله : (أَوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا) إِذ لم ينالوا بها الثناء والمدح، ولم تحقن دماؤهم وأموالهم (وَالْآخِرَةِ) بأنهم لم يستحقوا بها الثواب ، فصارت كأنّها لم تكن . وهذا هو حقيقة الحبوط ، وهو الوقوع على خلاف الوجه المأمور به، فلا يستحق عليه الثواب والأجر . وهذا التركيب عند يه كقولك : زيد فافهم رجل صالح . والفرق بين «إنّ» و «ليت ولعلّ أنه لا يغيّر معنی الابتداء ، بخلافهما . ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يدفعون عنهم العذاب .

آية 23 - 25

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)»

(ألَمْ تَرَ) ألم ينته علمك (إلَى الَّذِينَ أوتُوا نَصِيباً) أعطوا حظاً وافراً (من الْكِتَابِ ) أي : التوراة ، أو جنس الكتب السماوية. و«من» للتبعيض أو البيان. و تنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير . يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الداعي محمد ا . وكتاب الله تعالى القرآن والتوراة ، لما روي: «أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) دخل مدارسهم فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت ؟ فقال : على دين إبراهيم، فقالا له : إن إبراهيم كان يهوديّاً، فقال: هلموا إلى

ص: 464

التوراة ، فإنّها بيننا وبينكم، فأبيا، فنزلت».

وقيل : نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه لما روي عن ابن عباس: «أنّ رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا - وكانا ذوي شرف فيهم ، وكان في كتابهم الرجم - فكرهوا رجمهما الشرفهما، ورجوا أن يكون عند رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) رخصة في أمرهما، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فحكم عليهما بالرجم .

فقال له النعمان بن أوفى وبحري بن عمرو: جرت عليهما يا محمد ، ليس عليهما الرجم .

فقال لهم رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): بيني وبينكم التوراة.

قالوا: قد أنصفتنا.

قال : فمن أعلمكم بالتوراة ؟

قالوا: رجل أعور يسكن فدك ، يقال له : ابن صوريا فأرسلوا إليه ، فقدم المدينة، وكان جبرئيل قد وصفه الرسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقال: له رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): أنت ابن صوريا ؟

قال : نعم .

قال : أنت أعلم اليهود ؟

قال : كذلك يزعمون .

قال : فدعا رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب، فقال له : اقرأ ، فلما أتى على آية الرجم وضع كفّه عليها وقرأ ما بعدها.

فقال ابن سلام: يا رسول الله قد جاوزها، وقام إلى ابن صوريا ورفع كفه عنها ، ثم قرأ على رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)وعلى اليهود بأن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البيّنة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى تربّص بها حتى تضع ما في بطنها.

ص: 465

فأمر رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) باليهوديين فرجما ، فغضب اليهود لذلك ، فنزلت».

(ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) طائفة منهم عن الداعي . وفي «ثمّ» استبعاد لتولّيهم مع علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب . (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) وهم قوم عادتهم الإعراض. والجملة حال من «فريق»، وإنّما ساغ لتخصصه بالصفة .

(ذَلِكَ) إشارة إلى التولّي والاعراض (بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلَّا أياماً مَعْدُودَاتٍ ) أي : قلائل ، أربعين يوماً عدد أيام عبادتهم العجل، أو سبعة أيام. يعني : جرأتهم على التولّي والتعرّض بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم لهذا الاعتقاد الزائغ والطمع الفارغ ، من خوف الخلود في النار (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) من أنّ النار لن تمسهم إلّا أياماً قلائل، أو أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، أو أنه تعالى وعد يعقوب (علیه السلام) أن لا يعذب أولاده إلا تحلّة القسم، أو أنهم أبناء الله وأحبّاؤه.

(فَكَيْفَ يصنعون (إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ ) أي : لجزاء يوم (لَا رَيْبَ فِيهِ ) أي : لا شكّ في وقوعه لمن نظر في الأدلة. فهذا استعظام لما يحيق بهم في الآخرة، وتكذيب لقولهم : «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَات».

روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «أنّ أوّل راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد، ثم يأمر بهم إلى النار».

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) جزاء ما كسبت (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) الضمير يرجع إلى «كُلُّ نَفْسٍ» على المعنى، لأنه في معنى : كلّ إنسان .

وفي الآية دلالة على أن العبادة لا تحبط ، وأنّ المؤمن لا يخلّد في النار ، لأنّ توفية جزاء إيمانه وعمله الصالح لا تكون في النار ولا قبل دخولها ، فإذن هي بعد الخلاص منها.

ص: 466

آية 26 - 27

«قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)»

روی أنه لمّا فتح رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) مكة ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود هيهات من أين لمحمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ملك فارس والروم ؟ ألم تكفه المدينة ومكة حتى طمع في الروم وفارس ؟ فنزلت.

(قُلِ اللَّهُمَّ) الميم عوض عن «يا » ولذلك لا يجتمعان، وهو من خصائص هذا الاسم ، كاختصاص دخول «يا » عليه مع لام التعريف وقطع همزته ، وتاء القسم. وقيل : أصله : يا الله أمّنا بخير ، فخفّف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته.

(مَالِكَ المُلْكِ يتصرّف فيما يمكن التصرف فيه تصرّف الملاك فيما يملكون. وهو نداء ثانٍ عند سيبويه ، فإنّ الميم تمنع الوصفية .

(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ) تعطي منه ما تشاء لمن تشاء، من النصيب الذي قسمته له من أسباب الدنيا (وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ) وتستردّ منه على وفق المصلحة والحكمة، ومن ذلك إعطاؤه محمداً (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وأصحابه وأمته، ونزعه من صناديد قريش ومن الروم وفارس . فالملك الأوّل عام، والآخران بعضان منه .

وقيل : المراد بالملك النبوّة، ونزعها نقلها من قوم إلى قوم . وقيل : المراد بإيتاء الملك ملك القناعة. وقال (علیه السّلام): «ملوك الجنّة من أمتي القانعون بالقوت يوماً فيوماً» . أو ملك العافية، أو ملك قيام الليل، ونزعه بالعكس.

( وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ) من أوليائك في الدنيا ، أو في الآخرة، أو فيهما، بالنصر

ص: 467

والتوفيق (وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) من أعدائك في أحدهما ، أو فيهما ، بالتخلية والخذلان . وعن الشبلي : تعزّ بالمعرفة من استغنى بالمكوّن عن الكونين، وتذل من استغنى بالخلق عن الخالق ، أو المراد عزّ القناعة وذلّ الحرص.

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك . واللام للجنس ، أي : الخير كله في الدنيا والآخرة من قبلك . وإنّما قال : بِيَدِكَ الْخَيْرُ» وإن كان بيده كلّ شيء من خير أو شرّ ، لأنّ الآية تضمنت إيجاب الرغبة إليه ، فلا يحسن في هذه الحالة إلا ذكر الخير ، لأنّ الترغيب لا يكون إلا في الخير ، أو ليكون مشعراً بأنّ الخير بالذات من الله تعالى والشر لا يكون منه إلا بالعرض (إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزك شيء، تقدر على إيجاد المعدوم، وإفناء الموجود، وإعادة ما كان موجوداً.

وروى الثعلبي بإسناده عن عمرو بن عوف ما حاصله : أن رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في وقعة الأحزاب حين خطّ الخندق ، وقطع لكلّ عشرة أربعين ذراعاً، وأخذوا يحفرون ، فظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يخبره ، فجاء (صلّی الله علیه و آله و سلّم) فأخذ المعول منه فضربها به ضربة صدّعها (1) ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي (2) المدينة، كأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبّر وكبر معه المسلمون ، وقال : أضاءت لي منها قصور الحيرة (3) كأنّها أنياب الكلاب.

ثمّ ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم.

ثمّ ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي قصور صنعاء واليمن، وأخبرني جبرئيل (علیه السلام) أن أمتي ظاهرة على كلّها ، فأبشروا.

فقال المنافقون : ألا تعجبون من محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يمنّيكم ويعدكم الباطل،

ص: 468


1- أي : قطعها .
2- اللابتان : جرّتان يكتنفان المدينة، والحرّة : كل أرض ذات حجارة سود.
3- في هامش النسخة الخطية : «الحيرة بكسر الحاء البلد القديم بظهر الكوفة ، شبه انضمام بعضها ببعض مع بياضها وصغرها بأنياب الكلاب ، منه» .

ويخبركم أنّه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون من شدّة الخوف.

فأنزل الله تعالى هذه الآية في ذلك، وعقبه ببيان قدرته على معاقبة الليل والنهار والموت والحياة، وسعة فضله ، فقال : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) بغير تقتير ، دلالة على أنّ من قدر على معاقبة الذل والعزّ وإيتاء الملك ونزعه، قدر على إعطاء المؤمنين الملك والعزّ والنصر ، والغلبة على أهل الكفر .

والولوج : الدخول في مضيق . وإيلاج الليل والنهار إدخال أحدهما في الآخر بالتعقيب أو الزيادة والنقص.

والمراد بإخراج الحيّ من الميت وبالعكس إنشاء الحيوانات من موادها وإماتتها ، أو إنشاء الحيوان من النطفة والنطفة منه . وقيل : إخراج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن .

وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب الميت بالتشديد، والباقون بالتخفيف .

روی جعفر بن محمد عن أبيه، عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما أراد الله تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي (1) ، وشهد الله(2) ، وقل اللهم مالك الملك إلى قوله : - « بِغَيْرِ حِساب»، تعلّقن بالعرش وليس بينهن وبين الله حجاب ، وقلن: يا ربّ تهبطنا إلى دار الذنوب، وإلى من يعصيك ، ونحن معلقات بالطهور وبالقدس ! فقال تعالى : وعزتي وجلالي ما من عبد قرأكنّ في دبر كل صلاة إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان فيه ، وإلّا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلّ يوم سبعين نظرة ،

ص: 469


1- البقرة : 255.
2- آل عمران: 18 .

وإلا قضيت له في كلّ يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلّا أعذته من كلّ عدوّ ونصرته عليه ، ولا يمنعه دخول الجنّة إلا الموت».

وقال معاذ بن جبل: «احتبست عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يوماً لم أصلّ معه الجمعة ، فقال : يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة ؟

قلت : يا رسول الله كان ليوحنّا اليهودي عليّ أوقية من برّ، وكان على بابي يرصدني، فأشفقت أن يحبسني دونك .

قال : أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك ؟

قلت : نعم يا رسول الله .

قال : قل: «اللّهمّ مالك الملك - إلى قوله - بغير حساب وقل يار الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما ما تشاء، وتمنع منهما ما تشاء، صلّ على محمّد وآله ، واقض عنّي ديني . فإن كان عليك ملء الأرض ذهباً لأداه الله عنك».

آیة 28

ولمّا بين سبحانه أنّه مالك الدنيا والآخرة ، القادر على الإعزاز والاذلال نهى المؤمنين أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة جاهلية قبل الإسلام، أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها، حتى لا يكون حبّهم وبغضهم إلا في الله ، لأنّ الإعزاز لا يكون إلا عنده وعند أوليائه المؤمنين، دون أعدائه الكافرين المتصفين بالذلّة من عنده ، فإنّ هذا أصل كبير من أصول الإيمان ، فقال : ( لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : لا ينبغي للمؤمنين أن يتخذوا (الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ) لنفوسهم، وأن يستعينوا بهم

ص: 470

ويلتجؤا إليهم ويظهروا المحبّة لهم (مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لأَنَّ المؤمنين هم الذين أحقاء بالموالاة، لأنّ في موالاتهم كفاية عن موالاة الكفرة .

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ) أي : اتخاذهم أولياء (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ) من ولايته( فِي شَيْءٍ) يصح أن يسمّى ولاية، فإنّ موالاتي المتعاديين لا يجتمعان.

وقوله : «مِنَ اللهِ» في موضع النصب على الحال، لأنه في الأصل : فليس في شيء ثابت من الله ، فلمّا تقدّم انتصب على الحال .

(إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةُ) إلّا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتّقاؤه أو اتقاءً. والفعل معدّى ب«من» ، لأنه في معنى : تحذروا أو تخافوا. وقرأ يعقوب : تقيّة . وهذه رخصة في موالاتهم عند الخوف والمراد بهذه الموالاة المخالفة الظاهرة، والقلب مطمئنّ بالعداوة، فمنع الله تعالى من موالاتهم ظاهراً وباطناً في الأوقات كلّها إلا وقت المخافة باطناً ، فإنّ إظهار الموالاة جائز للتقيّة .

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) يخوّفكم الله على موالاة الكفّار عذاب نفسه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فلا تتعرّضوا لسخطه بموالاة أعدائه ومخالفة أحكامه. وهذا وعيد شديد مشعر بتناهي المنهيّ في القبح. وذكر النفس ليعلم أن المحذّر منه عقاب يصدر من الله ، فلا يبالى دونه بما يحذر من الكفرة .

آیة 29 -30

«قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)»

ولمّا تقدّم النهي عن اتخاذ الكفّار أولياء خوّفوا من الإيطان - بخلاف

ص: 471

الإظهار - فيما نهوا عنه ، فقال : (قُلْ إِن تُخْفُوا) تسرّوا (مَا فِي صُدُورِكُمْ) ما في قلوبكم من ولاية الكفّار أو غيرها ممّا لا يرضى الله . وإنّما ذكر الصدر لأنه محلّ القلب(أو تُبْدُوهُ) تظهروه (يَعْلَمْهُ اللهُ) ولم يخف عليه، فلا ينفعكم إخفاؤه (وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) فيعلم سرّكم وعلنكم (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا عمّا نهيتم عنه .

والآية بيان لقوله : «وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ»، فكأنه قال : ويحذركم ذاته المميّزة من سائر الذوات، لأنها متصفة بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلّها ، وقدرة ذاتيّة تعمّ المقدورات بأسرها، فلا تجسروا على عصيانه، إذ ما من معصية إلا وهو مطّلع عليها ، قادر على العقاب بها.

ولمّا حذر العقاب في الآية المتقدّمة بين وقت العقاب ، فقال :(يَوْمَ تَجِدُ) منصوب ب«اذكر»، يعني: اذكر (يَومَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ) في الدنيا (مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) :أي: مكتوباً في صحفهم يقرؤونه ، ونحوه: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً ) (1) ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) والمعنى: تجد كلّ نفس صحائف أعمالها أو جزاء أعمالها من الخير والشر حاضرة ( تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ) وبين ذلك اليوم (أمَداً بَعِيداً) .

وهذه الجملة الفعليّة حال من الضمير في «عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ». أو خبر ل«مَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ» و«تَجِدُ» مقصور على مفعول «مَا عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ» . أو يكون «يَومَ تَجِدُ» منصوباً ب«تَوَدُّ) يعني : تتمنّى كلّ نفس يوم تجد جزاء أعمالها لو أنّ بينها وبينه مدة بعيدة متمادية ، كقوله : ( يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَينِ) (2) ، ولا تكون «ما» شرطية ، لارتفاع «نود».

ص: 472


1- الكهف : 49 .
2- الزخرف : 38 .

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كرّره للتوكيد والتذكير (وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالعِبَادِ) هذا إشارة إلى أنه تعالى إنّما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ومراعاة لصلاحهم. أو المعطوف والمعطوف عليه مشعران بأنه ذو عقاب ليخشى عذابه ، وذو مغفرة لترجى رحمته .

آیة 31 - 33

«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)»

قيل : إنّ وفد نجران لمّا قالوا : إنّما نعبد المسيح حبّاً للّه ، فردّ الله سبحانه عليهم، وجعل مصداق ذلك اتباع رسوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فقال : (قُلْ) يا محمّد لهؤلاء (إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ ) أي : إن كنتم صادقين في دعوى محبّة الله (فَاتَّبِعُونِي) فيما أمرتكم ونهيتكم.

والمحبة عبارة عن ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، بحيث يحملها على ما يقربها إلى ذلك الشيء . والعبد إذا علم أنّ الكمال الحقيقي ليس إلا لله ، وأنّ كلّ ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله ، لم يكن حبّه إلا الله وفي الله ، وذلك يقتضي إرادة طاعته، والرغبة فيما يقرّبه إليه . فلذلك فسّرت المحبّة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته، والحرص على مطاوعته.

وقوله : (يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) جواب الأمر، أي: يرض عنكم ويكشف الحجب المانعة الوصول إليه عن قلوبكم بالتجاوز عمّا فرط منكم ، فيقربكم من جناب عزّه، ويبوئكم في جوار قدسه. عبّر عن ذلك بالمحبة على

ص: 473

طريق الاستعارة أو المقابلة . (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تحبب إليه بطاعته واتباع نبیّه.

وقيل : نزلت هذه الآية لمّا قالت اليهود : (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأحِبَّاؤُهُ) (1). في أقوام زعموا على عهده أنّهم يحبّون الله ، فأمروا أن يجعلوا لقولهم تصديقاً من العمل .

ثمّ أكّد ذلك بقوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا) يحتمل المضيّ والمضارع، بمعنى : فإن تتولّوا (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) أي : لا يرضى عنهم، ولا يثني عليهم . وإنّما لم يقل : ولا يحبّهم، لقصد العموم، والدلالة على أنّ التولّي كفر ، وأنّه من هذه الحيثية ينفي محبة الله تعالى، وأنّ محبّته مخصوصة بالمؤمنين.

آية 33 - 41

«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ

ص: 474


1- المائدة : 18 .

أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)»

ولمّا أوجب طاعة الرسل، وبيّن أنّها الجالبة لمحبّة الله تعالى، عقب ذلك ببيان ،مناقبهم تحريضاً على إطاعتهم، فقال: (إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) بالرسالة ، والخصائص الروحانية، والفضائل الجسمانية ، ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم.

وآل إبراهيم : إسماعيل وإسحاق وأولادهما. وقد دخل فيهم الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

وقيل : إن آل إبراهيم هم آل محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، الذين هم أهل بيته، ومن اصطفاه الله تعالى واختاره من خلقه، لا يكون إلا معصوماً مطهراً عن القبائح. وعلى هذا، فيجب أن يكون الاصطفاء مخصوصاً بمن كان معصوماً من آل إبراهيم، نبياً كان أو إماماً.

ص: 475

وآل عمران موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب . أو(1) عيسى وأمّه مريم بنت عمران بن ماثان بن العازار بن أبي يوذ بن رب بابل بن ساليان بن يوحنّا بن أوشيا بن أموذ بن مشكي بن حارقار بن أجاز بن يونام ابن عرزیا بن یوزام بن ساقط بن ایشا بن راجعيم بن سليمان بن داود بن ایشا بن عومل بن اينا بن سلمون بن ياعر بن يخشون بن عمياد بن رام بن خضروم بن فارص بن يهودا بن يعقوب (2) (علیه السّلام) . وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة .

(ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) حال أو بدل من الآلين، أو منهما ومن نوح، أي: ذرّيّة واحدة متسلسلة متشعبة بعضها من بعض . وقيل : بعضها من بعض في الدين والذرّيّة الولد، تقع على الواحد والجمع ، فعليّة من الذرّ، أو فعولة من الذرء. أبدلت همزتها ياءً، ثمّ قلبت الواو ياءً وأدغمت .

(وَاللهُ سَمِيعٌ) بأقوال الناس عَلِيمٌ) بأعمالهم ، فيصطفي من كان مستقيم القول والعمل . أو سميع بقول امرأة عمران، عليم بنيتها .

(إذ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي) فينتصب به «إذ». وقيل : نصبه بإضمار «اذكر». وهذه حنّة بنت فاقوذا، وأخت إيشاع زوجة زكريا، جدة (3) عيسى(علیه السّلام). وكان يحيى ومريم ابني خالة من الأب .

روي أنّ حنّة كانت عجوزاً، فبينا هي في ظلّ شجرة إذ رأت طائراً يطعم فرخه فحنّت إلى الولد وتمنّته ، فقالت : اللهم إنّ لك عليّ نذراً إن رزقتني ولداً أن اتصدق به على بيت المقدس، فيكون من خدمه فحملت بمريم وهلك عمران. وكان هذا النذر مشروعاً في عهدهم للغلمان، فلعلها بنت الأمر على التقدير، أو

ص: 476


1- أي : آل عمران: عيسى وأمّه ....
2- في ضبط هذه الأسماء اختلاف ، راجع تفسير البيضاوي 2 : 14 .
3- أي : أن حنّة - وهي أم مريم - جدة عيسى (علیه السّلام).

طلبت ذكراً.

(محرّراً) معتقاً لخدمته، لا يد لي عليه، ولا أستخدمه ولا أشغله بشيء، أو مخلصاً للعبادة. ونصبه على الحال.

روي عن الصادق (علیه السّلام): «أن الله أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ولداً مباركاً يبرىء الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ،فحملت حنّة ، فقالت : ربّ إنِّي نذرت لك ما في بطني محرّراً».

(فَتَقَبَّلْ مِنِّي) ما نذرته قبول رضا (إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ) بما أقول ( العَلِيمُ) بما أنوي .

﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) وكانت ترجو أن يكون غلاماً ، خجلت واستحيت منكّسة الرأس (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها) حال كونها (أنثى) الضمير لما في بطنها، وتأنيثه لأنه كان أنثى .

فإن قلت : كيف جاز انتصاب «أنثى» حالاً من الضمير في «وَضَعْتُهَا» وهو كقولك: وضعت الأنثى أنثى ؟

قلت : الأصل : وضعته أنثى، وإنّما أنث لأنّ تأنيثها علم من الحال، فإنّ الحال وصاحبها بالذات ،واحد أو على تأويل مؤنّث ، كالنفس والحبلة . وإنّما قالته تحسّراً وتحزّناً إلى ربّها ، لأنها كانت ترجو أن تلد ذكراً، ولذلك نذرت تحريره.

وقال الله تعالى في جوابها : (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أي: بالشيء الذي وضعته . وهو استئناف من الله تعالى تعظيماً لموضوعها، وتجهيلاً لها بشأنها. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب : وَضَعْتُ ، على أنّه من كلامها تسلية لنفسها . ورويت هذه الرواية عن علي(علیه السّلام) ، أي : ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر تسلية.

( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأنْثَى) بيان لقوله : «واللهُ أَعْلَمُ» أي: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت واللام فيهما للعهد. ويجوز أن يكون من قولها بمعنى:

ص: 477

وليس الذكر والأنثى سيّان في ما نذرت ، فتكون اللام للجنس ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾ عطف على ما قبلها من مقالها ، وما بينهما اعتراض . وإنّما ذكرت ذلك لربّها تقرّباً إليه ، وطلباً لأن يعصمها ويصلحها ، حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها ، فإنّ مريم في لغتهم بمعنى العابدة .

روى الثعلبي بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران ،وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

(وَإِنِّي أعِيدُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَها) أجيرها بحفظك( مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجيمِ )المطرود. وأصل الرجم الرمي بالحجارة .

وعن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال: «ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد ، فيستهلّ صارخاً من مسّه إلا مريم وابنها». ومعناه أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها ، فإنّ الله عصمهما ببركة هذه الاستعاذة».

(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا) فرضي بها في النذر مكان الذكر (بَقَبُولٍ حَسَنٍ) بوجه حسن تقبل به النذائر ، وهو إقامتها مقام الذكر، أو تسلّمها من أمّها عقيب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسدانة. ويجوز أن يكون مصدراً على تقدير مضاف، أي: بأمر ذي قبول حسن، وأن يكون «تقبل» بمعنى : استقبل ، كتقضى وتعجّل، بمعنى : استقضى واستعجل ، يقال : استقبل الأمر إذا أخذ بأوّله وعنفوانه، أي: فيأخذها في أول أمرها حين ولدت قبل أن تكبر وتصلح للسدنة بقبول حسن .

روي: «أنّ حنّة لما ولدتها لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت : خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، فإنّ بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم، فقال زكريا : أنا أحق بها، لأنّ خالتها كانت عندي فأبوا إلا القرعة، وكانوا سبعة وعشرين،

ص: 478

فانطلقوا إلى نهر فالقوا فيه أقلامهم، فطفا قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفّلها».

﴿ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً) مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها :أي: جعل نشوءها نشوءاً حسناً، وربّاها تربية حسنة، وأصلح أمرها في جميع حالاتها (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) شدّد الفاء حمزة وعاصم ، والفعل الله تعالى، بمعنى : وضمّها إليه ، وجعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها. وقصر وا زكريا غير عاصم في رواية ابن عيّاش وخفّف الباقون ومدّوا زكريّاء مرفوعاً.

(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ) قيل : إِنه بنى لها زكريّا محراباً في المسجد، أي: الغرفة التي بنيت لها يصعد إليها بسلّم كباب الكعبة . وقيل : أشرف مواضعه ومقدّمها ، سمّي به لأنه محلّ محاربة الشيطان، كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس (وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً) جواب «كلّما» وناصبه.

وروي أنه كان لا يدخل عليها غيره، وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.

(قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَذَا) من أين هذا الرزق الآتي في غير أوانه، والأبواب مغلقة عليك ؟ وهو دليل على جواز الكرامة للأولياء. وجعل ذلك معجزة زكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه .

(قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله) فلا تستبعده . قيل : تكلّمت صغيرة كعيسى ، ولم ترضع ثدياً قط ، وكان رزقها ينزل عليها من الجنّة ﴿إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) بغير تقدير ، لكثرته ، أو بغير استحقاق، تفضّلاً منه بغير محاسبة ومجازاة على عمل . وهو يحتمل أن يكون من كلامها وأن يكون من كلام الله تعالى.

روى صاحب الكشّاف (1) وغيره من المفسّرين المخالفين والمنافقين أنّ

ص: 479


1- الكشّاف 1 : 358 ، تفسير البيضاوي 2 : 17 .

النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) جاع في زمن قحط، فأهدت له فاطمة رغيفين وبضعة لحم آثرته بها ، فرجع بها إليها وقال : هلمّي يا بنيّة فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً، فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله .

فقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لها : أنى لك هذا ؟

فقالت : هو من عند الله ، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب .

فقال عليه الصلاة والسلام: «الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل. ثمّ جمع رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته، فأكلوا عليه حتى شبعوا، وبقي الطعام كما هو ، فأوسعته فاطمة على جيرانها».

(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) في ذلك المكان أو الوقت، إذ يستعار هنا وثمّ وحيث للزمان وإن كانت موضوعة للمكان .

لما رأى حال مريم من كرامتها على الله ومنزلتها من الله (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةٌ طَيِّبَةً) ولداً مباركاً تقياً نقياً من ايشاع كما وهبتها لأختها حنّة العجوز العاقر ، أي : لمّا رأى الفواكه في غير أوانها انتبه على جواز ولادة العاقر من الشيخ فسأل وقال : ربّ هب لي من لدنك ذرّيّة، لأنه لم يكن على الوجوه المعتادة وبالأسباب المعهودة (إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) مجيبه .

(فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ) أي : من جنسهم ، كقولهم: زيد يركب الخيل، فإنّ المنادي كان جبرئيل وقرأ حمزة والكسائي : فناداه بالإمالة والتذكير . ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ) أي : قائماً في الصلاة، ويصلّي» صفة «قائم» أو خبر آخر ، أو حال عن الضمير في «قائم».

(أنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) أي: بأنّ الله . وقرأ ابن عامر وحمزة بالكسر على إرادة القول ، أو لأنّ النداء ضرب من القول . وقرأ حمزة والكسائي : يبشرك بفتح

ص: 480

الياء والتخفيف ، من : بشره يبشره. ويحيى إن كان أعجميّاً فإنّما منع من الصرف للتعريف والعجمة ، وإن كان عربيّاً فللتعريف ووزن الفعل .

(مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ) أي : بعيسى، سمّي بذلك لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله ، وهو قوله : كن من غير سبب ، أي : وجد بأمره تعالى دون أب ، فشابه البدعيّات التي هي عالم الأمر . أو بكتاب الله تعالى، سمّي كلمة كما قيل كلمة الحويدرة (1) القصيدته ﴿وَسَيِّداً) يسود قومه ويفوقهم في الشرف والعلم والعبادة أو الحال ، وكان فائقاً للناس كلّهم في أنّه ما هم بمعصية (وَحَصُوراً) مبالغاً في حبس النفس عن مقاربة النساء وسائر الشهوات والملاهي .

روي: «أنّه مرّ في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للّعب خلقت».

(وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ ) أي : رسولاً شريفاً رفيع المنزلة ناشئاً من الأنبياء الصالحين ، أو كائناً من عدادهم.

(قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ) استبعاداً من حيث العادة، أو استعظاماً، أو تعجّباً، أو استفهاماً عن كيفية حدوثه ( وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أدركني كبر السن وأثّر فيّ وأضعفني. وكان له تسع وتسعون سنة . وقيل : مائة وعشرون سنة، ولامرأته ثمان وتسعون سنة . ﴿وَامْرَأتِي عَاقِرٌ) لا تلد من العقر وهو القطع ، لأنها ذات عقر من الأولاد.

( قَالَ كَذَّلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) أي : يفعل ما يشاء من الأفعال العجيبة الخارقة للعادة، مثل ذلك الفعل، وهو إنشاء الولد من شيخ فان وعجوز عاقر ، أو كما أنت عليه وزوجك من الكبر والعقر يفعل ما يشاء من خلق الولد. أو «كذلك الله» مبتدأ

ص: 481


1- اسم شاعر .

وخبر ، أي : الله على مثل هذه الصفة، ويفعل ما يشاء» بيان له أو «كذلك» خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك ، و«الله يفعل ما يشاء» بيان له .

(قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة أعرف بها وقت الحمل لأستقبله بالبشاشة والشكر، وتزيح مشقة الانتظار .

(قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) أن لا تقدر على تكليم الناس ثلاثاً. وإنّما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصّة ليخلص المدّة لذكر الله وشكره ، قضاءً لحقّ النعمة . (إلَّا رَمْزاً) إشارة بنحو يد أو رأس ، وأصله التحرّك، ومنه الراموز للبحر . والاستثناء منقطع ، وقيل : متّصل. والمراد بالكلام ما دلّ على الضمير، وهي المعجزات الباهرة .

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا) في أيّام الحبسة ،وهو مؤكد لما قبله، مبيّن للغرض منه . وتقييد الأمر بالكثرة يدلّ على أنه لا يفيد التكرار (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ) من زوال الشمس إلى أن تغيب . وقيل : من العصر . (وَالْإِبْكَارِ ) من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

آية 42 - 43

«وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)»

(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ) معطوفة على (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ) (1)، أي : اذكر ، إذ كلّموها شفاهاً - كرامة لها - هذا القول إنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ أوّلاً حين تقبّلك

ص: 482


1- آل عمران : 35 .

من أمّكِ ، ولم يقبل قبلك أنثى ، وربّاكِ واختصكِ بأنواع الكرامة، وفرّغكِ للعبادة، وأغناكِ برزق الجنّة عن الكسب.

( وَطَهَّرَكِ) من الأدناس والأقذار العارضة للنساء، من الحيض والنفاس .

(وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ) ثانياً، بأن أرسل إليكِ الملائكة، ووهب لكِ عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء، وبرّأكِ ممّا قذفه اليهود بإنطاق الطفل، وجعلكِ وابنكِ آية للعالمين. ومن أنكر الكرامة لغير الأنبياء أنّ ذلك إنما كانت معجزة زكريا ، أو تقدمة لنبوّة عيسى، فإنّ الإجماع ثابت على أنه تعالى لم يستنبىء امرأة، لقوله : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً ) (1) ، وبإجماع أهل البيت والشافعية يجوز ظهور الكرامة لغير الأنبياء من أهل التقوى والصلاح .

(يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمرت بالصلاة في الجماعة بذكر هيآتها وأركانها من القنوت والركوع والسجود ، مبالغة في المحافظة عليها. وقدّم السجود على الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم، أو للتنبيه على أنّ الواو لا توجب الترتيب، أو ليقترن «اركعي» بالراكعين، للإيذان بأنّ من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلّين.

وقيل : المراد بالقنوت إدامة الطاعة ، كقوله تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً) (2). وبالسجود الصلاة، كقوله تعالى : ( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) (3) وبالركوع الخشوع والإخبات.

ص: 483


1- الأنبياء : 7 .
2- الزمر : 9 .
3- ق : 40 .

آية 44 - 51

«ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)» قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)»

(ذَلِكَ) إشارة إلى ما سبق من قصة زكريا ويحيى ومريم (مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ

ص: 484

نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي: من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي ، لأنّ علم ما غاب عن الإنسان لا يمكن حصوله إلّا بدراسة الكتب أو بالتعلّم أو بالوحي ، ومعلوم أنك لم تشاهد القصص ولم تقرأها من كتاب ولا تعلّمتها ، إذ كان نشؤك بين قوم لم يكونوا أهل كتاب، فوضح أنّك لم تعرف ذلك إلا بالوحي .

(وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ ) أقداحهم التي يكتبون بها التوراة في النهر تبرّكاً، يقترعون بها على مريم، فارتزّ (1) قلم زكريا وارتفع فوق الماء، ورسبت أقلام الباقين من الأحبار كما ذكر . والمراد تقرير كونه وحياً على سبيل التهكم بمنكريه ، فإنّ طريق معرفة الوقائع المشاهدة والسماع وكان عدم السماع معلوماً عندهم علماً يقينيّاً لا شبهة فيه عندهم ، فبقي أن يكون الاتهام باحتمال العيان، ولا يظن به عاقل، ونحوه: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِي) (2) ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ) (3).

وقوله : ( أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) متعلّق بمحذوف دلّ عليه «يلقون أقلامهم» ، أي: يلقونها ليعلموا أو لينظروا أو ليقولوا أيّهم يكفل مريم (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في شأنها تنافساً في كفالتها .

وفي هذه الآية دلالة على أن للقرعة مدخلاً في تميّز الحقوق. وقد قال الصادق (علیه السّلام) : «ما تقارع قوم ففوّضوا أمورهم إلى الله تعالى إلّا خرج سهم المحق».

وقال: «أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى الله تعالى، أليس الله تعالى يَقُول : (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (4)؟».

وقال الباقر (علیه السّلام): أوّل من سوهم عليه مريم بنت عمران، ثمّ تلا: ﴿وَمَا كُنتَ لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) . والسهام ستة . ثمّ استهموا في يونس. ثمّ كان عبدالمطّلب ولد له تسعة بنين ، فنذر في العاشر إن رزقه الله غلاماً أن يذبحه،

ص: 485


1- أي : ثبت.
2- القصص : 44 و 46 .
3- القصص : 44 و 46 .
4- الصافات : 141 .

فلما ولد عبد الله لم يقدر أن يذبحه و رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في صلبه، فجاء بعشرة من الابل فساهم عليها وعلى عبد الله ، فخرجت السهام على عبدالله ، فزاد عشراً، فلم نزل السهام تخرج على عبدالله ويزيد عشراً ، فلما أن أخرجت مائة خرجت السهام على الإبل، فقال عبدالمطّلب : ما أنصفت ربّي، فأعاد السهام ثلاثاً فخرجت على الإبل ، فقال : الآن علمت أنّ ربّي قد رضي بها ، فنحرها».

(إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ) بدل من «إذ قالت»(1) الأولى، وما بينهما اعتراض. ويجوز أن يبدل من «إذ يختصمون»، على أنّ وقوع الاختصام والبشارة في زمان متّسع ، كقولك : لقيته سنة كذا. (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ) المسيح لقبه ، وهو من الألقاب المشرّفة، كالصديق والفاروق اللّذين من ألقاب أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه . وأصله بالعبرانية : مشيحا، فعرّبته العرب. ومعناه : المبارك، كقوله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ ﴾ (2). وكذلك عيسى معرّب ايشوع .

واشتقاق المسيح من المسح ، لأنه مسحه جبرئيل (علیه السّلام) بجناحه وقت ولادته ، يعوّذه بذلك من الشيطان . وقيل : لأنه مسح بالبركة ، فإنّه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلّا برىء . وقيل : لأنه مسح الأرض ولم يقم في موضع . وقيل : عيسى من العيس، وهو بياض تعلوه حمرة .

وإنّما قيل : اسمه المسيح عيسى بن مريم وهذه ثلاثة أشياء، والاسم منها عيسى والمسيح لقب من ألقابه الشريفة والابن صفة ، لأن الاسم يكون علامة للمسمى يتميّز بها عن غيره، فكأنه قيل : إن مجموع هذه الثلاثة هو الذي يتميز بذلك عن غيره . ويجوز أن يكون عيسى خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو عيسى ، وابن مريم صفته .

ص: 486


1- مرّ تفسيرها في ص : 482 .
2- مریم: 31 .

وإنّما قيل : ابن مريم والخطاب لها تنبيهاً على أنه يولد من غير أب ، إذ الأولاد تنسب إلى الآباء ولا تنسب إلى الأمّ إلّا إذا فقد الأب ، وبذلك فضّلت واصطفيت على نساء العالمين.

(وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) حال مقدّرة من «كلمة». وهي وإن كانت تكرة لكنّها موصوفة . وتذكيره للمعنى . والوجاهة في الدنيا النبوّة والرئاسة على الناس وفي الآخرة الشفاعة وعلوّ الرتبة . ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ من الله تعالى. وهذا أيضاً حال . وقيل : إشارة إلى علوّ درجته في الجنّة، أو رفعه إلى السماء وصحبة الملائكة .

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) في موضع الحال من «يكلّم» ﴿وَكَهْلاً» عطف عليه ، أي : يكلّمهم حال كونه طفلاً وكهلاً كلام الأنبياء من غير تفاوت بین حال الطفوليّة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، ويستنبأ فيها الأنبياء (علیهم السّلام). والمهد مصدر، سمّي به ما يمهد للصبي من مضجعه . وقيل : إنه رفع شاباً ، والمراد كهلاً بعد نزوله . وذكر أحواله المختلفة المتنافية إرشاد إلى أنه بمعزل عن الألوهية . ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ حال ثالث من «كلمة» أو ضميرها الذي في «يكلّم».

(قَالَتْ) تعجباً واستبعاداً عادياً، أو استفهاماً عن أنه يكون بتزوّج أو غيره ﴿ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ )القائل جبرئيل (علیه السّلام) ، أو الله جل جلاله وجبرئيل (علیه السّلام) حكى لها قوله تعالى ﴿إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إشارة إلى أنّه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرّجاً بأسباب وموادّ ، يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك .

وقوله: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) وعلم الشريعة (وَالتَّورَيَةَ وَالْإِنجِيلَ) كلام مبتدأ ذكر تطييباً لقلبها ، وإزاحة لما همّها من خوف اللوم لمّا علمت أنّها تلد من غير زواج، أو عطف على يبشرك» أو «وجيها». والكتاب الكتبة، عن ابن جريج . أعطى الله عيسى (علیه السّلام) تسعة أجزاء من الخطّ ، وسائر الناس جزءاً. وقيل:

ص: 487

أراد به جنس الكتب المنزلة ، وخص الكتابان لفضلهما .

(وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) منصوب بمضمر على إرادة القول، تقديره : ويقول : أرسلت رسولاً بأنّي قد جئتكم، أو بالعطف على الأحوال المتقدّمة، متضمناً معنى النطق، وكأنه قال : وناطقاً بأنّي قد جئتكم. و تخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم، أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم .

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) في موضع النصب بدل من «أني قد جئتكم». أو في موضع جرّ بدل من «آية». أو في موضع رفع على : هي أني أخلق لكم . ومعناه : أقدّر لكم وأصوّر شيئاً مثل صورة الطير . (فَأَنفُخُ فِيهِ) الضمير للكاف ، أي : في ذلك المماثل (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) فيصير حيّاً طياراً بأمر الله تعالى . نبّه به على أنّ إحياءه من الله تعالى لا منه. وقرأ نافع : فيكون طائراً. قيل : لم يخلق غير الخفّاش .

(وَأَبْرِىءُ الْأَكْمَه) :أي: الذي ولد أعمى . وقيل : الممسوح العين . (وَالْأَبْرَصَ) الذي به وضح (1).

روي أنه ربما يجتمع عليه ألوف من المرضى ، وما يداوي إلا بالدعاء.

وفي الكشّاف: «وروي : وروي أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم ،أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى ، وما كانت مداواته إلّا بالدعاء وحده» (2).

(وَأَحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ) كرّر (بإذن الله» دفعاً لتوهم الألوهية، فإنّ الإحياء ليس من جنس الأفعال البشريّة .

قيل : إنّه أحيا أربعة أنفس:

عازر : وكان صديقاً له ، وكان قدمات منذ ثلاثة أيام ، فقال لأخته : انطلقي بنا

ص: 488


1- الوضح : البرص .
2- الكشّاف 1 : 364 .

إلى قبره، ثمّ قال : اللّهمّ ربّ السماوات السبع ، وربّ الأرضين السبع، إنك أرسلتني إلى بني اسرائيل أدعوهم إلى دينك، وأخبرهم بأني أحيي الموتى، فأحي عازر فقام عازر فخرج من قبره، وبقي وولد له.

وابن العجوز ؛ مرّ به میّتاً على سريره فدعا الله عيسى (علیه السّلام) فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرّجال ولبس ثيابه، ورجع إلى أهله، وبقي وولد له.

وابنة العاشر : قيل له : أتحيبها وقد ماتت أمس ؟ فدعا الله فعاشت وبقيت ، وولدت .

وسام بن نوح ؛ دعا عليه باسم الله الأعظم، فخرج من قبره وقد شاب نصفه فقال : قد قامت القيامة ؟ قال : لا ، ولكنّي دعوتك باسم الله الأعظم . قال : ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان، لأن سام بن نوح قد عاش خمسمائة سنة وهو شابّ، ثمّ قال له : مت، قال: بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت، فدعا الله سبحانه ففعل .

قال الكلبي: «كان عيسى (علیه السّلام) يحيي الأموات ب«يا حي يا قيوم».

وإنما خص عيسى (علیه السّلام) بهذه المعجزات لأن الغالب كان في زمانه الطبّ، فأراهم الله سبحانه الآيات من جنس ما عيه لتكون المعجزة أظهر، كما أنّ الغالب لمّا كان في زمان موسى (علیه السّلام) السحر أتاهم من جنس ذلك بما أعجزهم عن الإتيان بمثله، وكان الغالب في زمن نبينا (علیه السّلام) البيان والبلاغة والفصاحة، فأراهم الله سبحانه المعجزة بالقرآن الذي بهرهم ما فيه من عجائب النظم وغرائب البيان، ليكون أبلغ في باب الإعجاز.

(وَأَنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) بالمغيّبات من أحوالكم التي لا تشكّون فيها ، كأن يقول : يا فلان تغذيت بكذا وكذا، وخبىء لك كذا .

(إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي : فيما ذكرت لكم (لآيَةً) حجّة ومعجزة ودلالة (لَكُمْ إِن

ص: 489

كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) موفقين للإيمان، فإنّ غيرهم لا ينتفع بالمعجزات، أو مصدقين للحق غير معاندين .

(وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَيَةِ) عطف على رسولاً» على الوجهين أو منصوب بإضمار فعل دلّ عليه «قد جئتكم» أي : وجئتكم مصدّقاً.

(وَلِأحِلَّ لَكُمْ) مقدّر بإضمار «جئتكم». أو محمول على قوله: «بآية» أي: جئتكم بآية من ربّكم ولأحل لكم ، أو معطوف على معنى «مصدّقاً» كقولهم : جئتك معتذراً ولأطيب قلبك (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) أي : في شريعة موسى (علیه السّلام) كالشحوم، والثروب (1) ، والسمك، ولحوم الإبل ، والعمل في السبت. وهو يدلّ على أنّ شرعه كان ناسخاً لشرع موسى . ولا يخلّ ذلك بكونه مصدّقاً للتوراة ، كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بتناقض وتكاذب، فإنّ النسخ في الحقيقة بيان و تخصيص في الأزمان.

(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) أي : جئتكم بآية أخرى ألهمنيها ربّكم ، وهي قوله : ( إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) فَإِنَّه دعوة الحق المجمع عليها فيما بين الرّسل الفارقة بين النبي والساحر. أو جئتكم بآية على أن الله ربِّي وربكم.

وقوله : « فَاتَّقوا الله وأطيعون اعتراض والظاهر أنه تكرير لقوله: «قد جئتكم بآية من ربكم» أي : جئتكم بآية أخرى مما ذكرت لكم. وقوله : «فاتقوا الله» مرتب عليه أي لمّا جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة فاتقوا الله في مخالفتي وتكذيبي، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه. ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل ، فقال : «إنّ الله رَبِّي وربِّكم إشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد. وقال: «فاعبدوه» إشارة إلى استكمال القوة

ص: 490


1- الثُروبُ جمع الثَرْب ، وهو الشحم الرقيق الذي على الكرش والأمعاء.

العمليّة، فإنّه بملازمة الطاعة التي هي الإيمان بالأوامر والانتهاء عن المناهي. وهذا حجّة على النصارى في قولهم : ( الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ )(1). والمعنى : لا تنسبوني إليه، فأنا عبد له كما أنكم عبيد له. ثمّ قرّر ذلك بأن بين أن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة .

آية 52 - 58

«فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)» وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)»

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) :أي: تحقّق كفرهم عنده تحقق ما يدرك

ص: 491


1- التوبة : 30 .

بالحواس (قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ ) ملتجأ إلى الله أو ذاهباً إليه . ويجوز أن يتعلّق الجارّ ب«أنصاري» مضمّناً معنى الإضافة أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله تعالى في نصري، بأن ينصروني كما ينصرني الله . وقيل : «إلى» هنا بمعنى مع ، أو في أو اللام.

(قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) حواري الرجل صفوته وخاصته وخالصته ، من الحور وهو البياض الخالص. ويقال للنساء الحضريات الحواريّات، لخلوص ألوانهنّ ونظافتهنّ. سمّي به أصحاب عيسى لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم، أو لأنهم كانوا نورانيين عليهم أثر العبادة . قيل : كانوا ملوكاً يلبسون البيض، استنصر بهم عيسى (علیه السّلام) من اليهود. وقيل : قصارين يحوّرون الثياب ، أي : يبيضونها . وقيل : كانوا اثني عشر رجلاً قالوا لجوابه : (نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ ) أي : أنصار دينه (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ) كن شاهداً لنا يوم القيامة حسين تشهد الرسل لقومهم وعليهم( بأنا مُسْلِمُونَ ).

ثم ناجوا ربهم وقالوا: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) أي : مع الشاهدين بوحدانيتك ، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم، أو مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنهم شهداء على الناس.

روي أنهم اتبعوا عيسى وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا، فيضرب بيده على الأرض سهلاً كان أو جبلاً ، فيخرج لكلّ إنسان منهم رغيفين يأكلهما ، وإذا عطشوا قالوا يا روح الله عطشنا، فيضرب بيده على الأرض سهلاً كان أو جبلاً، فيخرج ماء فيشربون . قالوا : يا روح الله من أفضل منّا ، إذا شئنا أطعمتنا ، وإذا شئنا سقيتنا ، وقد آمنا بك واتبعناك ؟ قال : أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه ، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء.

( وَمَكَرُوا) أي: الذين أحسّ عيسى منهم الكفر من اليهود، بأن وكلوا عليه

ص: 492

من يقتله غيلة (وَمَكَرَ الله) حين رفع عيسى (علیه السّلام) وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل . والمكر من حيث إنّه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرّة لا يسند إلى الله تعالى، إلا على سبيل المقابلة والازدواج (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أقواهم مكراً، وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب.

عن ابن عبّاس: «لمّا أراد ملك بني اسرائيل قتل عیسی (علیه السّلام) دخل خوخته (1) وفيها كوّة ، فرفعه جبرئيل من الكوّة إلى السماء، فقال الملك لرجل منهم خبيث : ادخل عليه فاقتله، فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى، فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت، فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عیسی» .

قال وهب: «أسروه ونصبوا له خشبة ليصلبوه ، فأظلمت الأرض ، وأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم، فأخذوا رجلاً ألقى الله عليه شبه عيسى يقال له يقال له يهوذا ، وهو الذي دلّهم على المسيح، فصلبوه ظنّاً منهم أنه عیسی» .

ولمّا بيّن سبحانه ما همّ به قوم عيسى من المكر به وقتله، عقبه بما أنعم عليه من لطف التدبير وحسن التقدير ، فقال : (إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى) ظرف ل«مكر «الله» أو «خير الماكرين»، أو لمضمر مثل: وقع ذلك (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) مستوفي أجلك ، يعني : أنّي عاصمك من أن يقتلك الكفّار، ومؤخّرك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم أو قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته .

ويدلّ على القولين ما روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «إنّ عيسى لم يمت ، وإنّه راجع إليكم قبل يوم القيامة». وقد صح عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «كيف أنتم إذا نزل ابن

ص: 493


1- الخوخةُ : مخترق ما بين كلّ دارين لم ينصب عليها باب . والكُوَّةُ : خرق في الحائط تؤدّي الضوء إلى البيت . لسان العرب 3 : 14 .

مريم فيكم وإمامكم منكم ؟! » . رواه البخاري (1) ومسلم (2) في الصحيح.

وقيل : معناه متوفّي نفسك بالنوم، إذ روي أنه رفع نائماً لئلا يلحقه خوف، فلمّا استيقظ وجد نفسه في السماء آمناً مقرباً.

وقيل : مميتك من الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت .

وقيل : أماته الله سبع ساعاتٍ ، ثم رفعه إلى السماء .

(رَافِعُكَ إِلَيَّ ) إلى سمائي التي هي محلّ كرامتي ومقرّ ملائكتي ( وَمُطَهَّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من سوء جوارهم أو قصدهم.

(وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) يعلونهم بالحجّة أو السيف فى أكثر الأحوال ومتّبعوه : من آمن بنبوّته من المسلمين ومن اليهود والنصارى وإلى الآن لم تسمع غلبة اليهود عليهم ، ولم يتفق لهم ملك ودولة .

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) الضمير لعيسى ومن تبعه وكفر به، وغلّب المخاطبين على الغائبين (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين.

ويفسّر الحكم ويفصله قوله: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا) بإذلالهم بالقتل والأسر والسبي والخسف والجزية( وَالْآخِرَةِ )بالعذاب الأبدي في النار ( وَمَا لَهُمْ مِن نَاصِرِينَ) أعوان يدفعون عنهم عذاب الله .

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أجُورَهُمْ ) أي : يوفّر عليهم ويتمّ أجور أعمالهم . وقرأ حفص ورويس عن يعقوب : فيوفّيهم بالياء، والباقون بالنون . ﴿ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) أي : لا يريد تعظيمهم وإثابتهم، ولا يرحمهم ولا يثني عليهم. هذا تقرير للتفصيل المذكور.

وهذه الآية حجّة على من قال بالإحباط ، لأنه تعالى وعد بتوفية الأجر ، وهو

ص: 494


1- صحيح البخاري 4: 205 .
2- صحیح مسلم 1 : 136 ح 244 .

الثواب، والتوفية منافية للإحباط.

( ذَلِكَ) إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره. وهو مبتدأ خبره (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) بواسطة جبرئيل . وقوله : ( مِنَ الآیَاتِ) خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف، أو حال من الهاء. ويجوز أن يكون خبراً و «نتلوه» حالاً، على أنّ العامل معنى الإشارة، وأن يكونا خبرين. ومعناه من جملة الحجج الدالة على صدق نبوّتك ، إذا علمتهم بما لا يعلمه إلّا قارىء كتاب أو معلّم، ولست بواحد منهما، فلم يبق إلّا أنك قد عرفته من طريق الوحي. ﴿ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) المشتمل على الحكم، أو المحكم الممنوع عن تطرّق الخلل إليه. والمراد به القرآن. وقيل : اللوح.

آية 59

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ من تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فيكون ﴿59﴾

عن ابن عباس : أن العاقب والسيد ومن معهما من وفد نجران قالوا لرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): هل رأيت ولداً من غير ذكر ؟ فنزلت: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) إنّ شأن عيسى وحاله العجيبة كشأن آدم وقوله : (خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ) جملة مفسّرة للتمثيل، مبينة لما به الشبه أي خلق آدم من تراب ولا أب هناك ولا أم، فكذلك عيسى خلق من غير أب فهو مثيله في أحد الطرفين، والوجود من غير أب وأمّ أغرب وأدخل في باب خرق العادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب ، ليكون أقطع للخصم ، وأحسم لمادة الشبهة . والمعنى : قدّره جسداً من طين بدون وساطة الأب والأم.

﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ) أي : أنشأه بشراً حياً سوياً، كقوله : (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً

ص: 495

آخَرَ) (1) أو معناه : قدّر تكوينه من التراب ثمّ كوّنه (فَيَكُونُ) حكاية حال ماضية، أي فكان في الحال على ما أراد والمعنى خلق الله عيسى من الريح، ولم يخلق أحداً قبله من الريح، كما خلق آدم من التراب، ولم يخلق قبله أحداً من التراب.

وعن بعض العلماء : أنّه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون عيسى ؟

قالوا: لأنه لا أب له.

قال : فآدم أولى منه ، لأنه لا أب ولا أمّ له.

قالوا : كان يحيي الموتى.

قال : فحزقيل أولى، لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف.

فقالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص.

قال : فجرجيس أولى، لأنه طبخ وأحرق ثمّ قام سالماً ، أي : قام سالماً وما برص، لأنّ الإنسان إذا طبخ صار أبرص

آية 60 - 63

«الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)»

(الْحَقُّ مِن رَبِّكَ) خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق. وقيل: الحق مبتدأ.

ص: 496


1- المؤمنون : 14 .

ومن ربّك خبره، أي: الحق المذكور من الله فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) خطاب للنبي على طريقة التهييج لزيادة الطمأنينة واليقين ، أو لكلّ سامع .

(فَمَنْ حَاجَّكَ) جادلك وخاصمك يا محمّد من النصارى (فيه) في شأن عيسى (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي: من الأدلّة البينة الموجبة للعلم بأن عيسى عبدي ورسولي (فَقُلْ تَعَالَوْا )هلموا أيّها النصارى بالرأي والعزم إلى حجّة أخرى قاضية فاصلة تميّز الصادق من الكاذب . وقوله : ( نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ) جواب الأمر ، أي : يدع كلّ منّى ومنكم أبناءه أو نساءه أو من نفسه كنفسه إلى المباهلة وإنّما قدّم الأبناء والنساء على النفس لأنّ الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم.

قال في الكشّاف: «فإن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضمّ الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك أكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حين استجراً على تعريض أعزّته وأفلاذ كبده وأحبّ النّاس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى هلك خصمه مع أحبّته وأعزّته هلاك الاستئصال إن تمّت المباهلة .

وخص الأبناء والنساء لأنهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثم كانوا يسوقون مع الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمّون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق.

وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبّه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنّهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها .

وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (علیهم السّلام). وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنّهم

ص: 497

أجابوا إلى ذلك»(1) انتهى كلامه .

واعلم أنّه أجمع المفسّرون على أنّ المراد بأبنائنا الحسن والحسين (علیهما السّلام). قال أبو بكر الرازي: هذا يدلّ على أنّ الحسن والحسين (علیهما السّلام) ابنا رسول الله ، وأن ولد الابنة ابن في الحقيقة .

وقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في حقهما أيضاً: «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا». وفيه تنبيه على كمال فضلهما ، ومزيّة مرتبتهما عند الله وعند رسوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

وبنسائنا (2) فاطمة (علیها السلام)، لأنه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء. وهذا يدلّ على تفضيل الزهراء على جميع النساء. ويعضده ما جاء في الخبر أن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)قال: «فاطمة بضعة منّي، من آذاها فقد آذاني»

وقال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله ليغضب لغضب فاطمة ، ويرضى لرضاها».

وقد صح عن حذيفة أنه قال : سمعت النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يقول: «أتاني ملك فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، أو نساء أمّتى».

وعن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: «أسر النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) شيئاً فضحكت ، فسألتها ، فقالت (علیها السّلام): قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لي : ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمّة أو نساء المؤمنين ، فضحكت لذلك».

وبأنفسنا علي(علیه السّلام) خاصة. وهذا يدلّ على غاية الفضل، وعلوّ الدرجة ، والبلوغ منه إلى حيث لا يبلغه أحد، إذ جعله نفس الرسول ، وهذا لا يدانيه فيه أحد ولا يقاربه. ومما يعضده من الآيات ما صح عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه سئل عن بعض أصحابه، فقال له قائل : فعليّ ؟ فقال : إنما سألتني عن الناس، ولم تسألني عن

ص: 498


1- الكشّاف 1 : 369 .
2- أي : المراد بنسائنا .... عطفاً على قوله : المراد بأبنائنا قبل أسطر .

نفسي.

وقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لبريدة الأسلمي : «يا بريدة لا تبغض عليّاً، فإنّه منّي وأنا منه، إن النّاس خلقوا من شجر شتّى ، وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة».

وقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)بأحد وقد ظهرت نكايته في المشركين، ووقايته إياه بنفسه،حتى قال جبرئيل : يا محمد إن هذه هي المواساة، فقال: «يا جبرئيل إنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما».

(ثُمَّ نَبْتَهِلْ ) أي : نتباهل، بأن نلعن الكاذب منّا . والبهلة بالضم وبالفتح اللعنة وأصله الترك من قولهم : بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار والصرار : خيط يشدّ فوق الخلف (1) لئلا يرضعها ولدها . (فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) عطف فيه بیان.

قال في الكشّاف (2) والأنوار (3) والمجمع (4) على اختلاف الألفاظ واتفاق المعاني : وروي أنّ رسول الله لما دعاهم إلى المباهلة استمهلوا إلى صبيحة غد من يومهم ذلك ، فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - : يا عبد المسيح ما ترى ؟

قال : والله لقد عرفتم أنّ محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيّاً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكن، فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

ص: 499


1- الخِلْف : حكمة ضرع الناقة .
2- الكشّاف 1 : 368 - 369 .
3- أنوار التنزيل 2 : 22 .
4- مجمع البيان 2 : 451 - 452 .

قال لهم الأسقف : انظروا محمداً في غد ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه، فإنه على غير شيء.

فلمّا كان الغد جاء النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) آخذاً بيد علي، محتضناً الحسين، والحسن يمشي بين يديه، وفاطمة ابنته تمشي خلفه، وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا . وخرج النصارى يتقدمهم أسقفهم، فلما رأى النبي قد أقبل بمن معه سأل عنهم ، فقيل له : هذا ابن عمه وزوج ابنته، وأحب الخلق إليه . وهذان ابنا بنته من علي ا . وهذه الجارية بنته فاطمة، أعزّ الناس عليه ، وأقربهم إلى قلبه .

وتقدّم رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)وجثا على ركبتيه .

فقال أبو حارثة الأسقف : والله جثا كما جنا الأنبياء للمباهلة . فجبن ولم يقدم على المباهلة .

فقال له السيّد : ادن يا أبا حارثة للمباهلة .

فقال : لا ، إنّي لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة، وأنا أخاف أن يكون صادقاً. ولئن كان صادقاً لم يحل والله علينا الحول وفي الدنيا نصرانيّ يطعم الماء !

فقال الأسقف : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك ، وأن نقرك على دينك، ونثبت على ديننا.

قال : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم. فأبوا .

قال : فإنّي أنا جزكم .

فقالوا: مالنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك، فصالحنا على أن لا تغزونا، ولا تخيفنا، ولا تردّنا عن ديننا، على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة من حلل الأواقي، ألفاً في صفر ، وألفاً في رجب قيمة كلّ حلّة اربعون درهماً، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك. وعلى ثلاثين درعاً عادية من حديد، وثلاثين رمحاً،

ص: 500

وثلاثين فرساً ، إن كان باليمن كيد. فصالحوا على ذلك ، وكتب (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لهم بذلك كتاباً».

وروي أنّ الأسقف قال لهم : «إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني».

وقال النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «والذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم الوادي عليهم ناراً، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلّهم، حتى الطير على الشجر».

فلمّا رجع وفد نجران لم يلبث السيّد والعاقب إلا يسيراً حتى رجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأهدى العاقب له حلّة وعصا وقدحاً ونعلين، وأسلما.

وعن عائشة : «أنّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) خرج و خرج وعليه مرط (1) مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء عليّ فأدخله، ثم قال : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2).

وفي هذه الآية أوضح دلالة على فضل أصحاب الكساء (علیهم السّلام) وعلوّ درجتهم، وبلوغ مرتبتهم في الكمال إلى حد لا يدانيهم أحد من الخلق، وعلى أنّهم علموا أنّ الحق مع النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، لأنهم امتنعوا من المباهلة ، وأقرّوا بالذل والخزي ، وانقادوا لقبول الجزية، فلو لم يعلموا ذلك لباهلوه، وكان يظهر ما زعموا من بطلان قوله في الحال ، ولو لم يكن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) متيقناً بنزول العقوبة بعدوّه دونه لو باهلوا، لما أدخل أولاده وخواص أهله في ذلك، مع شدّة إشفاقه عليهم .

(إنَّ هَذَا) :أي: ما قصّ عليك من نبأ عيسى وغيره (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ)

ص: 501


1- المِرطُ : كلّ ثوب غير مخيط ، أو كساء من صوف ونحوه يؤتزر به ، وجمعه : مروط .
2- الأحزاب : 33 .

والحديث الصدق، فمن خالفك فيه مع وضوح الأمر فهو معاند. هذه بجملتها خبر «إنّ)» ، أو هو فصل يفيد أن ما ذكره في شأن عيسى ومريم حق واللام دخلت فيه لأنّه أقرب إلى المبتدأ من الخبر، وأصلها أن تدخل على المبتدأ ، فإذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل الذي هو أقرب إلى المبتدأ أجوز.

(وَمَا مِنْ إِله إِلَّا الله) صرّح فيه ب«من» الزائدة للاستغراق، تأكيداً للردّ على النصارى في تثليثهم . فالمعنى: وما لكم أحد يستحق إطلاق اسم الإلهيّة إلّا الله ، وانّ عيسى ليس باله كما زعموا وإنّما هو عبدالله ورسوله ولو قال : ما إله إلا الله بغير «من» لم يفد هذا المعنى . (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لا أحد يساويه في القدرة التامة والحكمة البالغة ليشاركه في الألوهية .

(فَإِن تَوَلَّوْا ) فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك ، وعمّا أتيت به من الدلالات والبيِّنات( فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) وعيد لهم. ووضع المظهر موضع المضمر ليدلّ على أنّ التولّي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين والاعتقاد المؤدّي إلى فساد النفس، بل وإلى فساد العالم .

آية 64

«قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)»

ولمّا تمّ الحجاج على القوم دعاهم سبحانه إلى التوحيد ، فقال : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) يعمّ أهل الكتابين . وقيل : يريد به وفد نجران أو يهود المدينة. (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) أَي : عدل( بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) لا يختلف فيها الرسل والقرآن والتوراة والإنجيل وغيرها من الكتب الإلهيّة. ويفسّر الكلمة قوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) أَن

ص: 502

نوحده بالعبادة، ونخلص فيها (وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) ولا نجعل له شريكاً في استحقاق العبادة ، ولا نراه أهلاً لأن يعبد (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَاباً مِن دُونِ الله) فلا نقول : عزير ابن الله ، ولا المسيح ابن الله ، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل ، لأنّ كلّاً منهم بعضنا بشر مثلنا.

روي: «أنّه لما نزلت (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللَّهِ) (1) قال عديّ بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول الله ؟ قال : أليس كانوا يحلّون لكم ويحرّمون، فتأخذون بقولهم ؟ قال : نعم ، قال : هو ذاك». يعني : الأخذ بقولهم هو اتخاذكم إياهم أرباباً .

وروي أيضاً عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال: «ما عبدوهم من دون الله ، ولكن حرّموا لهم حلالاً وأحلّوا لهم حراماً ، فكان ذلك اتخاذهم أرباباً من دون الله ».

وعن الفضيل قال : لا أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق ، أو صلّيت لغير القبلة.

(فَإِن تَوَلَّوْا) عن التوحيد (فَقُولُوا) مقابلة لإعراضهم عن الحقِّ (اشْهَدُوا بِأنَّا مُسْلِمُونَ) أي : لزمتكم الحجّة، فوجب عليكم أن تعترفوا بأنا مخلصون مقرّون بالتوحيد ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما : اعترف بأنّي أنا الغالب، وسلّم لي الغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه: اشهدوا بأنّكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل، حيث تولّيتم عن الحق بعد ظهوره .

وأحسِن بما راعى الله سبحانه في هذه القصة من المبالغات في الإرشاد وحسن التدرّج في الحجاج، فإنّه سبحانه بيّن أوّلاً أحوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية . ثم ذكر ما يحلّ عقدتهم ويزيح شبهتهم، فلمّا رأى

ص: 503


1- التوبة : 31 .

عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز . ثمّ لمّا أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد ، وسلك طريقاً أسهل وألزم، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى (علیه السّلام) والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب . ثمّ لما لم يجد ذلك أيضاً عليهم، وعلم أنّ الآيات والنذر لا تغني عنهم ، أعرض عن أعرض عن ذلك وقال : «اشهدوا بأنا مسلمون».

آیة 65 - 68

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)»

قال ابن عبّاس والحسن وقتادة: إن أحبار اليهود و نصاری نجران اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنازعوا في إبراهيم (علیه السّلام). فقالت اليهود: ما كان إبراهيم إلا يهوديّاً. وقالت النصارى : ما كان إلا نصرانياً. فنزلت: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ) يعني : أنّ اليهوديّة والنصرانية حدثنا بنزول التوراة والإنجيل على موسى وعيسى (علیهما السّلام)، وكان إبراهيم قبل موسى (علیه السّلام) بألف سنة ، وعيسى بألفين ، فكيف يكون على اليهودية والنصرانية اللّتين

ص: 504

لم تحدثا إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة ؟! (أفَلَا تَعْقِلُونَ) حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال .

(ها ) حرف تنبيه نبّهوا بها على حالهم التي غفلوا عنها (أنْتُمْ) مبتدأ (هؤُلَاءِ) خبره (حَاجَجْتُمْ) جملة أخرى مستأنفة مبيّنة للأولى، أي: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى الجهال . وبيان حماقتكم وجهالتكم أنكم جادلتم (فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ )مما وجدتموه في التوراة والإنجيل عناداً (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ولا ذكر في كتابيكم من دين إبراهيم.

وقيل: «هؤلاء» بمعنى الذين ، و«حاججتم» صلته . وقيل : ها أنتم» أصله أأنتم على الاستفهام، للتعجب من حماقتهم، فقلبت الهمزة هاءً.

﴿ وَاللهُ يَعْلَمُ) شأن إبراهيم (علیه السّلام) ودينه وما حاججتم فيه ﴿ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وأنتم جاهلون به، فلا تتكلموا فيه.

ثمّ كذب اليهود والنصارى، وأعلمهم بأنّ إبراهيم بريء من دينهم ، فقال : (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيَا وَلَا نَصْرَانِيَاً) فهو تصريح بمقتضى ما قرّره من البرهان (وَلكِن كَانَ حَنِيفاً) مائلاً عن العقائد الزائغة (مُسْلِماً ) كائناً على دين الإسلام، أو منقاداً لله تعالى (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أراد بالمشركين اليهود والنصارى، لإشراكهم بالله عزيراً والمسيح . فهذا ردّ لادعاء المشركين أنّهم على ملة إبراهيم، وتعريض بأنهم مشركون.

وهذه الآية تدلّ على أن موسى أيضاً لم يكن يهوديّاً، ولم يكن عيسی نصرانياً، فإنّ الدين عند الله الإسلام، واليهوديّة ملّة محرّفة عن شرع موسى (علیه السّلام) ، والنصرانية ملّة محرّفة عن شرع عيسى (علیه السّلام) ، فهما صفتا ذمّ جرتا على الفرقتين الضالّتين.

(إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ) إنّ أخصّهم وأقربهم منه من الولي وهو القرب أو أحقهم بنصرته بالحجّة ( لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) من أمته في زمانه وبعده ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ)

ص: 505

506

يعنى محمّداً (صلّی الله علیه و آله و سلّم) (وَالَّذِينَ آمَنُوا) من أمته المرحومة، لموافقتهم له في أصول ملة الإسلام وأكثر فروعاته ، وإفراد النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بالذكر تعظيماً لأمره، وإجلالاً لقدره كما أفرد جبرئيل وميكائيل. (واللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ينصرهم ويجازيهم بالمثوبة الحسنى لإيمانهم.

وروى عمر بن يزيد قال : «قال أبو عبد الله (علیه السّلام): أنتم والله من آل محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم). قلت : من أنفسهم جعلت فداك ؟ قال : نعم ، والله من أنفسهم. قالها ثلاثاً. ثمّ نظر إليّ ونظرت إليه ، فقال : يا عمر إنّ الله يقول في كتابه: «إنّ أولى الناس بإبراهيم» الآية .

رواه علي بن إبراهيم (1) ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن عمر بن يزيد عنه (علیه السّلام).

وفي هذه الآية دلالة على أنّ الولاية تثبت بالدين لا بالنسب. ويعضد ذلك قول أمير المؤمنين علي (علیه السّلام) :«إن أولى النّاس بالأنبياء أعملهم بما جاؤا به، ثمّ تلا هذه الآية وقال : إنّ وليّ محمّد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإنّ عدوّ محمّد من عصى الله وإن قربت قرابته».

آية 69 - 71

«وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)»

ثمّ بيّن الله سبحانه أنّ هؤلاء كما ضلّوا دعوا إلى الضلال ، فقال : ﴿ وَدَّت طَائِفَةٌ

ص: 506


1- تفسير القمّي : 105 .

مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) تمنّت جماعة من اليهود (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) نزلت في اليهود لمّا دعوا حذيفة وعمّاراً ومعاذاً إلى اليهوديّة. و «لو» بمعنى أن . ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وما يتخطّاهم الإضلال ولا يعود وباله إلّا عليهم ، لأنّ العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم، أو ما يقدرون على إضلال المسلمين، وإنّما يضلّون أمثالهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ وما يعلمون أنّ وبال ذلك يعود عليهم ، واختصاص ضرره بهم.

ثمّ خاطب الله سبحانه الفريقين فقال :(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ لم لا تؤمنون بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلّت على نبوة محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ونعته ؟ (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ )تعترفون بأنّها آيات الله . أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوّة الرسول ، وأنتم تشهدون نعته في الكتابين، أو تعلمون بالمعجزات أنّه حقّ نبوّته.

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ) تخلطونه (بِالْبَاطِلِ) بما حرّفتموه من التوراة بالتحريف ، وأبرزتم الباطل في صورة الحقّ، أو بما قصرتم في التمييز بينهما ﴿ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ)ّ نبوّة محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ونعته (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) عالمين بما تكتمونه .

آیة 72 - 74

«وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)»

قيل : تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار يهود خيبر وقرى عُرينة ، وقال بعضهم

ص: 507

لبعض: ادخلوا في دين محمد أوّل النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به آخر النهار ، وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فلم نجد محمّداً بالنعت الذي ورد في التوراة ، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينه وقالوا : إنّهم أهل الكتاب وهم أعلم به منّا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فنزلت: (وَقَالَت طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أَنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ) أَي : أظهروا الإيمان بالقرآن أوّل النهار (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) واكفروا به آخر النّهار ، لعلهم يشكون في دينهم ظنّاً بأنّكم رجعتم لخلل ظهر لكم.

وقيل : المراد بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف، قالا لأصحابهما لمّا حوّلت القبلة : آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة، وصلوا إليها أوّل النهار ، ثمّ صلّوا إلى الصخرة آخره لعلّهم يقولون هم أعلم منّا أي لا تظهروا ، إيمانكم وجه النهار إلا لمن كان على دينكم ممن أسلموا منكم، فإنّ رجوعهم أرجى وأهم، وقد رجعوا فيرجعون.

﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ) ولا تقرّوا عن تصديق قلب إلا لأهل دينكم ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ) يهدي من يشاء إلى الإيمان ويثبّته عليه ، أي : يوفّق الهداية لمن طلبها ، ولم ينفع حيلتكم ومكركم .

وقوله : ( أن يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) متعلّق بمحذوف ، أي : دبرتم ذلك وقلتم : لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من النبوة والمعنى: أنّ الحسد حملكم على ذلك . أو متعلّق ب « لا تؤمنوا وما بينهما اعتراض يدلّ على أن كيدهم لا ينفعهم ، أي : لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أو كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيركم ولا تفشوه إلى المسلمين لئلا يزيد ثباتهم، ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام أو خبر «إنّ» على أنّ «هدى الله» بدل من الهدى . وقراءة ابن كثير «أأن يؤتى على الاستفهام للتقريع ، تؤيد الوجه الأوّل ، أي : ألأن يؤتى أحد دبّرتم.

ص: 508

وقوله : ( أوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ) عطف على «أن يؤتى»، والواو ضمير «أحد»، لأنه في معنى الجمع، إذ المراد به غير أتباعهم، وهم الرسول والمؤمنون.

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ) :أي: النبوّة ، أو الحجج التي أوتيها محمد محمد، أو نعم الدين والدنيا (بِيَدِ اللهِ ) في ملكه، وهو القادر عليه العالم بمحلّه (يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) على وفق المصلحة (واللهُ وَاسِعٌ) أي : واسع الرحمة والجود (عَلِيمٌ) بمصالح الخلق، ومن جملتها يعلم حيث يجعل رسالته .

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) وتفسيرها في سورة (1) البقرة .

وفي هذه الآيات معجزة باهرة لنبيّنا (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، إذ فيها إخبار عن سرائر القوم التي لا يعلمها إلا علّام الغيوب، وفيها دفع لمكائدهم، ولطف للمؤمنين في الثبات على عقائدهم، وردّ وإبطال لما زعموه بالحجّة الواضحة.

آية 75-76

«وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)»

قيل: إن عبدالله بن سلام استودعه قرشيّ ألفاً ومائتي أوقيّة ((2) فأدّاه إليه،

ص: 509


1- راجع ص : 207 ذيل آية : 105 من سورة البقرة .
2- في هامش النسخة الخطية: «أوقية بالتشديد: أربعون درهماً. وهي أفعولّة من الوقاية ،لأنها تقي صاحبها من الصير . وقيل : فعليّة من الأوق، وهو الثقل ، والجمع الأواقي بالتخفيف والتشديد . منه» . والصَيْرُ : منتهى الأمر وعاقبته .

وفنحاص بن عازوراء استودعه قرشيّ آخر ديناراً فجحده ، فنزلت فيهما : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ ) أي : تجعله أميناً على مال كثير (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) يردّه إليك عند المطالبة ، ولا يخون فيه ، كعبد الله بن سلام (وَمِنْهُمْ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ ) أي: بمال قليل حقير (لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) عند المطالبة ، كفنحاص . وفي بعض التفاسير (1) : المأمونون على الكثير النصارى والغالب فيهم الأمانة، والخائنون في القليل اليهود، إذ الغالب عليهم الخيانة . (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً) إلا مدّة دوامك قائماً على رأسه ، مبالغاً في مطالبته بالتقاضي والترافع إلى الحاكم وإقامة البيّنة.

(ذَلِكَ) إشارة إلى ترك أداء الحقوق المدلول عليه بقوله : «لا يؤدّه» ﴿ بِأَنَّهُمْ قَالُوا) بسبب قولهم : (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي : ليس علينا في شأن من ليسوا من أهل الكتاب، ولم يكونوا على ديننا عتاب وذم في ترك أداء الحقوق إليهم ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) بادعائهم ذلك (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَنهم كاذبون ، وذلك لأنهم استحلّوا ظلم من خالفهم وقالوا : لم يجعل لهم في التوراة حرمة .

وقيل : عامل اليهود رجالاً من قريش ، فلما أسلموا تقاضوهم ، فقالوا : سقط حقكم حيث تركتم دينكم ، وزعموا أنه كذلك في كتابهم.

و عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزولها : «كذب أعداء الله ، ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي - يعني : جميع ما في أديان الجاهلية منسوخة - إلا الأمانة ، فإنّها مؤداة إلى البرّ والفاجر».

(بَلَى) إثبات لما نفوه ، أي : بلى عليهم سبيل في الأمتين . وقوله : (مَنْ أوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى) في ترك الخيانة والغدر (فَإنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) جملة مستأنفة ، أي : مقرّرة للجملة التي سدّت «بلى» مسدّها، والضمير المجرور ل«من» ومعناه من أوفى بعهد نفسه أو الله . وعهد الله إلى عباده عبارة عن أمره ونهيه .

ص: 510


1- الكشّاف 1 : 375 ، تفسير البيضاوي 2 : 26 .

وعموم «للمتقين» ناب عن الراجع من الجزاء إلى «من» أعني : ضمير «يحبّه». إشعاراً بأن التقوى أصل الأمر. وهو يعم الوفاء وغيره، من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي.

آیة 77 - 78

«إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)»

روی: أنّ جماعة من أحبار اليهود مثل أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحيّي بن الأخطب وكعب بن الأشرف ،كتموا في التوراة نعت محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وحكم الأمانات ، وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا أنه من الله لئلا تفوتهم الرئاسة ، وما كان لهم على أتباعهم من الوظائف المقرّرة ، فنزلت في شأنهم : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) يستبدلون (بِعَهْدِ اللهِ ) بما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول والوفاء بالأمانات (وَأَيْمَانِهِمْ) الكاذبة، وبما حلفوا به من قولهم والله لنؤمنن به ولننصرنّه (ثَمَناً قَلِيلاً )متاع الدنيا من الرئاسة وأخذ الرشا والوظائف، فإنّه قليل في جنب ما يفوتهم من الثواب الأبدي (أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ) لا نصيب وافر لهم (فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ ) بما يسرّهم، أو بشيء أصلاً، وإنّ الملائكة يسألونهم يوم القيامة . أو لا

ص: 511

ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته . والظاهر أنه كناية عن غضبه عليهم ، لقوله : ( وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) مجاز عن الاستهانة ، فإنّ من سخط على غيره واستهان به أعرض عنه وعن التكلّم معه والالتفات نحوه، كما أنّ من أعتد بغيره يقاوله ويكثر النظر إليه ( وَلَا يُزَكِّيهِمْ) ولا يثني عليهم (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) على ما فعلوه .

قيل : نزلت هذه الآية في ترافع كان بين الأشعث بن قيس ويهودي في بئر أو أرض قام ليحلف عند رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فلمّا نزلت هذه الآية نكل الأشعث واعترف بالحق وردّ الأرض.

وعن ابن مسعود قال: «سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يقول : من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أخيه المسلم، لقي الله وهو عليه غضبان، وتلا هذه الآية».

وروى مسلم بن الحجاج في الصحيح بإسناده من عدة طرق عن أبي ذرّ الغفاري عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)قال : «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكّيهم ، ولهم عذاب أليم : المنّان الذي لا يعطي شيئاً إلا منّة، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر ، والمسبل إزاره» (1).

﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً) يعني : المحرّفين، ككعب ومالك وحييّ (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ ) يقتلونها بقراءته، فيميلونها عن المنزل إلى المحرّف، أو يعطفونها بشبه الكتاب (لِتَحْسَبُوهُ) لتظنّوه أيها المسلمون (مِنَ الْكِتَابِ) من كتاب الله المنزل على موسى (علیه السّلام) (وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ) الضمير للمحرف المدلول عليه بقوله «يلوون» أي : لا يكون ذلك المحرّف من التوراة ، ولكنّهم يخترعونه .

(وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ ) أي : ليس هذا نازلاً من عند الله . وهذا تأكيد لقوله: «وما هو من الكتاب» وزيادة تشنيع عليهم وتسجيل بالكذب ، ودلالة على أنّهم لا يعرّضون ولا يورون، وإنّما يصرّحون بأنّه في التوراة

ص: 512


1- صحیح مسلم 1 : 102 ح 171 .

هكذا، وقد أنزل الله تعالى على موسى كذلك ، لفرط جرأتهم على الله ، وقساوة قلوبهم، ويأسهم من الآخرة . ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تأكيد و تسجيل عليهم بالكذب على الله والتعمّد فيه.

آية 79 - 80

«مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)»

قيل : إنّ أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران قالا : يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك إلها ؟ فقال : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غير الله ، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني ، فنزلت:( مَا كَانَ) :أي: ما ينبغي ، أو لا يحلّ(لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ ) أي : علم الشريعة (وَالنُّبُوَّةَ) أي : الرسالة إلى الخلق (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللهِ ) أي : اعبدوني من دون الله . وقيل : ذلك تكذيب وردّ على عبدة عيسى .

وقيل: قال رجل: يا رسول الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك ؟ قال : لا ينبغي أن يسجد لأحدٍ من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله.

(وَلَكِنْ يقول (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) الربّاني منسوب إلى الربّ بزيادة «الألف والنون، كاللحياني والرقباني. وهو الذي يكون شديد التمسّك بدین الله وطاعته، يعني : : الكامل في العلم والعمل. (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)

ص: 513

بسبب كونكم معلّمين الكتاب ، وبسبب كونكم دارسين له، فإنّ فائدة التعليم والتعلّم معرفة الحق والخير للاعتقاد والعمل. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب: تعلمون بمعنى عالمين.

(وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أرْبَاباً )نصبه ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب عطفاً على «ثم يقول»، وتكون «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله : «ما كان»، أي: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً. أو غير مزيدة ،على معنى أنه ليس له أن يأمر بعبادته، ولا يأمر باتخاذ أكفائه أرباباً، بل ينهى عنه .

ويؤيّد ما روي أنّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) كان ينهى قريشاً عن عبادة الملائكة وينهى اليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلمّا قالوا له : أنتخذك ربّاً ؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ، ثمّ يأمر الناس بعبادته، وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء.

ورفعه الباقون على الاستئناف، ويحتمل الحال.

(أيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ) إنكار ، والضمير فيه للبشر . وقيل : الله . (بَعْدَ إِذْ أَنتُمْ مُسْلِمُونَ) معتقدون التوحيد والمعنى: أنّ الله إنما يبعث النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ليدعو الناس إلى الايمان، فكيف يدعو المسلمين إلى الكفر ؟ وهذا دليل على أن الخطاب للمسلمين ، وهم المستأذنون لأن يسجدوا له.

آية 81 - 89

«وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ

ص: 514

إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)»

( وَإِذْ َأخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) قيل : إنّه على ظاهره. وإذا كان هذا حكم الأنبياء كان الأمم به أولى.

وعن الصادق (علیه السّلام): أن المعنى : وإذ أخذ الله ميثاق أمم النبيين كل أمة بتصديق

ص: 515

نبيّها والعمل بما جاءهم به فما وفوا به، وتركوا كثيراً من شرائعهم.

وقيل : معناه : أنّه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم.

وقيل : إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل والمعنى : وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم .

وقيل : المراد أولاد النبيين، على حذف المضاف، وهم بنو إسرائيل. أو سمّاهم نبيين تهكماً ، لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمّد، لأنا أهل الكتاب ، والنبيون كانوا منا .

(لَمَا آتَيْتُكُمْ مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) اللام في «لما آتيتكم» توطئة للقسم. لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف . و «ما» تحتمل الشرطيّة. و«لتؤمنن» سادٌ مسدّ جواب القسم والشرط.

وقرأ حمزة لما بالكسر ، على أنّ «ما» مصدريّة، أي: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب، ثمّ لمجيء رسول ،مصدّق ، أو موصولة، والمعنى: أخذه للذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدّق له .

(قَالَ) أي : قال الله تعالى لأنبيائه ( أَقْرَرْتُمْ) وصدّقتموه ﴿وَأَخَذْتُمْ﴾ أي : قبلتم (عَلَى ذُلِكُمْ إِصْرِي) أي عهدي سمّي به لأنه ممّا يؤصر، أي: يشدّ. ونظيره (إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) (1).

(قَالُوا) :أي: الأنبياء وأممهم (أقْرَرْنَا) بما أمرتنا بالإقرار به (قَالَ فَاشْهَدُوا ) أي : فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار . وقيل : الخطاب فيه للملائكة . ( وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) وأنا أيضاً على إقراركم وتشاهدكم شاهد. وهو توكيد

ص: 516


1- المائدة : 41 .

بليغ وتحذير عظيم من الرجوع.

روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنه قال: «لم يبعث الله نبياً إلّا أخذ عليه العهد لئن بعث الله محمّداً ليؤمنن به ولينصرنّه وأمره بأن يأخذ العهد بذلك على أمته».

(فَمَن تَولَّى ) أي : فمن أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم (بَعْدَ ذَلِكَ) بعد الميثاق والتوكيد بالإقرار والشهادة ( فَأَوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) المتمرّدون من الكفّار . ولم يقل : الكافرون، لأنّ المراد الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتب الكفر بتمرّدهم، وذلك لأنّ أصل الفسق الخروج عن أمر الله إلى حال توبقه (1)، وفي الكفر ما هو أكبر .

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) عطف على الجملة المتقدمة، والهمزة متوسطة بينهما للإنكار، أو على محذوف تقديره : أيتولون فغير دين الله يبغون. وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار ، من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجّه إلى المعبود بالباطل. والفعل بلفظ الغيبة عند أبي عمرو وعاصم في رواية حفص ويعقوب، وبالتاء عند الباقين على تقدير : وقل لهم.

(وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً ) أي : طائعين بالنظر واتباع الحجّة (وَكَرْهاً ) أي : كارهين بالسيف ومعاينة ما يلجيء إلى الإسلام ، كنتق(2) الجبل، وإدراك الغرق (3)، والإشراف على الموت. وقيل: طوعاً لأهل السموات خاصة، وأما أهل الأرض فمنهم من أسلم طوعاً بالنظر في الأدلة، ومنهم من أسلم كرهاً بالسيف أو غيره من الأسباب الملجئة إلى الإسلام . ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) . وقرأ حفص ويعقوب بالياء على أنّ الضمير «من».

ص: 517


1- أي : تهلكه .
2- الأعراف : 171 .
3- یونس : 90 .

(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ ) خطاب للنبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، وأمر له بأن يخبر عن نفسه وعن متابعيه بالإيمان بالله ، فلذلك وحد الضمير في «قل» وجمع في«آمنا».

(وَمَا أنزِلَ ) أي : وبما أنزل (عَلَيْنَا) وهو القرآن، فإنّه كما أنزل عليه أنزل عليهم بتوسط تبليغه إليهم. وأيضاً المنسوب إلى واحد من الجمع ينسب إليهم. أو بأن يتكلّم عن نفسه على طريقة الملوك ، إجلالاً من الله لقدر نبيّه. والنزول كما يعدى ب- «إلى» لأنه ينتهي إلى الرسل، يعدّى ب«على» لأنه من فوق، فجاء تارة بأحد المعنيين والأخرى بالآخر . وإنّما قدّم المنزل عليه على المنزل على سائر الرسل لأنه المعرّف له .

( وَمَا أُنْزِلَ) وبما أنزل ( عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بالتصديق والتكذيب (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) منقادون، أو مخلصون أنفسنا في عبادته، لا نجعل له شريكاً فيها.

(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينا ) أي : غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى (فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) بل يعاقب عليه (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الواقعين في الخسران مطلقاً من غير تقييد للشياع والمعنى: أنّ المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها.

(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) استبعاد لأن يهديهم الله ، فإنّ المائل عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد فيبعد تأثير التوفيق واللطف فيه . و «شهدوا» عطف على ما في إيمانهم» من معنى الفعل، تقديره : بعد أن آمنوا وشهدوا. ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار «قد» ، أي: كفروا وقد شهدوا أنّ الرسول حق .

ص: 518

ومعنى الآية : كيف يهديهم الله إلى طريق الإيمان، وقد تركوا هذا الطريق؟ ! وقيل : معناه : كيف يلطف بهم الله وليسوا من أهل اللطف ، لما علم من تصميمهم على الكفر ؟! ودلّ على تصميمهم أنّهم كفروا بعد ما شهدوا بأنّ الرسول حق، وبعد ماجاءتهم المعجزات التي تثبت النبوة .

(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ، ووضع الكفر موضع الإيمان، فكيف من جاءهم الحق وعرفه ثم أعرض عنه ، أي : الله لا يسلك بالقوم الظالمين مسلك المهتدين، ولا يثيبهم ولا يهديهم إلى طريق الجنّة ، بل (أوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ) على أعمالهم وعقيدتهم (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هي إبعاده إياهم من رحمته ومغفرته، وهي دعاؤهم عليهم باللعنة، وبأن يبعدهم الله من رحمته.

(خَالِدِينَ فِيهَا ) أي : في اللعنة لخلودهم فيما استحقوا باللعنة، وهو العذاب (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) لا يسهل عليهم ( وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) ولا يمهلون للتوبة، ولا يؤخّر عنهم العذاب من وقت إلى وقت .

(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ) أي: من بعد الارتداد (وَأَصْلَحُوا( ما أفسدوا. ويجوز أن لا يقدّر له مفعول، بمعنى : ودخلوا في الصلاح ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) يقبل توبته (رَحِيمٌ) يتفضّل عليه.

قيل : إنّها نزلت في الحارث بن سويد بن الصامت، وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدراً ، وهرب وارتدّ عن الإسلام، ولحق بمكّة، ثمّ حين ندم على ردّته، فأرسل إلى قومه أن يسألوا هل لي من توبة ؟ فأرسل إليه أخوه الجلاس بهذه الآية . فرجع إلى المدينة فتاب.

وقيل : نزلت في أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون بالنبي (صلّى الله عليه و آله وسلّم) قبل مبعثه، ثمّ كفروا بعد البعثة حسداً وبغياً، والقول الأوّل مروي عن أبي عبدالله (علیه السلام ).

ص: 519

آية 90 - 92

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)»

ولما تقدّم ذكر التوبة المقبولة عقّبه سبحانه بما لا يقبل منها ، فقال : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) كاليهود كفروا بعيسي والإنجيل بعد الإيمان بموسى (علیه السّلام) والتوراة ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) والقرآن . أو كفروا بمحمد بعد ما آمنوا به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفراً بالإصرار والعناد والطعن فيه، والصد عن الإيمان، ونقض الميثاق . أو كقوم ارتدوا ولحقوا بمكة ، ثم ازدادوا كفراً بقولهم : نتربّص بمحمد ريب المنون، أو نرجع إليه وننافقه بإظهار التوبة . ﴿لَن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لأَنها لم تقع على وجه الإخلاص ويدلّ عليه قوله : (وَأَوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُونَ) عن الحق ، الثابتون على الضلال.

وقيل : لن تقبل توبتهم عند رؤية اليأس والمعنى : أنهم لا يتوبون إلا عند معاينة الموت، أو لا يتوبون إلا نفاقاً، لا لارتدادهم وزيادة كفرهم ، ولذلك لم تدخل الفاء فيه ، لأنّ الكفر والزيادة لا يكون سبب عدم قبول التوبة ، بل عدم التوبة .

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) لمّا كان الموت على الكفر سبباً لامتناع قبول الفدية أدخل الفاء هنا للإشعار به. وملء

ص: 520

الشيء ما يملؤه. و«ذهباً» نصب على التمييز . (ولَوِ افْتَدَى بِهِ) محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. أو معطوف على مضمر تقديره : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تقرّب به في الدنيا، ولو افتدى به من العذاب في الآخرة أو المراد ولو افتدى بمثله والمثل يحذف كثيراً في كلامهم قالوا: ضربته ضرب زيد أي : مثل ضربه ، وقضية ولا أبا حسن لها ، أي: لا مثل أبي حسن، كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا أي : أنت لا تفعل .

( أَوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) مبالغة في التحذير وإقناط كلّي، لأنّ من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرّماً (وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ) في دفع العذاب. و«من» مزيدة للاستغراق .

ولما ذكر في هذه الآية «لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً» وصل ذلك بقوله : (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) لئلا يؤدّي امتناع غناء الفدية إلى الفتور في الصدقة ، وما جرى مجراها من وجوه الطاعة.

ومعنى الآية : لن تبلغوا حقيقة البرّ الذي هو كمال الخير . وقيل : لن تنالوا برّ الله - وهو الثواب والرحمة والرضا - حتى تنفقوا من أموالكم التي تحبونها ، كقوله : ( أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ.. وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) (1) الآية . أو ممّا يعمّ الأموال وغيرها، كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله ، والمهجة في سبيله .

روي عن أبي الطفيل قال :« اشترى عليّ (علیه السّلام) ثوباً فأعجبه فتصدق به وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنّة، ومن أحبّ شيئاً فجعله الله قال الله تعالى يوم القيامة : قد كان العباد يكافئون فيما بينهم بالمعروف، وأنا أكافئك اليوم بالجنّة».

ص: 521


1- البقرة : 267

وروي أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: «يا رسول الله إنّ أحبّ أموالي إليّ بئر حا (1)، فضعها حيث أراك الله . فقال : بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح لك ، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين . فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسّمها في أقاربه».

وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبّها فقال : هذه في سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد. فقال زيد: إنّما أردت أن أتصدق بها . فقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): إن الله قد قبلها منك . وذلك يدلّ على أنّ إنفاق أحبّ الأموال على أقرب الأقارب

أفضل، وأنّ الآية تعمّ الإنفاق الواجب والمستحب .

ويروى عن ابن عمر أنّ النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) سئل عن هذه الآية فقال: «هو أن ينفق العبد المال وهو شحيح، يأمل الدنيا ويخاف الفقر».

( وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ) من اي شيء كان طيب تحبّونه، أو خبيث تكرهونه . و «من» لبيان «ما» . (فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم بحسبه .

آية 93 - 95

«كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)»

ولمّا بين الله سبحانه محاجّتهم في ملة إبراهيم، وكان مما أنكروا على

ص: 522


1- بئر حابستان من بساتين المدينة ، أي : البستان الذي فيه بئر حا، أضيف البئر إلى حا ، وكانت بساتين المدينة تدعى بالآبار التي فيها .

نبيّنا (صلّی الله علیه و آله و سلّم) تحليله لحم الجزور ، وادعوا تحريمه على إبراهيم، وأنّ ذلك مذكور في التوراة ، فكذَّب الله قولهم فقال : (كُلُّ الطَّعَامِ) أي كلّ أنواع الطعام أو كلّ المطعومات. والمراد أكلها . (كَانَ حِلَّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) حلالاً لهم. وهو مصدر نعت به، ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنّث، قال الله تعالى: (لَا هُنَّ حِلّ لَهُمْ ) (1).

(إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ) يعقوب (علیه السّلام) (عَلَى نَفْسِهِ ) كلحوم الإبل وألبانها . قيل : كان به عرق النساء، فنذر إن شفي لم يأكل أحبّ الطعام إليه، وكان ذلك أحبّه إليه . وقيل : فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء (مِنْ قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَيةُ ) أي : من قبل إنزالها مشتملة على تحريم ما حرّم عليه لظلمهم وبغيهم، عقوبة وتشديداً.

وحاصل المعنى : أنّ المطاعم كلّها لم تزل حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرّم عليهم منها لظلمهم وبغيهم، لم يحرم منها شيء قبل ذلك، غير المطعوم الواحد الذي حرّمه أبوهم إسرائيل على نفسه، فتبعوه على تحريمه.

وهذا ردّ على اليهود في دعوى براءة ساحتهم عمّا نطق به القرآن من تحريم الطيِّبات عليهم ببغيهم وظلمهم، في قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ) (2). وقوله : ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرِ) (3) الآيتين، بأن قالوا: لسنا أوّل من حرّمت عليه، وإنما كانت محرّمة على نوح وإبراهيم ومن بعده ، حتى انتهى الأمر إلينا، فحرّمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وفي منع (4) النسخ .

فكذِّبهم الله ، ثم قال : ( قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَيَةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) أمر

ص: 523


1- الممتحنة : 10 .
2- النساء : 160 .
3- الأنعام : 146 .
4- عطف على قوله : في دعوى براءة ساحتهم ... قبل أسطر.

بمحاجتهم بكتابهم، وتبكيتهم بما فيه من أنّه قد حرّم عليهم بسبب ظلمهم ما لم يكن محرّماً .

روي: «أنّه (علیه السّلام) لمّا قال لهم بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة». وفيه دليل على نبوته (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

(فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) ابتدعه على الله تعالى، بزعمه أنّ ذلك كان محرّماً قبل نزول التوراة على بني إسرائيل ومن قبلهم ( مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ) أي : من بعد ما لزمتهم الحجّة (فَأَوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الّذين لا ينصفون من أنفسهم، ويكابرون الحق بعدما وضح لهم.

ثم عرّض بكذبهم فقال : (قُلْ صَدَقَ اللهُ ) أي : ثبت أنّ الله تعالى صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) أي : ملة الاسلام التي هي في الأصل ملة إبراهيم(علیه السّلام)، أو مثل ملته، حتى تتخلّصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة لتسوية الأغراض الدنيوية، وألزمتكم تحريم طيبات أحلّها الله لإبراهيم ومن تبعه .

والصحيح أن نبينا (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لم يكن متعبّداً بشريعة من تقدّم من الأنبياء، ولكن وافقت شريعته شريعة إبراهيم، فلذلك قال : اتبعوا ملّة إبراهيم، وإلا فالله هو الذي أوحى بها إليه وأوجبها عليه، فكانت شريعة له ، فالتفسير الثاني هو الحق. وإنما رغّب الله في شريعة الاسلام بأنّها ملة إبراهيم لأن المصالح إذا وافقت ما تميل النفس إليه ويقبله العقل بغير كلفة كانت أحق بالرغبة فيها، وكان المشركون يميلون إلى اتباع ملة إبراهيم، فلذلك خوطب بذلك .

(وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فيه إشارة إلى أن اتباعه واجب في التوحيد الصرف والاستقامة في الدين والتجنّب عن الإفراط والتفريط . وتعريض بشرك اليهود.

ص: 524

آية 96 - 97

«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)»

ولمّا أمر الله سبحانه أهل الكتاب باتباع ملة إبراهيم، ومن ملّته تعظيم البيت الحرام، فذكر البيت وفضله وحرمته وما يتعلّق به فقال : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ) أي : وضع للعبادة، وجعل متعبداً لهم . والواضع هو الله تعالى. ويدلّ عليه أنّه قرى على البناء للفاعل .

عن مجاهد : أنّ المسلمين واليهود تفاخروا فقالت اليهود بيت المقدس أعظم وأفضل من الكعبة، لأنها مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدّسة، فقال المسلمون بل الكعبة أفضل، فأنزل الله ردّاً على قول اليهود : «إنّ أوّل بيت وضع للناس» ( لَلَّذِي بِبَكَّةَ) للبيت الذي ببكة. وهي لغة في مكة ، كالنبيط والنميط ، وأمر راتب ،وراتم، ولازب ولازم . وقيل : بكة موضع المسجد، ومكة البلد. وعن أبي جعفر : بكة المسجد ، ومكة الحرم كلّه». من بكه إذا دقه، فإنّها تبك أعناق الجبابرة حين قصدوه ، أو من : بُلّ بصيغة المجهول ، لأنها مزدحم الناس للطواف .

روي : «أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) سئل عن أوّل بيت وضع للناس . فقال : المسجد الحرام، ثم بيت المقدس وسئل كم بينهما ؟ فقال : أربعون سنة».

روي عن مجاهد وقتادة والسدّي : أنّ الكعبة هي أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الله السماء والأرض، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء».

وروي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) : «أنها كانت مهاة بيضاء» يعني : درّة .

ص: 525

وروي عن أبي خديجة عنه (علیه السّلام) قال : «إن الله أنزله لآدم من الجنّة، وكان درّة بيضاء، فرفعه الله إلى السماء وبقي أسه ، وهو بحيال هذا البيت، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبداً، فأمر الله إبراهيم وإسماعيل ببنيان البيت على القواعد».

وروى أصحابنا أنّ أوّل شيء خلق الله موضع الكعبة، ثم دحيت الأرض من تحتها.

وقيل : أوّل من بناه إبراهيم (علیه السّلام)، ثم هدم فبناه قوم من جرهم، ثم العمالقة ، ثم قريش .

وقيل : هو أوّل بيت بناه آدم (علیه السّلام)، فانطمس في الطوفان ، ثم بناه إبراهيم (علیه السّلام).

وقيل : كان في موضعه قبل آدم (علیه السّلام)بيت يقال له الضراح (1)، تطوف به الملائكة، فلمّا أهبط آدم أمر بأن يحجّه ويطوف حوله، ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة، تطوف به ملائكة السموات.

وقيل : المراد أنه أوّل بيت بالشرف لا بالزمان.

(مُبَارَكاً) كثير النفع والخير والبركة لمن حجّه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله وانتصابه على الحال من الضمير في الظرف .

وقيل : بركته لثبوت العبادة فيه دائماً ، حتى يحكى أن الطواف به لا ينقطع عنه أبداً . وقيل : لأنه يضاعف فيه ثواب العبادة . وقيل : لأنّه يغفر فيه الذنوب. والأولى حمله على الجميع.

(وَهُدئ لِلْعَالَمِينَ ) لأنه قبلتهم ومتعبّدهم ، ولأنّ فيه دلالة لهم على الله عزّ اسمه بإهلاكه كلّ من قصده من الجبابرة ، كأصحاب الفيل ، وغير ذلك من الآيات العجيبة ، كما قال : (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) كانحراف الطير عن موازاة البيت على مدى

ص: 526


1- في هامش النسخة الخطّية : ضَرَح أي : بَعُد ، فقيل : ضراحاً لبعده من الأرض منه».

الأعصار ولا تعلوه وأنّ السباع الضارية تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرّض لها، وبانمحاق (1) الجمار على كثرة الرماة، فلولا أنها ترفع لكان يجتمع هناك من الحجارة مثل الجبال ، وباستئناس الطيور فيه بالناس، وبالاستشفاء بالبيت، وأنه إذا كان الغيث من ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن وإذا كان من ناحية الركن الشامي كان الخصب بالشام، وإذا عمّ البيت كان في جميع البلدان، وغير ذلك من الآيات . والجملة مفسّرة للهدى، أو حال أخرى.

وقوله : ( مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ) مبتدأ محذوف خبره ، أي : منها مقام إبراهيم، أو بدل من «آيات» بدل بعض من الكلّ . وقيل : عطف بيان على أنّ المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصمّاء، وغوصها فيها إلى الكعبين، وتخصيصها بهذه الإلانة (2) من بين الصخار ، وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء (علیهم السّلام)، وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة .وقيل : سبب هذا الأثر أنّه لمّا ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة، فغاصت فيه قدماه. وفيه قول آخر مرّ (3) في سورة البقرة.

سئل الصادق (علیه السّلام) عن الحطيم فقال: «هو ما بين الحجر الأسود والباب. قيل: ولم سمّي الحطيم ؟ قال (علیه السّلام): لأن الناس يحطم بعضهم بعضاً. وهو الموضع الذي فيه تاب الله علی آدم».

وقال (علیه السّلام) : إن تهيّأ لك أن تصلّي صلواتك كلّها الفرائض وغيرها عند الحطيم فافعل، فإنّه أفضل بقعة على وجه الأرض، وبعده الصلاة في الحجر أفضل».

وروي عن أبي حمزة الثمالي قال: «قال لنا علي بن الحسين (علیهما السّلام): أي البقاع أفضل ؟ فقلنا : الله ورسوله وابن رسوله أعلم . فقال لنا : أفضل البقاع ما بين الركن

ص: 527


1- انمحق الشيء : اضمحل وبطل وامحى .
2- مصدر ألانَ يلين ، أي : جعله ليّناً.
3- في ص : 228 ذيل الآية 125

والمقام، ولو أن رجلاً عمّر ما عمّر نوح (علیه السّلام) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، یصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ، ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً».

وقال الصادق (علیه السّلام):« الركن اليماني بابنا الذي ندخل منه الجنّة».

وروي: «أنّه من روي من ماء زمزم أحدث له به شفاء، وصرف عنه داء».

(وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )جملة ابتدائية أو شرطيّة معطوفة من حيث المعنى على «مقام»، لأنه في معنى : آمن من دخله أي ومنها آمن من دخله . أو فيه آيات بينات مقام ،إبراهيم وآمن من دخله اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما ، كقوله : حبّب إليّ من دنياكم ثلاث :النساء، والطيب ، وقرة عيني في الصلاة» (1) ، لأنّ فيهما غنية عن غيرهما في الدارين من بقاء الأثر مدى الدهر والأمن من العذاب يوم القيامة ، كأنه قيل : فيه آيات بينات : مقام إبراهيم، وآمن من دخله، وكثير سواهما . وقيل : قد يطلق الجمع ويراد منه التثنية، لأنها نوع من الجمع .

قال (علیه السّلام): «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً». وروي عن أبي جعفر : أنّ من دخله عارفاً بما أوجبه الله عليه كان آمناً في الآخرة من النار».

وعند أصحابنا والحنفيّة : من لزمه القتل بقصاص أو غيره لم يتعرّض له ، ولكن ضيّق عليه المأكل والمشرب ليخرج منه .

﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قصده للزيارة على الوجه المخصوص وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص حجّ بالكسر . وهو لغة نجد. (مَنِ

ص: 528


1- في هامش النسخة الخطّية: «فإن قوله : قرّة عيني، ابتداء كلام ، لما ذكر الأوّلين أعرض عنهما وقال : مالي وما الدنيا، وأعرض عن ذكر الثالث وقال : قرّة عيني في الصلاة . منه»

اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) بدل من الناس مخصص له. والضمير راجع إلى البيت أو الحج . وكلّ مأتي إلى الشيء فهو سبيله .

روي عن أئمتنا (علیهم السّلام) أنّ الاستطاعة هي : الزاد والراحلة، ونفقة من تلزمه نفقته، والرجوع إلى كفاية، إما من مال أو ضياع أو حرفة، مع الصحة في النفس، وتخلية السّرب من الموانع، وإمكان السير.

(وَمَن كَفَرَ ) وضع «كفر» موضع «لم يحجّ» تأكيداً لوجوبه، وتغليظاً على تارك الحج ، ولذلك قال (علیه السّلام): «من مات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهوديّاً أو نصرانياً». كما جاء في الحديث : «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر». (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) لم يقل : عنه ، ليكون بدلالته على الاستغناء الكامل أدلّ على عظم سخط الله الذي وقع الاستغناء عبارة عنه. وفي الأثر : لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما نوظروا أي: ما أمهلوا.

وفي الأنوار: «قد أكد أمر الحجّ في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوبه بصيغة الخبر، وإبرازه في الصورة الاسمية وإيراده على وجه يفيد أنّه حق واجب الله تعالى في رقاب الناس، وتعميم الحكم أوّلاً ثم تخصيصه ثانياً، فإنّه كإيضاح بعد إبهام، وتثنية وتكرير للمراد، وتسمية ترك الحجّ كفراً من حيث إنّه فعل الكفرة، وذكر الاستغناء، فإنّه في هذا الموضع ممّا يدلّ على المقت والخذلان . وقوله : «عن العالمين يدلّ عليه لما فيه من مبالغة التعميم، والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان، وهو غناؤه من جميع العالم والإشعار بعظم السخط ، لأنه تكليف شاق جامع بین كسر النفس وإتعاب البدن، وصرف المال، والتجرّد عن الشهوات، والاقبال على الله تعالى»(1).

روي أنّه لما نزل صدر الآية جمع رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أرباب الملل فخطبهم

ص: 529


1- أنوار التنزيل 2 : 32 - 33 .

وقال: «إنّ الله كتب عليكم الحجّ فحجّوا فآمنت به ملّة واحدة، أي: المسلمون و کفرت به خمس، فنزل: ومن كفر».

آیة 98 - 99

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴿98﴾ قُلْ يَا أَهْلَ الكتاب لمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْعَونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿99)

ثم عاد الكلام إلى حجاج أهل الكتاب، فقال مخاطباً للنبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) أي : بآياته السمعية والعقلية الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعيه من وجوب الحجّ وغيره, وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أنّ كفرهم أقبح، وأنهم إن زعموا أنّهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما .

﴿ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) الواو للحال . والمعنى : لم تكفرون بالآيات التي دلّتكم على صدق محمد (صلّی الله علیه و آله و سلّم) والحال أن الله شهيد مطّلع على أعمالكم ، فيجازيكم عليها ، لا ينفعكم التحريف والاستسرار فكيف تجسرون على الكفر بآياته؟!

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ ) لم تمنعون ( عَن سَبِيلِ اللهِ ) هو دين الإسلام (مَنْ آمَنَ) كرّر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم، وإشعاراً بأنّ كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه، مستقلّ باستجلاب العذاب. وسبيل الله دينه الحق المأمور بسلوكه، وهو الإسلام.

قيل : كانوا يفتنون المؤمنين، ويغرّون بينهم بأسباب العداوة، حتى أتوا

ص: 530

الأوس والخزرج ، فذكّروهم الحروب التي كانت بينهم في الجاهلية ليعودوا لمثلها .

(تَبْغُونَهَا عِوَجاً) تطلبون لها اعوجاجاً وميلاً عن الاستقامة. وهو حال من الواو ، أي : باغين طالبين لها اعوجاجاً، بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه عوجاً عن الحقِّ ، بمنع النسخ في شريعة موسى، وتغيير صفة رسول الله ، ونحوهما ، أو بأن تحرّشوا بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختلّ أمر دينهم. ﴿ وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ ) بأنّها سبيل الله الذي ارتضاه ، وتجدون ذلك في كتابكم، أو أنتم عدول بين أهل دينكم، يثقون بأقوالكم، ويستشهدونكم في القضايا ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد لهم .

ولمّا كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله «والله شهيد». ولمّا كان في هذه الآية صدّهم للمؤمنين عن الاسلام، وكانوا يخفونه ويحتالون فيه ، قال : «وما الله بغافل عمّا تعملون».

آية 100 - 101

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴿100) وَكَيف تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِمِ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿101)

روي أنّ نفراً من الأوس والخزرج كانوا جلوساً يتحدّثون فمرّ بهم شاس بن قيس اليهودي، فغاظه تألّفهم واجتماعهم، فأمر شابّاً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بُعاث - بالعين المهملة، وهو اسم حصن للأوس - وينشدهم بعض ما قيل فيه ، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس، ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا :وقالوا السلاح السلاح ،واجتمع من القبيلتين خلق عظيم، فتوجه إليهم رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وأصحابه فقال : أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله

ص: 531

بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألّف بينكم، فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح، واستغفروا ، وعانق بعضهم بعضاً، وانصرفوا مع الرسول . فخاطبهم الله بعدما أمر الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بأن يخاطب أهل الكتاب إظهاراً لجلالة قدرهم ، وإشعاراً بأنهم الأحقاء بأن يخاطبهم الله تعالى ويكلّمهم ، فقال : (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ) في إحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهليّة (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ).

ثم عظّم الشأن عليهم بأن قال: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ أي: ومن أين يتطرّق إليكم الكفر ( وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ) والحال أنّ آيات الله تتلى عليكم على لسان رسوله (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) وهو بين أظهركم يعظكم وينبّهكم. هذا إنكار وتعجيب لكفرهم في حال اجتمع لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان ،الصارفة عن الكفر.

(وَمَن يَعْتَصِم بِالله) ومن يتمسك بدين الله ، أو يلتجىء إليه في مجامع أموره ( فَقَدْ هُدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فقد حصل له الهدى لا محالة .

آیة 102 - 103

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)»

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) حقّ تقواه وما يجب منها ، وهو

ص: 532

استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم. وعن الصادق (علیه السّلام): «هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى». وقيل: هو أن ينزّه الطاعة عن الالتفات إليها، وعن توقع المجازاة عليها . ونحوه قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (1) أي : بالغوا في التقوى حتّى لا تتركوا من المستطاع فيها شيئاً. وفي هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب. وأصل تقاة وقية ، فقلبت واوها المضمومة تاءً، كما في تؤدة ،وتخمة ، والياء ألفاً.

( وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : ولا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، كما تقول لمن تستعين به على القتال : لا تأتني إلا وأنت على فرس فلا تنهاه عن الإتيان، ولكنّك تنهاه عن خلاف الحال التي ذكرتها في وقت الإتيان ، فإنّ النهي عن المقيّد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات نحو الفعل تارة والقيد أخرى ، وقد يتوجّه نحو المجموع دونهما ، وكذلك النفي، ومثل ذلك مرّ (2) في سورة البقرة .

(وَاعْتَصِمُوا )وتمسكوا (بِحَبْلِ اللهِ ) بدين الاسلام أو بكتابه ، لقوله (علیه السّلام): «القرآن حبل الله المتين». استعير له الحبل من حيث إنّ التمسك به سبب النجاة من الردى، كما أنّ التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردّي. واستعير للوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحاً للمجاز. (جَمِيعاً) أي: مجتمعين، ومعناه: واجتمعوا على التمسك بعهد الله ، وهو الإيمان أو القرآن .

وروى أبان بن تغلب عن الصادق (علیه السّلام): «نحن حبل الله الّذي قال : واعتصموا بحبل الله جميعاً».

والأولى حمله على الجميع. والذي يؤيّده ما رواه أبو سعيد الخدري

ص: 533


1- التغابن : 16 .
2- راجع ص : 244.

عن النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال : «أيها الناس إنّي قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ ، الحوض».

(وَلَا تَفَرَّقُوا) ولا تتفرّقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلف اليهود والنصارى، أو لا تتفرّقوا تفرّقكم في الجاهلية يحارب بعضكم بعضاً، أو لا تذكروا ما يوجب التفرّق ويزيل الألفة ، بل اثبتوا عليه، والزموا الجماعة والائتلاف على الطاعة.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدّي إلى زوال الغلّ بينكم (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً) في الجاهلية متقابلين (فألّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالاسلام (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) متحابين مجتمعين على الأخوة في الله تعالى .

وقيل : كان الأوس والخزرج أخوين لأبوين، فوقع بين أولادهما العداوة، وتطاولت الحروب بينهم مائة وعشرين سنة ، حتى أطفأها الله تعالى بالإسلام وألف بينهم برسوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

(وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) مشرفين على الوقوع في نار جهنّم لكفركم، إذ لو أدرككم الموت في تلك الحالة لوقعتم في النار (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ) بالاسلام والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا. وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه ، أو لأنه بمعنى الشفة ، فإنّ شفا البئر وشفتها طرفها ، كالجانب والجانبة . وأصله شفو ، فقلبت الواو ألفاً في المذكر ، وحذفت في المؤنث .

(كَذَلِكَ) مثل ذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) دلائله (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه .

ص: 534

آية 104 - 109

«وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)»

(وَلتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةً يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) «من» للتبعيض، لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ولا يصلح لذلك إلا من يعلم المعروف معروفاً والمنكر منكراً، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف أو أمر بمنكر. ولأنه لا يصلح له كلّ أحد. إذ للمتصدي له شروط لا يشترك فيها جميع الأمّة ، كالعلم بالأحكام ومراتب الاحتساب، وكيفية إقامتها، وكالتمكّن من القيام بها. أو للتبيين، بمعنى : وكونوا أمة تأمرون، كقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) (1). والدعاء إلى الخير يعم الدعاء إلى ما فيه

ص: 535


1- آل عمران : 110 .

صلاح ديني أو دنيوي. وعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه عطف الخاص على العام للإيذان بفضله .

(وَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المخصوصون بكمال الفلاح، الأحقاء به دون غيرهم .

وفي هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعظم محلّهما وموقعهما في الدين، لأنه سبحانه علّق الفلاح بهما .

روي أنه (علیه السلام) سئل : «من خير النّاس ؟ فقال: آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر ، وأتقاهم الله ، وأوصلهم للرحم».

والأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً على حسب ما يؤمر به والنهي عن المنكر واجب كلّه، لأنّ جميع ما أنكره الشرع حرام.

واعلم أن العاصي يجب عليه أن ينهى عمّا يرتكبه ، لأنه يجب علیه ترکه وإنكاره ، فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر.

وعن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه».

وعن درّة بنت أبي لهب قالت: «جاء رجل إلى النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وهو على المنبر فقال : يا رسول الله من خير النّاس ؟ قال : آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم للّه ، وأرضاهم».

﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) ذكر الاختلاف بعد التفريق للتأكيد واختلاف اللفظين . وقيل : معناه : كالذين تفرّقوا بالعداوة، واختلفوا بالديانة ، وهم اليهود والنصارى، اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة على ما عرفت .( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) الآيات البيئة، والحجج المبيّنة للحق ، الموجبة للاتفاق والائتلاف والاجتماع على كلمة الحق .والأظهر أن

ص: 536

النهي فيه مخصوص بالتفرّق في الأصول دون الفروع، لقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «اختلاف أمتي رحمة». ولقوله (علیه السّلام): «من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد».

وقيل : هم مبتدعوا هذه الأمة، وهم المجبّرة والحشوية وسائر المخالفين المعاندين للحق.

﴿ وَأُوْثَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وعيد للذين تفرّقوا ، وتهديد على التشبّه بهم.

وقوله : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) منصوب بما في «لهم» من معنى الفعل، أو بإضمار «اذكر». وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه .

وقيل : إنّه يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصحيفة، وإشراق البشرة، وسعي النور بين يديه وبيمينه، وأهل الباطل بسواد اللون، وكسف وجهه ، واسوداد صحيفته ، وإحاطة الظلمة به من كل جانب . نعوذ بالله .

وإنّما تبيض فيه وجوه المؤمنين ثواباً لهم على الإيمان والطاعة، وتسود وجوه الكافرين عقوبة لهم على الكفر والسيّئات، بدلالة ما بعده، وهو قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) على إرادة القول أي : فيقال لهم: أكفرتم . والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم .وهم أهل الكتاب كفروا برسول الله بعد إيمانهم به قبل مبعثه، أو جميع الكفّار كفروا بعد ما أقروا به حين أشهدهم على أنفسهم ، إذ قيل لهم : ألست بربّكم ؟ قالوا : بلى، أو بعد ما تمكنوا من الإيمان بالنظر في الدلائل والآيات . وقيل : هم المرتدون .

وعن علي (علیه السّلام) وقتادة : هم أهل البدع والأهواء والآراء الباطلة من هذه الأمّة.

ص: 537

روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)أنه قال: «والذي نفسي بيده ليردن علي الحوض ممّن صحبني أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولنّ : أصحابي أصحابي ، فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدوا على أعقابهم القهقرى». ذكره الثعلبي في تفسيره.

وقال أبو أمامة الباهلي: هم الخوارج. ولمّا رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال : كلاب النار هؤلاء شرّ قتلى تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء. فقال له أبو غالب: أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)؟ قال : بل سمعته من رسول الله غير مرّة . قال : فما شأنك دمعت عيناك ؟ قال : رحمة لهم ، كانوا من أهل الإسلام فكفروا . ثم قرأ هذه الآية ، ثم أخذ بيده فقال : إن بأرضك منهم كثيراً ، فأعاذك الله .

وروي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».

وعلى كلّ التقادير يقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم (فَذُوقُوا العَذَابَ) أمر إهانة (بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) بسبب كفركم، أو جزاء لكفركم.

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ) يعني : الجنّة والثواب المخلّد . سمّى الله سبحانه الثواب رحمة، وهو نعمة يستحق بها الشكر ، وكلّ نعمة تفضّل ، لأنّ سبب الثواب الذي هو التكليف تفضّل ، ليكون الثواب على هذا الوجه تفضّلاً. وكان حق الترتيب أن يقدّم ذكر المؤمنين، ولكن قصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم.

وقوله : ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) استئناف للتأكيد، كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فقيل : هم فيها خالدون ، ولا يظعنون (1) عنها ولا يموتون.

(تِلْكَ آيَاتُ اللهِ ) الواردة في الوعد والوعيد (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) ملتبسة

ص: 538


1- أي : لا يرحلون عنها .

بالحق والعدل لا شبهة فيها ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ) أي: ما يريد شيئاً من الظلم لأحد من خلقه ، إذ يستحيل الظلم منه، لأنّ فاعل الظلم إما لجهله بقبح الظلم أو لحاجته إليه من دفع ضرر أو جرّ نفع ، وهو العالم بالذات بجميع المعلومات، والغنيّ المطلق، فلا يأخذ أحداً بغير جرم، ولا يزيد في عقاب مجرم، ولا ينقص من ثواب محسن .

ثمّ بيّن وجه استغنائه عن الظلم بقوله : ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) مِلكاً ومُلكاً وخلقاً (وَإلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) أي : أمور العباد، فيجازي كلّاً بما وعد له وأوعد. ووضع هذا في موضع «ترجعون» ليكون أفحم في الذكر .

آية 110

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ ﴿110)

ولمّا تقدّم ذكر الأمر والنهي عقّبه سبحانه بذكر من تصدّى للقيام بذلك، ومدحهم ترغيباً في الاقتداء فقال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) أي: وجدتم خير أمّة ، لأن «كان» عبارة عن وجود الشيء في زمان مّا، ولم يدلّ على طروء انقطاع الخيريّة ، كقوله : ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) (1). وقيل : كنتم في علم الله أو في اللوح خیر أمّة ، أو كنتم في الأمم المتقدمين مذكورين بأنّكم خير أمة موصوفين به. (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) أظهرت لهم.

وقوله : ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) أي : بالطاعات (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أَي :

ص: 539


1- النساء : 96 .

عن المعاصي . كلام مستأنف بين به كونهم خير أمّة ، كما يقال : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويحسن إليهم.

وقوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالله ) يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به، لأن الإيمان بالله إنّما يثبت ويعتدّ به إذا حصل الإيمان بكلّ ما أمر أن يؤمن به. وإنّما أخّره وحقّه أن يقدّم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، إيماناً بالله وتصديقاً به، وإظهاراً لدينه.

واستدلّ بهذه الآية على أنّ الاجماع حجّة ، لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كلّ منكر ، إذ اللام فيهما للاستغراق ، فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك. وعندنا أنّ اجماع الأمة إنّما يكون حجّة لوجود المعصوم فيهم، وفي الحقيقة إنّما تكون الحجّة في قوله. وتبيين ذلك مذكور في كتب الأصول .

(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ ) إيماناً كما ينبغي، وهو الإيمان بالنبي وبجميع ما جاء به ، كما أنهم يؤمنون بالله حقَّ الإيمان به (لَكَانَ) ذلك الإيمان (خَيْراً لَهُمْ) في الدنيا والآخرة ممّا هم عليه من الرئاسة وحظوظ الدنيا، لأنهم ينجون به في الدنيا من القتل وفي الآخرة من العذاب، ويفوزون بالجنّة .

(مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ) أي : المعترفون بما دلّت عليه كتبهم من صفة نبينا (صلّی الله علیه و آله و سلّم) والبشارة به ، المقرّون به ، كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود ،والنجاشي وأصحابه من النصارى (وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) أي: الخارجون عن طاعة الله ورسوله ، المتمرّدون في الكفر . وهذه (1) الجملة والّتي (2) بعدها واردتان على سبيل الاستطراد.

(1) (2)

ص: 540


1- في هامش النسخة الخطية : ( يعني : منهم المؤمنون منه».
2- في هامش النسخة الخطّية : «يعني : لن يضروكم منه» .

آیة 111 - 112

«لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)»

روي أن رؤوس اليهود - مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا -عمدوا إلى مؤمنيهم - كعبد الله بن سلام وأصحابه - فعيّروهم على إسلامهم ، فنزلت: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) ضرراً يسيراً مقصوراً بقول من طعن في الدين أو الوعيد (وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ) وإن يجاوزوا عن الإيذاء باللسان إلى القتال والمحاربة (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ) ينهزموا ، ولا يضروكم بقتل وأسر (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) ثم لا يكون أحد ينصرهم عليكم ، أو يدفع بأسكم عنهم . فنفى إضرارهم سوى ما يكون بقول ، وقرّر ذلك بأنهم لو قاموا إلى القتال كانت الدبرة عليهم، ثم أخبر بأن عاقبتهم العجز والخذلان .

وهذه الآية من المغيّبات التي وافقها الواقع، إذ كان كذلك حال قريظة والنظير وبني قينقاع ويهود خيبر .

وإنّما لم يجزم قوله : «لا ينصرون لأنه عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداءً، فكأنه قيل : ثم أخبركم أنّهم لا ينصرون. وهذا تثبيت لمن أسلم من اليهود ، ووعد لهم بأنّهم ،منصورون ، فإنّهم كانوا يؤذونهم بالتوبيخ والتهديد .

ثم أخبر عن ذلّتهم وصغارهم بقوله : ( ضُرِبَتْ) أَثبتت (عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) هدر النفس والمال والأهل ، أو ذلّ التمسك بالباطل والجزية . وجعلت هذه الأمور محيطة بهم ، كما يضرب ويجعل البيت والخيام والقباب على أهله ، وتحاط عليهم (أيْنَ مَا

ص: 541

ثُقِفُوا وجدوا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) في محلّ النصب على الحال بتقدير : إلا معتصمين أو متمسكين أو ملتبسين بحبل من الله وهو استثناء من أعمّ الأحوال ، أي : ضربت عليهم الذلّة في عامة الأحوال ، إلا في حال اعتصامهم بعهد من الله ، وعهد من المسلمين على وجه الذمة، وهي قبول الجزية ، أو بدين الإسلام واتباع سبيل المؤمنين.

(وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ الله) رجعوا به مستوجبين له ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) فهي محيطة بهم إحاطة البيت المضروب على أهله. واليهود في غالب الأمر فقراء ومساكين .

(ذَلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلّة والمسكنة والبوء بغضب الله (بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ )بسبب كفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء.

(ذَلِكَ) :أي: الكفر والقتل (بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى، فإنّ الاصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر، والاستمرار عليها يؤدّي إلى الكفر والتقييد بغير حق، مع أنّه كذلك في نفس الأمر ،للدلالة على أنّه لم يكن حقاً بحسب اعتقادهم أيضاً.

آية 113 - 115

لَيَسُوا سَوَاءٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةً قَائِمَة يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحينَ ﴿114﴾ وَمَا يَفْعَلُوا منْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَليمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿115﴾

روي أنّه لمّا أسلم عبدالله بن سلام وجماعة قالت أحبار اليهود: ما آمن

ص: 542

بمحمد إلا شرارنا، فنزلت ردّاً عليهم : (لَيْسُوا سَوَاءً ) أي : مستوين والضمير لمسلمي اليهود والأحبار . وقيل : إنّها نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على عهد عيسى، وصدّقوا محمّداً (صلّی الله علیه و آله و سلّم). والمعنى : ليس الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام والنجاشي وأصحابهما ، والذين لم يؤمنوا، سواءً في الدرجة والمنزلة.

وقوله : ( مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةً قَآئِمَةً ) كلام مستأنف لبيان قوله : «ليسوا سواء»، كما أن قوله (1): «تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» بيان لقوله: «كنتم خير أمّة». والقائمة : المستقيمة العادلة، من أقمت العود فقام. وهم الذين أسلموا من أهل الكتاب.

(يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ ) أي : القرآن (آنَاءَ اللَّيْلِ ) أي : في تهجدهم (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) عبّر عن التهجد وصلاتهم بالليل بتلاوة آيات الله في ساعات الليل مع السجود ليكون أبين وأبلغ في المدح. وهذا يدلّ على عظم موقع صلاة الليل من الله سبحانه، وقد صح عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال : «ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الأخير خير له من الدنيا وما فيها ، ولولا أن أشق على أمتي لفرضتهما عليهم».

وقال أبو عبدالله (علیه السّلام): «إن البيوت التي يصلّى فيها بالليل بتلاوة القرآن تضيء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الأرض. وقال : عليكم بصلاة الليل، فإنّها سنّة نبيّكم ، ودأب الصالحين قبلكم ، ومطردة الداء عن أجسادكم».

وقيل : المراد صلاة العشاء، لأنّ أهل الكتاب لا يصلّونها، لما روي أنه (علیه السّلام) أخّرها ثم خرج فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: «أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم».

ص: 543


1- راجع ص : 539 .

(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) بتوحيده وصفاته اللائقة به (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) المتأخّر عن الدنيا يعني : البعث ليوم القيامة (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالإقرار بنبوة محمّد (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، وبجميع ما جاء به من المأمورات (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عَن إنكار نبوّته وبما جاء به من المنهيات ( وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) يبادرون إلى فعل الطاعات خوف الفوات بالموت.

وهذه صفات أخر ل «أمّة»، وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود، فإنّهم منحرفون عن الحق، غير متعبّدين في الليل مشركون بالله ، ملحدون في صفاته واصفون اليوم الآخر بخلاف صفته مداهنون في الاحتساب، متباطئون في الخيرات.

(وَأَوْلَئِكَ ) أي : الموصوفون بتلك الصفات (مِنَ الصَّالِحِينَ) ممّن صلحت أحوالهم عند الله تعالى واستحقوا رضاه وثناءه. ولا يحتاج إلى ذكر مقابليهم من أمة غير قائمة ، لأنه قد تقدّم (1) صفتهم في قوله : «يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ ... الخ » .

﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ) فلن يضيع ولا ينقص ثوابه البتة. سمّى ذلك كفراناً كما سمّى توفية الثواب شكراً، وعدّاه إلى مفعولين، لتضمّنه معنى الحرمان، كأنه قال : فلن تحرموه أي لن تحرموا جزاءه وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء فيهما، والباقون بالتاء، إلّا أبا عمرو، فإنّه كان يخيّر .

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) بشارة لهم، وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل، وأنّ الفائز عند الله هو أهل التقوى والآية تدلّ على أن شيئاً من أعمال الخير والطاعة لا تبطل البتّة، خلافاً لقول من قال بالإحباط.

ص: 544


1- في ص: 542

آية 116 - 117

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)»

ولمّا تقدّم وصف المؤمنين عقبه سبحانه ببيان حال الكافرين، فقال: (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله ل(َنْ تُغْنِي عَنْهُمْ) لن تدفع عنهم (أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِنَ اللهِ شَيْئاً) من العذاب أو من الفناء، فيكون مصدراً، وإنّما خص الأموال والأولاد بالذكر لأنّ هذين معتمد الخلق وأعزّ الأشياء عليهم ، فإذا لم يغنيا عن الانسان شيئاً فغيرهما غناؤه أبعد . ﴿وَأَوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) ملازموها (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي : دائمون .

ثم ضرب لهم مثلاً لإنفاقهم فقال : ( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ) شَبّه ما يخرجون من أموالهم لا يبتغون بها وجه الله ، بل مفاخرة وسمعة . وقيل : ما ينفقون على الكفّار في عداوة الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، كما أنفقه أبو سفيان وأصحابه ببدر وأحد لما تظاهروا على النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، أو ما أنفق سفلة اليهود على علمائهم، أي ما أنفقوا جميع صدقاتهم ونفقاتهم، أو ما ينفق المنافقون رياءً وخوفاً.

(فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرُّ ) برد شديد. والشائع إطلاقه للريح الباردة كالصرصر . وهو في الأصل مصدر نعت به ، أو نعت وصف به للمبالغة، كقولك : برد بارد . (أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي (فَأَهْلَكَتْهُ) عقوبة لهم ، لأنّ الإهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ .

والمراد تشبيه ما أنفقوا في ضياعه بحرث كفّار ضربته صرّ فاستأصلته، ولم

ص: 545

يبق لهم فيه منفعة ما في الدنيا والآخرة ، بخلاف حرث المسلم المؤمن، فلا يذهب على الكلية، لأنه وإن كان يذهب صورة إلّا أنه لا يذهب معنى، لما فيه من حصول الأعواض لهم في الآخرة، والثواب بالصبر على الذهاب.

وهذا من التشبيه المركّب، أعني : تشبيه كفرهم يبطل ثواب نفقتهم بالزيح الباردة تهلك الحرث، ولذلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه الريح دون الحرث. فلا يقال : الكلام غير مطابق للغرض حيث جعل «ما ينفقون» ممثلاً بالريح. ويجوز أن يقدَّر : كمثل مهلك ريح ، وهو الحرث ، فهو من تشبيه المفرد.

﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ ﴾ في إهلاك زرعهم ( وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي : ما ظلم المنفقين بضياع نفقاتهم، ولكن ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها على الوجه الذي يستحقّ به الثواب.

آية 118 - 120

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)»

ولمّا بيّن الله أن مآل شأن الكفّار خسارة الدارين نهى المؤمنين عن موالاتهم

ص: 546

ومخالطتهم ، خوف الفتنة منهم عليهم ، فيصيبهم ما أصابهم ، فقال : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً) أي : لا تتخذوا الكافرين خواصّ أوليائكم وخلّصكم، فإنّ بطانة الرجل وليجته وخاصته وصفيه الذي يعرفه الرجل ويفشي إليه أسراره ثقة به. شبّه ببطانة الثوب، كما شبّه بالشعار. وعن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «الأنصار شعار ، والناس دثار». (مِن دُونِكُمْ) من غير أبناء جنسكم، وهم المسلمون. وهو متعلّق ب«لا تتخذوا»، أو بمحذوف هو صفة بطانة ، أي : بطانة كائنة من دونكم.

ثمّ بيّن العلة في المنع من مواصلتهم فقال : (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً) لا يقصِّرون لكم في ما يؤدّي إلى فساد أمركم، ولا يتركون جهدهم وطاقتهم فيما يورثكم الشرّ . والألو: التقصير وأصله أن يعدّى بالحرف، ثم عدّي إلى المفعولين ، كقولهم : لا ألوك نصحاً ولا ألوك جهداً، على تضمين معنى المنع أو النقص . والمعنى : لا أمنعك نصحاً ولا أنقصك . والخبال : الفساد.

(وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ﴾ تمنّوا عنتكم، وهو شدّة الضرر والمشقّة. وأصله : إنهاض العظم بعد جبره . و «ما» مصدريّة . ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي : ظهرت على ألسنتهم وفي فلتات كلامهم أمارات العداوة لكم، لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُم) من البغضاء (أكْبَرُ) ممّا بدا ، لأنّ بدوّه ليس عن فكرة واختيار (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ) قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحات الدالة على وجوب الإخلاص، وموالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين (إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) ما يبيّن لكم .

والجمل الأربع جاءت مستأنفات على التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة. ويجوز أن تكون الثلاث الأول صفات . (بطانة». وأما «قد بيّنا» فكلام مبتدأ.

عن ابن عبّاس : أنّ نزول هذه الآية في شأن رجال من المسلمين كانوا يواصلون رجالاً من اليهود ، لما كان بينهم من الصداقة والقرابة والجوار والحلف والرضاع.

ص: 547

ثم بين سبحانه ما هم عليه من عداوة المؤمنين، تأكيداً للنهي عن مصافاتهم، فقال: (هَا) للتنبيه (أنتُمْ) مبتدأ (أولاء) خبره ، أي : أنتم أولاء الخاطئون في موالاة الكفّار . وقوله (تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) بيان لخطئهم في موالاتهم . وهو خبر ثانٍ ، أو خبر ل«أولاء » ، والجملة خبر «أنتم» كقولك: أنت زيد تحبّه ، أو صلته ، أو حال والعامل فيها معنى الاشارة. ويجوز أن ينتصب «أولاء» بفعل يفسّره ما بعده ، أي : أنتم تحبّون هؤلاء، وتكون الجملة خبراً.

(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ) أي : وأنتم تؤمنون، لتكون الجملة اسمية، فيجوز دخول واو الحال عليها . والمراد بالكتاب جنس الكتاب كله . وذو الحال هو ضمير مفعول (يحبّونكم». والمعنى : أنهم لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم أيضاً ، فما بالكم تحبّونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم ؟! وفيه توبيخ بأنّهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم.

(وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا) نفاقاً وتغريراً ( وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ) أطراف الأصابع (مِنَ الْغَيْظِ) من أجل الغيظ والغضب، لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم، ونصرة الله إيَّاهم، تأسّفاً وتحسّراً حيث لم يجدوا إلى التشفّي سبيلاً. وعض الأنامل والبنان من صفة المغتاظ والنادم.

(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) دعاء عليهم بدوام غيظهم وزيادة ما يغيظهم بتضاعف قوّة الاسلام وعزّ أهله وما لهم في ذلك من الذلّ والخزي حتى يهلكوا به ويصلوا إلى النار . فكأنّه قال : أماتكم الله بغيظكم. ويجوز أن يكون هذا أمراً للرسول بطيب النفس وقوة الرجال، والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظاً، بإعزاز الإسلام وإذلالهم ،به ، ولا يكون هناك قول ، كأنه قيل : حدّث نفسك بذلك .

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فيعلم ما في صدورهم من الغيظ والنفاق . وهذا يحتمل أن يكون من المقول ، أي : وقل لهم إنّ الله عليم بما هو أخفى ما تخفونه من عض الأنامل غيظاً، وأن يكون خارجاً عن القول ، يعني : قل لهم ذلك ، ولا تتعجّب

ص: 548

من اطلاعي إيّاك على أسرارهم ، فإنّي عليم بالأخفى من ضمائرهم.

ثمّ بيّن الله تناهي عداوتهم بقوله : ( إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) من نصرة وغنيمة ونعمة من الله (تَسُؤْهُمْ) تحزنهم ( وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) محنة بإصابة العدوّ منكم ونحوها (يَفْرَحُوا بِهَا) أي: حسدوا ما أنالكم من خير ومنفعة، وشمتوا بما أصابكم من ضرّ وشدّة . والمسّ مستعار للإصابة، فكان المعنى واحداً ألا ترى إلى قوله : ( إن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ )(1). وقوله : ( مَا َأصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ ) (2). وقوله : (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا) (3).

(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على عداوتهم وأذاهم أو على مشاق التكاليف الشرعية (وَتَتَّقُوا) عن موالاتهم، أو عمّا حرم الله عليكم (لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) مكر المنافقين وسائر المشركين (شَيْئاً) بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ، فكنتم في كنف الله وحفظه . وأيضاً المجدّ في الأمر المعتاد بالاتّقاء والصبر يكون قليل الانفعال عن المصيبة جريئاً على الخصم. وضم الراء لإتباع العين، كضم مد . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب : لا يضركم، من : ضاره يَضِره.

(إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ) من الصبر والتقوى وغيرهما ( مُحِيطٌ محيط علمه، أي: عالم بذلك من جميع جهاته، فيجازيكم بما أنتم أهله.

آية 121

«وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)»

ولما أمر الله سبحانه بالصبر في قوله : (وإن تصبروا وتتّقوا» عقّبه بنصرة

ص: 549


1- التوبة : 50 .
2- النساء : 79 .
3- المعارج : 20 - 21 .

المسلمين يوم بدر وصبرهم على القتال، ثم ذكر امتحانهم يوم أحد لما تركوا الصبر فقال : ( وَإِذْ غَدَوتَ) أي : واذكر إذ خرجت غدوة (مِنْ أَهْلِكَ ) من حجرة عائشة إلى أحد ( تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ) تنزلهم، أو تسوّي وتهيء لهم. ويؤيّده القراءة باللام (مَقَاعِدَ لِلْقِتَال ) مواقف وأماكن له . وقد يستعمل المقعد والمقام بمعنى المكان على الاتّساع، كقوله : ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) (1)، وقوله : (قَبْلَ أَن تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ) (2) . (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بنيّاتكم.

عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال : «كان سبب غزاة أحد أن قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكّة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر ، لأنه قتل منهم سبعون وأسر سبعون، قال أبو سفيان يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم، فإنّ الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمّد . فلما غزوا رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يوم أحد أذنوا لنسائهم في البكاء والنوح، وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل، وأخرجوا معهم النساء. فلما بلغ رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)ذلك جمع أصحابه وحتهم على الجهاد.

فقال عبدالله بن أبي سلول : يا رسول الله لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها ، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، ونحن على حصوننا ودروبنا ترميهم السهام والأحجار، فيكون الظفر لنا ، وما خرجنا إلى عدوّ لنا قط إلا كان له الظفر علينا.

فقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا: يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يطمعون بنا وأنت فينا ؟! فنخرج إليهم نقاتلهم ، فمن قتل منا كان شهيداً، ومن نجا منا كان مجاهداً في سبيل الله .

ص: 550


1- القمر : 55 .
2- النمل: 39 .

فقبل رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)رأيه . فقال (علیه السلام) : رأيت في منامي بقراً مذبوحاً حولي، فأوّلتها خيراً. ورأيت في ذباب (1) سيفي ثلماً ، فأولته هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة ، فأوّلتها المدينة.

فخرج مع نفر من أصحابه يتبوؤن موضع القتال. وقعد عنه عبدالله بن أبي سلول، وتبع رأيه جماعة من الخزرج ووافت قريش إلى أحد. وكان رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) عبّاً أصحابه، وكانوا سبعمائة رجل ووضع عبدالله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب كميناً، فقال لهم : إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان ، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم .

ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً ، وقال : إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم.

وعبّاً رسول الله أصحابه، ودفع الراية إلى أمير المؤمنين (علیه السّلام). فحمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة ، وأصحاب رسول الله وقعوا في سوادهم حتى ظهروا عليهم. ونظر أصحاب عبدالله بن جبير إلى أصحاب رسول الله ينتهبون سواد القوم فقالوا لعبد الله بن جبير : قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة . فقال لهم عبدالله : اتقوا الله ، فإنّ رسول الله قد أمرنا أن لا نبرح من هاهنا، فلم يقبلوا منه، فانسل رجل فرجل حتى أخلوا ،مراكزهم وبقي عبدالله بن جبير في اثني عشر رجلاً.

وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدي من بني عبدالدار ، فقتله علي (علیه السّلام) . فأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة، فقتله علي (علیه السّلام). وسقطت الراية فأخذه مسافع بن أبي طلحة فقتله علي (علیه السّلام)، حتى قتل تسعة من بني عبدالدار ، حتى

ص: 551


1- ذُبابُ السّيف : طرفه الذي يضرب به.

صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له : ثواب، فانتهى إليه علي (علیه السّلام) فقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليسرى فضرب يسراه فقطعها، فاعتنقها بالجذماوين (1) إلى صدره ، ثم التفت إلى أبي سفيان فقال : هل أعذرت في بني عبدالدار ، فضربه علي(علیه السّلام) على رأسه فقتله . فسقط اللواء، فأخذتها عمرة بنت علقمة الكنانية فرفعتها.

وانحط خالد بن الوليد على عبدالله بن جبير وقد فرّ أصحابه وبقي في نفر قليل ، فقتلهم على باب الشعب، ثم أتى المسلمين من أدبارهم . ونظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها . وانهزم أصحاب رسول الله هزيمة عظيمة ، وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كلّ وجه. فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : إليّ أنا رسول الله ، إلى أين تفرّون ؟ عن الله وعن رسوله!

وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر، فكلما انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلاً ومكحلة وقالت : إنّما أنت امرأة فاكتحل بهذا.

وكان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم ، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد . وكانت هند قد أعطت وحشيّاً عهداً لئن قتلت محمّداً أو عليّاً أو حمزة لأعطينّك كذا وكذا. وكان وحشي عبداً لجبير بن مطعم حبشيّاً. فقال وحشي : أمّا محمّد فلا أقدر عليه ، وأمّا عليّ فرأيته حذراً كثير الالتفات فلا مطمح فيه، فكمنت لحمزة . قال : فرأيته يهدّ (2) الناس هدّاً ، فمرّ بي فوطىء على جرف نهر فسقط : فأخذت حربتي فهززتها ورميته بها فوقعت في خاصرته وخرجت من ثنّته (3)،

ص: 552


1- تثنية الجذماء ، أي : اليدين المقطوعتين .
2- أي : يكسرهم ويوهي جمعهم ، من : هد البناء ، أي : كسره وضعضعه .
3- الثَّنْةُ : ما دون السرّة فوق العانة أسفل البطن .

فشققت بطنه فأخذت كبده وجئت به إلى هند فقلت : هذه كبد حمزة، فأخذتها في فمها فلاكتها ، فجعله الله في فمها مثل الداعضة، وهي عظم رأس الركبة ، فلفظتها ورمتها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فبعث الله ملكاً فحمله وردّه إلى موضعه . قال : فجاءت إليه فقطعت مذاكيره، وقطعت أذنيه، وقطعت يده ورجله .

ولم يبق مع رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إلا أبو دجانة سماك بن خرشة وعلي (علیه السّلام).

فكلما حملت طائفة على رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) استقبلهم علي الله فدفعهم عنه، حتى تقطع سيفه ، فدفع إليه رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) سيفه ذا الفقار. وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناحية أحد فوقف. وكان القتال من وجه واحد، فلم يزل عليّ (علیه السّلام) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه ويديه وبطنه ورجليه سبعون جراحة. فقال جبرائيل(علیه السّلام) : إن هذه لهي المواساة يا محمّد فقال : إنّه منّي وأنا منه فقال جبرائيل وأنا منكما.

قال أبو عبد الله (علیه السّلام) : «نظر رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إلى جبرائيل (علیه السّلام) بين السماء والأرض على كرسي من ذهب وهو يقول : لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي». كذا أورده على بن إبراهيم في تفسيره (1).

وروى ابن أبي إسحاق والسدي والواقدي وابن جرير وغيرهم قالوا: كان المشركون نزلوا بأحد يوم الأربعاء اثني عشر شوّال سنة ثلاث من الهجرة، وخرج رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)إليهم يوم الجمعة، وكان القتال يوم السبت للنصف من الشهر. وكسرت رباعية رسول الله وشجّ في وجهه. ثم رجع المهاجرون والأنصار بعد الهزيمة، وقد قتل من المسلمين سبعون . وشدّ على رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، الأمر ، فوقى الله المسلمين ونصرهم ، فانهزم الكفّار، وغلب المسلمون عليهم.

ص: 553


1- راجع تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 1 : 110 - 116 .

آیة 122 - 129

«إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)»

وروي أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) متى كان يخرج من المدينة مع أصحابه وعد لهم النصر إن صبروا، فلما بلغوا طرف الوادي انخزل عبد الله بن أبي في ثلاثمائة رجل وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم . فقال ابن أبي : (لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم) (1). فهمّ بنو سلمة من

ص: 554


1- آل عمران : 167 .

الخزرج وبنو الحارثة من الأوس - وكانا جناحي العسكر - أن يتبعا ابن أبي فعصمهم الله ، فمضوا مع رسول الله ، فقال تعالى في حقّهما : (إذ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ) حيّان منكم : بنو سلمة وبنو حارثة. وهذه الشرطية متعلقة بقوله: «سميع عليم»، أو بدل من «إذ غدوت» (أن تَفْشَلَا) أن تجبنا وتضعفا ( واللهُ وَلِيُّهُمَا ) أي : متولي أمرهما وعاصمهما من اتباع ابن أبي المنافق، أو ناصرهما (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فليتوكَّلوا عليه ولا يتوكلوا على غيره ، لينصركم الله كما نصركم ببدر .

ثم بيّن سبحانه ما فعله بهم من النصر يوم بدر ، فقال : ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ ببدر) بتقوية قلوبكم، وبما أمدّكم من الملائكة، وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم. وبدر ماء بين مكّة والمدينة، كان لرجل يسمّى بدراً فسمّي به ﴿وَأَنْتُمْ أذِلَّةٌ) حال من الضمير. وإنّما قال : أذلّة، ولم يقل : ذلائل، ليدلّ على قلتهم مع ذلّتهم ، لضعف الحال ، وقلة المراكب والسلاح وذلك لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، سبعة وسبعين من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثين من الأنصار. وخرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد، وما كان معهم إلا فرسان، فرس لمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد . وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية أسياف، ومن الإبل سبعون بعيراً. وكان عدد المشركين نحو ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس.

(فَاتَّقُوا الله) في الثبات (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لتقوموا بشكر ما أنعم به عليكم - بتقواكم - من نصر من نصره، أو لعلكم ينعم الله عليكم فتشكرون، فوضع الشكر موضع الإنعام، لأنه سببه وقد روي عن الموافقين والمخالفين أن صاحب راية رسول الله(صلّی الله علیه و آله و سلّم) يوم بدر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام) .

وقوله : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ظرف «نصركم» على أن يكون قال لهم ذلك يوم بدر ، والخطاب للنبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم). وقيل : بدل ثانٍ من «إذ غدوت» على أن قوله ذلك

ص: 555

لهم يوم أحد مع اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة، فلما لم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا حيث خالفوا أمر الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم). لم تنزل الملائكة .

وقوله : ( أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ) إِنكار أن لا يكفيهم ذلك. وإنما جيء ب«لن» إشعاراً بأنهم كانوا كالآيسين من النصر ، لضعفهم وقلّتهم ، وقوّة العدوّ وكثرتهم . وقيل : أمدّهم الله تعالى يوم بدر أوّلاً بنزول ألف من الملائكة ، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف . وقرأ ابن عامر : منزّلين بالتشديد ، للتكثير أو للتدريج. وعن ابن عبّاس : أنّ الملائكة لم يقاتلوا إلّا يوم بدر، وكانوا في غيره من الأيام عدة ومدداً .

(بَلَى) إيجاب لما بعد «لن» أي : بلى يكفيكم الإمداد.

ثم وعد لهم الزيادة على الصبر والتقوى، حنّاً عليهما وتقوية لقلوبهم ، فقال : (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ ) أي : المشركون (مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا) من ساعتهم هذه . وهو في الأصل مصدر : فارت القدر إذا غلت. فاستعير للسرعة، ثم للحال التي لا مكث فيها ولا تراخي . والمعنى : إن يأتوكم في الحال (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ) في حال إتيان الكفّار بلا تراخ وتأخير (مُسَؤْمِينَ) معلمين، من التسويم الذي هو إظهار سيما الشيء، لقوله (علیه السّلام): «تسوّموا، فإنّ الملائكة قد تسوّمت».

عن ابن عبّاس والحسن وقتادة : أنّ الملائكة أعلموا بالصوف في نواصي الخيل وأذنابها . وقال عروة نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بُلق (1)، وعليهم عمائم صفر . وقال علي (علیه السّلام): «كانت عليهم عمائم بيض أرسلوها بين أكتافهم».

وقال السدّي : معنى مسوَّمين - بالفتح - مرسلین، من الناقة السائمة، أي: المرسلة في المرعى .

ص: 556


1- بَلِقَ وأبلق بَلَقاً : كان في لونه سواد وبياض ، فهو أبلق ، وجمعه بُلق .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو ، بمعنى : المعلمين أنفسهم أو خيلهم.

(وَمَا جَعَلَهُ اللهُ) وماجعل إمدادكم بالملائكة (إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ) إِلّا بشارة لكم بالنصر ( وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) ولتسكن إليه قلوبكم من الخوف ﴿وَمَا النَّصْرُ) بإمداد الملائكة (إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ) لا من العدّة والعدد . وهو تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد ، وإنّما أمدهم ووعد لهم بالمدد بشارة لهم، وربطاً على قلوبهم، من حيث إنّ نظر العامة إلى الأسباب أكثر ، وحثّاً على أن لا يبالوا بمن تأخّر عنهم (الْعَزِيزِ) الّذي لا يغالب في حكمه (الْحَكِيمِ) الذي يعطي النصر ويمنعه بحسب ما يراه من المصلحة والحكمة .

وقوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) متعلق ب«نصركم»، أو «وما النصر» إن كان اللام فيه للعهد والمعنى : لينقص الكفرة بقتل بعض وأسر آخرين، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من صناديدهم. وإنما لم يقل : ليقطع وسطاً منهم، لأنه لا يوصل إلى الوسط منهم إلا بقطع الطرف، ولأن الطرف أقرب إلى المؤمنين ، فهو كما قال : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ ) (1).

(أوْ يَكْبِتَهُمْ ) أو يخزيهم بالخيبة مما أملوا من الظفر بكم ويغيظهم بالهزيمة . والكبت : شدّة الغيظ، أو وهن يقع في القلب . و«أو» للتنويع دون الترديد. (فَيَنقَلِبُوا خَآئِبِينَ) فينهزموا منقطعي الآمال غير ظافرين.

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ) جملة معترضة (أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) عطف على قوله : «أو يكبتهم». والمعنى: أنّ الله تعالى مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم، أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم إنا أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا، فليس لك من أمرهم شيء، وإنما أنت نبي مبعوث مأمور لإنذارهم وجهادهم. ويحتمل أن يكون

ص: 557


1- التوبة : 123 .

معطوفاً على «الأمر» أو «شيء» بإضمار «أن»، أي: ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم . وأن تكون «أو» بمعنى إلّا أن أي : ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتسرّ به ، أو يعذبهم فتتشفّى منهم .

روي: أن عتبة بن أبي وقّاص شجّ النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يوم أحد وكسر رباعيته ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم بالدم ؟ فنزلت . وقيل : هم أن يدعو عليهم فنهاه الله تعالى، لعلمه بأن فيهم من يؤمن.

فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) قد استحقوا التعذيب بظلمهم.

لمّا قال: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأمْرِ شَيءٌ» عقب ذلك بأنّ الأمر كله له ، فقال : (وَلِلهِ مَا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) خلقاً وملكاً ومُلكاً، فله الأمر كله (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) وإنّما أبهم الأمر في التعذيب والمغفرة ليقف المكلّف بين الخوف والرجاء، فلا يأمن من عذاب الله ، ولا ييأس من روح الله ورحمته (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ،بعباده، فلا تبادر إلى الدعاء عليهم.

آیة 130 - 136

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

ص: 558

(134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)»

ولمّا ذكر سبحانه أنّ له التعذيب لمن يشاء ويغفر لمن يشاء، وصل ذلك بالنهي عمّا لو فعلوه لاستحقوا عليه العذاب، وهو الربا ، فقال : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا الرِّبَوْا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) لا تزيدوا زيادات مكرّرة. والتخصيص بحسب الواقع ، إذ كان الرجل منهم إذا بلغ الدّين محلّه زاد في الأجل، فربّما استغرق بالشيء اليسير مال المديون. وذكر الأكل لأنه معظم الانتفاع ، وإن كان غيره من التصرفات أيضاً منهيّاً عنه . وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب : مضعفة .

(وَاتَّقُوا اللهَ) فيما نهيتم عنه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) راجين الفلاح ، أو لكي تنجحوا بإدراك ما تأملونه ، وتفوزوا بثواب الجنّة .

﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أَعِدَّتْ) هيئت (لِلْكَافِرِينَ) بالتحرز عن متابعتهم وتعاطي أفعالهم. والوجه في تخصيص الكافرين بإعداد النار لهم أنهم معظم أهل النار . وفيه تنبيه على أنّ النار بالذات معدّة للكفّار، وبالعرض للعصاة. وكان أبو حنيفة يقول :هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه .

ثم أتبع الوعيد بالوعد، ترهيباً عن المخالفة، وترغيباً في الطاعة ، فقال : (وَأطِيعُوا الله) فيما أمركم به (وَالرَّسُولَ) فيما شرع لكم (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) راجين الرحمة، أو لكي ترحموا فلا يعذِّبكم. وطاعة الرسول هي طاعة الله ، فوجه

ص: 559

ذكرهما معاً شيئان: أحدهما : أن المقصد بهما طاعة الرسول فيما دعا إليه مع القصد لطاعة الله . والثاني : ليعلم أن من أطاعه فيما دعا إليه فهو كمن أطاع الله ، فيسارع إلى ذلك بأمر الله تعالى. وفي ذكر «لعلّ» و «عسى» في نحو هذه المواضع ما لا يخفى على العارف الفطن ، من دقة مسلك التقوى، وصعوبة إصابة رضا الله ، وعزّة التوصل إلى رحمته وثوابه.

(وَسَارِعُوا) وبادروا إِلَى (مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنّة الإقبال على ما يستحق به المغفرة كالاسلام والتوبة والاخلاص في الطاعات الواجبة والمندوبة . وعن أمير المؤمنين(علیه السّلام) : في أداء الفرائض وقرأ نافع وابن عامر : سارعوا بلا واو.

(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ) والمراد وصفها بالسعة والبسطة ، فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلق الله وأبسطه . وخص العرض على طريق التمثيل،لأنه دون الطول في العادة فيدلّ على أنّ الطول أعظم، وليس كذلك لو ذكر الطول دون العرض. أو لم يرد به العرض الذي هو خلاف الطول، وإنّما أراد سعتها وعظمها ، والعرب إذا وصفت الشيء بالسعة وصفته بالعرض. ولمّا كانت الجنّة فوق السماوات السبع تحت العرش والنار تحت الأرضين السبع، كما هو المروي، فلا يقال : إذا كانت الجنّة في السماء فكيف يكون لها هذا العرض ؟ أو إذا كانت الجنّة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار ؟ وعن ابن عباس : كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض .

(أعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) هيّئت لهم . وفيه دليل على أنّ الجنّة مخلوقة، لأنها لا تكون معدّة إلا وهي مخلوقة، وأنها خارجة عن هذا العالم.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) صفة مادحة للمتقين، أو مدح منصوب أو مرفوع (في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّآءِ) في حال الرخاء واليسر، وفي حال الضيق والعسر، أو الأحوال كلها، إذ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة، أي: لا يخلون في حال ما بإنفاق ما

ص: 560

قدروا عليه من قليل أو كثير . وافتتح بذكر الانفاق لأنه أشق شيء على النفس، وأدلّه على الاخلاص ، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال، للحاجة إليه في مجاهدة العدوّ ومواساة فقراء المسلمين.

وفي الحديث أنّ النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال : «السخاء شجرة في الجنّة، وأغصانها في الدنيا، من تعلّق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنّة . والبخل شجرة في النار . أغصانها في الدنيا ، فمن تعلّق بغصن من أغصانها قادته إلى النار».

وقال علي(علیه السّلام): «الجنّة دار الأسخياء». وقال: «السخي قريب من الله ، قريب من الجنّة، قريب من الناس بعيد من النار . والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الجنّة ، بعيد من الناس قريب من النار».

(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) الممسكين على ما في أنفسهم من الغيظ ، المتجرّعين له بالصبر ، الكافين عن إمضائه مع القدرة من كظم القربة، إذا ملأها وشدّ فاها .

وفي الحديث: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً». وفي خبر آخر: «ملأه الله يوم القيامة رضاً». رواه أبو أمامة .

وروي أن رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)قال : «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الّذي يملك نفسه عند الغضب».

(وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) التاركين عقوبة من استحقّوا مؤاخذته. وعن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «أن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله ، وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت». وقال النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «ما عفا رجل عن مظلمة قط إلا زاده الله بها عزّاً». وروي : «ينادى يوم القيامة : أين الذين كانت أجورهم على الله ؟ فلا يقوم إلا من عفا».

(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يحتمل الجنس ويدخل تحته هؤلاء والعهد فتكون الاشارة إليهم.

روي: «أن جارية لعلي بن الحسين (علیهما السّلام) جعلت تسكب عليه الماء ليتهيّاً

ص: 561

للصلاة، فسقط الإبريق من يدها ،فشجّه، فرفع رأسه إليها ، فقالت له الجارية : إنّ الله تعالى يقول : (والكاظمين الغيظ ) ، فقال لها : قد كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس ، قال : عفا الله عنك ، قالت : (والله يحب المحسنين) ، قال : اذهبي فأنت حرّة لوجه الله».

ثم عطف على المتقين قوله : ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) فعلة بالغة في القبح كالزنا (أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) بأن أذنبوا أيّ ذنب كان . وقيل : الفاحشة الكبيرة ، وظلم النفس الصغيرة. ولعلّ الفاحشة ما يتعدّى وظلم النفس ما ليس كذلك. (ذَكَرُوا الله ) أي : ذكروا نهي الله أو وعيده أو عقابه فانزجروا عن المعصية، أو حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء منه (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) وقالوا : اللهم اغفر لنا ذنوبنا ندماً وتوبة.

﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله) استفهام بمعنى النفي ، يعني : الذنوب التي يستحق عليها العقاب لا يغفرها إلّا الله . والجملة معترضة بین المعطوف والمعطوف عليه ، منبّهة على لطيف فضله وجليل عفوه وكرمه، باعثة على التوبة وطلب المغفرة، دالّة على سعة الرحمة وعموم المغفرة، ووعد بقبول التوبة، وردع عن اليأس والقنوط .

(وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا) ولم يقيموا على أفعالهم القبيحة غير مستغفرين. وفي الحديث: «ما أصرّ من استغفر ، ولو عاد في اليوم سبعين مرة». وروي: «لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار». (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من فعل الاصرار والمعنى : وليسوا ممّن يصرّون على قبيح فعلهم عالمين بالنهي عنه والوعيد عليه .

ثمّ وعد المتقين والتائبين منهم الجنّة والمغفرة ، فقال : ( أوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةً مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ). فهذه جملة مستأنفة مبينة لما قبلها، وذلك إن عطفت الجملة الموصولة - أعني : قوله : «الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً»

ص: 562

على «المتقين» أو على «الَّذين ينفقون». وإن ابتدأت به فهذا خبره.

ولا يلزم من إعداد الجنّة للمتقين والتائبين جزاءً لهم أن لا يدخلها المصرّون ، كما لا يلزم من إعداد النار للكفّار جزاءً لهم أن لا يدخلها غيرهم.

وتنكير «جنّات» على الثاني يدلّ على أنّ ما لهم أدون ممّا للمتقين الموصوفين بالصفات المذكورة في الآية المتقدّمة، فإنّ التنكير لا يفيد العموم، فتخصيصه بهم مشعر بتقليل نصيبهم منها . وكفاك فارقاً بين القبيلين أنه تعالى ختم آيتهم بأنّهم محسنون مستوجبون لمحبّة الله ، وذلك لأنّهم حافظوا على حدود الشرع، وتخطوا إلى التخصص بمكارمه، وختم هؤلاء بقوله: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) ، لأن المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيل ما فوّت على نفسه، وكم من فرق بين المحسن والمتدارك ، والمحبوب والأجير ولعلّ تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة .

والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : ونعم أجر العاملين ذلك ، يعني : المغفرة والجنّات . وفي هذا بيان أن المؤمنين ثلاث طبقات: متقون، وتائبون، ومصرّون ، وأن للمتقين والتائبين منهم الجنّة والمغفرة .

روي عن النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) :« أن الله أوحى إلى موسى : ما أقلّ حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي ؟ !» .

وعن شهر بن حوشب : طلب الجنّة بلا عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممّن لا يطاع حمق وجهالة.

وعن الحسن : يقول الله يوم القيامة : جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي ، واقتسموها بأعمالكم».

وعن رابعة البصريّة أنها كانت تنشد :

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس

عن ابن مسعود : السبب في نزول هذه الآية أنّ قوماً من المؤمنين قالوا: يا

ص: 563

رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منّا ،كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفّارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه : اجدع أنفك أو أذنك، أو افعل كذا وكذا. فسكت رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فنزلت الآية ، فقال : ألا أخبركم بخير من ذلكم ؟ وقرأ عليهم هذه الآية.

وعن عطاء : أنّ نبهان التمار أتته امرأة تبتاع منه تمراً، فقال لها : هذا التمر ليس بجيّد، وفي البيت اجود منه ، وذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها . فقالت له : اتق الله . فتركها وندم ، وأتى النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وذكر له ، فنزلت الآية .

آیة 137 -138

قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿ 137 ﴾ هَذَا بَيَانُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للمُتَّقِينَ ﴿138)

ولما بين سبحانه ما يفعله بالمؤمن والكافر في الدنيا والآخرة، بيّن أنّ ذلك عادته سبحانه في خلقه ، فقال : (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) وقائع سنّها الله تعالى في الأمم الخالية المكذِّبة رسلها من الاستئصال بالعذاب، وتبقية الديار للاتعاظ والانزجار والاعتبار ، كقوله (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ﴾(1). :وقيل أمم. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم ، وتنتهوا عن مثل ما فعلوه.

(هَذا بَيَانُ لِلنَّاسِ وَهُدى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ إشارة إلى قوله : «قد خلت» أو مفهوم قوله : «فانظروا»، أي: أنه مع كونه بياناً وإيضاحاً لسوء عاقبة المكذّبين، فهو زيادة بصيرة وموعظة للمتقين . أو إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرّين. وقوله : «قد خلت» اعتراض للبعث على الإيمان والتوبة . وقيل : إلى

ص: 564


1- الأحزاب : 61 - 62 .

القرآن. وإنّما خص المتقين به مع كونه بياناً وهدى وموعظة للناس كافة ، لأنّ المتقين هم المنتفعون ،به والمهتدون بهداه ، والمتعظون بمواعظه .

آية 139 - 141

«وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)»

قيل : لمّا انهزم المسلمون في الشعب، وأقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): اللهم لا يعلنّ علينا ، اللهم لا قوّة لنا إلا بك ، اللهمّ ليس يعبدك بهذه البلدة إلّا هؤلاء النفر، فنزلت: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا) تسلية من الله لرسوله وللمؤمنين عمّا أصابهم يوم أحد. والمعنى : لا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم، ولا تبالوا بذلك ، ولا تحزنوا على من قتل منكم.

(وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ) وحالكم أنّكم أعلى منهم شأناً وأغلب ، فإنّكم على الحق ، وقتالكم الله ولإعلاء كلمته ، وقتلاكم في الجنّة، وأنّهم على الباطل، وقتالهم للشيطان، وقتلاهم في النار . أو لأنّكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم أو تكون هذه بشارة لهم بالعلوّ والغلبة في العاقبة ، كقوله : ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ (1).

ص: 565


1- الصافات : 173 .

(إن كُنتُم مُؤْمِنِينَ) متعلّق بالنهي ، أي : ولا تهنوا إن صح إيمانكم ، لأنّ صحة الإيمان توجب قوة القلب، وتقتضي الثقة بالله ، وقلّة المبالاة بأعداء الله . أو متعلّق ب«الأعلون» ، أي : أنتم الأعلون إن كنتم مصدّقين بما يعدكم الله من الغلبة .

(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) قرأ حمزة والكسائي وابن عيّاش عن عاصم بضم القاف، والباقون بالفتح. وهما لغتان كالضَّعف والضُّعف. وقيل : هو بالفتح الجراحات وبالضم ألمها يعني إن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم قبله يوم بدر مثله ، ثم إنّهم لم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى بأن لا تضعفوا فإنّكم ترجون من الله ما لا يرجون .

وقيل : كلا المسّين كان يوم أحد، فإنّ المسلمين نالوا من الكفّار قبل أن يخالفوا أمر الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

عن أنس بن مالك : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي يومئذٍ وفيه نيّف وستّون جراحة ، من طعنة الله وضربة ،ورمية ، فجعل رسول الله يمسحها وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن.

وعن ابن عبّاس قال : لمّا كان يوم أحد صعد أبو سفيان الجبل، فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): اللّهمّ إنّه ليس لهم أن يعلونا فمكث أبو سفيان ساعة وقال : يوماً بيوم، إنّ الأيام دول، وإنّ الحرب سجال . فقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): أجيبوه . فقالوا: لا سواء، قتلانا في الجنّة، وقتلاكم في النار . فقال : لنا عزّى، ولا عزّى لكم . فقال النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): الله مولانا، ولا مولى لكم . فقال أبو سفيان : أعل هبل . فقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): الله أعلى وأجلّ.

﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) نصرفها بينهم، نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى ، كقوله :

فيوماً علينا ويوماً لنا *** ويوماً نساء ويوماً نسرّ

والمداولة كالمعاودة ، يقال : داولت الشيء بينهم فتداولوه. والأيام تحتمل

ص: 566

الوصف والخبر . و «نداولها» يحتمل الخبر والحال . والمراد بها أوقات النصر والغلبة

وقوله : ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على علّة محذوفة أي نداولها ليكون كيت وكيت وليعلم الله إيذاناً بأنّ العلة في هذه المداولة غير واحدة من المصالح ما لا يعلم غير الله . أو الفعل المعلّل به محذوف تقديره: وليتميز الثابتون على الإيمان من غيرهم فعلنا ذلك. وهو من باب التمثيل ، أي : فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم ومن غير الثابت، وإلا فإنه سبحانه لم يزل عالماً بما يكون قبل كونه فالقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه، بل إلى إثبات المعلوم ونفيه على طريقة البرهان.

وقيل : معناه : وليعلمهم علماً يتعلّق به الجزاء، وهو أن يعلمهم موجوداً. أو المراد بالعلم ،لازمه وهو التمييز ، أي : ليتميّز المؤمنون الثابتون على الإيمان من الذين على حرف.

وقيل : معناه : ليظهر المعلوم من صبر من يصبر، وجزع من يجزع.

﴿ وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ) أي : وليكرم ناساً منكم بالشهادة، يريد شهداء أحد. أو يتخذ منكم شهوداً معدّلين على الأمم يوم القيامة، بما صودف منهم من الثبات والصبر على الشدائد ، كقوله : ( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (1).

(وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الّذين يضمرون خلاف ما يظهرونه، أو الكافرين. وهو اعتراض بين بعض التعليل. وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة، وإنّما يغلبهم أحياناً استدراجاً لهم، وابتلاء للمؤمنين .

(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ليطهِّرهم ويصفّيهم من الذنوب إن كانت الدولة عليهم ﴿وَيَمْحَقَ) اللهُ (الْكَافِرِينَ) ويهلكهم إن كانت عليهم .والمحق نقص الشيء قليلاً قليلاً.

ص: 567


1- البقرة : 143 .

آية 142 - 148

«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)»

ولمّا حثّ الله تعالى العباد على الجهاد ورغّب فيه، زاد في البيان بأن الجنّة لا تنال إلّا بالبلوى والاختبار ، فقال : (أمْ حَسِبْتُم أن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) أم منقطعة ، والتقدير : بل أحسبتم. ومعنى الهمزة فيها للانكار .(وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا

ص: 568

مِنْكُمْ) :أي: ولمّا تجاهدوا ، لأنّ العلم يتعلّق بالمعلوم كما مرّ ، فنزّل نفي العلم منزلة نفي متعلقه، لأنه ينتفي بانتفائه ، تقول : ما علم الله في فلان خيراً، تريد: ما فيه خير حتى يعلمه . و«لما» بمعنى «لم» إلا أن فيها ضرباً من التوقع، فدلّ على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى توقعه فيما يستقبل. ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) نصب بإضمار «أن» على أنّ الواو للجمع ، كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن والمعنى: أظننتم أنّكم تدخلون الجنّة ولمّا يقع العلم بوجود المجاهدين منكم والعلم بصبر الصابرين ؟!

﴿ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) :أي: الحرب، فإنّها من أسباب الموت أو الموت بالشهادة (مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ) قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدّته وصعوبة مقاساته. والخطاب للذين لم يشهدوا بدراً، وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)مشهداً لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة، فألحوا يوم أحد على الخروج.

(فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي : فقد رأيتم الموت معاينين له، حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم وشارفتم أنتم أن تقتلوا فهذا تأكيد للرؤية، كما يقال : رأيته عياناً، ورأيته بعيني وسمعته بأذني ، لئلا يتوهّم رؤية القلب وسمع العلم . ويجوز تمنّي الشهادة ، لأنّ المراد منه نيل كرامة الشهداء لا غير، كما أنّ من شرب دواء الطبيب النصراني قاصداً إلى حصول المأمول من الشفاء، لا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة وإحسان إلى عدوّ الله . فلا يقال : كيف يجوز تمنّي الشهادة، وفي تمنّيها تمنّي غلبة الكافر على المسلم ؟!

وقيل : معناه : تمني توفيق الصبر على الجهاد إلى أن يقتلوا. وهو توبيخ لهم على أنهم تمنوا الحرب، وتسبّبوا خروج رسول الله بإلحاحهم، ثم جبنوا وانهزموا عنها .

روي أنّه لمّا أنّه لمّا رمى عبد الله عبدالله بن قمئة الحارثي رسول الله رسول الله بحجر فكسر رباعيته

ص: 569

وشجّ وجهه، فذبّ عنه مصعب بن عمير، وكان صاحب الراية، فقتله ابن قمئة وهو یری أنه قتل النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، فقال : قد قتلت محمداً، وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، قيل : الصارخ هو إبليس، فنكص الناس فانهزموا . وجعل رسول الله(صلّی الله علیه و آله و سلّم) يقول : إليّ عباد الله ، حتى انحاز إليه ثلاثون من أصحابه، فلامهم على الفرار، فقالوا : یا رسول الله أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين. ثم حموا الرسول حتى كشفوا عن المشركين، وتفرّق الباقون .

وروي أنه قال بعضهم : ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان.

وقال أنس بن النضر - عمّ أنس بن مالك - . إن كان محمد قتل فإنّ ربّ محمد حي لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ، فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله ، وموتوا على ما مات عليه . ثم قال : اللّهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء - يعني : المسلمين - وأبرأ منه، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل، فنزلت:

(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) يعني : أنّه بشر اختاره الله لرسالته إلى خلقه (قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فسيخلوا كما خلوا بالموت أو القتل (أفَإِن مَاتَ) حتف أنفه (أوْ قُتِلَ) أو قتله الكفَّارِ (انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) ارتددتم كفاراً بعد إيمانكم فسمّى الارتداد انقلاباً على العقب، وهو الرجوع القهقرى ، لأن الردّة خروج إلى أقبح الأديان، كما أن الانقلاب على العقب خروج إلى أقبح ما يكون من المشي . والفاء معلّقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب والهمزة لإنكار ارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه بموت أو قتل، بعد علمهم بخلق الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به

والمعنى : كما أنّ أتباع الرسل بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوّهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوّه ، لأنّ الغرض من بعثة الرسول تبليغ الرسالة وإلزام الحجة ، لا وجوده بين أظهر قومه .

ص: 570

وقيل : الفاء للسببية ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلق الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته.

(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ) ومن يرتدد عن دينه (فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً )بارتداده بل لا يضر إلا نفسه، لأنه يستحق العقاب الدائم (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) الذين لم ينقلبوا ، لأنهم شكروا على نعمة الإسلام بالثبات عليه ، كأنس وأضرابه.

(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) يعني: أن موت النفوس محال أن يكون إلا بمشيئة الله تعالى، أو بإذنه لملك الموت في قبض روحه. فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له فيه . وملخّص المعنى : أنّ لكلّ نفس أجلاً مسمّى في علمه تعالى وقضائه ، لا يستأخرون ولا يستقدمون بالتقاعد عن القتال والإقدام عليه. وفيه تحريض وتشجيع على القتال، ووعد للرسول بالحفظ ، وتأخير الأجل.

وقوله : (كِتاباً) مصدر مؤكّد ، إذ المعنى : كتب الموت كتاباً (مُؤَجَّلاً) صفة له أي مؤقتاً له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر.

(وَمن يُرِدْ) بجهاده (ثَوَابَ الدُّنْيَا ) يعني : الغنيمة(نُؤْتِهِ مِنْهَا) أي: من ثوابها . هذا تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم أحد، فإنّ المسلمين كما مرّ حملوا على المشركين وهزموهم وأخذوا ينهبون ، فلما رأى الرماة ذلك أقبلوا على النهب وخلّوا مكانهم ، فانتهز المشركون وحملوا عليهم من ورائهم فهزموهم.

(وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا) أي: من ثوابها (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) الذين شكروا نعمة الله ، فلم يشغلهم شيء عن الجهاد. وفي تكراره تأكيد وتنبيه على عظم منزلة الشاكر.

وروى أبان بن عثمان عن أبي جعفر (علیه السّلام): أنه أصاب عليّاً (علیه السّلام) يوم أحد

ص: 571

ستّون جراحة، فأمر النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)و أم سليم وأم عطية أن تداوياه، فقالتا : إنا لا نعالج نه مكاناً إلا انفتق مكان آخر، وقد خفنا عليه . فدخل رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) والمسلمون يعودونه، فجعل يمسح جراحاته بيده ويقول : إنّ رجلاً لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر. وكان القرح الذي يمسحه رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)يلتئم . فقال علي(علیه السلام) : الحمد الله إذ لم أفرّ ولم أول الدبر . فذكر الله تعالى له ذلك الشكر في موضعين من القرآن، وهو قوله : (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(1)، «وسنجزي الشاكرين».

(وَكَأَيِّن أصله «أي دخلت الكاف عليها فصارت بمعنى «كم»، والنون تنوين أثبت في الخطّ على غير قياس . وقرأ ابن كثير : وكائن كطاعن ووجهه : أنه قلب الكلمة الواحدة، كقولهم : رَعَمْلي في العمري، فصار كيان، ثم حذفت الياء الثانية للتخفيف ، ثم أبدلت الياء الأخرى ألفاً، كما أبدلت من طائي .

(مِن نَبِيِّ) بيان له (قَاتَلَ مَعَهُ رِبْيُّونَ كَثِيرٌ ) ربّانيّون علماء أتقياء صبّر ، أو عابدون لربهم . وقيل : جماعات والربّي منسوب إلى ربّة، وهي الجماعة للمبالغة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب: قتل وإسناده إلى «ربّيون»، أو ضمير النبي ، ومعه ربّيون» حال منه . يعني : قتل كائناً معه ربّيون.

(فَمَا وَهَنُوا) فما فتروا ، ولم ينكسر جدّهم (لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) من قتل النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، أو بعضهم (وَمَا ضَعُفُوا) عن جهاد العدوّ بعده ، أو في الدين (وَمَا اسْتَكَانُوا) وما خضعوا للعدوّ وأصله : استكن من السكون ، لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده والألف من إشباع الفتحة أو استكون من الكون، لأنه يطلب من نفسه أن يكون لمن يخضع له. وهذا تعريض بالوهن الذي أصابهم عند الإرجاف بقتله (علیه السّلام)، وبضعفهم عند ذلك، واستكانتهم للمشركين حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبدالله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان. (وَاللهُ يُحِبُّ

ص: 572


1- آل عمران : 144 .

الصَّابِرِينَ) فينصرهم ويعظم قدرهم.

(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ) عند لقاء العدوّ مع ثباتهم وقوتهم في الدين وكونهم ربانيين (إلَّا أَن قَالُوا) أي: إلّا قولهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) استرها علينا بترك عقابنا (وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) وتجاوزنا الحدّ . وإضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم والاستغفار عنهما هضماً لأنفسهم واستقصاراً (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) في مواطن الحرب بتقوية القلوب، وفعل الألطاف التي معها تثبت الأقدام، فلا تزول للانهزام (وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) الّذين هم عدوّنا، بإلقاء الرعب في قلوبهم، وإمدادنا بالملائكة.

وإنّما قدّموا الاستغفار من الذنوب على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصر على العدوّ ، ليكون طلبهم إلى ربّهم عن زكاء وطهارة وخضوع فيكون أقرب إلى الاستجابة . وإنّما جعل (قولهم» خبراً، لأنّ أن «قالوا» أعرف ،لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث.

(فَآتَاهُمُ اللهُ) بسبب الاستغفار واللجأ إلى الله (ثَوَابَ الدُّنْيَا) النصر والغنيمة والعزّ وحسن الذكر في الدنيا (وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ) وهو الجنّة والنعيم في الآخرة . وخصّ ثوابها بالحسن إشعاراً بفضله ، وأنّه المعتد به عنده . والثواب : هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والتبجيل . ( وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) في أقوالهم وأفعالهم.

آية 149 - 152

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)»

ص: 573

«سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)»

عن علي (علیه السّلام): لمّا قال المنافقون للمؤمنين يوم أحد عند الهزيمة وإرجاف قتل النبي صلى الله عليه وسلم : ارجعوا إلى إخوانكم وارجعوا إلى دينهم، أمر سبحانه بترك الائتمار لمن تبطهم عن الجهاد من الكفّار والمنافقين ، فقال :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: إن أصغيتم إلى قول الكفّار والمنافقين أنّ محمداً ،قتل فارجعوا إلى عشائركم (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) لأنفسكم. ولا خسران أعظم من أن يبدلوا الكفر بالإيمان، والنار بالجنّة .

وعن الحسن : معناه : إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم يردّوكم على أعقابكم ، لأنهم كانوا يستغوونهم ويوقعون لهم الشبه في الدين، ويقولون: لو كان نبيّاً حقاً لما غلب ، ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم، وإنّما هو رجل حاله كحال غيره من الناس، يوماً له ويوماً عليه.

وعن السدّي : إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردّوكم إلى دينهم .

وقيل : هذا عام في مطاوعة الكفر والنزول على حكمهم .

ص: 574

(بَلِ اللَّهُ مَوْلَيكُمْ) ناصركم وأولى بنصرتكم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) لأَنّ منصوره لا يصير مغلوباً أبداً، بخلاف منصور الغير ، فاستغنوا به عن ولاية غيره

ونصره .

روي أنه لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكّة قالوا : بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم. فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عمّا هموا به، فقبل وقوع هذه القضيّة نزلت : (سَنُلْقِي ) سنقذف (فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) وضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ والتعليل . وقيل : المراد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب، ونادى أبو :سفیان یا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن موسم بدر القابل إن شئت . فقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): إن شاء الله .

وقرأ ابن عامر والكسائي ويعقوب بضم العين في كل القرآن.

(بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ ﴾ بسبب إشراكهم به (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) أَي : آلهة لم ينزل الله على إشراكها حجّة قويّة. وأصل السلطنة القوّة، ومنه : السليط لقوّة اشتعاله، والسلاطة : لحدّة اللسان .

وملخص المعنى : كان السبب في إلقاء الرعب في قلوبهم إشراكهم بالله آلهة ليس على إشراكها حجّة . وما عنى الله سبحانه أن هناك حجّة لم تنزل عليهم ، وإنما أراد نفى الحجّة ونزولها جميعاً ، وهو كقوله : ولا ترى الضبّ بها ينجحر (1).

(وَمَأوَيْهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) أي : مثواهم. والمخصوص محذوف ، أي : بئس مثوى الظالمين هي.

روي: «أنّ الكفّار دخلوا مكة منهزمين مخافة أن يكون لرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)

ص: 575


1- في هامش النسخة الخطية: «أولها : لا تفزع الأرنب أهوالها ، أي : ليس بها أهوال فيفزع الارنب . أو ليس بها إرنب فتفزعه الأهوال ، يصف مفازة خالية عن الحيوان منه»

وأصحابه الكرّة عليهم ، وقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : نصرت بالرعب مسيرة شهر».

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) أي: وفي الله لكم بما وعدكم من النصر على عدوّكم بشرط الصبر والتقوى، في قوله : (إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِن فَورِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ) (1). فكان كذلك حتى خالف الرماة ، فإنّ المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم والباقون يضربونهم بالسيف، حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم. وذلك قوله : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) أي: تقتلونهم، من : حسّه إذا أبطل حسّه (بإِذْنِهِ) بعلمه . وقيل : بلطفه، لأنّ أصل الإذن الاطلاق في الفعل، واللطف تيسير للفعل، كما أن الإذن كذلك ، فحسن إجراء اسمه إليه .

(حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ) إذا جبنتم وضعف رأيكم ، أو ملتم إلى الغنيمة، فإنّ الحرص من ضعف العقل (وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ) اختلفتم في أمركم يعني : اختلاف الرماة حين انهزم المشركون، فقال بعضهم : قد انهزم المشركون فما وقوفنا هنا ؟ وقال آخرون : لا نخالف أمر رسول الله . فثبت مكانه عبدالله بن جبير - وهو أمير الرماة - في نفر دون العشرة ، وهم المعنيّون بقوله : « وَمِنْكُمْ مَن يُرِيدُ الْآخِرَةَ». ونفر الباقون للنهب ، وهم المعنيون بقوله : (وَعَصَيْتُمْ) أمر نبيكم في حفظ المكان (من بَعْدِ مَا ارَيْكُمْ مَا تُحِبُّونَ ) من الظفر والغنيمة وانهزام العدوّ . وجواب «إذا» محذوف، وهو : منعكم نصركم ، أو أوقعكم في المحنة ، أو ابتلاكم وامتحنكم.

(مِنْكُمْ مَن يُرِيدُ الدُّنْيَا ) وهم التاركون المركز للغنيمة (وَمِنْكُمْ مَن يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الثابتون محافظة على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم . فكرّ المشركون على الرماة لعصيانهم ومخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقتلوا عبدالله بن جبير، واقبلوا على المسلمين حتى هزموهم ، وقتلوا من قتلوا ، وهو قوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) ثم كفّكم عنهم، بأن رفع النصرة عنكم ، ووكلكم إلى أنفسكم بخلافكم النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، حتى

ص: 576


1- آل عمران : 125 .

حالت الحال فغلبوكم فانهزمتم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) ليمتحن صبركم على المصائب، وثباتكم على الإيمان عندها يعني : يعاملكم معاملة المختبر في مظاهرة العدل.

(وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ) تفضّلاً، ولما علم من ندمكم على المخالفة ( وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يتفضّل عليهم بالعفو ، أو في الأحوال كلّها، سواء أديل لهم أو عليهم، إذ الابتلاء يستعمل في الرحمة أيضاً.

روى الواحدي (1) بإسناده عن سهل بن سعد الساعدي قال: «جرح رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) يوم أحد ، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه. وكانت فاطمة بنته تغسل الدم عنه، وعليّ بن أبي طالب يسكب عليها الماء بالمجنّ(2). فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته، حتى إذا صار رماداً ألزمته الجرح، فاستمسك الدم».

آية 153

«إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)»

ثم ذكر سبحانه المنهزمين من أصحاب الرسول(صلّی الله علیه و آله و سلّم) يوم أحد ، فقال : (إذ تُصعِدُونَ) متعلّق ب«صَرَفَكُمْ»، أو «ليَبْتَلِيَكُمْ»، أو بمقدر ك: أذكر، والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض ، يقال : أصعدنا من مكة إلى المدينة . ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى

ص: 577


1- الوسيط 1 : 505 .
2- المِجَنُ : التُّرس.

أحَدٍ) لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره ولا تلتفتون إلى من خلّفتم وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) يناديكم من ورائكم، يقول : إليّ عباد الله ، أنا رسول الله ، من يكرّ فله الجنّة (فِي أُخْريَكُمْ) في ساقتكم وجماعتكم المتأخرة، تقول: جئت في آخر الناس وأخراهم، كما تقول : في أوّلهم وأولاهم ، بتأويل مقدّمتهم وجماعتهم الأولى.

(فَأَثَابَكُمْ غَماً بِغَمْ) عطف على «صَرَفَكُمْ». والمعنى : فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم غمّاً متصلاً بغم، صادراً من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين وفوت الغنيمة والإرجاف بقتل الرسول. أو فجازاكم غماً بسبب غمّ أذقتموه رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بعصيانكم له.

(لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ) أي: لتتمرنوا على الصبر في الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت وضرّ لاحق. وقيل: «لا» مزيدة والمعنى : لتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة، وعلى ما أصابكم من الجرح والهزيمة، عقوبة لكم.

وقيل : ضمير «فَأَتَابَكُمْ» للرسول ، أي : فواساكم في الاغتمام ، فاغتمّ بما نزل عليكم، كما اعتممتم بما نزل عليه من الشجّ وغيره، ولم يعيّركم على عصيانكم تسلية لكم ، فلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ، ولا على ما اصابكم من الهزيمة .

(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) عالم بأعمالكم ، وبما قصدتم. فيه ترغيب في الطاعة ، وترهيب عن المعصية

آية 154 - 155

«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ

ص: 578

مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)»

ثمّ ذكر سبحانه ما أنعم به عليهم بعد ذلك من إنزال النعاس عليهم في تلك الحالة - حتّى كانوا يسقطون على الأرض - حتى تراجعوا وأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، فقال :(ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِن بَعْدِ الْغَمِّ أمَنَةً نُعَاساً) أي: أنزل الله الأمن على المؤمنين ، وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم ، حتى نعسوا وغلبهم النوم. وكان المنافقون لا يستقرون ، قد طارت عقولهم.

والأمنة : الأمن ، نصب على المفعول. ونعاساً بدل الاشتمال منها، أو هو المفعول، و«أمنة» حال منه متقدّمة، كقولك : رايت راكباً رجلاً، أو مفعول له ، أو حال من المخاطبين، بمعنى : ذوي ،أمنة، أو على أنّه جمع آمن، ك: بارّ وبررة.

(يَغْشَى) أي: النعاس طَائِفَةٌ مِنْكُمْ عن أبي طلحة : غشينا النعاس في المصاف حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه ، وما أحد إلا ويميل تحت حجفته (1).

ص: 579


1- الحَجَفَةُ : التُّرس من جلد بلا خشب .

وقرأ حمزة والكسائي بالتاء ردّاً على الأمنة. والطائفة المؤمنون حقّاً .

(وَطَائِفَةٌ ) هم المنافقون مبتدأ محذوف الخبر ، أي : ثَمَّ طائفة . وقوله: (قَدْ أهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ) صفة ، أي : طائفة أوقعتهم أنفسهم في الهموم ، إذ ما يهمهم إلا همّ أنفسهم وطلب خلاصها .

(يَظُنُّونَ بِاللَّه) صفة أخرى لطائفة ، أو حال، أو استئناف على وجه البيان لما قبله. وقوله : ( غَيْرَ الْحَقِّ) نصب على المصدرية ، أي : يظنون بالله غير الظنّ الحقِّ الّذي يحق أن يظنّ به. وقوله : (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) بدل منه ، أي : الظنّ المختص بالملّة الجاهليّة وأهلها . والمعنى : يتوهمون أنّ الله لا ينصر محمّداً وأصحابه ، كظنّهم في الجاهلية.

وقيل : ظنّهم ما ذكر بعده من قوله : (يَقُولُونَ) أي : لرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فهو بدل من «یظُنّون» (هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ) هل لنا مما أمر الله تعالى ووعد من النصر والظفر نصيب قطّ ؟ قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار ، أي : أنطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء ؟ أي : ليس لنا ذلك شيء . وقيل : أخبر ابن أبي بقتل من بني الخزرج ، فقال ذلك. والمعنى: أنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شيء أو هل يزول عنا هذا القهر ، فيكون لنا من الأمر شيء ؟

( قُلْ إِنَّ الْأمْرَ كُلَّهُ لِلهِ ) أي : الغلبة الحقيقية لله وأوليائه، فإنّ حزب الله هم الغالبون أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وهو اعتراض. وقرأ أبو عمرو ويعقوب: كله بالرفع على الابتداء.

وقوله : ( يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ) حال من ضمير «يقولون» ، أي : يقولون مظهرين أنّهم مسترشدون طالبون للنصر ، مبطنين الانكار والتكذيب وما لا يستطيعون إظهاره .

﴿ يَقُولُونَ﴾ هو بدل من يخفون» ، أو استئناف على وجه البيان لما يخفون، أي : يقولون في أنفسهم وإذا خلا بعضهم إلى بعض (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ) من الظفر

ص: 580

الذي وعدنا به (شَيْء) كما وعد محمد، أو زعم أنّ الأمر كله لله ولأوليائه، أو لو كان لنا اختيار وتدبير (مَا قُتِلْنَا) ما غلبنا (هُهُنَا ) ولما قتل من قتل منّا في هذه المعركة.

(قُل لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبْرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ) أَي : لخرج الذين قدّر الله تعالى عليهم القتل - وكتبه في اللوح المحفوظ - إلى مصارعهم ولم تنفعهم الإقامة بالمدينة، ولم ينج منهم أحد، فإنّه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه ، لا معقب لحكمه .

(وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ) وليمتحن الله ما في صدوركم بإظهار سرائرها من الإخلاص والنفاق ، أي : ليعاملكم معاملة المبتلين مظاهرة في العدل عليكم. وهو علّة فعل محذوف، أي: وفعل ذلك ليبتلي . أو عطف على محذوف :أي: لبرز لنفاذ القضاء، أو لمصالح كثيرة وللابتلاء. أو على قوله : «لِكَيْلَا تَحْزَنُوا».

(وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) ليكشفه ويزيله أو ليخلّصه من الوساوس، بما يريكم من عجائب صنعه. يقال : محصته تمحيصاً ، إذا خلّصته من كلّ عيب. ومحّص الله العبد من الذنب، إذا طهره منه .

( وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) بخفيّاتها قبل إظهارها ، وفيه وعد ووعيد، وتنبيه على أنه غنيّ عن الابتلاء، وإنّما فعل ذلك لتمرين المؤمنين ، وإظهار حال المنافقين .

(إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) جمع المسلمين وجمع وجمع الكافرين . والمراد يوم أحد ، أي : إنّ الذين انهزموا يوم أحد (إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) من المعاصي . إنّما كان السبب في انهزامهم أنّ الشيطان طلب منهم الزلّة فأطاعوه، واقترفوا ذنوباً بترك المركز والحرص على الغنيمة أو الحياة ، لمخالفة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فمنعوا التأييد وقوة القلب حتّى تولّوا.

وقيل : استزلال الشيطان توليهم ، وذلك بسبب ذنوب تقدمت لهم، فإنّ المعاصي يجر بعضها بعضاً كالطاعة.

ص: 581

وقيل : استزلّهم بذكر ذنوب سلفت منهم ، فكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة والخروج من المظلمة .

(وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) لتوبتهم واعتذارهم (إنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب (حَلِيمٌ ﴾ لا يعاجل بعقوبة المذنب كي يتوب.

ذكر البلخي وغيره أنه لم يبق يوم أحد مع النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إلا ثلاثة عشر نفساً ،خمسة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. وقد اختلف في الخمسة إلا في علي (علیه السّلام) وطلحة .

وروي عن الصادق (علیه السّلام) قال : «نظر رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إلى جبرئيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب وهو يقول : لا سيف إلا ذوالفقار، ولا فتى إلا علي ».

آیة 156

يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانهُمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ

حَسْرَةً في قلوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿156)

ثم نهى الله سبحانه المؤمنين عن الاقتداء بالمنافقين في أفعالهم وأقوالهم ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : المنافقين (وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ) أي: لأجل إخوانهم وفي حقهم. ومعنى أخوتهم اتفاقهم في النسب أو المذهب (إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأرْضِ ) أي : سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها . وكان حقه «إذ»، لقوله : «قالوا»، لكنّه جاء على حكاية الحال الماضية، أي حين يضربون في الأرض. (أوْ كَانُوا غُزّى) جمع غازٍ، كعافٍ وعفّى ومفعول «قالوا» قوله: ﴿ لَوْ كَانُوا) مقيمين ( عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) وهذا يدلّ على أنّ إخوانهم لم يكونوا مخاطبين به .

ص: 582

(لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) متعلّق ب«قالوا» على أنّ اللام لام العاقبة ، مثلها في ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنا) (1). أو ب «لا تَكُونُوا»، أي: لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول وفي الاعتقاد ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة، ويصون منها قلوبكم ، فإنّ مخالفتهم ومضادّتهم ممّا يغمّهم ويغيظهم . وإنّما أسند الفعل إلى الله لأنه سبحانه عند ذلك الاعتقاد الفاسد يضع الحسرة في قلوبهم، ويضيق صدورهم عقوبة ، وهو كقوله تعالى : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيْقاً حَرَجا ) (2).

(وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ردّ لقولهم ، أي : هو المؤثر في الحياة والممات لا الاقامة والسفر ، فإنّه تعالى قد يحيي المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد عن الغزو.

﴿ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا تكونوا مثلهم . وهذا تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء، على أنه وعيد اللذين كفروا.

آية 157 - 158

«وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)»

ثم حثّ سبحانه على الجهاد، وبيّن أنّ الشهادة خير من أموال الدنيا المستفادة ، فقال : ( وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ ) أي : متم في سبيله . وقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الميم من مات يمات (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) جواب القسم ، وهو سادّ مسدّ الجزاء، وكذا قوله فيما بعد : «لإلَى اللهِ

ص: 583


1- القصص : 8 .
2- الأنعام : 125 .

تُحْشَرُونَ».

كذّب الله سبحانه فيما قال الكفّار في زعمهم واعتقادهم أن «لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا»، ونهى المسلمين عن ذلك الاعتقاد، ولأنه التخلّف عن سبب الجهاد والمعنى: أنّ السفر والغزو ليس ممّا يجلب الموت ويقدّم الأجل. ثم قال لهم : ولئن تمّ عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله ، فما تنالون من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا وعن ابن عبّاس: خير من طلاع الأرض، أي ملؤها ذهبة حمراء.

( وَلَئِن مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) على أي وجه اتفق هلاككم (لإلَى اللهِ) لإلَى معبودكم الذي توجّهتم إليه وبذلتم مهجكم لوجهه، لا إلى غيره، لا محالة (تُحْشَرُونَ) فيوفي جزاءكم، ويعظم ثوابكم .

وقرأ نافع وحمزة والكسائي : مِتُّم بالكسر.

آية 159 - 160

«فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)»

ثم بيّن سبحانه أن مساهلة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إياهم ، وتجاوزه عنهم، من رحمته

ص: 584

سبحانه ، حيث جعله ليّن العطف حسن الخلق، فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي: فبرحمة . و «ما» زائدة للتأكيد، ونحوه (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ )(1) . والمعنى: أنّ لينه لكم ما كان إلا برحمة من الله ، وهو ربطه على جأشه (2)، وتوفيقه للرفق بهم ، حتى اغتمّ لهم بعد أن خالفوه.

(وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً) سيء الخلق جافياً (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قاسيه (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لتفرّقوا عنك ، ولم يسكنوا إليك .

(فَاعْفُ عَنْهُمْ) ما بينك وبينهم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ما بينهم وبيني، إتماماً للشفقة عليهم ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأمْرِ) أمر الحرب، إذ الكلام فيه، أو فيما يصحّ أن يشاور فيه مما لم ينزل عليك فيه وحي، تطييباً لنفوسهم، واستظهاراً برأيهم. و تمهيداً لسنّة المشاورة للأمة .

وقال الحسن : قد علم الله أنّه ما به إليهم حاجة ، ولكنّه أراد أن يستن به من بعده ، وقد علم الله أنه لم يكن يحتاج إليهم.

وفي الحديث: «ما تشاور قوم قطّ إلا هدوا إلى أرشد أمرهم».

وعن أبي هريرة: «ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من أصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

وقيل : كان سادات العرب إذا لم يشاوروا في أمر شقّ عليهم، فأمر الله رسوله مشاورة أصحابه لئلا يثقل عليهم استبداده بالرأي دونهم.

(فَإِذَا عَزَمْتَ) فإذا وطنت نفسك على شيء، وقطعت الرأي عليه بعد الشورى (فَتَوَكَّلْ عَلَى الله) فاعتمد عليه في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك. فإنّه لا يعلمه سواه (إنّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ) فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح.

ص: 585


1- المائدة : 13 .
2- الجأش : القلب. يقال : فلان رابط الجأش ، أي : شجاع .

ولمّا أمر الله سبحانه نبيه (صلّی الله علیه و آله و سلّم)بالتوكل، بين معنى وجوب التوكل عليه ، فقال : (إن يَنصُرْكُمُ اللهُ) كما نصركم يوم بدر (فَلَا غَالِبَ لَكُمْ) فلا أحد يغلبكم (وَإِن يَخْذُلْكُمْ) ويمنعكم معونته ويخلّ بينكم وبين أعدائكم بمعصيتكم إياه ، كما خذلكم يوم أحد (فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِن بَعْدِهِ) من بعد خذلانه ، أو من بعد الله . بمعنى : إذا جاوزتموه فلا ناصر لكم من قولك : ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان تريد إذا جاوزته وهذا تنبيه على المقتضي للتوكل، وتحريض على ما يستحق به النصر من الله ، وتحذير عمّا يستجلب خذلانه .

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فليخصّوه بالتوكّل عليه، لما علموا أن لا ناصر سواه و آمنوا به. وهذا تنبيه على وجوب التوكل على الله سبحانه.

آية 161 - 163

«وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)»

روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض المنافقين : لعلّ رسول الله أخذها ، فنزلت: (وَمَا كَانَ لِنَبِيِّ أن يَغُلَّ) وما صح أن يخون في الغنائم، فإنّ النبوة تنافي الخيانة. يقال : غلّ شيئاً من المغنم يغلّ غلولاً، وأغل إغلالاً، إذا أخذه في خفية . ويقال : أغلّ إذا وجده غالّاً ، كقولك : أبخلته إذا وجدته بخيلاً. والمراد براءة الرسول عمّا انهم به .

وقيل : نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا :

ص: 586

نخشى أن يقول رسول الله : من أخذ شيئاً فهو له ، وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسّم يوم بدر . فقال لهم النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟ فقالوا : تركنا بقيّة إخواننا وقوفاً . فقال : بل ظننتم أنا نغلّ ولا نقسّم لكم.

وقيل : هذا مبالغة في النهي للرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، على ما روي أنه بعث طلائع فغنمت غنائم ، فقسمها على من معه ، ولم يقسّم للطلائع ، فنزلت فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولاً تغليظاً وتقبيحاً لصورة الأمر.

وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب: أن يُغَلَّ على البناء للمفعول، من : غلّ، أو من : أغل، بالمعنى الأول أو الثاني، والمعنى: وما صح له أن ينسب إلى الغلول، أو يوجد غالاً.

﴿ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيِّمَةِ) يأت بالّذي غلّه بعينه يحمله على عنقه، كما جاء في الحديث : من بعثناه على عمل فعل شيئاً جاء يوم القيامة يحمله على عنقه .

وروي عن ابن عبّاس في خبر طويل عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «ألا لا يغلّنّ أحد بعيراً، فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء(1) . ألا لا يغلّنّ أحد فرساً، فيأتي به على ظهره له حمحمة، فيقول: يا محمّد يا محمّد فأقول : قد بلغت قد بلغت قد بلّغت ، لا أملك لك من الله شيئاً».

وقال الجبائي : ذلك ليفضح به على رؤوس الأشهاد . وقال البلخي: ويجوز أن يراد يأت بما احتمل من وباله وإثمه .

(ثُمَّ تَوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) أي: يعدل بينهم في الجزاء، فكلُّ جزاءه على قدر كسبه. جيء بالعام ليدخل تحته كلّ كاسب من غلّ وغيره، ويكون كالبرهان

ص: 587


1- رغا البعيرُ : صوّت وضجّ .

على المقصود، والمبالغة فيه، فإنه إذا كان كلّ كاسب مجزيّاً بعمله، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى.

والمعنى : ويعطى كلّ نفس جزاء ما كسبت وافياً (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) فلا ينقص ثواب مطيعهم، ولا يزاد في عقاب عاصيهم.

ولمّا بيّن الله أنّ كلّ نفس توفّى جزاء ما كسبت من خير أو شرّ، شرّ ، عقبه ببیان من كسب الخير والشر، فقال : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ ) رضا الله في ترك الغلول وامتثال الطاعة (كَمَنْ بَاءَ) رجع (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ ) بسبب فعل الغلول وسائر المعاصي ( وَمَاوَيَهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). الفرق بين المصير والمرجع : أن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى، ولا كذلك المرجع.

(هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ ) شبّهوا بالدرجات ، أي : هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات، لما بينهم من التفاوت في الثواب والعقاب. أو التقدير : ذوو درجات عنده ، كما جاء في الحديث: «إنّ أهل الجنّة ليرون أهل عليين كما يرى النجم في أفق السماء والنار دركات بعضها أسفل من بعض». (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) عالم بأعمالهم ودرجاتها، فيجازيهم على حسبها .

آیة 164

لَقَدْ مَنَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبين (164)

ثم ذكر سبحانه عظيم نعمته على الخلق ببعثة نبيّنا (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، فقال : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أنعم على من آمن مع الرسول من قومه. وتخصيصهم مع أن نعمة البعثة عامة لزيادة انتفاعهم بها (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنفُسِهِمْ) من نسبهم ، أو من

ص: 588

جنسهم ، عربياً مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة، ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانة ، مفتخرين به ( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ) أي : القرآن بعدما كانوا جمالاً لم يسمعوا الوحي ( وَيُزَكِّيهِمْ ) يطهِّرهم من دنس الطباع وسوء العقائد والأعمال (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) القرآن والسنّة (وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) «إن» هي المخفّفة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية . والمعنى : وإن الشأن كانوا من قبل بعثة الرسول فى ضلال ظاهر .

آية 165 - 168

«أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)»

ثم عاد الكلام إلى ذكر الجهاد ، فقال :( أوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ) يوم أحد من قتل سبعين منكم ( قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) والحال أنكم نلتم ضعفها يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين . والهمزة للتقريع والتقرير . والواو عاطفة للجملة على ما سبق

ص: 589

من قصّة أحد . و «لما» ظرف «قلتم» مضافاً إلى «أصابتكم» أي : حين أصابتكم مصيبة يوم أحد من قتل سبعين منكم (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا) من أين هذا أصابنا وفينا رسول الله ، ونحن مسلمون وهم مشركون ، وقد وعدنا الله النصر ؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنفُسِكُمْ) :أي: ممّا اكتسبته أنفسكم من مخالفة الأمر وترك المركز، فإنّ الوعد كان مشروطاً بالثبات والمطاوعة.

وعن قتادة : من مخالفتهم الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد ، وكان النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) دعاهم إلى أن يتحصنوا بها، ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها ، فقالوا: كنّا نمتنع من ذلك في الجاهلية ونحن الآن في الاسلام وأنت يا رسول الله نبينا أحق بالاتِّباع وأعزّ.

وعن علي(علیه السّلام) : لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم . وهو المروي عن الباقر (علیه السّلام).

(إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على النصر ،ومنعه، وعلى أن يصيب بكم ويصيب منكم .

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) جمع المسلمين وجمع المشركين، يريد يوم أحد ( فَبِإِذْنِ اللهِ ) فهو كائن بإذنه، أي بتخليته الكفار. سمّاها إذناً استعارة، لأنها من لوازمه ، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم ، فكأنّه أذن فيه، لأن الآذن مخلّ بين المأذون له ومراده . ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) .

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) أي : وهو كائن ليتميّز المؤمنون والمنافقون، فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء.

﴿ وَقِيلَ لَهُمْ) عطف على «نافقوا» داخل في الصلة، أو كلام مبتدأ وهم عبد الله بن أبي وأصحابه، انقطعوا عن المؤمنين يوم أحد وقالوا : علام نقتل أنفسنا ؟ عبدالله وكانوا ثلاثمائة ، فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حزام الأنصاري :( تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبيلِ اللهِ ) واتقوا الله ولا تخذلوا نبيّكم (أوِ ادْفَعُوا) عن حريمكم إن لم تقاتلوا في

ص: 590

سبيل الله . فهذا تقسيم للأمر عليهم، وتخيير بين أن يقاتلوا للآخرة أو للدفع عن الأنفس والأموال . وقيل : معناه : قاتلوا الكفرة أو ادفعوهم بتكثيركم سواد المجاهدين، فإنّ كثرة السواد ممّا يروّع العدوّ ويكسر منه فهو بمنزلة القتال.

(قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ) لو تعلم ما يصح أن يسمّى قتالاً لاتبعناكم فيه ، لكن ما أنتم عليه ليس بقتال ، بل إلقاء بالأنفس إلى التهلكة .

(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ) لانخزالهم (1) عن عسكر المسلمين، وكلامِهم هذا، فإنّها أوّل أمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم. يعني : أنهم قبل ذلك اليوم كانوا يتظاهرون بالإيمان، وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخزلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم ، واقتربوا من الكفر .

وقيل : المعنى : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، إذ كان انخزالهم عن عسكر المؤمنين ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلاً للمؤمنين.

(يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) يظهرون خلاف ما يضمرون، لا تواطىء قلوبهم ألسنتهم بالإيمان وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتصغير ، أي : لا يجاوز إيمانهم أفواههم ومخارج الحروف منهم، ولا تعي قلوبهم منه شيئاً. ولا يخفى أنّ ذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم.

(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) من النفاق وما يخلو به بعضهم إلى بعض، لأنّه يعلمه مفصلاً بعلم ،واجب ، وأنتم تعلمونه مجملاً بأمارات.

(الَّذِينَ قَالُوا) رفع بدلاً من «واو» يكتمون ، أو نصب على الذم أو الوصف ل«الذين نافقوا»، أو جرّ بدلاً من الضمير في «بأفواههم» أو «قلوبهم» (لإخْوَانِهِمْ) لأجلهم ، يريد من قتل يوم أحد من أقاربهم، أو من جنس المنافقين المقتولين يوم

ص: 591


1- انخزل من المكان : انفرد .

أحد ( وَقَعَدُوا) حال مقدّرة ب«قد» ، أي : قالوا قاعدين عن القتال (لَوْ أَطَاعُونَا) لو اطاعونا إخواننا فيما أمرناهم به من القعود في البيت وترك الخروج إلى القتال (ما قُتِلُوا) كما لم نقتل .

(قُلْ) استهزاء بهم (فَادْرَؤُا) فادفعوا (عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ما تقولون من أنكم تقدرون على دفع القتل عمّن كتب عليه ، فادفعوا عن أنفسكم الموت ،وأسبابه ، فإنّه أحرى بكم، وحذف الجزاء لدلالة ما قبله عليه. والأمر بدرء الموت عن الأنفس للاستهزاء، أي: إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا .

ولما كان معنى الآية أن القعود غير مغنٍ، فإنّ أسباب الموت كثيرة، وكما أنّ القتال يكون سبباً للإهلاك والقعود يكون سبباً للنجاة ، قد يكون الأمر بالعكس، فما يدريكم أنّ سبب نجاتكم القعود، وأنّكم صادقون في مقالتكم؟! وما أنكرتم أن يكون غيره ؟ ! فلا يقال : قد كانوا صادقين في أنّهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود فما معنى قوله : «إن كُنتُمْ صادقين»؟ وروي أنّه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً.

آية 169 - 171

«وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)»

ولما حكى الله قول المنافقين في المقتولين الشهداء، تثبيطاً للمؤمنين عن جهاد الأعداء، ذكر بعده ما أعد الله تعالى للشهداء من الكرامة، وخصّهم به من

ص: 592

النعيم في دار المقامة ، فقال : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي : في الجهاد ونصرة دين الله (أمْوَاتاً) أي: موتى كما مات من لم يقتل في سبيل الله . قيل : نزلت في شهداء بدر. وقال الباقر (علیه السّلام) وكثير من المفسّرين : إنّها تتناول قتلى بدر وأحد معاً. والخطاب لرسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، أو لكل أحد وقرأ ابن عامر قُتلوا بالتشديد، لكثرة المقتولين.

بَلْ هم (أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ذوو زلفى منه ، كقوله : ( فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ) (1) (يُرْزَقُونَ) من نعيم الجنّة مثل ما يرزق سائر الأحياء ممّا يأكلون ويشربون. وهو تأكيد لكونهم أحياء ، ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله .

(فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) وهو شرف الشهادة، والفوز بالحياة الأبدية، والقرب من الله بأنواع الكرامة، والتمتع بنعيم الجنة .

(وَيَسْتَبْشِرُونَ) ويسرون بالبشارة (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم) بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم ( مِنْ خَلْفِهِمْ ) أي : الذين قد بقوا من خلفهم زماناً ، أو الذين لم يدركوا فضلهم ومراتبهم ومنزلتهم (أَلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي : يستبشرون بأن لا خوف عليهم ، لأنه بدل الاشتمال من قوله :

«الّذين لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ».

ومعناه : لا خوف عليهم فيمن خلّفوه من ذرّيّتهم، لأنّ الله تعالى يتولاهم، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا من أموالهم، لأنّ الله تعالى قد أجزل ما عوّضهم. أو لا خوف عليهم في ما يقدمون عليه، لأنّ الله تعالى محّص ذنوبهم بالشهادة، ولاهم يحزنون على مفارقة الدنيا فرحاً بالآخرة.

وملخّص المعنى : أنّهم يسرون بإخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من الإيمان والجهاد، لعلمهم بأنّهم إن استشهدوا أو ماتوا كانوا أحياء

ص: 593


1- فصّلت : 38 .

بحياة طيبة ، لا يكدرها خوف وقوع محذور وحزن فوات محبوب.

وفيها حثّ على الجهاد، وترغيب في الشهادة، وبعث على ازدياد الطاعة، وإحماد لمن يتمنّى لإخوانه مثل ما أنعم عليه وبشرى للمؤمنين بالفلاح.

قال صاحب الأنوار: وفي الآية إشعار على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس، بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألّمه والتذاذه ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّا ) (1) الآية . وروي عن ابن عبّاس أنه قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنّة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش» (2).

وأيضاً عن ابن عبّاس وابن مسعود وجابر أنّ النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال : «لما اصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر، ترد أنهار الجنّة، وتأكل من ثمارها».

وروي عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال لجعفر بن أبي طالب وقد استشهد في غزاة مؤتة : «رأيته وله جناحان يطير بهما مع الملائكة في الجنّة».

ومن أنكر ذلك ولم ير الروح إلا ريحاً أو عرضاً قال: هم أحياء يوم القيامة. وإنما وصفوا في الحال لتحققه ودنوه أو أحياء بالذكر أو بالإيمان.

( يَسْتَبْشِرُونَ) كرّره للتوكيد ، أو ليعلّق به ما هو بيان لقوله: «ألا خوف عليهم من ذكر نعمة الله وفضله . ويجوز أن يكون الأول بحال إخوانهم، وهذا بحال أنفسهم. (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ ) ثواباً لأعمالهم (وَفَضْلٍ) وزيادة عليه، كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةً) (3). وتنكيرهما للتعظيم . ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ

ص: 594


1- المؤمن (غافر) : 46 .
2- أنوار التنزيل 2 : 53 .
3- یونس : 26 .

الْمُؤْمِنِينَ )من جملة المستبشر به ، عطف على «فضل» ، أي: يوفّر جزاءهم.

وقرأ الكسائي بالكسر على أنه استئناف معترض دالّ على أنّ ذلك أجر لهم على إيمانهم ، مشعر بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيّعة .

واعلم أنّ ما ورد من الأخبار في ثواب الشهداء أكثر من أن يحصى، أعلاها إسناداً ما رواه عليّ بن موسى الرضا (علیه السّلام)،عن آبائه عن الحسين بن علي (علیه السّلام)قال: «بينما أمير المؤمنين (علیه السّلام) يخطب الناس ويحضّهم على الجهاد إذ قام إليه شابّ فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله .

فقال(علیه السّلام): كنت رديف رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) على ناقته العضباء ونحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل، فسألته عمّا سألتني عنه فقال :

إنّ الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله لهم براءة من النار ، فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله بهم الملائكة ، فإذا ودّعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت ويخرجون من الذنوب كما تخرج الحيّة من سلخها ، ويوكّل الله تعالى بكلّ رجل منهم أربعين ملكاً يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله . ولا يعمل حسنة إلا ضعف له ويكتب له كلّ يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله ألف سنة، كلّ سنة ثلاثمائة وستون يوماً ، واليوم مثل عمر الدنيا . وإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم .

وإذا برزوا لعدوّهم، وأشرعت الأسنّة، وفوّقت السهام، وتقدّم الرجل إلى الرجل ، حفتهم الملائكة بأجنحتها ، يدعون الله بالنصرة والتثبت فينادي مناد : الجنّة تحت ظلال السيوف ، فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف.

وإذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله إليه زوجته من الحور العين، فتبشّره بما أعد الله له من الكرامة . فإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض : مرحباً بالروح الطيب الذي أخرج من البدن الطيب، أبشر

ص: 595

فإنّ لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر .

ويقول الله : أنا خليفته في أهله، من أرضاهم فقد أرضاني ، ومن أسخطهم فقد أسخطني.

ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنّة حيث تشاء ، تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة بالعرش.

ويعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس، سلوك كلّ غرفة ما بين صنعاء والشام، يملأ نورها ما بين الخافقين في كلّ غرفة سبعون باباً، على كلّ باب سبعون مصراعاً من ذهب على كل باب سبعون مسبلة (1)، في كل غرفة سبعون خيمة ، في كلّ خيمة سبعون سريراً من ذهب، قوائمها الدرّ والزبرجد، مرمولة (2) بقضبان الزمرّد على كلّ سرير أربعون فراشاً، غلظ كلّ فراش أربعون ذراعاً ، على كلّ فراش زوجة من الحور العين عرباً أتراباً.

فقال : أخبرني يا أمير المؤمنين عن العروبه .

قال : هي الغنجة الرضية الشهيّة، لها سبعون ألف وصيف صفر الحلي بيض الوجوه، عليهن تيجان اللؤلؤ، على رقابهم المناديل، بأيديهم الأكوبة والأباريق، فإذا كان يوم القيامة فوالذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم،لما يرون من بهائهم ، حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها .

ويشفّع الرجل منهم في سبعين ألفاً من أهل بيته وجيرانه، حتى إن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جواراً، فيقعدون معي ومع إبراهيم على مائدة الخلد فينظرون إلى الله (عزّوجلّ) في كلّ يوم بكرة وعشيّاً».

روي أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهمّوا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، وذلك بعد أن دخل هو وأصحابه

ص: 596


1- أي سبعون ستراً مرخاة ، من : أسبل الستر ، أرخاه .
2- رمل السرير : زينه بالجوهر ونحوه .

المدينة، فأراد أن يريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فندب أصحابه للخروج في طلبه وقال : لا يخرجنّ معنا إلّا من حضر يومنا بالأمس. فخرج مع الجماعة حتى بلغوا حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، وكان بأصحابه القرح، فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله تعالى الرعب على قلوب المشركين فذهبوا .

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «هل من رجل يأتينا بخبر القوم ؟ فلم يجبه أحد .

فقال أمير المؤمنين (علیه السّلام): أنا آتيك بخبرهم.

قال : اذهب فإن كانوا ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فإنّهم يريدون مكة.

فمضى أمير المؤمنين (علیه السّلام) على ما به من الألم والجراح حتى كان قريباً من القوم ، فرآهم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل، فرجع وأخبر رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بذلك. فقال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): أرادوا مكة .

آية 172 - 174

«الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)»

فلما دخل رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) المدينة نزل جبرئيل وقال : يا محمد إنّ الله يأمرك أن تخرج ولا يخرج معك إلا من به جراحة . فأقبلوا يضمّدون جراحاتهم

ص: 597

ويداوونها . فخرج (علیه السّلام) معهم على ما بهم من الألم والجراح حتى بلغوا حمراء الأسد» (1) ، فنزلت: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) أَي : نالهم الجراح يوم أحد. وهذا صفة للمؤمنين، أو نصب على المدح، أو مبتدأ خبره: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ،بجملته ، أي : لهم ثواب جزيل. و«من» للبيان، مثلها في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) (2). والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل لا التقييد، لأنّ المستجيبين كلّهم متقون.

(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ) يعني : الركب الذي استقبلهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم، كما يقال : فلان يركب الخيل وماله إلا فرس واحد ، أو لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه. (إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ) يعني : أبا سفيان وأصحابه .

روي أنّه نادى عند انصرافه من أحد يا محمّد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت . فقال (علیه السّلام) : إن شاء الله . فلمّا كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل بمرّ (3) الظهران ، فأنزل الله تعالى الرعب في قلبه ، وبدا له أن يرجع، فمرّ به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة (4) ، فشرط لهم حمل بعير من زبيب إن تبطوا (5) المسلمين. وقال صاحب الجامع : «لقي أبو سفيان نعيم بن مسعود وقد قدم معتمراً، فقال : يا نعيم إنّي واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر، وأن هذا عام جدب، ولا

ص: 598


1- تفسير علي بن إبراهيم 1 : 124 - 125 .
2- الفتح : 29 .
3- في هامش الخطَّية : «مرّ الظهران اسم موضع يسمّيه أهل مكة بوادي مرّ منه».
4- في هامش الخطية : «الميرة : الطعام الذي يؤتى من موضع إلى آخر للبيع أو لأجل العيال منه».
5- ثبّطه عن الأمر : عوّقه وشغله عنه .

يصلحنا إلّا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها، وأكره أن يخرج محمد(صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، فالحق بالمدينة وتبطهم ولك عندي عشر من الإبل. فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهّزون فقال: ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريداً، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم ، فوالله لا يفلت منكم أحد . فقال النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): والذي نفسي بيده لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد ، فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل» (1).

(فَزَادَهُم إِيمَاناً) الضمير المستكن للمقول، أو لمصدر «قال» ، أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده والبارز للمقول لهم . والمعنى : أنّهم لم يلتفتوا إلى هذا القول ولم يضعفوا ، بل ثبت به يقينهم بالله وازداد إيمانهم وأظهروا حميّة الإسلام وأخلصوا النية عنده . وزيادة الإيمان ظاهر إن جعل الطاعة من جملته. وإن لم نجعلها منه فالمراد أنّ اليقين يزداد بالإلف وكثرة التأمل، وتناصر الحجج، ومشاهدة كثرة البينات، كزيادة اطمئنان القلب والاعتقاد، وبضم المشاهد بالشواهد في قول إبراهيم (علیه السّلام): ( وَلكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )(2).

(وَقَالُوا حَسْبُنَا الله) محسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه ويدلّ على أنه بمعنى المحسب أنه لا يستفيد بالإضافة تعريفاً في قولك : هذا رجل حسبك ، لأنّ إضافته لكونه في معنى اسم الفاعل غير حقيقيّة . ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ونعم الموكول إليه هو .

(فَانقَلَبُوا) فرجعوا من بدر (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) عافية وسلامة وثبات على الإيمان (وَفَضْلٍ) وربح في التجارة، فإنّهم لما أتوا بدراً، وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كلّ عام ثمانية أيّام، فأقاموا بها ثمان ليال ينتظرون أبا سفيان، وقد انصرف أبو سفيان فرجع إلى مكة ، فسمّى أهل مكة جيشه جيش

ص: 599


1- جوامع الجامع 1 : 259 - 260 .
2- البقرة : 260 .

السويق، وقالوا : إنّما خرجتم لتشربوا السويق. ولم يلق رسول الله وأصحابه أحداً من المشركين ببدر ، ووافقوا السوق، وكانت معهم أموال التجارة، فباعوها فاتجروا وأصابوا للدرهم ،در همين فربحوا ربحاً كثيراً، وأصابوا خيراً، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.

(لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) من جراحة وكيد عدوّ (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ) الَّذِي هو مناط الفوز بخير الدارين بجرأتهم وخروجهم ( وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) قد تفضّل عليهم بالتثبيت بالإيمان وتقويته والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب في ،الدين، وإظهار الجرأة على العدو، وبالحفظ عن كلّ ما يسوؤهم، وإصابة النفع مع ضمان الأجر، حتّى انقلبوا بنعمة منه وفضل ورجع أبو سفيان إلى مكة خائباً خاسراً.

وفيه تحسير للمتخلّف ، وتخطئة رأيه، حيث حرّم نفسه ما فازوا به، وتنبيه على أنّ كل من دهمه (1) أمر فينبغي أن يفزع إلى هذه الكلمة، أعني: «حسبنا الله ونعم الوكيل». وقد صحت الرواية عن الصادق (علیه السّلام) قال : «عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: «حسبنا الله ونعم الوكيل»؟! فإنّي سمعت الله يقول بعقبها : «فانقلبوا بنعمة من الله » .

وروي عن ابن عباس قال: «آخر كلام إبراهيم (علیه السّلام) حين ألقي في النار : «حسبنا الله ونعم الوكيل». وقال نبيكم مثل هذا، وتلا هذه الآية».

آیة 175

إنَّمَا ذَلَكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مؤمنينَ ﴿ 175 )

ثم ذكر سبحانه أنّ ذلك التخويف والتثبيط عن الجهاد من عمل الشيطان،

ص: 600


1- دهمه أمر: فاجأه أمر عظيم.

فقال : (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ) يريد بالإشارة المثبّط نعيماً أو أبا سفيان . و «الشيطان» خبر «ذلكم»، وما بعده جملة مستأنفة بيان لشيطنته . أو صفته، وما بعده خبر .ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف بمعنى : إنّما ذلكم قول الشيطان، أي: قول إبليس لعنه الله ( يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) القاعدين عن الخروج مع الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم). أو المعنى : يخوّفكم أولياءه الذين هم أبو سفيان وأصحابه.

(فَلَا تَخَافُوهُمْ) الضمير للناس الثاني على الأوّل، وإلى الأولياء على الثاني وَخَافُونِ) في مخالفة أمري، فجاهدوا مع رسولي (إن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) فَإِنَّ الإيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف الناس.

آية 176 - 178

«وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)»

ولمّا علّم الله سبحانه المؤمنين ما يصلحهم عند تخويف الشيطان إيّاهم، خصّ رسوله بضرب من التعليم ، فقال : ( وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يقعون في الكفر سريعاً حرصاً عليه. وهم المنافقون من المتخلّفين ، أو قوم ارتدوا عن الاسلام والمعنى : لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك لقوله : ( إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) أي: لن يضروا أولياء الله شيئاً بمسارعتهم

ص: 601

في الكفر ، وإنّما يضرون بها أنفسهم. ونصب «شيئاً» بالمفعولية أو المصدرية.

ثمّ بيّن كيف يعود وبال الكفر عليهم بقوله : ( يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظَاً) نصيباً من الثواب (فِي الْآخِرَةِ) لتمادي طغيانهم ، وقوّة رسوخهم في الكفر. وفي ذكر إرادة الله هنا إشعار بأنّ كفرهم بلغ الغاية حين سارعوا إلى الكفر ، حتّى إنّ أرحم الراحمين أراد أن لا يرحمهم فلا يكون لهم حظ في الآخرة من رحمته . ولهذا الاشعار لم يقل : لن يجعل الله لهم حظاً في الآخرة . ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ مع الحرمان عن الثواب .

وفيه دلالة على بطلان مذهب المجبّرة ، لأنه سبحانه نسب إليهم المسارعة إلى الكفر ، وإذا كان الله قد خلق الكفر فيهم فكيف يصح نسبته إليهم ؟ !

ثم استأنف سبحانه الإخبار بإبدالهم الكفر بالإيمان ، فقال : ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) تكرير للتأكيد ، أو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلفين أو ارتد من الأعراب. ونصب «شيئاً» على المصدر ، لأنّ المعنى : شيئاً من الضرر.

ثم بيّن سبحانه أنّ إمهال الكفّار لا ينفعهم إذا كان يؤدّي إلى العقاب لا الإهمال، فقال خطاباً للرسول أو لكلّ من يحسب : ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا تُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأنفُسِهِمْ) .

«الذين» مفعول، و«أنّما نملي لهم» بدل منه . وإنّما اقتصر على مفعول واحد للتعويل على البدل. فإنّه ينوب عن المفعولين، كقوله : ( أمْ تَحْسَبُ أَنْ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) (1). أو المفعول الثاني على تقدير مضاف ، مثل : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب أنّ الإملاء خير لأنفسهم، أو لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير

ص: 602


1- الفرقان : 44 .

لأنفسهم . و «ما» مصدريّة، وكان حقها أن تفصل في الخط ، ولكنّها وقعت متصلة في الامام فاتّبع .

وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب بالياء على أنّ «الّذين» فاعل ، و«أنّ» مع ما في حيّزه مفعول. وفتح ابن عامر وحمزة و عاصم سينه في جميع القرآن.

والإملاء : الإمهال وإطالة العمر . وقيل : تخليتهم وشأنهم، من أملى لفرسه، إذا أرخى له الطول (1) ليرعى كيف يشاء.

ومعنى الآية : لا يظنّنّ الكفّار أنّ إطالتنا لأعمارهم وإمهالنا إياهم خير لهم من القتل في سبيل الله بأحد ، لأنّ قتل الشهداء أدّاهم إلى الجنّة، وبقاء هؤلاء في الكفر يؤديهم إلى العقاب.

(إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْما) استئناف بما هو العلة.و«ما» كافة حقها أن تكتب متّصلة واللام لام العاقبة. فازدياد الإثم علّة غائيّة للاملاء ، أي : ليكون عاقبة أمرهم ازدياد الإثم.

ومثله قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنا﴾ (2)، فإِنَّهم إنّما أخذوه ليكون لهم سروراً وقرة عين، ولكن لما علم الله أنه يصير في آخر أمره عدواً وحزناً قال كذلك.

وهاهنا أيضاً لما كان في علم الله أنهم يزدادون إثماً ظن الكفار أن الإملاء لهم خير ، ولكن لما علم الله أن آخر أمرهم يصير موجباً لازدياد إثمهم قال كذلك.

ومثله : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ) (3)، أي : ذرأنا كثيراً من الخلق سيصيرون إلى جهنّم بسوء أفعالهم. وقد يقول الرجل لغيره وقد نصحه فلم

ص: 603


1- طوّل للدابّة : أرخى لها الحبل في المرعى.
2- القصص : 8 .
3- الأعراف : 179 .

يقبل نصحه : ما زادك نصحي إلا شرّاً ووعظى إلا فساداً.

ونظيره قوله تعالى: (حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي ) (1) . ومعلوم أنّ الرسل ما أنسوهم ذكر الله على الحقيقة، وما بعثوا إلا للتذكير والتنبيه دون الإنساء. مع أنّ الإنساء ليس من فعلهم فلا يجوز إضافته إليهم ، ولكنّه إنّما أضيف إليهم لأن دعاءه إيّاهم لمّا كان لا ينجع (2) فيهم ، ولا يردّهم عن معاصيهم ، فأضيف الإنساء إليهم.

وعلى هذا المعنى قوله تعالى حكاية عن نوح : ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً ) (3).

ومثله في قول الشاعر :

أموالنا لذوي الميراث نجمعها *** ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وأيضاً مثله :

فللموت تغذوا الوالدات سخالها *** كما لخراب الدهر تبنى المساكن

وقول الآخر:

أمّ سماك فلا تجزعي*** فللموت ما تلد الوالدة

ومثله :

لدوا للموت وابنوا للخراب

ولا يجوز أن يكون اللام لام الإرادة والغرض كما زعمت الأشاعرة ، لأنّ إرادة القبيح قبيحة، والله تعالى منزّه عنها. ولأنه لو كانت لام الإرادة لوجب أن يكون الكفّار مطيعين الله سبحانه من حيث فعلوا ما وافق إرادته، وذلك خلاف الاجماع، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ (4). ﴿وَمَا

ص: 604


1- المؤمنون : 110 .
2- أي : لا يؤثر .
3- نوح : 6 .
4- الذاريات : 56 .

أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (1) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (2) .

(وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) يهينهم في نار جهنّم .

آية 179

«مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)»

روي أنّ المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرّقون بها بين المؤمن والمنافق، فنزلت : ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي : ليدعهم ( عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ) من الإبهام واشتباه المخلص بالمنافق ، أي : لم يكن يجوز في حكم الله أن يذرهم على ما كنتم عليه قبل مبعث النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، بل يتعبّدكم (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ) الكافر والمنافق (مِنَ الطَّيِّبِ) من المؤمن.

والخطاب لعامة المخلصين والمنافقين في عصره. واللام لتأكيد النفي، كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها عليها - من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم، لاتفاقكم على التصديق جميعاً - حتى يميز المنافق من المخلصين، بالوحي إلى نبيه بأحوالكم، أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلّص المخلصون منكم كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ، ليختبر النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) به بواطنكم، ويستدل به على عقائدكم.

وقرأ حمزة يميّز من ميّز ، والباقون : يميز من : ماز.

ص: 605


1- النساء : 64 .
2- البيّنة : 5 .

روي أنّ الكفرة قالوا: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن منّا ومن يكفر ، فنزلت: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ) وما كان الله ليؤتي أحدكم علم الغيب ، فيطّلع على ما في القلوب من كفر وإيمان، فلا تظنوا إذا اخبركم النبي بنفاق الرجل أنّه يطّلع على ما في القلوب بنفسه ( وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ ) أي : يختار لرسالته مَن يَشَاءُ) ويخبره ببعض المغيّبات ، أو ينصب له ما يدلّ عليها .

(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) بصفة الإخلاص، أو بأن تعلموا الله وحده مطلعاً على الغيب ، وتعلموا رسله عباداً مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى، ولا يقولون إلا ما أوحي إليهم.

عن السدي: أنّ هذه الآية نزلت إذ قال النبي اختلاط : عرضت عليّ أمتي، وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر . فقال المنافقون : إنّه يزعم أنه يعرف من يؤمن به ومن يكفر، ونحن معه ولا يعرفنا.

( وَإِن تُؤْمِنُوا) حق الإيمان ) (وَتَتَّقُوا) النفاق (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره.

آية 180

«وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)»

ولما ذكر سبحانه إمساكهم عن الجهاد في سبيل الله ، بيّن إمساكهم عن الانفاق الواجب في سبيله، فقال: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتْهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) بما أعطاهم من الأموال ( هُوَ خَيْراً لَهُمْ) قد سبقت القراءات فيه. ومن قرأ بالتاء هاهنا قدر مضافاً ليتطابق مفعولاه، أي: ولا تحسبنّ بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم. وكذلك من قرأ بالياء، وجعل فاعل «يحسبن» ضمير رسول الله ، أو ضمير أحد.

ص: 606

ومن جعل فاعله «الّذين يبخلون» كان المفعول الأول عنده محذوفاً تقديره : لا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيراً لهم، وإنّما حذف لدلالة «يبخلون» عليه. ولفظ «هو» فصل .

(بَلْ هُوَ ) أي : البخل (شَرُّ لَهُمْ) لاستجلاب العقاب عليهم . وقوله :(سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيِّمَةِ) تفسير وبيان لقوله: «هو شرٌّ لهم» أي : سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق. وفي أمثال العرب : تقلّدها طوق الحمامة إذا فعل فعلة يذمّ بها .

وقيل : يجعل ما بخل به من الزكاة حيّة يطوقها في عنقه يوم القيامة ، تنهشه من قرنه إلى قدمه، وتنقر رأسه وتقول : أنا مالك .

وهذا قول ابن عبّاس وابن مسعود والسدّي والشعبي وغيرهم. وهو المرويّ عن أبي جعفر (علیه السلام). وقد روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «ما من رجل لا يؤدّي زكاة ماله إلّا جعل الله له شجاعاً (1) في عنقه يوم القيامة، ثم تلا هذه الآية»

وقال (علیه السلام): «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل أعطاه الله إياه، فيبخل به منه ، إلّا أخرج الله له من جهنّم شجاعاً أقرع يتلمّظ (2) بلسانه حتى يطوّقه ، وتلا هذه الآية».

وعن النخعي معناه : يجعل في عنقه يوم القيامة طوقاً من نار جهنّم.

وروي عن ابن عبّاس: أنّ المراد بالآية الذين يبخلون ببيان صفة محمد والفضل هو التوراة التي فيها صفته . والأوّل أليق بسياق الآية .

(وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) وله ما فيهما ممّا يتوارث، فما لهؤلاء يبخلون عليه بما له، ولا ينفقون في سبيله ؟! أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله بهلاكهم ، وتبقى عليهم الحسرة والعقوبة . ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ) من

ص: 607


1- الشّجاع : ضرب من الحيّات .
2- تلمّظت الحيّة : أخرجت لسانها .

المنع والإعطاء (خَبِيرٌ) فيجازيكم.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الالتفات. وهو ابلغ في الوعيد ، وبالياء أظهر .

آیة 181 - 182

«لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)»

روي أنه لما نزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) (1) قالت اليهود : إِنّ الله فقير يستقرض منّا ونحن أغنياء . وقيل : قائله حييّ بن أخطب فنزلت: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ) ذو حاجة ، لأنه يستقرض منّا (وَنَحْنُ أغْنِيَاءُ) عن الحاجة ، وقد علموا أنّ الله لا يطلب القرض، وإنّما ذلك تلطّف في الاستدعاء إلى الإنفاق، وإنّما قالوه تلبيساً على عوامهم .

وقيل : معناه : ان الله فقير ، لأنه يضيّق علينا الرزق ، ونحن الأغنياء ، لأنا نوسّع الرزق على أهالينا .

وقيل : كتب النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) كتابة أرسلها مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الاسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً. فدخل أبو بكر بيتاً من مدارسهم فوجد ناساً كثيراً منهم اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازورا، فدعاهم إلى الإسلام والصلاة والزكاة فقال فنحاص: إن كان ما يقول حقاً فإنّ الله إذا لفقير ونحن أغنياء ، ولو كان غنيّاً لما استقرضنا أموالنا . فغضب أبو بكر فلطم على وجه فنحاص ، وقال : لولا الذي بيننا وبينكم من

ص: 608


1- البقرة : 245 .

العهد لضربت عنقك . فشكاه إلى رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) وجحد ما قاله فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ومعنى سماع الله له : أنّه لم يخف عليه ما قالوا وأنه أعد لهم العقاب عليه.

(سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) سنكتبه في صحائف الحفظة ، أو نثبته في علمنا ولا نهمله ، ولن يفوتنا إثباته، لأنه كلمة عظيمة ، إذ هو كفر بالله واستهزاء بالقرآن والرسول ، ولذلك نظمه في سلك قتل الأنبياء، وقال عطفاً على ما قالوا: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) يعني : أنهما في العظم أخوان ، وأنّ هذا ليس بأوّل ما ركبوه من العظائم، وأنّ من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول.

والمعنى : سنكتب قتل أسلافهم الأنبياء ورضا هؤلاء، فنجازي كلاً بفعله. وفيه دلالة على أنّ الرضا بفعل القبيح يجري مجراه في عظم الجرم .

﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) أي : وننتقم منهم، بأن نقول لهم يوم القيامة : ذوقوا العذاب المحرق .

وقرأ حمزة: «سيكتب» بالياء وضمّها وفتح التاء ، «وقتلهم» بالرفع، و«يقول» بالياء. وفيه مبالغات في الوعيد.

والذوق إدراك الطعوم، وعلى الاتساع يستعمل لإدراك سائر المحسوسات والحالات.

(ذَلِكَ) إشارة إلى العذاب (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من قتل الأنبياء، وقولهم هذا، وسائر معاصيهم. عبّر بالأيدي عن الأنفس، لأنّ أكثر أعمالها بهنّ فجعل كلّ عمل كالواقع بالأيدي على التغليب (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على ما قدمت. وسببيته للعذاب من حيث إنّ نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء . فالمعنى: أنه عادل عليهم، فيعاقبهم على حسب استحقاقهم وإنما ذكر لفظ ظلام وهو للتكثير ، تأكيداً لنفي الظلم عنه بالنسبة إلى كل فرد من أفراد خلقه .

ص: 609

آیة 183- 184

«الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)»

قيل : قال جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف و وهب بن يهودا، وحييّ ، وفنحاص بن عازورا يا محمد إنّ الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار فإن زعمت أنّ الله بعثك إلينا فجئنا به نصدّقك ، فنزلت: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا )أمرنا في التوراة وأوصانا (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولِ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانِ تَأْكُلُهُ النَّارُ) بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل، وذلك بأن يقرّب بقربان، فيقوم النبيّ فيدعو ، فتنزل نار سماويّة فتأكله أي تحيله إلى طبعها بالإحراق.

وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم ، لأنّ أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة ، فهو وسائر المعجزات سواء في ذلك .

(قُلْ) يا محمد تكذيباً وإلزاماً عليهم (قَدْ جَاءَكُمْ) أَي : أسلافكم (رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) كزكريا ويحيى (بِالْبَيِّنَاتِ) بالمعجزات الأخر، موجبة لتصديقهم وصحّة رسالتهم (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) وبما اقترحتموه من القربان (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) أي : فلو كان الموجب للتصديق هو الإتيان به ، وكان توقفهم وامتناعهم عن الإيمان لأجله ، فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخر واجترأوا على قتله .

وفيه دلالة على عنادهم. و على أن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ولو أتاهم بالقربان المتقبل كما

ص: 610

أرادوه لم يؤمنوا به ، كما لم يؤمن آباؤهم بالأنبياء والذي أتوا به وبغيره من المعجزات. وإنّما لم يقطع الله سبحانه عذرهم بما سألوه من القربان الذي تأكله النار، لعلمه سبحانه بأنّ في الإتيان به مفسدة لهم، والمعجزات تابعة للمصالح، ولأنّ ذلك اقتراح في الأدلة على الله ، والذي يلزم على الله أن يزيح عنهم العلة بنصب الأدلّة فقط .

ثم قال تسلية لرسوله من تكذيب اليهود وقومه : ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) أي : لست بأوّل مكذِب، بل كذّب قبلك رسل أتوا بالمعجزات الباهرة.

والزبر جمع جمع زبور، وهو الكتاب الجامع للحكم والمواعظ والزواجر من : زبرت الشيء إذا حبسته وزجرته. والكتاب في عرف القرآن ما يتضمّن الشرائع والأحكام ، ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة القرآن. والمنير الذي ينير الحق لمن اشتبه عليه .

وقرأ ابن عامر وبالزبر ، بإعادة الجارّ للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات .

آیة 185

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿185)

ثم بين سبحانه أنّ مرجع الخلق إليه فيجازي المكذبين رسله على أعمالهم من حيث حتم الموت على جميع خلقه ، فقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) وعد ووعيد للمصدّق والمكذب . والمراد بالموت هاهنا انتفاء الحياة، والقتيل قد انتفت الحياة منه فهو داخل في الآية ﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيْمَةِ) تعطون جزاء أعمالكم خيراً كان أو شرّاً تاماً وافياً يوم قيامكم من القبور. ولفظ التوفية يشعر

ص: 611

بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور. ويؤيده قوله (علیه السّلام): «القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران». فالمراد أنّ تكميل الأجور وتوفيتها يكون ذلك اليوم.

(فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) نجّي وبعّد عنها . والزحزحة في الأصل تكرير الزحّ، وهو الجذب بعجلة . (وَأدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) بالنجاة من الهلكة ونيل المراد والفوز الظفر بالبغية .

وعن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم):« من أحبّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنّة، فلتدركه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه». وهذا شامل للمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد.

( وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا ) أي : لذاتها وزخارفها (إلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) شبهها بالمتاع الرديء الذي يدلّس به على المستام حتى يشتريه ثم يتبين له رداءته. والمدلّس هو الشيطان. وهذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ والغرور مصدر، أو جمع غارّ .

وفي الآية دلالة على أنّ أقل نعيم من الآخرة خير من نعيم الدنيا بأسره، ولذلك قال (علیه السّلام):« موضع سوط في الجنّة خير من الدنيا وما فيها». وفيها دلالة على أنّ كلّ حيّ سيموت .

آية 186

«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)»

ثم بيّن أنّ الدنيا دار محنة وابتلاء، وأنها إنّما زويت (1) عن المؤمنين ليصبروا

ص: 612


1- أي: صرفت.

فيؤجروا ، فقال : (لَتُبْلَوُنَّ) أي : والله لتختبرنّ وتوقع عليكم المحن، وتلحقكم الشدائد (فِي أَمْوَالِكُمْ) بتكليف الانفاق، وما يصيبها من الآفات ﴿وَأنفُسِكُمْ) بالجهاد والقتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب. وإنّما سمّي ذلك بلوى مجازاً، فإنّ حقيقة البلوى الاختبار. والتجربة لا يجوز على الله تعالى ، لأنه العالم بالأشياء قبل كونها، وإنّما يفعل ذلك ليتميّز المحق عن المبطل.

(وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) يعني : اليهود والنصارى (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعني : كفّار مكة وغيرهم (أذىً كَثِيراً) من هجاء الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم) والطعن في الاسلام وإغراء الكفرة على المسلمين أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطّنوا أنفسهم على ما سيلقونه من الأذى والشدائد والصبر عليها، ويستعدّوا للقائها حتى لا يزلزلهم نزولها .

(وَإِن تَصْبِرُوا) على ذلك ولم تجزعوا (وَتَتَّقُوا) مخالفة أمر الله (فَإِنَّ ذَلِكَ) يعني : الصبر والتقوى (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها . أو ذلك البلاء من محكم الأمور الذي عزم الله عليه أن يكون وبالغ فيه . والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيء، نحو إمضائه.

قيل : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف، وكان يهجو النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) والمؤمنين ، ويحرّض المشركين عليهم، ويشبّب بنساء المسلمين . فقال(صلّی الله علیه و آله و سلّم) : من لي بابن الأشرف ؟ فقال محمد بن سلمة : أنا يا رسول الله . فخرج هو وأبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة، وأتوا برأسه إلى النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) آخر الليل وهو قائم يصلي.

آية 187

«وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)»

ثم أكّد الله على أهل الكتاب إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه ، من

ص: 613

صفات النبي وغيرها ، فقال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ ) أي : اذكر وقت أخذه( مِيثَاقَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ) يريد به علماء هم (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) حكاية لمخاطبتهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عيّاش بالياء ، لأنهم غيّب. واللام جواب القسم الذي ناب عنه قوله : «أخذ الله ميثاق الذين». والضمير المنصوب في الفعلين للكتاب.

( فَنَبَذُوهُ ) أي : الميثاق (وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) فلم يراعوه، ولم يلتفتوا إليه، ولم يعملوا به. والنبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد وعدم الالتفات ونقيضه جعله نصب عينيه، وألقاه بين عينيه . ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ) وأخذوا بدله ( ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا وأغراضها (فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) يختارون لأنفسهم.

وفيه دلالة على أنّه واجب على العلماء أن يبيّنوا الحق للناس، ولا يكتموا شيئاً منه لغرض فاسد من جرّ منفعة، أو لبخل بالعلم ، أو تطييب لنفس ظالم، أو غير ذلك. وعن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): « من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من نار».

وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الحسن بن عمارة قال: «أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فالفيته على بابه فقلت إن رأيت أن تحدّثني ؟ فقال : أما علمت أني تركت الحديث ؟ فقلت : إمّا أن تحدّثني ، وإما أن أحدثك . فقال : حدثني . فقلت : حدثني الحكم بن عيينة ، عن نجم الجزار ، قال : سمعت عليّ بن أبي طالب يقول : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا . قال : فحدثني أربعين حديثاً».

وعن محمد بن كعب : لا يحلّ لأحد من العلماء أن يسكت على علمه، ولا يحلّ لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل.

ص: 614

آية 188 - 189

«لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)»

روي أنه (علیه السلام) سأل اليهود عن شيء ممّا في التوراة من نعته فأخبروه بخلاف ما كان فيها ، وأروه أنهم قد صدّقوه، وفرحوا بما فعلوا، فأنزل الله فيهم خاطباً لرسوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): (لَا تَحْسَبَنَّ) يا محمد (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا) بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق. وهذا الموصول أوّل المفعولين (وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) من الوفاء بالميثاق، وإظهار الحق ، والإخبار بالصدق (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد للفعل الأول ( بِمَفَازَة) بمنجاة، ثاني المفعولين، يعني: فائزين بالنجاة منه (مِنَ الْعَذَابِ) .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأوّل وضعها في الثاني، على أنّ «الذين» فاعل ومفعولا يحسبن» محذوفان يدلّ عليهما مفعولا مؤكّده. فكأنه قيل : ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ، فلا يحسبن أنفسهم بمفازة. أو المفعول الأوّل محذوف ، وقوله فلا يحسبنّهم» تأكيد للفعل وفاعله ومفعوله الأول.

(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) بكفرهم وتدليسهم .

وقيل : نزلت هذه الآية في قوم تخلّفوا عن الغزو، ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلّف واستحمدوا به.

وقيل : نزلت في المنافقين، فإنّهم يفرحون بنفاقهم، ويستحمدون إلى المسلمين بالايمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة.

ويجوز أن يكون ذلك عاماً لكلّ من أتى حسنة فأعجب بها ، وأحبّ أن

ص: 615

يحمده الناس عليها ، ويثنوا عليه بما ليس فيه من الزهد والعبادة وغير ذلك.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) فهو يملك أمرهم ، ولا يكون لهم خلاص من عذابه ﴿ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على عقابهم . وقيل : هو ردّ لقولهم : (إنّ الله فقیر) (1) .

آیة 190

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيات لأُولِي الالباب (190)

ولمّا بين سبحانه أنّ له ملك السموات والأرض عقبه ببيان الدلالة على ذلك، فقال : ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) أي : في إيجادهما بما فيهما من العجائب والبدائع ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أي : تعاقبهما ومجيء كلّ منهما خلف الآخر (لَآيَاتٍ) لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته ، وكمال علمه، وعظم قدرته ، وباهر حكمته (لأوْلِي الألْبَابِ) لذوي العقول الخالصة عن شوائب الحسّ وكدورات الوهم، كما سبق في سورة البقرة (2)، فإنّ أرباب الألباب إذا نظروا إليها نظر الاستدلال يجدونها مضمّنة بأعراض حادثة لا تنفك عنها، وما لا ينفك عن الحادث حادث ، وإذا كانت حادثة فلا بد لها من محدث ،موجد، لأنّ حدوثها يدلّ على أن لها محدثاً قادراً. ودلّ ما فيها من البدائع والأمور الجارية على غاية الانتظام على كون محدثها عالماً قديماً ، لأنه لو كان محدثاً لكان محتاجاً إلى محدث ،فيؤدّي إلى التسلسل .

ص: 616


1- آل عمران : 181 .
2- راجع ص : 275 ذيل الآية 164 .

ولعلّ الاقتصار على هذه الثلاثة في الآية لأن مناط الاستدلال هو التغيّر،

وهذه متعرّضة لجملة ،أنواعه، فإنّه إما أن يكون في ذات الشيء كتغيّر الليل والنهار، أو جزئه كتغيّر العناصر بتبدّل صورها ، أو الخارج عنه كتغيّر الأفلاك بتبدّل أوضاعها .

آية 191 - 194

«الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)»

ثم وصف الله سبحانه ذوي الألباب بقوله : (الَّذِينَ) أي: هؤلاء الذين يستدلّون على توحيد الله وعلمه وقدرته بالذات بخلقه السماوات والأرض هم الَّذِينَ (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً) قائمين ﴿وَقُعُوداً )وقاعدين (وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ ومضطجعين، أي: يذكرونه دائماً على الحالات كلّها، فإنّ أحوال المكلّفين لا تخلو من هذه الثلاثة. وعنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله».

وحكي أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلّته سحابة، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظلّه . فقالت له أمّه : لعلّ فرطة فرطت منك في مدتك .

ص: 617

فقال : ما أذكر . قالت : لعلّك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر . قال : لعلّ . قالت : فما أتيت إلا من ذاك .

وقيل : معناه : يصلّون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم ، لقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)لعمران بن حصين: «صلّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب تومىء إيماءً». وهذا أيضاً رواه عليّ بن إبراهيم في تفسير ه (1). ولا تنافي بين التفسيرين، لأنه غير ممتنع وصفهم بالذكر في هذه الأحوال وهم في الصلاة .1

(وَيَتَفَكَّرُونَ) ويتدبرون اعتباراً واستدلالاً (فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) في إبداع صنعتهما وما دبّر فيهما بما تكلّ الأفهام عن إدراك بعض بدائعه، فيستدلّون على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته وعلمه وحكمته، وهذا أفضل العبادات، كما جاء في الحديث: «لا عبادة كالتفكر»، وقوله : «تفكر ساعة خير من عبادة سنة»، لأنّه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق.

وعنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : اشهد أنّ لك ربّاً وخالقاً ، اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له».

وقيل : الفكرة تذهب الغفلة ، وتحدث للقلب الخشية ، كما يحدث الماء للزرع النبات . وهذا دليل واضح على شرف علم الكلام وفضل أهله.

﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً ) على إرادة القول، أي: يتفكرون قائلين ذلك . وهذا إشارة إلى المتفكّر فيه ، أي : الخلق على أنه أريد به المخلوق من السماوات والأرض، أو إليهما، لأنهما فى معنى المخلوق .

والمعنى : ما خلقته خلقاً عبثاً ضائعاً من غير حكمة، بل خلقته لحكم عظيمة، من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان، وسبباً لمعاشه، ودليلاً يدله على

ص: 618


1- تفسير عليّ بن إبراهيم 1 : 129 .

معرفتك ، ويحثه على طاعتك ، لينال الحياة الأبديّة والسعادة السرمدية في جوارك .

(سُبْحَانَكَ) تنزيها لك من العبث وخلق الباطل. وهو اعتراض . ﴿فَقِنَا) بلطفك وتوفيقك (عَذَابَ النَّارِ) للإخلال بالنظر فيه، والقيام بما يقتضيه. وفائدة الفاء هي الدلالة على أنّ علمهم بما لأجله خلقت السماوات والأرض حملهم على الاستعاذة.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ الكفر والضلال والقبائح ليست خلقاً الله تعالى لأنّ هذه الأشياء كلّها باطلة بلا خلاف ، وقد نفى الله تعالى ذلك بحكايته عن أولى الألباب - الّذين رضي أقوالهم - بأنه لا باطل فيما خلقه تعالى، فيجب بذلك القطع على أنّ القبائح كلّها غير مضافة إليه تعالى، ومنفية عنه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

(رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ) أي : فقد أبلغت في إخزائه غاية الإخزاء. ونظيره قوله : من أدرك مرعى الصمان (1) فقد أدرك مرعى ليس بعده مرعى. وهو منقول من الخزي الذي هو الهوان . وقيل : من الخزاية التي هي الاستحياء ، أي : أحللته محلاً يستحيا منه والمراد بالمعنى الأول هو الكافر، وبالثاني المؤمن الفاسق والمراد به تهويل المستعاذ منه تنبيها على شدة خوفهم وطلبهم الوقاية منه وفيه إشعار بأنّ العذاب الروحاني أفظع ، لأنّ الخزي هو الذلّ والهوان ، ولا يكونان إلّا من مؤثرات النفس لا البدن .

﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ ) اللام إشارة إلى من يدخل النار، أي: ليس للمدخلين في النار (مِنْ أَنصَارٍ) يدفعون عنهم العذاب. ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار ، وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص فيها. ولا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة ، لأن النصرة دفع بقهر .

ص: 619


1- في هامش الخطية : «جبل فيه مرعى عظيم منه» .

﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصف المسمع على المسموع. وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع، لتكرير الإسناد.

وفي تنكير المنادي وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه، كما إذا قلت: سمعنا هادياً يهدي إلى الإيمان، فقد رفعت من شأن الهادي وفخمته. والمراد به الرسول (صلّی الله علیه و آله و سلّم). وقيل : القرآن .

والنداء والدعاء يعدّى ب «إلى» واللام ، لتضمّنهما معنى الانتهاء والاختصاص ، أي: داعياً يدعو إلى الايمان. يقال: ناداه لكذا وإلى كذا، ودعا له وإليه ، ونحوه: وهداه للطريق أو إليه .

(أنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنًا) بأن آمنوا، فامتثلنا (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) كبائرنا ، فإنّها ذات تبعة (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنَا) صغائرنا ، فإنّها مستقبحة، ولكن مكفّرة عن مجتنب الكبائر . أو اغفر لنا ذنوبنا ابتداءً، وكفّر عنا سيئاتنا إن تبنا، كما قال صاحب الجامع : جمع بين سؤال المغفرة والتكفير ، لأنّ تكفير السيئات يكون بالتوبة والمغفرة ، وقد يكون ابتداءً من غير توبة» (1).

(وَتَوَفَّنَا) واقبضنا إلى رحمتك (مَعَ الْأَبْرَارِ) في موضع الحال، أي: مخصوصين بصحبتهم، معدودين في زمرتهم .

وفيه تنبيه على أنهم يحبّون لقاء الله ، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. والأبرار جمع بر أو بار ، كأرباب وأصحاب .

(رَبَّنا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ) :أي: ما وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب . لمّا أظهروا امتثالهم لما أمروا به سألوا ما وعد عليه، لا خوفاً من إخلاف الوعد بل مخافة أن لا يكونوا من الموعودين ، لسوء عاقبة ، أو قصور في الامتثال .

ص: 620


1- جوامع الجامع 1 : 268

أو تعبداً واستكانة. ويجوز أن يتعلّق بمحذوف تقديره : ما وعدتنا منزلاً على رسلك ، أو محمولاً عليهم . وقيل : معناه : على ألسنة رسلك .

(وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيِّمَةِ )بأن تعصمنا - بتوفيقك إيّانا - عمّا يقتضي الخزي (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) بإثابة المؤمن، وإجابة الداعي.

عن ابن عبّاس : الميعاد البعث بعد الموت.

وهذا القول منهم على وجه الانقطاع إلى الله ، والتضرّع إليه والتعبّد ، كما قال : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) (1). وهو من باب اللجأ إلى الله والخضوع. وكما كان الأنبياء (علیهم السّلام) يستغفرون مع علمهم أنهم معصومون ، يقصدون بذلك التذلّل لربّهم، والتضرّع واللجأ الذي هو سيماء العبودية.

وتكرير «ربّنا» للمبالغة في الابتهال والدلالة على استقلال المطالب وعلوّ شأنها.

روي عن أبي جعفر (علیه السّلام) أنه قال: «من حزنه أمر فقال خمس مرّات : ربّنا، أنجاه الله ممّا يخاف، وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآيات».

روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب (علیه السّلام): أن رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : «إنّ في خلق السموات» إلى قوله : «عذاب النار».

وعن ابن عمر : قلت لعائشة : أخبريني بأعجب ما رأيتِ من رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم).

فبكت وأطالت، ثم قالت : كلّ أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثم قال : يا عائشة هل لك أن تأذنين لي الليلة في عبادة ربّي ؟

فقلت : يا رسول الله إنّي لأحبّ قربك وأحبّ هواك ، قد أذنت لك .

ص: 621


1- الأنبياء : 112 .

فقام إلى قربة من ماء في البيت، فتوضأ ولم يكثر صبّ الماء، ثم قام يصلّي، فقرأ من القرآن، وجعل يبكي حتى بلغ الدموع جفونه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ، وجعل يبكي، ثم رفع يديه فجعل يبكي، حتى رأيت دموعه قد بلّت الأرض. فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي ، فقال : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟

فقال : يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ ثم قال : ومالي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة: «إنّ في خلق السموات والأرض». ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها .

وقد اشتهرت الرواية عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه لما نزلت هذه الآيات قال: «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمّل ما فيها». وفي رواية : ولم يتأمّلها .

وورد عن الأئمّة من آل محمد صلوات الله عليه وعليهم الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة ، وفي الضجعة بعد ركعتي الفجر .

وروى محمد بن علي بن محبوب، عن العبّاس بن معروف، عن عبدالله بن المغيرة، عن معاوية بن وهب ، قال : «سمعت أبا عبدالله (علیه السلام) - وذكر النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم)- قال : كان يؤتى بطهور فيخمّر عند رأسه، ويوضع سواكه تحت فراشه، ثم ينام ما شاء الله ، فإذا استيقظ جلس ثمّ قلب بصره إلى السماء وتلا الآيات من آل عمران : «إن في خلق السموات والأرض» الآيات، ثم يستاك ويتطهر ، ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته، ركوعه وسجوده على قدر ركوعه، فيركع حتى يقال : متى يرفع رأسه ؟ ويسجد حتى يقال : متى يرفع رأسه ؟ ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ، ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران ويقلب بصره في السماء، ثم يستاك ويتطهر ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلّي الركعتين، ثم يخرج إلى الصلاة».

ص: 622

آية 195 .

«فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)»

ولمّا ذكر دعوة المؤمنين أخبر بإجابتها فقال: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ﴾ مطلوبهم. وهو أخص من أجاب . ويعدّى بنفسه وباللام . يقال : استجاب له واستجابه (أنِّي لَا أَضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُمْ ) أي : بأنّي لا أضيع (مِن ذَكَرٍ أَوْ أَنثَى) بیان عامل (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) لأنّ الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، أو لأنّهما من أصل واحد، أو لفرط الاتصال والاتحاد ، أو للاجتماع والاتفاق في الدين وهي جملة معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمّال . روي أنّ أمّ سلمة قالت: يا رسول الله إنّي اسمع أنّ الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية .

وقوله : ﴿ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا) تفصيل لأعمال العمّال وما أعد لهم من الثواب على سبيل المدح والتعظيم والمعنى : فالّذين هاجروا الشرك أو الأوطان والعشائر للدين (وَأَخْرِجُوا) وأخرجهم الكفّار (مِن دِيَارِهِمْ) التي ولدوا فيها ونشأوا (وَأوذُوا فِي سَبِيلِي) يريد سبيل الدين. يعني : بسبب إيمانهم ومن أجله (وَقَاتَلُوا) الكفّار ﴿وَقُتِلُوا) في الجهاد.

وقرأ حمزة والكسائي بالعكس، لأن الواو لا توجب ترتيباً، فالمعطوف بالواو

ص: 623

يجوز أن يكون أوّلاً في المعنى وإن تأخر في اللفظ. والثاني أفضل، فإنّ القتل المفهوم من «قتلوا» أفضل من القتال، فقدّم الأفضل في قراءتهما . أو لأنّ المراد : لمّا قتل منهم قوم قاتل الباقون ولم يضعفوا . وشدّد ابن كثير وابن عامر «قُتلوا» للتكثير .

(لَأَكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ لأمحونها ( وَلَادْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) :أي من تحت أبنيتها وقصورها (ثَوَاباً) أي : لأثيبتهم بذلك إثابةً (مِنْ عِنْدِ الله) تفضّلاً منه، فهو مصدر مؤكِّد وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ حسن الجزاء على الطاعات ما لا يبلغه وصف واصف، ولا يدركه نعت ناعت ، ممّا لا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر . و عنده مثل يختص به وبقدرته وفضله ، لا يثيبه غيره، ولا يقدر عليه، كما يقول الرجل : عندي ما تريد يريد اختصاصه به وإن لم يكن بحضرته.

آية 196 - 198

«لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)»

روي أنّ مشركي العرب كانوا يتجرون ويتنعمون بها، فقال بعض المسلمين إن أعداء الله في العيش الوسيع والرزق الرغيد، وقد هلكنا من الجوع ، فنزلت: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) . الخطاب للنبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، والمراد أمته، أو تثبيته

ص: 624

على ما كان عليه، لقوله : ( فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (1) ، أو لكلّ أحد. والنهي في المعنى للمخاطب ، وإنّما جعل للتقلب تنزيلاً للسبب منزلة المسبّب مبالغة.

والمعنى : لا تنظر إلى ما الكفرة عليه من السعة وإصابة حظوظ الدنيا، ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسّطهم في مكاسبهم ومتاجرهم ومزارعهم.

(مَتَاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : تقلبهم متاع قليل في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، أو هو قليل في نفسه، لزواله ونقصانه . وفي الحديث: «ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم. فلينظر بم يرجع».

﴿ ثُمَّ مَأويْهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) أي : ما مهدوا لأنفسهم .

ثم أعلم الله سبحانه أنّ من أراد الله واتقاه فله الجنّة ، فقال : (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) لفظ «لكن» للاستدراك، فيكون بخلاف المعنى المتقدّم. فمعناه : ليس للكفّار عاقبة خير ، إنّما هي للمتقين المؤمنين الذين اتّقوا ربّهم بفعل الطاعات وترك المعاصي . (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِندِ الله ) . النُّزُل والنزل ما يعدّ للنازل من طعام وشراب وصلة. وانتصابه على الحال من «جنّات». والعامل فيها الظرف . وقيل : إنّه مصدر مؤكّد والتقدير : انزلوها نزلاً .

(وَمَا عِنْدَ اللهِ ﴾ لكثرته ودوامه خَيْرٌ لِلْأبْرَارِ ممّا يتقلب فيه الفجار ، لقلّته وسرعة زواله .

عن ابن مسعود أنّه قال : ما من نفس برّة أو فاجرة إلّا والموت خير لها من الحياة. فأمّا الأبرار فقد قال الله تعالى: «وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأبْرَارِ». وأمّا الفجّار فقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ (2)، وإنّما يكون الموت خيراً للنفس الفاجرة إذا كانت تدوم على فجورها.

ص: 625


1- القلم : 8 .
2- آل عمران : 178 .

آية 199

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)

روي عن ابن عبّاس وجابر بن عبدالله أنه لما مات النجاشي ملك الحبشة - واسمه أصحمة، وهو بالعربية : عطية - نعاه جبرئيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم.

قالوا: ومن ؟

قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): النجاشي .

فخرج رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) إلى البقيع ، وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي وصلّى عليه.

فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلّي على علج (1) نصراني حبشي لم يره قطّ ، وليس على دينه، فنزلت: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ) . وإنّما دخلت اللام على الاسم للفصل بينه وبين «إن» بالظرف .

(وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن (وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ) من الكتابين (خَاشِعِينَ للّه) مستكينين بالطاعة. وهو حال من فاعل «يؤمن». وجمعه باعتبار المعنى (لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً) لا يأخذون عوضاً يسيراً على تحريف الكتاب، كما يفعله المحرّفون من أحبارهم.

ص: 626


1- العِلْجُ : الرجل الضّخم القوي من كفّار العجم ، أو الكافر عموماً.

(أَوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ) ما خصّ بهم من الأجر ووعدوه في قوله تعالى : (أَوْلَئِكَ يُؤتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ) (1). ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) لعلمه بالأعمال وما يستوجبه كلّ عامل من الجزاء، واستغنائه عن التأمل والاحتياط. والمراد أنّ الأجر الموعود سريع الوصول، فإنّ سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء.

قيل : نزلت هذه الآية في ابن سلام ومن آمن معه. وقيل: في أربعين من نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى (علیه السلام)فأسلموا .

آية 200

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفلِحُونَ ( 200)

ولمّا حكى الله تعالى أحوال المؤمنين والكافرين فيما تقدم، حثّ بعد ذلك على الصبر على الطاعة ولزوم الدين والجهاد في سبيل الله ، فقال : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على مشاق الطاعات، وما يصيبكم من الشدائد، وعن معاصيه(وَصَابِرُوا) وغالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الحرب، وأعدى عدوّكم في الصبر على مخالفة الهوى. وتخصيصه بعد الأمر بالصبر مطلقاً لشدّته وصعوبته. (وَرَابِطُوا) أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصّدين للغزو ، وأنفسكم على الطاعة ، كما قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة». ولهذا روي عن علي (علیه السّلام) معناه : انتظروا الصلاة واحدة بعد واحدة».

ص: 627


1- القصص : 54 .

وروي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال: «إسباغ الوضوء في السبرات (1)، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط».

وما روي عن أبي جعفر(علیه السّلام) أنه قال : معناه :« اصبروا على المصائب، وصابروا على عدوّكم، ورابطوا عدوّكم» قريب من القول الأول.

وعنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «من رابط يوماً وليلة في سبيل الله تعالى كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه، لا يفطر، ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة».

(وَاتَّقُوا اللهَ ) بالتبرء عن القبائح والمعاصي، أو عما سواه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفلحوا وتفوزوا غاية الفلاح والفوز ببقاء الأبد . وأصل الفلاح البقاء ، أي : تفلحوا بنعيم الأبد، أو الفوز بنيل المقامات الثلاثة، وهي : الصبر على مضض الطاعات، ومصابرة النفس في رفض العادات ومرابطة السرّ على جناب الحق لترصد الواردات المعبّر عنها بالشريعة والطريقة والحقيقة .

فهذه الآية تتناول جماع ما يتناول التكليف، فإنّ قوله : «اصبروا» يتناول لزوم العبادات وتجنّب المحرّمات وصابروا» يتناول ما يتصل بالغير، كمجاهدة الجنّ والإنس ، وما هو أعظم منها من جهاد النفس ورابطوا» يدخل فيه الدفاع عن المسلمين والذب عن الدين. و «اتقوا الله» يتناول الانتهاء عن جميع المناهي والزواجر ، والائتمار بجميع الأوامر ، ولذلك تبع ذلك الفلاح والنجاح.

تم تفسير الزهراوين بعون خالق الثقلين، وبالله التوفيق، وحسبنا الله ، ونعم المولى ونعم النصير .

ص: 628


1- السَبَرات جمع السّبرة ، وهي : الغداة الباردة .

فهرس الموضوعات

الموضوع ....الصفحة

مقدّمة التحقيق ...5

التفسير في اللغة ...5

التفسير في الاصطلاح...6

مناهج التفسير ...9

من يفسر القرآن ؟ ...11

ترجمة المؤلّف....14

اسمه ...14

ولادته ونشأته ...14

الاطراء والثناء عليه ...14

مشائخه و تلاميذه .. .16

مؤلّفاته وآثاره القيّمة ...16

وفاته ومدفنه ...19

التعريف بالكتاب ...19

النسخة المعتمدة في التحقيق ...20

منهج التحقيق ...21

شكر وتقدير. ..21

مقدمة المؤلّف ...5

المقدّمة الأولى : في عدد آي القرآن والفائدة في معرفتها ...7

ص: 629

المقدّمة الثانية : في ذكر أسامي القراء المشهورين في الأمصار ...8

المقدّمة الثالثة : في أنّ القرآن كان على عهد رسول الله مجموعاً مؤلّفاً مرتباً على ما هو عليه الآن ...10

المقدّمة الرابعة : في أنّ القرآن مصون عن الزيادة والنقصان...11

المقدّمة الخامسة : في ذكر بعض ما جاء من الأخبار المشهورة في فضل القرآن وأهله ...11

سورة الفاتحة (1)

الآية: 1 - 7 ...15

سورة البقرة (2)

الآية : 1 - 3 ...35

الآية : 4 - 5 ...47

الآية : 6- 7 ...50

الآية : 8 - 16 ...57

الآية : 17 - 18 ....69

الآية : 19 - 20 ...73

الآية : 21 - 22 ...79

الآية : 23 - 24 ...86

الآية : 25 ...92

الآية : 26 ...98

الآية : 27 ...104

الآية : 28 - 29 ...106

الآية : 30 ...111

الآية : 31 - 33 ...116

ص: 630

الآية : 34 ....120

الآية : 35 - 37 ...125

الآية : 38 - 39 ...131

الآية : 40 - 42 .. .133

الآية : 43 - 44 ...139

الآية : 45 - 47 ....140

الآية : 48 ...143

الآية : 49 - 52 ...144

الآية : 53 - 59 ...149

الآية : 60 . ...155

الآية : 61 ...157

الآية : 62 ...160

الآية : 63 - 66 ...162

الآية : 67 - 71 ...164

الآية : 72 - 73 ...169

الآية : 74 ....170

الآية : 75 - 78 ....172

الآية : 79 - 82 ...175

الآية : 83 ...178

الآية : 84 - 86 ....181

الآية : 87 ...184

الآية : 88... 187

الآية : 89 - 91 ....188

الآية : 92 - 93 ....191

ص: 631

الآية : 94-96 ...193

الآية : 97 - 98 ...196

الآية : 99 - 103 ...199

الآية : 104 - 105 ...206

الآية : 106 ...208

الآية : 107 - 108 ....209

الآية : 109 - 110 ...211

الآية : 111 - 112 ....213

الآية : 113 ....215

الآية : 114 - 115 ...216

الآية : 116 - 117 ...218

الآية : 118 - 121 ...220

الآية : 122 - 123 ...223

الآية : 124 ...224

الآية : 125 ...228

الآية : 126 ...232

الآية : 127 - 129 ...237

الآية : 130 - 131 ...241

الآية : 132 - 134 ...243

الآية : 135 - 136 ...246

الآية : 137 - 138 ....248

الآية : 139 - 141 ...251

الآية : 142 ...253

الآية : 143 ...254

ص: 632

الآية : 144 - 146 ...258

الآية : 147 - 152 ...261

الآية : 153 - 154 ...265

الآية : 155 - 157 ...267

الآية : 158 ...270

الآية : 159 - 160 ...271

الآية : 161 - 162 .. .272

الآية : 163 ...273

الآية : 164 ...274

الآية : 165 - 167 ....278

الآية : 168 - 169 ....281

الآية : 170 - 171 ....283

الآية : 172 - 173 ...284

الآية : 174 - 176 ...286

الآية: 177 .... 287

الآية : 178 - 179 ...291

الآية : 180 - 182 ...295

الآية : 183 - 184 ... 297

الآية : 185 ...300

الآية : 186 ...304

الآية : 187 ...307

الآية : 188 ...310

الآية : 189 ....311

الآية : 190 - 194 ...314

ص: 633

الآية : 195 ...317

الآية : 196 - 197 ....319

الآية : 198 - 199 ...325

الآية : 200 - 203 ...329

الآية : 304 - 206 ...332

الآية : 207 ...334

الآية : 208 - 210 ...335

الآية : 211 - 212 ...337

الآية : 213 ...338

الآية : 214 ...340

الآية : 215 ...341

الآية : 216 ...342

الآية : 217 ...343

الآية : 218 ...345

الآية : 219 - 220 ....346

الآية : 221 ...351

الآية : 222 ....353

الآية : 223 ....355

الآية : 224 - 227 ....356

الآية : 228 ...359

الآية : 229 - 230 ...362

الآية : 231 ...367

الآية : 232 ...368

الآية : 233 ....370

ص: 634

الآية : 234 ....373

الآية : 235 ...374

الآية : 236 ...376

الآية : 237 ...379

الآية : 238 - 239 ....380

الآية : 240 ....382

الآية : 241 - 242 ....383

الآية : 243 - 245 ....384

الآية : 246 - 251 ....388

الآية : 252 - 253 ...397

الآية : 254 ....399

الآية : 20 - 257 ...401

الآية : 258 - 259 ...410

الآية : 260 ...414

الآية : 261 - 266 ...416

الآية : 267 - 272 ...422

الآية : 273 - 274 ...426

الآية : 275 - 276 ...428

الآية : 277 - 281 ....431

الآية : 282 ...433

الآية : 283 ...438

الآية : 284 ...439

الآية : 285 ...440

الآية : 286 ...442

ص: 635

سورة آل عمران (3)

الآية : 1 - 4 ...445

الآية : 5 - 6 ....449

الآية : 7 ....450

الآية : 8 - 9 ...452

الآية : 10 - 13 ...454

الآية : 14 ...456

الآية : 15 - 17 ...458

الآية : 18 - 19 ...460

الآية : 20 ...462

الآية : 21 - 22 ...463

الآية : 23 - 25 ...464

الآية : 26 - 27 ...467

الآية : 28 ...470

الآية : 29 - 30 ...471

الآية : 31 - 32 ...473

الآية : 33 - 41 ...474

الآية : 42 - 43 ...482

الآية : 44 - 51 ...484

الآية : 52 - 58 ...491

الآية : 59 ...495

الآية : 60 - 63 ....496

الآية : 64... 502

الآية : 65 - 68 ...504

الآية : 69 - 71 ...506

ص: 636

الآية : 72 - 74 ...507

الآية : 75-76 ...509

الآية : 77 - 78 ...511

الآية : 79 - 80...513

الآية : 1- 89 ...515

الآية: 90 - 92 ...520

الآية : 93 - 95 ...522

الآية : 96 - 98 ...525

الآية : 98 - 99 ...530

الآية : 100-101 ...531

الآية : 102 - 103 ...532

الآية : 104 - 109 ...535

الآية : 110 ...539

الآية : 111 - 112 ...541

الآية : 113 - 115 ...542

الآية : 116 - 117 ...545

الآية : 118 - 120 ...546

الآية : 121 ...549

الآية : 122 - 129 ...554

الآية : 130 - 136 ...558

الآية : 137 - 138 ...564

الآية : 139 - 141 ...565

الآية : 142 - 148 ...568

الآية: 149 - 152 ...573

الآية : 153 ...577

ص: 637

الآية : 154 - 155 ...578

الآية : 156 ...582

الآية : 157 - 158 ...583

الآية : 159 - 160 ...584

الآية : 161 - 163 ...586

الآية : 164 ...588

الآية : 165 - 168...589

الآية : 199 - 171 ...592

الآية : 172 - 174 ...597

الآية : 175 ...600

الآية : 176 - 178 ...601

الآية : 179 ...605

الآية : 180 ...606

الآية : 181 - 182 ...608

الآية : 183 - 184 ...610

الآية : 185 ...611

الآية : 186 ...612

الآية : 187 ...613

الآية : 188 - 189 ...615

الآية : 190 . ..616

الآية : 191 - 194 ...617

الآية : 195 ...623

الآية : 196 - 198 ...624

الآية : 199 ...626

الآية : 200 ...627

ص: 638

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.