جواهر الكلام في شرح شرايع الاسلام المجلد 40

اشارة

شماره بازيابي : 6-21842

سرشناسه : صاحب جواهر، محمدحسن بن باقر 1200؟ - 1266ق.

عنوان و نام پديدآور : جوااهرالكلام[چاپ سنگي]/محمدحسن نجفي [صاحب جواهر]؛نويسنده متن:علامه حلي؛كاتب:ابوالقاسم خوانساري؛مصحح:موسي طهراني

وضعيت نشر : [بي جا: بي نا]:، 1274ق.

مشخصات ظاهري : [518ص.]،ج1؛قطع:23×37س م

يادداشت : زبان:عربي

آغاز، انجام، انجامه : آغاز:بسمله... الحمدلله الذي ختم الشرايع باسمهما طريقة و اوضحها حقيقة و اظهرها برهانا ... و بعد فيقول العبد القاصر العاثر محمد حسن بن المرحوم باقر احسن الله اليهما ...

انجام:... الاصحاب الثاني و الله اعلم الحمدلله اولا و آخرا و ظاهرا و باطنا علي ما انعم و وفق لاتمام مباحث الطهارة.

انجامه:المكرم من سنة1274ق.و انا الفقير الي الله الغني ابن اسدالله ابوالقاسم خوانساري.

يادداشت استنساخ : تاريخ كتابت:1274ق.

مشخصات ظاهري اثر : نوع و درجه خط:نسخ

نوع و تز ئينات جلد:جلد مقوايي،روكش تيماج قهوه اي،عطف و لچكي ها گالينگور مشكي الحاقي.

خصوصيات نسخه موجود : حواشي اوراق:تصحيحاتي اندك با نشان«صح» و توضيحاتي اندك با نشان«منه»

يادداشت تملك و سجع مهر : يادداشت هاي تملك:يادداشتي با خط تحريري و با مركب مشكي " بسم الله الرحمن الرحيم و قد انتقل ذلك الكتاب مع مجلداته الاخر التي كانت عباره عن ست المجلدات مطبوعه بطبع حاجي موسي ره الي ملكي و هو مالك الملك و الرقاب من البايع المحترم الحاج شمس صاحب المكتبه في شارع ناصر خسرو و قرينا من شمس العملاره من العاصمه تهران صانها ... من الحدثان علي المبلغ الف و خمس مائه تومانا المقابل 1500ريالا و وقع هذا الانتقال في يوم الخامس المطباق با يوم الثاني من شهر جماديا لاولي من سنه اربع مائه بعد الالف من الهجره النبويه المصادف 29/12/1358 و انا الاحقر حسين الصالحي ... النجفي و التهراني المسكن" ( ظهريه صفحه اول)

توضيحات نسخه : نسخه بررسي شد.

نمايه ها، چكيده ها و منابع اثر : منابع ديده شده: ريحانة الادب (3: 358) ، ملي (2: 277) ، ذريعه (59: 24)

معرفي چاپ سنگي : جواهر الكلام كتابي مشروح و استدلالي در فقه شيعه قرن سيزدهم هجري و به زبان عربي است اين كتاب شرح مبسوط كتاب شرايع الاسلام (علامه حلي) است و جامعترين كتاب در موضوع فقه و استنباط و احكام است و همه ابواب فقه را در بر ميگيرد.نسخه حاضر مشتمل بر كتاب الطهاة است،و عناوين مطالب در حاشيه آمده است.

عنوانهاي گونه گون ديگر : جواهر الكلام في شرح شرايع الاسلام.

موضوع : محقق حلي،جعفر بن حسن602-676ق.-شرايع الاسلام في مسائل الحلال و الحرام--نقد وتفسير

فقه جعفري -- قرن 7ق.

شناسه افزوده : محقق حلي،جعفر بن حسن،602-676ق.شرايع الاسلام في مسائل الحلال و الحرام.شرح

خوانساري،ابوالقاسم،قرن 13ق.كاتب

طهراني،موسي،قرن 13ق.مصحح

حسيني،فروشنده

ج 40، ص: 1

اشارة

ج 40، ص: 2

ج 40، ص: 3

ج 40، ص: 4

ج 40، ص: 5

ج 40، ص: 6

ج 40، ص: 7

[تتمة القسم الرابع في الأحكام]

اشاره

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله و صلى الله على محمد و آله

[كتاب القضاء]

اشاره

كتاب القضاء بالمد و قد يقصر الذي هو لغة لمعاني كثيرة ربما أنهيت إلى عشرة:

الحكم و العلم و الاعلام- و عبر عنه بعضهم بالانهاء- و القول و الحتم و الأمر و الخلق و الفعل و الإتمام و الفراغ.

قال الله تعالى «ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ»(1).

«إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها»(2). «وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ»(3).

قيل: و منه أيضا «وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ»(4)و الأولى جعله من الأول.

«فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ»(5)أي حتمنا. «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ»(6)


1- 1 سورة النساء: 4- الآية 65.
2- 2 سورة يوسف: 12- الآية 68.
3- 3 سورة الحجر: 15- الآية 66.
4- 4 سورة غافر: 40- الآية 20.
5- 5 سورة سبأ: 34- الآية 14.
6- 6 سورة الإسراء: 17- الآية 23.

ج 40، ص: 8

«فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ»(1). «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ»(2). «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ»(3). «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ»(4). «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ»(5)و إن كان يمكن إرجاع بعضها إلى بعض.

كما أنه يمكن إرجاع القضاء المقابل للأداء و الموت و قضاء الدين و نحو ذلك إليها و إلا كانت زائدة و في القاموس «القضاء: الحكم و الصنع و الحتم و البيان، و قضى: مات و. عليه: قتله، و. وطره: أتمه و أدامه، و. عليه عهدا: أوصاه و أنفذه، و. إليه: أنهاه، و. غريمه دينه أداه، و سم قاض: قاتل».

لكن قيل: و يسمى القضاء قضاء لأن القاضي يتم الأمر بالفصل و يمضيه و يفرغ منه.

و فيه أنه بمعنى الحكم- الذي أول المعاني في الصحاح و القاموس- أولى من ذلك، بل في كشف اللثام «هو فصل الأمر قولا أو فعلا» و الأمر سهل.

و عرفا ولاية الحكم شرعا لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينين من البرية بإثبات الحقوق و استيفائها للمستحق، كما في المسالك و التنقيح و كشف اللثام و غيرها، بل في الأول منها نسبة تعريفه بذلك إليهم.


1- 1 سورة فصلت: 41- الآية 12.
2- 2 سورة طه: 20- الآية 72.
3- 3 سورة القصص: 28- الآية 29.
4- 4 سورة القصص: 28- الآية 28.
5- 5 سورة يوسف: 12- الآية 41.

ج 40، ص: 9

و في الدروس «ولاية شرعية على الحكم و المصالح العامة من قبل الامام (عليه السلام)» و لعله أولى من الأول، ضرورة أعمية مورده من خصوص إثبات الحقوق كالحكم بالهلال و نحوه و عموم الصالح.

و لعل المراد بذكرهم الولاية- بعد العلم بعدم كون القضاء عبارة عنها- بيان أن القضاء الصحيح من المراتب و المناصب كالامارة، و هو غصن من شجرة الرئاسة العامة للنبي (صلى الله عليه و آله) و خلفائه (عليهم السلام) و هو المراد من قوله تعالى(1)«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ» إلى آخرها، بل و من الحكم في قوله تعالى(2):

«وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا».

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح(3): «قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي أو شقي»

و قال الصادق (عليه السلام)(4): «اتقوا الحكومة، إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل بين المسلمين كنبي أو وصي».

و بالجملة هي من مناصب محمد (صلى الله عليه و آله) و أهل بيته (عليهم السلام) الذين هم ولاة الأمر و المستنبطون، و به يشعر

قوله (عليه السلام)(5): «فاني قد جعلته قاضيا و حاكما»

و قاضي التحكيم ليس من المناصب العامة.

و حينئذ فالمراد من الولاية في التعريف الأعم من كونها من الله أو


1- 1 سورة ص: 38- الآية 26.
2- 2 سورة مريم: 19- الآية 12.
3- 3 الوسائل- الباب- 3- من أبواب صفات القاضي- الحديث 2.
4- 4 الوسائل- الباب- 3- من أبواب صفات القاضي- الحديث 3.
5- 5 الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1 و 6 إلا أن في الأول «فإني قد جعلته عليكم حاكما» و في الثاني «فإني قد جعلته عليكم قاضيا».

ج 40، ص: 10

منهم أو خصوص ما كانت منهم كما هو مقتضى التعريف الثاني، بل هو الظاهر من الأول أيضا.

هذا و قد ذكر غير واحد أن من خواصه عدم نقض الحكم فيه بالاجتهاد، بل يجب على غيره من القضاة تنفيذه و إن خالف اجتهاده ما لم يخالف دليلا قطعيا، و أن له ولاية على كل مولى عليه مع فقد وليه و مع وجوده في مواضع يأتي بعضها إنشاء الله، و أن به يلزم حكم البينة لمن شهدت عليه و الشهود، فأما من شهدت عليه فيلزمه الحق، و أما الشهود فيغرمهم إياه لو رجعوا عن الشهادة، و هو جيد.

لكن قد يشكل الاستثناء في الأول فيما إذا كان الدليل القطعي نظريا لم يثبت قطعيته عند القاضي الأول بإطلاق ما دل(1)على النهي عن رده، كما أنه يشكل تنفيذه من القاضي الآخر بكونه غير ما أنزل الله تعالى.

و من هنا أمكن القول بعدم جواز رده و عدم وجوب تنفيذه، بمعنى إجراء الحكم الواقع عليه في حقه، و يأتي إنشاء الله تمام الكلام في ذلك.

و أما الولاية على المولى عليه أو على المصالح العامة فالظاهر عدم لزومها للنصب للقضاء، فهي حينئذ أمر آخر تتبع عبارة النصب.

و على كل حال ففي التحرير و غيره «أن القضاء واجب على الكفاية، بل في الرياض نفي الخلاف فيه بيننا، قال: لتوقف نظام النوع الإنساني عليه، و لأن الظلم من شيم النفوس، فلا بد من حاكم ينتصف من الظالم للمظلوم، و لما يترتب عليه من النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف».

و فيه أن ذلك من قاعدة اللطف المقتضية نصب الامام المتوقف عليه استقامة نظام نوع الإنسان، و ليس هو من الواجب الكفائي بالمعنى المصطلح، نعم من السياسة الواجبة على الامام (عليه السلام) نصب ما يستقيم به


1- 1 الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1 و 17 و 48.

ج 40، ص: 11

نظام نوع الإنسان، كما أنه يمكن القول بوجوب مقدار الصالح لذلك فيهم، و بوجوب فعل القضاء من المنصوبين له على الكفاية، و بوجوب تولي القضاء من الامام (عليه السلام) و يكون كغسل الميت المتوقف صحته على الاذن من الولي.

و لعل ذلك و نحوه مرادهم من الوجوب على الكفاية، و إن كان في قولهم: هو واجب على الكفاية- بعد تعريفهم له بالولاية التي قد عرفت معناها- نوع تسامح، ضرورة عدم صلاحيتها بمعنى كونها منصبا من المناصب للاتصاف بذلك، كما

هو واضح، نعم يتجه ذلك على مذهب العامة الذين لا إمام منصوب لهم من الله تعالى شأنه.

و من ذلك كله ظهر لك أن القضاء الذي هو من توابع النبوة و الإمامة و الرئاسة العامة في الدين و الدنيا غير محتاج ثبوته إلى دليل، خصوصا بعد قوله تعالى «فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(1)و «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ»(2). «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ»(3)إلى آخرها و غير ذلك، و أما النصب منهم للقضاء فهو معلوم أيضا، بل متواتر.

و على كل حال ف النظر في صفات القاضي، و آدابه و كيفية الحكم، و أحكام الدعاوي.


1- 1 سورة النساء: 4- الآية 65.
2- 2 سورة النساء: 4- الآية 105.
3- 3 سورة النساء: 4- الآية 59.

ج 40، ص: 12

[النظر الأول في الصفات]

اشاره

الأول في الصفات و يشترط فيه أي القاضي الذي يراد نصبه منهم (عليهم السلام) البلوغ و كمال العقل و الايمان و العدالة و طهارة المولد و العلم و الذكورة بلا خلاف أجده في شي ء منها، بل في المسالك «هذه الشرائط عندنا موضع وفاق» بل حكاه في الرياض عن غيرها أيضا، و عن الأردبيلي دعواه فيما عدا الثالث و السادس، و الغنية في العلم و العدالة، و نهج الحق في العلم و الذكورة.

و حينئذ فلا ينعقد منصب القضاء لصبي و لو مراهق و لا مجنون و لو أدوارا حال جنونه، لسلب أفعالهما و أقوالهما و كونهما مولى عليهما، فلا يصلحان لهذا المنصب العظيم، و منصب الإمامة ليحيى (عليه السلام) و للصاحب روحي له الفداء إنما كان لنوع من القضاء الإلهي، نحو عيسى بن مريم (عليه السلام).

و لا لكافر، لأنه ليس أهلا للأمانة و لم يجعل الله له سبيلا على المؤمن(1)إذ الإسلام يعلو و لا يعلى عليه(2).

و كذا غير المؤمن الذي هو كافر في الجملة أيضا، لما


1- 1 إشارة إلى قوله تعالى في سورة النساء: 4- الآية 141.
2- 2 إشارة إلى قوله صلى الله عليه و آله المروي في الوسائل- الباب- 1- من أبواب موانع الإرث- الحديث 11 من كتاب الفرائض.

ج 40، ص: 13

تواترت النصوص في النهي عن المرافعة إلى قضاتهم(1)بل هو من ضروريات مذهبنا.

بل لا يصلح لهذا المنصب الفاسق الإمامي فضلا عن غيره، لما هو المعلوم من النص(2)و الفتوى من قصوره عن مرتبة الولاية على يتيم و نحوه فضلا عن هذا المنصب الجليل.

و لا يخفى عليك أنه يدخل في ضمن العدالة التي قد تقدم البحث فيها في كتاب الصلاة(3)اشتراط الأمانة و المحافظة على الواجبات ضرورة عدمها في غير الأمين و تارك الواجب، كما هو واضح.

و كذا لا ينعقد القضاء لولد الزنا مع تحقق حاله، كما لا تصح إمامته و لا شهادته في الأشياء الجليلة و غيرها، كما هو واضح بناء على كفره، أما على غيره فالعمدة الإجماع المحكي و فحوى ما دل على المنع من إمامته و شهادته إن كان و قلنا به، مؤيدا بنفر طباع الناس منه، و إلا فمقتضى العمومات دخوله.

نعم لا ريب في اعتبار العلم،

قال الباقر (عليه السلام)(4): «من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه»

و قال الصادق (عليه السلام)(5): «أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال: أنهاك أن تدين الله بالباطل،


1- 1 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي.
2- 2 الوسائل- الباب- 16- من أبواب عقد البيع من كتاب لتجارة و الباب- 88- من كتاب الوصايا.
3- 3 راجع ج 13 ص 270 و 304.
4- 4 الوسائل- الباب- 4- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.
5- 5 الوسائل- الباب- 4- من أبواب صفات القاضي- الحديث 2.

ج 40، ص: 14

و تفتي الناس بما لا تعلم»

و نحوه غيره(1)و

في الخبر(2)«القضاة ثلاثة:

واحد في الجنة و اثنان في النار، فالذي في الجنة رجل عرف الحق فقضى به، و اللذان في النار رجل عرف الحق فجار في الحكم، و رجل قضى للناس على جهل».

و أما الذكورة فلما سمعت من الإجماع و

النبوي(3)«لا يفلح قوم وليتهم امرأة»

و في آخر(4)«لا تتولى المرأة القضاء»

و في وصية النبي (صلى الله عليه و آله) لعلي (عليه السلام) المروية في الفقيه بإسناده عن حماد(5)«يا علي ليس على المرأة جمعة- إلى أن قال-: و لا تولي القضاء»

مؤيدا بنقصها عن هذا المنصب، و أنها لا يليق لها مجالسة الرجال و رفع الصوت بينهم، و بأن المنساق من نصوص النصب في الغيبة(6)غيرها، بل في بعضها(7)التصريح بالرجل، لا أقل من الشك و الأصل عدم الاذن.

و من ذلك يعلم الوجه في كثير من الشرائط، ضرورة كونهم أعلم بمن يجوز نصبه مع الحضور، و في زمن الغيبة المدار على ما وصل إلينا عنهم (عليهم السلام) من عبارة النصب(8)و مع فرض الشك


1- 1 الوسائل الباب- 4- من أبواب صفات القاضي.
2- 2 سنن البيهقي- ج 10 ص 116.
3- 3 سنن البيهقي ج 10 ص 118 و فيه « لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».
4- 4 البحار ج 103 ص 254 عن أبي جعفر عليه السلام«. لا تولي المرأة القضاء.».
5- 5 الوسائل- الباب- 2- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.
6- 6 الوسائل الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 5 و الباب- 11- منها الحديث 1 و 6 و 9.
7- 7 الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي الحديث 6.
8- 8 الوسائل الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 5 و الباب- 11- منها الحديث 1 و 6 و 9.

ج 40، ص: 15

فلا ريب في أن الأصل العدم.

و كذا لا ينعقد لغير العالم المستقل بأهلية الفتوى، و لا يكفيه فتوى العلماء بلا خلاف أجده فيه، بل في المسالك و غيرها الإجماع عليه من غير فرق بين حالتي الاختيار و الاضطرار، بل لا بد أنه يكون عالما بجميع ما وليه أي مجتهدا مطلقا كما في المسالك، فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعض. على القول بتجزي الاجتهاد.

قلت قد يقال: إن المستفاد من الكتاب و السنة صحة الحكم بالحق و العدل و القسط من كل مؤمن، قال الله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»(1).

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ، وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا»(2).

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا، وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً»(3).

و مفهوم قوله تعالى(4)«وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» و في أخرى(5)«هُمُ الْكافِرُونَ» إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

و

قال الصادق (عليه السلام)(6): «القضاة أربعة، ثلاثة في


1- 1 سورة النساء: 4 الآية 58.
2- 2 سورة المائدة: 5- الآية 8.
3- 3 سورة النساء: 4 الآية 135.
4- 4 سورة المائدة: 5- الآية 47.
5- 5 سورة المائدة: 5- الآية 44.
6- 6 الوسائل- الباب- 4- من أبواب صفات القاضي- الحديث 6 و فيه « و قال عليه السلام.» بدل« و قال علي عليه السلام.».

ج 40، ص: 16

النار و واحد في الجنة: رجل قضى بجور و هو يعلم، فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم أنه قضى بجور، فهو في النار، و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم، فهو في النار، و رجل قضى بالحق و هو يعلم فهو في الجنة و قال علي (عليه السلام): الحكم حكمان: حكم الله و حكم الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية».

و قال أبو جعفر (عليه السلام)(1): «الحكم حكمان: حكم الله و حكم الجاهلية؛ و قد قال الله عز و جل(2)«وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» و أشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية».

إلى غير ذلك من النصوص البالغة بالتعاضد أعلى مراتب القطع الدالة على أن المدار الحكم بالحق الذي هو عند محمد و أهل بيته (صلوات الله عليهم) و أنه لا ريب في اندراج من سمع منهم (عليهم السلام) أحكاما خاصة مثلا و حكم فيها بين الناس و إن لم يكن له مرتبة الاجتهاد و التصرف.

قال الصادق (عليه السلام) في خبر أبي خديجة(3): «إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فاني قد جعلته قاضيا،

فتحاكموا إليه»

بناء على إرادة الأعم من المجتهد منه، بل لعل ذلك أولى من الأحكام الاجتهادية الظنية بل قد يقال باندراج من كان عنده أحكامهم بالاجتهاد الصحيح


1- 1 الوسائل- الباب- 4- من أبواب صفات القاضي- الحديث 8.
2- 2 سورة المائدة: 5- الآية 50.
3- 3 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 5.

ج 40، ص: 17

أو التقليد الصحيح و حكم بها بين الناس كان حكما بالحق و القسط و العدل.

نعم قد يقال بتوقف صحة ذلك على الاذن منهم (عليهم السلام) ل

قول الصادق (عليه السلام) في خبر سليمان بن خالد(1): «اتقوا الحكومة، إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين: نبي أو وصي».

و قوله (عليه السلام) أيضا في خبر إسحاق بن عمار(2): «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح: يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي».

و ما عساه يشعر به

قوله (عليه السلام) في نصب نائب الغيبة(3): «فإني قد جعلته حاكما».

و غير ذلك مما يقتضي توقف صحة الحكم و ترتب أثره عليه على الاذن و النصب، فتقيد تلك الآيات و النصوص بذلك أو تحمل على إرادة الأمر بالمعروف و نحوه مما ليس فيه قضاء و فصل.

اللهم إلا أن يقال بأن النصوص دالة على الاذن منهم (عليهم السلام) لشيعتهم المتمسكين بحبلهم الحافظين لأحكامهم في الحكم بين الناس بأحكامهم الواصلة إليهم بقطع أو اجتهاد صحيح أو تقليد كذلك، فإنهم العلماء و شيعتهم المتعلمون و باقي الناس غثاء.

و في خبر عبد الله بن طلحة(4)الوارد في اللص الداخل على المرأة و قتل ولدها و أخذ ثيابها عن الصادق (عليه السلام) أمر السائل بالقضاء بينهم بما ذكره الامام، و لعل غيره أيضا كذلك.

و إنما شدة الإنكار في النصوص على المعرضين عنهم المستغنين عنهم


1- 1 الوسائل- الباب- 3- من أبواب صفات القاضي- الحديث 3.
2- 2 الوسائل- الباب- 3- من أبواب صفات القاضي- الحديث 2.
3- 3 الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.
4- 4 الوسائل الباب- 23- من أبواب القصاص في النفس- الحديث 2 من كتاب القصاص.

ج 40، ص: 18

بآرائهم و قياسهم و استحسانهم و نحو ذلك من الباطل الذي لفقوه.

قال الحلبي(1): «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء فيتراضيان برجل منا، فقال: ليس هو ذاك، إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط».

و لو سلم عدم ما يدل على الاذن فليس في شي ء من النصوص ما يدل على عدم جواز الاذن لهم في ذلك، بل عموم ولايتهم تقتضي ذلك.

بل قد يدعى أن الموجودين في زمن النبي (صلى الله عليه و آله) ممن أمر بالترافع إليهم قاصرون عن مرتبة الاجتهاد و إنما يقضون بين الناس بما سمعوه من النبي (صلى الله عليه و آله).

فدعوى قصور من علم جملة من الأحكام مشافهة أو بتقليد لمجتهد عن منصب القضاء بما علمه خالية عن الدليل، بل ظاهر الأدلة خلافها، بل يمكن دعوى القطع بخلافها، و نصب خصوص المجتهد في زمان الغيبة بناء على ظهور النصوص فيه لا يقتضي عدم جواز نصب الغير.

و يمكن بناء ذلك- بل لعله الظاهر- على إرادة النصب العام في كل شي ء على وجه يكون له ما للإمام (عليه السلام) كما هو مقتضى

قوله (عليه السلام)(2): «فاني جعلته حاكما»

أي وليا متصرفا في القضاء و غيره من الولايات و نحوها.

بل هو مقتضى

قول صاحب الزمان روحي له الفداء(3): «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم، و أنا حجة الله»

ضرورة كون المراد منه أنهم حجتي عليكم في جميع ما أنا فيه حجة الله عليكم إلا ما خرج، و هو لا ينافي الإذن لغيره في الحكم


1- 1 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 8.
2- 2 الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 9.

ج 40، ص: 19

بخصوص ما علمه من الأحكام الخاصة، و ليس له هذه الرئاسة العامة أو يكون من قبيل قاضي التحكيم.

و حينئذ فتظهر ثمرة ذلك بناء على عموم هذه الرئاسة أن للمجتهد نصب مقلده للقضاء بين الناس بفتاواه التي هي حلالهم و حرامهم، فيكون حكمه حكم مجتهده و حكم مجتهده حكمهم، و حكمهم حكم الله تعالى شأنه، و الراد عليه راد على الله تعالى.

و لا يخفى وضوح ذلك لدى كل من سرد نصوص الباب المجموعة في الوسائل و غيرها، بل كاد يكون من القطعيات، خصوصا مع احتمال أن كثيرا من هذه الشرائط للعامة، كما لا يخفى على من لاحظ كتبهم و رأى إكثارهم من ذكر شرائط لا دليل لها سوى استحسان مستقبح أو قياس باطل أو نحو ذلك.

و من المعلوم أن المقبول مما ذكروه ما يكون موافقا لنصوصنا دون غيره، و لعل منه هذا الشرط المذكور المقتضي عدم جواز نصب الامام قاضيا يقضي بالحق و إن لم يكن مجتهدا.

و أما دعوى الإجماع التي قد سمعتها فلم أتحققها، بل لعل المحقق عندنا خلافها، خصوصا بعد أن حكى في التنقيح عن المبسوط في المسألة أقوالا ثلاثة أولها جواز كونه عاميا و يستفتي العلماء و يقضي بفتواهم و لم يرجح، و لعل مختاره الأول مع أنه أسوأ حالا مما ذكرناه، ضرورة فرضه عاميا حين نصبه ثم يستفتي بعد ذلك، مع ظهور الأدلة في اعتبار كونه عالما بما وليه حين التولية و لو بالتقليد بناء على ما ذكرناه من كون فتاوى المجتهد أحكامهم، فالقضاء حينئذ بها خصوصا إذا قلنا إن القضاء في زمن الغيبة من باب الأحكام الشرعية لا النصب القضائي و إن ذلك هو المراد من

قوله (عليه السلام): «جعلته قاضيا و حاكما»

فان الفصل

ج 40، ص: 20

بها حينئذ من المقلد كالفصل بها من المجتهد، إذ الجميع مرجعه إلى القضاء بين الناس بحكم أهل البيت، و الله العالم.

و من ذلك يظهر لك النظر في جملة مما هو مذكور هنا حتى قول المصنف هنا و يدخل فيه أن يكون ضابطا، فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه ضرورة عدم الدليل بالخصوص، بل مقتضى ما فيه من مفروض العدالة تجنب ما يحتمل النسيان فيه، و أنه لا يقضي إلا بما هو ضابط له بكتابة و نحوها، إذ لا يخفى عليه حاله الذي هو غلبة نسيانه، بل ربما كان قضاؤه أضبط من قضاء غيره، نعم لو كان كثير الغلط و الاشتباه و لا يعلم به على وجه يرتفع الوثوق بما يزعم أنه مضبوط له أمكن القول حينئذ بعدم نصبه بناء على عدم قبول ما ينقله من فتاواه و أخباره.

و كذا قوله و هل يشترط علمه بالكتابة؟ فيه تردد نظرا إلى اختصاص النبي (صلى الله عليه و آله) بالرئاسة العامة مع خلوه في أول أمره من الكتابة.

و أغرب من ذلك قوله و الأقرب اشتراط ذلك لما يضطر إليه من الأمور التي لا تتيسر لغير النبي (صلى الله عليه و آله) المحفوظ بالعصمة عن السهو و الغلط و غيرهما بدون الكتابة بل في المسالك نسبته إلى الشيخ و أكثر الأصحاب، إذ هو كما ترى لا دليل عليه سوى الاعتبار المزبور الذي لا ينطبق على أصولنا، بل إطلاق دليل النصب في نائب الغيبة يقتضي عدمه، على أنه يمكن الاستغناء بوضع كاتب، بل و غير الكتابة من طرق الضبط، بل ربما لا يحتاج إليها.

نعم لا ينعقد القضاء للمرأة و إن استكملت الشرائط لما عرفته سابقا من النص(1)السابق.


1- 1 الوسائل- الباب- 2- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.

ج 40، ص: 21

و كذا قوله و في انعقاد قضاء الأعمى تردد و خلاف أظهره و أشهره كما في المسالك أنه لا ينعقد، لافتقاره إلى التمييز بين الخصوم و تعذر ذلك مع العمى إلا فيما يقل و عمى شعيب (عليه السلام) على تقدير تسليمه ليس بحجة في شرعنا و لا على القاضي غير النبي لانجبار النبوة بالعصمة، إذ هو أيضا كما ترى مخالف لما عرفت، لمجرد اعتبار لا ينطبق على أصولنا، و يمكن رفعه بوضع مميز أو بغيره، إذ طرق التمييز غير منحصرة في البصر، و ربما لا يحتاج إلى ذلك، كما هو واضح.

و على كل حال ف هل يشترط الحرية؟ قال في المبسوط:

نعم بل في المسالك نسبته إلى الأكثر، لقصور العبد عن هذا المنصب العظيم و استغراق وقته بحقوق المولى و الأقرب أنه ليس شرطا لما عرفت، بل إطلاق دليل نصب نائب الغيبة يقتضي خلافه، و الفرض إذن المولى في ذلك فلا استغراق لوقته.

و لا يخفى عليك بعد ما ذكرنا الحكم في كثير من الشرائط المذكورة في كتب العامة التي لم يذكرها الأصحاب، كالنطق فلا يصح قضاء الأخرس، و السمع فلا قضاء للأصم، و غير ذلك مما ليس في أدلتنا ما يشهد له.

نعم ذكر بعض أفاضل المتأخرين أن كل ما شك في اشتراطه في ذلك فأصالة عدم ترتب الأثر و نحوها يقتضيه.

و لكن فيه أنه إن كان المراد اعتباره في نائب الغيبة فلا ريب في انقطاعه بإطلاق دليله أو عمومه، و مع فرض الشك على وجه لا يتناوله الإطلاق المزبور فلا ريب في أن الأصل يقتضي عدم وقوع الاذن له بعد فرض انحصارها في الدليل المفروض.

و إن كان اعتباره في من ينصبه الامام (عليه السلام) حال حضوره

ج 40، ص: 22

ففيه أولا أنه أدري في هذا الحال. مضافا إلى أن مقتضى عموم ولايته و أن الحكومة له- فهو مسلط عليها كتسلط الملاك على أملاكهم- جواز ذلك له، كما هو واضح.

هذا و قد يظهر من الروضة اعتبار جميع هذه الشرائط في الفتوى أيضا، و هو مبني على انحصار دليل قبولها بدليل قبول الحكم، فيعتبر فيها حينئذ ما يعتبر فيه.

لكن لا يخفى عليك ما فيها، ضرورة منع انحصار دليلها في ذلك، بل هو العقل بعد كون الفتوى الصحيحة مما أنزل الله و من القسط و العدل و الحق و غير ذلك مما وجب على الناس قبوله عقلا و نقلا، فجميع ما دل على الأمر بالمعروف و الأخذ بما أنزل الله و القيام بالعدل دال عليه و إن فقد شرط منصب القضاء بعدم الكتابة مثلا أو بالعمى أو بالذكورة أو نحو ذلك مما لا مدخلية لاندراج فتواه فيما عرفت قطعا، كما هو واضح بأدنى التفات. و من هنا كانت شرائط الفتوى غير شرائط القضاء، كما لا يخفى على من لاحظ كتب أصحابنا في الأصول و الفروع.

بل مما ذكرنا يظهر أن قبول الفتوى بعد اندراجها في الحق و العدل و القسط و نحو ذلك لا يحتاج إلى إذن من الامام (عليه السلام) بل الكتاب(1)و السنة(2)بل و العقل متطابقة على وجوب الأخذ بها، و حينئذ فدليل التقليد غير دليل القضاء.

نعم قد يستفاد من دليل الثاني أن الفتوى بكلي الواقعة المخصوصة من الحق و مما أنزل الله و من حكمهم و من العدل و القسط و نحو ذلك، ضرورة التلازم بين كون الحكم بالخصوصية كذلك و بين كون الحكم الشرعي


1- 1 سورة النساء: 4- الآية 58 و 135 و سورة المائدة: 5- الآية 8.
2- 2 الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي.

ج 40، ص: 23

في كلي تلك الخصوصية الذي هو فتوى المجتهد كذلك.

و بذلك ظهر لك أن دليل التقليد حينئذ هو جميع ما في الكتاب(1)و السنة(2)من الأمر بأخذ ما أنزل الله تعالى و القيام بالقسط و العدل و نحو ذلك، و اختلاف المجتهدين بسبب اختلاف الموازين التي قررها صاحب الشرع لمعرفة الأحكام غير قادح في كون الجميع مما أنزل الله تعالى شأنه من الحكم، فإن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم كما هو مقرر في محله.

[مسائل]
اشارة

و كيف كان ف هنا مسائل:

[المسألة الأولى يشترط في ثبوت الولاية إذن الإمام عليه السلام]

الأولى لا خلاف عندنا بل الإجماع بقسميه عليه في أنه يشترط في ثبوت الولاية للقضاء و توابعه إذن الإمام (عليه السلام) أو من فوض إليه الإمام ذلك، لما عرفت من أن منصب الحكومة له.

و حينئذ ف لو استقضى أهل البلد قاضيا لم تثبت ولايته عندنا و لم ينفذ حكمه نعم قد ذكر غير واحد من الأصحاب، بل لم يذكر أحد فيه خلافا، بل ظاهر بعضهم و صريح آخر الإجماع عليه أنه لو تراضى الخصمان بواحد من الرعية فترافعا إليه فحكم لزمهما حكمه و إن كان هناك قاض منصوب، بل و إن كان إمام، بل و على أنه لا يشترط رضاهما بعد الحكم منه.

لكن في الروضة و غيرها في اشتراط تراضي الخصمين بالحكم بعده قولان، بل في بعض القيود أنه للشيخ في بعض أقواله، بل في التحرير و لو تراضى خصمان بواحد من الرعية و ترافعا إليه فحكم لم يلزمهما الحكم


1- 1 سورة النساء:- الآية 58 و 135 و سورة المائدة: 5- الآية 8.
2- 2 الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي.

ج 40، ص: 24

بل في بعض قيوده و إن كان فيه شرائط الاجتهاد مع ظهور الامام (عليه السلام).

و كيف كان فهذه المسألة كما ذكرها الخاصة ذكرها العامة أيضا، قال في الروضة من كتبهم: «الخامسة: هل يجوز أن يحكم الخصمان رجلا غير القاضي؟ و هل لحكمه بينهما اعتبار؟ قولان، أظهرهما عند الجمهور نعم، و خالفهم الامام و الغزالي، فرجحا المنع، و قيل: القولان في الأموال فقط، فأما النكاح و اللعان و القصاص و حد القذف و غيرها فلا يجوز فيها التحكيم قطعا، و المذهب طرد القولين في الجميع، و به قطع الأكثرون و لا يجري في حدود الله على المذهب، إذ ليس لها طالب معين، و في التهذيب و غيره ما يقتضي ذهاب بعضهم إلى طرد الخلاف فيها، و ليس بشي ء، و قيل: القولان في التحكيم في حقوق الآدميين مخصوصان بما إذا لم يكن في البلد قاض فان كان لم يجز، و قيل: هما إن كان قاض و إلا فيجوز قطعا، و المذهب طردهما في الحالين، فإذا جوزنا التحكم اشترط في المحكم صفات القاضي، و لا ينفذ حكمه إلا على من رضي بحكمه، حتى لا يضرب دية الخطأ على العاقلة إذا لم يرضوا بحكمه، و لا يكفي رضا القاتل، و قيل:

يكفي و العاقلة تبع له، و الصحيح الأول، قال السرخسي: الخلاف مخصوص بقولنا: تجب الدية على الجاني ثم تحملها العاقلة، فإن قلنا يجب عليها ابتداء لم تضرب عليهم إلا برضاهم قطعا، و هذا أحسن، قال السرخسي:

و إنما يشترط رضا المتحاكمين إذا لم يكن أحدهما القاضي نفسه، فان كان فهل يشترط رضا الآخر؟ فيه اختلاف نص، و المذهب أنه لا يشترط، و ليكن هذا مبنيا على جواز الاستخلاف إن جاز، فالمرجوع إليه نائب القاضي، قال: و يشترط على أحد الوجهين كون المتحاكمين بحيث يجوز للمحكم أن يحكم لكل واحد منهما، فان كان أحدهما ابنه أو أباه لم يجز، و ليس للمحكم الحبس، بل غايته الإثبات و الحكم، و قيل: يحبس و هو

ج 40، ص: 25

شاذ، و هل يلزم حكمه بنفس الحكم كحكم القاضي أم لا يلزم إلا بتراضيهما بعد الحكم؟ فيه قولان، و يقال: وجهان، أظهرهما الأول، و متى رجع أحدهما قبل الحكم امتنع الحكم حتى إذا أقام المدعي شاهدين، فقال المدعى عليه:

عزلتك لم يكن له أن يحكم، و قال الإصطخري: إن أحس المدعى عليه بالحكم فرجع ففي تمكينه من الرجوع وجهان خرجهما، و المذهب الأول».

إلى غير ذلك مما ذكروه في كتبهم مما هو مبني على استحسان أو قياس أو مصالح مرسلة أو

رواية غير ثابتة عندنا عن النبي (صلى الله عليه و آله)(1)«من حكم بين اثنين فتراضيا به فلم يعدل فعليه لعنة الله تعالى».

قال في المسالك: «و لو لم يكن لحكمه اعتبار و لزوم لما كان لهذا التهديد معنى، و لكان التحذير على فعله لا على عدم العدل، و لأن التهديد على عدم العدل يدل على أن العلة عدم عدله، و لو لم يكن جائزا كان التهديد بالأعم أولى».

و فيه أن الاستدلال حينئذ بنحو قوله تعالى(2)«وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ»* و غيره مما ورد في الكتاب(3)و السنة(4)أولى، و لذا استدل على مشروعيته بها في كشف اللثام، و بنصوص(5)نائب الغيبة، و بما دل(6)على الأمر بالمعروف.


1- 1 ذكره ابن قدامة في المغني ج 11 ص 484.
2- 2 سورة المائدة: 5- الآية 44 و 45 47.
3- 3 سورة النساء: 4- الآية 85 و 105.
4- 4 الوسائل- الباب- 4- من أبواب صفات القاضي الحديث 7 و 8.
5- 5 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي الحديث 5 و الباب- 11- منها الحديث 1 و 6 و 9.
6- 6 الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأمر و النهي من كتاب الأمر بالمعروف.

ج 40، ص: 26

لكن قد عرفت تقييد تلك العمومات بإذن الإمام (عليه السلام) لأن الحكومة له، و دعوى أن المنصب له لا خصوص الحكم في واقعة مخصوصة رضي المتنازعان فيها بحكم من حكماه كما ترى مناف لظاهر الدليل المزبور المعتضد بقوله تعالى(1)«فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ» و بالأمر(2)بالرد فيما تنازعوا فيه إلى الله و رسوله و أولي الأمر الذين هم الأئمة صلوات الله و سلامه عليهم، فإنهم أدرى باستنباطه من غيرهم.

و نصوص نائب الغيبة منافية لفرض موضوعه الذي هو فقد الاذن له، كما هو واضح. و أدلة الأمر بالمعروف لا تقتضي الحكومة.

و أغرب من ذلك الاستدلال عليه في المسالك بوقوعه في زمن الصحابة و لم ينكر أحد منهم ذلك، مع أن من المعلوم عندنا انقلاب الأمر بعد موت النبي (صلى الله عليه و آله) حتى صار المنكر المعروف و الباطل المألوف.

و بذلك ظهر لك أن ما ذكره العامة من مشروعية قاضي التحكيم فضلا عما ذكروه من الفروع التي سمعتها يشكل انطباقه على أصولنا و إن ذكرها الأصحاب الذين هم أدرى منا بكيفية تطبيق ذلك.

نعم في

خبر أحمد بن الفضل الكناسي(3)المروي عن الكشي قال:

«قال أبو عبد الله (عليه السلام): أي شي ء بلغني عنكم؟ قلت: ما هو؟ قال: بلغني أنكم أقعدتم قاضيا بالكناسة، قال: قلت: نعم جعلت فداك، رجل يقال له عروة القتاب، و هو رجل له حظ من عقل نجتمع عنده فنتكلم و نتسائل ثم يرد ذلك إليكم، قال: لا بأس»


1- 1 سورة النساء: 4- الآية 65.
2- 2 سورة النساء: 4- الآية 59 و 83.
3- 3 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي الحديث 31.

ج 40، ص: 27

إلا أنه كما ترى ظاهر في إرادة تعرف الحكم في أحاديثهم من القضاء فيه لا فصل الخصومات الظاهر في إنكاره عليهم، و لو سلم فهو مؤيد لما ذكرناه سابقا من الاذن سابقا في الفصل بين الناس بأحكامهم و أنه يكون في الحقيقة فضلا منهم و إن ناب الشيعي في ذكره عنهم باجتهاد أو تقليد صحيحين.

و على كل حال فتجشم الاذن له مما عرفت أو مشروعيته و إن لم يكن بإذن خاصة و إنشاء نصب كذلك يقتضي نفوذ حكمه في جميع ما يقع فيه التداعي من المال و النكاح و القصاص و الحدود و غيرها كما نسبه في المسالك إلى ظاهر الأصحاب.

لكن في القواعد الإشكال في أهلية الحبس له و استيفاء العقوبة، و الجزم بأنه لا ينفذ حكمه على غير المتراضيين حتى لا يضرب دية الخطأ على عاقلة الراضي بحكمه.

و وجه الإشكال في الأول في كشف اللثام من عموم أدلة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أدلة التحكيم الناهية عن الرد لمن له أهلية القضاء و إفضاء تعطيلها إلى الفساد، و

قول الصادق (عليه السلام) لحفص بن غياث(1): «إقامة الحدود إلى من إليه الحكم»

و هو خيرة السيد و الشيخ في التبيان و جماعة، و من الاحتياط في الدماء و عصمتها، و اشتراك الحدود بين حق الله و حق الناس، و التحكيم إنما هو في حق الناس، و هو قول الشيخ في النهاية و الاقتصاد و سلار و جماعة.

قلت: و لا يخفى عليك ما في الثاني بعد فرض صحة الأول.

كما أنه لا يخفى عليك النظر في جملة من الفروع المذكورة، خصوصا ما ذكر من اعتبار رضاهما به قبل الحكم ما لم يكن أحد المتخاصمين قاضيا و إن كان منصوبا له، ضرورة كون المفروض رضاه بالمرافعة عنده،


1- 1 الوسائل- الباب- 28- من أبواب مقدمات الحدود- الحديث 1 من كتاب الحدود.

ج 40، ص: 28

و هو أعم من نصبه الذي لا بد من تقييده مع ذلك بكونه مأذونا له في النصب، و خصوصا دعوى كون قاضي التحكيم منصوبا من المتحاكمين المعلوم عدم أهليتهما لذلك.

بل و فيما ذكروه هنا من أنه يشترط فيه جميع ما يشترط في القاضي المنصوب عن الامام (عليه السلام) عدا الاذن، ضرورة أنه إذا كان المدرك له الإطلاق المزبور، فليس في شي ء منه إيماء إلى الشرائط المزبورة، خصوصا مثل الكتابة و البصر و نحوهما، نعم يتجه اعتبار ما كان دليله عاما لمثله من الشرائط كالبلوغ و الإسلام و نحوهما.

و لكن هذا الكلام سهل الخطب في المسألة عندنا كما أومأ إليه في المسالك حيث قال: «و اعلم أن الاتفاق واقع على أن قاضي التحكيم يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب من الشرائط التي من جملتها كونه مجتهدا، و على هذا فقاضي التحكيم مختص بحال حضور الامام (عليه السلام) فيفرق بينه و بين غيره من القضاة بكون القاضي منصوبا و هذا غير منصوب من غير الخصمين،

أما في حال الغيبة فسيأتي أن المجتهد ينفذ قضاؤه، لعموم الاذن، و غيره لا يصح حكمه مطلقا فلا يتصور حالتها قاضي التحكيم».

و مراده بحال الغيبة ما يشمل زمان الصادق (عليه السلام) أيضا لأن نصب مطلق المجتهد كان فيه، و هو من زمان الحضور، و لا يتصور فيه قاضي التحكيم، نعم يتصور فيما قبله مما لا إذن فيه لمطلق المجتهد، كزمن النبي (صلى الله عليه و آله) بل لعله خاص فيه أيضا، لظهور دليل نصب المجتهد في جميع زمان الجور الذي نهينا فيه عن المرافعة إلى قضاتهم(1)من حيث غلبة الجائرين، فيكون نصب الصادق (عليه السلام) مبنيا على نصب من قبله و أن هذا من قبيل الحكم الشرعي المتفق عليه


1- 1 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي.

ج 40، ص: 29

فيما بينهم، و حكم آخرهم كحكم أولهم، و لو سلم عدم دلالته على ذلك فأقصاها إلحاق هذا الزمان إلى زمن نصب الصادق (عليه السلام) بزمن النبي (صلى الله عليه و آله) و يختص به تصور قاضي التحكيم، و ربما احتمل تصوره في زمن الغيبة بالمرافعة إلى المفضول مع وجود الأفضل بناء على اختصاص النصب له دونه، لكن- مع ما في الاحتمال المزبور من النظر- ستعرف أن التحقيق نصب الجميع.

و بالجملة فقد ظهر لك بالتأمل في جميع ما ذكرناه انحصار دليل مشروعية التحكيم بالإجماع المدعى، و هو حجة على من لم يتبين خلافه، أو إطلاق تلك الأدلة الذي إن لم يقيد بما سمعته من اعتبار إذن الامام (عليه السلام) في مطلق الحكومة ينفتح منه باب عظيم لا يختص بقاضي التحكيم، كما أومأنا إليه في أول البحث، و خصوصا إذا قلنا إن ذلك من المأذون فيه، و لو لا دعوى الإجماع لأمكن القطع باستفادة نفوذ الحكم بالعدل الذي هو حكم الامام (عليه السلام) من جميع شيعته.

قال أبو بصير(1): «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول الله تعالى في كتابه «وَ لا تَأْكُلُوا»(2)إلى آخرها فقال: يا أبا بصير إن الله قد علم أن في الأمة حكاما يجورون، أما إنه لم يعن حكام أهل العدل، و لكنه عنى حكام أهل الجور، يا أبا محمد إنه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا

أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن حاكم إلى الطاغوت، و هو قول الله عز و جل «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ»(3)إلى آخرها».


1- 1 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 3.
2- 2 سورة البقرة: 2- الآية 188.
3- 3 سورة النساء: 4- الآية 60.

ج 40، ص: 30

و قال (عليه السلام) أيضا في خبره الآخر(1): «أي رجل كان بينه و بين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه و بينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله تعالى:

«أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ»(2)إلى آخرها».

و في الآخر(3)«قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء فيتراضيان برجل منا، فقال:

ليس هو ذاك، إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط».

إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة و الصريحة في الاذن بالحكم بالحق و العدل، و هو الذي عندهم، و شيعتهم أجمع نواب عنهم في ذلك، لأن المدار على الحكم بين الناس بحكمهم.

و عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(4)في وصيته لكميل بن زياد «يا كميل لا غزو إلا مع إمام عادل، و لا نقل إلا من إمام فاضل، يا كميل هي نبوة و رسالة و إمامة، ليس بعد ذلك إلا موالين متبعين أو مناوئين مبتدعين، إنما يتقبل الله من المتقين».

و قال الصادق (عليه السلام) في خبر جميل(5): «يغدوا الناس على ثلاثة أصناف: عالم و متعلم و غثاء، فنحن العلماء، و شيعتنا المتعلمون، و سائر الناس غثاء».

و قال الباقر (عليه السلام) في خبر محمد بن مسلم(6): «ليس عند أحد من الناس حق و لا صواب و لا أحد من الناس يقضي بقضاء


1- 1 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 2.
2- 2 سورة النساء: 4- الآية 60.
3- 3 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 8.
4- 4 الوسائل- الباب- 4- من أبواب صفات القاضي- الحديث 35.
5- 5 الوسائل- الباب- 7- من أبواب صفات القاضي- الحديث 18.
6- 6 الوسائل- الباب- 7- من أبواب صفات القاضي- الحديث 20.

ج 40، ص: 31

حق إلا ما خرج من عندنا أهل البيت»

الخبر.

و في الدعائم عن علي (عليه السلام)(1)«كل حاكم يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت، و قرأ «يُرِيدُونَ» إلى آخرها(2)ثم قال: و الله فعلوا و تحاكموا إلى الطاغوت و أضلهم الشيطان ضلالا بعيدا، فلم ينج من هذه الأمة إلا نحن و شيعتنا، و قد هلك غيرهم، فمن لم يعرف حقهم فعليه لعنة الله»

فلاحظ و تأمل جيدا.

هذا و قد بان لك الحال في أنه بناء على المشروعية يعم الجواز كل الأحكام و الله العالم.

و كيف كان ف سمع عدم حضور الامام عليه السلام كما في هذا الزمان ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت الجامع للصفات المشترطة في الفتوى المذكورة في كتب الأصول و بعض كتب الفروع بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه لقول أبي عبد الله (عليه السلام)

(7)- في خبر أبي خديجة(3): «إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا

فاجعلوه بينكم قاضيا، فاني جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه

(8)-». و خبره الآخر(4)قال: «بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال: قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو ترادى بينكم في شي ء من الأخذ و العطاء أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلا ممن قد عرف حلالنا و حرامنا، فاني قد جعلته قاضيا،


1- 1 المستدرك- الباب- 4- من أبواب صفات القاضي- الحديث 7.
2- 2 سورة النساء: 4- الآية 60.
3- 3 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 5.
4- 4 الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 6.

ج 40، ص: 32

و إياكم أن يتحاكم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر».

و مقبول ابن حنظلة(1)«سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أ يحل ذلك؟ فقال: من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا و إن كان حقه ثابتا، لأنه أخذ بحكم الطاغوت، و قد أمر الله أن يكفر به، قلت: كيف يصنعان؟ قال: انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فارضوا به حاكما، فاني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما بحكم الله استخف و علينا رد، و الراد علينا الراد على الله، و هو على حد الشرك بالله، قال: فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، و اختلفا فيما حكما، و كلاهما اختلفا في حديثكم، فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر، قال: فقلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه، قال: فقال:

ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، و إنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، و أمر بين غيه فيجتنب، و أمر مشكل يرد حكمه إلى الله و إلى الرسول، قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): حلال بين


1- 1 ذكر صدره في الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1 و بعده و ذيله في الباب- 9- منها- الحديث 1 و قطعة منه في الباب- 12- منها الحديث 9 مع الاختلاف في بعض قطع الحديث. راجع الكافي ج 1 ص 67 و ج 7 ص 412 و التهذيب ج 6 ص 218 و 301.

ج 40، ص: 33

و حرام بين و شبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، و هلك من حيث لا يعلم، قال:

قلت: فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم، قال:

ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنة و خالف العامة أخذ به، قال:

قلت: جعلت فداك فان وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة و الآخر مخالفا لها بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: بما يخالف العامة، فإن فيه الرشاد، قلت:

جعلت فداك فان وافقها الخبران جميعا، قال: ينظر إلى ما حكامهم إليه أميل و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر، فقلت: فان وافق حكامهم و قضاتهم الخبران جميعا، قال: إذا كان كذلك فأرجه حتى تلق إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

و قد سمعت المروي عن صاحب الزمان روحي له الفداء(1).

و خبر داود بن الحصين(2)«في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في الحكم وقع بينهما فيه اختلاف فرضيا بالعدلين، و اختلف العدلان بينهما، عن قول أيهما يمضي الحكم؟ فقال: ينظر إلى أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه، و لا يلتفت إلى الآخر».

و خبر النميري(3)عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سئل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حق يتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما، قال: و كيف يختلفان؟ قلت: حكم كل واحد منهما للذي اختاره الخصمان، فقال: ينظر إلى أعدلهما و أفقههما في دين الله فيمضي حكمه».

فهو حينئذ مأذون منهم و منصوب من قبلهم في الحكم بين الناس


1- 1 الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 9.
2- 2 الوسائل- الباب- 9- من أبواب صفات القاضي- الحديث 20.
3- 3 الوسائل- الباب- 9- من أبواب صفات القاضي- الحديث 45.

ج 40، ص: 34

بحكمهم، لا أن هذا الشرط ساقط في زمن الغيبة، كما توهمه عبارة المسالك، بل ظاهر خبر أبي خديجة الاكتفاء بتجزي الاجتهاد في الحكومة، لصدق معرفة شي ء من قضائهم.

و المناقشة بعدم المعرفة لشي ء مطلقا إلا للمجتهد المطلق يدفعها الوجدان الصحيح، للتجزي في الملكة و الفعل على وجه يساوي معرفة المجتهد المطلق، بل قد يزيد عليها.

و احتمال إرادة الملكة العامة من الشي ء- لأن غير الامام و إن كان مجتهدا مطلقا ليس عنده إلا شي ء من الأحكام، إذ معرفتها أجمع مختصة بالإمام- مناف لظاهر الخبر(1)الذي لا معارضة بينه و بين المقبولة(2)بناء على ظهورها في المجتهد المطلق، لعموم الجمع المضاف فيها، لأن أقصى الخبرين الاذن لكل منهما في ذلك.

هذا مضافا إلى ما سمعته من تلك المطلقات التي لا إشعار في شي ء منها باعتبار الاجتهاد فضلا عن كونه مطلقا.

و من ذلك يعلم حينئذ أن فتوى المتجزى حجة له و لغيره، ضرورة اقتضاء نفوذ حكمه الخاص صحة فتواه الكلية التي بني عليها الحكم الخاص، و أنها مندرجة في القسط و العدل و الحق و فيما أنزل الله، و أنها من حكمهم.

نعم لو كان دليل التجزي الرجحان العقلي لظنه الاجتهادي على تقليده اتجه اختصاص ذلك به دون غيره، لكن قد عرفت أن السمع واف بالدلالة عليه على الوجه المزبور، بل صدق معرفة الحكم الشرعي بطرقه المقررة عنهم (عليهم السلام) لا تحتاج إلى دليل، ضرورة كونها كمعرفة غيره من العلوم، و بها يكون معلومه من أحكامهم (عليهم السلام) و من


1- 1 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 5.
2- 2 الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي الحديث 1.

ج 40، ص: 35

العدل و القسط و الحق، كما هو واضح بأدنى تأمل و نظر.

و على كل حال ف لو عدل إلى قضاة الجور و الحال هذه كان مخطئا آثما قطعا، لما سمعته من النصوص المعتبرة(1)نعم لو توقف حصول حقه عليه و لو لامتناع خصمه عن المرافعة إلا إليهم جاز، كما يجوز الاستعانة بالظالم على تحصيل حقه المتوقف على ذلك، و الإثم حينئذ على الممتنع، كما هو ظاهر ما سمعته من النصوص(2)الظاهرة في اختصاصه بالإثم.

و أشكله في الكفاية بأن حكم الجائر بينهما فعل محرم و الترافع إليه يقتضي ذلك، فيكون إعانة على الإثم، و هي منهي عنها(3).

يدفعه منع كونه إعانة أولا و منع حرمتها ثانيا، خصوصا بعد ظهور النصوص فيما ذكرنا، و خصوصا إذا كان الخصم منهم، فإنه لا ينبغي التوقف في جواز أخذ الحق منه بحكم قضاتهم.

بل لعله المراد من

خبر علي بن محمد(4)قال: «سألته هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منا في أحكامهم؟ فكتب يجوز لك ذلك إنشاء الله إذا كان مذهبكم فيه التقية و المداراة لهم»

بناء على ما في الوافي من أن «المراد هل يجوز لنا أن نأخذ حقوقنا منهم بحكم قضاتهم كما يأخذون منا بحكم قضاتهم، يعني إذا اضطر إليه، كما إذا قدمه الخصم إليهم».

و يمكن كون المراد أخذ نحو الشفعة بالجوار و العصبة منهم كما يأخذون منا، أو غير ذلك مما لا يندرج فيه الأخذ بغير حق منهم، فإنه غير جائز، كما صرح به في خبر البغل(5)المتقدم في الغصب.


1- 1 الوسائل الباب- 1- من أبواب صفات القاضي.
2- 2 الوسائل الباب- 1- من أبواب صفات القاضي.
3- 3 سورة المائدة: 5- الآية 2.
4- 4 التهذيب ج 6 ص 224- الرقم 535 و الوسائل- الباب 11 من أبواب آداب القاضي- الحديث 1.
5- 5 الوسائل الباب- 17- من كتاب الإجارة- الحديث 1.

ج 40، ص: 36

و في

خبر ابن فضال(1)قال: «قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني (عليه السلام) و قرأته بخطه سأله ما تفسير قوله تعالى(2):

«وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ» فكتب إليه بخطه: الحكام: القضاة، قال: ثم كتب تحته: هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي، فهو غير معذور في أخذ ذلك الذي حكم به إذا كان قد علم أنه ظالم»

بل ربما كان ذلك مقطوعا به، فليس المراد حينئذ إلا ما ذكرناه أولا من الوجهين.

و قال علي بن الحسين (عليهما السلام) في خبر عطاء بن السائب(3): «إذا كنتم في أئمة الجور فامضوا في أحكامهم، و لا تشهروا أنفسكم فتقتلوا، و إن تعاملتم بأحكامنا كان خيرا لكم».

و قد يستفاد من هذا الخبر- مضافا إلى كون التقية دينا- صحة المعاملة بأحكامهم تقية على نحو الصحة في العبادة و إن افترقا بقاعدة الاجزاء في الثانية دون الأولى، لكن هذا الخبر- مع كون التقية دينا- يقتضي الأعم إلا أنه لم يحضرني الآن كلام للأصحاب بالخصوص، نعم في رسالة منسوبة للكركي الحكم بالبطلان في العبادة و المعاملة إلا ما نص فيه على الصحة كالوضوء و نحوه، و لا ريب في فساده في العبادة، أما المعاملة فمحل نظر.

هذا و في الكفاية أيضا أنه يستفاد من الخبرين عدم جواز أخذ شي ء بحكمهم و إن كان له حقا، و هو في الدين ظاهر، و في العين لا يخلو من إشكال، لكن مقتضى الخبرين التعميم، و كأن فرقه بين الدين و العين باحتياج الأول إلى تراض في التشخيص، و الفرض جبر المديون بحكمهم، بخلاف العين.

و فيه أن الجبر و إن كان إثما فيه لكن لا ينافي تشخص الدين بعد


1- 1 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 9.
2- 2 سورة البقرة: 2- الآية 188.
3- 3 الوسائل- الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 7.

ج 40، ص: 37

فرض كونه حقا، على أن في صدر أحد الخبرين المنازعة في دين أو ميراث، فلا بد من حمل الخبرين على الأعم من ذلك، لكن على معنى أن أصل ثبوت الاستحقاق للدين أو العين قد كان بحكمهم الباطل، لا أنهما ثابتان بالحكم الحق و أخذهما قد كانا بحكم الطاغوت، مع احتمال التزام الحرمة فيهما أيضا في ذلك، لكن على معنى حرمة التصرف و إن كانا مملوكين، فيكونان بحكم السحت في الإثم و لو باعتبار المقدمة، فتأمل جيدا، و الله العالم.

[المسألة الثانية تولي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه]

المسألة الثانية تولي القضاء ممن له القضاء كالنبي و الامام مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه لعظم الفوائد المترتبة عليه المعلوم رجحانها عقلا و نقلا، و لذا تولاه النبي (صلى الله عليه و آله) و غيره من الأنبياء و

في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح(1): «و إياك و التضجر و التأذي في مجلس القضاء الذي أوجب فيه الأجر و أحسن فيه الذخر لمن قضى بالحق».

الحديث. و نحوه غيره(2)لكن خطره عظيم، ف

في الخبر «من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين، قيل: و ما الذبح؟ قال: نار جهنم»(3)

و أنه «يجاء بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره قط»(4)

و «أن النواويس(5)شكت إلى الله تعالى شدة حرها،


1- 1 الوسائل- الباب- 1- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب- 1 و غيره من أبواب آداب القاضي.
3- 3 المستدرك الباب 3 من أبواب صفات القاضي الحديث 4.
4- 4 سنن البيهقي- ج 10 ص 96 و فيه« في تمرة قط».
5- 5 هي موضع في جهنم أو مقابر النصارى.

ج 40، ص: 38

فقال لها: اسكني إن موضع القضاة أشد حرا منك»(1)

و غير ذلك- خصوصا ما رواه الثمالي(2)عن الباقر (عليه السلام) في قاض من بني إسرائيل عوقب لموضع هواه قد كان مع من كان الحق له- مما صار سببا لامتناع جماعة من أكابر التابعين و غيرهم عنه، و لكنه محمول على أولوية تركه لمن لم يثق من نفسه بالقيام بشرائطه، كما أنه يحرم على من علم بفقده لها.

و ربما وجب تولي القضاء مقدمة للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و للقيام منه بالقسط و لكن يكون وجوبه حينئذ على الكفاية لعموم الخطابات المعلوم إرادة حصوله من مجموعهم لا من مباشر بعينه و لو جميعهم. نعم قد يتعين فرد

للانحصار أو لمصلحة اقتضت تعيين الامام (عليه السلام) له أو غير ذلك مما لا ينافي كون وجوبه الذي هو مفاد الخطابات الشرعية كفائيا، كما هو واضح.

و لا ينافي ذلك توقف صحته على إذن الامام (عليه السلام) نحو ما تقدم في نحو غسل الميت الذي هو كفائي، و صحته موقوفة على إذن الولي.

هذا و لكن في المسالك «أن حكم المصنف باستحبابه لمن يثق بنفسه محمول على طلبه من الامام ممن لم يأمره به إذا كان من أهله، أو على فعله لأهله في حال الغيبة حيث لا يتوقف على إذن خاص».

و في الأخير أنه واجب و إن زاد أهله على قدر الكفاية و سقط بفعله عن الباقين، و أما الأول فهو مخالف لما ذكره في الصورة السادسة.

و كأنه أشار به إلى ما في الدروس «و لو لم يوجد سوى واحد تعين، و لو وجد غيره ففي استحباب تعرضه للولاية نظر، من حيث الخطر


1- 1 المستدرك الباب- 6- من أبواب آداب القاضي الحديث 4.
2- 2 الوسائل الباب- 9- من أبواب آداب القاضي الحديث 1.

ج 40، ص: 39

و عظم الثواب إذا سلم، و الأقرب ثبوته لمن يثق من نفسه بالقيام به».

و في الروضة «و لو لم يعلم الامام لزمه الطلب، و في استحبابه مع التعدد عينا قولان: أجودهما ذلك مع الوثوق».

و تبعه في كشف اللثام، قال: «و يستحب التولية على الأعيان إلا من وجبت عليه عينا، لأنه أمر مرغوب عقلا و شرعا».

و أوضح ذلك في الرياض، فقال: «و استحبابه- أي قبوله- عيني، فلا ينافي ما قدمناه من أنه واجب كفائي».

و فيه أن التنافي بينهما ظاهر، ضرورة تبعية القبول و التعرض و نحوهما مما هو مقدمة لفعل القضاء، فمع فرض كون وجوبه كفائيا تكون مقدمته كذلك.

نعم قد يقال: إنه لو فرض تلبس من تقوم به الكفاية من الناس بها أمكن القول بسقوطها حينئذ عن الباقين، و لا يكفي في السقوط نفس وجود الغير من دون تلبس، كما في غير المقام من الكفائي، و حينئذ يمكن الكلام في الدليل على الاستحباب، إذ لا دليل على رجحان تحصيل منصب القضاء لنفسه، و إنما رجحانه إن كان فهو ليس إلا مقدمة للقضاء المفروض كونه واجبا كفائيا و لم يقم به أحد، فإن التلبس بمنصبه و الاستعداد له لا يقتضي فعله المتوقف عليه السقوط عن الباقين. و من هنا لو وقع ممن تأخر عن الأولين في التلبس بمنصبه كان أداء واجب.

بل قد يقال لذلك: إن الواجب الكفائي لا يسقط وجوب مقدمته بالتلبس بها عن الباقين، بل هي باقية على الوجوب، و إن زاد من تلبس بها على قدر الكفاية، ضرورة بقاء الخطاب بذيها، لعدم الدليل على سقوطه بالتلبس بمقدماته، بل ظاهر الأدلة خلافه.

و من ذلك ظهر لك أنه لا مناص عن القول باختصاص منصب القضاء من حيث إنه كذلك بالإمام (عليه السلام) و خطاب وجوبه

ج 40، ص: 40

متوجه إليه خاصة، و أما غيره فيستحب له توليه منه لما فيه من الفوائد.

و ربما يجب ذلك إذا كان مقدمة للأمر بالمعروف الذي هو واجب كفائي، لا من حيث كونه قضاء الذي قد عرفت اختصاص خطاب وجوبه بالإمام (عليه السلام) نعم قد يجب كفاية أو عينا أيضا من حيث أمر الإمام (عليه السلام) به.

و بذلك حينئذ يظهر الوجه في الاستحباب المزبور مع قولهم بوجوب القضاء كفاية، فتأمل جيدا فإنه دقيق جدا، ضرورة تعدد موضوع الاستحباب و الوجوب، بل ظاهر المتن أنه مستحب ذاتي و ربما عرض له الوجوب، و حينئذ يكون كفائيا، و لعل مراده ما ذكرناه، و الله العالم.

و إذا علم الامام (عليه السلام) أن بلدا خال من قاض مع الحاجة إليه لزمه نصب قاض فيه ب أن يبعث له أو يأمر أحدا قابلا له من أهله به، لأنه من السياسة اللازمة له و يأثم أهل البلد بالاتفاق على منعه لما فيه من مخالفة الإمام (عليه السلام) و منع قيام كلمة الحق و اختلال النظام، بل يحل قتالهم طلبا للإجابة كما في كل مخالف للإمام (عليه السلام) في سياسة الرعية.

و لو وجد من هو بالشرائط فامتنع عن قبول القضاء لم يجبر مع وجود مثله لعدم توقف السياسة حينئذ عليه، و لو امتنعوا أجمع فسقوا و خرجوا عن قابلية منصب القضاء و إن كان لا يسقط الوجوب عنهم بذلك، للقدرة على التوبة.

و لو ألزم الإمام (عليه السلام) أحدهم قال في الخلاف:

لم يكن له الامتناع، لأن ما يلزم به الامام واجب و رده المصنف بأنا نحن نمنع الإلزام (11) به مع عدم تعيينه إذ الإمام (عليه السلام) لا يلزم بما ليس لازما.

ج 40، ص: 41

و فيه كما في المسالك و غيرها أنه قد يلزم به لمصلحة من المصالح، و يدفع بانحصار الأمر فيه حينئذ مع عدم حصولها في غيره.

اللهم إلا أن يقال: إنها تكفي في أمر الإمام (عليه السلام) بخصوصه له لا من حيث اقتضائها الوجوب عليه، بل له إلزامه به اقتراحا بناء على ما عرفت من أن القضاء لا خطاب به لأحد غير الامام (عليه السلام) و أن وجوبه على غيره إنما هو من جهة أمره الذي قد يكون تعيينا و قد يكون كفائيا نحو أمر السادة للعبيد بعد أن كان أمر السياسة الدينية إليه و الأمر بطاعته.

أما إذا لم يكن من هذه الحيثية و نحوها فالظاهر كما ذكر المصنف أنه لا يلزم بما ليس لازما عند الله في أفراد الواجب المخير و الموسع و الكفائي إذ أمره أمر الله تعالى شأنه، و

في الدعائم(1)عن جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: «ولاية أهل العدل الذين أمر الله بولايتهم و توليتهم و قبولها و العمل لهم فرض من الله و طاعتهم واجبة، و لا يحل لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلف عن أمرهم»

إلى آخره، هذا كله مع وجود غيره.

أما لو لم يوجد غيره تعين هو للانحصار و حينئذ فإذا أمره الإمام (عليه السلام) لزمه الإجابة و ليس له الامتناع، فان امتنع فسق و خرج عن أهلية القضاء لذلك و إن كان لا يسقط الوجوب عنه لقدرته على تحصيل الشرط بالتوبة.

بل لو لم يعلم به الامام (عليه السلام) وجب أن يعرف نفسه لأن فعل القضاء من باب الأمر بالمعروف غالبا فيجب تحصيل مقدمته، و لا ينافي ذلك ما قدمناه من كون منصب القضاء للإمام (ع)


1- 1 المستدرك الباب- 1- من أبواب صفات القاضي الحديث 5.

ج 40، ص: 42

و لو تعدد القابلون له و لم يعلم بهم الإمام فأعلمه أحدهم على وجه قام به سقط عن الباقين، بل في استحبابه لهم إشكال.

بل في استحباب الابتداء بذلك تعرضا للولاية عند الحاجة ذلك أيضا، بل

عن النبي (صلى الله عليه و آله) أنه قال لعبد الرحمن بن بكرة(1): «لا تسأل الامارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، و إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها».

نعم لا يبعد رجحان طلب ذلك إذا وثق من نفسه و كان قصده إقامة كلمة الحق، كما عرفته سابقا و لو ببذل مال لجائر أو عادل لبيت المال إن قلنا بجوازه على ابتداء التولية أو استدامتها، بل ربما وجب، إذ احتمال أنه رشوة أو كالرشوة لا وجه له، و إن حكى عن بعض ذلك.

لكن لا يخفى عليك ما فيه، خصوصا بعد الإحاطة بما تقدم في مكاسب الكتاب(2)بل لا بأس ببذل المال على عزل من هو ليس أهلا للقضاء.

و مما ذكرنا ظهر لك الحال في جميع صور المقام و إن أطنب بها في المسالك حتى قول المصنف و هل يجوز أن يبذل مالا ليلي القضاء؟

قيل: لا لأنه كالرشوة و الله العالم.

[المسألة الثالثة إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة مع استكمال الشرائط المعتبرة فيهما فان قلد الأفضل جاز]

المسألة الثالثة:

إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة مع استكمال الشرائط المعتبرة في القاضي فيهما فان قلد الامام الأفضل منصب القضاء جاز قطعا و إن كان المفضول أورع، لأن ما عند الأفضل من العدالة يكفي في منعه من التهجم على المحارم و يبقى فضله خاليا عن المعارض،


1- 1 سنن البيهقي ج 10 ص 100 عن عبد الرحمن بن سمرة.
2- 2 راجع ج 22 ص 145- 149.

ج 40، ص: 43

نعم مع تساويهما في العلم يقدم الأعدل، لكونه أرجح حينئذ، فيكون الحاصل حينئذ ترجيح أعلم الورعين و أورع العالمين، لقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

و على كل حال ف هل يجوز العدول إلى المفضول مع وجود الأفضل؟ فيه تردد من الاشتراك في الأهلية، و لما هو المعلوم من إفتاء الصحابة مع اختلافهم في الفضيلة و عدم النكير عليهم، فيكون ذلك إجماعا منهم، و لما في تكليف العامي بذلك من العسر و الحرج، لعدم تأهله لمعرفة الأفضل من غيره.

و من أن الظن بقول الأعلم أقوى فيجب أتباعه، إذ أقوال المفتين بالنسبة إلى المقلد كالأدلة بالنسبة إلى المجتهد في وجوب اتباع الراجح، و لخبر عمر بن حنظلة(1)و غيره المتقدمة سابقا المنجبر اسنادها بالتعاضد و تلقي الأصحاب لها بالقبول.

و فعل الصحابة بعد إعراضهم عن الامام (عليه السلام) ليس حجة عندنا. و تعرف الأفضل ممكن بشهادة أهل الخبرة كتعرف أصل الأهلية.

و لكن مع ذلك كله ف الوجه عند المصنف الجواز، لأن خلله إن كان ينجبر بنظر الامام (عليه السلام) الذي نصبه. و فيه أنه إنما يتم مع قربه منه و اطلاعه على أحكامه لا مع بعده عنه على وجه لا يعلم شيئا من وقائعه، و فرض المسألة أعم من الأول، على أن أصل فرضها فيما ذكر خال عن الثمرة، ضرورة كونه أعلم بما يفعل مع حضوره.

إنما الكلام في نواب الغيبة بالنسبة إلى المرافعة إلى المفضول منهم و تقليده مع العلم بالخلاف و عدمه، و الظاهر الجواز، لإطلاق أدلة


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي الحديث 1.

ج 40، ص: 44

النصب المقتضى حجية الجميع على جميع الناس، و للسيرة المستمرة في الإفتاء و الاستفتاء منهم مع تفاوتهم في الفضيلة.

و دعوى الرجحان بظن الأفضل يدفعها- مع إمكان منعها في كثير من الأفراد المنجبر نظر المفضول فيها في زمانه بالموافقة للأفضل في الأزمنة السابقة و بغيرها- أنه لا دليل عقلا و نقلا في وجوب العمل بهذا الرجحان في خصوص

المسألة، إذ لعل الرجحان في أصل شرعية الرجوع إلى المفضول و إن كان الظن في خصوص المسألة بفتوى الفاضل أقوى نحو شهادة العدلين.

و مع فرض عدم المانع عقلا فإطلاق أدلة النصب بحاله، و نفوذ حكمه في خصوص الواقعة يستلزم حجية ظنه في كليها، و أنه من الحق و القسط و العدل و ما أنزل الله، فيجوز الرجوع إليه تقليدا أيضا، و النصوص(1)السابقة إنما هي في المتنازعين في حق و قد حكما في أمرهما رجلين دفعة فحكم كل واحد منهما لكل واحد منهما، و لا وجه للتخيير هنا، كما في أصل المرافعة و التقليد، ضرورة تحقق فصل الدعوى بقول أحدهما، لاتفاق النصوص(2)على ذلك، و أنه لا يبطل حكم كل منهما بحكم الآخر، فليس حينئذ إلا الترجيح للحكم في كلي الواقعة بالمرجحات التي ذكرها الامام (عليه السلام) و قال: إنه مع فرض فقدها أجمع يقف حتى يلقى الامام، و هذا غير أصل التخيير في الترافع و التقليد المستفاد من إطلاق أدلة النصب المعتضد بالعمل في جميع الأعصار و الأمصار.

بل لعل أصل تأهل المفضول و كونه منصوبا يجري على قبضه و ولايته مجرى قبض الأفضل من القطعيات التي لا ينبغي الوسوسة فيها، خصوصا بعد ملاحظة نصوص(3)النصب الظاهرة في نصب الجميع الموصوفين


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي.
2- 2 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي.
3- 3 الوسائل الباب- 1- من أبواب صفات القاضي الحديث 5 و الباب- 11- منها الحديث 1 و 6.

ج 40، ص: 45

بالوصف المزبور لا الأفضل منهم و إلا لوجب القول «انظروا إلى الأفضل منكم» لا «رجل منكم» كما هو واضح بأدنى تأمل، و خصوصا بعد إطلاق ما حكوه من الإجماع على قاضي التحكيم، بل لعل التأمل في نحو المقبولة(1)من النصوص يقضي بجواز المرافعة إلى المفضول قبل تحقق الخلاف فيه.

و من ذلك يعلم أن نصوص الترجيح(2)أجنبية عما نحن فيه من المرافعة ابتداء أو التقليد كذلك مع العلم بالخلاف و عدمه. و من الغريب اعتماد الأصحاب عليها في إثبات هذا المطلب، حتى أن بعضا منهم جعل مقتضاها ذلك مع العلم بالخلاف الذي عن جماعة من الأصوليين دعوى الإجماع على تقديمه حينئذ لا مطلقا فجنح إلى التفصيل في المسألة بذلك.

و أغرب من ذلك الاستناد إلى الإجماع المحكي عن المرتضى في ظاهر الذريعة و المحقق الثاني في صريح حواشي الجهاد من الشرائع على وجوب الترافع ابتداء إلى الأفضل و تقليده، بل ربما ظهر من بعضهم أن المفضول لا ولاية له أصلا مع وجود الأفضل، ضرورة عدم إجماع نافع في أمثال هذه المسائل، بل لعله بالعكس، فإن الأئمة (عليهم السلام) مع وجودهم كانوا يأمرون الناس بالرجوع إلى أصحابهم من زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير و غيرهم، و رسول الله (صلى الله عليه و آله) كان يولي القضاء بعض أصحابه مع حضور أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو أقضاهم، قال في الدروس: «لو حضر الإمام في بقعة و تحوكم إليه فله رد الحكم إلى غيره إجماعا».

على أنه لم نتحقق الإجماع عن المحقق الثاني، و إجماع المرتضى مبنى على مسألة تقليد المفضول الإمامة العظمى مع وجود الأفضل، و هو غير


1- 1 الوسائل الباب- 9- من أبواب صفات القاضي الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 9- من أبواب صفات القاضي.

ج 40، ص: 46

ما نحن فيه، ضرورة ابتنائها على قبح ترجيح المرجوح على الراجح، فلا نصب من الله تعالى شأنه لها مع وجود الأفضل، و لا مدخلية لهذه المسألة فيما نحن فيه قطعا، و ظني و الله أعلم اشتباه كثير من الناس في هذه المسألة بذلك.

و لا يخفى عليك أنه لا مدخلية للتوسعة فيما نحن فيه منهم (عليهم السلام) في جواز الرجوع إلى رواة أحاديثهم و فقهاء شرعهم و إن تفاوتوا في تلك المسألة بوجه من الوجوه، كما هو واضح بأدنى تأمل، خصوصا بعد أن كان لا مانع عقلا و النقل يقتضيه، فيجوز حينئذ نصبه و الترافع إليه و تقليده مع العلم بالخلاف و عدمه.

نعم لو فرض أن المتخاصمين قد حكموا رجلين فصاعدا في أمرهم فاختلف الحكم الصادر منهم في ذلك رجح بالمرجحات المذكورة، و دعوى اقتضاء ذلك الترجيح في أصل المرافعة و في التقليد ابتداء مع العلم بالخلاف أو مطلقا ممنوعة كل المنع، و الله العالم.

ثم إنه بناء على تقدم الأفضل فهل هو من حكم المانع أو الشرط؟

وجهان، لا يخفى عليك الثمرة بينهما، كما أنه لا يخفى عليك ظهور النص(1)في مضي حكم المفضول مع الترافع إليه خاصة و إن علم بعد حكم الفاضل بخلافه سيما إذا لم يعلم بكونه أفضل إلا بعد ذلك.

و الظاهر أن المدار على الفضيلة في الفقه و لو باعتبار الفضيلة في المقدمات على وجه يعد كونه أفقه، أما ما لا مدخلية له فيه فلا عبرة به.


1- 1 الوسائل الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 1.

ج 40، ص: 47

[المسألة الرابعة إذا أذن الامام عليه السلام له في الاستخلاف]

المسألة الرابعة:

إذا أذن الامام (عليه السلام) له في الاستخلاف مطلقا أو على وجه خاص عنه نفسه أو عن الامام جاز، و لو منع عنه لم يجز و إن صعب عليه القيام بما فوضه إليه لسعته بلا خلاف في شي ء من ذلك، بل و لا إشكال، لأن الحكومة حق له، فهو مسلط عليها تسلط المالك على ملكه من غير فرق بين الاحتياج لذلك لسعة الولاية أو لا، كما لو أذن للوكيل في التوكيل أو نهاه.

و مع إطلاق التولية نظر إن كان هناك أمارة تدل على الاذن في ذلك مثل سعة الولاية التي لا تضبطها اليد الواحدة جاز الاستنابة لشهادة الحال بالاذن فيها، و هل يستخلف حينئذ في القدر الزائد على ما يمكنه القيام به أو في الكل؟ وجهان تقدما في توكيل الوكيل.

و إلا تكن هناك أمارة فلا يجوز الاستنابة استنادا إلى أن القضاء موقوف على الاذن و الفرض حصولها له دون غيره على نحو ما سمعته في الوكيل بخلاف الأول الذي قد عرفت شهادة الحال بالاذن، لكن هل هي في النيابة عنه أو عن الامام (عليه السلام)؟ كما سمعته في التوكيل و إن كان الأقوى الأول، اللهم إلا أن يقال: فرق بين المقام و بين الوكيل بتحقق الولاية فيه نحو الوصاية، بل و أقوى، بل هو ظاهر نصب الغيبة المساوي في الكيفية لنصب الحضور، و حينئذ يكون التوكيل مع الإطلاق.

لكن في المسالك- بعد أن احتمله مستدلا له بأنه ناظر في المصالح

ج 40، ص: 48

العامة فيمكن من الاستنابة كالإمام، و لأنه قد وثق بنظره الذي من جملته الاستنابة- قال: «و يضعف الأول بأنه قياس مع وجود الفارق، و إنما رضي بنظره في القضاء بنفسه لا مطلقا».

و فيه أن الدليل ما عرفت إلا أن يمنع اقتضاء النصب للقضاء في زمن الحضور أزيد من معنى التوكيل بخلاف النصب في زمن الغيبة، فإنه إحداث ولاية كما هو مقتضى جعله حجة عليهم، كما أنه حجة الله.

و حينئذ يتجه التفصيل في النصب بين أن يكون على معنى التوكيل فليس له الاستنابة إلا بالاذن، و بين أن يكون على معنى الولاية، فيجوز كما في نصب الغيبة.

و دعوى عدم جواز النصب بالمعنى الثاني- لمنافاته كون الحكومة من الله للإمام (عليه السلام) ضرورة عدم صلاحيته للغير ولاية لا نيابة، و إنما جاز التوكيل في زمن الغيبة لظهور الأدلة في معنى الوكالة المطلقة- يدفعها أن ذلك هو المراد بالولاية، فلا منافاة بين كون الحكومة له و بين توليته غيره على حسب ولاية الأب و الجد اللذين جاز لهما إثباتها لغيرهما بالوصاية.

فلا ريب في أن التحقيق أن النصب للقضاء يقع على الوجهين المزبورين و إن كانا هما معا بمعنى الاستنابة، إلا أنها بالمعنى الثاني استنابة خاصة هي للولاية أقرب منها للوكالة في مثل نصب الغيبة، كما هو واضح بأدنى تأمل.

و لا يخفى عليك ما يتفرع على ذلك و لا ما يتفرع على الاستنابة عنه أو عن الامام (عليه السلام) التي قد مر كثير منها في وكيل الوكيل.

و على كل حال فحيث يجوز الاستخلاف للقضاء فلا ريب في أنه يعتبر فيه ما يعتبر في المنصوب الأصيل، ضرورة كونهما منصوبين له، فلا بد من كونه مجتهدا بناء على اعتباره في القضاء.

ج 40، ص: 49

نعم في المسالك «إلا أن يفوض إليه أمرا خاصا لا يتوقف على الاجتهاد كسماع البينة و نقلها إليه، و في التحليف بعد أن سمع الحاكم البينة دون الحكم، فيكفيه العلم بشرائط ذلك- قال-: و من هنا يظهر أن المجتهد في حال الغيبة لا يمكنه تولية أحد الحكم بين الناس مطلقا، لأن النائب إن كان مجتهدا كان أصلا كالمستنيب، و إن كان المستنيب أعلم و قلنا بترجيحه حيث لا يشترط الأفضلية أو حذر الوصول إلى الأفضل و إن كان مقلدا لم ينفذ حكمه مطلقا، و إنما يتصور ذلك في القاضي المنصوب من قبل الامام (عليه السلام) إذا استناب مجتهدا غير منصوب».

قلت: قد يقال: إن لم يكن إجماع لا مانع من التوكيل في إنشاء صيغة الحكم من قول: «حكمت» و نحوه، نحو إنشاء صيغة الطلاق الذي هو بيد من أخذ بالساق، فان عمومات الوكالة سواء في تناولهما، بل لعل شمولها لنحو ذلك أولى من شمولها لسماع البينة و للتحليف و نحوهما، اللهم إلا أن يراد عدم قبول الحكم الذي هو بمعنى الفصل للتوكيل، و هو مصادرة.

كما أنه قد يقال- إن لم يكن إجماع- بجواز تولية الحكم للمقلد على أن يحكم بفتوى مقلده مثلا، لما عرفته سابقا من العمومات السالمة عن المعارض، و اختصاص النصب في زمن الغيبة بالمجتهد بناء على ظهور دليله في ذلك لا يقتضي عدم جواز تولية هذا المنصوب على الإطلاق و أنه الحجة من الامام (عليه السلام) على الناس كما أن الامام حجة الله عليهم، بل قد عرفت كونه وليا.

بل لعل ظاهر الدليل أن حجيته على حسب حجيته، فله حينئذ استنابته و له تولية الحكم بفتاواه التي هي عدل و قسط و حكم بما أنزل الله تعالى، كما أشرنا إليه سابقا، و لعله لذا حكي عن الفاضل القمي جواز

ج 40، ص: 50

توكيل الحاكم مقلده على الحكم بين الناس بفتاواه على وجه يجري عليه حكم المجتهد المطلق، و هو قوي إن لم يكن إجماع، كما لهجت به ألسنة المعاصرين و ألسنة بعض من تقدمهم من المصنفين إلا أن الانصاف عدم تحققه، نعم قد يقال: إن المسلم من اختصاص النصب في زمن الغيبة للمجتهد ل

قوله (عليه السلام): «عرف قضاءنا و نظر في حلالنا و حرامنا»(1)

و هو لا ينافي المفروض، كما عرفت.

ثم إنه قد يتصور أيضا في زمن الغيبة على تقدير الشرط المزبور بتولية المفضول بناء على اختصاص النصب بالأفضل و أنه لا حكم له معه، و إن كان قد عرفت ضعف القول به بما لا مزيد عليه، بل قد يمنع تصوره عليه أيضا، لعدم حكم له مع الأفضل، و حينئذ لا يكون للاستخلاف موضوع في زمن الغيبة بناء على الشرط المزبور.

لكن قد يستفاد من مفروغية مشروعيته في الجملة و لو في زمن الحضور جواز نصب نائب الغيبة قيما على نحو الوقف و الأطفال على معنى إحداث ولاية لهم على ذلك، كما صرح به غير واحد، ضرورة كونه من توابع الاستخلاف في القضاء المفروض جوازه في الحضور، فيجوز ذلك لنائب الغيبة، لظهور ما دل على ولايته في الأعم من ذلك.

بل قيل بعدم انعزال من ينصبه قيما للأطفال مثلا بموته، بل ليس له عزله و إن كان لا يخفى عليك ما فيه، ضرورة كونهم فروعه الذين ينعزلون بانعزاله بموت و نحوه، إذ هو ليس أزيد من الامام (عليه السلام) الذي ينعزل نوابه بموته، نعم لو قلنا بجواز تولية ذلك من قبل الامام (عليه السلام) أمكن حينئذ عدم انعزالهم بموته، لكونهم من فروع


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1 و فيه « نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا».

ج 40، ص: 51

الإمام حينئذ، لكن جواز ذلك لا يخلو من نظر، للشك في أصل ثبوت الولاية لهم على الوجه المزبور، و على تقديره فالمتجه جواز عزله له، إذ كما أن له ولاية على النصب له ولاية على العزل، لإطلاق الدليل، إلا أن الانصاف الشك في ذلك، و الأصل العدم.

و كذا الشك في استفادة الولاية لكل حاكم على عزل نائب الآخر، بل لعل المستفاد عدم ولاية لأحدهم على ما دخل في ولاية الآخر، و لا أقل من الشك، و الأصل العدم، و الله العالم.

[المسألة الخامسة إذا ولي من لا يتعين عليه القضاء فإن كان له كفاية من ماله فالأفضل أن لا يطلب الرزق من بيت المال]

المسألة الخامسة:

إذا ولي من لا يتعين عليه القضاء لوجود غيره فان كان له كفاية من ماله فالأفضل أن لا يطلب الرزق من بيت المال توفيرا لغيره من المصالح و لو طلب جاز، لأنه من المصالح المعد لها التي من جملتها القضاء الذي فيه قيام نظام النوع و المعروف، لكن قد يشكل ذلك بأنه يؤدي واجبا و إن لم يكن متعينا عليه، فلا يجوز أخذ العوض عنه. بل لو قلنا بكون القضاء من العبادات كما عساه يظهر من بعضهم أشكل أخذ العوض عليه مطلقا أيضا، لما فيه من الجمع بين العوض و المعوض عنه.

كل ذلك مضافا إلى إمكان دعوى اختصاص بيت المال المجتمع من نحو الزكاة و الصدقات و غيرهما بذوي الحاجات لا الأغنياء.

و كذا إن تعين عليه القضاء بتعيين الامام (عليه السلام) و لعدم وجود غيره و لم يكن له كفاية جاز له أخذ الرزق من بيت المال، لمكان حاجته حينئذ و اشتغاله بأمر متعين عليه فيه قيام نظام النوع.

ج 40، ص: 52

و أما إن كان له كفاية قيل بل في المسالك أنه الأشهر لا يجوز له أخذ الرزق، لأنه يؤدي فرضا فلا يجوز له أخذ العوض عنه كغيره من الواجبات.

و الثاني الجواز، لعدم خروجه بالوجوب عن كونه من المصالح التي يؤخذ الرزق عليها و إن وجبت كالجهاد، فيكون الارتزاق من بيت المال مسببا للقيام بمصلحة من مصالح المسلمين، سواء كانت واجبة أم لا، و سواء كان القائم محتاجا إليه أم لا.

و لكن الانصاف عدم خلو ذلك عن الاشكال، لعدم الدليل، و إنما المسلم الارتزاق مع الحاجة إليه و لو بسبب القيام بالمصلحة المانع له من التكسب، سواء تعين عليه ذلك أو لا، و ليس هو في الحقيقة عوض معاملي، بل لأن بيت المال معد للمحاويج سيما القائمين بمصالح المسلمين الذين يمنعهم القيام بذلك عن التكسب للمعاش، و

في الدعائم(1)عن علي (عليه السلام) أنه قال: «لا بد من إمارة و رزق للأمير، و لا بد من عريف و رزق للعريف، و لا بد من حاسب و رزق للحاسب، و لا بد من قاض و رزق للقاضي،

و كره أن يكون رزق القاضي على الناس الذين يقضي لهم، و لكن من بيت المال»

و هو و إن كان مطلقا و لكن لا جابر له على إطلاقه، هذا كله في الارتزاق.

أما لو أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف و قد ذكرنا التحقيق فيه في المكاسب(2)و أنه لا يجوز مطلقا، و لكن قال المصنف هنا و الوجه التفصيل بين من لم يتعين عليه و كان مضطرا إليه


1- 1 ذكر صدره في المستدرك- الباب- 28- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3 و ذيله في الباب- 8- من أبواب آداب القاضي- الحديث 2.
2- 2 راجع ج 22 ص 122- 124.

ج 40، ص: 53

و بين غيره، فيجوز في الأول دون الثاني و إن كان الأولى الامتناع أيضا.

و إلى ذلك أشار بقوله فمع عدم التعيين و حصول الضرورة قيل:

يجوز، و الأولى المنع و إن كانت عبارته قاصرة التأدية، و لعل الوجه في ذلك اقتضاء عدم الجواز تعطيل الوظيفة الدينية أو تحمل الضرر و الحرج المنفيين عقلا و شرعا، بل ربما كان من تكليف ما لا يطاق في بعض أفراده.

و فيه أن ذلك إن تم اقتضى جوازه حتى مع التعين، لأن وجوبه لا يدفع الضرر الناشئ من ترك السعي على ضرورة الرزق و الصبر على الجوع و الجهد، بل قد يناقش في أصل ذلك بأن القضاء إن كان مما يقبل العوض بإجارة أو جعالة جاز و إن لم يكن محتاجا إلى ذلك، و إلا لم يجز و إن كان محتاجا، ضرورة عدم اقتضاء الحاجة انقلاب الموضوع، و قد تقدم التحقيق في المكاسب(1).

هذا و في المسالك «ثم على تقدير جوازه بوجه ففي جواز تخصيص أحدهما به أو جعله على المدعى أو التشريك بينهما أوجه، من الشك في أنها تبع للعمل أو للمنفعة الحاصلة، فعلى الأول هو عليهما و على الثاني يجب على المحكوم له أو على المدعي».

و فيه أن هذه الوجوه لا تأتي بعد فرض كون دفع الجعل عنه معاملة، ضرورة تبعيتها لمن وقعت معه، نعم لو قلنا بوجوب دفع ذلك عوضا عنه شرعا أمكن جريان هذه الاحتمالات، هذا كله في القاضي.

أما الشاهد فلا يجوز له أخذ الأجرة على أدائها لا لتعين الإقامة عليه مع التمكن بل للوجوب عليه و إن كان كفائيا، و من هنا أطلق الأصحاب على ما اعترف به في المسالك عدم جواز أخذها له


1- 1 راجع ج 22 ص 122- 124.

ج 40، ص: 54

معه كما اعترف به في المسالك، نعم لو احتاج السعي لها إلى معونة في سفر جاز له أخذها، لأن الواجب الإقامة كما دلت عليه الآية(1)لا السعي لها مع أنه استشكله في المسالك أيضا بأن السعي حينئذ مقدمة الواجب المطلق فيكون أيضا واجبا كأصله، و لكن قد يدفع بظهور الأدلة في وجوبه بدنا لا مالا، أما التحمل فمع عدم تعينه عليه قد يقال بجواز الأخذ عليه، لكن الأولى تركه، و قد تقدم في المكاسب(2)ما يستفاد منه تحقيق الحال فيه.

و كيف كان فلا إشكال في أنه يجوز للمؤذن و القاسم و كاتب القاضي و المترجم له و صاحب الديوان أي الكتاب الذي يجمع فيه أسماء الجند و القضاة و المدرسين و غيرهم من المرتزقة و الكتبة و نحوهما و والي بيت المال أن يأخذوا الرزق من بيت المال المعد للمصالح التي هذه منها، بل أهمها و إن لم يجز بعضهم أخذ الأجرة كما تقدم في المكاسب(3)إذ الارتزاق ليس أجرة و إن كان هو عوض.

و كذا من يكيل للناس و يزن و من يعلم الآداب و السنن(4)و غيرهم ممن يقوم بمصالح المسلمين، نعم قد عرفت احتمال اشتراط ذلك بالحاجة و اشتغالهم بهذه المصالح عن التكسب للمعاش، و لا ريب في أولوية التعفف مع الاستغناء، و الله العالم.


1- 1 سورة الطلاق: 65- الآية 2.
2- 2 راجع ج 22 ص 124.
3- 3 راجع ج 22 ص 123- 124.
4- 4 و في الشرائع: «و من يعلم القرآن و الآداب».

ج 40، ص: 55

[المسألة السادسة تثبت ولاية القاضي بالاستفاضة]

المسألة السادسة:

تثبت ولاية القاضي ب ما يثبت به غيرها من سماع إنشائها و الإقرار به أو البينة على ذلك أو الاستفاضة التي تسمى بالشياع الذي يحصل غالبا منه سكون النفس و اطمئنانها بمضمونه، خصوصا قبل حصول مقتضى الشك، بل لعل ذلك هو المراد بالعلم في الشرع موضوعا أو حكما، و حينئذ فلا ريب في الاكتفاء به قبل حصول مقتضى الشك، أما معه فقد يشك فيه لكن في غير الولايات التي جرت السيرة بالاكتفاء بها بمثل ذلك.

و كذا غيرها أيضا مما جرت السيرة في أنه يثبت بالاستفاضة من النسب و لو من طرف الأم على الأصح و الملك المطلق و الموت و النكاح و الوقف و العتق و الرق و نحوها، لا لبعض ما ذكره غير واحد من الاعتبارات كعسر إقامة البينة عليها و نحوه مما لا يصلح أن يكون مدركا لحكم شرعي، بل للسيرة فيما قامت عليه منها مؤيدة بما قيل من أن المراد بظاهر الحكم في

مرسل يونس(1)عن أبي عبد الله (عليه السلام) الاستفاضة، قال فيه: «سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أ يحل للقاضي أن يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال: فقال: خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات و المناكح و الذبائح و الشهادات و المواريث، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه» و في


1- 1 الوسائل الباب- 22- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.

ج 40، ص: 56

الفقيه(1)«الأنساب» مكان «المواريث» كما أن فيما حضرني من بعض نسخ التهذيب(2)«الحال» بدل «الحكم»

بل هو الذي رواه عنه في الوافي و الوسائل، و لعله بناء على أن المراد بظاهر الحكم هو ما ظهر بين الناس من الحكم، بمعنى نسبة المحمول إلى الموضوع في الأمور المذكورة، إذ هو معنى الشياع و الاستفاضة المذكوران، بل هما ظاهر الحال أيضا.

كما أن المراد من الاكتفاء به في الشهادات أنه تجوز الشهادة بما يحصل منه بمعنى، كما يقول: «دار زيد وقف و عمرو بن خالد» و نحو ذلك مما هو متعارف بين الناس من الحكم في ذلك إذا كان شائعا كما يومئ إليه الصحيح الآتي، أو أن المراد متعلق الشهادة من عدالة أو جرح. و على كل حال فلا ريب في أنه مؤيد لما عرفت.

و في

صحيح حريز(3)قال: «كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله (عليه السلام) دنانير و أراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال إسماعيل: يا أبه إن فلانا يريد الخروج إلى اليمن و عندي كذا و كذا دينارا أ فترى أن أدفعها يبتاع لي بها بضاعة من اليمن: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا بني أما بلغك أنه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل:

هكذا يقول الناس، فقال: يا بني لا تفعل، فعصى أباه و دفع إليه دنانيره، فاستهلكها و لم يأت بشي ء منها، فخرج إسماعيل و قضى أن أبا عبد الله (عليه السلام) حج و حج إسماعيل تلك السنة فجعل يطوف البيت و هو يقول: اللهم أجرني و اخلف علي، فلحقه أبو عبد الله (ع)


1- 1 راجع الفقيه ج 3 ص 9- الدقم 29.
2- 2 راجع التهذيب ج 6 ص 288- الرقم 798.
3- 3 الوسائل الباب- 6- من كتاب الوديعة- الحديث 1.

ج 40، ص: 57

فهمزه بيده من خلفه، و قال له: مه يا بني، فلا و الله ما لك على الله هذا و لا لك أن يأجرك و لا يخلف عليك و قد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته، فقال إسماعيل: يا أبه إني لم أره يشرب الخمر إنما سمعت الناس يقولون، فقال: يا بني إن الله عز و جل يقول في كتابه يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ(1)يقول: يصدق لله و يصدق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم، و لا تأتمن شارب الخمر، فان الله تعالى يقول «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ»(2)فأي سفيه أسفه من شارب الخمر، إن شارب الخمر لا يزوج إذا خطب، و لا يشفع إذا شفع، و لا يؤتمن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله أن يأجره و لا يخلف عليه».

إذ هو كما ترى كالصريح في اعتبار الشياع الذي هو أعلى أفراده قول الناس و شهادة المؤمنين و نحوهما مما هو مذكور فيه، و به أدرجه فيما دل على النهي عن ائتمان شارب الخمر.

و منه يعلم أنه لا مدخلية لمفاده الذي يكون تارة علما و أخرى متاخما له و ثالثة ظنا غالبا في حجيته، و إنما المدار على تحققه، بل ظاهر الصحيح المزبور عموم اعتباره لغير المذكورات في المتن، بل صريحه ثبوت الفسق به، و لعله كذلك و إن اقتصر الجماعة على الأمور المخصوصة، لكن المراد غلبة تحقق الشياع فيها، لا أن المراد عدم اعتباره و إن فرض تحققه في غيرها، إذ لا دليل على ذلك، بل لعل ظاهر الأدلة خلافه، بل صريح بعضهم ثبوت الهلال و غيره به، و حينئذ فالتحقيق ما عرفت.

و لا ينافي ذلك ما في بعض النصوص(3)من حصر الحجة و القضاء


1- 1 سورة التوبة: 9- الآية 61.
2- 2 سورة النساء: 4- الآية 5.
3- 3 الوسائل الباب- 2- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 58

بالبينات، إذ هو من قبيل العام و الخاص بعد فرض قيام الدليل على حجيته، مع احتمال كون المراد أنها حجة مطلقا بخلاف الشياع، فان المعتبر منه قل ما يتفق في غالب الموضوعات خصوصا إذا كان المراد شياع الحكم الذي هو بمعنى التصديق، كأن يقول: زيد ابن عمرو مثلا لا الإطلاق الذي هو ليس من ذلك، و فرق واضح بينهما كما أومى إليه في خبر يونس(1)المزبور.

و من التأمل فيما ذكرنا يظهر ما في كلام الأصحاب من التشويش و الاضطراب و التهجس الناشئ من عدم دليل مخصوص على الحجية، فيعتبر فيه العلم حينئذ، و لكن ينبغي التعدي فيه عن المواضع المخصوصة ضرورة عدم الفرق بينها و بين غيرها بعد جعل المدار العلم، و الله العالم.

و كيف كان ف لو لم يستفض إما لبعد موضع ولايته عن موضع عقد القضاء له فلا يحصل شياع أو لغيره من الأسباب كتعمد الامام (عليه السلام) إخفاءه لمصلحة من المصالح أو نحو ذلك أشهد الإمام (عليه السلام) أو من نصبه الامام على ولايته شاهدين عدلين بصورة ما عهد إليه و سيرهما معه ليشهدا له بالولاية بناء على عدم اعتبار حكم حاكم في حجية البينة أو كان و لو في غير تلك الولاية أو القاضي الأول إذا كان عزله معلقا على ثبوت ولاية الثاني عنده مثلا، بناء

على جواز مثل هذا التعليق في العزل، كما صرح به في القواعد، بل جوز فيها تعليقه على قراءة الكتاب المتضمن له و إن قال في المسالك:

«إنه لا يوافق قواعد الأصحاب، و قد حكموا ببطلان الوكالة المعلقة، و هي أضعف حالا من ولاية القاضي؛ و من ثم قال في الدروس: و في جواز تعليق العزل وجه ضعيف».

و فيه أنه فرق واضح بين الوكالة التي هي عقد من العقود الممتنع


1- 1 الوسائل الباب- 22- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 59

فيها التعليق المنافي لظاهر ما دل على تسبيبها و بين المقام الذي هو من المناصب، نحو قوله: «فلان أميركم إن مات فلان أو عرض فيه عارض» و من هنا جاز فيه ما لم يجز في الوكالة، كالنصب في زمن الغيبة الذي لم يجز نحوه فيها قطعا، بل قد عرفت جوازه في الوصاية التي هي من الولايات، فلاحظ و تأمل، فإنه قد ذكرنا سابقا عدم منافاة تعليق المنشأ للإنشاء الفعلي، و لذا جاز في النذر و الوصية و غيرهما، نعم هو مناف لظاهر مقارنة ترتب المسبب للسبب الشرعي الذي هو كالعقلي بالنسبة إلى ذلك، لظهور الأدلة، أما في المقام فليس في الأدلة ما يقتضي ذلك، فيبقى جوازه على مقتضى الإطلاق، خصوصا بعد عدم إجماع هنا على اعتبار التنجيز، بل العكس مظنته، و الله العالم.

و على كل حال ف لا يجب على أهل الولاية قبول دعواه و إن لم يكن له معارض مع عدم البينة و الشياع و إن شهدت له الأمارات التي لم تجعل في الشرع دليلا على مثل ذلك ما لم يحصل اليقين بها فإنه ليس وراء العلم من شي ء، كما في غير ذلك من الدعاوي، كما هو واضح، و الله العالم.

[المسألة السابعة يجوز نصب قاضيين في البلد الواحد لكل منهما جهة على انفراده]

المسألة السابعة: لا خلاف في أنه يجوز نصب قاضيين في البلد الواحد لكل منهما جهة على انفراده بأن خصص كل واحد منهما بطرف منها، أو عين كل واحد منهما زمانا، أو جعل أحدهما قاضيا في الأموال و الآخر في الدماء و الفروج و نحو ذلك.

و هل يجوز التشريك بينهما في الجهة الواحدة على جهة الاجتماع

ج 40، ص: 60

على الحكم الواحد؟ وجهان أقواهما الجواز وفاقا للفاضل و ولده فيما حكي عنهما، كما في الوصيين و الوكيلين، للأصل و لأنه أضبط و أوثق للحكم، خصوصا بناء على ما هو الحق عندنا من أن المصيب واحد.

نعم قد يمنع التشريك بينهما على إرادة كون القاضي مجموعهما على وجه يكون كل واحد نصف قاض، بل الظاهر امتناع ذلك في جميع الولايات، بل هو كذلك في الوكالة أيضا، لعدم وفاء الأدلة في مشروعية ذلك، فتبقى على أصالة العدم.

و إطلاق التشريك و المعية هنا و في كتاب الوصية في عبارات الأصحاب يراد منها عدم نفوذ تصرف أحدهما بدون رضا الآخر، لا أن المراد التشريك في نفس الوصاية، بل كل منهما وصي إلا أنه لا ينفذ تصرفه إلا بتنفيذ الآخر، و من هنا لو مات أحدهما يبق الآخر وصيا، بل لا يحتاج إلى ضم غيره معه من الحاكم، بناء على كون المراد من التشريك المزبور حال إمكانه.

و إفراد الرسول في موسى و هارون و التشريك في الأمر يراد به إثبات الرسالة لكل منهما بدليل التصريح بنبوة هارون، فلا ريب في كون المراد هنا ما ذكرناه، و حينئذ فلو اختلف حكمهما وقف الحكم و إلا نفذ.

و أولى من ذلك بالجواز التشريك بينهما على جهة الاستقلال كما في نصب الغيبة و إن قيل بالمنع هنا أيضا قياسا على الولاية العظمى و حسما لمادة اختلاف الخصمين في الاختيار.

و لكن قد عرفت أن الوجه الجواز للأصل و لأن القضاء نيابة تتبع اختيار المنوب و القياس- مع بطلانه في نفسه عندنا- ممنوع هنا في المقيس عليه، كما في موسى و هارون، و التنازع يندفع بتقديم من سبق داعيه منهما.

ج 40، ص: 61

و لو جاءا معا حكم بالقرعة، و لو ابتدأ المتنازعان بالذهاب إليهما من غير دعاء قدم من يختاره المدعي.

هذا كله مع التصريح، أما مع الإطلاق- كالمجرد عن التصريح بأحدهما- فالأصح الاستقلال بناء على ظهور الإطلاق في ذلك، و ربما احتمل الفساد ما لم يصرح بأحد الأمرين، لاشتراك الإطلاق بينهما و اختلاف حكمهما، و هو كما ترى، على أن صورة اتفاقهما متيقنة على كل حال.

ثم لا يخفى عليك خلو الثمرة في أمثال هذه المسائل، ضرورة أن الامام (عليه السلام) أعلم بما يفعله مع تمكنه، كما هو واضح، و الله العالم.

[المسألة الثامنة إذا حدث ما يمنع الانعقاد انعزل]

المسألة الثامنة إذا حدث في القاضي ما يمنع أصل الانعقاد في الابتداء انعزل به و إن لم يشهد الامام (عليه السلام) بعزله بل و إن لم يعلم بذلك كالجنون و الفسق و الإغماء و العمى و الخرس و عدم الاجتهاد أو الضبط لغلبة الغفلة و النسيان و نحو ذلك مما عرفت اعتباره في أصل القضاء بناء على القول به، لظهور دليل شرطيتها في الابتداء و الاستدامة فلا وجه للاستصحاب.

و حينئذ ف لو حكم لم ينفذ حكمه بل لا تعود بزوال هذه العوارض، للأصل، و ربما فرق بين ما يزول سريعا كالإغماء و بين غيره كالجنون، فتعود في الأول دون الثاني، لأن الإغماء كالسهو الذي يزول سريعا، و لا ينفك منه غالبا، لكنه كما ترى، ضرورة وضوح الفرق بين السهو و النوم و بين الإغماء المزيل العقل دونهما.

و هل يجوز أن يعزل اقتراحا؟ الأقوى ذلك، إذ هو

ج 40، ص: 62

كالوكيل و الوصي، لأن ذلك حق للإمام (عليه السلام) فله أخذه و إعطاؤه لغيره.

و لكن الوجه عند المصنف تبعا لبعض أنه لا يجوز لأن ولايته استقرت شرعا، فلا تزول تشهيا و هو كما ترى مصادرة محضة، و لأن عزله حينئذ بمنزلة العبث، و فيه عرضة للقدح في من ليس بمقدوح فيه، و هو مجرد استحسان.

أما لو رأى الامام (عليه السلام) أو النائب عزله لوجه من وجوه المصالح أو لوجود من هو أتم منه نظرا، فإنه جائز قطعا مراعاة للمصلحة.

و لكن لا يخفى عليك أن هذا البحث أيضا قليل الجدوى، كما أومأنا إليه سابقا، ضرورة أن الامام (عليه السلام) لا يفعل إلا ما يوافق المصلحة و يناسب المشروع، و يجب طاعته في كل شي ء، و فعله حجة كذلك، و هو معصوم من الخلل مؤيد مسدد، و إنما بحث في هذه الفروع من يجوز امامة من يتفق منه خلاف المشروع، و حينئذ فمع حضوره (عليه السلام) هو أعلم بما يقع منه.

و كذا البحث في أنه هل ينعزل بمجرد عزله أو بعد بلوغ الخبر كالوكيل؟ و إن قال في المسالك: «فيه قولان، أظهرهما الثاني، لعظم الضرر في رد قضيته بعد العزل و قبل بلوغ الخبر، فيكون الحكم فيه أولى من الوكيل» و كان مرجعه إلى استصحاب بقاء نفوذ حكمه، لكن قد يناقش بمعلومية استناد ذلك إلى الاذن المعلوم انقطاعه، و من هنا لم يكن إشكال عندهم بالانعزال بغير ذلك من الموت و نحوه قبل البلوغ.

و كذا لا فائدة فيما ذكروه هنا أيضا من أن ذلك إذا عزله لفظا أو كتب إليه اني عزلتك أو أنت معزول، أما إذا كتب إليه «إذا أتاك

ج 40، ص: 63

كتابي فأنت معزول» لم ينعزل قبل أن يأتيه الكتاب بحال، و إذا كتب إليه «إذا قرأت كتابي هذا فأنت معزول» لم يعزل قبل القراءة، ثم إن قرأه بنفسه فذاك و إن قرئ عليه فوجهان: أحدهما لا ينعزل نظرا إلى صورة اللفظ، و الثاني الانعزال نظرا إلى المعنى عرفا، لأن غرض الإمام إعلامه صورة الحال لا قراءته بنفسه، و لو كان أميا فقرئ عليه فالحكم بالانعزال أظهر مع احتمال العدم، نظرا إلى مدلول اللفظ، و مثله في اختلاف ظاهر اللفظ و المعنى إطلاق الكتاب على مجموعه أو على الغاية المقصودة منه.

و تظهر الفائدة فيما لو ذهب بعض الكتابة بحيث تعذرت قراءته، فإنه لا تصدق قراءة الكتاب إن جعلنا المفرد المضاف مفيدا للعموم، كما هو رأي المحققين من الأصوليين، و كذا القول في بلوغه، هذا بحسب اللفظ.

و أما بالنظر إلى المعنى فالمقصود بلوغ ما يفيد الخبر أو قراءة ما يحصل به الغرض و إن لم يتم القراءة مع إمكانها فضلا عن تعذرها، فتعتبر قراءة الفصول المقصودة التي يحصل بها إعادة المطلوب و إن بقي غيرها كالبسملة و الحمد لله و نظائرهما، إلى غير ذلك مما أطنب فيه العامة في كتبهم من الخرافات الفاسدة و الاحتمالات الباردة المبتنية على اعتبارات و استحسانات و نحوهما المقصود فيها صيرورة الكتاب ضخما لينال به الجائزة من سلطان زمانه نسأل الله تعالى أن يعيذنا من هذه النيات السيئة، و أن يعصمنا من الخيالات الشيطانية التي يوحيها بعض إلى بعض من زخرف القول و غروره، فإنه ولي الصواب و إليه المرجع و المآب.

ج 40، ص: 64

[المسألة التاسعة إذا مات الإمام عليه السلام ينعزل القضاة أجمع]

المسألة التاسعة إذا مات الامام (عليه السلام) قال الشيخ: الذي يقتضيه مذهبنا انعزال القضاة أجمع لأنهم نوابه و ولايتهم فرع ولايته، فإذا زال الأصل زال الفرع، فإن أمر كل عصر إلى إمام ذلك العصر.

و قال في المبسوط: لا ينعزلون، لأن ولايتهم ثبتت شرعا بتوليته فلا تزول بموته للأصل المؤيد بما في الانعزال من الضرر العام اللاحق للخلق بخلو البلدان من الحكام إلى أن يجدد الامام اللاحق نوابا فتعطل المصالح.

بل في المسالك «قد يقدح هذا في ولاية الفقيه حال الغيبة بأن الامام الذي قد جعله قاضيا و حاكما قد مات فيجري في حكمه الخلاف المذكور- ثم قال-: إلا أن الأصحاب مطبقون على استمرار تلك التولية، فإنها ليست كالتولية الخاصة، بل حكم بمضمونه فان إعلامه بكونه من أهل الولاية على ذلك كإعلامه بكون العدل مقبول الشهادة، و كذا اليد مقبول الخبر، و غير ذلك، و فيه بحث».

قلت: وجه البحث ظهور الأدلة في كونه إنشاء نصب منه، بل هو كاد يكون صريح

قوله (عليه السلام)(1): «فاني جعلته قاضيا و حاكما»

لا أنه مجرد إعلام، و كيف يكون إعلاما و قد عرفت الاحتياج إلى إنشاء النصب و الاذن.

نعم قد يقال في دفعه- مضافا إلى ما سمعته من النص(2)على


1- 1 راجع التعليقة 5 من ص 9.
2- 2 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 9.

ج 40، ص: 65

نصبه من صاحب الزمان روحي له الفداء-: إن إمام العدل له النصب في الأزمنة المتأخرة عن زمان موته، فان الزمان بأجمعه لجميعهم و معصومون عن الخطأ، و لا ينطقون عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي، و هذا الفرع إنما ذكره العامة على أصولهم في أئمتهم المنصوبين من قبلهم لا من ربهم بخلاف أئمتنا (عليهم السلام) الذين هم أولياؤنا أحياء و أمواتا، و إنما ينعزل نوابهم بالموت حيث تكون التولية منهم مقيدة بذلك و لو بظاهر الحال، لا لانقطاع ولايتهم بالموت، فإذا كانت من أحدهم على الاستدامة صريحا أو ظاهرا فلا إشكال في عدم الانعزال، و منه نصب الصادق (عليه السلام) لكل من عرف حلالهم و حرامهم(1)الظاهر بل الصريح في ذلك، فيمضي حينئذ حكمه و لو بعد موته في زمن الامام الآخر المعبر في الحقيقة عن الأول، فإن حكمهم واحد و أمرهم واحد، كما هو معلوم من أصول الشيعة، بل هو من ضروريات مذهبهم.

و بذلك ظهر لك أن الأول أشبه لكن على الطريق الذي ذكرناه، لا لانقطاع ولايتهم بالموت، و لو فرض عدم ظهور في تقيد الولاية بزمن حياتهم كان المتجه بقاؤها حتى يأتي العزل من الامام المتأخر الذي هو في الحقيقة عزل من الامام الذي قبله تمسكا بإطلاق مقتضيها مع فرضه، أما إذا لم يكن بل ليس إلا صيرورته قاضيا في زمن الحياة فالمتجه الحكم بانقطاعها، لأن ذلك لا يكفي في ثبوت الاذن في الزائد عليه، إذ الاستصحاب هنا لا وقع له بعد التنويع المزبور، و من ذلك يعلم ما في الأصل المزبور، كما هو واضح.

و لو مات القاضي الأصلي الذي نصبه إمام العدل انعزل كل نائب له في شغل معين، كبيع على ميت أو غائب أو سماع بينة في حادثة


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 6.

ج 40، ص: 66

معينة بغير خلاف، كما في المسالك قال: «و في التصرف في شغل عام كقوام الوقوف و الأيتام وجهان ناشئان من الوجهين اللذين في نواب الامام من حيث التبعية و ترتب الضرر بزوال ولايتهم إلى أن يتجدد الولاية».

و فيه أنه مع فرض كونهم وكلاء عنه لا إشكال في انفساخها بموته، من غير فرق بين كون متعلقها عاما أو خاصا، لأن الفرض زوال ولاية الأصل بموته، بل الظاهر ذلك مع فرض كونهم أولياء، لأن ولايتهم فرع ولايته، لكن عن الإيضاح

نفي الخلاف عن عدم انعزالهم، فان تم إجماعا فذاك، و إلا كان المتجه ما ذكرنا، نعم لو كان النصب وكيلا أولياء عن الامام و كان ذلك جائزا له لم ينعزل قطعا، و الله العالم.

و أما الخليفة عنه في القضاء فقيل لم ينعزل أي النائب عنه فيه لأن الاستنابة فيه مشروطة بإذن الإمام (عليه السلام) فالنائب عنه كالنائب عن الامام، فلا ينعزل بموت الواسطة كما لا ينعزل وكيل الوكيل إذا أذن له في توكيله عن الموكل.

و قيل: ينعزل و إليه أشار المصنف بقوله و القول بانعزاله أشبه بأصول المذهب و قواعده، لأنه فرعه، و كالوكيل عنه ينعزل بموته و ليس هو نائبا عن الامام و إن توقف استخلافه عنه عليه.

و ربما أشكل القولان معا على إطلاقهما، أما الأول فلأن النيابة قد تكون مستندة إلى قرائن الأحوال كاتساع الولاية، و النائب فيها ليس نائبا عن الامام بل عن القاضي، و لم يحصل من الامام ما يقتضي الإذن لفظا حتى يقال: إن الاستنابة مشروطة بإذن الامام، و لو سلم أن التولية على هذا الوجه إذن في المعنى لم يدل على كونه إذنا في استنابته عن الامام بوجه من الدلالات.

و أما الثاني فلأن من جملة الأقسام أن يكون الامام قد أذن له صريحا

ج 40، ص: 67

في الاستنابة إما مطلقا أو عن الامام، فلا يتم الحكم مطلقا بكون النائب تابعا للمستنيب.

فيتجه على هذا وجه ثالث قد جزم به الرافعي في الروضة من بعض كتب الشافعية و هو «أن القاضي إن لم يكن مأذونا في الاستخلاف بل استخلف بناء على جوازه مطلقا أو مع شهادة القرائن انعزل خليفته بموته، لأن الاستخلاف في هذه الحالة إما أن يكون جوازه مشروطا بالحاجة فكان النائب كالمعين في العمل، فإذا زالت ولايته بطلت المعاونة، لعدم الحاجة إليها، و إما لأن الخليفة كالوكيل حيث جوزناها مطلقا، فتبطل بموت الموكل لأنه كالمعين أيضا، و إن لم يكن لحاجة و كان مأذونا في الاستخلاف نظر، فان قال: استخلف عني فاستخلف لم ينعزل خليفته، لأنه مأذون من جهة الإمام، فكأنه حينئذ سفير في التولية و إن قال: استخلف عن نفسك أو أطلق انعزل، لظهور غرض المعاونة و بطلانها ببطلان ولايته».

و فيها أيضا «لو نصب الإمام نائبا عن القاضي فعن السرخسي لا ينعزل بموت القاضي و لا انعزاله للاذن له من جهة الامام».

و مال إليه في المسالك قال: «إلا أن يكون الاذن مقيدا بالنيابة عن القاضي فيتبعه كالأول» و هو جيد. لكن قد يناقش بالتفصيل بين ما يستفاد منه الإذن، فإن دعوى انحصار إفادة القرائن في الاستخلاف عنه لا عن الأصل ممنوعة، ضرورة أعميتها من ذلك، كما هو واضح.

ج 40، ص: 68

[المسألة العاشرة إذا اقتضت المصلحة تولية القضاء مثلا من لم يستكمل الشرائط]

المسألة العاشرة:

إذا اقتضت المصلحة تولية القضاء مثلا من لم يستكمل الشرائط بأن كان قاصرا في العلم و العدالة انعقدت ولايته في أحد الوجهين أو القولين مراعاة للمصلحة في نظر الامام (عليه السلام) كما اتفق لبعض القضاة في زمن علي (عليه السلام) و هو شريح المعلوم انتفاء بعض الشرائط فيه.

و ربما منع من ذلك بل هو أحد الوجهين أو القولين أيضا، بل لعله أقواهما كما هو خيرة الفاضل في المحكي من تحريره، للأصل بل الأصول، و لإطلاق دليل الشرطية، بل صريح النص و الفتوى عدم كونه مشروعا للتقية على وجه تجري عليها أحكام القضاء الصحيح، كما في الصلاة و الوضوء و الغسل فضلا عن غيرها، و من هنا استفاضت النصوص(1)في النهي عن المرافعة إلى قضاتهم، و أنها من المرافعة إلى الجبت و الطاغوت مع استفاضتها(2)في الحث على الصلاة معهم، و أنها كالصلاة مع رسول الله (صلى الله عليه و آله).

بل ظاهر النص(3)و الفتوى بل صريح بعضهما عدم صحة قضاء قضاة أئمة الجور و إن حكموا بالحق، و حينئذ فلا مصلحة تقتضي تغيير الحكم فيه، كما يومئ إليه إصراره (عليه السلام) في عدم تولية معاوية

حتى قال(4): «قد يرى الحول القلب وجه الحيلة، و لكن دونها


1- 1 الوسائل الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 4.
2- 2 الوسائل الباب- 5- من أبواب صلاة الجماعة- من كتاب الصلاة.
3- 3 الوسائل الباب- 1- من أبواب صفات القاضي- الحديث 4.
4- 4 نهج البلاغة- الخطبة 41 ص 118 ط إيران و فيه « قد يرى الحول القلب وجه الحيلة و دونه مانع من أمر الله و نهيه.».

ج 40، ص: 69

حاجز من تقوى الله تعالى».

و ما وقع منه من إقرار شريح لا دلالة فيه فإنه ليس باختياره أولا، و لا دليل على إجرائه عليه حكم القضاء الصحيح ثانيا و لم يكن يفوض إليه و لا إلى غيره من من يستقضيه و لا يرتضيه، بل يشاركه فيما ينفذه ثالثا،

قال (عليه السلام) لشريح في خبر سلمة(1): «و إياك أن تنفذ قضية في قصاص أو حد من حدود الله أو حق من حقوق المسلمين حتى تعرض ذلك علي إنشاء الله»

فيكون هو الحاكم في الواقعة لا المنصوب

قال الصادق (عليه السلام) في حسن هشام(2): «لما ولى أمير المؤمنين (عليه السلام) شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه».

و ما في المسالك- من المناقشة فيه بأن المروي من حال شريح معه خلاف ذلك، و في حديث الدرع الغلول(3)ما يرشد إلى ما ذكرناه- لا يخفى عليك ما فيه، بل حديث الدرع الغلول مرشد إلى عكس ما ذكره، حيث نبهه به على خطائه في قضائه به من وجوه،

قال النخعي(4): «دخل الحكم بن عتيبة و سلمة بن كهيل على أبي جعفر (عليه السلام) فسألاه عن شاهد و يمين، فقال: قضى به رسول الله (صلى الله عليه و آله) و قضى به علي (عليه السلام) عندكم بالكوفة، فقالا: هذا خلاف القرآن، قال: و أين وجدتموه خلاف القرآن؟ فقالا: إن الله عز و جل يقول:

«وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ»(5)فقال لهما أبو جعفر (عليه السلام): فقوله:


1- 1 الوسائل الباب- 1- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 3- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 6.
4- 4 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 6.
5- 5 سورة الطلاق: 65 الآية 2.

ج 40، ص: 70

«وَ أَشْهِدُوا» هو أن لا تقبلوا شهادة واحد و يمينا؟ ثم قال: إن عليا (عليه السلام) كان قاعدا في مسجد الكوفة، فمر به عبد الله بن قفل التميمي و معه درع طلحة، فقال له علي (عليه السلام): هذا درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال له عبد الله: فاجعل بيني و بينك قاضيا الذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه و بينه شريحا، فقال علي (عليه السلام): هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال له شريح:

هات على ما تقول بينة، فأتاه بالحسن (عليه السلام) فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال: هذا شاهد، و لا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر، قال: فدعا قنبرا فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال شريح: هذا مملوك، و لا أقضي بشهادة مملوك، قال: فغضب علي (عليه السلام) و قال: خذوها فان هذا قضى بجور ثلاث مرات قال: فتحول شريح عن مجلسه، ثم قال:

لا أقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرات؟ فقال:

ويلك أو ويحك إني لما أخبرتك أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، قلت: هات على ما تقول بينة، و قد قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): حيث ما وجد غلول أخذ بغير بينة، فقلت: رجل لم يسمع الحديث، فهذه واحدة، ثم أتيتك بالحسن فشهد، فقلت: هذا شاهد و لا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر، و قد قضى رسول الله (صلى الله عليه و آله) بشهادة واحد و يمين، فهذه ثنتان، ثم أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقلت: هذا مملوك و لا أقضي بشهادة مملوك، و لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا، ثم قال: ويلك أو ويحك إمام المسلمين يؤتمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا» و رواه في الفقيه بزيادة «و قال أبو جعفر (عليه السلام):

ج 40، ص: 71

فأول من رد شهادة المملوك رمع».

و بالجملة يمكن القطع من مذهبنا بعدم انعقاد القضاء لفاقد الشرائط كالعلم و نحوه على وجه يلحقه حكم القضاء الصحيح و إن حكم بغير ما أنزل الله تعالى، خصوصا بعد ما سمعته سابقا من تقسيم القضاة، و أن واحدا في الجنة و الباقي في النار، و إطلاق اسم القاضي عليه لا يقتضي صحة قضائه لا ظاهرا و لا واقعا، كما هو واضح.

نعم قد يقال: إن الذي يقتضيه الانصاف و التدبر في ما ورد في شريح أنه يجوز نصب غير مستكمل الشرائط على إنفاذ القضاء بالحق بعد العلم به بخصوصه، و الله العالم.

[المسألة الحادية عشر كل من لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه]

المسألة الحادية عشر:

كل من لا تقبل شهادته له أو عليه لا ينفذ حكمه كذلك كالولد على الوالد و العبد على مولاه و الخصم على خصمه، و يجوز حكم الأب على ولده و له، و الأخ على أخيه لأنه شهادة و زيادة، فيشترط في نفوذه ما يشترط في نفوذ الشهادة في الطرفين أو أحدهما، و حينئذ لا يقبل حكم الخصم على خصمه و يقبل له مع عدم منافاة الخصومة للعدالة، هكذا ذكره المصنف و ثاني الشهيدين و غيرهما ذكر المسلمات، فان تم إجماعا كان هو الحجة، و إلا كان للنظر فيه مجال، ضرورة إمكان منع كون الحكم شهادة على وجه يلحقه حكمها المعلق عليها من حيث كونها شهادة، بل دعوى التزام ذلك في حاكم الغيبة فلا ينفذ حكمه على من كانت بينه و بينه خصومة لم يخرج بها عن العدالة في غير تلك الخصومة من المنكرات، خصوصا بعد

قوله (عليه السلام): «جعلته حاكما

ج 40، ص: 72

عليكم»(1)

و «هو حجتي عليكم»(2)

و «الراد عليه كالراد علينا»(3)

و نحو ذلك، و لعله لذا حكي عن بعضهم اختصاص المنع بقاضي التحكيم.

و في محكي التحرير «و لو تولى وصي اليتيم القضاء فهل يقضي له؟

فيه نظر ينشأ من كونه خصما في حقه، كما في حق نفسه، و من أن كل قاض فهو ولي الأيتام».

قلت: لا إشكال في عدم منع مثل ذلك- مع عدم الوصاية- الحكومة، لعدم اختصاص الولاية له، و كذا شهادة الفقير أو حكومته بأن في مال زيد الزكاة مثلا، بل و كذا الكلام في مصرف الوقف من العلماء و العدول و نحوهم، فان ذلك و نحوه لا يمنع الحكومة و لا الشهادة، لعموم أدلة القبول، أما الولاية المخصوصة كالأب و الجد و الوصي فالظاهر عدم قبول شهادتهم للمولى عليه لأنها تجر نفعا إليهم، أما إذا كان الأب حاكما مثلا أو الوصي كذلك ففي قبول حكمه له نظر، أقواه العدم،

[النظر الثاني في الآداب]

اشاره

النظر الثاني في الآداب و هي قسمان: مستحبة و مكروهة إلا أن كثيرا منها لا دليل عليها بالخصوص، و لكن ذكرها الأصحاب و غيرهم من غير إشعار بتوقف في شي ء منها، و لعله لعدم احتياج الاستحباب الأدبي إلى دليل


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 9.
3- 3 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.

ج 40، ص: 73

بالخصوص، و يكفي فيه مشروعية أصل الأدب، فالتسامح فيه زائد على التسامح في السنن.

و كيف كان فهي كثيرة خصوصا في كتب العامة حتى أفردت بالتصنيف، و قد ذكر المصنف المهم منها

[أما المستحب]

ف قال المستحب أن يطلب قبل دخوله أو حينه من أهل ولايته من يسأله عما يحتاج إليه في أمور بلده و عن العلماء فيها و العدول و من هو مستحق للتعظيم و غير ذلك مما ينبغي الاطلاع عليه لمثله.

و أن يسكن عند وصوله في وسط البلد ليرد الخصوم عليه ورودا متساويا ليكون ذلك أقرب إلى التسوية بينهم التي قد عرفت حالها في الكلام و الإنصات و المجلس و غيرها.

و أن ينادي بقدومه إن كان البلد واسعا لا ينتشر خبره فيه إلا بالنداء أن فلانا قد قدم قاضيا فمن أحب سماع قراءة عهده فليحضر ساعة كذا من يوم كذا، فإذا حضروا قرأ عليهم العهد، و إن كان معه شهود شهدوا.

و قيل: يستحب أن يكون دخوله يوم الاثنين تأسيا بالنبي (صلى الله عليه و آله) في دخوله المدينة، و هو كما ترى. نعم في كشف اللثام «ينبغي له أن يقصد الجامع إذا قدم، و يصلي ركعتين، و يسأل الله العصمة و الإعانة».

و أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة و هي الصحراء بين أفنية القوم و المسجد أو فضاء ليسهل الوصول إليه و لئلا تهابه الناس أو بعضهم لو جلس في بيت مثلا.

و أن يبدأ بأخذ ما في يد الحاكم المعزول من ديوان الحكم المشتمل على المحاضر و السجلات و حجج الناس و ودائعهم و وثائق الأيتام و الأوقاف و نحو ذلك، لأنها كانت في يده بالولاية التي انتقلت منه

ج 40، ص: 74

إليه، فيتوصل بذلك إلى معرفة تفاصيل أحوال الناس و معرفة حقوقهم و حوائجهم.

و لو اتفق أنه حكم في المسجد صلى عند دخوله فيه ركعتين تحية المسجد كما يستحب ذلك لكل داخل إليه ثم يجلس مستدبر القبلة كما عن الأكثر ليكون وجه الخصوم إذا وقفوا بين يديه إليها ليكون ذلك أردع لها عن كلام الباطل و خصوصا وقت الاستحلاف.

و قيل و القائل الشيخ في محكي مبسوطة و ابن البراج على ما حكى عنه يستقبل القبلة، ل

قوله (عليه السلام)(1): خير المجالس ما استقبل به القبلة

و هو أحق من غيره و لكن الأول أظهر لما عرفت.

ثم (11) إذا تفرغ القاضي من مهماته و أراد القضاء استحب له أن يسأل (12) أولا عن أهل السجون (13) لأنهم في عذاب و يثبت أسماءهم (14) و ما حبسوا به و من حبسوا له و ينادي في البلد بذلك (15) و يقول: إن القاضي ينظر في أمر المحبوسين و يجعل له وقتا (16) معينا يوم كذا فمن له محبوس فليحضر فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد و يسأله عن موجب حبسه و يعرضه على خصمه فان ثبت لحبسه موجب أعاده و إلا أشاع حاله بحيث إن لم يظهر له خصم أطلقه.

(17) و جواب المحبوس يفرض على وجوه: (منها) أن يعترف بالحبس بالحق، فان كان ما حبس به مالا أمر بأدائه، فإن قال: أنا معسر فعلى ما عرفته في الفلس فان لم يؤد و لم يثبت إعساره رد إلى الحبس، و إن أدى أو ثبت إعساره نودي عليه فلعل له خصما آخر، فان لم يظهر


1- 1 الوسائل الباب- 76- من أبواب أحكام العشرة- الحديث 3 من كتاب الحج.

ج 40، ص: 75

خلى سبيله، و إن كان ما حبس عليه حدا أقيم عليه و خلى.

و (منها) أن يقول: «شهدت علي البينة فحبسني القاضي» يبحث(1)عن حال الشهود، فان كان مذهبه أنه يحبس بذلك تركه أيضا محبوسا و بحث و إلا أطلقه.

و (منها) أن يقول: «حبست ظلما» ففي المسالك «إن كان الخصم معه فعلى الخصم الحجة، و القول قول المحبوس بيمينه» و فيه أنه يمكن العكس عملا بأصالة الصحة في فعل القاضي، و إن كان للمحبوس خصم غائب ففي إطلاقه و إبقائه في الحبس وجوه: الإطلاق، لأنه عذاب و انتظار الغائب قد يطول، و الإبقاء مع الكتابة إلى خصمه، فان لم يحضر أطلق، و الإطلاق مع المراقبة إلى أن يحضر خصمه و يكتب إليه أن يعجل، فإن تأخر لا لعذر تركت المراقبة، و عن الشهيد التخيير بينها و بين الكفيل، و هو جيد، إذ المدار على الجميع بين الحقين.

و كذا لو أحضر محبوسا و قال: لا خصم لي، فإنه ينادي في البلد فان لم يظهر له خصم أو مطلع على حاله أطلقه للأصل و غيره.

و قيل و القائل الشيخ فيما حكي عنه يحلفه مع ذلك و استحسنه بعضهم، و فيه أنه لا وجه مع عدم خصم له، و الأصل البراءة، و لذا نسبه المصنف إلى القيل مشعرا بتمريضه.

ثم إذا فرغ من ذلك يسأل عن الأوصياء عن الأيتام الذين لا قابلية لهم إلى المرافعة و أولياء الجهات العامة و يعمل معهم ما يجب من تضمين أو إنفاذ أو إسقاط ولاية إما لبلوغ اليتيم أو لظهور خيانة أو ضم مشارك إن ظهر من الوصي عجز و غير ذلك من الأحكام الشرعية.

و في المسالك «فإذا حضر من يزعم أنه وصى تفحص القاضي عن


1- 1 هكذا في النسخة الأصلية، و الأولى هكذا «فيبحث».

ج 40، ص: 76

شيئين: أحدهما أصل الوصاية، فإن أقام بينة بها قرره عليها إلى أن يحصل ما يزيلها من فسق فينزع المال من يده، فان كان المال كثيرا لا يمكنه القيام بحفظه و التصرف فيه ضم إليه من يعينه، و الثاني تصرفه في المال، فان قال: فرقت ما أوصى به نظر إن كانت الوصية لمعينين لم يتعرض لأن الدعوى لهم إن لم يصل، و إن كانت بجهة عامة فان كان عدلا أمضى تصرفه و لم يضمنه، و إن كان فاسقا ضمنه لتعديه بالتفريق لا عن ولاية».

و كأن الأول مبني على أصالة ولاية الحاكم حتى يثبت الوصاية لا أنها تثبت إن لم يكن هناك وصي، فيكفي في عدم ثبوتها دعوى مدعيها بلا معارض، و لا تطلب منه البينة على ذلك كما زعمه بعض متفقهة العصر، كما أن التضمين في الثاني مبني على عدم جواز وصاية الفاسق على ذلك.

و لو أن غير الوصي فرق الموصى به ففي المسالك «نظر إن كانت الوصية لمعينين وقع الموقع، لأن لهم أن يأخذوه من دون واسطة، و إلا ضمن» و فيه أنه كذلك إذا كان معينا، أما إذا كان كليا فلا، فيتجه الضمان حينئذ و إن كان لمعينين.

و كذا يضمن من تصرف ممن ليس له الولاية حتى في وقف المسجد و المسجد و نحوهما و إن صرفه في مصلحة إلا مع إجازة الولي في وجه، بل في القواعد احتمال عدم الضمان حتى في تفرقة غير الوصي إذا كان في محله، إلا أنه كما ترى، و لو ظهر منه خيانة فأولى بالضمان كما هو واضح، و الله العالم.

ثم إذا فرغ من ذلك ينظر في أمناء الحاكم الأول الحافظين لأموال الأيتام و نحوهم الذين يليهم الحاكم و لأموال الناس من وديعة و مال غائب و محجور عليه، فيعزل الخائن و يسعد

ج 40، ص: 77

الضعيف بمشارك، أو يستبدل به بحسب ما يقتضيه رأيه بخلاف الوصي، فان الموصى قد نصبه و رضي بنظره الذي لم يعدم، و إنما قصر عن الاستقلال فيتعين جبره بالمعين، و ليس له عزله اقتراحا، أما الأمين من طرف الحاكم فله عزله كذلك ففي العجز بطريق أولى.

ثم إذا فرغ من ذلك ينظر في الضوال و اللقط فيبيع ما يخشى تلفه و ما يستوعب نفقته ثمنه، و يتسلم ما عرفه الملتقط حولا إن كان شي ء من ذلك في يد أمناء الحاكم لعدم قبول الملتقط تملكه و لا ائتمانه، و في المسالك هو حينئذ مخير بين أن يحفظها معزولة عن أمثالها في بيت المال و بين أن يخلطها، فإذا ظهر المالك غرم له من بيت المال، و هو موقوف على دليله إن كان.

و يستبقي من الضوال و اللقط ما عدا ذلك مثل الأثمان و الجواهر محفوظة على أربابها لتدفع إليهم عند الحضور على الوجه المحرر في كتاب اللقطة(1)من أحكام ذلك و شرائطه، كالتعريف حولا و نحوه، و يقدم من كل نوع من ذلك الأهم فالأهم، و إن عرضت حادثة استخلف من ينظر فيها أو فيما هو فيه و لا يؤخرها، لأن الحبس عقوبة و حاجات الأطفال و الغياب ناجزة.

و يستحب له أيضا حال القضاء أن يكون في أجل هيئة و سكينة و وقار و نحو ذلك مما يناسب ذلك.

و أن يحضر من أهل العلم بالأحكام الشرعية من يشهد حكمه فإن أخطأ نبهوه، لأن الإنسان محل الخطأ و النسيان، و لا يعتبر فيهم الاجتهاد، لأنه ليس المراد تقليدهم، إذ قد عرفت اعتبار الاجتهاد في القاضي عندهم، بل المراد الطمأنينة بصحة


1- 1 راجع ج 38 ص 301- 302.

ج 40، ص: 78

ما قضى به، و قد تحصل بمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد إذا كان من أهل النظر و الذكاء، و لا فرق في ذلك بيننا و بين غيرنا في هذا الحكم، و لذا حكي عنهم ذكره أيضا في آداب القضاء و إن كان المصيب عندنا واحد دونهم، فان المصيب عندهم الجميع، إلا أن ذلك لا مدخلية له في هذا الحكم، ضرورة أن الإصابة عندهم مع موافقة الاجتهاد للدليل المناسب للحكم، و المفروض هنا الغفلة عنه، و أنه إذا نبه عليه تنبه و علم أن الدليل الذي اعتمده أولا غير صحيح بحسب ما يراه.

و بالجملة يراد حضورهم للتنبيه على فساد الاجتهاد إن كان، و هذا أمر يشترك فيه الجميع، فإن إصابة الواحد إنما هي في نفس الأمر لا في الظاهر، و من الجائز أن لا يكون الحكم الذي ينبه عليه و وجب اتباعه هو الصواب في نفس الأمر، إلا أن الواجب في الظاهر اتباع الراجح بعد استفراغ الوسع في تحصيل دليله سواء طابق الواقع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى شأنه أو لا.

و إلى ما ذكرنا يرجع ما عن ابن الجنيد من أنه لا بأس أن يشاور الحاكم غيره فيما اشتبه عليه من الأحكام، فان أخبره بنص أو سنة أو إجماع خفي عليه عمل به، ضرورة معلومية اعتبار الاجتهاد عندهم و أنه لا يكفي التقليد. فليس المراد حينئذ إلا أنه يخاوضهم فيما يشتبه من المسائل النظرية لتقع الفتوى مقررة و محققة، ليأمن بذلك عن الخطأ في حكم الله تعالى شأنه.

و يمكن أن يريد المصنف استحباب حضورهم حتى مع العلم بصحة الاجتهاد، لاحتمال خطأ الحكم الواقعي فيه، فيمكن أن يحصل من أحد منهم ما يرشد إلى ذلك و إن لم يتبين به فساد الاجتهاد، و من أن ذلك لا يتم إلا على أصولنا من أن المصيب واحد لا على أصولهم القائلين

ج 40، ص: 79

صواب كل مجتهد اجتهادا صحيحا.

و كيف كان ف لو أخطأ فأتلف بأن حكم لأحد بمال أو على أحد بقصاص أو نحو ذلك ثم ظهر أن الخطأ في الحكم و لم يكن مقصرا في الاجتهاد لم يضمن لأنه محسن و كان على بيت المال بلا خلاف أجده فيه نصا و فتوى،

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر الأصبغ(1): «ما أخطأه القضاة في دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين».

و إذا تعدى أحد الغريمين مثلا في مجلس القضاء على وجه محرم بأن كذب الشاهد أو نسب إلى القاضي الميل و الجور و نحو ذلك نهاه عن المنكر و عرفه خطاءه برفق، فان عاد زجره، فإن عاد أدبه بحسب حاله مقتصرا على ما يوجب لزوم النمط و الطريق الشرعي، إذ هو حينئذ كغيره من المنكر الذي يجب الردع عنه بمراتبه المقررة.

نعم لو كان ذلك معه استحب له العفو.

و إن أساء الأدب مع الخصم أو القاضي أو غيرهما أو استعمل اللدد أي طلب اليمين من الخصم ثم قطعها عليه و قال: لي بينة سأحضرها ثم يعود إلى الأول و هكذا إيذاء و تعنتا عرفه أيضا طريق الأدب اللائق بمثل ذلك المقام برفق، و بين له فساد ما ارتكبه، بل في المسالك «فان بخع و إلا أغلظ له، فإن أفاد و إلا جاز تأديبه بما يقتضيه اجتهاده من التوبيخ و إغلاظ القول و نحو ذلك» و الله العالم.

[أما المكروه]

و أما الآداب المكروهة فهي أن يتخذ حاجبا وقت القضاء و نحوه من الولايات

للنبوي(2)«من ولي شيئا من


1- 1 الوسائل الباب- 10- من أبواب آداب القاضي- الحديث- 1.
2- 2 سنن البيهقي- ج 10 ص 101.

ج 40، ص: 80

الناس فاحتجب دون حاجتهم احتجب الله تعالى دون حاجته وفاقته و فقره»

بل ربما قيل بالحرمة، بل عن الفخر أنه قربه مع اتخاذه على الدوام، بحيث يمنع أرباب الحوائج و يضر بهم، بل في المسالك «هو حسن لما فيه من تعطيل الحق الواجب قضاؤه على الفور» و إن كان الجميع كما ترى، ضرورة كون المراد كراهة اتخاذه من حيث كونه حاجبا، فلا ينافي الحرمة من جهة أخرى، و الأمر سهل.

و أن يجعل المسجد مجلسا للقضاء دائما لأنه إنما بني لذكر الله و الصلاة، و ل

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «جنبوا المساجد صبيانكم و مجانينكم و خصوماتكم و رفع أصواتكم»

و الحكومة تستلزم غالبا ذلك، بل قد تحتاج إلى إحضار الصبيان و المجانين، بل قد تستلزم إدخال الحيض و المشركين و من لا يتوقى النجاسة.

و لكن لما كان من المعلوم اتفاق وقوعه من النبي (صلى الله عليه و آله)(2)و أمير المؤمنين (عليه السلام)(3)بل دكة القضاء إلى الآن معروفة قال المصنف لا يكره لو اتفق نادرا فيكون المكروه منه حينئذ الدائم لا مطلقا، بل ربما وجب في بعض الأحيان، كما لو اتفقت فيه و كان تأخيرها منافيا للفورية أو لغيرها مما يحرم، و وافقه عليه الفاضل.

و قيل و القائل الشيخ في ظاهر المحكي من خلافه و مبسوطة:

لا يكره مطلقا التفاتا إلى ما عرف من قضاء علي (عليه السلام)


1- 1 سنن البيهقي ج 10 ص 103.
2- 2 سنن البيهقي ج 7 ص 398.
3- 3 المستدرك الباب 17 من أبواب كيفية الحكم الحديث 5 و 7.

ج 40، ص: 81

بجامع الكوفة(1)بل عن ظاهر المقنعة و النهاية و المراسم و السرائر، الاستحباب، لأن القضاء من أفضل الطاعات، و المسجد من أشرف البقاع، و

عن بعض الكتب(2)أنه بلغ عليا (عليه السلام) أن شريحا يقضي في بيته، فقال: «يا شريح اجلس في المسجد، فإنه أعدل بين الناس، و أنه وهن بالقاضي أن يجلس في بيته».

و قيل- و القائل الصدوق فيما حكي عن الفقيه و المقنع-: يكره عملا بعموم الأخبار المتقدمة و حملا للواقع على الضرورة و الدلالة على الجواز.

بل قد عرفت في أحكام المساجد من كتاب الصلاة(3)عن جملة من كتب الأصحاب التصريح فيها بكراهة إنفاذ الأحكام، و إن قيل المراد الحبس على الحقوق و الملازمة عليها، لكن يدخل فيه إقامة الحدود، و هي مذكورة معه في الكتب المزبورة.

و قد يقال: إن القضاء من حيث كونه قضاء لا كراهة فيه، بل لا يبعد رجحانه، نعم قد يقترن بما يرجح تركه في المسجد أو يحرم فعله، و هو خارج عن محل البحث، و ربما كان ذلك أولى بالجمع من غيره، و الله العالم.

و أن يقضي و هو غضبان

للنبوي(4)«لا يقضي القاضي و هو غضبان»

و لما فيه من المخاطرة في الوقوع في الخطأ معه.

و كذا يكره مع كل وصف يساوي الغضب في شغل النفس، كالجوع و العطش و الغم و الفرح و مدافعة الأخبثين و غلبة النعاس


1- 1 البحار- ج 40 ص 277 و ج 62 ص 167.
2- 2 المستدرك الباب- 11- من أبواب آداب القاضي- الحديث 3.
3- 3 راجع ج 14 ص 115- 117.
4- 4 الوسائل الباب- 2- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1 و سنن البيهقي ج 10 ص 105.

ج 40، ص: 82

و نحو ذلك، و

عنه أيضا (صلى الله عليه و آله)(1): «لا يقضي و هو شبعان ريان»

و في آخر: «لا يقضي و هو غضبان مهموم، و لا مصاب محزون»

و في وصيته (عليه السلام) لشريح(2): «و لا تقعد في مجلس القضاء حتى تطعم»

و قال (عليه السلام)(3)له أيضا: «لا تسار أحدا في مجلسك و إن غضبت فقم، و لا تقضين و أنت غضبان»

و في البحار عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(4)ما حاصله أنه «سئل عن مسألة فأحجم فقيل له: عهدنا بك يا أمير المؤمنين إذا سئلت كنت كالحديدة المحماة، فقال: كنت حازقا، و لا رأي لحازق إلى ثلاثة أيام»

الحديث.

و قال أبو عبد الله (عليه السلام)(5): «لسان القاضي من وراء قلبه، فان كان له قال، و إن كان عليه أمسك».

نعم إن كان معصوما من الخطأ مؤيد مسدد لا بأس بقضائه و هو في شي ء من هذه الأحوال، و قد

روي(6)«أن الزبير بن العوام و رجلا من الأنصار اختصما في شراج الحرة إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) فقال النبي: اسق زرعك يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري لرسول الله (صلى الله عليه و آله): أن كان ابن عمتك، فاحمر وجهه و قال له: اسق زرعك يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ أصول الجدر»

فقضى (صلى الله عليه و آله) بعد غضبه للزبير باستيفاء تمام حقه بعد أن


1- 1 سنن البيهقي- ج 10 ص 106 و فيه « لا يقضي القاضي إلا و هو شبعان ريان»
2- 2 الوسائل الباب- 1- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 2- من أبواب آداب القاضي- الحديث 2.
4- 4 البحار- ج 2 ص 59- 60 و ج 42 ص 187 عن أمالي الشيخ الطوسي ج 2 ص 128 ط النجف و في الموارد الثلاثة هكذا: « فقال: كنت حازقا، و لا رأي لثلاثة: لا رأي لحاقن و لا حازق.».
5- 5 الوسائل الباب- 2- من أبواب آداب القاضي- الحديث 2.
6- 6 سنن البيهقي ج 6 ص 153.

ج 40، ص: 83

كان قد استنزله عن بعضه، و ربما استثنى لذلك بعضهم مطلق الغضب لله تعالى، و الأولى ما ذكرنا، لأنه على كل حال يشوش الذهن.

و على كل حال ف لو قضى و الحال هذه نفذ إذا وقع حقا بلا خلاف، للعمومات السالمة عن المعارض بعد حمل النصوص السابقة على الكراهة، لقصورها من وجوه عن الحرمة.

و أن يتولى البيع و الشراء لنفسه في مجلس الحكم و غيره مع من يعلم أنه يحاسبه و غيره، ل

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا»

بل

في آخر «لعن إمام يتجر في رعيته»

و لما في ذلك من تشويش البال و احتمال المحاباة المقتضى ميل قلبه و خوف خصم من عامله من ميل القاضي و التهمة و غير ذلك.

بل الظاهر إلحاق غير البيع و الشراء من المعاملات بهما، بل قيل:

يكره له النظر في نفقة عياله و ضيعته و نحو ذلك مما يشغل قلبه، و حينئذ فالأولى توكيل من لا يعرف أنه وكيله،

و عن المناقب لأخطب خوارزم عن أبي مطر(2)عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «أنه أتى سوق الكرابيس فقال: يا شيخ أحسن بيعي في قميصي بثلاث دراهم، فلما عرفه لم يشتر منه، ثم أتى إلى آخر فلما عرفه لم يشتر منه، فأتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم».

و كذا يكره له أيضا أن يتولى الحكومة بأن يقف بنفسه مع خصمه عند قاض آخر، و

روي(3)«أن عليا (عليه السلام)


1- 1 الجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 146 و ذكره ابن قدامة في المغني ج 11 ص 439.
2- 2 سنن البيهقي- ج 10 ص 107.
3- 3 ورد في نهج البلاغة عنه عليه السلام: « أن للخصومة قحما» و قال- ابن أبي الحديد في شرحه ج 19 ص 260 ط مصر:« هذه الكلمة قالها أمير المؤمنين عليه السلام حين وكل عبد الله بن جعفر في الخصومة عنه و هو شاهد».

ج 40، ص: 84

وكل عقيلا في خصومة، و قال: إن للخصومة قحما، و إني لأكره أن أحضرها»

و ما اتفق وقوعه منه (عليه السلام)(1)أو من النبي (صلى الله عليه و آله)(2)إنما كان لبيان بعض الأحكام الشرعية التي أخطأ فيها من نصب نفسه قاضيا للناس أو لغير ذلك من المصالح.

و أن يستعمل الانقباض في وجوه الخصوم المانع من اللحن بالحجة و التفطن بها و تحريرها على وجه الكمال.

و كذا يكره له اللين الذي لا يؤمن معه جرأة الخصوم و يفضي إلى سقوط محله عن القلوب.

و يكره له أيضا أن يرتب الشهادة(3)قوما مخصوصين دون غيرهم لما فيه من التضييق على الناس و الغضاضة على غيرهم من العدول.

بل قيل و القائل الشيخ في محكي المبسوط يحرم ذلك لاستواء العدول في موجب القبول، و لأن في ذلك مشقة على الناس بما يلحق من كلفة الاقتصار (11) قال: «لا يجوز للحاكم أن يرتب شهودا يسمع شهادتهم دون غيرهم، بل يدع الناس، و كل من شهد عنه فان عرفه و إلا سأل عنه على ما قلناه، و قيل: إن أول من رتب شهودا لا يقبل غيرهم إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي، و الصحيح ما قلناه، لأن الحاكم إذا رتب قوما فإنما يفعل هذا بمن هو عدل عنده


1- 1 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 6.
2- 2 الوسائل الباب- 18- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 و في الشرائع« للشهادة».

ج 40، ص: 85

و غير من رتبه كذلك مثله أو أعدل منه، فان كان الكل سواء لم يجز أن يخص بعضهم بالقبول دون بعض، و لأن فيه مشقة على الناس لحاجتهم إلى الشهادة في الحقوق في كل وقت من نكاح و طلاق و غصب و قتل و غير ذلك، فإذا لم يقبل إلا قوما دون قوم شق على الناس، و لأن الشاهد إذا علم أنه لا يقبل إلا قول غيره ربما تقاعد عنها حتى يأخذ الرشوة، و لأن فيه إبطال الحقوق، فان كل من له حق لا يقدر على إقامة البينة به ممن كان مقبول الشهادة راتبا لها دون غيرهم، فاما أن يرتب قوما عرف عدالتهم و سكن إليهم يسمع قولهم و يقبل شهادتهم، فإذا شهد عنده بالحق غيرهم بحث عنهم، فإذا تزكوا حكم بذلك فلا بأس به».

و من ذلك يعلم أن الشيخ غير مخالف في مفروض المتن، ضرورة أنه لا إشكال في حرمة الترتيب على وجه لا يسمع غيرهم و إن جمع شرائط قبول الشهادة، كما لا إشكال في جواز ترتيب أناس لتحمل الشهادة و إن قبل شهادة غيرهم أيضا، و هو الذي أشار إليه أخيرا؛ لكن لا يخلو من مرجوحية، لاحتمال التهمة و الرشوة و غير ذلك.

و من هنا قال في كشف اللثام بعد حكاية ما سمعته عنه «و الحق أن ما تضمنه هذا الكلام من قهر الناس على أن لا يحملوا الشهادة سوى من عينهم لها أو عدم سماع شهادة غيرهم من العدول مع معرفته باجتماع شرائط القبول و تمكنه من المعرفة فلا شبهة في حرمته، و إنما المكروه أن يرتب قوما لتحمل الشهادة من غير قهر و لا رد لشهادة غيرهم» و مرجعه إلى ما ذكرناه.

ج 40، ص: 86

[مسائل]
اشاره

و هنا مسائل:

[المسألة الأولى الإمام عليه السلام يقضي بعلمه مطلقا]

الأولى لا خلاف بيننا معتد به في أن الامام (ع) يقضي بعلمه مطلقا في حق الله و حق الناس، بل في محكي الانتصار و الغنية و الإيضاح و نهج الحق و غيرها الإجماع عليه، و هو الحجة مضافا إلى

قول علي (عليه السلام) لشريح لما تخاصم مع من عنده درع طلحة(1): «ويلك أو ويحك إمام المسلمين يؤمن من أمورهم على أعظم من هذا».

و لقوله تعالى(2)«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ». و قال(3)«أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ». و قال(4):

«وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» و من حكم بعلمه فقد حكم بالحق و العدل و القسط.

و ل

قول الصادق (عليه السلام) في خبر الحسين بن خالد(5): «الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب خمرا أن يقيم عليه الحد، و لا يحتاج إلى بينة مع نظره، لأنه أمين الله في خلقه، و إذا نظر إلى رجل يسرق فالواجب عليه أن يزجره و ينهاه و يمضي و يدعه:

قال: فقلت: كيف ذاك؟ فقال: لأن الحق إذا كان لله تعالى فالواجب


1- 1 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 6.
2- 2 سورة ص: 38- الآية 26.
3- 3 سورة النساء: 4- الآية 58.
4- 4 سورة المائدة: 5- الآية 42.
5- 5 الوسائل الباب- 32- من أبواب مقدمات الحدود- الحديث 3 من كتاب الحدود.

ج 40، ص: 87

على الإمام إقامته، و إذا كان للناس فهو للناس».

و لوجوب تصديق الإمام في كل ما يقوله و كفر مكذبه، و لذا

قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) خصم النبي (صلى الله عليه و آله) لما تخاصما إليه في الناقة و ثمنها(1)

و هو يقتضي وجوب الخروج من حق يخبر به الامام، و هو يقتضي وجوب إخبار الامام به، و إلا لأدى إلى ضياع الحق، هذا مع براءة ساحة الإمام (عليه السلام) لعصمته عن التهمة.

خلافا لما حكاه السيد عن أبي علي، فلم يجوزه مستدلا بأن الله تعالى أوجب للمؤمنين فيما بينهم حقوقا أبطلها فيما بينهم و بين الكفار و المرتدين كالمواريث و المناكح و أكل الذبائح و وجدنا الله قد اطلع رسوله (صلى الله عليه و آله) على من كان يبطن الكفر و يظهر الإسلام، فكان يعلمه و لم يبين أحوالهم لجميع المؤمنين فيمتنعوا من مناكحتهم و أكل ذبائحهم.

و دفعه السيد بمنع أن الله تعالى قد أطلعه عليهم بأعيانهم، قال:

«فان استدل على ذلك بقوله تعالى(2)«وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» فهذا لا يدل على وقوع التعريف، و إنما يدل على

القدرة عليه، و معنى قوله «وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» أي يستقر ظنك أو وهمك من غير ظن و لا يقين- قال-: ثم لو سلمنا اطلاعه على ذلك لم يلزم ما ذكره، لأنه غير ممتنع أن يكون تحريم المناكحة و الموارثة و أكل الذبائح إنما يختص بمن أظهر كفره و ردته دون من أبطنهما، و أن تكون المصلحة التي بها يتعلق التحريم و التحليل اقتضت ما ذكرنا، فلا يجب على النبي (صلى الله عليه و آله) أن يبين أحوال من أبطن الردة و الكفر لأجل هذه الأحكام التي ذكرناها، لأنها تتعلق


1- 1 الوسائل الباب- 18- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 سورة محمد ص: 47- الآية 30.

ج 40، ص: 88

بالمبطن و المظهر لا على سواء، و ليس كذلك الزنا و شرب الخمر و السرقة، لأن الحد في الأمور يتعلق بالمظهر و المبطن على سواء».

هذا كله في الإمام (عليه السلام) و غيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس قطعا و في حقوق الله تعالى على قولين:

أصحهما القضاء و في الانتصار و الغنية و محكي الخلاف و نهج الحق و ظاهر السرائر الإجماع عليه، و هو الحجة.

مضافا إلى ما ذكروه من استلزام عدم القضاء به فسق الحاكم أو إيقاف الحكم، و هما معا باطلان، و ذلك لأنه إذا طلق الرجل زوجته ثلاثا مثلا بحضرته ثم جحد كان القول قوله مع يمينه، فان حكم بغير علمه و هو استحلافه و تسليمها إليه لزم فسقه، و إلا لزم إيقاف الحكم لا لموجب.

و استلزامه أيضا عدم وجوب إنكار المنكر و عدم وجوب إظهار الحق مع إمكانه أو الحكم بعلمه، و الأول معلوم البطلان فتعين الثاني، و ذلك لأنه إذا علم بطلان قول أحد الخصمين فان لم يجب عليه منعه عن الباطل لزم الأول و إلا ثبت المطلوب.

مضافا إلى ظهور كون العلم أقوى من البينة المعلوم إرادة الكشف منها. و إلى تحقق الحكم المعلق على عنوان قد فرض العلم بحصوله، كقوله تعالى(1)«السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما». و «الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي»(2)إلى آخرها. و الخطاب للحكام فإذا علموا تحقق الوصف وجب عليهم العامل، فان السارق و

الزاني تلبس بهذا الوصف لا من أقر به أو قامت عليه به البينة، و إذا ثبت ذلك في الحدود ففي غيره بطريق أولى.


1- 1 سورة المائدة: 5 الآية 38.
2- 2 سورة النور: 24- الآية 2.

ج 40، ص: 89

كل هذا و في الانتصار «فان قيل: كيف تستجيزون ادعاء الإجماع و أبو على بن الجنيد يصرح بالخلاف و يذهب إلى أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شي ء من الحقوق و الحدود؟ قلنا: لا خلاف بين الإمامية في هذه المسألة، و قد تقدم إجماعهم ابن الجنيد و تأخره، و إنما عول ابن الجنيد على ضرب من الرأي و الاجتهاد، و خطاؤه ظاهر، و كيف يخفى إطباق الإمامية على وجوب الحكم بالعلم؟ و هم ينكرون توقف أبي بكر عن الحكم لفاطمة بنت رسول الله (عليها السلام) بفدك لما ادعت أنحلها أبوها، و يقولون: إذا كان عالما بعصمتها و طهارتها و أنها لا تدعي إلا حقا فلا وجه لمطالبتها بإقامة البينة، لأن البينة لا وجه لها مع العلم بالصدق، فكيف خفي على ابن الجنيد هذا الذي لا يخفى على أحد؟- ثم ذكر الأخبار التي سمعتها ثم قال-: فمن يروي هذه الأخبار مستحسنا لها معولا عليها كيف يجوز أن يشك في أنه كان يذهب إلى أن الحاكم يحكم بعلمه لو لا قلة تأمل ابن الجنيد؟». و تبعه غيره في شدة الإنكار على ابن الجنيد في عدم جواز القضاء بالعلم.

و لكن الإنصاف أنه ليس بتلك المكانة من الضعف، ضرورة أن البحث في أن العلم من طرق الحكم و الفصل بين المتخاصمين و لو من غير المعصوم في جميع الحقوق أو لا، و ليس في شي ء من الأدلة المذكورة- عدا الإجماع منها- دلالة على ذلك، و الأمر بالمعروف و وجوب إيصال الحق إلى مستحقه بل كون العلم حجة على من حصل له يترتب عليه سائر التكاليف الشرعية لا يقتضي كونه من طرق الحكم، بل أقصى ذلك ما عرفت، و أنه لا يجوز له الحكم بخلاف علمه، بل لعل أصالة عدم ترتب آثار الحكم عليه يقتضي عدمه.

ج 40، ص: 90

كما أن

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة على المدعي و اليمين على من أنكر»

كذلك أيضا، بل ظاهر الحصر في

صحيح هشام(2)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): إنما أقضي بينكم بالبينات و الأيمان، و بعضكم ألحن بحجته من بعض»

كذلك، و كذا

قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر إسماعيل بن أبي أويس(3): «جميع أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة أو يمين قاطعة أو سنة جارية مع أئمة هدى»

و كذا الخبر الآخر عنه (عليه السلام)(4)إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة في حصر طريق الحكم بالمعنى المزبور بالبينة و اليمين.

و أقصى ما يخرج منها المعلوم كذبهما و لو لمخالفتهما لعلمه، فلا يحكم حينئذ بهما، و هو لا يقتضي الحكم بعلمه و أنه أحد طرق للفصل كالبينة، بل هو أقوى، اللهم إلا أن يحمل ذلك كله على ما هو الغالب أو الظاهر منها في صورة عدم العلم، خصوصا مع ملاحظة إجماع الأصحاب، و يمنع الأصل المزبور بإطلاق ما دل على قبول الحكم بالعدل، كما في كل شرط يشك في توقف القبول عليه.

و منه مع الإجماع المحكي مستفيضا المعتضد بالتتبع يظهر حينئذ ضعف المحكي عنه من عدم جواز الحكم بالعلم مطلقا للإمام و غيره في حق الله و حق الناس.

و في المسالك عن مختصره الأحمدي من جواز الحكم في حدود الله دون


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5 و الباب- 25- منها الحديث 3.
2- 2 الوسائل الباب- 2- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 1- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 6 بطريق الخصال.
4- 4 الوسائل الباب- 1- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 6.

ج 40، ص: 91

حق الناس، و المحكي عن ابن حمزة عكس ذلك، و عن حدود النهاية «إذا شاهد الامام من يزني أو يشرب الخمر كان عليه أن يقيم الحد، و لا ينتظر مع مشاهدته قيام البينة و الإقرار، و ليس ذلك لغيره، بل هو مخصوص به، و غيره و إن شاهد يحتاج إلى أن يقوم بينة أو إقرار من الفاعل».

مع أنه لم نجد للجميع مستندا صالحا غير ما عرفت سوى اقتضاء ذلك التهمة- التي قد تحصل أيضا مع البينة و تزكية النفس الحاصلة بالجلوس في منصب القضاء- و

النبوي في قضية الملاعنة(1)«لو كنت راجما من غير بينة لرجمتها»

التي لم يثبت صحته في طرقنا، و دعوى بناء حدود الله المسامحة و الستر الممنوعة بعد الثبوت بالعلم.

و حينئذ فلا إشكال في المسألة، ف يجوز له أن يحكم في ذلك كله من غير حضور شاهد يشهد بالحق معه يشهد الحكم أي يحضره، كما عن الحسن بن حي قال في الحدود:

«إن علم بعد القضاء- أي بعد تولي منصب القضاء- فلا يقضي حتى يشهد معه ثلاثة، و في غيره واحد» و عن الأوزاعي «أنه يشهد معه رجل آخر في القذف حتى يحده» و قال الليث: «لا يحكم في حقوق الناس حتى يشهد معه آخر» و قال ابن أبي ليلى: «من أقر عند القاضي بدين في مجلس الحكم فالقاضي لا ينفذ ذلك حتى يشهد معه آخر» إلى غير ذلك من أقوالهم المبنية على الرأي و القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة.

هذا و لكن لا يخفى عليك قصور العبارة عن تأدية المعنى المزبور بناء على كون المراد بها الإشارة، ضرورة عدم مدخلية شهادة الحكم في ذلك بمعنى حضوره، إذ المراد شاهد آخر بالحق مع الحاكم حضر الحكم أو لم يحضره.


1- 1 سنن البيهقي ج 7 ص 407.

ج 40، ص: 92

كما أن ما في قواعد الفاضل من استحباب ذلك رفعا للتهمة لم نتحقق دليله، بل لا يخلو من منع إن أراد جواز الامتناع من الحاكم إذا لم يكن غيره، و الله العالم.

و على كل حال ففي المسالك استثناء صور من القضاء بالعلم حتى على القول بالمنع: (منها) تزكية الشهود و جرحهم لئلا يلزم الدور أو التسلسل، و (منها) الإقرار في مجلس القضاء و إن لم يسمعه غيره، و قيل يستثني إقرار الخصم مطلقا، و (منها) العلم بخطإ الشهود يقينا أو كذبهم، و (منها) تعزير من أساء أدبه

في مجلسه و إن لم يعلم غيره، لأنه من ضرورة إقامته أبهة القضاء، و (منها) أن يشهد معه آخر، فإنه لا يقصر عن شاهد.

و لا يخلو الأخير منها من نظر، لعدم وضوح دليل الاستثناء فيه مع فرض عدم جواز القضاء بالعلم، بل و الثاني إذا كانت الدعوى إقراره، و الفرض تعقيبه له بالإنكار و لم يسمعه منه إلا الحاكم، فان طريق ثبوته حينئذ ليس إلا البينة، اللهم إلا أن يقال: إن الإقرار حتى في الفرض أحد طرق الحكم كسماع البينة، فتأمل جيدا.

ثم إن الظاهر إرادة الأعم من اليقين و الاعتقاد القاطع و لو من تكثير أمارات من العلم، لكون الجميع من الحكم بالحق و العدل و القسط عنده و لغير ذلك مما سمعته من أدلة المسألة و إن كان هذا الفرد من العلم مما يمكن فيه البحث نحو ما ذكروه في الشاهد، و ليت المانع اقتصر عليه في غير الامام باعتبار احتمال كونه خطأ عند غير القاطع، و الله العالم.

ج 40، ص: 93

[المسألة الثانية إذا أقام المدعي بينة و لم يعرف الحاكم عدالتها فالتمس المدعي حبس المنكر ليعدلها يجوز حبسه لقيام البينة بما ادعاه]

المسألة الثانية:

إذا أقام المدعي بينة و لم يعرف الحاكم عدالتها فالتمس المدعي حبس المنكر ليعدلها قال الشيخ (رحمه الله) في محكي المبسوط:

يجوز حبسه لقيام البينة بما ادعاه و ربما تبعه جماعة بناء منهم على الاكتفاء في ثبوت الحق بالبينة التي لم يعلم فسقها و إن كان قد يطلب تزكيتها لاسترابة الحاكم أو التماس الغريم أو للاستظهار أو لنحو ذلك.

و لكن فيه إشكال بل منع بناء على المختار من حيث عدم ثبوت الحق إلا بالبينة العادلة، ضرورة أنه لم يثبت حينئذ بتلك البينة المفروضة حق يوجب العقوبة التي منها الحبس و لا المطالبة بكفيل أو رهن، كما هو واضح.

و دفع ذلك ببعض الاعتبارات و الاستحسانات مما لا ينطبق على أصولنا، و البناء على أصالة العدالة يوجب حكم الحاكم، فتخرج المسألة عن الفرض، بل لا يخفى عليك في المحكي عن الشيخ من عدم الالتئام، فلاحظ و تأمل، و الله العالم.

[المسألة الثالثة لو قضى الحاكم على غريم مثلا بضمان مال و أمر بحبسه فعند حضور الحاكم الثاني ينظر]

المسألة الثالثة:

لو قضى الحاكم على غريم مثلا بضمان مال و أمر بحبسه فعند حضور الحاكم الثاني يجب عليه أن ينظر (11) في حكم الأول، لاحتياج الاستيفاء منه إلى مسوغ فان كان الحكم (12) الأول موافقا للحق لزم و إلا أبطله، سواء كان مستند الحكم (13) الثاني قطعيا

ج 40، ص: 94

كإجماع أو خبر متواتر أو اجتهاديا كخبر الواحد و منصوص العلة و نحوهما و قد أخطأ الأول في الاجتهاد، لأنه يكون حينئذ الأول من الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.

و كذا كل حكم قضى به الأول غير المفروض و بان للثاني فيه الخطأ و لو لفساد الاجتهاد من الأول فإنه ينقضه، و كذا لو حكم هو ثم تبين الخطأ على نحو ما سمعته في غيره فإنه يبطل الأول و يستأنف الحكم بما علمه لما عرفت.

هذا و لكن قد يشكل وجوب النظر في الأول- و إن جزم به في المسالك، بل ظاهره المفروغية منه عند ذكرهم من الأدب النظر في المحبوسين- بأن ذلك من آثار الحكم الأول الذي قد أمرنا بعدم رده بعد حمله على الوجه الصحيح، فهو حينئذ كالتصرف بالمال الذي قد أخذ بحكمه من غير فرق بين الدار و غيرها.

على أنه لا إشكال في ثبوت الحق بحكم الحاكم، فلا يجوز له النظر مع امتناع من له الحق عن المرافعة، لانقطاع دعواه بحكومة الأول فضلا عن أن يجب عليه، بل ربما يتوهم عدم محل للدعوى و إن تراضي الخصمان بتجديدها عند الحاكم الثاني، و إن كان الأقوى خلافه، بل الأقوى نفوذ حكمه و إن اقتضى نقض الأول و لو لدليل اجتهادي يعذر فيه.

و يمكن حمل عبارة المصنف على هذا أو على معنى ثبوت الحق بحكم حاكم عند حاكم آخر، لأن أقصاه إلزام الخصم بمقتضى البينة التي قامت عنده مثلا، و مثله لا يكون مثبتا للحق عند غيره، و عدم جواز الرد عليه مع عدم العلم بفساده لا يقتضي تحقق الموضوع الذي يتوقف عليه مباشرة الثاني لاستيفاء الحق الذي هو من ولاية القضاء بالمعنى الأعم، فليس له حينئذ ذلك إلا بعد ثبوت كونه مستحقا عليه عنده، و ليس في

ج 40، ص: 95

الأدلة أزيد من حرمة الرد و من الإنكار على الراد له و نحو ذلك مما لا دلالة فيه على ثبوت الحق عند الثاني على وجه يكون وليا على استنقاذه.

و لكن لا يخفى عليك منافاة ذلك لما تسمعه من وجوب التنفيذ على الحاكم حكم آخر، بل هو إنشاء حكم من الحاكم الثاني بإلزام الأول حتى لو خالف رأيه، و دعوى أن المفروض عدم انتهاء الحكم فيه من الأول يدفعها ظهور العبارة في خلافها، ضرورة كون حبسه لاستنقاذ الحق منه، فلا محيص عن حمل العبارة على إرادة النظر إن شاء، لا وجوبه أو نحو ذلك.

و حينئذ لا يحتاج إلى التقييد بفساد الاجتهاد الأول لتقصير و نحوه، بل له نقضه مع تراضيهما بتجديده أو كان مما يلزم الحاكم الثاني تجديده لإرادة ثبوت العنوان عنده و إن كان اجتهاد الأول صحيحا. بل و كذا عبارة الإرشاد «و كل حكم ظهر بطلانه فإنه ينقضه، سواء كان هو الحاكم أو غيره، و سواء كان مستند الحكم قطعيا أو اجتهاديا» بل و ما في القواعد «الأقرب أن كل حكم ظهر له أنه خطأ سواء كان هو الحاكم أو السابق فإنه ينقضه و يستأنف الحكم بما علمه» بناء على ما فهمه الشهيد من إرادة الأعم من القطع و الظن بظهور الخطأ، و سواء كان الأول عن اجتهاد صحيح أو لا.

و لعل الداعي لهم على حمل نحو عبارة المصنف و ما شابهها على ما عرفت من فساد الاجتهاد- حتى جزم به المحقق الأردبيلي حاملا لعبارة الدروس عليه التي أشكلها في المسالك مع حمله عبارة المصنف و غيرها على إرادة فساد الاجتهاد، و تبعه في كشف اللثام، و إن أشكل الفرق بين الاجتهاد الصحيح و غيره، خصوصا في هذه الأزمنة التي تكثرت فيها الأمارات حتى أنه ربما يطرح الخبر الصحيح في مقابلة الأصل و نحوه- هو أنها

ج 40، ص: 96

منافية في الظاهر لما هو المعلوم- بل حكى عليه الإجماع بعضهم- من عدم جواز نقض الحكم الناشئ عن اجتهاد صحيح باجتهاد كذلك، و إنما يجوز نقضه بالقطعي من إجماع أو سنة متواترة أو نحوهما.

بل عن الشيخ أن الحكم خطأ و لو بمخالفة القاطع لم ينقض إذا كان حقا للناس، لأن صاحب الحق ربما أسقط حقه، نعم ينقض إذا كان حقا لله عز و جل، كالعتق و الطلاق، و به أفتى الفاضل في القواعد أولا و إن كان فيه ما عرفت من عدم الإجماع على عدم جواز النقض فيما ذكرناه من الفرض.

و قد يناقش الشيخ بأن له الرئاسة العامة المقتضية للخطاب بإظهار الحق و تأييده و رد الباطل و إفساده من غير فرق بين الجميع، نعم لو رضي المحكوم عليه بعد ظهور بطلان الحكم عليه ببذل ماله لمن في يده المال مثلا فلا بأس، لأن الناس مسلطون على أموالهم، و مجرد احتمال رضاه لا يرفع الخطاب بإظهار الحق و تدمير الباطل كما وقع منهم (عليهم السلام) و خصوصا أمير المؤمنين (عليه السلام) في قضايا متعددة وقعت من حكام الجور في زمانه(1).

نعم قد يقال: إن ذلك كله مع المخالفة للدليل العلمي الذي لا مجال للاجتهاد فيه، و لكن وقع الحكم من الأول غفلة عنه أو جورا أو نحو ذلك، أما القطعي النظري كإجماع استنباطي و خبر محفوف بقرائن و تكثر أمارات و نحو ذلك مما يمكن وجود عكسها عند الأول كما نراه بالعيان بين العلماء و خصوصا في دعوى الإجماع فلا يبعد عدم جواز النقض به في غير ما فرضناه، ضرورة اندراج حكم الأول في الأدلة المقتضية لنصبه،


1- 1 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 6 و الباب 21 منها الحديث 2.

ج 40، ص: 97

فان المدار في صحته على معرفة حكمهم بالاجتهاد الصحيح الذي هو أعم من القطع النظري و الظن، و احتمال الإصابة للواقع في المقطوع بهما عند الحاكمين أو أحدهما لكل منهما متحقق للشي ء في حد ذاته و إن لم يكن محتملا عند القاطع، إلا أنه هو حاكم بصحته في حق الحاكم الآخر و من ترافع إليه من حيث ظهور دليل حجية اجتهاده في ذلك، فلو نقضه حينئذ لكان ناقضا لحكمه نفسه الذي استفاده من دليل صحة الاجتهاد، فلا يبعد القول بعدم جواز النقض أيضا بالقطع النظري كالظني، لأنهما عند التأمل متحدان فيما قلناه، و يختص النقض به في الفرض الأول الذي مرجعه إلى عدم اجتهاد صحيح، بل له نقضه إذا كان كذلك في الظني أيضا، ضرورة ظهور دليل صحة الحكم و حرمة الرد عليه فيما إذا

كان عن اجتهاد صحيح و إن ظن الحاكم الثاني خطأه أو قطع بدليل قطعي نظري.

و قد بان لك من جميع ما ذكرنا أن الحكم ينقض و لو بالظن إذا تراضى الخصمان على تجديد الدعوى و قبول حكم الحاكم الثاني، و ينقض إذا خالف دليلا علميا لا مجال للاجتهاد فيه أو دليلا اجتهاديا لا مجال للاجتهاد بخلافه إلا غفلة و نحوها، و لا ينقض في غير ذلك، لأن الحكم بالاجتهاد الصحيح حكمهم، فالراد عليه راد عليهم (عليهم السلام) و الراد عليهم على حد الشرك بالله تعالى من غير فرق بين اقتضائه نقض فتوى و عدمه للإطلاق. و من هنا جاز نقض الفتوى بالحكم دون العكس.

و المراد بنقضها إبطال حكم الكلي في خصوص الجزئي الذي كان مورد الحكم بالنسبة إلى كل أحد، من غير فرق بين الحاكم و مقلدته و بين غيرهم من الحكام المخالفين له و مقلدتهم و يبطل حكم الاجتهاد و التقليد في خصوص ذلك الجزئي.

كما أنه لا فرق في ذلك بين العقود و الإيقاعات و الحل و الحرمة

ج 40، ص: 98

و الأحكام الوضعية حتى الطهارة و النجاسة، فلو ترافع شخصان على بيع شي ء من المائعات و قد لاقى عرق الجنب من زنا مثلا عند من يرى طهارته فحكم بذلك كان طاهرا مملوكا للمحكوم عليه و إن كان مجتهدا يرى نجاسته أو مقلد مجتهد كذلك لإطلاق ما دل(1)على وجوب قبول حكمه و أنه حكمهم (عليهم السلام) و الراد عليه راد عليهم، و يخرج حينئذ هذا الجزئي من كلي الفتوى بأن المائع الملاقي عرق الجنب نجس في حق ذلك المجتهد و مقلدته. و كذا في البيوع و الأنكحة و الطلاق و الوقوف و غيرها، و هذا معنى وجوب تنفيذ الحاكم الثاني ما حكم به الأول و إن خالف رأيه ما لم يعلم بطلانه.

و أما عدم نقض الحكم بالفتوى حتى من ذلك الحاكم لو فرض تغير رأيه عن الفتوى بعد حكمه في جزئي خاص فلأصالة بقاء أثر الحكم و ظهور أدلته في عدم جواز نقضه مطلقا، و عدم اقتضاء دليل الفتوى أزيد من العمل بأفراد كلي متعلقها من حيث إنها كذلك، فلا تنافي خروج بعض أفرادها بالحكم لدليلها، بل لعله ليس من متعلق كليها المراد به ما عدا المحكوم عليه من أفرادها.

م هي إنما تنقض بالفتوى على معنى بطلان الفتوى برجوع صاحبها عنها فيما لم يعمل به من أفرادها، أما ما عمل به فيه منها فلا نقض فيما لا يتصور النقض فيه، كما إذا كان فعلا قد فعله أو مالا أكله أو شربه، بل لو كان من الأفعال التي لها قضاء أو إعادة كالصلاة و نحوها مما يندرج في قاعدة الاجزاء و غيرها فلا نقض فيه مع فرض كون الثانية ظنية أيضا، بل لو عمل بالفتوى مما يقتضي الاستمرار و البقاء لم ينقض بالتغير، كما لو تزوج امرأة ارتضعت معه عشر رضعات بفتوى عدم نشرها الحرمة


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.

ج 40، ص: 99

ثم رجع المفتي عن ذلك لم يبطل نكاحه و إن كان لا يجوز له تزويج امرأة أخرى كذلك إذا كان مقلدا له في ذلك، لأن العقد المقتضى دوام النكاح قد وقع بالفتوى الأولى التي لم يعلم بطلانها، فآثار حكم العقد باقية على حالها، للأصل و غيره إلا إذا تعقبه حكم بالفسخ، لما عرفت من نقض الفتوى به.

و هكذا كل ما كان من هذا القبيل من الأسباب المستقلة بدليل على لزومها بمجرد عدم العلم بفسادها، فتبقى حينئذ على ذلك و إن تغير رأي المجتهد، فإنه لا دليل على الفسخ به، بل حاصل الأدلة خلافه كما يبقى على قاعدة الإجزاء مثل الصلاة و الغسل و الوضوء.

بل قد يقال: إن غسل النجاسة أيضا كذلك و إن كان لا يخلو من نظر و بحث، ضرورة عدم مقتض للدوام فيه، بل هو تابع لظن المجتهد ما دام باقيا، فلو غسل مثلا شيئا بالماء القليل الملاقي للنجاسة بفتوى عدم تنجسه بذلك ثم تغير رأيه وجب تجديد الغسل، لأن طهارة المغسول به مقيدة بما دام ظن المجتهد كذلك، فهو حينئذ كالماء نفسه و هكذا. بل قد يقال في نحو الوضوء به بوجوب تطهير

اليد و إن قلنا بصحة الوضوء به، اللهم إلا أن يمنع ذلك لقاعدة العسر و الحرج، خصوصا فيما لو بنى به مثلا مسجدا و نحوه إلا أن ذلك كما ترى.

أما الفتوى بطهارة شي ء للأصل مثلا ثم تغير رأيه إلى النجاسة فلا إشكال في وجوب اجتنابه عليه، لعدم استناد الطهارة المفتي بها أولا إلى سبب يقتضي بقاءها.

و ما عن العميدي من الإجماع على النقض في نحو نكاح المرتضعة لم نتحققه، بل لعله على العكس، كما هو مقتضى السيرة مضافا إلى ما عرفت، و حينئذ فالمراد بنقضها في نحو الفرض بطلان العمل بها في جميع المتجدد من أفرادها، و أما ما وقع فلا نقض فيه.

ج 40، ص: 100

و من ذلك كله بان لك الحال في الصور الأربعة: و هي نقض الفتوى بالفتوى و بالحكم و نقض الحكم بالفتوى و بالحكم.

و لكن بقي الكلام في الفرق بينهما، و الظاهر أن المراد بالأولى الاخبار عن الله تعالى بحكم شرعي متعلق بكلي، كالقول بنجاسة ملاقي البول أو الخمر، و أما قول هذا القدح نجس لذلك فهو ليس فتوى في الحقيقة و إن كان ربما يتوسع بإطلاقها عليه، و أما الحكم فهو إنشاء إنفاذ من الحاكم لا منه تعالى لحكم شرعي أو وضعي أو موضوعهما في شي ء مخصوص.

و لكن هل يشترط فيه مقارنته لفصل خصومة كما هو المتيقن من أدلته، لا أقل من الشك، و الأصل عدم ترتب الآثار على غيره، أو لا يشترط، لظهور

قوله (عليه السلام)(1): «إني جعلته حاكما»

في أن له الإنفاذ و الإلزام مطلقا، و يندرج فيه قطع الخصومة التي هي مورد السؤال و من هنا لم يكن إشكال عندهم في تعلق الحكم بالهلال و الحدود التي لا مخاصمة فيها.

و عليه حينئذ فإذا أريد الإلزام بشي ء و إنفاذه على وجه تنقطع عنه الخصومات الآتية من حيث الاختلاف في الاجتهاد أنشأ الحاكم إنفاذ تلك الخصومة منه على

وجه تكون كما لو وقع النزاع فيها، فإذا أنشأ الحكم بصحة تزويج المرتضعة معه عشر رضعات مثلا لم يكن لهما بعد ذلك الخصومة من هذه الجهة فتأمل.

ثم إن الفاضل في القواعد قال: «صورة الحكم الذي لا ينقض أن يقول الحاكم: قد حكمت بكذا أو قضيت أو نفذت الحكم بكذا أو أمضيت أو ألزمت أو ادفع إليه ماله أو اخرج من حقه أو يأمره بالبيع و غيره، و لو قال: ثبت عندي أو ثبت حقك أو أنت قد قمت بالحجة أو أن دعواك ثابتة شرعا لم يكن ذلك حكما، و يسوغ إبطاله».


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.

ج 40، ص: 101

و في الدروس يقول: «حكمت أو قضيت أو أنفذت أو أمضيت أو ألزمت، و قيل: يكفي ادفع إليه ماله أو اخرج إليه من حقه، أو يأمره بأخذ العين و بيعها، و لا يكفي أن يقول: ثبت عندي أو أن دعواك ثابتة، و يجوز نقضه عند عروض قادح بخلاف الأول».

قلت: لا دليل على اعتبار لفظ خاص فيه، فيكون المدار على كل ما دل على إنشاء معنى الحكم، بل لا يبعد الاكتفاء بالفعل الدال على ذلك فضلا عن قول: «ثبت عندي» مريدا به ذلك، أما مع عدم إرادة إنشاء ذلك بها فليست حكما، و كذا قوله: «ادفع إليه ماله» و نحوه و بالجملة فالمدار على ما عرفت، لأنه حكم لغة و عرفا.

بقي شي ء: و هو أنه مع تغير رأي المجتهد يجب عليه إعلام مقلديه بذلك، و يجب عليه محو ما كتبه من فتواه الأولى؟ صريح الأردبيلي ذلك، لكن في صورة معلومية فساد الأول بدليل قطعي أو بفساد الاجتهاد الأول، لأنه حينئذ خلاف الحق و الصواب، فيجب رفعه لئلا يقع الناس في غير الحق، و لا يبقى الباطل معمولا به و معتقدا لأحد، بل الظاهر اتحاد الحكم و الفتوى بالنسبة إلى ذلك.

إنما الكلام في وجوب الاعلام و المحو مع العدول لدليل ظني على وجه لا يقتضي فساد الاجتهاد الأول، و الظاهر عدمه، بل ينبغي القطع بعدم وجوب محوه من الكتاب، كما هو المشاهد من سيرة العلماء في اختلاف فتاواهم في الكتاب الواحد، بل بدون مسافة معتد بها، على أن المقلد العامل باستصحاب بقاء مقلده على فتواه معذور، و لا إثم عليه، فلا أمر بالمعروف بالنسبة إليه، بل لا يبعد القول بصحة عمله و إن كان عبادة، أما لاقتضاء الاستصحاب المستفاد من قاعدة اليقين البدلية عن الواقع إلى أن يعلم إلا ما خرج بالدليل، و إما لأنها حينئذ من عبادة الجاهل التي

ج 40، ص: 102

لم يعلم فسادها باعتبار موافقتها للفتوى الأولى و لم يعلم بطلانها، فتندرج في المطلقات بناء على أنه أسماء للأعم.

و أولى من ذلك معاملاته من عقود أو إيقاعات، بل ظاهر القمي في قوانينه صحتها حتى من الجاهل المتنبه للتقليد و قصر فيه إذا كانت موافقة لأحد الأقوال في المسألة معللا ذلك بمعلومية عدم اعتبار إيقاعها بعنوان التقليد و لو للسيرة القطعية، و بعد وقوعها فالأصل فيها الصحة حتى يعلم الفساد، و الفرض عدمه، فيندرج العقد المزبور في إطلاق ما دل على صحته، و الإثم بترك التقليد مع تنبهه له لا يقتضي فساد العقد.

بل قد يقال: إن ذلك منه يقتضي صحة العقد من المجتهد أو مقلده إذا أوقعاه على خلاف الاجتهاد أو التقليد و كان موافقا لأحد الآراء في المسألة، اللهم إلا أن يدعى أن الحكم الوضعي في حقهما بعد اتصافهما بالوصفين المذكورين خلاف ذلك.

إلا أنه كما ترى، بل سابقه أيضا كذلك، ضرورة أن إلحاقها بالصحيح لموافقتها لرأي القائل بذلك ليس بأولى من إلحاقها بالفاسد لموافقتها للقائل بذلك، بل هو من الترجيح بلا مرجح، و أصالة الصحة تقتضي حمل الفعل ذي الوجهين على الوجه الصحيح منهما لا أن الحق القول بالصحة، و الإطلاقات بعد تقييدها و لو بالاجتهاد لا وجه للاستناد إليها، بل لعل الأصول تقتضي الفساد، باعتبار رجوع ذلك إلى الشك في حصول السبب الناقل مثلا.

نعم قد يقال بالصحة إذا كانت موافقة لرأي من يجوز تقليده حال وقوعها و الفرض أنه أوقعها الفاعل بعنوان ذلك و لو بتقليد من لا يجوز تقليده و قلنا إن مثله تقليد لمن يجوز تقليده و إن أخطأ في تشخيصه إلا أنه موافق له.

ج 40، ص: 103

لكنه كما ترى أيضا، ضرورة عدم ذلك اتباعا و تقليدا، فالأولى القول بوقوعها مراعاة غير محكوم عليها بصحة و لا فساد إلا إذا لحقها و لو بعد ذلك بتقليد، فإنه ينكشف بذلك صحتها حال وقوعها، فيكون التقليد حينئذ طريقا إلى معرفة صحتها حين وقوعها، بل العبادة أيضا كذلك إذا فرض وقوعها من أول الأمر بعنوان القربة، و لا يكون ذلك إلا في الجاهل غير المتنبه حال إيقاعها بخلاف المعاملة، فإنه يجوز وقوعها و لو مع الشك، لعدم اعتبار النية فيها و عدم اعتبار سبق التقليد.

و لو فرض اختلاف المتعاقدين فاختار أحدهما القول بالفساد و الآخر الصحة و حدث بينهما نزاع ترافعا إلى حاكم يحكم بينهما بمقتضى رأيه في خصوص المتنازع فيه، و يكون هو الحجة عليهما فيه، و ينقض تقليد أحدهما فيه، كما عرفته سابقا، فتأمل جيدا فإن المسألة من المشكلات التي لم تحرر.

بل الظاهر إجراء حكم الصحة و الفساد على توابع عقدهما من كل مجتهد اتفق له النظر فيه بنوع من الأنواع و إن ماتا على عدم التقليد و لم يلحقاه بما يقتضي الصحة في حقهما، و الله العالم.

[المسألة الرابعة ليس على الحاكم تتبع حكم من كان قبله]

المسألة الرابعة:

ليس على الحاكم تتبع حكم من كان قبله و لا غيره حملا لفعله على الوجه الصحيح و إن جاز له ذلك للأصل و غيره لكن لو زعم المحكوم عليه أن الأول حكم عليه بالجور لفساد اجتهاد و نحوه لزمه النظر فيه أي في حكمه بلا خلاف أجده بين من تعرض له منا، لأنها دعوى لا دليل على عدم سماعها، فتبقى مندرجة في إطلاق

ج 40، ص: 104

ما دل على قبول كل دعوى من مدعيها من

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة على المدعي»

و غيره.

و لا ينافي ذلك ما تقدم من وجوب النظر في المحبوس و إن لم يدع الظلم و الجور عليه، لما عرفته سابقا من معنى الوجوب مع فرض تمام الحكم من الأول، نعم لو أريد الحكم عليه كما حكم به الأول توقف الحكم عليه بأداء الحق على ثبوته عنده، و لا يكفي فيه حكم الحاكم السابق كما عرفته سابقا، بخلاف المقام المفروض فيه أيضا تمام حكم الحاكم و لم يبق شي ء منه، فليس عليه التعرض له حتى يدعى المحكوم عليه ذلك، فيلزمه حينئذ النظر مقدمة لقطع الدعوى المسموعة، كما هو واضح.

و كذا لو ثبت عنده ما يبطل حكم الأول و لو بإقرار منه أو غيره أبطله سواء كان من حقوق الله تعالى أو حقوق الناس على الأصح كما في التحرير خلافا للفاضل و للمحكي عن الشيخ و بعض العامة من الاقتصار على الأول الذي له النظر فيه بخلاف الثاني المتوقف على مطالبة المستحق، و قد عرفت ضعفه، لمعلومية وجوب إنكار المنكر عليه في نفسه باعتبار كونه حكما بباطل و بغير ما أنزل الله تعالى شأنه، و أن له الولاية العامة.

إنما الكلام في لزوم النظر في الأول الذي قد يشكل- كما عن بعض العامة- بعدم اقتضاء ذلك وجوبه، بل أقصاه طلب البينة من المدعي على دعواه، فان لم يكن فله اليمين، و لا تلازم بين سماعها و وجوب النظر في حكمه، إلا أنه كما ترى، ضرورة وجوب سماع كل دعوى مقبولة عليه، لاقتضاء منصبه ذلك، و لإطلاق الأدلة و الأمر بالمعروف، و غير ذلك.


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.

ج 40، ص: 105

كما أنه قد يشكل أيضا سماع ذلك بالنسبة إلى نواب الغيبة من دون بينة بظهور دليل نصبهم في أنه ليس للمحكوم عليه الاعتراض فيما حكموا به، و أنه بمنزلة إنكار المولى عليه فعل وليه حال ولايته عليه بل أعظم، ضرورة أن مقتضى جعل الامام (عليه السلام) له حاكما أي وليا في ذلك، بل ذلك يقتضي سماع المحكوم عليه أخيرا، لو قال: إنه حكم عليه بالجور و هكذا، و يلزم منه فساد عظيم.

و لعله لذا كان ظاهر المصنف و غيره اختصاص ذلك بالحاكم المعزول باعتبار ارتفاع ولايته، فيكون دعوى المحكوم عليه كدعوى المولى عليه على وليه بعد ارتفاع ولايته و إن كان متعلق الدعوى الفعل حال الولاية، إلا أنه يدعى فساده، فتأمل جيدا، فان ذلك لا يصلح فارقا بعد إطلاق الأدلة ما يقتضي سماعها على غير المعصوم، فالتحقيق سماعها مطلقا و إجراء أحكام الدعاوي عليها كغيرها، و ليس من الرد على الحاكم، بل هو من بيان خطأ الحاكم الذي هو غير معصوم.

[المسألة الخامسة إذا ادعى رجل أن المعزول قضى عليه بشهادة فاسقين وجب إحضاره و إن لم يقم المدعي بينة]

المسألة الخامسة:

إذا ادعى رجل أن المعزول قضى عليه بشهادة فاسقين وجب إحضاره و إن لم يقم المدعي بينة له بذلك، بل و إن صرح بعدمها بناء على أن له اليمين، و لاحتمال إقراره، و أبهة القضاء لا تنافي ذلك فان حضر و اعترف ألزم بالمال إن كان قد أخذه أو استوفى بحكمه.

و إن قال: لم أحكم إلا بشهادة عدلين قال الشيخ: يكلف البينة، لأنه اعترف بنقل المال و هو يدعي بما يزيل الضمان عنه فعليه البينة حينئذ.

و يشكل بما هو معلوم من أن الظاهر استظهار الحكام

ج 40، ص: 106

في أحكامهم لأنهم أمناء على ذلك فيكون القول قوله مع يمينه، لأنه يدعي الظاهر بل ربما قيل أو احتمل عدم اليمين، و لعله على ذلك يبنى عدم جواز إحضاره المقتضي لامتهانه عند القائل به، و مجرد احتمال الإقرار لا يقتضي وجوبه بعد أن كانت الدعوى لا يمين لمدعيها على المدعى عليه، لأنه يدعى عليه مالا، و هذا كله جار في المسألة السابقة بالنسبة إلى إحضار الحاكم مطلقا أو مع ذكر البينة و أن القول قوله مطلقا أو بيمينه أو يكلف البينة.

و لكن الأول أقوى، فيجب الإحضار مطلقا، سواء كانت الدعوى بأخذ أو استيفاء بحكمه أو غير ذلك.

و كذا لو ادعى أنه أخذ منه رشوة أو نحو ذلك، بل أولى بالقبول، نعم لا يخفى عليك ما ذكرناه من احتمال عدم جريان نحو ذلك في نواب الغيبة الجامعين للشرائط و إن سمعت الدعوى عليهم في غير ما يتعلق بما هم أولياء فيه و إن كان التحقيق خلافه لما سمعت.

و لو بان أن الحاكم ليس من أهل الحكومة نقض جميع أحكامه و إن كانت صوابا إلا ما لا فائدة للنقض فيه، كرد المغصوب و الوديعة و نحوهما.

و لو كان الحكم خطأ عند الأول و لكن حكم به غفلة و صوابا عند الثاني فالأقوى نقضه، كما لو تنبه الحاكم بنفسه له، و الله العالم.

[المسألة السادسة إذا افتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلا شاهدان عدلان]

المسألة السادسة:

إذا افتقر الحاكم إلى مترجم لسماع الشهادة و نحوها لم يقبل إلا شاهدان عدلان حتى فيما يكتفى فيه بالشاهد و الامرأتين، لأنه بحكم الشهادة على الشهادة لا الشهادة فيه، و لذا يكتفى بالعدلين في ترجمة

ج 40، ص: 107

شهود الزنا المعتبر فيه أربعة و لا يقنع بالواحد عملا بالمتفق عليه بعد الشك في أن ذلك من موضوع الشهادة أو الرواية، و لا أصل و لا إطلاق ينقح أحدهما، فيجري عليه حينئذ حكم الشهادة من التعدد، و لو لأنه المتيقن بخلاف غيره.

و دعوى أن الأصل الرواية- لأن الشهادة قسم من الخبر و لكن اعتبر الشارع في بعض أفرادها التعدد، فما لم يثبت فيه يبقى على عموم ما دل على قبول خبر العدل- يدفعها وضوح التباين بين الرواية و الشهادة في العرف الذي هو المرجع في أمثالهما بعد معلومية عدم الوضع الشرعي فيهما و عدم الاجمال، و اعتبار التعدد في موضوع الشهادة، لا أنه هو المميز لها عن الرواية، و كون جنسهما الخبر لا يقتضي أنها قسم منه، بل هما نوعان متمايزان في العرف الذي يمكن أن يقال إن الترجمة فيه قد تكون من الشهادة و قد تكون من الرواية، لا أنها مطلقا شهادة أو رواية، فحيث يراد بها إثبات ما يترتب عليه الحكم كشهادة الشاهد احتيجت إلى التعدد، ضرورة أنها حينئذ بمنزلة شهادة الفرع التي لا بد فيها من التعدد، لأنها شهادة حينئذ، و حيث يراد فيها بيان المراد في غير ذلك كانت رواية، و يكفي فيها الواحد، و لعل منه بيان عبارة المجتهد مثلا لمقلديه، أو بيان المراد من السؤال للمجتهد مثلا ليذكر حكمه و نحو ذلك مما لا يعد شهادة، بل هو من قسم الرواية و لو بالمعنى.

و بالجملة فالمدار على تميز أفراد الشهادة و الرواية المقابلة لها العرف، فما كان من الأول اعتبر فيه التعدد، للأدلة الدالة على اعتبار ذلك فيها من قوله تعالى(1)«وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» بناء على استفادة ذلك منه، و غيره، و ما كان من الثاني اكتفى فيه بالواحد، لإطلاق


1- 1 سورة الطلاق: 65- الآية 2.

ج 40، ص: 108

دليل قبول خبر العدل، و مع الشك فالظاهر لحوق حكم الشهادة عملا بالمتفق عليه لما عرفت.

و آية النبإ(1)بعد أن كان موردها من أفراد الشهادة أو ما يشبهه وجب كون المراد من المفهوم فيها عدم وجوب تبين نبأ العدل في موضوعي الشهادة و الرواية، على معنى كونه مقبولا في الجملة و إن كان قبوله في الشهادة على معنى أنه جزء البينة، و قبوله في الرواية العمل به من غير حاجة إلى التعدد الذي استفيد من الأدلة اعتباره في الشهادة دون غيرها، و حينئذ فليس المراد من الآية قبول كل نبأ لعدل على معنى العمل به من غير حاجة إلى تعدد إلا ما خرج بالدليل، فيكون ذلك أصلا لكل نبأ لم يعلم اعتبار التعدد فيه، ضرورة عدم دلالة الآية حينئذ على حكم موردها، بل و لا على حكم الشهادة. و أولى من ذلك دعوى اختصاص الآية بحكم الرواية المقابلة للشهادة بقرينة اعتبار التبين في نبأ الفاسق و عدمه في نبأ العدل، و ذلك من خواصها، فإن شهادة الفاسق لا تبين فيها.

هذا و قد يقال: إنه يمكن استفادة اعتبار التعدد في كل ما كان له مدخلية في القضاء و لو موضوع المدعى و تزكية الشاهد و جرحه و غير ذلك، ل

قوله (صلى الله عليه و آله)(2): «إنما أقضي بينكم بالبينات»

إلى آخره.

و قوله (عليه السلام)(3): «استخراج الحقوق»

إلى آخره و غير ذلك مما يقتضي أنه لا بد من التعدد في ثبوت كل موضوع للقضاء، و منه حينئذ الترجمة لشهادة الشاهد و دعوى المدعي أو نحو ذلك لا الترجمة من حيث كونها ترجمة و إن لم تكن في موضوع يتعلق به القضاء.


1- 1 سورة الحجرات: 49- الآية 6.
2- 2 الوسائل الباب- 2- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 4.

ج 40، ص: 109

و أما اعتبار الحرية في المترجم فقد صرح الفاضل و غيره بعدم اعتبارها فيه. و قد يشكل بأن قاعدة اليقين المزبورة تقتضي اعتبارها، بل بناء على أنها من الشهادة يتجه اعتبارها أيضا إن كانت الحرية معتبرة فيها، هذا كله في المترجم.

و أما مسمع القاضي لو كان أصم فالظاهر جريان حكم المترجم عليه، لما عرفت فان كثيرا مما ذكرنا أو جميعه جار فيه، بل الأولى فيهما إبرازهما على طرز الشهادة لا على طريق الرواية.

و من ذلك يظهر لك الحال في تنقيح هذا المبحث و إن أطنب فيه بعضهم في الأصول بعد أن حكى عن الشهيد تعريف الشهادة و الاشكال في كثير من الأفراد في أنها منها أو من الرواية، و الله العالم.

[المسألة السابعة إذا اتخذ القاضي كاتبا وجب أن يكون بالغا عاقلا مسلما عدلا]

المسألة السابعة:

إذا اتخذ القاضي كاتبا وجب أن يكون بالغا عاقلا مسلما عدلا لأنه أحد الأمناء الذين يعتبر فيهم ذلك، بل لا بد أن يكون أيضا بصيرا ليؤمن انخداعه في تغيير الكتابة و إن كان مع ذلك فقيها كان حسنا لكونه حينئذ أكمل، بل ينبغي أن يكون جيد الكتابة بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك.

لكن قد يقال: إن ثمرة الكتابة تذكر ما كان، و إلا فهي ليس من الحجة شرعا، و حينئذ فلا عبرة بشي ء من هذه الأوصاف، ضرورة أنه مع الذكر بها يجري عليها الحكم، و إلا فلا و إن كان الكاتب بالأوصاف المزبورة، نعم معها غالبا تحصل الطمأنينة التي يجري عليها الحكم.

و فيه أنها غير منحصرة فيما كان للتذكر فيه مدخلية، بل قد تكون

ج 40، ص: 110

مراسلة و أمرا و نهيا و نحو ذلك مما يكون فيه زيادة و نقيصة و تغيير و تبديل، كما يوجد الآن في الكتبة للملوك، فالمراد حينئذ إذا اتخذ القاضي كاتبا معتمدا عليه في الكتابة التي قد يشتغل عن ملاحظتها يجب أن يكون بهذه الأوصاف، فإنه أحد الأمناء.

هذا و الظاهر أن الكاتب و المترجم ارتزاقهما من بيت المال أيضا، و مع عدمه يأخذان الأجرة ممن يعملان له، و الله العالم.

[المسألة الثامنة الحاكم إن عرف عدالة الشاهدين حكم]

المسألة الثامنة:

الحاكم إن عرف عدالة الشاهدين بشاهدين عدلين لم يجرحهما الخصم أو بخلطة منه حكم، و إن عرف فسقهما كذلك أطرح لما سمعته سابقا من الاجتزاء بعلمه في ذلك أو ما يقوم مقامه شرعا.

و إن جهل الأمرين بحث عنهما بنفسه كما

يحكى(1)عن النبي (صلى الله عليه و آله) أنه كان يفعل ذلك بإرسال شخصين من قبله لا يعلم أحدهما بالآخر يسألان قبيلتهما عن حالهما فان جاءا بمدح و ثناء حكم و إن جاءا بشين ستر عليهما و دعا الخصمين إلى الصلح، و إن لم يكن لهما قبيلة سأل الخصم عنهما، فان زكاهما حكم و إلا أطرحهما.

و لعل ذلك لأن بناء العدالة التي هي شرط الحكم على البحث عنها، بل يمكن دعوى استفادة ذلك من إطلاق الأمر(2)بالحكم بالبينة العادلة، نحو البحث عن دخول الوقت للصلاة فيه، و البحث عن الماء للطهارة به، و غيرهما مما يستفاد وجوبه قبل تحقق وجوب


1- 1 الوسائل الباب- 6- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 1- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 111

المكلف به، أو أن المراد بحيث عنهما بتكليف الخصم بتزكيتهما، و على كل حال فالأمر سهل.

إنما الكلام في الحكم بشهادتهما مع تزكية الخصم لهما و إن قال: إنهما أخطئا في هذه الشهادة من أن المراد بالتزكية الاستظهار في ثبوت حقه، فيكفي إقراره، و لما سمعته من المحكي عن النبي (صلى الله عليه و آله) و من اشتراط الحكم

بعدالتهما التي لم تثبت بإقرار الخصم و رضاه بالحكم بشهادتهما لا يجدي في صحة الحكم و جريان أحكامه عليه، كما لا يجدي رضاه بالحكم بشهادة فاسقين، و لعله أقوى.

و كذا لو عرف إسلامهما بل إيمانهما أيضا و جهل عدالتهما توقف عن الحكم حتى يبحث عن ذلك ف يتحقق له ما يبني عليه من تعديل (عدالة خ ل) أو جرح لأن الإسلام و الايمان ليسا عدالة و لا طريقا شرعا للحكم بها على وجه يتحقق ما شرط بها من طلاق أو حكم أو ائتمام أو غير ذلك كما عرفت الكلام فيه بما لا مزيد عليه في بحث الجماعة(1).

و قال الشيخ في الخلاف كما عن الإسكافي و المفيد:

يحكم إما لأن الإسلام أو الإيمان مع عدم ظهور الفسق عدالة، أو لأنه يحكم بها بمجردهما أو لأن الحاصل من مجموع قوله تعالى(2):

«وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ» و قوله تعالى(3)«وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» و قوله تعالى(4)«إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» قبول


1- 1 راجع ج 13 ص 280- 290.
2- 2 سورة الطلاق: 65- الآية 2.
3- 3 سورة البقرة: 2- الآية 282.
4- 4 سورة الحجرات: 49- الآية 6.

ج 40، ص: 112

الشاهدين إذا كانا مسلمين، و أنهما لا يردان إلا إذا كانا فاسقين و لا يحمل إطلاق الثانية على الأولى لعدم حجية مفهوم الوصف، أو لأن به رواية أو روايات(1)و لكن قد عرفت في البحث المزبور أن الرواية به و إن تعددت شاذة موافقة للعامة معارضة لما هو أقوى منها من وجوه أو مأولة، بل قد ذكرنا ظهورها- بعد حمل المطلق فيها على المقيد- في خلافه، أو للإجماع المحكي في الخلاف المتبين خلافه حتى من حاكيه في المحكي من خلافه و مبسوطة.

كما أنه لا يخفى عليك ما في الكلام المزبور، ضرورة معلومية زيادة وصف العدالة على الإسلام، بل و الايمان، و ظهور الآية الأولى في الحكم الوضعي الذي هو اعتبار العدالة في القبول، و حينئذ فحمل المطلق عليه لا يحتاج إلى مفهوم الوصف كما قرر في محله، و حينئذ فعدم وجوب التبين في شهادة غير

الفاسق لا يقتضي تحقق العدالة في مجهول الحال التي هي شرط القبول إجماعا بقسميه و نصوصا يقيد بهما إطلاق مفهوم الآية لو قلنا بشموله لمحل النزاع.

و بالجملة فقد استقصينا الكلام في جميع أطراف المسألة في ذلك المبحث، و بينا ضعف القول المزبور، بل لم نتحقق القائل به لظهور من وقفنا على كلام من يحكى عنه في أصالة العدالة في المسلم الذي لم يظهر منه فسق، لا أن الإسلام عدالة، مع معلومية فساد الأصل المزبور و إن اشتهر في كلام الأصحاب أن الأصل في المسلم أن لا يخل بواجب و لا يفعل محرما، إلا أن ذلك لا يقتضي تحقق وصف العدالة به، بل المراد منه حكم تعبدي في نفسه لا فيما يترتب على ذلك لو كان واقعا كما حققناه في غير المقام.


1- 1 تقدمت الروايات في ج 13 ص 281- 283.

ج 40، ص: 113

كضعف القول بأنها ملكة نفسانية في جميع الكبائر- التي منها الإصرار على الصغائر- و فيما لا ينافي المروة، و أن التحقيق الذي تجتمع عليه الروايات(1)و عليه عمل العلماء في جميع الأعصار و الأمصار حسن الظاهر بمعنى الخلطة المطلعة على أن ما يظهر منه حسن من دون معرفة باطنه، فلاحظ و تأمل.

و كيف كان ف لو حكم الحاكم بالظاهر من العدالة على وجه يجوز الحكم به سواء كان بخلطة مطلعة أو بينة ثم تبين فسوقهما وقت الحكم المتصل زمانه بزمان إقامة شهادتهما نقض حكمه كما لو تبين فسوقهما قبل الإقامة، لتبين عدم شرط صحة الحكم في الواقع و إن جاز الاقدام بذلك الظاهر.

اللهم إلا أن يدعى أن الشرط علمي نحو العدالة في إمام الجماعة، لإطلاق ما دل(2)على نفوذ الحكم و عدم جواز رده إذا كان على نحو قضائهم (عليهم السلام) و على حسب الموازين التي نصبوها لذلك، و لا دليل على اشتراط أزيد من ذلك حتى قوله تعالى(3)«وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ» المراد منه ذوي عدل عندكم، لا أقل من الشك فيبقى ما دل على نفوذ الحكم بحاله.

لكن اتفاق كلمة الأصحاب ظاهراعلى النقض مع أصالة الواقعية في الشرائط، و لو كانت مستفادة من نحو «وَ أَشْهِدُوا» الآية(4)يرفع ذلك كله، مضافا إلى إمكان الفرق بين ما هنا و بين الجماعة بأن المدار هناك


1- 1 تقدمت هذه الروايات في ج 13 ص 291.
2- 2 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.
3- 3 سورة الطلاق: 65- الآية 2.
4- 4 سورة البقرة: 2- الآية 282.

ج 40، ص: 114

على الصلاة خلف من تثق بعدالته نصا(1)و فتوى، و ظهور الفسق فيما بعد لا ينافي الوثوق بخلاف المقام المعتبر فيه كونه عدلا. نعم لو كان الفسق طارئا بعد الحكم أو غير معلوم الحال لم ينتقض، بل لعله كذلك لو كان بعد الإقامة قبل الحكم، كما ستسمع تحقيقه إنشاء الله في كتاب الشهادات.

و على كل حال فالظاهر أن المراد نقض الحاكم حكمه فيما لو اتفق له تبين فسقهما، لا أن المراد جواز تجديد الدعوى للمحكوم عليه حكما ثابتا لو عثر بعد الحكم على من يجرحهما، ضرورة منافاة ذلك لكونه حكما و فصلا، بل و لقولهم فيما يأتي من الأنظار ثلاثة أيام لو ادعى وجود الجارح، بل و لغير ذلك، و هل البينة تبين فسق؟ ظاهر بعض العبارات ذلك و وجهه واضح.

و لو ادعى المحكوم عليه إمكان حصول العلم للحاكم بفسقهما بإقامة شياع يقتضي ذلك أو نحوه ففي وجوب سماع الحاكم ذلك منه وجه، و لكن الأقوى خلافه للأصل و غيره، فتأمل جيدا فإن المسألة غير محررة.

و لا يجوز التعويل في الشهادة بالعدالة بناء على أنها الملكة على حسن الظاهر الذي لم يعلم حصولها منه، بل لا بد من الصحبة المتأكدة التي يطلع بها على حسن الباطن، مثل الشهادة على الإعسار و نحوه مما جرت العادة فيه على اختلاف الباطن و الظاهر، فان المال قد يخفيه صاحبه كالفسق، فلا بد في الشهادة عليهما من العلم بموافقة الباطن للظاهر.

و لكن قد يناقش بأن حسن الظاهر طريق شرعي للحكم بحصولها عملا بالنصوص(2)التي استدل بها القائلون بأنها حسن الظاهر، أو لأن الملكات طنما تعرف بآثارها كالشجاعة و الكرم و نحوهما و العدالة بناء على أنها


1- 1 الوسائل الباب- 10- من أبواب صلاة الجماعة- الحديث 2 من كتاب الصلاة.
2- 2 راجع الروايات المتقدمة في ج 13 ص 291.

ج 40، ص: 115

ملكة منها، و النصوص المتضمنة حسن الظاهر من ذلك.

بل قد يقال: إن البحث في أنها حسن الظاهر أو ملكة بحث علمي مرجعه إلى أن العدالة شرعا هي ملكة يصدر عنها حسن الظاهر أو أنها عبارة عنه، و إلا فالجميع متفقون على تحققها بذلك بناء على كون مراد القائلين بحسن الظاهر هو أن جميع ما يظهر منه حسن بعد الخلطة و الصحبة المتأكدة في سره و علانيته، لا أن المراد به حسن ظاهر بعض أفعاله و أحواله التي لا يستفاد منها الحسن في جميع ما يظهر منه، فان كثيرا من المدلين كذلك، بل غالب الناس التستر في الفسق عن عامة الناس أو خواصهم، كما عساه يومئ إليه الخبر(1)المروي عن تفسير العسكري عن علي بن الحسين (عليهما السلام) و احتجاج الطبرسي عن الرضا (عليه السلام) الذي قد ذكرناه في بحث الجماعة من الكتاب(2)بل و خبر ابن أبي يعفور(3)المتقدم فيه أيضا.

و حينئذ يتحد القولان و يكون البحث علميا، و يؤيده استبعاد طرح القائلين بالملكة جميع هذه النصوص على كثرتها، فلا مناص حينئذ عن حملها على ذلك و إن كان الانصاف ظهورها في عدم التعمق في حصول حسن الظاهر الذي له أفراد متعددة، و لا ريب في عدم اعتبار أعلاها بمقتضى أكثر النصوص المزبورة، فلاحظ و تأمل.

و ينبغي أن يكون السؤال عن التزكية سرا فإنه أبعد من تطرق التهمة للمزكي بأنه زكي حياء أو وفاء أو رجاء أو خوفا كما هو المشاهد في جملة من الناس.


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صلاة الجماعة- الحديث 14 من كتاب الصلاة.
2- 2 راجع ج 13 ص 300.
3- 3 الوسائل الباب- 41- من كتاب الشهادات- الحديث 1.

ج 40، ص: 116

و تثبت العدالة بالشهادة بها مطلقة و لكن تفتقر إلى المعرفة الباطنة المتقادمة المفيدة للعلم أو الظن بحصول الملكة، و أن ما يصدر من ذلك من آثارها أو بحسن الظاهر، بمعنى أنه لا يظهر منه سرا و علانية إلا الحسن.

و لا يثبت الجرح إلا مفسرا كما عن المشهور فيه و في الأول، لعدم العسر بذكره، و لأنه ربما لا يكون جرحا عند الحاكم المشهود عنده، بخلاف تفصيل العدالة المحتاج إلى ذكر جميع الكبائر و غيره مما يتعذر أو يتعسر إحصاؤه.

و ربما أشكل ذلك بأن الاختلاف في أسباب الفسق يقتضي الاختلاف في أسباب العدالة، فإن الاختلاف مثلا في عدد الكبائر كما يوجب في بعضها ترتب الفسق على فعله يوجب في بعض آخر عدم قدحه في العدالة بدون الإصرار عليه، فيزكيه المزكي مع علمه بفعل ما لا يقدح عنده فيها، و هو قادح عند الحاكم، و من ثم قيل بوجوب التفسير فيهما كما عن ابن الجنيد.

و لعل الأقوى الاكتفاء بالإطلاق فيهما كما عن بعضهم، بل لعله يرجع إليه ما حكاه المصنف عن الخلاف بقوله و في الخلاف كما في نسخة، و في قول في أخرى و هي الأصح يثبت مطلقا أي في الجرح بناء على موافقته المشهور في العدالة، لكن لا لأن كلا من المعدل و الجارح لا بد أن يكون في نظر الحاكم عالما بسببهما و إلا لم يصلح لهما، و مع العلم لا معنى للسؤال، إذ هذا مع كونه ممنوعا قد قيل لا يتم إلا مع علم الحاكم بموافقة مذهب المزكي لمذهبه في أسباب الجرح و التعديل، بأن يكون مقلدا له أو موافقا له و لأنهما إنما يجزمان إذا علما بما عند الحاكم من أسباب العدالة و الفسق أو بالعدالة أو الفسق عند الكل، لوضوح منعه أيضا، بل لما هو المعلوم من طريقة الشرع من حمل عبارة الشاهد

ج 40، ص: 117

على الواقع و إن اختلف الاجتهاد في تشخيصه.

و من هنا لا يجب سؤاله عن سبب التملك مع الشهادة به و كذا التطهير و التنجيس و غيرها و إن كانت هي أيضا مختلفة في الاجتهاد، بل يحمل قول الشاهد على الواقع كما يحمل فعله على الصحيح في نفس الأمر لا في حق الفاعل خاصة، و ما العدالة و الفسق إلا من هذا القبيل، اللهم إلا أن يقال: إن الاختلاف فيهما في معناهما، بخلاف الملك و التطهير و التنجيس و نحوها، فإنه اختلاف في أسبابها، لكنه كما ترى.

و من ذلك يعلم ضعف القول بالتفصيل فيهما فضلا عن العكس بمعنى وجوب التفصيل في العدالة، و عن القول بأن المزكي و الجارح إن كانا عالمين بأسبابهما كفى إطلاقهما و إلا وجب ذكر السبب فيهما، و التحقيق ما عرفت.

نعم لا بد في التزكية من إبرازها بعنوان الشهادة و لو بدلالة قرائن الأحوال، و لا يجب لفظ «أشهد» و إن أوهمته عبارة الفاضل في القواعد، إلا أن الظاهر إرادته ما ذكرنا في مقابل ذكرها بعنوان الاخبار لا الشهادة.

كما أنه لا بد فيها من تشخيص المزكي على وجه يرتفع الاشتراك المقتضي للإجمال، بل في القواعد لا بد فيها أيضا من ضم «مقبول الشهادة» إلى قوله: «عدل» إذ رب عدل لا تقبل شهادته، لغلبة الغفلة عليه، بل عن المختصر الأحمدي «لا بد أن يقول: عدل مقبول الشهادة علي ولي، لأن الوصف بالعدالة و الصدق و قبول الشهادة إنما يقتضي ثبوت الصفة في الجملة، فربما تثبت في شي ء دون شي ء» و عن التحرير «يجب على المزكي أن يقول: أشهد أنه عدل مقبول الشهادة أو هو عدل لي و علي، بمعنى الاكتفاء بأحدهما، لأنه لا تتعلق الصلتان بالعدل إلا بتضمين معنى الشهادة، فيتحد حينئذ مؤداهما و يكفي أحدهما» و نسبه في المسالك إلى أكثر المتأخرين.

و فيه أن العدالة وصف خاص متحد في جميع ما اعتبرت فيه،

ج 40، ص: 118

فلا تبعيض حينئذ فيها، و على تقديره فقوله: «علي ولي» لا يقتضي العدالة المطلقة، كقول القائل: «فلان صادق علي ولي» الذي لا يقتضي صدقه في كل شي ء، على أن الوصف بمقبول الشهادة يغني عن ذكر العدالة، لأنه أخص. و من هنا قال في المسالك: «الأقوى الاجتزاء به و إن كان إضافة العدالة معه آكد».

و ربما علل بعضهم إضافة «لي و علي» بأن الغرض منه أن يبين أنه ليس بولد بناء على أن شهادة الولد على والده غير مقبولة، و ضعفه في المسالك بأنه «قد اعتبره من علم أنه ليس ولده، و مع تسليم عدم قبول شهادة الولد على والده لا يدل قوله: «عدل علي ولي» على أنه ليس بولد، لأن العدل عدل على أبيه و له، إلا أنه لا تقبل شهادته عليه بمعنى أنه خارج(1)و بتقدير أن يراد به نفي النبوة، فالمعتبر أن لا يكون هناك ذلك الوصف، أما أن يتعرض إلى نفيه لفظا فلا، كما أن الشاهد على غيره ينبغي أن لا يكون كذلك، و لا يجب أن يقول لست بابن، و بتقدير أن يكون الغرض بيان أنه ليس بابن، فهذا الغرض يحصل بقوله: علي».

قلت: قد يقوى في النظر عدم اعتبار أزيد من الشهادة بأنه عدل، لإطلاق ما دل على وجوب الحكم بشهادتهما و أنها سبب في ذلك و مقتض له على نحو باقي الأسباب الشرعية التي يترتب عليها مقتضاها ما لم يتحقق المانع الذي يكفي في نفيه أصل العدم أو ظاهر الدليل المزبور و نحو ذلك، و حينئذ فلا يحتاج الحكم بشهادتهما إلى شهادة كونهما مقبولي الشهادة، بمعنى أنهما مجردان من موانع

القبول كالولدية و الخصومة و جر النفع و المغفلية و نحو ذلك، ضرورة كونها أجمع جارية مجرى الموانع، فإذا ادعى الخصم أحدها طولب بإثباته نحو دعوى الجرح، و مع العجز عنه حكم الحاكم بشهادة


1- 1 و في المسالك« لا تقبل شهادته عليه بأمر خارج».

ج 40، ص: 119

العدلين التي قد عرفت ظهور قوله تعالى(1)«وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ» و غيره في كونه سببا لذلك، بل ظاهر الأدلة جريانها مجرى الأسباب و المقتضيات و جريان تلك مجرى الموانع كما أومأنا إليه، لا أنها من العام و الخاص حتى يأتي الإشكال في الفرد المشكوك منها.

كل ذلك مضافا إلى عدم وضوح دلالة قول المزكى: «علي ولي» في نفي كون الشاهد ولدا للمدعى عليه، كعدم وضوح اعتبار ما يعتبر في قبول الشاهد في المزكي من عدم الولدية للمدعى عليه، بناء على عدم قبول شهادته على أبيه و عدم العداوة بينه و بينه أيضا، باعتبار عدم عموم في دليل المنع لمثل ذلك، بل لعل المنساق منه الشهادة بالحق نفسه لا التزكية، نعم لعله كذلك بالنسبة إلى جر النفع، كما إذا كان شريكا للمدعي في المال المدعى به، فإنه لا تقبل تزكيته للشاهد كالمدعي نفسه.

و ما في القواعد- من أنه يعتبر في المزكي صفات الشاهد- يراد به نحو العدالة و التعدد و نحو ذلك، لا ما يشمل الفرض، فما عساه يوهمه بعض العبارات من اعتبار نحو ذلك على الوجه الذي ذكرناه لا يخلو من نظر أو منع، نحو ما قيل من احتمال وجوب تعيين الخصمين حين الاستزكاء.

بل في المسالك «يشترط في المزكي أن يعرف نسب الشاهد و المتداعيين، لجواز أن يكون بينه و بين المدعي شركة، أو بينه و بين المدعى عليه عداوة» إذ ذلك كله كما ترى، و كذا غير ذلك مما هو مذكور في كلماتهم، فلاحظ و تأمل.

و كيف كان ف لا يحتاج الجرح إلى تقادم المعرفة بخلاف العدالة و لو قلنا بأنها حسن الظاهر، ضرورة أنه يكفي العلم بموجب الجرح من زنا أو لواط أو نحو ذلك مما يحصل بالمعاينة


1- 1 سورة الطلاق: 65- الآية 6.

ج 40، ص: 120

و نحوها من غير تقادم معرفة، كما هو واضح.

و لو اختلف الشهود بالجرح و التعديل قدم الجرح، لأن الشهادة ب ه غالبا تكون شهادة بما يخفى عن الآخرين المعدلين الذين مبنى شهادتهما غالبا بعد الخلطة و الممارسة على أصل عدم وقوع المعصية منه و ظن ذلك بسبب حصول الملكة عنده و لو ملكة حسن الظاهر، و هما معا غير معارضين لشهادة العدلين بوقوع ذلك منه.

و حينئذ فمع الإطلاق بالعدالة و الفسق يقوى الظن ببينة الجرح، لمكان الغلبة المزبورة فضلا عن صورة التصريح فيهما على وجه يمكن صدقهما معا، بأن قال المعدل: «خالطته و مارسته فوجدته ذا ملكة، و لا أعلم صدور كبيرة منه بعد ذلك» و قال الجارح: «قد وقعت منه يوم كذا مثلا» فان بينة الجرح لا معارض لها حينئذ، بل لو كانت بينة العدالة كذلك أيضا بأن قالت: «نعم وقعت منه المعصية يوم كذا، و لكن تاب و ندم، و مارسته و خالطته بعد ذلك فوجدته ذا ملكة بعدها، و لم يصدر منه ما ينافيها» قدمت هي، لعدم المعارض. و بالجملة كل بينة منهما شهدت بما خفي عن الآخرين كانت هي المقدمة، لعدم المعارض لها.

إنما الكلام في صورة الإطلاق، كأن قالت إحداهما: «هو عدل» و الأخرى: «هو فاسق» و في صورة التصريح بالتضاد، بأن شهد المعدل بأنه كان في ذلك الوقت الذي شهد الجارح بفعل المعصية فيه في غير ذلك المكان الذي عينه للمعصية أو مشتغلا بفعل يضاده الجارح إما طاعة أو مباحا أو نائما و نحو ذلك و هي التي أشار إليها المصنف بقوله و لو تعارضت البينتان في الجرح و التعديل قال في الخلاف: وقف الحاكم لعدم المرجح و لو قيل: يعمل على الجرح كان حسنا لاعتضاد بينته بأصالة عدم حصول سبب الحكم، فيبقى المنكر مثلا حينئذ على حجته

ج 40، ص: 121

بلا معارض، ضرورة عدم الفرق في العمل بين الجرح الثابت و بين عدم ثبوت العدالة.

و في بعض نسخ المتن: «و لو اختلف الشهود في الجرح و التعديل قال في الخلاف توقف الحاكم و لو قيل يعمل على الجرح كان حسنا» و هو الذي شرحها في المسالك، و لذا قال فيها بعد أن حكى عن الشيخ ذلك:

«و هو يتم مع عدم إمكان الجمع، كما لو تكاذبا، أما مع الإطلاق فلا وجه للتوقف، لعدم التعارض».

و فيه أن التعارض في صورة إطلاق العدالة و الفسق متحقق، إذ كما يحتمل اطلاع الجارح على ما خفي على المعدل يمكن اطلاع المعدل و لو بتجدد التوبة على ما خفي على الجارح، نعم قد يقوى الظن بالأول للغلبة المزبورة، و مع فرض عدم اعتبارها فالعمل على بينة الجرح، لكن على الوجه الذي سمعته لا على جهة الحكم بفسقه تقديما لبينته، ضرورة عدم المرجح لها غير ما عرفت، فمع فرض عدم اعتباره فليس حينئذ إلا الوقف عن الحكم بمقتضاهما، و هو عين العمل بالوجه الذي ذكرناه، بل لعل الشيخ لا ينكره و إن عبر بالوقف إلا أن المراد ما ذكرناه.

أو يقال: إن المراد الوقف عن الحكم أصلا حتى بيمين المنكر الذي لم يعلم حجيته في هذا الحال، باعتبار وجود بينة المدعي و إن كان لا عمل عليها باعتبار معارضتها ببينة الجرح، و حينئذ فيكون ميزان الحكم مجهولا لانسياق الأدلة في غير الفرض فيرجع إلى الصلح أو غيره، فتأمل.

و قد يقال أيضا: إن هذا كله مع فرض عدم أمر سابق يمكن استصحابه من عدالة أو فسق و إلا حكم به.

و احتمل في كشف اللثام تقديم التعديل على الجرح للأصل مع الخلو عن ظهور المعارض، و هو جيد فيما يرجع إلى ما ذكرناه لا مطلقا.

ج 40، ص: 122

و بذلك بان لك الحال في جميع صور المسألة كما بان لك التشويش في جملة من كلام الأصحاب، و الله العالم.

[المسألة التاسعة لا بأس بتفريق الشهود]

المسألة التاسعة:

لا بأس بتفريق الشهود و استقصاء سؤال كل واحد منهم من دون علم الآخر عن مشخصات القضية بالزمان و المكان و غيرهما، ليستدل على صدقهم باتفاق كلمتهم و عدمه باختلافهم، للأصل و زيادة التثبت.

بل الظاهر أنه يستحب ذلك في من لا قوة عقل عنده بحيث يخشى من غلطه أو تدليس الأمر عليه و كذا غير ذلك مما تحصل منه الريبة في الشهادة، كما فعله دانيال (ع) في شهود على امرأة بالزنا فعرف منه كذبهم(1)و كذا داود (ع)(2)لقوله تعالى(3):

«فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» و إن قلنا بنسخ شرائعهم بشريعتنا، إذ هو لا ينافي الأمر فيها ببعض ما كان عندهم، إذ المسلم منعه التعبد بشرعهم من حيث إنه مشروع عندهم لا مطلقا.

على أن المروي(4)عن أمير المؤمنين (عليه السلام) نحو ذلك أيضا في سبعة خرجوا في سفر ففقد واحد منهم فجاءت امرأته إلى علي (عليه السلام) و ذكرت ذلك له، فاستدعاهم و سألهم فأنكروا، ففرقهم


1- 1 الكافي 7 ص 426- 427.
2- 2 الكافي ج 7 ص 372.
3- 3 سورة الأنعام: 6- الآية 90.
4- 4 الوسائل الباب- 20- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1 و فيه « ان شابا قال لأمير المؤمنين عليه السلام: إن هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في السفر فرجعوا و لم يرجع أبي.».

ج 40، ص: 123

و أقام كل واحد منهم إلى سارية، و وكل به من يحفظه، ثم استدعى واحدا منهم و سأله فأنكر، فقال (عليه السلام): الله أكبر، فسمعه الباقون، فظنوا أنه قد اعترف، فاستدعى واحدا بعد واحد فاعترفوا بقتله، فقتلهم علي (عليه السلام).

بل منه يستفاد عدم اختصاص التفريق بالشهود، و أن للحاكم التوصل إلى معرفة الحق بما يراه في ذلك الوقت مما لا ينافي الشرع.

نعم قد يقال: باختصاص جواز التفريق قبل ثبوت العدالة و طلب المدعي الحكم و إلا أشكل الجواز بظهور النصوص في وجوب الحكم حينئذ، و لذا قال في المسالك: «و محل التفريق قبل الاستزكاء إن احتيج إليه» بل ظاهره حتى مع الريبة، لعدم ثبوت مانعيتها عن الوزن بالميزان الشرعي الموضوع للوزن به بين الناس.

اللهم إلا أن يستفاد من تلك الأدلة عدم الوجوب مع الريبة و إن طلب الخصم حتى ييأس مما يزيلها من نحو ذلك، و حينئذ يحكم معها لإطلاق الأدلة، بل ربما توقف بعضهم من الحكم معها تنزيلا للإطلاق المزبور على غير الفرض، لكنه كما ترى.

و مما ذكرنا يعلم ما في إطلاق المصنف جواز التفريق الذي يمكن تنزيله على إرادة جوازه من حيث كونه كذلك لا مع حصول سبب وجوب الحكم، أو على إرادة جوازه في أصل سماع شهادتهم لأنه أحد الأفراد، و فيه زيادة استظهار، و الله العالم.

ج 40، ص: 124

[المسألة العاشرة لا يشهد الشاهدان بالجرح إلا مع المشاهدة لفعل ما يقدح في العدالة]

المسألة العاشرة لا يشهد الشاهدان بالجرح إلا مع المشاهدة لفعل ما يقدح في العدالة أو أن يشيع ذلك في الناس شياعا موجبا للعلم للتواتر أو غيره مما يحصل به القطع، بخلاف العدالة التي يكفي فيها غلبة الظن بسبب الخلطة و الممارسة المقتضية لذلك، لأنها الطريق إلى أمثالها أو لظهور النصوص(1)في الاكتفاء بنحو ذلك، و إلا لم يكن التعديل إلا للمعصوم (عليه السلام) كما أومى إليه في بعض النصوص(2).

و حينئذ ف لا يعول على سماع ذلك أي الجرح من الواحد و العشرة من حيث كونهم كذلك لعدم اليقين بخبرهم أما لو حصل و لو لشدة عدالتهم و ضبطهم و تحرزهم فلا ريب في الاكتفاء به لأنه المدار.

نعم في المسالك «إن لم يبلغ المخبرون حد العلم لكنه استفاض و انتشر حتى قارب العلم ففي جواز الجرح به وجهان، من أنه ظن في الجملة و قد نهى الله عن أتباعه إلا ما استثنى، و من أن ذلك ربما كان أقوى من البينة المدعية للمعاينة، كما مر في نظائره».

و فيه ما لا يخفى بعد فرض عدم حصول مرتبة العلم، و عدم الدليل على الاكتفاء بمثله، و حرمة القياس على البينة التي مبناها التعبد، و من هنا كان ظاهر المصنف و غيره اشتراط العلم.

و على كل حال فليس له الشهادة بالجرح بخبر الواحد و ما فوقه إذا لم يبلغ ذلك الحد إجماعا كما في المسالك قال: «نعم له أن يشهد على


1- 1 الوسائل الباب- 41- من أبواب كيفية الحكم.
2- 2 الوسائل الباب- 41- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 13.

ج 40، ص: 125

شهادتهم بشرط الشهادة على الشهادة».

قلت: قد يتوهم أنه لولا الإجماع المزبور لأمكن القول بالاكتفاء في الشهادة به و بغيره بالبينة عنده، بناء على عموم حجيتها شرعا لكل أحد، ضرورة كونها حينئذ طريقا شرعيا كالشهادة بمقتضى الاستصحاب و اليد و نحوها مما جعله الشارع أمارة على ذلك، و كذا حكم الحاكم بالعدالة أو الفسق، فان له ذلك كما صرح به في القواعد، بل الظاهر اكتفاء الحاكم الآخر باخبار الأول من دون شهادة آخر.

لكن يدفعه اعتبار العلم في الشاهد على وجه لا يقوم مقامه الحجة شرعا، بل لو أبرز ذلك على وجه الشهادة كان مدلسا، بخلافه في نحو الملك باليد الدالة عليه باعتبار أن الشهادة به شرعا و عرفا بنحو ذلك، و كذا الكلام في حكم الحاكم بل هو أولى، لأنه إلزام بحكم الموضوع لا أنه من طرق ثبوته.

و الموجود هنا في القواعد أنه «له- أي الحاكم- أن يحكم بالعدالة و الجرح بشهادة عدلين إن نصب حاكما في التعديل» و في الكشف «و الجرح، و لا يشترط المعاينة أو الشياع الموجب للعلم، و يشترط في القاضي، فإذا أخبر حاكما آخر بعدالته أو فسقه اكتفى به، و لم يشترط شهادة آخر» و هو غير ما نحن فيه، و إن كان ما في المتن و الشرح لا يخلو من بحث من وجوه.

كما أن ما في القواعد أيضا من أنه «لو أقام المدعى عليه بينة أن هذين الشاهدين شهدا بهذا الحق عند حاكم فرد شهادتهما لفسقهما بطلت شهادتهما» كذلك أيضا و إن قال في كشف اللثام: «فهما شاهدا فرع على الحاكم».

ثم إن المراد بمشاهدة فعل ما يقدح في العدالة حصول العلم بكونه

ج 40، ص: 126

على الوجه المحرم و إلا لم يشهد به، ضرورة أعمية شرب الخمر مثلا من ذلك، و دعوى أن للأفعال ظهورا يجب الأخذ به كالأقوال واضحة المنع، فان الفعل من حيث هو كذلك لا ظهور فيه، و إنما يحصل معه بعض المقارنات المقتضية لكونه كذلك، فهي إن أفادت العلم جرى عليه الحكم، و إلا كان من الظن الذي لا دليل على حجيته بل الدليل على خلافه، نعم لا عبرة بالاحتمال الذي لا يعتد به و لا ينافي القطع في العادة، كما هو واضح، و الله العالم.

[المسألة الحادية عشرة لو ثبت عدالة الشاهد حكم باستمرار عدالته حتى يتبين ما ينافيها]

المسألة الحادية عشرة:

لو ثبت عدالة الشاهد مثلا حكم باستمرار عدالته حتى يتبين ما ينافيها لقاعدة اليقين و قيل و إن كنا لم نتحقق القائل بذلك منا إن مضت مدة يمكن تغير حال الشاهد فيها استأنف البحث عنه نعم هو محكي عن بعض العامة لبعض الاعتبارات و لكن لا حد لذلك، بل بحسب ما يراه الحاكم و عن المبسوط عن بعضهم تحديده بستة أشهر، و لا يخفى عليك ضعف الجميع.

[المسألة الثانية عشرة ينبغي أن يجمع قضايا كل أسبوع و وثائقه و حججه]

المسألة الثانية عشرة:

ينبغي أن يجمع قضايا كل أسبوع و وثائقه و حججه التي للغير عنده و يكتب عليها قضاء أسبوع كذا من شهر كذا من سنة كذا و محضر فلان و سجل فلان و وثيقة فلان، بل ينبغي جمع قضاء كل يوم، و يكتب عليه: قضاء يوم كذا من أسبوع كذا.

ج 40، ص: 127

و على كل حال فإذا اجتمع ما لشهر كتب عليه: قضاء شهر كذا، فإذا اجتمع ما لسنة جمعه و كتب عليه: قضاء سنة كذا كل ذلك لتسهيل إخراج المطلوب منه له و لمن بعده من الحكام من ديوان الحكم، و كان ينبغي ذكر ذلك في الآداب، خصوصا مع عدم دليل له سوى ما عرفته فيها و سوى ما في

خبر عقبة بن خالد(1)عن أبي عبد الله (عليه السلام) المشتمل على قضية مع غيلان بن جامع و فيه «قلت:

و كيف تقضي يا غيلان؟ قال: أكتب هذا ما قضى به فلان بن فلان لفلان بن فلان يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ثم أطرحه في الدواوين، قال: قلت: هذا الحتم من القضاء»

[المسألة الثالثة عشرة كل موضع وجب على الحاكم كتابة المحضر]

المسألة الثالثة عشرة:

كل موضع وجب على الحاكم كتابة المحضر ف لا يجب عليه مقدماته لكن إن حمل له من بيت المال ما يصرفه في ذلك لأنه من أهم مصالح السياسة وجب عليه الكتابة؛ و كذا إن أحضر الملتمس ذلك من خاصته و إلا ف لا يجب على الحاكم دفع القرطاس و المداد و القلم و نحو ذلك من خاصته لعدم ثبوت الوجوب المطلق المقتضي لذلك، بل لا دليل على الوجوب مع البذل أيضا و إن نسبه في المسالك إلى الأشهر تارة و إلى المعروف بين الأصحاب أخرى، معللا له بأن ذلك حجة فكان عليه إقامتها كالحكم، و كما لو أقر له بالحق و سأله الإشهاد على إقراره إلا أنه كما ترى، ضرورة أن الحجة حكمه و الاشهاد عليه لا كتابة الحكم، بل و كذا كتابة الاشهاد على الإقرار.


1- 1 الكافي ج 7 ص 429.

ج 40، ص: 128

و قوله تعالى(1)«وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ» مع أنه في غير ما نحن فيه محمول على ضرب من الكراهة، للقطع بعدم وجوب ذلك، نعم هو راجح من حيث كونه قضاء حاجة و ضبطا للحق و إقامة للمعروف.

بل ينبغي أن يكتب نسختين: إحداهما تكون في يد الملتمس و الأخرى تبقى في ديوان الحكم لتنوب عن الأخرى على تقدير تلفها، و ليؤمن من تغييرها، بل في المسالك وجوب كتابة النسختين على تقدير القول بوجوب أصل الكتابة، و لكن قد عرفت ما في الأصل فضلا عن الفرع، اللهم إلا أن يكون منصوبا من قبل الامام

(عليه السلام) لذلك على وجه يرتزق من بيت المال، فان الوجوب عليه متجه حينئذ، و الله العالم.

[المسألة الرابعة عشرة يكره للحاكم أن يعنت الشهود]

المسألة الرابعة عشرة:

يكره للحاكم أن يعنت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر و الأذهان القوية(2)مثل أن يفرق بينهم و يكلفهم ما يثقل عليهم من المبالغة في مشخصات القضية التي شهدوا بها، و وعظهم و تحذيرهم عقاب شهادة الزور لأن في ذلك نوع غضاضة لهم و امتهان و إن كان لا يصل إلى حد الحرمة.

نعم يستحب ذلك في موضع الريبة و لو لضعف بصيرة الشاهد و ذهنه للاستظهار، كما عرفته سابقا.


1- 1 سورة البقرة: 2- الآية 282.
2- 2 و في الشرائع الموجود عندي« الأديان القوية».

ج 40، ص: 129

[المسألة الخامسة عشرة لا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد و هو أن يداخله في أثناء التلفظ بالشهادة]

المسألة الخامسة عشرة لا يجوز للحاكم بلا خلاف أجده فيه أن يتعتع الشاهد و هو أن يداخله في أثناء التلفظ بالشهادة بكلام يجعله ذريعة إلى أن ينطق به و يعدل عما كان يريده هداية له إلى شي ء ينفع أو إيقاعا له فيما يضر أو يعقبه بكلام ليجعله تتمة شهادته، و ليستدرجه إليه بحيث تصير به الشهادة مسموعة أو مردودة.

بل يجب عليه أن يكف عنه حتى ينتهي ما عنده و يحكم بمقتضاه حينئذ و إن كان يتردد و يتلعثم في شهادته لهيبة الحاكم و مجلس الحكومة أو غيرهما، بل في المسالك حرمة ذلك عليه سواء كان الشاهد يأتي بما داخله به و تعقبه لولاه أم لا، و هو كذلك بناء على اعتبار القصد المزبور بالتعتعة، بل لا فرق بين الحاكم و غيره عدا الخصم فيه، لما فيه من تضييع الحق و ترويج الباطل و نحوهما مما هو معلوم الحرمة لغير الحاكم فضلا عنه، أما إذا لم يكن كذلك بل كان من الإعانة على إبراز مقصده و نحو ذلك فيشكل حرمته، للأصل و غيره.

و كيف كان ف لو تردد الشاهد في الشهادة (11) لأمر قد عرض له لم يجز ترغيبه في الاقدام على الإقامة و (12) إغراؤه بذلك، كما لا (13) يجوز له تزهيده في إقامتها (14) و ترديده بها بعد فرض جزمه بالمشهود به، لما فيه من الأمر بالمنكر و النهي عن المعروف.

و كذا لا يجوز إيقاف عزم الغريم عن الإقرار (15) بالحق لأنه ظلم لغريمه و (16) لكن يجوز ذلك في حقوق الله، فان الرسول (صلى الله عليه و آله) قال لما عز عند اعترافه بالزنا: لعلك قبلتها، لعلك

ج 40، ص: 130

لمستها في الخبر(1)المشهور و هو تعريض منه بإيثار الاستتار و حمل له على عدم الإتمام بتكرار الإقرار أربع مرات، كل ذلك من الرأفة بعباده و رحمتهم، و لذا درأ عنهم حدوده بالشبهات(2).

[المسألة السادسة عشرة يكره أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه]

المسألة السادسة عشرة:

يكره أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه لما فيه من ترجيحه على الآخر و تطرق التهمة و الميل، و قد

روي(3)«أن أمير المؤمنين (عليه السلام) نزل به ضيف فمكث عنده أياما ثم تقدم إليه في خصومة لم يذكرها له، فقال له: أخصم أنت؟ قال: نعم، قال: تحول عنا، لأن رسول الله نهى أن يضاف الخصم إلا و معه خصمه»

بل الظاهر مرجوحية حضور ضيافة الخصم مطلقا، بل و كل ما يقتضي ترجيحه على خصمه، و الله العالم.


1- 1 سنن البيهقي ج 8 ص 226.
2- 2 إشارة الى ما رواه في الوسائل الباب- 24- من أبواب مقدمات الحدود- الحديث من كتاب الحدود.
3- 3 الوسائل الباب- 3- من أبواب آداب القاضي- الحديث 2.

ج 40، ص: 131

[المسألة السابعة عشرة الرشوة حرام على آخذها و يأثم الدافع لها إن توصل بها إلى الحكم له بالباطل]

المسألة السابعة عشرة:

الرشوة مثلثة حرام على آخذها إجماعا بقسميه و نصوصا(1)بل في المسالك اتفق المسلمون على تحريم الرشوة على القاضي و العامل.

و كذا يأثم الدافع لها إن توصل بها إلى الحكم له بالباطل للإعانة على الإثم و لأن

النبي (صلى الله عليه و آله) لعن الراشي و المرتشي(2)

نعم لو كان توصل بها إلى حق قد توقف على ذلك لم يأثم هو و اختص الإثم بالآخذ، بل ظاهر المصنف و الفاضل جواز ذلك و إن لم يتوقف، و لعله كذلك إذا لم يعلم الحال مع معروفية مدخلية الرشوة في ذلك عند قضاة العامة و عمالهم.

و على كل حال يجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها لبقائها على ملكه، حتى لو وقعت في ضمن عقد هبة أو بيع محاباة أو وقف، فإنه بناء على أن نحو ذلك من أفراد الرشاء لا ريب في فساد العقود المزبورة، نحو ما كان منها إعانة على الإثم، ترجيحا لأدلة فسادها على ما يقتضي صحتها، بل النهي فيها عن نفس المعاملة، بل لعل ذلك هو مبنى فساد الرشوة التي هي غالبا تكون بعنوان الهبة رشوة.

كما أن منه يتضح الأمر في الهدية أيضا، ضرورة أنه متى كانت أيضا رشوة لحقها حكم الهبة رشوة حرمة و فسادا، أما إذا لم تكن رشوة و لا متوصلا


1- 1 الوسائل الباب- 8- من أبواب آداب القاضي و الباب- 5- من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة.
2- 2 المستدرك الباب- 8- من أبواب آداب القاضي- الحديث 8.

ج 40، ص: 132

بها إلى باطل أو جزاء عليه فلا ريب في حليتها، و إطلاق النصوص(1)أن هدايا العمال غلول و سحت و نحو ذلك يمكن إرادة المدفوعة لهم دفعا للباطل و نحوه منهم منه، و هو شي ء آخر غير الرشوة التي هي محرمة و إن كانت للحكم بالحق

على الأصح و دليله ما يستفاد من خبر تحف العقول(2)و غيره مما تقدم في المكاسب(3)كما يمكن إرادة بيان حرمة استيثار العمال بها، بل مرجعها إلى بيت مال المسلمين، لأنه من توابع عمل المسلمين.

و هو المراد حينئذ من

خبر أبي حميد الساعدي(4)«استعمل النبي (صلى الله عليه و آله) رجلا من الأسد يقال له أبو الليثة على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم و هذا أهدي لي، فقام النبي (صلى الله عليه و آله) على المنبر، فقال: ما بال العامل نبعثه على أعمالنا يقول: هذا لكم و هذا أهدي لي، فهلا جلس في قلب بيت أمه و أبيه ينظر أ يهدى له أم لا، و الذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تنفر، ثم رفع يده حتى رأينا عفرة إبطه، و قال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟»

و ليس المراد منه حرمة الهدية في نفسها مع أنه هو (صلى الله عليه و آله) أمر بالتهادي للتحاب و التواد(5)و لا زال (ص) يقبل الهدية، حتى

قال(6): «لو أهدي إلى كراع لقبلته».


1- 1 الوسائل الباب- 8- من أبواب آداب القاضي- الحديث 6 و الباب- 5- من أبواب ما يكتسب به الحديث 12 من كتاب التجارة و سنن البيهقي ج 10 ص 138.
2- 2 الوسائل الباب- 2- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 1 من كتاب التجارة.
3- 3 راجع ج 22 ص 145- 149.
4- 4 سنن البيهقي ج 4 ص 158.
5- 5 الوسائل الباب- 88- من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة.
6- 6 الوسائل الباب- 88- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 13 من كتاب التجارة.

ج 40، ص: 133

فالتحقيق حينئذ ما عرفت من حرمة الهدية رشوة كالهبة رشوة و حينئذ يكون الرشاء أعم من كل من هذه العقود من وجه نحو الإعانة على الإثم، فتأمل جيدا كي تعرف ما في المسالك و غيرها من حرمة الهدية للقاضي و العامل ممن لم تكن عادته الهدية له قبل ذلك أو كانت للقاضي من أحد الخصمين، بل و غير ذلك من المباحث.

و كيف كان ف لو تلفت أي الرشوة قبل وصولها إليه ضمنها له

لعموم «على اليد»(1)

و غيره مما تقدم الكلام فيه و في جميع ما يتعلق بالمسألة موضوعا و حكما في المكاسب(2)فلاحظ و تدبر ليظهر لك الحال في كثير من مباحث المقام حتى الإشكال في الضمان مع التلف، خصوصا إذا كانت الرشوة من الأعمال التي تبرع بها الراشي و نحوه مما لا يد فيه للمرتشي و لا أمر بالعمل، و حتى فيما ذكره بعض من حرمة ما يقع من المدعي من الأعمال لأجل الحكم و إن لم يدخل ذلك تحت الرشوة في الاسم و لكن يدخل في الحكم، ضرورة عدم الدليل على الحرمة المنافية للأصل و غيره بعد عدم الاندراج في اسم الرشوة أو غيره مما هو عنوان للحرمة كالمتوصل به إلى الباطل و نحوه، أما إذا كان وصلة إلى الحق فلا بأس به بعد أن لم يكن رشوة كما هو الفرض.

هذا و قد يقال: باختصاص الرشوة فيما بذل للقاضي على الحكم و لو بحق و للعامل على الباطل، أما الثاني فللإجماع المحكي في المسالك، و أما الأول فلظاهر النصوص(3)و ما في بعضها من الإطلاق كالنبوي(4)الذي


1- 1 المستدرك الباب- 1- من كتاب الغصب- الحديث 4 و سنن البيهقي ج 6 ص 95.
2- 2 راجع ج 22 ص 149.
3- 3 الوسائل الباب- 8- من أبواب آداب القاضي.
4- 4 المستدرك- الباب- 8- من أبواب آداب القاضي الحديث 8.

ج 40، ص: 134

لا ينافيه القيد في آخر غير جامع لشرائط الحجية في الخروج عن أصل البراءة و نحوه، و الله العالم.

[المسألة الثامنة عشرة إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم أحضره]

المسألة الثامنة عشرة:

إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم و استعدى الحاكم عليه أعداه و أحضره مع الإمكان إذا كان حاضرا بلا خلاف أجده فيه، بل في المسالك نسبته إلى علمائنا و أكثر العامة، و كذا عن ظاهر المبسوط الإجماع عليه، لتعلق حق الدعوى به، و لاقتضاء منصبه ذلك سواء حرر المدعي دعواه أم لم يحررها و سواء كان من أهل المروات أم لا، و نحوها و لو كان قاضيا معزولا(1)و سواء علم الحاكم بينهما معاملة أم لا، خلافا لبعض العامة و المحكي عن الإسكافي منا،

فلم يوجبوا إحضار ذوي المروات و الشرف مجلس الحكم، و عن بعض أنه يستدعيه إلى منزله، و لا ريب في ضعفه، لإطلاق الأدلة و غيره و إن كان الأولى التحرز في إحضار ذوي الشرف و خصوصا القاضي المعزول و نحوه.

ثم الإحضار قد يكون بختم يدفعه إلى المدعي ليعرضه عليه مكتوب فيه «أجب القاضي» و قد يكون بمحضر من الأعوان.


1- 1 الموجود في النسخة الأصلية ابتداء هكذا« و سواء كان من أهل المروات أم لا» ثم أضيف في الهامش بعد قوله:« أم لا» قوله:« و نحوها و لو قاضيا معزولا» فصارت العبارة مشوشة: و لو كان ما في الهامش خارجا بعد قوله:« المروات» كان أولى، حيث تكون العبارة هكذا« و سواء كان من أهل المروات- و نحوها و لو قاضيا معزولا- أم لا».

ج 40، ص: 135

و يكون مئونته على الطالب إن لم يرزق من بيت المال، بل إن كان امتناعه عصيانا استعان بأعوان السلطان و عزره بما يراه، بل في المسالك «في كون مئونة المحضر- و الحال هذه- على المطلوب لامتناعه أو على المدعى وجهان» و إن كان فيه ما لا يخفى، بل في أصل وجوب المئونة فيه و في الأول إذا لم تندرج تحت سبب من الأسباب الشرعية نظر، إذ لا دليل عليها هنا بالخصوص على وجه يحكم بوجوبها و إن لم تندرج في معاملة الإجارة أو الجعالة أو نحوهما مما يتوقف على التراضي كما هو واضح.

و كذا النظر فيما ذكر هنا أيضا من أنه «إن استخفى بعث من ينادي على بابه أنه إن لم يحضر إلى ثلاث سمرت داره أو ختم عليها، فإن لم يحضر بعد الثلاث و سأل المدعي السمر أو الختم أجابه إليه» إذ لم نجد له دليلا بالخصوص و إنما هو أحد أفراد التعزير التي هي للحاكم.

و في القواعد «فان لم يحضر بعد الختم بعث الحاكم من ينادي إن لم يحضر أقام عنه وكيلا و حكم عليه، فان لم يحضر فعل ذلك و حكم عليه و إن لم يحكم عليه حال الغيبة ابتداء» و لعله لأن الحاكم ولي الممتنع فيما امتنع منه الذي منه التوكيل هنا، بل مقتضى إطلاقه رد اليمين من الوكيل على المدعي مع عدم البينة، بناء على أن له التوكيل على ذلك، فتأمل جيدا.

و إن كان عدم حضوره لعذر كالمرض و نحوه لم يكلف به، و لكن إذا أمكن الجمع بينه و بين حق المستعدي بتوكيل وكيل عنه و إرسال من يحلفه إن ترتب عليه اليمين أو إرسال من يحكم بينهما فعله، و إلا فلا، بل للمستعدى عليه التوكيل مع الاختيار أيضا، و يلزم المستعدى الرضا بذلك، خلافا لأحمد و أبي حنيفة، فلم يوجبا عليه الرضا بذلك، و إذا أبى إلا حضوره أجبر عليه إن امتنع، هذا كله مع حضور الخصم.

ج 40، ص: 136

أما لو كان غائبا لم يعده الحاكم حتى يحرر المدعي دعواه بخلاف الأول و الفرق بينهما لزوم المشقة في الثاني و يمكن أن تكون غير مسموعة، فمشروعية الإرسال عليه قبل تحريرها مشقة و ضرر و حرج و عدمها في الأول الذي هو حاضر، إذ لا مشقة عليه بالحضور.

لكن لا يخفى عليك ما فيه، ضرورة أنه إن كان مجرد الدعوى حقا و إن لم تحرر لم يكن فرق بين الحاضر و الغائب، و لعله لذ أطلق المصنف في النافع وجوب أعداء الحاكم للمستعدى بإحضار خصمه، و إلا لا يجوز إحضاره قبل تحرير الدعوى، كما عن بعض المتأخرين احتماله، خصوصا بعد ترتب ما سمعته من التعزير عليه، بل في الرياض و له وجه، إلا أن الإجماع الظاهر و المحكي حتى في كلامه كفانا مئونة البحث في ذلك، سيما مع اعتضاده بما ذكر من أن ذلك كان معمولا به في الزمن السابق إلى الآن من غير إنكار.

لكن الإنصاف أنه لا يخفى عليك ما في دعوى الإجماع في أمثال هذه المسائل، على أن المحكي عن الفاضل في المختلف عدم وجوب إحضار الغائب بعد تحرير الدعوى، بل الحاكم يطلب من المدعي إثبات حقه، فإذا ثبت أحضر، فإن حضر و إلا باع ماله و دفعه إلى المدعي، نعم لو لم يتمكن من الإثبات و طلب الخصم إحضاره لتحليفه أو كان معه المال بعث حينئذ في طلبه، و إليه يرجع ظاهر ما عن الجامع و صريح الإسكافي من أنه لم يجب إحضاره إلا بعد أن يثبت المستعدى حقه عند الحاكم.

إلا أن ظاهرهما إحضاره حينئذ من دون ذكر بيع ماله إن لم يحضر، فيتفق الثلاثة حينئذ على اعتبار إثبات الحق في وجوب الإحضار في الغائب، و لعله للأصل و غيره بعد عدم الإجماع فيه بخلافه في الحاضر، اللهم إلا

ج 40، ص: 137

أن يدعى عدم الفرق بينهما في اقتضاء المنصب إغاثة المستعدي، و حينئذ يتجه عدم اعتبار التحرير فيه كالحاضر، و الفرق بينهما بالمشقة التي يمكن وجودها في الحاضر لشرف أو غيره كما يمكن عدمها في الغائب غير مجد، و حينئذ يتجه إطلاق المصنف في النافع، فتأمل جيدا فان المقام لا يخلو من تشويش في الجملة، خصوصا بملاحظة كون موضوع المسألة إحضار الخصم باستعداء خصمه، لا إرادة إثبات حقه، فان ذلك مقام آخر، و هو الحكم على الغائب عن مجلس الحكم و إن كان حاضرا في البلد، و إحضاره لاستيفاء الحق منه غير إحضاره ليتبين أن الحق عليه أم لا.

ثم إن هذا كله إذا كان في بعض مواضع ولايته و ليس له هناك خليفة يحكم و إلا سمع بينته إن كانت و أرسل إلى خليفته، بل إن كان هناك من يصلح للاستخلاف أذن له في القضاء بينهما.

و إن كان في غير ولايته لم يكن له أن يحضره كما في المسالك و إن كان لا يخلو من تأمل و أثبت الحكم عليه بالحجة و إن كان هو غائبا و باقيا على حجته من جرح أو غيره، لما ستعرف من جواز الحكم على الغائب بشرائطه، و إن رضي المدعي بأن يكتب إلى خليفته أو من يصلح للحكم أو لوال هناك أن يفصل بينهما فعل، و إن سأله إقامة البينة عنده فإذا ثبت كتب بالثبوت إلى أحد هؤلاء من دون حكم فعل، و إن أقام شاهدين لا يعرفهما الحاكم كتب «حضرني فلان بن فلان فادعى على فلان بن فلان و أشهد فلانا و فلانا» ليكون الحاكم هناك هو الباحث عن عدالتهما إن لم يعرفهما.

و لو ادعى على امرأة فإن كانت برزة أي من عادتها البروز لحوائجها و لو إلى مجالس الرجال فهي كالرجال في جميع ما ذكرنا بالنسبة إلى الحضور و الغيبة، و إن زادت باشتراط كون الطريق أمنا بالنسبة

ج 40، ص: 138

إليها و معها من يوثق به من محرم أو نسوة، إلا أن مرجع ذلك كله إلى خلوها عن العذر و لو بالنسبة إليها و عدمه، و مثل ذلك في الرجل و إن اختلفت الأعذار بالنسبة إليهما.

و إن كانت مخدرة لا تخرج إلى مجالس الرجال و إن اتفق خروجها لضرورة و لو عزاء أو حمام أو زيارة أو نحو ذلك لم تكلف الحضور، لكونها معذورة حينئذ، و لكن بعث إليها من يثق به في الحكم بينها و بين غريمها جمعا بين الحقين أو توكل عنها وكيلا للمخاصمة فإذا احتاج إلى تحليفها أرسل إليها من يحلفها، و لكن في القواعد «يرسل معه شاهدين على حلفها» و فيه أنه يمكن الاستغناء باخبار الأمين على ذلك.

نعم لو لم يعرفها الأمين أنها المستعدى عليها طلب شاهدين على ذلك أو تبين ذلك بقرائن و حكم بينهما من خلف الستر، فان لم تكن بينة تعرفها من خلفه بسماع كلامها و نحوه التحفت بجلباب و نحوه و خرجت من وراء الستر، بل إن احتيج إلى الإسفار أسفرت.

قال أبو الحسن الأول (عليه السلام) لجعفر بن عيسى بن يقطين(1): «لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة و ليست بمسفرة إذا عرفت بعينها أو حضر من يعرفها، فأما إن لا تعرف بعينها و لا حضر من يعرفها فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها و على إقرارها دون أن تسفر و ينظروا إليها».

و كتب الصفار(2)إلى الحسن بن علي (عليهما السلام) «في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم هل يجوز له أن يشهد عليها و هي من وراء الستر و يسمع كلامها إذا شهد رجلان عدلان أنها فلانة بنت فلان التي تشهدك و هذا كلامها أو لا تجوز له الشهادة عليها حتى تبرز


1- 1 الوسائل الباب- 43- من كتاب الشهادات- الحديث 1.
2- 2 الفقيه ج 3 ص 40 الرقم 132.

ج 40، ص: 139

و يتبينها بعينها؟ فوقع (عليه السلام) تتنقب و تظهر للشهود».

و لو استعدى على الشاهدين أنهما شهدا عليه زورا أعداه و أحضرهما، فإن اعترفا و إلا طولب بالبينة على اعترافهما، فان لم يكن توجهت له اليمين على الأقرب، بل عن الإيضاح لو ادعى عليهما بمال و أنهما أتلفاه بشهادتهما الكاذبة و استوفى منه بغير حق توجهت اليمين قطعا.

و لو ادعى أحد الرعية على القاضي فإن كان هناك إمام يرافعه إليه و إن لم يكن و كان قاض في غير ولايته يرافعه إلى قاضي تلك البقعة، و إن كان في ولايته و تعدد القاضي فيها فكذلك، و إلا رافعه إلى خليفته.

و الدعوى على السلطان مع إنكاره باطلة عندنا للعصمة و كذا الإنكار لما يدعيه، و قضية الأعرابي مع النبي (صلى الله عليه و آله) لما رافعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) معروفة(1).

[النظر الثالث في كيفية الحكم]

اشاره

النظر الثالث في كيفية مجلس الحكم و فيه مقاصد:

[المقصد الأول في وظائف الحاكم]
اشاره

الأول:

في وظائف الحاكم، و هي سبع:

[المسألة الأولى التسوية بين الخصمين]

الأولى تجب التسوية بين الخصمين و إن تفاوتا شرفا و ضعة في السلام عليهما ورده


1- 1 الوسائل الباب- 18- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 140

و الجلوس و النظر إليهما و الكلام معهما و الإنصات و العدل في الحكم و غير ذلك من أنواع الإكرام كالإذن في الدخول و طلاقة الوجه، بل في المسالك لو لم يمكن التسوية بينهما في جواب السلام ابتداء بأن سلم أحدهما دون الآخر فيصبر هنيئة رجاء أن يسلم الآخر فيجيبهما معا، فان طال الفصل بحيث يخرج عن كونه جوابا للأول فليرد قبله على المسلم، و قيل: لا بأس بأن يقول للآخر سلم، فان سلم أجابهما معا، إلى غير ذلك مما ذكروه في التسوية.

لقول علي (عليه السلام) لشريح في

خبر سلمة بن كهيل(1): «ثم واس بين المسلمين بوجهك و منطقك و مجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك، و لا ييأس عدوك من عدلك».

و قول النبي (صلى الله عليه و آله) في خبر السكوني(2): «من ابتلى بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة و النظر و في المجلس»

و نحوه النبوي(3) بإبدال «فليواس». «فليساو».

و في آخر(4)«ثلاث إن حفظتهن و عملت بهن كفتك ما سواهن، و إن تركتهن لم ينفعك شي ء: إقامة الحدود على القريب و البعيد، و الحكم بكتاب الله في الرضا و السخط، و القسم بالعدل بين الأحمر و الأسود».

و قد تقدم ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من نهى النبي (صلى


1- 1 الوسائل الباب- 1- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 3- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1 و هو قول أمير المؤمنين عليه السلام كما في الكافي ج 7 ص 413 و التهذيب ج 6 ص 226 الرقم 543.
3- 3 أشار إليه في الوسائل الباب- 1- من أبواب آداب القاضي- الحديث 2 و ذكره في الفقيه ج 3 ص 8 الرقم 27.
4- 4 الوسائل الباب- 1- من أبواب آداب القاضي- الحديث 2.

ج 40، ص: 141

الله عليه و آله) أن يضاف خصم إلا و معه خصمه(1).

و في النبوي(2)المروي في المسالك «من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه و إشارته و مقعده، و لا يرفعن صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر».

و في الرياض «و هذه النصوص- مع اعتبار أسانيدها جملة و حجية بعضها- ظاهرة الدلالة في الوجوب، كما هو الأظهر الأشهر بين متأخري الطائفة وفاقا للصدوقين، بل حكي عليه الشهرة المطلقة في المسالك و الروضة، فهي أيضا لقصور النصوص أو ضعفها لو كان جابرة».

إلا أنه لا يخفى عليك ما فيه من دعوى اعتبار أسانيدها و حجية بعضها، لأنه مبني على أنه إن كان في السند أحد من أصحاب الإجماع لم تقدح جهالة الراوي بل و فسقه، و التحقيق خلافه، كما هو محرر في محله، بل و في حكاية الشهرة، مع أن الموجود في المسالك النسبة إلى الأكثر، بل الظاهر عدم تحقق ذلك على سبيل الوجوب، خصوصا في مثل عبارة الصدوقين التابعة للتعبير بما في النصوص غالبا، و حينئذ فقطع الأصول المعظمة بمثل هذه النصوص المنساق منها إرادة ضرب من الندب و الكراهة كما سمعت الفتوى بها في إضافة أحد الخصمين مشكل، خصوصا مع ظهور خبر سلمة في إرادة بيان الآداب في أحوال القاضي لا خصوص المتخاصمين الذي هو محل البحث، و صعوبة المساواة الحقيقية سيما مع عدم التساوي منهما في مقتضاها، و دعوى أن ذلك من العدل الذي أمره الله به ممنوعة إن كان المراد الوجوب حتى في نحو ذلك.

و من هنا كان المحكي عن الديلمي و الفاضل في المختلف و غيرهما


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب آداب القاضي- الحديث 2.
2- 2 سنن البيهقي- ج 10 ص 135.

ج 40، ص: 142

الاستحباب، و هو الأقوى.

و على كل حال ف لا تجب التسوية في الميل بالقلب لتعذره غالبا و قد

كان رسول الله (صلى الله عليه و آله) يقول في القسم بين نسائه(1): «هذا قسمي فيما أملك و أنت أعلم بما لا أملك»

يعني الميل بالقلب.

و ما في

حسن الثمالي(2)عن الباقر (عليه السلام) «أنه كان في بني إسرائيل قاض يقضي بالحق بينهم، فلما حضره الموت قال لامرأته:

إذا أنا مت فغسليني و كفنيني و ضعيني على سريري و غطي وجهي فإنك لا ترين سوءا، فلما مات فعلت ذلك ثم مكثت بذلك حينا ثم إنها كشفت عن وجهه لتنظر إليه، فإذا هي بدودة تقرض منخره ففزعت من ذلك، فلما كان الليل أتاها في منامها، فقال لها: أفزعك ما رأيت؟ قالت:

أجعل فقد فزعت، قال لها: لئن كنت فزعت ما كان الذي رأيت إلا من أخيك فلان، أتاني و معه خصم له، فلما جلسا إلى قلت: اللهم اجعل الحق له و وجه القضاء على صاحبه، فلما اختصما كان الحق له، و رأيت ذلك بينا في القضاء، فوجهت القضاء له على صاحبه، فأصابني ما رأيت لموضع هواي كان معه موافقة الحق»

محمول على ضرب من الحث على المراتب العالية، بل الظاهر كون المراد في الأول أيضا عدم إيثار أحدهما على وقوع ذلك منه.

أما إذا اتفق جلوسهما مثلا متفاوتا من غير مدخلية للقاضي فلا يجب عليه أن يوقع التساوي بينهما كما عساه يظهر ممن عرفت، لصعوبة إقامة


1- 1 سنن البيهقي- ج 7 ص 298.
2- 2 الوسائل الباب- 9- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1.

ج 40، ص: 143

دليل معتبر عليه هذا كله مع التساوي في الإسلام أو الكفر(1).

و أما لو كان أحدهما مسلما جاز أن يكون الذمي قائما و المسلم قاعدا أو أعلى منزلا بلا خلاف، بل في الرياض أنه كذلك قولا واحدا،

و عن علي (عليه السلام) أنه جلس بجنب شريح في حكومة له مع يهودي في درع(2)و قال: «لو كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك و لكن قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله) يقول: لا تساووهم في المجلس».

و هل تجب التسوية فيما عدا ذلك؟ قد يتوهم من ظاهر العبارة و نحوها ذلك، لكن التحقيق خلافه، للأصل و اختصاص النصوص(3)الموجبة- و لو للتبادر- بغير الفرض المعلوم فيه شرف المسلم على غيره، لما فيه من صفة الإسلام الذي يعلو و لا يعلى عليه.

[المسألة الثانية لا يجوز أن يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه]

المسألة الثانية(4)لا يجوز للحاكم أن يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه بأن يعلمه دعوى صحيحة لم يكن في نفسه الدعوى بها


1- 1 و في الشرائع:« و إنما تجب التسوية مع التساوي في الإسلام أو الكفر».
2- 2 راجع المغني لابن قدامة ج 11 ص 444.
3- 3 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.
4- 4 هكذا في النسخة الأصلية المسودة و المبيضة هنا و فيما يأتي من قوله قده: « المسألة الثالثة» و« المسألة الرابعة» و هكذا، و الصحيح كما في الشرائع زيادة كلمة« المسألة» حيث إن البحث في وظائف الحاكم لا في المسائل.

ج 40، ص: 144

أو الإنكار في دعوى القرض عليه لا دعوى الوفاء المقتضية للإقرار.

و كذا لا يجوز أن يهديه لوجوه الحجاج و نحوها مما يستظهر به على خصمه لأن شرع ذلك يفتح باب المنازعة، و قد نصب لسدها.

و لا يندرج في التلقين عرفا الاستفسار و التحقيق و إن اتفق تأديته في بعض الأحوال إلى اهتداء الخصم إلى ما يفيده في خصومته، كما أنه لا يندرج في الفرض تلقينه بعد العلم بكونه على الحق، إذ هو من المعاونة على البر و إن كان فيه فتح لباب المنازعة، إذ لا دليل على حرمته مطلقا أو من القاضي في جميع

الأحوال، و دعوى الاستغناء عن التلقين في الفرض بالحكم حينئذ بعلمه يدفعها فرض وجود المانع من ذلك.

ثم إن الظاهر اختصاص الحكم بالمزبور أما غيره فلا دليل على حرمة التلقين عليه بعد فرض عدم العلم بفساد الدعوى، بل إن لم يكن إجماع في القاضي أمكن المناقشة في تحريمه عليه فضلا عن غيره، و مجرد فتح باب المنازعة المنصوب لسدها لا يقتضي حرمة ذلك، خصوصا بعد إمكان اندراجه في تعليم محاورات الشرع، و الله العالم.

[المسألة الثالثة إذا سكت الخصمان استحب له أن يقول لهما تكلما أو ليتكلم المدعي]

المسألة الثالثة:

إذا سكت الخصمان استحب له أن يقول لهما: تكلما أو ليتكلم المدعي منكما و لو أحسن منهما أن سكوتهما ب سبب احتشامه أمر من يقول لهما ذلك.

و (11) على كل حال يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما، لما يتضمن من إيحاش الآخر (12) لكن في المسالك ما حاصله «أن ذلك مناف

ج 40، ص: 145

لما تقدم من وجوب التسوية بينهما في الكلام، فاما أن يكون ذلك استثناء من السابق أو رجوع عن الحكم، و ظاهر العلامة في التحرير و الشيخ في المبسوط التحريم، لأنهما عبرا بصيغة النهي كالسالف، و هو حسن، لاشتراكهما في المقتضي له، و في الدروس لم يجعل التسوية في الكلام من الواجب، و ذكر كراهة تخصيص أحدهما بالخطاب هنا، و هو يدل على كراهته مطلقا».

قلت: قد عرفت أنه لا دليل على وجوب التسوية بينهما فيه بحيث يشمل الفرض، بل هذا منه دليل على عدم إرادة ما يشمل ذلك منها، بل المتجه الاقتصار على المتيقن الذي هو زيادة أحدهما على الآخر به على وجه يقتضي ظهور الميل إليه و إرادة الحكومة له و نحو ذلك مما يجر إلى التهمة و نحوها، و الله العالم.

[المسألة الرابعة إذا ترافع الخصمان و كان الحكم واضحا لزمه القضاء و يستحب ترغيبهما في الصلح]

المسألة الرابعة:

إذا ترافع الخصمان و كان الحكم واضحا لزمه القضاء و لكن يستحب ترغيبهما في الصلح الذي هو خير، و لا ينافي ذلك فورية القضاء عرفا حتى لو طلب المحكوم له تنجيز الحكم عاجلا فإن أبيا أو أبي أحدهما إلا المناجزة حكم بينهما(1) كما هو واضح.


1- 1 و في الشرائع هنا:« و إن أشكل أخر الحكم حتى يتضح، و لا حد للتأخير إلا الوضوح».

ج 40، ص: 146

[المسألة الخامسة إذا ورد الخصوم مترتبين بدأ بالأول فالأول]

المسألة الخامسة:

إذا ورد الخصوم مترتبين بدأ بالأول فالأول من غير فرق بين الذكر و الأنثى و الشريف و الوضيع، لأحقية السابق من غيره في جميع الحقوق المشتركة.

فان لم يعلم أو وردوا جميعا قيل: يقرع بينهم بالطريق المتعارف فيها من وضع الرقاع في بنادق من طين و غيره، لأنها لكل أمر مجهول، و لمعلومية الترجيح بها في أمثال ذلك.

و قيل: يكتب أسماء المدعين، و لا يحتاج معهم إلى ذكر الخصوم لأن الحق لهم، فان تعدد الخصوم لواحد منهم تخير حينئذ.

و قيل: يذكرهم أيضا لتنحصر الحكومة معه فلو كان له خصمان كتب رقعتين و ليس معتمدا، و على كل حال يجعل تلك الأوراق المكتوب علي ها أسماء المدعين تحت ساتر مثلا و يخرج رقعة رقعة ثم يستدعي صاحبها.

و قيل (11) بل في المسالك أنه المشهور إنما يكتب أسماؤهم مع تعسر القرعة بالكثرة (12) و التحقيق أن ذلك قسم من القرعة لأن الغرض تقديم من يتقدم من المدعين من غير ترجيح من قبل الحاكم و لا ميل إلى أحدهم، و هو يحصل بذلك، بل لو لا ظهور الاتفاق لأمكن القول بالتخيير للحاكم المأمور على الإطلاق بالحكم بين الناس، و أن المقام ليس من الحقوق في شي ء.

ثم إن المتقدم بالسبق أو القرعة إنما يقدم في دعوى واحدة، فإن

ج 40، ص: 147

كان له غيرها حضر في مجلس آخر، سواء كانت مع ذلك المدعى عليه أو غيره.

و كذلك الكلام في الازدحام على المفتي و المدرس في العلوم الواجبة، أما المندوبة فالخيار إليه، و لو أسقط السابق حقه سقط، و ظاهر العبارة و غيرها وجوب مراعاة هذه الأحكام، و قد يناقش فيه للأصل و غيره، فيتجه التخيير له في ذلك.

[المسألة السادسة إذا قطع المدعى عليه دعوى المدعي بدعوى لم يسمع حتى يجيب عن الدعوى]

المسألة السادسة:

إذا قطع المدعى عليه دعوى المدعي بدعوى لم يسمع حتى يجيب عن الدعوى التي هي أحق من دعواه بالسبق و تنتهي الحكومة، ثم يستأنف هو دعواه إن لم يزاحمه أحد، و إلا ترتب الحكم السابق، و الله العالم.

[المسألة السابعة إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى]

المسألة السابعة:

إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى لما عرفت و لو ابتدرا معا بالدعوى سمع من الذي على يمين صاحبه للإجماع المحكي عن المرتضى و الشيخ، و ل

قول الصادق (عليه السلام) في صحيح ابن مسلم(1): «إن رسول الله (صلى الله عليه و آله) قضى أن يقدم صاحب اليمين».

و قوله (عليه السلام) في صحيح ابن سنان(2): «إذا تقدمت مع خصم إلى وال أو قاض فكن عن يمينه».


1- 1 الوسائل الباب- 5- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
2- 2 الوسائل الباب- 5- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1

ج 40، ص: 148

و في محكي المبسوط نسبته إلى رواية أصحابنا ثم قال: «و قال قوم:

يقرع بينهما، و منهم من قال: يقدم الحاكم من شاء، و منهم من قال:

يصرفهما حتى يصطلحا، و منهم من كان يستحلف كل واحد منهما لصاحبه، و بعد ما رويناه القرعة أولى».

و في محكي الخلاف بعد ما ذكر رواية أصحابنا و الأقوال المزبورة قال: «دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم و لو قلنا بالقرعة على ما ذهب إليه أصحاب الشافعي كان قويا، لأنه مذهبنا في كل أمر مجهول» و فيه أنه لا جهالة بعد النص و الإجماع.

و لو اتفق مسافر و حاضر فهما سواء ما لم يستضر أحدهما فيقدم دفعا للضرر و كذا المرأة التي تتضرر بالتأخير عن بيتها. و بالجملة القرعة إنما هي مع عدم تضرر أحدهم و إلا ترجح، لكن قد يناقش بعدم اقتضاء ذلك سقوط حق الآخر كما في الازدحام على باقي الحقوق المشتركة، اللهم إلا أن يفرق بين المقام و بينها برجوع الحق فيه إلى اختيار القاضي و ترجيحه، فحيث لا يكون مرجح شرعي يرجع إلى القرعة، بخلاف ما في المقام الذي فيه قاعدة الضرر و الضرار، و الفرض عدم تضرر الآخر، فتأمل جيدا.

و يكره للحاكم أن يشفع في إسقاط حق بعد ثبوته أو إبطال دعوى قبله، و في المسالك «و على هذا فطريق الجمع بين ذلك و بين الترغيب في الصلح المقتضي غالبا لإسقاط بعض الحق إما بجعله متوسطا بين الاسقاط و عدمه، أو جعله مستثنى كما يقتضيه كلام الأصحاب، لأن الصلح خير، أو بعث غيره على ترغيبهما في ذلك و الوساطة بينهما في الصلح، كما صرح به أبو الصلاح، و هذا أولى».

قلت: لعله لا تنافي بين رجحان الصلح قبل الحكم و إن تضمن بعض

ج 40، ص: 149

أفراده إسقاطا و بين الشفاعة في إسقاط الحق بعد ثبوته، بل الفرق بينهما في غاية الوضوح عرفا، و لعل المراد الجمع بين الشفاعة في إبطال الدعوى قبل الثبوت و بين رجحان الترغيب على الصلح المقتضى لبطلانها فيتجه حينئذ ما ذكره.

و على كل حال فالوجه في الكراهة ما

عن النبي (صلى الله عليه و آله)(1)سأله أسامة حاجة لبعض من خاصمه إليه، فقال: «يا أسامة لا تسألني حاجة إذا جلست مجلس القضاء، فان الحقوق ليس فيها شفاعة».

[المقصد الثاني في مسائل متعلقة بالدعوى]
اشاره

المقصد الثاني في مسائل متعلقة بالدعوى، و هي خمس:

[المسألة الأولى لا تسمع الدعوى إذا كانت مجهولة]

الأولى قال الشيخ و أبو الصلاح و بنوا حمزة و زهرة و إدريس في ما حكي عنهم لا تسمع الدعوى إذا كانت مجهولة، مثل أن يدعي فرسا أو ثوبا و تبعهم الفاضل في المحكي من تحريره و إقرار تذكرته و الشهيد في الدروس، لانتفاء فائدتها، و هو حكم الحاكم بها لو أجاب المدعى عليه بنعم.

و فيه أنه مناف للمحكي عنه و غيره من أنه يقبل الإقرار المجهول و يلزم تفسيره ضرورة أنه مع فرض جواب المدعى عليه بنعم يكون من ذلك، و حينئذ فالقول بصحة الإقرار بالمجهول


1- 1 المستدرك الباب- 11- من أبواب آداب القاضي- الحديث 2.

ج 40، ص: 150

يستلزم صحة الدعوى المجهولة و إن كان متعلقها غير الإقرار بالمجهول.

و دعوى الفرق بينهما- بأنه لو كلفنا المقر بالتفصيل و لم يقبل منه إقراره لأدى ذلك في بعض الأحوال إلى الرجوع عن الإقرار الذي اقتضى تعلق حق الغير به

بعموم «إقرار العقلاء»(1)

بخلاف الدعوى، فإن إلزامه بالتفصيل لا يقتضي ذلك، لما فيه من داعي الحاجة إليها و كون الحق له بخلاف المقر فان الحق عليه هي كما ترى.

و من هنا قال المصنف و في الأول إشكال لوضوح ضعف دليله و ضعف الفرق المزبور و إن أمكن تقريره بوجه آخر، و هو أنه بالإقرار يتعلق حق المقر له و إن كان مورده مجهولا،

لعموم «إقرار العقلاء»(2)

و حينئذ فيلزم بتفسيره الرافع للجهالة، بخلاف الدعوى التي لا تعلق لها بغير المدعي و لا طريق لإلزامه بتفسيرها، إذ له رفع اليد عنها، فالجهالة فيها لا طريق إلى تعرفها إلا بعدم سماعها مجهولة كي يلتجئ إلى تفسيرها حتى تكون مسموعة، و لكنه أيضا كما ترى لا يرجع إلى شي ء معتبر شرعا.

فالتحقيق أن يقال: لا ريب في عدم سماع الدعوى المجهولة من كل وجه التي من أفرادها ما لا يقبل الدعوى به، لعدم إحراز كونها دعوى حينئذ توجب قضاء بعد فرض كون الجهالة فيها مقتضيا لاحتمال ما لا يقبل الدعوى من أفرادها نحو «لي عنده شي ء».

أما المجهولة التي كليها يوجب غرامة بأي فرد يفرض تشخيصه فلا مانع من قبولها، وفاقا لأكثر المتأخرين أو جميعهم إلا النادر، لإطلاق


1- 1 الوسائل الباب- 3- من كتاب الإقرار- الحديث 2 و المستدرك الباب- 2- منه- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 3- من كتاب الإقرار- الحديث 2 و المستدرك الباب- 2- منه- الحديث 1.

ج 40، ص: 151

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة على المدعي»

و الأمر بالحكم بين الناس في الكتاب(2)و السنة(3)و لاقتضاء عدم سماعها ضيع الحق، لأنه ربما يكون المدعي يعلم مجهولا.

كل ذلك مع أنه لا دليل على اعتبار العلم فيها أزيد مما ذكرنا، فضلا عن اعتبار مقدار ما يصح السلم فيه و نحوه منه، كما هو ظاهر المحكي عن الشيخ، و هو الذي أشار إليه المصنف بقوله:

[المسألة الثانية إذا كان المدعى من الأثمان افتقر إلى ذكر جنسه و وصفه و نقده]

المسألة الثانية قال أي الشيخ إذا كان المدعى من الأثمان افتقر إلى ذكر جنسه و وصفه و نقده، و إن كان عرضا مثليا ضبطه بالصفات و لم يفتقر إلى ذكر قيمته،

و ذكر القيمة أحوط و أضبط و إن لم يكن مثليا و قد تلف فلا بد من ذكر القيمة لأنها الواجبة حينئذ.

و لا يخفى ما في الكل من الإشكال الذي قد عرفت أنه ينشأ من مساواة الدعوى بالإقرار و من غير ذلك.

و كذا ما في الدروس قال فيها: «و لا تسمع الدعوى المجهولة كثوب و فرس، بل يضبط المثلي بصفاته و القيمي بقيمته و الأثمان بجنسها و نوعها و قدرها، و إن كان البيع و شبهه ينصرف إطلاقه إلى نقد البلد، لأنه إيجاب في الحال، و هو غير مختلف، و الدعوى إخبار عن الماضي، و هو مختلف، أما دعوى الوصية فإنها تسمع مع الجهالة، و في صحة


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.
2- 2 سورة النساء: 4- الآية 58 و سورة المائدة: 5 الآية 42 و سورة ص: 38 الآية 26.
3- 3 الوسائل الباب- 1- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 152

دعوى الإقرار وجهان: من نفعه لو صدقه و عدم إيجابه حقا، فان قلنا به صح مع الجهالة، و لا إشكال في سماع الإقرار المجهول حذارا من رجوعه لو ألزم بالتحرير بخلاف الدعوى».

و لا يخفى عليك ما فيه من غير تلك الجهة، خصوصا احتمال عدم سماعه دعوى الإقرار بناء على كون المراد منه- و لو بقرينة المقام- الإقرار بالمجهول مع القول بصحته، ضرورة أنه حينئذ كدعوى الوصية بالمجهول التي أشار إليها المصنف بقوله أما لو كانت الدعوى وصية سمعت و إن كانت مجهولة، لأن الوصية بالمجهول جائزة فإن ذلك بعينه جار في دعوى الإقرار بالمجهول، و لذا لم نر أحدا احتمل عدم سماع الدعوى به مع القول بصحته.

و لعله لذا يمكن كون المراد التردد في أصل صحة دعوى الإقرار و لو بمعلوم، كما أومأ إليه الفاضل في القواعد و إن جعل الأول أقرب، بل لعل قوله: «فان قلنا» كالصريح في ذلك.

و لكن لا يخفى عليك ما في ثاني وجهي التردد، ضرورة عدم اعتبار ذلك في صدق الإقرار و إن ذكر ذلك في تعريفه إلا أن المراد منه ما يشمل الإقرار بالإقرار، فإنه إخبار عن الحق بالواسطة.

كما لا يخفى أيضا ما في التعليل في المتن و غيره لقبول الدعوى بالوصية المجهولة، ضرورة عدم اقتضاء ذلك اختصاصها بالقبول، فان ملك المجهول بغيرها متحقق أيضا كالميراث و الهبة، بل و الصلح و نحوهما، على أنه يمكن جهالته في الدعوى و إن كان قد انتقل إليه بالبيع المقارن لعلمه حال البيع دون غيره، اللهم إلا أن يراد به ما عن الشيخ من أنه ليس غير الوصية من الأسباب ما يملك به المجهول في نفس الأمر و إن كان فيه منع ذلك، و لو سلم فالمسألة في الأعم منه، و بذلك ظهر لك الحال

ج 40، ص: 153

في المسألة، و يأتي إنشاء الله زيادة إيضاح لها، و الله العالم.

و كيف كان ف لا بد من إيراد الدعوى بصيغة الجزم التي يستدل بها على جزم المدعي بما يدعيه كما عن الكافي و الغنية و الكيدري و ظاهر الوسيلة بل في الكفاية نسبته إلى الشهرة، و حينئذ فلو قال أظن أو أتوهم لم تسمع لأن من لوازم الدعوى الصحيحة إمكان رد اليمين على المدعي و هو منتف، و للقضاء بالنكول فيها مع يمين المدعى أو عدمه، و هو منتف هنا أيضا، ضرورة عدم جواز تناول المدعي هنا مع عدم جزمه، و لعدم صدق الدعوى عليه عرفا، فلا يترتب الحكم من القضاء و غيره عليها.

و لكن قال المصنف كان بعض من عاصرناه و هو شيخه نجيب الدين محمد بن نما يسمعها في التهمة و يحلف المنكر ثم قال و هو بعيد عن شبه الدعوى الذي قد عرفت كونها في العرف الخبر الجازم، و لكن إليه يرجع ما في الروضة و محكي تعليق النافع للمحقق من التفصيل بين ما يعسر الاطلاع عليه كالقتل و السرقة و غيره، فتسمع في الأول دون الثاني، بل عن الإيضاح و المجمع أنه قوي عدم اشتراط الجزم، و نفى عنه البأس في غاية المراد، و مال إليه في المسالك لكن في الرياض أنه ليس قولا لأحد منا، بل أصحابنا على قولين:

اعتبار الجزم و الاكتفاء بالتهمة في مقامها.

و كيف كان ففي المسالك تبعا لغاية المراد «أن المعتبر من الجزم ما كان في اللفظ، بأن يجعل الصيغة جازمة دون أن يقول: أظن أو أتوهم كذا، سواء انضم إلى جزمه بالصيغة جزمه بالقلب و اعتقاده لاستحقاق الحق أم لا، و هو كذلك، فان المدعي لا يشترط جزمه في نفس الأمر لأنه إذا كان للمدعي بينة تشهد له بحق و هو لا يعلم به فله أن يدعي به

ج 40، ص: 154

عند الحاكم لتشهد له البينة، و كذا لو أقر له مقر بحق و هو لا يعلم به فله أن يدعيه عليه و إن لم يعلم سببه في نفس الأمر ما هو، و وجه ما اختاره المصنف من اشتراط الجزم بالصيغة أن الدعوى يلزمها أن يتعقبها يمين المدعي أو القضاء بالنكول، و هما غير ممكنين مع عدم العلم بأصل الحق، و أن المعهود من الدعوى هو القول الجازم، فلا يطابقها الظن و نحوه» و تبعهما على ذلك في الرياض.

و فيه أن إظهار الجزم بالصيغة مع عدمه في القلب كذب و تدليس، ضرورة كون ذلك خبرا من الاخبار لا إنشاء كي لا يحتمل الصدق و الكذب و الدعوى بالبينة و الإقرار اللذين هما حجتان شرعيتان بصورة الجزم بعد تسليمه لا يقتضي جوازها أيضا بدون ذلك، و ما ذكره من الوجه في كلام المصنف إنما ينطبق على الجزم القلبي لا الظاهري، فلا محيص عن إرادة المصنف ما أشرنا إليه أولا من اعتبار الجزم في نفس الأمر في المدعي و إن اكتفى الحاكم في إحراز ذلك بإظهار الجزم بالصيغة الدال على ذلك، إذ ليس تكليف بأزيد منه و إلا فلو فرض علمه بمخالفة ما أظهره لما في نفسه لم يجز له القضاء به، بناء على الشرط المزبور، نعم محل البحث في أصل اعتبار ذلك.

و التحقيق الرجوع إلى العرف في صدق الدعوى المقبولة و عدمها، و لا ريب في قبولها عرفا في مقام التهمة بجميع أفرادها و ربما تؤيده النصوص الدالة على تحليف الأمين مع التهمة المتقدمة في كتاب الإجارة(1)و غيره.

ك

خبر بكر بن حبيب(2)«قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):


1- 1 راجع ج 27 ص 342- 344.
2- 2 الوسائل الباب- 29- من كتاب الإجارة الحديث 16.

ج 40، ص: 155

أعطيت جبة إلى القصار فذهبت بزعمه، قال: إن اتهمته فاستحلفه، و إن لم تتهمه فليس عليه شي ء».

و خبره الآخر(1)عنه (عليه السلام) أيضا «لا يضمن القصار إلا من جنت يداه، و إن اتهمته أحلفته».

و خبر أبي بصير(2)عنه (عليه السلام) أيضا «لا يضمن الصائغ و لا القصار و لا الحائك إلا أن يكونوا متهمين. فيخوف بالبينة و يستحلف لعله يستخرج منه شيئا».

إلى غير ذلك من النصوص التي هي و إن كانت في غير ما نحن فيه من الدعوى بالتهمة لكن لا ريب في دلالتها على اقتضاء التهمة الاستحلاف أينما تحققت. بل قد يؤيده أيضا عمومات الأمر بالحكم كتابا و سنة(3)في جميع أفراد المنازعة و المشاجرة التي لا ريب في أن ذلك من أفرادها نحو قوله تعالى «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ»(4). «فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ»(5). «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ»(6)و غير ذلك، و احتمال كون الحكومة في الفرض بالقضاء بكون الدعوى غير مسموعة مناف لما دل من النصوص(7)على أن الضابط في قطع الخصومات البينات و الإضافة إلى اسم الله تعالى.

و كذا لا ريب في تحقق الخصومة و المشاجرة مع عدم الجزم فيما يجده الوصي أو الوارث من سندات أو دفتر أو شهادة من لا يوثق بهم


1- 1 الوسائل الباب- 29- من كتاب الإجارة- الحديث 17.
2- 2 الوسائل الباب- 29- من كتاب الإجارة- الحديث 11.
3- 3 الوسائل الباب- 1- و غيره من أبواب كيفية الحكم.
4- 4 سورة المائدة: 5- الآية 49.
5- 5 سورة النساء: 4- الآية 65.
6- 6 سورة النساء: 4- الآية 59.
7- 7 الوسائل الباب- 1 و 2- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 156

أو غير ذلك.

و بالجملة فالمدار على ما يتعارف من الخصومة بسببه، سواء كان بجزم أو ظن أو احتمال، أما ما لا يتعارف الخصومة به كاحتمال شغل ذمة زيد مثلا أو جنايته بما يوجب مالا أو نحو ذلك مما لا يجرى التخاصم به عرفا فلا سماع للدعوى فيه.

و بذلك بان لك ما أطنب فيه في الرياض من دعوى تبادر الجزم من الدعوى الذي لو سلم في لفظها لم يسلم في المنازعة و المشاجرة و نحوهما و من

اقتضائها التسلط على الغير بالإلزام بالإقرار أو الإنكار و التعزير، و هو ضرر منفي المعارض بنحوه بالنسبة إلى الخصم، و من اقتضائها يمين المدعي أو القضاء بالنكول، و هما غير ممكنين، لامتناع الحلف على الظن و امتناع ثمرة النكول، إذ لا يستحل الغريم أن يأخذ بمجرد إنكار المدعى عليه و نكوله عن اليمين، لاحتمال كونه للتعظيم أو غيره الواضح منعه بتكثر الدعاوي التي لا رد فيها كالدعوى من الوصي و التهمة للأمين و غيرهما، فهو حينئذ لازم لغير الفرض و نحوه، و كذا القضاء بالنكول إن لم نقل بجواز الأخذ له به، لأنه بمنزلة الإقرار، أو لأنه يكون عوض استحقاق اليمين أو لظهور نصوص(1)التهمة في ذلك، بل لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه النظر أيضا في بقية كلامه، فلاحظ و تأمل.

كما أنه لا يخفى عليك الحال فيما لو حلف المنكر أو قضينا بالنكول أما لو قلنا بأنه لم يقض إلا برد اليمين لم يرد هنا، لعدم إمكانه، بل توقف الدعوى.

قيل: و منه يعلم ما في استدلال الشهيد لأصل القول بأن فيه حسما


1- 1 الوسائل الباب- 29- من كتاب الإجارة.

ج 40، ص: 157

لمادة النزاع، إذ لا حسم حينئذ على هذا التقدير، و إنما تنحسم على القول بالقضاء به، و هو لا يقول به، فلا يوافق دليله مختاره إلا أن يلتزم بحبس المنكر إلى أن يقر أو يحلف، كما ذكره الصيمري، و لكن لم يذكره هو و لا من عداه، بل ظاهرهم إيقاف الدعوى كما صرح به بعضهم، مع أن حسم مادة النزاع غير منحصر في سماع الدعوى، لإمكان ردها كسائر ما ترد فيه الدعاوي إجماعا، كما مضى. و فيه ما عرفت من أن الأصل في حسم المشاجرة البينة أو اليمين، و لا بعد في الالتزام بأحدهما في المقام و في جميع نظائره، و الله العالم.

[المسألة الثالثة إذا تمت الدعوى هل يطالب المدعى عليه بالجواب أو يتوقف ذلك على التماس المدعي فيه تردد]

المسألة الثالثة إذا تمت الدعوى من المدعي هل يطالب الحاكم المدعى عليه بالجواب أو يتوقف ذلك على التماس المدعي؟ فيه تردد بل قولان للشيخ في المحكي من مبسوطة و الوجه عند المصنف، بل قيل: إنه الأشهر بل عن المبسوط عندنا مشعرا بالإجماع عليه أنه يتوقف، لأنه حق له، فيقف على المطالبة.

و لكن الأوجه خلافه وفاقا للمحكي عن جماعة، للأصل و لكونه حقا للحاكم المنصوب لقطع الخصومات إلا أن يسقط المدعي حقه، و في المسالك «و لقيام شاهد الحال على إرادته ذلك، إذ من المعلوم عادة أن الإنسان لا يحضر خصمه مجلس الحكم إلا لإرادة فصل الدعوى بينه و بين خصمه المتوقف على سماع جوابه» و لكن فيه أن ذلك رجوع إلى القول بالتوقف على التماسه المدلول عليه بشاهد الحال.

ج 40، ص: 158

[المسألة الرابعة لو ادعى أحد الرعية على القاضي سمعت كما تسمع على غيره]

المسألة الرابعة:

لو ادعى أحد الرعية على القاضي سمعت كما تسمع على غيره لإطلاق الأدلة السالم عن معارضة منافاة ذلك لرئاسة القضاء بعد حضور أمير المؤمنين (عليه السلام) مع يهودي مجلس القضاء(1)و حضور عمر مع أبي عند زيد بن ثابت(2)و المنصور مع جمال فان كان هناك إمام رافعه إليه و إن لم يكن و كان في غير ولايته رافعه إلى قاضي تلك الولاية لاندراجه حينئذ في المولى عليه من الحاضرين في تلك الولاية.

و إن كان في ولايته و كان له خليفة رافعه إلى خليفته بل في المسالك «لا يجب إجابة المدعي إلى الذهاب معه إلى غيره مع وجوده، لأن العدالة تمنع من التهمة، و إن فرضت لم يلتفت إليها».

قلت: قد يشكل ذلك بأن الأمر في من يرافع إليه إلى المدعي، فمع فرض عدم الضرر يجب اتباعه إذا طلب غيره، بل قد يقال: إن ولاية الخليفة فرع ولايته التي لا يندرج فيها الحكم بالدعاوي المتعلقة به و إن كان قد يدفع بعد فرض الاذن له في الاستخلاف بتناول ولاية الخليفة حينئذ للحكم في الدعاوي المتعلقة بالقاضي، ضرورة ارتفاع المانع الذي هو الخصومة المانعة من القضاء كالشهادة

و معلومية خروج الحاكم بين المتخاصمين عنهما، و ليس الخليفة وكيلا كي لا يزداد على موكله.

و على كل حال فلو لم يكن له خليفة و لو لعدم الاذن له في ذلك رافعه


1- 1 راجع التعليقة 2 من ص 143.
2- 2 سنن البيهقي- ج 10 ص 136.

ج 40، ص: 159

إلى حاكم آخر في غير ولايته، و لا يشكل بعدم الولاية له على غير أهل ولايته، لمعلومية كون المراد بأهل ولايته من حل فيها و لو من غيرها كالمسافرين و نحوهم، كما هو واضح.

[المسألة الخامسة يستحب للخصمين أن يجلسا بين يدي الحاكم]

المسألة الخامسة:

يستحب للخصمين أن يجلسا بين يدي الحاكم لأنه الموافق للأدب، و ليتمكن من التساوي بينهما في النظر و غيره، و لما سمعته من كلام علي (عليه السلام) في حضوره مع اليهودي عند شريح(1)و لو قاما بين يديه كان جائزا و ليس في ذلك تكبر مناف، و الله العالم.

[المقصد الثالث في جواب المدعى عليه]
اشاره

المقصد الثالث في جواب المدعى عليه أي ما يصدر منه حال الدعوى عليه و هو إما إقرار أو إنكار أو سكوت فإنه جواب بالمعنى المزبور، على أن حكمه كما ستعرف مع الإصرار عليه جعله كالناكل في رد اليمين على المدعي و الحكم به، فهو حينئذ كالإنكار، و لعله لذا أطلق عليه اسم الجواب.

و على كل حال فتفصيل الحال في ذلك

[أما الإقرار]

أما الإقرار ف لا ريب في أنه يلزمه أي المقر ما أقر به إذا كان جائز التصرف و الإقرار جامعا لشرائط الصحة المتقدمة في بابه.


1- 1 راجع التعليقة 2 من ص 143.

ج 40، ص: 160

بل في المسالك و غيرها «لزمه ذلك، سواء حكم به الحاكم أم لا، بخلاف البينة التي لا يثبت الحق بمجرد إقامتها، بل لا بد معه من حكم الحاكم، و الفرق أن البينة منوطة باجتهاد الحاكم في قبولها و ردها، و هو غير معلوم بخلاف الإقرار» و زاد في الرياض أنه «تظهر ثمرة الفرق المزبور بجواز مقاصة المدعي حقه إذا كان عينا و ادعاها مع عدم علمه بها بالإقرار دون البينة إذا لم يحكم الحاكم».

و مرجع ذلك إلى اشتراط حجية البينة بحكم الحاكم بها و إن علم كونها مقبولة عنده بخلاف الإقرار، و حينئذ فهي حجة له يحكم بها و لغيره إذا حكم بها، كما صرح بذلك في المسالك فيما يأتي.

و لكن قد يناقش بعموم أو إطلاق ما دل على قبولها من غير فرق بين الحاكم و غيره، و إنما الحاكم يحكم بمقتضاها، فيترتب على حكمه ثمراته من عدم سماع الدعوى بعده و نحوه، لا أن أصل تناول المدعى بعد قيامها و العلم بقبولها عند الحاكم و ثبوت الحق بها عنده و إن لم ينشئ الحكم به متوقف على حكمه، خصوصا لو فرض عدم علم المدعي إلا بها، و حينئذ فالفرق بينها و بين الإقرار من هذه الجهة لا وجه له.

كدعوى الفرق بينهما بأن قبول البينة و ردها يرجع إلى الاجتهاد بخلاف الإقرار» ضرورة إمكان فرض المقام في البينة المعلوم قبولها عند الحاكم و لكن بعد لم ينشئ الحكم بمقتضاها، و الاجتهاد في قبول البينة كالاجتهاد في قبول الإقرار، ل

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز».

و لذا استشكل الأردبيلي في الأخذ بالإقرار بدون حكم الحاكم. قال:


1- 1 الوسائل الباب- 3- من كتاب الإقرار- الحديث 3 و المستدرك الباب- 2- منه الحديث 1.

ج 40، ص: 161

«و لهذا لم يقدر أحد أن يشهد بثبوته في ذمته، بل بإقراره، فليس الحكم إلا للحاكم، لاجتهاده أن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز و الإجماع» و إن كان هو كما ترى، ضرورة جواز الأخذ بالإقرار لكل أحد فضلا عن المقر له.

فالتحقيق عدم الفرق بين البينة و الإقرار في الأخذ بهما من دون حكم الحاكم لكل أحد و لو من باب الأمر بالمعروف، لعموم ما دل على حجية شهادة العدول في الدعاوي و غيرها، بل لعل حكومة الحاكم بها لذلك أيضا، نعم لو لم تثبت عدالتها لم يجز الأخذ بها في الحكم الظاهر» لعدم ثبوت ما هو الحجة شرعا، و حكم الحاكم بها ليترتب عليه قطع الدعوى بعد ذلك لا يقتضي توقف حجيتها في التناول لغير الحاكم من باب الأمر بالمعروف على حكم الحاكم، كما هو واضح. و حينئذ لا فرق بين الإقرار و البينة بالنسبة إلى ذلك.

و دعوى الفرق بأنه لا مجال لحكم الحاكم مع الإقرار إذ لا خصومة حينئذ كي يحكم بقطعها بخلاف البينة يدفعها اتفاقهم ظاهرا على صحة حكم الحاكم به في المقام و إن قال في المسالك: «إن فائدته بعد فرض عدم توقف ثبوت الحق عليه إنفاذ حاكم آخر إياه و نحو ذلك بخلاف الحكم المترتب على البينة، فإنه من تمام السبب في ثبوت الحق».

و لكن فيه منع واضح بعد ما عرفت من عدم الفرق بينهما بالنسبة إلى إنشاء الحكم من الحاكم بمقتضاهما ليترتب عليه ثمراته، فهما من هذه الجهة سواء في التوقف على حكم الحاكم، كما أنهما سواء في جواز التناول لهما، لا من حيث الحكومة المقتضية لقطع النزاع و للفصل بين المتخاصمين، بل من باب كون كل منهما حجة شرعية لكل من حصلا عنده، بل لعل الحكم كذلك في باقي الموازين كالشاهد و اليمين و النكول و اليمين المردودة،

ج 40، ص: 162

و لعله إلى ذلك يرجع ما يحكى عن الأستاد الأكبر من توقفهما معا على حكومة الحاكم فيجب أن لا يكون فصل بين المتخاصمين إلا بإنشاء الحكومة منه، من غير فرق بين البينة و الإقرار و يمين المنكر و غيرها، و إن ثبت الحق بها قبل إنشاء الحكومة، و لكل ثمرات، و الله العالم.

و كيف كان ف هل يحكم الحاكم به أي الإقرار عليه أي المقر من دون مسألة المدعي؟ قيل و القائل الشيخ في المحكي من مبسوطة لا يجوز لأنه حق له، فلا يستوفى إلا بمسألته نحو ما سمعته سابقا في سؤال الحاكم المدعى عليه الجواب من دون مسألته، إلا أن الأقوى خلافه، بل لعل في نسبة المصنف له إلى القيل هنا اشعارا بتمريضه و إن كان مختاره في الأول التوقف.

و كأنه فرق بينهما بأن الحكم للحاكم كما هو مقتضى إطلاق أدلته بخلاف الدعوى سؤالا و جوابا، فإنها لغيره.

و فيه منع، ضرورة اقتضاء إطلاق الأدلة أن الحكومة و مقدماتها بعد حضور المتخاصمين مجلس الخصومة عنده إليه ما لم يرفعا يدا أو المدعي عنها، و لذا كان الأقوى في المقامين عدم التوقف لذلك، لا لما عن المختلف من أنه ربما يجهل المدعي أن ذلك حق له فيضيع حقه، ضرورة اقتضائه تنبيه الحاكم له على ذلك لا الحكم بدون إذنه، فالأولى الاستدلال بما سمعت، على أن شاهد الحال في الموضعين متحقق.

و ربما استشعر بعضهم من تعليل عدم التوقف بالأخير الاتفاق منهم على اعتبار الاذن، و إنما الخلاف في الاجتزاء عنها بشاهد الحال و عدمه.

و فيه أنه ليس من الجميع، بل صريح بعضهم الاستدلال بما يقتضي كون ذلك للحاكم، على أنه لا بأس بذكره ردا للخصم القائل باعتبار الاذن و مماشاة له، و إلا فقد عرفت التحقيق.

ج 40، ص: 163

بل قد يقال بوجوب الحكم على الحاكم بعد حصول مقتضية و إن لم يرض المدعي، كما لو وجه اليمين على المنكر و حلف على ذلك و أراد الحاكم قطع الدعوى بإنشاء الحكم و لم يأذن المدعي لم يسمع منه، كما لم يسمع من المنكر في غير الفرض.

و من ذلك يعلم أن ثمرة الحكومة تارة تكون للمدعي و أخرى للمنكر، فإطلاق كونها للمدعي في غير محله، كإطلاق القول بتوقفها على الاذن المنافي منصب القاضي للفصل بين الناس و خصوماتهم التي يرجعون بها إليه و يحكمون فيما بينهم فيها.

و كيف كان ف صورة الحكم ما قدمناه سابقا، و منه أن يقول: ألزمتك أو قضيت عليك أو ادفع إليه ماله قاصدا إنشاء الفصل بينهما بذلك و لو التمس أن يكتب له بالإقرار أو بالحكم به لم يجب عليه ذلك على الأصح حتى لو بذل المقدمات، كما عرفت البحث فيه سابقا.

و لو أجاب لم يكتب حتى يعلم اسمه و نسبه على وجه يتشخص به عن غيره بالطرق المفيدة لذلك أو يشهد عليهما شاهدا عدل حتى يأمن بذلك من التدليس بجعل الحكومة بالإقرار أو الشهادة به لغير من وقع، كما اتفق حصوله في زماننا من بعض المزبورة.

و لو شهد عليه بالحلية و الصفة المشخصة له عن غيره جاز و لم يفتقر حينئذ إلى معرفة النسب و اكتفى بذكر حليته و اقتصار جملة من الأصحاب على الأول لا يقتضي الخلاف في الثاني، و ما عن ابن إدريس- من الاعتراض بانتفاء المستند للتعويل على الحلية و بأنه مصير إلى أن للإنسان أن يعمل بما يجد به خطا مكتوبا من غير ذكر للشهادة و قطع على من شهد عليه و رجوع إلى العمل بكتاب قاض إلى قاض، و جميع ذلك

ج 40، ص: 164

باطل عندنا- واضح الفساد.

و من هنا قال في المختلف: «و التحقيق أنه لا مشاحة هنا، لأن القصد تخصيص الغريم و تميزه عن غيره و ازالة الاشتباه، فان حصل ذلك بالتحلية جاز، و اللوازم التي ذكرها ابن إدريس غير لازمة، لأن الخط جعل مذكرا و منبها على القضية، فإذا وقف الإنسان على خطه فان ذكر القضية أقام الشهادة و إلا فلا» و هو جيد.

و كيف كان فان امتنع المحكوم عليه بالأداء عنه أغلظ له بقول: يا ظالم و نحوه و لو التمس الغريم حبسه حبس بلا خلاف، ل

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «لَيّ الواجد يحل عقوبته و عرضه»

و في الموثق(2)«كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثم يأمر فيقسم ماله بينهم بالحصص، فان أبى باعه فيقسمه بينهم»

و غير ذلك مما قدمناه في الفلس(3).

و لو ادعى الإعسار الذي مر تحقيقه أيضا كشف عن حاله، فان استبان فقره أنظره وفاقا للمشهور، للأصل و لقوله تعالى(4)«وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» و

للموثق(5)و غيره «إن عليا (عليه السلام) كان يحبس في الدين، فإذا تبين له إفلاس و حاجة خلى سبيله حتى يستفيد مالا»

و ل

خبر السكوني(6)«إن امرأة استعدت عليا (ع)


1- 1 الوسائل الباب- 8- من أبواب القرض- الحديث 4 و فيه « لي الواجد بالدين يحل عرضه و عقوبته».
2- 2 الوسائل الباب- 6- من كتاب الحجر- الحديث 1.
3- 3 راجع ج 25 ص 281- 282.
4- 4 سورة البقرة: 2 الآية 280.
5- 5 الوسائل الباب- 7- من كتاب الحجر- الحديث 1.
6- 6 الوسائل الباب- 7- من كتاب الحجر- الحديث 2.

ج 40، ص: 165

على زوجها أنه لا ينفق عليها و كان زوجها معسرا فأبى أن يحبسه، و قال:

إن مع العسر يسرا».

بل في كشف اللثام و

خبر زرارة أو صحيحه(1)«كان علي (عليه السلام) لا يحبس في السجن إلا ثلاثة: الغاصب و من أكل مال اليتيم و من أوتمن على أمانة فذهب بها، و إن وجد له شيئا باعه غائبا أو شاهدا»

بل عن كشف الرموز أنه المراد برواية الانظار(2)و إن كان هو كما ترى، بل لا دلالة فيه على ما سمعته من الشيخ و ابن حمزة، مضافا إلى معلومية بطلان الحصر فيه بالإجماع و غيره، بل و إلى منافاته ما سمعته من النصوص(3)من الحبس في الدين، و الجمع بإرادة الحبس الطويل أو حبس العقوبة أو نحو ذلك بعيد و إن كان هو أولى من الطرح، فالعمدة حينئذ في إثبات المطلوب ما سمعت.

و لكن مع ذلك عن الشيخ في النهاية أنه يدفع إلى غرمائه ليؤجروه و يستعملوه، ل

خبر السكوني(4)«أن عليا (عليه السلام) كان يحبس في الدين ثم ينظر إن كان له مال أعطى الغرماء و إن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم، إن شئتم آجروه و إن شئتم استعملوه».

إلى ذلك أشار المصنف بقوله و في تسليمه إلى غرمائه ليستعملوه أو يؤاجروه يعني: أو إنظاره روايتان أشهرهما عملا و أصحهما سندا و أكثرهما عددا و أوفقهما بالأصل و الكتاب كما عرفت رواية الانظار


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2 و فيه « لا يحبس في الدين» و في التهذيب ج 6 ص 299 الرقم 836 « لا يحبس في السجن».
2- 2 الوسائل الباب- 7- من كتاب الحجر.
3- 3 الوسائل الباب- 7- من كتاب الحجر.
4- 4 الوسائل الباب- 7- من كتاب الحجر- الحديث 3.

ج 40، ص: 166

بل عن الشيخ أنه رجع عن العمل بها إلى ما عليه الأصحاب، بل كتابه النهاية ليس معدا للفتوى، بل هو متون أخبار، و بذلك يظهر شذوذ الرواية المزبورة، فتطرح أو تحمل على ما إذا كان ذلك بالتراضي لإرادة قطع النزاع من زيادة الكسب لو غرم عليه على النفقة و عدمها أو غير ذلك.

و منه يعلم ما في المحكي عن ابن حمزة أيضا من أنه «إذا لم يكن ذا حرفة خلي سبيله، و إن كان ذا حرفة دفعه إلى الغريم ليستعمله، فما فضل عن قوته و قوت عياله بالمعروف أخذ بحقه» الذي مستنده أيضا الخبر المزبور الذي قد عرفت حاله و إن كان نفى عنه البعد في المختلف قال: «لأنه متمكن من أداء ما وجب عليه، و هو إيفاء صاحب الدين حقه، فيجب عليه، أما الكبرى فظاهرة، و أما الصغرى فلأن الفرض أنه متمكن من الكسب و التحصيل، و كما يجب السعي في المئونة كذا يجب في أداء الدين، قال: و نمنع إعساره، لأنه متمكن، و لا فرق بين القدرة على المال و القدرة على تحصيله، و لهذا منعنا القادر على التكسب بالصنعة و الحرفة من أخذ الزكاة باعتبار إلحاقه بالغني القادر على المال- قال-: و الآية- يعني آية الإنظار(1)- متأولة بالعاجز عن التكسب و التحصيل، و كذا

ما ورد من الأخبار (2) فإن ذلك لا يفيد إلا وجوب التكسب عليه، و هو غير دفعه إليهم و جعلهم أولياء إن شاؤوا استعملوه و إن شاؤوا آجروه، على أن في أصل وجوب التكسب عليه إشكالا و إن كان هو مقدمة للواجب الذي مقتضى الأصل كونه مطلقا، إلا أن ذلك يتوقف على إطلاق أمر بالأداء و إلا فالأصل في الواجب أن يكون مشروطا لأصل البراءة و غيره، و إطلاق الكتاب و السنة إنما


1- 1 سورة البقرة: 2- الآية 280.
2- 2 الوسائل الباب- 7- من كتاب الحجر.

ج 40، ص: 167

يقتضي الوجوب باليسار الممنوع صدقه بمجرد القدرة على التكسب الذي مقتضى ما سمعت كونه مشروطا بالنسبة إليه.

هذا و في المحكي عن المبسوط بعد ذكر الخلاف في الإجبار على التكسب و ذكر

خبر السكوني(1)قال: «و لا خلاف في أنه لا يجب عليه قبول الهبات و الوصايا و الاحتشاش و الاحتطاب و الاصطياد و الاغتنام و التلصص في دار الحرب و قتل الأبطال و سلبهم ثيابهم و سلاحهم، و لا تؤمر الامرأة بالتزويج لتأخذ المهر و تقضي الديون، و لا يؤمر الرجل بخلع زوجته فيأخذ عوضه، لأنه لا دليل على شي ء من ذلك، و الأصل براءة الذمة».

و لعله لمعارضة دليل المقدمة بنفي الضرر و الحرج في بعض الأفراد المزبورة، أو لعدم إطلاق في الأداء لو سلم على وجه يفيد وجوب نحو ذلك مما هو غير متعارف في التكسب، فيبقى حينئذ واجبا مشروطا بالنسبة إلى ذلك و نحوه، لا أنه مقدمة للواجب المطلق.

اللهم إلا أن يقال: إن ذلك كله في غير صاحب الصنعة كالنجار و الحداد و الحائك و نحوهم ممن عدوهم في قسم الأغنياء، و لكن فيه حينئذ أن ذلك خروج عن محل البحث الذي متعلقة المعسر كما هو واضح، على أن المسلم من عدم جواز دفع الزكاة إليهم مع تشاغلهم بصنائعهم المفروض قيامها بنفقتهم إما وجوب تشاغلهم بها لذلك أو للدين، فهو ممنوع للأصل و غيره، لما عرفته سابقا.

و على كل حال ف هل يحبس حتى يتبين حاله؟ فيه تفصيل ذكر ه المصنف في باب الفلس(2)و هو إن وجد البينة قضى بها، و إن عدمها


1- 1 الوسائل الباب- 7- من كتاب الحجر- الحديث 3.
2- 2 راجع ج 25 ص 352- 360.

ج 40، ص: 168

و كان له مال أو كان أصل الدعوى مالا حبس حتى يثبت إعساره بالبينة المطلعة على باطن أمره، لأصالة بقاء المال، فان لم تكن له بينة حلف المدعي على عدم التلف، كما في كشف اللثام، و إلا فلا لأصالة عدمه، فيحلف على الفقر و يخلى سبيله، فان نكل حلف المدعي على القدرة و حبس.

و في محكي التذكرة «فإذا حبسه فلا يغفل عنه بالكلية، و لو كان غريبا لا يتمكن من إقامة البينة و كل به القاضي من يبحث عن منشأه و منتقله و تفحص عن أحواله بقدر الطاقة، فإذا غلب على ظنه إفلاسه شهد به عند القاضي لئلا تتخلد عليه عقوبة السجن» و هذا التفصيل قد نسبه بعضهم إلى الشهرة، لكن قد يناقش بظهور الموثق(1)السابق و غيره في حبسه في الدين الشامل لنحو مهر الزوجة و غيره إلى أن يتبين إفلاسه و حاجته، و لعله لأن صفة الإعسار المعلق عليها حكم الانظار لا تثبت بأصالة عدم المال، كما لا يثبت اليسار بأصالة بقاء المال، لأنهما صفتان وجوديتان، و ليس هما عين عدم المال و وجوده، بل لو سلم أنهما من لوازم ذلك فالأصل حجة في الشي ء نفسه لا في لوازمه، كما هو محرر في محله. كل ذا مضافا إلى الخبر المزبور(2)و غيره.

بل قد يقال بمعلومية انقطاع أصالة عدم المال التي كانت قبل الولادة، و لم يعلم انقطاعها بما يقتضي اليسار للدين المدعى أو لا، و لا أصل ينقح ذلك، لأنه شي ء جديد غير عدم المال السابق، فيحتاج إلى البينة في تحقق شرط الانظار الذي هو الإعسار، و هو لا يقتضي اشتراط استحقاق الوفاء باليسار كي يكون غير متحقق، فتأمل جيدا فإنه دقيق.

بل قد يقال بعدم حال سابق للشخص غير مالك فيه حتى يستصحب لاحتمال مقارنة الملك لوجوده بالوصية أو الإرث أو نحوهما، اللهم إلا


1- 1 الوسائل- 7- من كتاب الحجر- الحديث 1.
2- 2 الوسائل- 7- من كتاب الحجر- الحديث 1.

ج 40، ص: 169

أن يقال: إن الملك لا يكون إلا بسبب، و الأصل عدم حصوله، فينقح وجوده غير مالك، فتأمل جيدا.

و تصديق مدعي الفقر في جواز إعطاء الزكاة لدليله الذي قد ذكرناه في بابه لا يقتضي ثبوت الإعسار في الواقع على وجه يسقط به حق الغير المعلق على حصوله في الواقع.

و لو قيل: الأصل في ذلك أن الإعسار شي ء لا يعلم إلا من قبله بل هو كصاحب اليد على ما عنده حتى بالنسبة إلى المال الذي ادعى تلفه ففيه أن المتجه حينئذ قبول قوله بيمينه حتى إذا كان له مال أو كان أصل الدعوى مالا، و قد عرفت أن المشهور خلافه، و قد مر تمام الكلام في كتاب الفلس(1)فلاحظ.

[أما الإنكار]

و أما الجواب ب الإنكار ف هو إذا قال مثلا لا حق له علي، فان كان المدعي يعلم أنه موضع المطالبة بالبينة فالحاكم العالم بحاله بالخيار، إن شاء قال للمدعي: أ لك بينة؟ و إن شاء سكت للأصل و غيره.

أما إذا كان المدعي لا يعلم أنه موضع المطالبة بالبينة أو جهل حاله وجب أن يقول الحاكم ذلك القول أو ما في معناه لئلا يضيع الحق، بل لعل ذلك يجب عليه في الأول إذا قام في المدعي احتمال أنه ليس له إحضار البينة إلا إذا طلبها الحاكم منه و إن كان قد علم أن عليه البينة، بل قد يقال بوجوبه عليه مطلقا، لأنه مقدمة للقضاء المأمور به بين المتخاصمين، و علمه بالحال لا ينافي ذلك منه.

فان لم تكن له بينة عرفه الحاكم أن له اليمين إن كان غير عالم بذلك أو مجهول الحال أو مطلقا على نحو ما سمعته في البينة.


1- 1 راجع ج 25 ص 354- 355.

ج 40، ص: 170

و على كل حال ف لا يحلف المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي بلا خلاف أجده هنا، بل في الرياض قولا واحدا، و في كشف اللثام اتفاقا لأنه حق له فيتوقف استيفاؤه على المطالبة إذ هو كما في المسالك ليس هو على نهج الحقين السابقين من طلب الجواب و الحكم، و من ثم وقع الخلاف فيهما دونه، و الفرق أن الحق فيهما لا يغير الحكم بالنسبة إلى المدعي بل يؤكده، بخلاف تحليف المنكر، فإنه يسقط الدعوى التي قد يتعلق غرض المدعي ببقائها إلى وقت آخر، إما لتذكر

البينة أو ليتحرى وقتا صالحا لا يتجرأ المنكر على الحلف فيه و نحو ذلك، فليس للحاكم أن يستوفيه بغير إذنه.

و حكي أن أبا الحسين ابن أبي عمر القاضي أول ما جلس للقضاء ارتفع إليه خصمان و ادعى أحدهما على صاحبه دنانير فأنكره، فقال القاضي للمدعي: أ لك بينة؟ قال: لا، فاستحلف القاضي من غير مسألة المدعي، فلما فرغ قال له المدعي: ما سألتك أن تستحلفه لي، فأمر أبو الحسين أن يعطى الدنانير من خزانته، لأنه أستحيي أن يحلفه ثانيا.

و فيه أن ذلك يقتضي عدم تحليفه مع عدم رضاه لا عدمه مطلقا حتى مع قيام شاهد الحال الذي قد سمعت دعواه في المقامين السابقين، و احتمال عدمه هنا لاحتمال تعلق غرضه ببقاء الدعوى كما ترى، بل قد يأتي فيه التعليل الآخر، و هو أن ذلك من منصب الحاكم المأمور بقطع الخصومة بين المتخاصمين، فيجب تحصيله مطلقا أو ما لم يلتمس المدعي التأخير، خصوصا بعد إطلاق

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة على المدعي و اليمين على من أنكر»

فالأولى الاستدلال لذلك بعد الإجماع


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5 و الباب- 25- منها الحديث 3.

ج 40، ص: 171

المزبور بظاهر النصوص(1)الآتية في اشتراط الرضا الذي لا بد من العلم به، و شاهد الحال إنما يفيد الظن، فتأمل.

هذا و لكن لا يخفى عليك أنه على الأول لو تبرع هو أو تبرع الحاكم بإحلافه لم يعتد بتلك اليمين، و أعادها الحاكم إن التمس المدعي بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به غير واحد، نعم ذكر الشهيدان و غيرهما من غير خلاف أجده فيه أيضا بل في مجمع البرهان نسبته إلى الأصحاب أنه لا يستقل الغريم باليمين من دون إذن الحاكم و إن كان حقا لغيره، لأنه وظيفته و إن كان إقامة الدليل عليه- إن لم يكن إجماع- في غاية الصعوبة، بل لعل ظاهر الأدلة الآتية خصوصا خبر

اليهودي(2)المشتمل على تحليف الوالي المعلوم كونه ليس من أهل الحكومة خلافه، و ربما يأتي إنشاء الله تتمة.

ثم المنكر إما أن يحلف أو يرد أو ينكل، فإذا حلف سقطت الدعوى في الدنيا و إن لم تبرأ ذمته من الحق في نفس الأمر قطعا لو كان كاذبا، فيجب عليه التخلص فيما بينه و بين ربه من حق المدعي،

قال رسول الله (صلى الله عليه و آله)(3): «إنما أقضي بينكم بالبينات و الأيمان، و بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له قطعة من النار»

و منه يعلم أن البينة الكاذبة كذلك.

نعم لا ريب في سقوطها في الظاهر حتى لو ظفر المدعي بعد ذلك بمال الغريم لم تحل له المقاصة لعدم حق له عليه في الدنيا إلا أن


1- 1 الوسائل الباب- 9 و 10- من أبواب كيفية الحكم.
2- 2 الوسائل الباب- 10- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
3- 3 الوسائل الباب- 2- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 172

يكذب نفسه كما صرح به في كشف اللثام، و حينئذ و لو عاود المطالبة أثم و لم تسمع دعواه مع عدم البينة بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، بل لو أعادها عند ذلك الحاكم لنسيانه أو عند حاكم آخر و لو لنسيان المنكر و اتفق نكوله عن اليمين لم يحل له الأخذ، بل ظاهرهم ذلك أيضا في العين المملوكة و إن كان استفادة حرمة التصرف فيها مثلا باطنا من النصوص الآتية لا يخلو من صعوبة.

قال الصادق (عليه السلام) في خبر ابن أبي يعفور(1): «إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر لحقه و استحلفه فحلف لا حق له عليه، و ذهبت اليمين بحق المدعي، فلا حق له، قلت: و إن كانت له عليه بينة عادلة؟ قال: نعم و إن أقام بعد ما استحلفه خمسين قسامة ما كان له و كان اليمين قد أبطل كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه، قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): من حلف لكم بالله فصدقوه، و إن سألكم بالله فأعطوه، و ذهبت اليمين بحق المدعى و لا دعوى له».

و في

خبر آخر عن الصادق (عليه السلام)(2)«في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال: إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه شيئا و إن تركه و لم يستحلفه فهو على حقه».

و قال عبد الله بن وضاح(3): «كانت بيني و بين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، و قد علمت أنه حلف يمينا فاجرة، فوقع له بعد ذلك أرباح و دراهم كثيرة فأردت أن أقبض الألف درهم التي كانت لي عنده و أحلف عليها فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) فأخبرته بالقصة، فكتب: لا تأخذ منه


1- 1 الوسائل الباب- 9- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2 مع الاختلاف في الألفاظ.
2- 2 الوسائل الباب- 10- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 10- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.

ج 40، ص: 173

شيئا، إن كان قد ظلمك فلا تظلمه، و لولا أنك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، و لكنك رضيت بيمينه فقد مضت اليمين بما فيها»

إلى غير ذلك من النصوص(1).

و منها صريحا و ظاهرا يعلم أنه لو أقام المدعي بينة بما حلف عليه المنكر لم تسمع كما هو المشهور، بل عن خلاف الشيخ و الغنية الإجماع عليه، لأنه لا حق له، فلا تكون البينة حجة له و إن كان قد قيل كما عن المفيد و ابن حمزة و القاضي يعمل بها ما لم يشترط المنكر سقوط الحق باليمين.

و قيل قياسا على الإقرار الواضح الفرق بينه و بين البينة و لو للنص الذي تسمعه فيه و الإجماع كما عن ابن إدريس و غيره و موضع من المبسوط إن نسي بينته أو لم يعلم بها سمعت و إن أحلف و عن المختلف أنه قواه، بل عن موضع آخر منه(2)أنها تسمع مطلقا.

و لكن الجميع كما ترى بعد ما عرفت أن الأول هو المروي المعمول به عند المعظم، بل الظاهر أنه إجماع.

و كذا لو أقام بعد الإحلاف شاهدا و بذل معه اليمين و (11) لو متعددا، بل هنا أولى (12) بعد السماع، لأنه أضعف من البينة، هذا كله في البينة.

أما لو أكذب الحالف نفسه (13) بالإقرار جاز مطالبته (14) بالحق و حل مقاصته مما يجده له مع امتناعه من التسليم (15) بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به غير واحد، بل عن المهذب و الصيمري


1- 1 الوسائل الباب- 48- من كتاب الايمان.
2- 2 أي من المبسوط.

ج 40، ص: 174

الإجماع عليه،

لعموم «إقرار العقلاء»(1)

المقتضي كون ذلك سببا مثبتا جديدا للاستحقاق غير ما سقط باليمين المرجح على تلك النصوص(2)- بعد فرض تسليم اندراج الفرض فيها، ضرورة كون التعارض بينهما من وجه- بما سمعت من الإجماع المعتضد بنفي الخلاف، و بخصوص

المعتبر(3)«إني كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه فحلف لي، ثم إنه جاء بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إياه، فقال: هذا مالك فخذه و هذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك و اجعلني في حل، فأخذت المال منه و أبيت أن آخذ الربح منه، و أوقفت المال الذي كنت استودعته حتى أستطلع رأيك، فما ترى؟ قال: فقال:

خذ نصف الربح و أعطه النصف و حلله، إن هذا رجل تائب، و الله يحب التوابين»

و أخصية المورد تندفع بعدم القائل بالفرق، بل يمكن استفادة التعميم من سياقه سؤالا و جوابا.

و في المحكي عن

فقه الرضا (عليه السلام)(4)«و إذا أعطيت رجلا مالا فجحدك و حلف عليه ثم أتاك بالمال بعد مدة و ربما ربح فيه و ندم على ما كان منه فخذ منه رأس مالك و نصف الربح، و رد عليه نصف الربح، هذا رجل نائب».

فما عن بعض من المناقشة في الحكم هنا بعدم نص فيه و لا دليل يخص به أو يقيد النصوص السابقة في غير محله بعد ما عرفت.


1- 1 الوسائل الباب- 3- من كتاب الإقرار- الحديث 2 و المستدرك- الباب- 2- منه الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب 9 و 10 من أبواب كيفية الحكم.
3- 3 الوسائل الباب- 48- من كتاب الايمان الحديث 3.
4- 4 البحار- ج 104 ص 288.

ج 40، ص: 175

بل الظاهر عدم الفرق في الإقرار المقتضي لذلك بين ثبوته عند الحاكم و عدمه، فلو أقر و أكذب نفسه بينه و بين المدعي ثم امتنع عن التسليم حل له المقاصة باطنا، بل هو كذلك أيضا و إن لم يكن بعنوان التوبة، و لعل ذلك و نحوه من التعبد المحض، كما أن منه عدم جواز التصرف في العين باطنا بعد اليمين و عدم إكذاب نفسه و لو بلبس و نحوه، بل لا يجوز له عتق العبد و نحوه مما لا ينافي بقاء المال في يده، بل لا يصح الإبراء منه له، كل ذلك لعدم حق له في المال في الدنيا، كما هو مقتضى

قوله (عليه السلام)(1): «ذهبت اليمين بما فيها»

و قوله (عليه السلام)(2): «أبطل كل ما ادعاه قبله»

بل هو مقتضى ما سمعته سابقا من كشف اللثام و إن كان هو- إن لم يكن إجماع أو شهرة معتد بها تجبر دلالة النصوص على ذلك- لا يخلو من نظر بالنسبة إلى التصرف الذي لا يكون حقا للمدعي على المنكر، مثل العتق و الإبراء و نحوهما مما هو ليس حقا له عليه و إنما هو تابع لأصل المالية التي لا ريب في بقائها بعد الحلف، فتأمل جيدا.

ثم إنه قد يتوهم من ظاهر النصوص(3)سقوط الدعوى بمجرد حصول اليمين من المنكر من غير حاجة إلى إنشاء حكم من الحاكم بذلك، لكن التحقيق خلافه، ضرورة كون المراد من هذه النصوص و ما شابهها تعليم ما به يحكم الحاكم و إلا فلا بد من القضاء و الفصل بعد ذلك، كما أومأ إليه ب

قوله (صلى الله عليه و آله)(4): «إنما أقضي بينكم بالبينات


1- 1 الوسائل الباب- 10- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
2- 2 الوسائل الباب- 9- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
3- 3 الوسائل الباب- 9 و 10 من أبواب كيفية الحكم.
4- 4 الوسائل الباب- 2- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 176

و الأيمان»

بل لو أخذ بظاهر هذه النصوص و شبهها لم يحتج إلى إنشاء الحكومة من الحاكم مطلقا، ضرورة ظهورها في سقوط دعوى المدعى و ثبوت الحق بالبينة و نحوها، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا حلف المنكر و إن رد اليمين على المدعي لزمه الحلف إن أراد تحصيل حقه بلا خلاف أجده فيه، بل للإجماع بقسميه عليه، و هو الحجة بعد النصوص المستفيضة أو المتواترة.

ك

خبر البصري(1)«قلت للشيخ- يعني موسى بن جعفر (عليه السلام)-: أخبرني عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلا يكون له بينة بما له، قال: فيمين المدعى عليه، فان حلف فلا حق له، و إن لم يحلف فعليه و إن رد اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حق له- إلى أن قال-: و لو كان المدعى عليه حيا لألزم اليمين أو الحق أو رد اليمين عليه».

و صحيح ابن مسلم(2)عن أحدهما (عليهما السلام) «في الرجل يدعي و لا بينة له، قال: يستحلفه، فان رد اليمين على صاحب الحق فلم يحلف فلا حق له».

و صحيح عبيد بن زرارة(3)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «في الرجل يدعي عليه الحق و لا بينة للمدعي، قال: يستحلف أو يرد اليمين على صاحب الحق، فان لم يفعل فلا حق له».

و مرسل موسى المضمر(4)قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فان لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان،


1- 1 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
4- 4 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 4 مرسل يونس المضمر.

ج 40، ص: 177

فان لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدعي، فان لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه، فان لم يحلف و رد اليمين على المدعي فهي واجبة عليه أن يحلف و يأخذ حقه، فان أبى أن يحلف فلا شي ء له».

و مرسل أبان(1)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «في الرجل يدعى عليه الحق و ليس لصاحب الحق بينة، قال: يستحلف المدعى عليه، فان أبى أن يحلف و قال: أنا أرد اليمين عليك فان ذلك واجب على صاحب الحق أن يحلف و يأخذ ماله».

و صحيح هشام(2)عنه (عليه السلام) أيضا «ترد اليمين على المدعي».

و خبر أبى العباس(3)عنه (عليه السلام) أيضا «إذا أقام الرجل البينة على حقه فليس عليه يمين، فان لم يقم البينة فرد الذي ادعي عليه اليمين فأبى أن يحلف فلا حق له»

إلى غير ذلك.

نعم استثنى الأصحاب من ذلك مواضع: كدعوى التهمة أو الدعوى مطلقا بالظن بناء على سماعها، و دعوى الوصي لليتيم مالا على آخر، بل مطلق الولي له، و كدعوى الوصي مثلا على الوارث أن الميت أوصى للفقراء بخمس أو زكاة أو حج و نحو ذلك مما لا مستحق له بخصوصه فأنكر الوارث، و غير ذلك مما يتعذر فيه اليمين، لعدم كون الدعوى جزمية، أو لأن المال للغير الذي لا يثبت بيمين آخر، ففي الأول يتخير المنكر بين الحلف و النكول دون الرد الذي قد تعذر من المدعي، لعدم الجزم، و كذا الأخيران، نعم لو كان المدعي وكيلا و قد رد المنكر اليمين وقفت الدعوى حينئذ على حضور الموكل و حلفه أو نكوله.

هذا و لكن قد يناقش بظهور الأدلة في إطلاق تخيير المنكر بين


1- 1 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.
2- 2 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.
3- 3 الوسائل الباب- 8- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.

ج 40، ص: 178

الثلاثة، و تعذر حلف المدعي في هذه الصور لا ينافي بقاء التخيير المقتضي سقوط حق الدعوى عنه بعدم حلفه و لو لمانع، فان وجود المانع فيه لا يرفع تخيير المنكر، ضرورة سقوط أحد أفراد التخيير بالتعذر إنما هو بالنسبة إلى من له التخيير لا شخص آخر، و الفرض أن التخيير للمنكر و لا تعذر عليه، و إنما هو بالنسبة إلى المدعي، فيسقط حقه لو اتفق عدم جواز اليمين له لمانع: نذر و نحوه.

هذا بعد تسليم عدم جواز اليمين للولي الجازم بالمدعى عليه، و إلا اتجه الرد حينئذ عليه كالمدعي لنفسه تمسكا بإطلاق الأدلة الشاملة له اللهم إلا أن يكون إجماع مثلا على ذلك، و حينئذ تبقى المناقشة الأولى، و هي اقتضاء تعذر اليمين بعد ردها عليه من المنكر سقوط الدعوى بالنسبة إليه، لصدق أنه لم يحلف، نعم لا تسقط بالنسبة إلى الطفل بعد بلوغه و رشده.

و قد تدفع أصل المناقشة بدعوى ظهور النصوص في أن التخيير المزبور للمنكر بين الثلاثة إنما هو في المدعي لنفسه جازما، أما في مثل الفرض فلا دليل على أن له الرد فيه، و حينئذ يتعين عليه الحلف أو النكول المقتضي لأداء الحق، بل عرفت في الدعوى الظنية احتمال حبسه و إلزامه بالحلف أو الإقرار، لعدم جواز تناول المدعي المال بنكوله بعد فرض كونه ظانا في أحد الوجهين مؤيدا ذلك بظهور المفروغية من الاستثناء المزبور عند الأصحاب.

ثم إنه قد ذكر غير واحد منهم أن اليمين المردودة إذا وقعت من المدعي فهل هي بمنزلة البينة أو بمنزلة الإقرار؟ و قالوا فيه قولان:

بل عن فخر المحققين أن الأول قواه الأكثر و إن استبعده في الدروس، و لعل وجهه أن الذي يطلب من المدعي البينة، و اليمين المردودة قامت

ج 40، ص: 179

مقامها في الإثبات، كما أن وجه الثاني إشعار رد المنكر على المدعي و امتناعه عن اليمين باعترافه بالحق، على أن ثبوته بها قد جاء من قبل رده، فهو في الحقيقة منه، فكان كإقراره.

و قد فرعوا على ذلك فروعا كثيرة متفرقة في أبواب الفقه:

(منها) أن المدعى عليه إذا أقام بينة على أداء المال أو على الإبراء عنه بعد حلف المدعي فان قلنا يمينه كبينته سمعت بينة المدعى عليه، و إن جعلناها كإقرار المدعى عليه لم تسمع، لأنه مكذب لبينته. و (منها) احتياج الثبوت بها إلى حكم الحاكم على الأول بخلاف الثاني، بناء على ما ذكروه من عدم الاحتياج فيه إلى حكم الحاكم.

و فيه- بعد وضوح الضعف لما سمعته من دليلها- أن ذلك فرع ما يقتضي انحصار حق المدعي بأحدهما لا غير، و هو ممنوع، و من هنا اتجه جعلها قسما مستقلا برأسه، و يرجع حينئذ حكم ما ثبت بها بالنسبة إلى ذلك و نحوه إلى الأصول و القواعد و غيرهما من الأدلة التي لا ريب في اقتضاء كونه بحكم البينة تارة و بحكم الإقرار أخرى، و خروجه عنها ثالثة، كما جزم بذلك بعض متأخري المتأخرين.

و حينئذ فالحكم في الفرع الأول السماع، لعموم قبول البينة بعد ما عرفت من اختصاص الأحكام المزبورة بيمين المنكر لا مطلقا، لكن استظهر الأردبيلي العدم، لظهور إقدامهما على ذلك، و لظهور الأدلة في السقوط بها كاليمين من المنكر، و هو لا يخلو من وجه.

و في الثاني عدم التوقف بناء على أن التوقف عليه مخالف للأصل و إن كان لا يخلو من نظر، لأن الأصل عدم ثبوت الحق، اللهم إلا أن يستند إلى إطلاق الأدلة المزبورة، و هو مع أنه غير الأصل المزبور في معرض بيان سبب حكومة الحاكم نحو ما سمعته في يمين المنكر، لا أن

ج 40، ص: 180

المراد ثبوت الحق بمجرد وقوعه و إن لم ينشأ الحاكم الحكم، و إلا كان ذلك مقتضى أدلة البينة أيضا و غيرها، و هو معلوم الفساد.

و كيف كان فلا ريب في ظهور الأدلة المزبورة (في ظ) ما أطلقه المصنف و غيره من أنه لو نكل سقطت دعواه بل الظاهر الإجماع عليه- في ذلك المجلس، بل عن الإيضاح اتفاق الناس على ذلك.

و إنما الكلام في سماعها منه في مجلس آخر و ظاهر المصنف و غيره، بل هو صريح جماعة سقوطها مطلقا، بل عن الكفاية لا أعرف فيه خلافا، بل عن ظاهر الغنية الإجماع عليه، بل عن المصنف دعوى الإجماع عليه صريحا، بل لعله ظاهر الفاضل في موضع من القواعد أيضا.

هذا و لكن مع ذلك كله قال في المسالك و بعض من تأخر عنها: «إنه يسأله القاضي إذا امتنع عن سبب امتناعه، فان لم يعلل بشي ء أو قال لا أريد أن أحلف فهذا نكول يسقط حقه عن اليمين، و ليس له مطالبة الخصم بعد ذلك و لا استئناف الدعوى في مجلس آخر، كما لو حلف المدعى عليه، لظاهر النصوص السابقة خصوصا الصحيحين(1)مضافا إلى أنه لو لا ذلك لرفع خصمه كل يوم إلى القاضي و الخصم يرد اليمين عليه و هو لا يحلف، و هو مناف لمنصب القضاء الذي هو الفصل بين المتخاصمين، و إن ذكر المدعي لامتناعه سببا فقال: أريد أن آتي بالبينة أو أسأل الفقهاء أو أنظر في الحساب و نحو ذلك ترك و لم يبطل حقه من اليمين، و هل يقدر إمهاله؟ فيه وجهان: أحدهما أنه لا يقدر، لأن اليمين حقه، و له تأخيره إلى أن يشاء كالبينة بخلاف المدعى عليه، فإنه لا يمهل إن استمهل، لأن الحق فيه لغيره».

و فيه- مضافا إلى ما عرفت- أن ظاهر النصوص السابقة يقتضي


1- 1 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1 و 2.

ج 40، ص: 181

سقوط حقه مطلقا متى رد عليه اليمين التي طلبها من المنكر و أبي عن وقوعها في ذلك المجلس، و دعوى أن المتبادر و المنساق منها ما لم يذكر عذرا مسموعا أو ما لم يأت ببينة و لو في مجلس آخر واضحة المنع.

و من ذلك كله يعلم ما في المحكي عن المفيد و أبي الصلاح و الفاضل في التحرير و الشهيدين و الكاشاني من عدم سقوط دعواه إذا جاء ببينة، بل في الروضة نسبته إلى المشهور و إن كنا لم نتحققه، بل لعل المحقق خلافه.

و أضعف منه ما عن ظاهر المبسوط و موضع من القواعد من أن له إعادة الدعوى في غير المجلس و لو مع عدم البينة، و عن بعض التفصيل بين حكم الحاكم عليه بالنكول و عدمه فلا يطالب في الأول و يطالب في الثاني، إذ الجميع كما ترى بعد ما عرفت.

مضافا إلى احتمال عدم البحث من أصله بعد فرض التماس المنكر الحكومة و قد حكم، فإنه لا دعوى حينئذ، و لا وجه لإعادتها بعد انقطاعها، كما هو واضح، و مع عدم الحكم يتجه السماع مطلقا.

لكن قد يقال: المراد بيان أن حكم الحاكم يكون على هذا الوجه نحو حكومته على الغائب، و إن كان يرد عليه حينئذ أن ظاهر أدلة المقام بناء على إرادة تعليم كيفية القضاء اقتضاء كون القضاء من الحاكم في مثل هذا النظم من الدعوى بأنه لا حق له و لا شي ء له بعد صدق إبائه عن الحلف مطلقا من غير فرق بين المجلس و غيره، و وجود البينة و عدمها، و حكم الحاكم بنكوله و عدمه.

و على كل حال فقد بان لك ضعف الأقوال المزبورة التي لا أثر لها في شي ء من النصوص، بل ظاهرها خلافها بعد الإغضاء عن المراد بالمجلس الظاهر في محل الدعوى، و يحتمل إرادة إنشاء الدعوى الأول و هما معا كما ترى، و كذا التفصيل بالبينة و عدمها و غيره مما سمعت الذي

ج 40، ص: 182

هو مجرد اقتراح في النصوص بلا شاهد، بل لعل التأمل الجيد يشهد بخلافه، و من الغريب تصريح بعضهم بأن عدم الحلف من المدعي بعد الرد كيمين المنكر في الحكم ثم الحكم بعد ذلك بسماع البينة في ذلك المجلس أو مطلقا، فلاحظ و تأمل.

و لو ردت عليه اليمين فذكر أن دعواه ظنية- و إن كان قد أبرزها بصورة الجزم- أو أن المال لغيره فإن أمكنه إثبات ذلك لم يرد عليه، و إلا حلف المنكر على نفي ذلك و قضى عليه بالنكول، بل لو بذل اليمين بعد ذلك لم يسمع إلا في الأول مع احتمال تجدد العلم له و إن لم يحلف المنكر كان له رد اليمين عليه. و بالجملة تجري عليه أحكام الدعوى، و الله العالم.

و إن نكل المنكر بمعنى أنه لم يحلف و لم يرد قال الحاكم: إن حلفت أو رددت و إلا جعلتك ناكلا، و يكرر ذلك ثلاثا استظهارا لا فرضا على ما ذكره الأصحاب، كما في الكفاية مؤميا إلى أنه إن لم يكن إجماع ففيه نظر، و هو كذلك بل من وجوه، خصوصا بعد ذكرهم نحو ذلك في نكول المدعي، و خصوصا بعد أن لم يكن النكول عنوانا لما عثرنا عليه من النصوص، و خصوصا بعد تحققه بالامتناع الأول منه من غير حاجة إلى جعل الحاكم.

و على كل حال فإن أصر قيل و القائل الصدوقان و الشيخان و الديلمي و الحلبي و غيرهم يقضي عليه ب مجرد النكول.

و قيل و القائل الشيخ و الكاتب و القاضي و ابنا حمزة و إدريس و الفاضل و الشهيدان على ما حكي عن بعضهم يرد اليمين على المدعي فان حلف ثبت حقه و إن امتنع سقط حقه، بل في المسالك نسبته إلى سائر المتأخرين، و في الرياض إلى كثير من القدماء، بل عن الخلاف

ج 40، ص: 183

و الغنية الإجماع عليه.

و لكن مع ذلك الأول أظهر عند المصنف، بل قال و هو المروي ل

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة على المدعي و اليمين على من أنكر»

و التفصيل قاطع للشركة، و الرد إنما جاء من قبل الراد لا بأصل الشرع، فهو مخصوص بما إذا اختاره للنصوص(2)لا مطلقا.

و صحيح ابن مسلم(3)سأل الصادق (عليه السلام) «عن الأخرس كيف يحلف؟ قال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كتب له اليمين و غسلها و أمره بشربها فامتنع، فألزمه بالدين»

و ظاهره عدم رد اليمين و إلا لنقل أو لزم تأخير البيان عن وقت الخطاب بل الحاجة، بل ظاهر الفاء تعقيب ذلك للامتناع بغير مهلة تخلل اليمين، و فعله (عليه السلام) حجة كقوله.

و خبر عبد الرحمن(4)المتقدم سابقا المعمول عليه بين الأصحاب في اليمين مع البينة في الدعوى على الميت.

و لأن ظاهر الإحلاف أنه حق المنكر، فلا يستوفى إلا بإذنه، كما أنه لا يحلف المنكر إلا بإذن المدعي، و لأنه كنكول المدعي عن اليمين التي هي ليست إلا يمين المنكر فنكوله عنها إن لم تكن أولى في تسبيب القضاء به فهو مساو.

لكن قد يناقش بأن أقصى دلالة الأول على أن جنس اليمين على


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5 و الباب- 25- منها الحديث 3.
2- 2 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم.
3- 3 الوسائل الباب- 33- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
4- 4 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 184

المنكر و أنه وظيفته، و لا دلالة فيه على حكم النكول، بل و لا منافاة بينه و بين الرد منه أو من الحاكم القائم مقامه.

و بالقطع بعدم إرادة ظاهر الثاني، ضرورة اشتراط الحكم بنكوله عن رده أيضا، فلا بد في إصلاحه حينئذ من تقدير، و التزام كونه موافقا لذلك ليس بأولى من جعله مخالفا له، و الحاجة هي تعليم كيفية حلف الأخرس لا كيفية الحكم في الدعوى مطلقا، على أنه قضية في واقعة لا عموم فيها و موقوف على العمل به، و المشهور عدم العمل به، بل هو مناف لما أطبق عليه الجمهور من حكاية خلافه عن علي (عليه السلام).

و بأن خبر عبد الرحمن مع موافقته للعامة لا جابر له في المقام و إن تلقاه الأصحاب بالقبول في غيره، على أنه في الفقيه أبدل «و إن لم يحلف فعليه» بقوله: «و إن رد اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حق له» فلا دلالة فيه، و اختلاف متنه بذلك موجب للتزلزل فيه.

على أنه يجري فيه ما سمعته من المناقشة في الصحيح السابق من عدم القائل بإطلاقه، فلا بد من تقييده إما بالنكول عن الرد أيضا- كما هو مناط الاستدلال- أو بما إذا رد اليمين على المدعي و حلف، و ليس بمرجوح بالإضافة إلى الأول، بل لعله أرجح بملاحظة غيره من النصوص الدالة على ذلك، خصوصا مرسل يونس(1)السابق المتضمن جعل يمين المدعي بعد الرد أحد الأربعة التي يستخرج بها الحقوق.

بل لعل التدبر فيما تضمنه يقتضي كون المراد من الخبر الأول، فان لم يحلف و رد اليمين على المدعي و حلف فعليه- أي المنكر- الحق، ضرورة ظهور المضمر في كون المركب السبب في ذلك، فيعارض ما هو ظاهر الخبر الأول من كون تمام السبب عدم الحلف، إذ لا معنى لجعله


1- 1 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 4.

ج 40، ص: 185

جزء تارة و تمام السبب أخرى، فيحمل الأول حينئذ على الثاني.

و ربما يؤيد ذلك قوله (عليه السلام) متصلا به بعد تأليفه مما في الفقيه و غيره لأنه خبر واحد: «و إن رد اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حق له» متكلا على بيان صورة ما إذا رد و حلف على

قوله (عليه السلام): «و إن لم يحلف»

فتأمل جيدا فإنه دقيق نافع.

بل قد يناقش فيه أيضا بإجمال مرجع ضمير «عليه» فيه و المبتداء المقدر، إذ كما يحتمل أن يكون المنكر و أن المبتداء المقدر الحق كما يدعيه الخصم يحتمل المدعي و أن المبتداء المقدر الحلف، بل يمكن إرادة غير المال من الحق أيضا، بمعنى أن عليه حق الدعوى و لم تنقطع عنه بمجرد نكوله، بل ربما وجب عليه المال بذلك إذا رد اليمين على المدعي فحلف و لو من الحاكم.

و بأن في ذيله تأييدا للقول الثاني، و هو

قوله (عليه السلام):

«و لو كان- أي المدعى عليه- حيا لألزم باليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه»

بصيغة المجهول على ما حكاه في الرياض عن تهذيب معتبر مصحح عنده مضبوط، قال: «و به صرح بعض الفضلاء» و حينئذ لا وجه للعدول عن عطفه على الأول بلفظ «رد اليمين» إلا التنبيه على عدم انحصار الرد في المنكر و إمكان كونه غيره، و ليس إلا الحاكم، فتأمل.

و بإمكان المنع لحقية المنكر الإحلاف، على أن الإحلاف هنا ليس إلا لمصلحة المنكر بانقطاع الدعوى عنه، فربما جاز بدون إذنه، مضافا إلى معلومية ولاية الحاكم على كل ممتنع، فيقوم مقامه حينئذ في الرد الذي يمكن نكول المدعي معه، فيسقط حقه، و من هنا وجب على الحاكم تعرف عدم حصول مسقط الحق بذلك، و القياس مع بطلانه عندنا غير تام، للفرق بعدم فرد آخر للمدعي يصلح للحاكم من يقوم مقامه فيه مع نكوله

ج 40، ص: 186

عنه بخلافه في المقام، فان له الرد الذي نكل عنه.

و كيف كان فوجوب تعرف الحاكم المسقط مع الاحتياط و أصالة عدم ثبوت الحق إلا به و الإجماع المحكي و صحيحي عبيد بن زرارة(1)و هشام(2)السابقين و المحكي من فعل النبي (صلى الله عليه و آله) أنه رد اليمين على المدعي(3)و

قوله (صلى الله عليه و آله): «المطلوب أولى باليمين من الطالب»(4)

المقتضى اشتراكهما في اليمين و إن كان المطلوب أحق، و قوله تعالى(5)«تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ» الظاهر في مشروعية اليمين المردودة دليل الخصم.

و لكن في الجميع أيضا نظر، إذ لا دليل على قيام الحاكم مقام الممتنع فيما امتنع عنه مما هو عليه فيما هو له، ضرورة أن الرد هنا حق له لا عليه، و قد امتنع منه كي يقوم الحاكم مقامه، على أنه لا دليل على عموم ولايته بحيث يشمل الفرض، و لا يجب عليه تعرف المسقط.

و الاحتياط معارض بمثله فيما لو فرض امتناع المدعي عن الحلف بعد الرد من الحاكم، خصوصا إذا كان تعظيما لله تعالى، على أن الأصل براءة ذمة الحاكم من التكليف بالرد، و المدعي من التكليف باليمين، و أصالة عدم توجه اليمين على غير المنكر، و عدم كونها حجة للمدعي، و عدم كون النكول عنها حجة عليه، و عدم صحة تعرف الحاكم الرد، و عدم جوازه من حيث إنه حق للمنكر.

و الإجماع المحكي- مع أنه موهون بمصير من عرفت إلى خلافه


1- 1 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
2- 2 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.
3- 3 سنن الدار قطني ج 4 ص 213.
4- 4 سنن الدار قطني ج 4 ص 219.
5- 5 سورة المائدة: 5- الآية 108.

ج 40، ص: 187

خصوصا من تقدم على حكاية- محتمل لإرادة بيان أصل مشروعية رد اليمين في مقابلة المحكي عن أبي حنيفة و غيره ممن لم يشرع ردها بحال، فإنه اللائق بدعوى أن على ذلك إجماع الفرقة و أخبارهم، بل لعله الظاهر من عبارتي الخلاف و الغنية المحكي فيهما خلاف أبي حنيفة، فلاحظ و تأمل.

بل ليس في صحيح هشام(1)و عبيد(2)و المحكي من فعل النبي (صلى الله عليه و آله)(3)و قوله(4)إلا بيان ذلك، و هو غير محل البحث، أي الرد

المخصوص، بل لعل استدلال الشيخ بالآية(5)التي هي قضية في واقعة خارجة عما نحن فيه، بل بعيدة الشبه به، كالصريح في إرادة بيان أن في الشرع يمينا مردودة في مقابل قول أبي حنيفة المزبور، لا فيما نحن فيه.

و بذلك كله ظهر لك أن أدلة الطرفين محل نظر، و أنه ليس في النصوص تعرض لتعليم القاضي في خصوص الفرض القضاء و أنه بالنكول أو بالرد من الحاكم.

نعم قد يقال: إنه بعد فرض الإجماع المركب على انحصار القضاء في الفرض بأحد الأمرين و أن اختيار أمر ثالث- من تخيير الحاكم بين الرد و القضاء و بين القضاء بالنكول أو بإلزام المنكر على اختيار أحد الثلاثة و لو بحبسه على ذلك، كما عساه أومأ إليه ذيل خبر البصري(6)أو غير ذلك- خرق للإجماع المزبور يتجه القول حينئذ إنه يرد اليمين منه على المدعي، لأصالة عدم ثبوت الحق بدونه، و لظهور حصر استخراج


1- 1 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.
2- 2 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
3- 3 سنن الدار قطني- ج 4 ص 213.
4- 4 سنن الدار قطني- ج 4 ص 219.
5- 5 سورة المائدة: 5- الآية 108.
6- 6 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 188

الحقوق في مضمر يونس(1)بالأربعة، و مجرد النكول خارج عنها، بل لعل النصوص المستفيضة أو المتواترة الدالة على انحصار كيفية القضاء بين الناس بالبينات و الأيمان تقتضي ذلك.

ففي خبري سليمان بن خالد(2)و محمد بن قيس(3)و

مرسل أبان ابن عثمان(4)«أن نبيا شكى إلى ربه القضاء فقال: كيف أقضي بما لم تر عيني و لم تسمع اذنى؟ فقال: اقض بينهم بالبينات و أضفهم إلى اسمي يحلفون به»

و في الأخير منهما أن الله أوحى إلى داود (عليه السلام) ذلك أيضا، و في

خبر هشام بن الحكم(5)عنه (عليه السلام) أيضا «أن رسول الله (صلى الله عليه و آله) قال: إنما أقضي بينكم بالبينات و الأيمان».

و احتمال إرادة القضاء بالأيمان و لو من حيث النكول عنها خلاف الظاهر منها، و خروج القضاء بنكول المدعي عن ذلك لدليله لا ينافي التقسيم المزبور، بل لعل النصوص الكثيرة الواردة في ترجيح البينات عند التعارض باليمين(6)ظاهرة في ذلك أيضا، بل لعل سبر أدلة القضاء يشرف الفقيه على القطع بأن الأصل في القضاء ذلك، و أنه لا قضاء بدون ذلك إلا ما خرج من نكول المدعي الذي قد عرفت قيام البحث في أن القضاء بالسقوط به في المجلس أو مطلقا مع عدم البينة أو عدم الحكم بالنكول أو مطلقا كما عرفت.

و حينئذ فلا مناص بعد فرض الإجماع المركب المزبور عن ذلك.


1- 1 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 4.
2- 2 الوسائل الباب- 1- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 1- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.
4- 4 الوسائل الباب- 1- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
5- 5 الوسائل الباب- 2- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
6- 6 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 189

و لعله لذا جزم ابن إدريس بأن القول بالقضاء بمجرد نكول المنكر من دون حلف المدعي اشتباه و خطأ محض، بل قد يحتمل كلام القائلين به إرادة تسبيب نكول المنكر لزوم الحق و لو باقتضائه حلف المدعي بعد الرد عليه من الحاكم.

بل لعله ظاهر المحكي عن ابن زهرة منهم، فإنه بعد أن اختار في المقام القضاء برد اليمين على المدعي قال بعد ذلك بورقة تقريبا: «و إن نكل المدعى عليه عن اليمين لزمه الخروج عن حق خصمه فيما ادعاه» و هو لا يتم إلا بما ذكرناه.

و على كل حال ف لو بذل المنكر يمينه بعد الحكم ب النكول لم يلتفت إليه بناء على القضاء به بلا خلاف أجده فيه و في عدم الالتفات إليه أيضا بعد إحلاف الحاكم المدعي على القول الثاني، كما اعترف به في الرياض لتمامية الأمر و ثبوت الحق و حصول الفصل بسبب القضاء عليه حينئذ بعد الأدلة التي سمعتها من الطرفين التي لا يعارضها إطلاق ما دل على أن اليمين عليه بعد تقييدها به، بل في الرياض دعوى اختصاصه بحكم التبادر و غيره بيمينه قبل الحكم عليه بنكول أو إحلاف المدعي برد اليمين عليه و لو من الحاكم.

نعم في الرياض «هذا إذا كان الحكم عليه بنكوله بعد عرض حكمه عليه و لو مرة، و لو قضى بنكوله من غير عرض فادعى الخصم الجهل بحكم النكول ففي

نفوذ القضاء إشكال من تفريطه، و ظهور عذره، و لعل الثاني أظهر، و بالأصل أوفق».

قلت- بعد الإغضاء عن قوله: «و لو مرة» المشعر بإرادة العرض لتحقيق النكول لا تفهيم الحكم-: ليس في شي ء مما وصل إلينا من الأدلة وجوب العرض عليه بمعنى إعلامه حكم النكول، و الأصل البراءة،

ج 40، ص: 190

فلا وجه لنقض الحكم حينئذ مع العلم بحاله فضلا عن دعواه الجهل، خصوصا بعد ملاحظة الاستصحاب و غيره.

بل و لا يجب العرض عليه بالمعنى السابق مرة و إن صرح بوجوبها بعضهم فضلا عن تكرار ذلك عليه ثلاثا للاستظهار و إن ذكره المصنف و غيره، بل لعل الموجود فيها خلافه، و هو القضاء باليمين أو برده أو بالنكول عنه في المدعي و المنكر و نحو ذلك مما يقتضي عدم عذرية الجهل بذلك موضوعا و حكما فضلا عن دعواه.

و من هنا استظهر في كشف اللثام أنه لا يجب إلا الأمر بالحلف لا قوله: «إن حلفت و إلا جعلتك ناكلا» و لا مرة، للأصل.

و لو بذلها قبل حلف المدعي اليمين المردودة فالمتجه جوازه، للأصل من غير فرق بين كون الرد منه أو من الحاكم، و احتمال أن ذلك مقتض لإسقاط حقه من اليمين فلا يعود لا دليل عليه، بل ظاهر الأدلة خلافه و إن قال الحاكم له: احلف فضلا عن إقباله عليه بوجهه، خصوصا مع رضا المدعي بذلك خلافا للفاضل في التحرير فجعل قول الحاكم له: احلف كالقضاء بالنكول.

هذا و في الرياض أيضا «أن المستفاد من عبائر الجماعة عدا الماتن في النافع عدم الالتفات إلى اليمين المبذولة بعد النكول لا بعد الحكم به، و هو مشكل، و لهذا اعترضهم المقدس الأردبيلي فقال: هو فرع ثبوت الحق بالنكول فورا، و لا دليل عليه، و هو حسن إلا أن احتمال مسامحتهم في التعبير و إرادتهم ما هنا أي الحكم بالنكول قائم».

قلت: لا ريب في بعد الاحتمال المزبور، بل الظاهر كون المراد من عبارة النافع هو تحقيق كونه ناكلا، لا الحكم به نفسه، أو الحكم عليه بالحق بمقتضى نكوله، فإن الأول ليس من مورد الحكم على الظاهر،

ج 40، ص: 191

و الثاني مفروغ منه ليس محلا للتنبيه، نعم لعل وجهه ما أشرنا إليه من تحقق سبب الحكومة و حصول ميزانها المقرر شرعا عند القائل به، نحو نكول المدعي عن اليمين المردودة عليه. و بذلك يندفع ما حكاه عن المقدس الأردبيلي، كما أنه مما ذكرناه يعلم النظر فيما في كشف اللثام حتى فيما حكاه فيه عن التحرير و الدروس، فلاحظ و تأمل.

و لو كان للمدعي بينة لم يقل الحاكم أحضرها بمعنى عدم جواز ذلك له، كما عن المبسوط و المهذب و السرائر لأنه حق له إن شاء جاء به و إلا فلا، إذ قد يريد اليمين.

و قيل كما عن الشيخين و الديلمي و الحلبي و القاضي في أحد قوليه يجوز له ذلك بل في الرياض نسبته إلى أكثر المتأخرين، بل في المسالك إلى أكثر أصحابنا، للأصل بعد فرض كون المراد من الأمر الاذن و الاعلام لا الوجوب و الإلزام و هو حسن.

و لكن في القواعد و المختلف و الدروس التفصيل بين علم الحاكم بمعرفة المدعي بكون المقام مقام بينة فالأول؛ و جهله بذلك فالثاني، و الأولى حمل القول الأول على إرادة الوجوب من الأمر على وجه الإلزام به، كما هو مفاد دليله، و لا ريب في عدم جواز ذلك، ضرورة عدم وجوبه عليه، لإمكان إرادته اليمين، بل له إسقاط الدعوى من أصلها، و الثاني على إرادة الجواز و الاعلام من الأمر، و لا ريب في جوازه، للأصل و غيره، و بذلك يكون النزاع لفظيا.

بل منه أيضا يعلم ما في التفصيل الذي مرجعه إلى بيان أصل الحكم شرعا، و هو لا مدخلية له فيما نحن فيه، كما لا مدخلية في أصل بيان الحاكم الحكم بأن على المدعي البينة و على المنكر اليمين و نحو ذلك مما هو بيان و تعرف لميزان القضاء المقرر شرعا، و هو واضح.

ج 40، ص: 192

و كيف كان ف مع حضورها ففي المتن و غيره لا يسألها الحاكم ما لم يلتمس المدعي لأنه حقه، فلا يتصرف فيه من غير إذنه، و إن كان يكفي في سؤاله أن يقول إذا أحضرها: هذه بينتي أو شهودي أو نحوهما، بل قد يقال بالاكتفاء بشاهد الحال، بل قد يقال: إن ذلك حق للحاكم، فلا يتوقف على الاذن مطلقا كي يحتاج إلى الدلالة عليه بشاهد الحال و نحوه.

و على كل حال فإذا أراد سؤالها ففي القواعد «قال: من كانت عنده شهادة فليذكر إن شاء، و لا يقول لهما اشهدا» و لعله لأنه أمر لهما بالشهادة، و قد لا تكون عندهما شهادة، و ربما توهما بذلك أن عليهما الشهادة و إن لم يعين بالحال. نعم له أن يقول: من كانت عنده شهادة فليشهد و لا يكتم شهادته و نحو ذلك، لأنه أمر بالواجب و نهى عن المحرم، و فيه أن مثل ذلك خطاب عرفي يراد منه الشهادة و إن كانت عندهما، و احتمال توهمهما لا يقدح بعد فرض ظهور الخطاب في ذلك، كما هو واضح.

و مع الإقامة بالشهادة قيل لا يحكم إلا بمسألة المدعي أيضا لأن ذلك حق له، و ربما كان له غرض في عدم الحكم، و لو فرض جهل المدعي بتوقف حكم الحاكم على طلبه بينه له، لكن قد يقال: إن له الحكم و إن لم يسأله المدعي، لأن ذلك منصبه و وظيفته كما عرفته فيما سبق، و مفروض المسألة عدم رفع يد المدعي عن دعواه، و لكن لم يخطر في باله الاذن و لو لجهل أو غفلة، و حينئذ فلا ريب في اقتضاء إطلاق الأمر(1)بالحكم بين الناس عدم التوقف على الاذن كما هو واضح.

و على كل حال ف بعد أن يعرف عدالة البينة على


1- 1 سورة النساء: 4- الآية 58 و سورة المائدة: 5 الآية 42 و سورة ص: 38 الآية 26.

ج 40، ص: 193

وجه تكون صالحة لإثبات الدعوى يقول للخصم هل عندك جرح و في وجوب ذلك إشكال فإن قال: نعم و سأل الانظار في إثباته أنظره لإمكان صدقه، و ل

قول علي (عليه السلام) لشريح(1): «و اجعل لمن ادعى شهودا أمدا بينهما، فإن أحضرهم أخذت له بحقه و إن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية»

إلا أنه كما ترى لا تعيين فيه لمدة الانظار التي قدرها في المبسوط و غيره ثلاثا بل لا أجد فيه خلافا بينهم من دون تفصيل بين بعد المسافة و قربها، مع أن ظاهر المرسل المزبور كون الأمد بحيث يمكن إتيان البينة فيه، كما هو ظاهر النافع.

و احتمل في كشف اللثام تنزيل الإطلاق المزبور من المصنف و غيره على ما إذا لم يدع بعد مسافة البينة بحيث لا تحضر في ثلاثة أيام، قال:

«و إذا كان كذلك أنفذ الحاكم حكمه، و الخصم على حجته إذا أثبت الفسق».

و فيه أن المرسل المزبور غير جامع لشرائط الحجية، و إطلاق الأدلة يقتضي تحقق ميزان القضاء، و لكن التأخير ثلاثة أيام لقاعدة لا ضرر و لا ضرار بعد فتوى الأصحاب بذلك، و بقاء الخصم على حجته مناف للقضاء الذي هو الفصل، و لعله لذا كان ظاهر المصنف و غيره اعتبار دعوى الخصم وجود الجارح في الانظار، فلو أراده حينئذ لاحتمال حصوله لم ينظر، و ليس هو إلا لتحقق ميزان القضاء، هذا كله في بينة الجرح، و أما بينة الدعوى في غيره فستسمع الكلام فيها إنشاء الله.

و كيف كان فان تعذر الجرح مدة الإنظار حكم عليه بعد سؤال المدعي أو مطلقا كما عرفت، لكن عن المبسوط استحب أن يقول للمدعى عليه: قد ادعى عليك كذا و شهد به عليك كذا و كذا و أنظرتك جرح الشهود فلم تفعل فيها أنا ذا أحكم عليك ليتبين أنه حكم


1- 1 الوسائل الباب- 1- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1.

ج 40، ص: 194

بحق، و الأمر سهل.

و لا يستحلف المدعي مع البينة القابلة لإثبات الحق بلا خلاف فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى

خبر محمد بن مسلم(1)«سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يقيم البينة على حقه هل عليه أن يستحلف؟ قال: لا»

و خبر أبي العباس(2)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «إذا أقام الرجل البينة على حقه فليس عليه يمين»

خلافا لبعض العامة و إن وافقه ما في

الخبر(3)من وصية علي (عليه السلام) لشريح «و رد اليمين على المدعي مع بينته، فان ذلك أجلى للعمى و أثبت للقضاء»

لكنه ضعيف قاصر عن معارضة ما عرفت، بل يمكن حمله على ما تسمعه من الصور المستثناة أو على ضرب من الندب مع رضا المدعي و طلب المدعي عليه أو غير ذلك، على أن المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(4)أنه اشترط على شريح أن لا ينفذ قضاء إلا بحضرته.

و على كل حال فلا ريب في الحكم المزبور إلا أن تكون الشهادة على ميت فيستحلف على بقاء الحق في ذمته استظهارا لازما في الإثبات بالبينة بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له، كما اعترف به غير واحد، بل في الروضة هو موضع وفاق، و في المسالك تارة نسبه إلى الشهرة من غير ظهور مخالف، و أخرى إلى الاتفاق، لكن ظاهره أخيرا الشك في الإجماع، بل لم تصدر الوسوسة في ذلك إلا منه، و تبعه الأردبيلي (رحمه الله) نعم قد خلت عنه كثير من كتب القدماء كالمقنعة و الانتصار و النهاية و الخلاف و الوسيلة و الكافي و المراسم و الغنية و السرائر و جامع الشرائع، بل قيل لم يصرح به أحد قبل المصنف غير الشيخ، إلا أن ذلك غير قادح في تحصيل


1- 1 الوسائل الباب- 8- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 8- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
3- 3 الوسائل الباب- 1- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1.
4- 4 الوسائل الباب- 1- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1.

ج 40، ص: 195

الإجماع على بعض طرقه المقررة في الأصول، و لذا حكاه الصيمري عليه هنا، فلا ريب في الاستدلال به بناء على حجية مثله.

على أن الأصل في ذلك

قوي عبد الرحمن بن أبي عبد الله(1)الذي رواه المحمدون الثلاثة المنجبر بما عرفت قال: «قلت للشيخ يعني موسى ابن جعفر (عليهما السلام)- كما عن الفقيه- أخبرني عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلا يكون له البينة بماله. قال: فيمين المدعى عليه، فان حلف فلا حق له، و إن لم يحلف فعليه- كما في الكافي و التهذيب، و أبدل في الفقيه قوله: «و إن لم» إلى آخره بقوله: «و إن رد اليمين على المدعى فلم يحلف فلا حق له»

- فان كان المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين بالله الذي لا إله إلا هو لقد مات فلان و أن حقه لعليه، فإن حلف و إلا فلا حق له، لأنا لا ندري لعله قد وفاه ببينة لا نعلم موضعها أو بغير بينة قبل الموت، فمن ثم صارت عليه اليمين مع البينة، فإن ادعى و لا بينة فلا حق له، لأن المدعى عليه

ليس بحي، و لو كان حيا لألزم اليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه فمن ثم لم يثبت له عليه حق».

و صحيح الصفار(2)الذي رواه الثلاثة أيضا «كتب محمد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) هل تقبل شهادة الوصي للميت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقع (عليه السلام) إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدعي اليمين (يمين خ ل) و كتب إليه أ يجوز للوصي أن يشهد لوارث الميت صغيرا أو كبيرا بحق له على الميت أو على غيره و هو القابض للوارث الصغير و ليس للكبير


1- 1 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 28- من كتاب الشهادات- الحديث 1.

ج 40، ص: 196

(الكبير خ ل) بقابض؟ فوقع (عليه السلام) نعم، و ينبغي للوصي أن يشهد بالحق و لا يكتم شهادته، و كتب إليه أو تقبل شهادة الوصي على الميت بدين مع شاهد آخر؟ فوقع (عليه السلام) نعم من بعد يمين».

و المناقشة في الأول بضعف السند، و باحتمال غير الامام من الشيخ و غير الشاهدين من البينة، و بأن ظاهره وجوب اليمين المغلظة بناء على ظهور لفظ «عليه» في الوجوب، و لا قائل به و إلا فلا يدل على المطلوب، و يمكن حمله على التقية أو الاستحباب و في الثاني بأنه مكاتبة و باشتماله على ما هو مخالف للقواعد و معارض ب

صحيحه الآخر(1)«كتب إليه (عليه السلام) أيضا رجل أوصى إلى ولده و فيهم كبار قد أدركوا و فيهم صغار، يجوز للكبار أن ينفذوا و يقبضوا (و يقضوا خ ل) ديونه لمن صح (ممن صح خ ل إن صح خ ل) على الميت بشهود عدول قبل أن يدركوا الأوصياء الصغار، فوقع (عليه السلام) نعم على الكبار (الأكابر خ ل) من الولد أن يقضوا دين أبيهم و لا يحبسوه بذلك»

لا تستأهل ردا.

إنما الكلام في ظهور النص و الفتوى في أصل اعتبار اليمين مع البينة في ثبوت الحق على وجه متى تعذر أحدهما سقط، أو أن ذلك مخصوص فيما إذا كان المدعي صاحب الحق لا وصية أو وارثه، لم أجد تحرير ذلك في كلامهم.

و لكن في بعض كتب المعاصرين حكاية الأول في بعض أفراد الفرض و إن اختار هو الثاني، فإنه بعد أن فرض المسألة فيما لو ادعى وارث ميت على ميت آخر و اختار عدم اليمين على البت عليه، قال: «لأن الدليل إنما يدل على ثبوت اليمين على نفس المدعي، فيبقى ما عداه على


1- 1 الوسائل الباب- 50- من كتاب الوصايا- الحديث 1.

ج 40، ص: 197

الأصل، و أقصى ما يتوجه عليه بعد ذلك يمين نفي العلم» إلى آخر ما ذكره، فان ما حضرني من نسخة كتابة غير نقية من الغلط.

لكن فيه أن ظاهر الفتوى و النص خصوصا الصحيح كون ذلك هو الحجة على الميت فيتجه حينئذ سقوط الحق، إلا أنه كما ترى مناف لمذاق الفقه، فقد يقال: إن للوارث الحلف على مقتضى الاستصحاب كما يحلف على مقتضى اليد، لكن هو- مع أنه كما ترى أيضا، خصوصا إذا كان المستصحب غير معلوم له و إنما شهدت به البينة- لا يتم في الوصي الذي لا يجوز حلفه لإثبات مال الغير، اللهم إلا أن يقال به هنا باعتبار أنه ليس مثبتا، بل هو شرط في حجية البينة التي هي في الحقيقة المثبتة، أو يقال بالاكتفاء بيمين الوارث مع البينة في إثبات مفادها الذي لا فرق فيه بين متعلق الوصايا و الإرث، لأنها من الحجة المثبتة للموضوع في نفسه.

بل منه ينقدح عدم وجوب اليمين على كل واحد من الورثة، بل يكفي يمين واحدة من أحدهم، لأن مقتضى إطلاق النص اعتبار يمين واحدة في تمامية حجية البينة التي قد عرفت ثبوت الموضوع بها لسائر الشركاء و إن أقامها أحدهم، فتأمل فإنه دقيق نافع. و إن كان لا يخلو من بحث، ضرورة كون اليمين هنا نحوها مع الشاهد الواحد، فلا يكتفى بها لغير ذي الحق.

بل قد يناقش في قبول اليمين من الوارث، لتضمن يمين الاستظهار عدم الوفاء و الإبراء و نحوهما، و لا يكون منه على البت لأنه فعل الغير، فمع فرض اعتبار يمين البت في يمين الاستظهار يتجه حينئذ سقوط الحق حينئذ كما سمعته أولا، بل قد يؤيد بأنه مقتضى أصل عدم ثبوت الحق بعد فرض تعارض الأمارات على وجه لا وثوق بشي ء منها.

ج 40، ص: 198

نعم قد يقال:- بعد استبعاد سقوط الحق مع البينة العادلة خصوصا مع قطع الوارث بالحق، بل يمكن دعوى معلومية خلافه و لو بالسيرة القطعية، و استبعاد سقوط اليمين في الدعوى على الميت مع ظهور النص و الفتوى فيه-: إن المتجه إلزام الوارث باليمين على نفي العلم باستيفاء مورثه أو إبرائه، لظهور الخبر الأول(1)في اليمين المخصوصة فيما إذا كان المدعي المستحق، و التعليل فيه أيضا. و أما الثاني(2)فليس فيه إلا اعتبار يمين بعد البينة، فهي بالنسبة إلى كل أحد بحاله، بل إن لم يكن إجماع على سقوط اليمين أو الانظار بها أمكن ذلك في ولي الطفل، بل و الوصي في وجه، و لا حاجة إلى دعوى العلم في اعتبار هذا اليمين الذي هو للاستظهار من كل مدع بحسب حاله، فتأمل جيدا.

هذا و في المسالك «لو أقر له قبل الموت بمدة لا يمكن فيها الاستيفاء عادة ففي وجوب ضم اليمين إلى البينة وجهان، من إطلاق النص(3)الشامل لموضع النزاع، و قيام الاحتمال و هو إبراؤه منه و قبضه من ماله و لو بعد الموت، و من البناء على الأصل و الظاهر من بقاء الحق، و هذا أقوى».

و فيه أن ذلك مبني على اختصاص اليمين لنفي احتمال الوفاء من الميت دون غيره، لكن فيه أولا أنه مناف لإطلاق صحيح الصفار(4)بل و للخبر المزبور(5)المراد منه ذلك على جهة التمثيل لا التقييد، كما هو واضح.

نعم قد يقال بسقوطه فيما لو فرض شهادة الشهود ببقاء الحق في ذمة الميت على وجه لا احتمال لسقوطه أصلا إلى حين الدعوى أو حين


1- 1 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 28- من كتاب الشهادات- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
4- 4 الوسائل الباب- 28- من كتاب الشهادات- الحديث 1.
5- 5 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 199

الوفاة بناء على الاجتزاء به، مع أن ظاهر الصحيح المزبور(1)التعبد، و يمكن بناؤه على الغالب، فلا يحتاج إليه في نحو الفرض، بل لعل ظاهر الخبر الأول(2)كون اليمين للاستظهار، باعتبار كون شهادة البينة بالاستصحاب، و الفرض في المقام خلافه، فلا استظهار كما في صورة العلم بالحال، و الله العالم.

ثم إن ظاهر قوله: «و قبضه من ماله و لو بعد الموت» مراعاة نفي الاحتمال بعد الموت أيضا، لكن ظاهر اليمين في الخبر المزبور(3)اعتبار نفيه إلى حين الموت دون ما بعده، اللهم إلا أن يكون المفروض معلومية انتفائه بعده، إلا أنه كما ترى.

ثم إن ظاهر الصحيح بل و الخبر اختصاص الحكم المزبور بالدين، أما غيره من دعوى عين أو حق خيار فهو باق على مقتضى عموم حجية البينة بلا يمين، اللهم إلا أن يقال بظهور الخبرين المزبورين في الفرق بين الميت و الحي باعتبار اليمين فيما هو حجة على الحي استظهارا، و الدين فيهما إنما هو من باب المثال.

لكن لا يخفى ما فيه من المنع، خصوصا بعد الفرق بين بينة العين و الدين بأن مبنى الثانية على الاستصحاب غالبا بخلاف الأولى التي لا بد فيها من الشهادة على ملك المدعي إلى حين الدعوى، لمعارضة اليد فيها، فيمكن الاقتصار فيهما على الدين لذلك.

نعم لو شهدت البينة على أن العين كانت في يد الميت عارية أو غصبا أو نحوهما و لم تشهد أنها كذلك إلى حين الوفاة أو حين الدعوى و قلنا بالاكتفاء بها في الحي لأصالة عدم تجدد مقتض آخر لاستمرار قبضه أو


1- 1 الوسائل الباب- 28- من كتاب الشهادات- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 200

أصالة عدم قبض جديد بناء على إلحاق صورة الشهادة على القبض عارية أو غصبا مع عدم العلم بعودها و تجدد قبض جديد بالصورة الأولى التي علم فيها اتحاد القبض، و لكن يحتمل تجدد مقتض لاختلاف استدامته عن ابتدائه احتمل هنا ضم اليمين معها بناء على أن ذكر الدين مثال لكل ما يحتمل فيه نحو ذلك من تجديد ملك و نحوه. بل في كشف اللثام أنه الوجه.

لكن قد يناقش (أولا) بمنع استفادة ذلك من الخبرين على وجه يخرج عن القياس الممنوع عند الشيعة، و (ثانيا) بمنع الاجتزاء بمثل هذه البينة في الحي على وجه

يرتفع ما تقتضيه اليد من الملكية في الزمان المتأخر الذي لا ينافيه وقوع القبض منه ابتداء عارية مثلا فضلا عن صورة احتمال تجدد قبض جديد منه.

و ما في القواعد من أنه «لو أقام بينة بعارية عين- أي عند الميت- أو غصبها كان له انتزاعها من غير يمين» يراد به مع الشهادة على ذلك إلى حين الوفاة أو الدعوى، لا أن المراد شهادتها بكونها عارية في الزمن السابق مع عدم العلم بحالها في غيره من الزمان المحتمل لتجدد قبض جديد أو مقتض لاختلاف الاستدامة مع الابتداء، كما اختاره في كشف اللثام.

و على كل حال فلا ريب في أن الأقوى عدم إلحاق العين بالدين في ذلك للعمومات و إن كان هو الأحوط مع فرض بذلها من المدعي، نعم لو فرض تلفها في يده قبل موته على وجه يترتب عليه ضمانها اتجه حينئذ كونها كالدين، بل هي من أفراده، أما إذا فرض تلفها بعد موته و كانت مضمونة عليه فقد يقوى عدم اليمين عليه، لقصور الخبرين(1)


1- 1 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1 و الباب- 28- من كتاب الشهادات الحديث 1.

ج 40، ص: 201

عن تناول ذلك، بل ظاهرهما غيره، فيبقى هو حينئذ على عموم حجية البينة، و التعليل قد عرفت أنه فيما قبل الموت و نحوهما، فتأمل جيدا.

و لو شهدت البينة على صبي أو مجنون أو غائب بدين ففي ضم اليمين إلى البينة تردد و خلاف ينشأ من كونهم كالميت في عدم اللسان المحتمل على تقدير وجوده الجواب بما يقتضي البراءة منه، بل هو مقتضى منصوص العلة في الخبر الأول(1)و هو المحكي عن الأكثر بل المشهور، و منهم الشيخ في المبسوط و الفاضل و الشهيد، و من أن معقد النص(2)و الفتوى الميت، فلا يقاس عليه غيره، لحرمته عندنا.

لكن لا ريب في أن أشبهه أنه لا يمين وفاقا للمصنف و جماعة، و خصوصا في الغائب الذي ورد فيه

مرسل جميل بن دراج عن جماعة(3)عنهما (عليهما السلام) قال: «الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة، و يباع ماله، و يقضى عنه دينه و هو غائب، و يكون الغائب على حجته إذا قدم، و لا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا بكفلاء»

و نحوه

قول الباقر (عليه السلام) في خبر محمد بن مسلم(4)إلا أن فيه «إذا لم يكن مليا»

إذ لا ريب في ظهورهما و لو للإطلاق في عدم اعتبار اليمين معها، و معارضتهما بمنصوص العلة على فرض تسليم جريانه في المقام من وجه، و لا ترجيح، فيرجع إلى عموم ما دل على حجية البينة بدونه السالم حينئذ عن معارضة منصوص العلة بعد معارضته بالخبرين المزبورين، بل

قوله (عليه السلام) فيهما: «و يكون على حجته»

مشعر بالفرق بينه و بين الميت بأن له حالا يقيم به حجته في نقض البينة المزبورة، و هو ما إذا حضر بخلاف الميت، بل هو جار أيضا في الصبي


1- 1 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
4- 4 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 202

و المجنون حال البلوغ و الإفاقة.

بل منه يعلم أن المراد من منصوص العلة في الخبر(1)عدم الدراية التي لا رجاء معها لاحتمال قيام الحجة، فلا يجري حينئذ فيهما، و الله العالم و لو أقام شاهدا واحدا بدينه على الميت ففي القواعد و غيرها «حلف يمينا واحدة» لا لاختصاص النص و الفتوى بالبينة» إذ من المعلوم أن ذلك أضعف منها، بل للاستغناء باليمين القائم مقام الشاهد عن يمين الاستظهار.

و فيه أنه قد لا يغني عنه، إذ لا يعتبر فيه التعرض لبقاء الحق، و مع فرض تقييد إغنائه بالمشتمل على ذلك كما في كشف اللثام قد يقال بأن المعتبر من المقيد ما كان على وفق شهادة الشاهد المفروض كونها على أصل ثبوت الحق، و ما فيها من الزيادة لا دليل على حجيته، إذ ليست هي يمين شاهد و لا يمين استظهار، لأن الأصل عدم التداخل، خصوصا بعد

قوله (عليه السلام) في الصحيح(2): «مع شاهدين بعد يمين»

الظاهر في فعله مستقلا منضما إلى الحجة في حق الحي، كما هو واضح بأدنى تأمل، فالأولى بل الأقوى ضم يمين آخر معه. نعم قد يقال بالاستغناء في صورة شهادة الشاهد ببقاء الحق ثم اليمين من المدعي على نحو ذلك، إذ هو بحكم البينة على بقاء الحق التي قد عرفت قوة الاستغناء بها عنه أيضا إلا مع احتمال التعبد الذي سمعته سابقا.

و كيف كان فلا إشكال و لا خلاف في أنه يدفع الحاكم من مال الغائب قدر الحق الثابت عليه، لكن في المتن و غيره بعد


1- 1 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 28- من كتاب الشهادات الحديث 1 و فيه « نعم من بعد اليمين».

ج 40، ص: 203

تكفيل القابض بالمال أي إلزامه بكفيل بذلك، و لعله للخبرين(1)السابقين، إلا أنك قد عرفت اشتراط عدم الملاءة في الثاني منهما، بل مقتضى الجمع بينه و بين الآخر تنزيل الأول عليه، إلا أنه لم أجد قائلا به نعم في المسالك «و إنما اعتبر المصنف الكفيل لأنه لم يوجب عليه اليمين مع البينة، فجعل الكفيل عوضا عنه، لاحتمال براءة الغائب من الحق على وجه لا تعلمه البينة، و من أوجب عليه اليمين لم يعتبر الكفيل إلا على تقدير تعذرها، كما لو كان المدعي على الغائب وكيل المستحق، فإنه لا يجوز إحلافه، فيستظهر بالكفيل، و لا شك في أن الكفالة و اليمين احتياط و استظهار إلا أن ثبوتهما يحتاج إلى دليل».

قلت: قد عرفت أن دليله عند القائل به التعليل في القوي(2)و الخبران(3)المزبوران المعمول بهما، على أن المرسل جميل، و هو من أصحاب الإجماع، و قد أرسل عن جماعة، بل هما يدلان على اعتبار تعدد الكفلاء و إن لم نجد به قائلا، و لعله لظهور إرادة الجنس منه، و اعتبار اليمين لا ينافي الاستظهار بذلك، إذ هو على حجته على كل حال.

و من هنا اعتبره في القواعد مع قوله: «بضم اليمين» و كأنه ظن تمامية الدعوى مع اليمين المقتضية لنفي الاحتمالات، فلا جهة للتكفيل، بخلاف حال عدم اليمين، فإنها لم تتم بعد فيستظهر بالتكفيل، و فيه أن اليمين على القول باعتبارها لا تسقط صحة الدعوى منه بعد ذلك و التكفيل للاستظهار بها بعد النص عليه في الخبرين، كما هو واضح.

ثم على فرض اعتبار اليمين لم يجز للحاكم التسليم قبلها في صورة الوكيل، ضرورة عدم ثبوت الحق بدونها، فمن الغريب صدور ذلك منه.


1- 1 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 204

كما أن من الغريب مناقشة الأردبيلي في أصل دفع الحاكم من مال الغائب بعد أن ذكر دليله مرسل جميل بالإرسال و مجهولية جعفر بن محمد ابن إبراهيم و عبد الله بن نهيك أيضا في سنده، و بأنه غير عام، و إدخال ضرر على الغائب، إذ قد يكون له جواب قدح و نحو ذلك و يتعذر ذلك بعد الحكم، و على تقديره فقد يتعذر استيفاء الحق بموت الخصم و فقره أو الكفيل أيضا، فينبغي الاقتصار على موضع الوفاق، و هو فيما إذا علم الخصم أنه إذا لم يحضر يحكم عليه و هو غائب، لأنه يكون أدخل الضرر على نفسه.

إذ هي كما ترى، ضرورة عدم الاحتياج إلى المرسل في الدفع بعد فرض مشروعية الحكم على الغائب، ضرورة كونه حينئذ من مقتضياته، بل لو لا النص و الفتوى على التكفيل بالوجه المزبور لكان المتجه عدم وجوبه.

ثم إن الظاهر إرادة الضمان من الكفالة هنا، لأن به الاستظهار التام، بل قد يشعر بذلك اعتبار عدم الملاءة في أحد الخبرين(1)و الله العالم.

و لو ذكر المدعي أن له بينة غائبة خيره الحاكم فيما له شرعا بين الصبر لأن المدعي لا يجبر على دعواه و بين إحلاف الغريم فان ذلك له مع حضور بينته فضلا عن حال الغيبة.

لكن في النافع «و لو قال: البينة غائبة أجل بمقدار إحضارها، و في تكفيل المدعى عليه تردد، و يخرج من الكفالة عند انقضاء الأجل».

و فيه أنه لا فائدة في هذا التأجيل، ضرورة أن له الدعوى و إقامتها بعد الأجل، و احتمال سقوط دعواه حينئذ مطلقا أو بعد إلزامه بإحلاف المنكر لا ينبغي صدوره من متفقة فضلا عن الفقيه و إن كان قد يتوهم


1- 1 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 205

دلالة مرسل الوصية لشريح(1)عليه المحتمل لإرادة بينة الجرح خاصة، و لو سلم دلالته على ذلك فلا قائل به، فلا يبعد إرادة الإمهال الذي لا يترتب عليه ذلك من التأجيل فيه بل و في الخبر(2)أو أن مراده الأجل لأجل التكفيل و إن قصرت العبارة عنه، كما هو ظاهر النهاية، قال: «و إن قال: لست أتمكن من إحضارها جعل معه مدة من الزمان ليحضر فيه بينته و تكفل بخصمه، فإن أحضرها نظر فيها و إن لم يحضرها عند انقضاء الأجل خرج خصمه عن حد الكفالة». فتأمل جيدا.

و أما ما ذكره من التردد في التكفيل فقد جزم هنا بعدمه، فقال:

و ليس له ملازمته على وجه لا تجوز له بدون ذلك فضلا عن حبسه و لا مطالبته بكفيل وفاقا للمحكي عن أكثر المتأخرين، بل عامتهم و الإسكافي و الشيخ في الخلاف و المبسوط و القاضي في أحد قوليه، للأصل السالم عن معارض بعد عدم ثبوت الحق الذي لا معنى للعقوبة عليه قبله، على أن الكفيل يلزمه الحق إن لم يحضر المكفول، و هنا لا معنى له قبل إثباته، بل لا معنى لكون حضور الدعوى و سماع البينة حقا يكفل عليه، لأنه بعد الإتيان بالبينة إن كان حاضرا فذاك، و إلا حكم عليه و هو غائب.

خلافا للمحكي عن الشيخين في المقنعة و النهاية و القاضي في أحد قوليه و ابني حمزة و زهرة نافيا للخلاف فيه ظاهرا، لقاعدة لا ضرر و لا ضرار، فإنه قد يهرب المدعى عليه، و لا يتمكن المدعي من تحصيل الحق، فيجب حينئذ مقدمة، للزوم مراعاة حق المسلم من الذهاب في نفس الأمر، و بذلك ينقطع الأصل، و الالتزام بالكفيل أو الحبس و إن كان ضررا إلا


1- 1 الوسائل الباب- 1- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 206

أن ذهاب الحق أيضا ضرر، و على الحاكم مراعاة الأقل ضررا، و لعله التكفيل، و عدم الفائدة في التكفيل مسلم إن تحقق عدم إمكان إثبات الحق في نفس الأمر، و لكنه غير متحقق بعد احتمال حضور البينة و ثبوت الحق بها، فيلزم الكفيل إحضاره أو الالتزام بالحق إن ثبت و هرب المدعى عليه و لم يكن له مال يقتص منه، و الحكم على الغائب غير كاف في التخلص عن احتمال ذهاب الحق.

و من هنا مال في الرياض إلى ذلك و قال: «إن القول به لا يخلو من رجحان إن خيف هرب المنكر و عدم التمكن من استيفاء الحق بعد ثبوته من ماله، و لو لم يخف من ذلك أمكن ترجيح القول الآخر، و بهذا التفصيل صرح الفاضل المقداد، فقال: و لنعم ما قال، و يقوى أن التكفيل موكول إلى نظر الحاكم، فان الحكم يختلف باختلاف الغرماء، فان الغريم قد يكون غير مأمون، فالمصلحة حينئذ تكفيله، و إلا لزم تضييع حق المسلم، و قد لا يكون كذلك بل يكون ذا ثروة و حشمة و مكنة فلا حاجة إلى تكفيله، لعدم ثبوت الحق و الأمن من ضياعه. و ربما كان المدعي محتالا يطلب التكفيل وسيلة إلى أخذ ما لا يستحقه».

لكن لا يخفى عليك أن جميع ذلك لا ينطبق على أصول الإمامية، ضرورة رجوعه إلى ما يشبه الاستحسان، و قاعدة لا ضرر و لا ضرار لا وجه لجريانها في المقام، إذ الضرر لا يدفع بالضرر، على أنها لا تقتضي تعجيل الضرر على المسلم باحتمال ضرر الآخر، و لعل البحث بين الأصحاب في أصل مشروعية التكفيل بمجرد الدعوى، كما شرح به هنا الفاضل المزبور عبارة النافع، بل حكى القول عمن عرفت بلفظ جواز التكفيل و منعه، لا في الإلزام به قبل ثبوت الحق، و قد ذكرنا في الكفالة ما يستفاد منه ذلك.

ثم على التكفيل فهل يتعين في ضرب مدته ثلاثة أيام، كما عن

ج 40، ص: 207

ابن حمزة أو يناط بنظر الحاكم؟ قولان، و لكن على كل حال يخرج الكفيل من الكفالة عند انقضاء الأجل المضروب كائنا ما كان بلا خلاف و لا إشكال و الله العالم.

و كذا ليس له حبسه أو المطالبة بكفيل لو أقام شاهدا واحدا و إن كان عدلا، لعدم ثبوت الحق به، خلافا للمحكي عن المبسوط لقدرته على إثبات حقه باليمين فيحبس إلى أن يشهد آخر أو يحلف المدعي أو يحلفه، و غاية الحبس ثلاثة أيام، فإن أثبت الدعوى و إلا أطلق، و فيه أن العقوبة بالحبس إنما تجوز بالتقصير بالحق الثابت و لا يكفي فيها القدرة على إثباته، كما هو واضح.

[أما السكوت]

و أما السكوت فان اعتمده ألزم بالجواب لأنه نفسه ليس جوابا، و الفرض تعلق حق الدعوى بجوابه فان عاند حبس حتى يبين الجواب كما عن الشيخين و الديلمي و ابني حمزة و سعيد و الفاضل و ولده و غيرهم، بل في المسالك نسبته إلى المتأخرين.

و قيل و إن كنا لم نعرف قائله يجبر بالضرب و نحوه من باب الأمر بالمعروف حتى يجيب.

و قيل و القائل الشيخ في محكي مبسوطة و الحلي في محكي سرائره و الفاضل في موضع من قواعده و القاضي في محكي مهذبه يقول له الحاكم: إما أجبت و إما جعلتك ناكلا و رددت اليمين على المدعي، فان أصر رد اليمين على المدعي و قضى له، بل في الأول «أنه الذي يقتضيه مذهبنا و الثاني- يعني الحبس- قوي أيضا» و في الثاني «أنه الصحيح من مذهبنا و أقوال أصحابنا و ما يقتضيه المذهب» و في الأخير «أنه ظاهر مذهبنا و لا بأس بالعمل بالحبس».

و لكن الأول مروي كما عن التحرير أيضا و إن

ج 40، ص: 208

اعترف جماعة بعدم الظفر بهذه الرواية، نعم قيل: لعله

النبوي المشهور(1)«لي الواجد يحل عقوبته و عرضه» و في آخر «و حبسه»

المعتضد بما قيل من النصوص الكثيرة(2)الدالة على حبس أمير المؤمنين (عليه السلام) الغريم باللي و المطل من دون ضرب و إهانة و نحوهما.

و فيه أن المنساق منه المالي لا ما يعم استحقاق جواب الدعوى، سيما نصوص الغريم، و ربما علل أيضا بأن الواجب عليه الجواب، و هو كما يحتمل الإقرار يحتمل الإنكار، فيجب عليه الحبس، و غيره ليس بواجب لأصل البراءة، و جعله ناكلا أو كالناكل يحتاج إلى دليل.

و ظاهر الروضة التخيير بين الحبس و الرد، كما عن ظاهر الشيخ علي بن هلال مع إضافة الضرب أيضا.

ثم إن ظاهر الأصحاب عدم فعل شي ء معه على القول الأول غير الحبس، لكن في الرياض ألزم بالجواب أولا باللطافة و الرفق ثم بالإيذاء و الشدة متدرجا من الأدنى إلى الأعلى على حسب مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فإن أجاب و إلا حبسه حتى يجيب وفاقا لمن عرفت، ثم قال: «و قيل: يجبر حتى يجيب من غير حبس، بل يضرب و يبالغ في الإهانة إلى أن يجيب، و مستنده غير واضح عدا ما استدل له من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و فيه نظر فإنهما يحصلان أيضا بالأول، فلا وجه للتخصيص».

قلت: و مقتضاه أنه على الثاني يضرب حتى يجيب أو يموت، و ليس هو قولا لأحد، بل ليس من مقتضى ما ذكر دليلا له من الأمر بالمعروف


1- 1 راجع التعليقة 1 من ص 164. و سنن البيهقي ج 6 ص 51.
2- 2 الوسائل الباب- 11- من أبواب كيفية الحكم و الباب- 7- من كتاب الحجر.

ج 40، ص: 209

المعلوم عدم مشروعية هذا المقدار له، فالتحقيق أن الفرق بين الأول و الثاني الاقتصار على خصوص الحبس على الأول لما أرسلوه من الرواية بخلاف الثاني، فإنه مبني على حكم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من استعمال مراتبه التي تنتهي إلى الحبس أيضا.

و على كل حال فليس للأول إلا المرسل المنجبر بما عرفت، و للثاني إلا باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و للثالث أنه نكول أو أولى منه، ضرورة أنه لو أجاب بجواب صحيح ثم امتنع من اليمين جعل ناكلا، فإذا امتنع عن الجواب، و اليمين فأولى أن يكون ناكلا، لأنه نكل عن الجواب و اليمين معا، و لأن العناد منه أشد و أظهر، و لأنه لما لم ينكر احتمل الإقرار، فإذا اعتبرت يمين المدعي مع صريح الإنكار فمع السكوت أولى.

و من هنا قال المصنف و الأخير بناء على عدم القضاء ب مجرد النكول و إلا كان المتجه عدم الاحتياج إلى اليمين.

كل ذلك مضافا إلى ما في الاقتصار على الحبس من الإضرار بالمدعي بالتأخير، و ربما أدى إلى ضياع حقه، بل فيه و في الجبر إضرار بالمدعى عليه بلا دليل، و ما مر من الدليل عليهما مندفع بأن الرد على المدعي أردع له عن السكوت و أسهل و أفيد للمدعي.

و قد يناقش بعدم صدق اسم النكول عليه، إذ يحتمل أنه أدى الحق و ليس بمنكر يلزمه اليمين و لا مقر يلزمه الحق، فيسكت عن الإنكار لعدم صحته، و عن الإقرار مخافة الالتزام، و الفرض عدم شهود عنده و لو لموتهم، و لا يحسن التورية أو لا يعلم شرعيتها، و بأن الحكم بالنكول بمجرده أو بعد رد اليمين مخالف للأصل، فيقتصر فيه على محل اليقين، و ليس هو إلا ما انعقد عليه الإجماع من كونه بعد الإنكار، و هو مفقود في المقام قطعا، لما عرفت من إطباق المتأخرين كافة على

ج 40، ص: 210

اختيار القول الأول، بل قد عرفت إرسال الرواية فيه، بل ظاهرهم أنها صريحة فيه، و هي مع انجبارها بما سمعت معتضدة بالنبوي(1)السابق المعتضد بالنصوص الكثيرة(2)بل قد يستفاد من

قوله (عليه السلام) في خبر عبد الرحمن(3)المتقدم في الدعوى على الميت: «و لو كان حيا لألزم اليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه»

أن كيفية القضاء عليه إلزامه بأحد الثلاثة على جهة التخيير له، و لما كان طرق الإلزام كثيرة أمكن ترجيح الحبس منها بالمرسل المنجبر بما عرفت، بل ربما يدعى أنه المتعارف من طرق الإلزام، خصوصا بعد أن كان ذلك طريقا في الغريم المحقق، فهنا بطريق أولى.

على أن الدعوى المقابلة بالسكوت لو تقتضي رد اليمين على المدعي لعدم خروجه عن أحد الاحتمالين لاقتضت ذلك في الدعوى على الميت و على الممتنع عن مجلس الحضور و على الغائب و على الصبي و المجنون و نحوهم ممن لم يتحقق منهم جواب، و هو معلوم العدم، بل ينحصر طريق ثبوت الدعوى حينئذ بالبينة، فان لم تكن فلا حق له، كما أومأ إليه أيضا الخبر المزبور(4).

و دعوى اقتضاء إطلاق أدلة الأمر بالحكم بين الناس(5)وجوب إيجاده في الفرض، و قد عرفت استفادة ميزانه من النصوص الكثيرة الدالة على أنه البنيات و الأيمان(6)و هو الدليل على القضاء بنكول المنكر عن


1- 1 راجع التعليقة 1 من ص 164.
2- 2 الوسائل الباب- 11- من أبواب كيفية الحكم و الباب- 7- من كتاب الحجر.
3- 3 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
4- 4 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
5- 5 الوسائل الباب- 1- من أبواب كيفية الحكم.
6- 6 الوسائل 1 و 2 من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 211

الرد و اليمين الشامل لموضوع الفرض يدفعها منع وجوب إيجاده على كل حال، مضافا إلى عدم انحصار الحكم في ذلك، بل هو ما ذكرناه من الإلزام المزبور، و الحكم برد اليمين في الناكل إنما كان بعد الإجماع المركب على حصول ميزان القضاء، و لكنه النكول أو اليمين قلنا: إن الأقوى الثاني بخلاف المقام، فان المشهور عدم الحكم بالمعنى المزبور كما عرفت، بل هو الحبس المطابق لما اقتضاه خبر عبد الرحمن(1)الظاهر في عدم تحقق النكول لتعذر الجواب، بل لا بد فيه من تحقق الإنكار و عدم العمل بما يوجبه، و لذا سقطت الدعوى عن الميت التي يفرض فيها ما ذكره من أنه إما مقر أو منكر إلى آخر ما سمعت، و هو معلوم العدم فيه و في نظائره، و الله العالم.

هذا إذا كان السكوت عنادا و أما لو كان به آفة من طرش أو خرس توصل إلى معرفة جوابه بالإشارة المفيدة لليقين بكونه مقرا أو منكرا إذا لم نقل بإلحاق إشارة الأخرس باللفظ الذي يكتفى بالظن بالمراد منه.

و لو استغلقت إشارته بحيث يحتاج إلى المترجم لم يكف الواحد و افتقر في الشهادة ب المراد من إشارته إلى مترجمين عدلين بناء على أن ذلك من مقام الشهادة، و قد عرفت التأمل سابقا في نظيره، بل قد يحتمل في أصل الترجمة للفظ أنها من قرائن الظن بالمراد به، فلا يعتبر العدالة حينئذ فضلا عن التعدد، فتأمل و الأمر سهل.

ثم إن ظاهر حصر الأصحاب حال المدعى عليه في الثلاثة عدم حال آخر رابع مخالف لها في الحكم و حينئذ فإذا كان جوابه لا أدري و لا أعلم و نحو ذلك فهو منكر، ضرورة عدم كونه إقرارا، كضرورة عدم كونه سكوتا،


1- 1 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1

ج 40، ص: 212

فليس إلا الإنكار، و انسياق القطع بالعدم منه لا ينافي كونه فردا آخر له مرجعه عدم استحقاق ما يدعيه عليه و إن لم يعلمه في نفس الأمر، ضرورة اقتضاء تعلق الدعوى به استحقاق المدعى به عليه، فإذا نفى العلم بسببه كان نافيا للاستحقاق المزبور الذي هو روح الدعوى عليه. و بذلك يكون منكرا لا يتوجه عليه إلا

اليمين، لموافقته للأصل و غيره، و لا ينافي ذلك ما تسمعه من الأصحاب من غير خلاف فيه يعرف بينهم من اعتبار الحلف على البت في فعله نفيا و إثباتا المنزل على الصورة الغالبة من الإنكار، بخلاف ما إذا كان إنكاره بالصورة الثانية، فإنه يحلف على عدم العلم نحو يمين الوارث.

و لكن في مجمع البرهان انه «لو قال المنكر: إني ما أحلف على عدمه فاني ما أعلم بل أحلف على عدم علمي بثبوت حقك في ذمتي لا يكفي، بل يؤخذ بالحق بمجرد ذلك حينئذ إن قيل بالقضاء بالنكول، و بعد رد اليمين على المدعي إن لم نقل به، و يحتمل قويا هنا عدم القضاء بالنكول و إن قيل به في غيره، بل يجب الرد حينئذ».

نعم قال بعد ذلك: «و يحتمل الاكتفاء في الإسقاط بيمينه على عدم علمه بذلك، للأصل و عدم ثبوت ما تقدم و التأمل فيه، فتأمل- ثم قال-: إن الأصل عدم ثبوت الحق في ذمته، و طريق ثبوته الشهود، و الفرض عدمهم، و لم يثبت دليل على أن إنكار المدعى عليه و دعوى عدم علمه بالحق و عدم حلفه على البت يوجب ثبوت الحق في ذمته أو موجب لرد اليمين على المدعي، و يؤيده عموم

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة»

إلى آخره، فإنه يدل بظاهره على عدم اليمين على المدعي، و أن يمين المنكر أعم من أن تكون على نفي المدعى أو على


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 213

نفي العلم به، إذ هو لا ينكر إلا علمه، و أيضا البينة ما تشهد بثبوت الحق على الجزم و القطع الآن، بل أقصى ما تشهد بالثبوت مع عدم العلم بالمزيل، فينبغي أن تكون اليمين كذلك».

و في الكفاية «مقتضى ظاهر كلامهم أنه إذا ادعى عليه بمال في ذمته و لم يكن المدعى عليه عالما بثبوته و لا نفيه لم يكف حلف المنكر بنفي العلم، و أنه لا يجوز له حينئذ الحلف بنفي الاستحقاق، لعدم علمه بذلك، بل لا بد له من رد اليمين، و إن لم يرد يقضى عليه بالنكول و بعد رد اليمين على المدعي إن لم نقل به» و إن قال متصلا بما سمعت:

«لكن في إثبات ذلك إشكال، إذ لا يبعد الاكتفاء حينئذ بالحلف على نفي العلم و لا دليل على نفيه، إذ الظاهر أنه لا يجب عليه إيفاء ما يدعيه إلا مع العلم، و يمكن على هذا أن يكون عدم العلم بثبوت الحق كافيا في الحلف على عدم الاستحقاق، لأن وجوب إيفاء حقه إنما يكون بعد العلم به، لكن ظاهر عباراتهم خلاف ذلك، و بعض المتأخرين احتمل قويا عدم القضاء بالنكول في الصورة المذكورة و إن قيل به في غيره، بل يجب الرد حينئذ، و احتمل الاكتفاء في الإسقاط بيمينه على عدم علمه بذلك» و هو موافق لما ذكرناه و قلنا إنه غير مناف لظاهر كلماتهم، فان مرادهم من الجزم و البت في الصورة الأولى من الإنكار.

و من التأمل فيما ذكرنا يظهر لك اندفاع المناقشة بعدم الدليل على الاكتفاء في الفرض بالحلف على نفي العلم، و الأصل عدم انقطاع الدعوى المسموعة بمثل هذا اليمين، سيما إذا كانت مسقطة للبينة لو أقيمت بعدها نحو يمين الإنكار، فيقتصر فيما خالفه على المتيقن من النص و الفتوى، و ليس إلا اليمين على البت لا مطلقا، و ليس في النصوص و الفتاوى الدالة على سقوطها بها ما يدل على السقوط هنا، لما عرفت من أن المتبادر من

ج 40، ص: 214

اليمين على الشي ء اليمين على البت خاصة، و مقتضى ذلك عدم الاكتفاء باليمين على نفي العلم، فينحصر قطع الدعوى و سقوطها في رد اليمين على المدعي، إن حلف أخذ، و إن نكل سقطت الدعوى، و عدم وجوب إيفاء ما يدعيه عليه إلا مع العلم مسلم فيما بينه و بين الله تعالى، و لكن لا ينفع في إثبات كفاية الحلف على نفي العلم في مقام الدعوى و إسقاطها، و إن هو إلا عين النزاع. و منه يظهر الوجه في منع كفاية عدم العلم في الحلف على نفي الاستحقاق المطلق المتبادر منه نفي الاستحقاق و لو في نفس الأمر، و لا يمكنه الحلف عليه لإمكانه، و عدم علمه به إنما يوجه له الحلف على عدم تكليفه في الظاهر بايفائه، لا الحلف على عدم استحقاقه في الواقع، و بينهما فرق واضح، إذ هي كما ترى، ضرورة أن الجزم المذكور في كلامهم لا يراد منه إلا الجزم في الصورة الأولى من الإنكار، بمعنى أنه بعد تصريحه بالنفي الظاهر في العلم بالعدم في نفس الأمر لا يجزؤه إلا اليمين على ذلك، لا ما إذا كان إنكاره من أول الأمر بنفي العلم.

فإنه يكون نحو إنكار الوارث، كما أن الوارث لو فرض إنكاره بالعدم في نفس الأمر كان يمينه كذلك، و لا يجزؤه نفي العلم، و لكن لما كان الغالب فيه الأول قالوا: إن يمينه على نفي العلم، و الغالب في غيره الإنكار بالنفي واقعا قالوا: إن يمينه على البت.

كل ذلك مضافا إلى معارضة أصل عدم سقوط الدعوى بمثل اليمين المزبورة بأصالة عدم ثبوت الحق بمثل هذه اليمين المردودة من الحاكم على المدعي، و إنما المسلم منها يمين الإنكار التي امتنع عن إيقاعها مع تصريحه بالعلم بالنفي، و عن ردها لا في مثل الفرض المذكور، و ترجيح الأول بموافقته لظاهر كلماتهم في اعتبار الجزم في الحلف- و الفرض عدم إمكانه، فينحصر طريق قطع الدعوى برد اليمين من المدعى عليه أو الحاكم مع

ج 40، ص: 215

أنه لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه- ليس بأولى من القول بترجيح الثاني ب

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة»

إلى آخره الظاهر في انحصار ثبوت المدعى بالبينة، فتوقف الدعوى حينئذ عليها، نحو الدعوى على ميت أو غائب أو نحوهما، بل ينبغي القطع بذلك بناء على أن الجواب بذلك ليس إنكارا، فتكون حينئذ مجرد دعوى لا منكر لها، و معلوم انحصار ثبوتها حينئذ في البينة.

إلا أن المعروف بل لم أجد خلافا بين من تعرض لهذا الفرع عدم إيقاف الدعوى على البينة، فيقتضي إدراجهم له تحت المنكر، فيتعين عليه اليمين أو ردها، و ربما يرشد إلى ذلك قولهم: «يحلف الوارث على نفي العلم بالدعوى على الميت» و ليس هو إلا من المنكر أيضا و إن كان جوابه لا أعلم، و من هنا كان له رد اليمين على المدعي، فيثبت به الحق بلا خلاف و لا إشكال.

و ما في الرياض من «أن اكتفاءهم بذلك ثمة إنما هو من حيث عدم كون المنكر طرفا لأصل الدعوى على الغير، بل هو الطرف الآخر لها، و إنما المنكر طرف دعوى أخرى معه، و هي كونه عالما بالمدعى و ثبوته على الغير في الدعوى الأولى، فحلفه على نفي العلم حقيقة حلف على نفي ما ادعى عليه على القطع في هذه الدعوى، فظهر أن حلف المنكر على القطع أبدا حتى بالنسبة إلى فعل الغير مطلقا، لأن ما يحلف عليه ليس هو إلا ما ينكره حقا كان أو غيره. و بذلك صرح

الفاضل في التحرير- ثم قال-: و يتحصل من هذا أن متعلق الحلف ليس إلا ما تتعلق به الدعوى، و هو المتبادر من النصوص، و الحلف على نفي العلم فيما نحن فيه ليس حلفا على ما تعلق به دعوى المدعي، لأن دعواه ثبوت


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 216

الحق في ذمته لا علمه به، و لا تلازم بينهما، لإمكان أن يدعى الحق عليه و لا يدعي عليه العلم، فحينئذ يمينه على نفي العلم لاغية لا ربط لها بما يدعيه بالكلية، فكيف يمكن أن تكون بها ساقطة، نعم لو ادعى عليه العلم بالحق حال الدعوى أيضا اتجه الاكتفاء بالحلف على نفي العلم، و سقوط أصل الدعوى بها حينئذ، لتركبها كما ذكروه في الحلف على نفي العلم بفعل الغير، و لكن الظاهر أن مثله في المقامين لا يسقط اعتبار البينة لو أقيمت بعد الدعوى عملا بعموم ما دل على اعتبارها مع سلامتها عن المعارض فيهما، لاختصاص ما دل على سقوط البينة باليمين بحكم التبادر و غيره باليمين على نفي الحق لا نفي العلم، و بالجملة الظاهر فيما نحن فيه حيث لا يدعي عليه العلم عدم الاكتفاء بالحلف على نفي العلم، بل لا بد من رد اليمين على المدعي، و لا محيص في قطع الدعوى من دونه».

لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرنا من أن المتجه مع القول بعدم كون ذلك جوابا عن الدعوى انحصار الإثبات بالبينة، إذ لا محل لرد اليمين مع عدم المنكر كي يتجه الثبوت بها، و لكن قد عرفت إمكان دعوى القطع بعدم ذلك، فليس حينئذ إلا لاندراجه في المنكر الذي عليه اليمين و له الرد، بل يمكن دعوى القطع به من حصرهم أحوال المنكر في الثلاثة قديما و حديثا.

على أن المستفيض في النصوص(1)أن البينة على المدعي و اليمين على المدعي عليه. و لا ريب في كونه مدعى عليه عرفا إن لم يكن منكرا فيه، بل التأمل في جميع النصوص يقتضي أن للإنكار طريقين: أحدهما نفي الدعوى في نفس الأمر، و الآخر نفي ما يترتب عليها من وجوب الأداء و نحوه، و ذلك بنفي العلم بسببها الموافق لأصالة عدم حصوله الذي هو


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 217

ميزان المنكر.

و بذلك يكون الوارث منكرا في الدعوى على الميت، و يكتفى منه بالحلف على نفي العلم، لتعلقه بفعل الغير الذي هو في الغالب غير معلوم للآخر، كما أن الغالب العلم بفعل نفسه و إن كان قد يعلم نفي فعل الغير، و لا يعلم نفي فعل نفسه في حال النوم أو السكر أو الصبا أو غيرها من الأحوال، و ستعرف فيما يأتي أن استحقاق اليمين على الوارث بمجرد الدعوى على الميت و إن لم يدع عليه العلم، و لكن يكفي في حلفه نفي العلم، لتعلقه بفعل الغير، إلا إذا كان إنكاره لأصل وقوع الفعل من الميت فيحلف على نفيه كذلك و إن كان هو خلاف ما صرح به المصنف و غيره ممن تأخر عنه.

و أما فعل نفسه فان كان جوابه نفيه في الواقع اعتبر في يمينه كونها على عدمه في نفس الأمر و إن كان على عدم العلم به كفى إيقاعها على ذلك في إسقاط ما يترتب على الدعوى.

و المراد باعتبار الجزم في اليمين في صورة كون الإنكار جزما لا مطلقا حتى في الوارث، و استثناء الأصحاب له مبنى على الغلبة المزبورة، كاعتبارهم الجزم في نفي فعل نفسه.

و بذلك كله ظهر لك أن الجواب بعدم العلم إنكار، فيتوجه عليه اليمين و له رده، نعم قد يقال بعدم اقتضائها سقوط البينة لو أقيمت بعد ذلك بناء على ظهور ما دل على الإسقاط في اليمين الذي يكون متعلقها النفي في نفس الأمر، لا أقل من الشك، فيبقى عموم ما دل على قبولها بحاله.

بل لعل التأمل الصادق يقضي بغرابة اشتباه الحال على أمثال هؤلاء الأفاضل خصوصا السيد في الرياض الذي قد جزم بما سمعت.

ج 40، ص: 218

بل عن جامع المقاصد في باب الوكالة فيما لو ادعى أنه وكيل فلان الغائب في تزويجه فلانه فعقد عليها ثم إن الغائب مات و ادعت ذلك على الورثة و قالوا: لا ندري أنها تحلف و ترث.

بل قيل: إنهم قالوا في باب الطلاق: إن الزوج لو ادعى أن الطلاق متأخر عن وضع الحمل فهي الآن في عدة و قالت الزوجة: لا أدري أن له الرجعة، و لا تقبل دعواها و بالعكس، إلا أنا لم نتحقق ذلك، بل ربما كان غير ما نحن فيه، و على فرضه فالاشتباه غير عزيز.

كل هذا مع أنه قد يقال بجواز الحلف على مقتضى الأمارات الشرعية كما أومأ إليه

الصادق (عليه السلام) في خبر حفص بن غياث(1)«قال له رجل: إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز أن أشهد أنه له؟

قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنه في يده و لا أشهد أنه له فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) أ فيحل الشراء منه، قال: نعم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) فلعله لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكا لك؟ و تقول بعد الملك: هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»

مع أن ما ورد في التأكيد من اعتبار العلم في الشهادة و أنك لا تشهد إلا على مثل الشمس(2)أشد مما ورد في اليمين.

اللهم إلا أن يفرق بين ما هو مقتضى اليد و نحوها من الأمارات الشرعية و بين ما هو مقتضى نحو أصل البراءة و العدم و نحوهما مما هو كالمعلوم من الشرع عدم جواز الحلف على مقتضاهما، خصوصا بعد


1- 1 الوسائل الباب- 25- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.
2- 2 الوسائل الباب- 20- من كتاب الشهادات.

ج 40، ص: 219

استفاضة النصوص(1)بعدم جواز الحلف إلا على العلم.

و على كل حال فلا ريب في أن التأمل الصادق في النصوص و الفتاوى يقتضي كون الحكم في أصل المسألة ما عرفت من الاكتفاء بيمين نفي العلم أو انحصار الحق بالبينة، و خصوصا في نحو ما لو ادعى رجل على مال في يد رجل أنه سرق منه و بيع عليه، فقال من في يده المال: إني لا أعلم بذلك و لكن اشتريته من يد رجل مسلم، إذ هو كالمقطوع بأن القضاء بينهما بأن البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه بمجرد القول المزبور، و إن اعترف المدعي بعدم علم المدعى عليه بحقيقة الحال، و أنه لا يكون القضاء في ذلك برد اليمين على

المدعي أو انحصار ثبوت حقه بالبينة على وجه بحيث لو أراد رد اليمين عليه لم يثبت به حق، لعدم كونه منكرا يتوجه عليه اليمين حتى يصح له رده عليه.

نعم قد يفرق بين هذا و بين الفرض باعتبار الاستناد هنا إلى مقتضى اليد التي جعلها الشارع سببا للحكم بالملك على وجه تجوز الشهادة به و الحلف عليه و إن قال مع ذلك: ما أدري بصدق المدعي أو كذبه، بخلاف دعوى الدين التي لا مستند لقوله لا أدري إلا الأصل الذي لا يجوز الحلف على مقتضاه بعنوان البت، لعدم سببيته من الشارع فيه على نحو اليد، فتأمل، و الله العالم.


1- 1 الوسائل الباب- 22- من كتاب الأيمان.

ج 40، ص: 220

[مسائل تتعلق بالحكم على الغائب]
اشاره

مسائل تتعلق بالحكم على الغائب الذي لا إشكال و لا خلاف بيننا في مشروعية الحكم عليه في الجملة بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى خبري جميل(1)و محمد بن مسلم(2)المتقدمين سابقا، بل قيل: و

النبوي(3)المستفيض أنه قال لهند زوجة أبي سفيان بعد أن ادعت أنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني و ولدي:

«خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف»

و كان أبو سفيان غائبا و

المروي عن أبى موسى الأشعري(4)«كان النبي (صلى الله عليه و آله) إذا حضر عنده خصمان فتواعد الموعد فوافى أحدهما و لم يف الآخر قضى للذي و في على الذي لم يف»

أي مع البينة، و

صحيح زرارة(5)عن أبي جعفر (عليه السلام) الذي يقول فيه في الغاصب و أكل مال اليتيم و الأمين: «و إن وجد له شيئا باعه غائبا كان أو شاهدا».

و حينئذ فما في

خبر أبي البختري(6) المروي عن قرب الاسناد عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام) «لا يقضى على غائب»

محمول على إرادة عدم الجزم بالقضاء عليه على وجه لا تسمع حجته إذا قدم أو غير ذلك.

نعم هل يشترط في الحكم عليه دعوى جحوده كما في القواعد التوقف فيه، قال: «فان شرطناه لم تسمع دعواه لو اعترف بأنه معترف، و لو


1- 1 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 سنن البيهقي- ج 10 ص 141.
4- 4 كنز العمال ج 5 ص 507- الطبع الحديث.
5- 5 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
6- 6 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 4.

ج 40، ص: 221

لم يتعرض لجحوده سمعت» بل عن التحرير الجزم بعدم سماع بينته إلا لأخذ المال لو اعترف باعترافه، و مرجعه إلى اشتراط ادعاء الجحود إذا طلب الحكم دون المال، و التردد إذا لم يتعرض لجحوده من اشتراط سماعها به و لم يعلم، و من تنزل الغيبة منزلة السكوت النازل منزلة الجحود، لاحتماله الجحود في الغيبة و إن لا يقدر بعد على الإثبات إذا ظهر الجحود.

و لكن لا يخفى عليك إطلاق النص و الفتوى و معقد الإجماع، و ما في الخبرين من أنه على حجته إذا قدم لا يقتضي اشتراط دعوى جحوده في الحكم، نعم قد يتوقف في صورة العلم باعترافه بناء على اشتراط الخصومة في مطلق القضاء على الحاضر، و قد عرفت الكلام فيه سابقا و المتيقن من الخبرين غير المفروض، نعم لا إشكال في تناولهما غير معلوم الحال، كما هو واضح.

[المسألة الأولى يقضى على من غاب عن مجلس القضاء مطلقا مسافرا]

المسألة الأولى:

يقضى على من غاب عن مجلس القضاء مطلقا مسافرا كان بلا خلاف أجده فيه و لو دون المسافة، إلا ما يحكى عن يحيى بن سعيد فاعتبرها، و إطلاق النص و الفتوى حجة عليه، بل و إطلاق(1)الأمر بالحكم بالبينات و بالقسط و العدل و

نحو ذلك مع عدم الضرر على المحكوم عليه بعد أن كان هو على حجته، و دعوى انسياق بلوغ المسافة من الغائب ممنوعة.

بل مقتضى ما سمعت جواز الحكم عليه و إن كان حاضرا


1- 1 سورة النساء: 4- الآية 58 و سورة المائدة 5 الآية 42 و سورة ص: 38 الآية 26. و الوسائل الباب- 1 و 2- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 222

لم يتعذر عليه الحضور نحو سماع البينة عليه بعد المرافعة و إن لم يكن حاضرا عند الشهادة بلا خلاف أجده فيه، نعم لو كان في المجلس لم يقض عليه إلا بعد علمه كما في الدروس.

و قيل كما عن المبسوط و تعليق الإرشاد يعتبر في الحاضر تعذر حضوره مجلس الحكم اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن الذي هو محل ضرورة.

و فيه أن الأصل مقطوع بما عرفت، و ما في الخبرين(1)من أنه على حجته إذا قدم لا يقتضي اختصاص الغائب بذلك، على أن الخصم قد سلم شموله للحاضر المتعذر عليه الحضور، مضافا إلى ما سمعته من خبر أبى سفيان(2)بناء على أنه من الحكم عليه بما سمعت، و قد قيل:

إنه كان حاضرا بمكة و كذا خبر أبى موسى الأشعري(3)بل و صحيح زرارة(4)كل ذلك مع الانجبار بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا، بل لعلها كذلك بناء على عدم قدح مثل الخلاف المزبور فيه، و الله العالم.

[المسألة الثانية يقضى على الغائب في حقوق الناس كالديون و العقود]

المسألة الثانية:

يقضى على الغائب في حقوق الناس كالديون و العقود و الإيقاعات و الأحكام و غيرها لأنها مبنية على الاحتياط مضافا إلى ما سمعت.

و لا يقضى عليه في حقوق الله تعالى ك الحد المترتب على الزنا و اللواط، لأنها مبنية على التخفيف لغنائه عنها، و لذا درئت بالشبهة التي يكفي فيها احتمال أن للغائب حجة تفسد الحجة التي


1- 1 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 سنن البيهقي ج 10 ص 141.
3- 3 كنز العمال- ج 5 ص 507- الطبع الحديث.
4- 4 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.

ج 40، ص: 223

قامت عليه بها بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، بل نسبه غير واحد إلى فتوى الأصحاب.

و حينئذ ف لو اشتمل الحكم المدعى به على الحقين المعينين قضى بما يخص الناس دون حق الله، و ذلك كالسرقة تقوم بها البينة على الغائب ف يقضى بها بالغرم دون القطع، لما عرفت. و لكن في المتن و في القضاء بالقطع تردد لأنهما معلولا علة واحدة، فلا وجه لتبعيض مقتضاها، و لم نجده لغيره، بل هو مناف لجزمه السابق إن كان المراد من إطلاقه ما يشمل المقام.

بل في المسالك «أن باقي الأصحاب قطعوا بالفرق و انتفاء القطع نظرا إلى وجود المانع من الحكم في أحدهما دون الآخر، و تخلف أحد المعلولين لمانع واقع كثيرا، و منه في هذا المثال لو أقر بالسرقة مرة، فإنه يثبت عليه المال دون القطع، و لو كان المقر مجحودا عليه في المال ثبت الحكم في القطع دون المال، و الأصل فيه أن هذه ليست عللا حقيقة، و إنما هي معرفات الأحكام».

و ربما نوقش بأنها و إن كانت معرفات إلا أنها يجري عليها حكم العلل التامة، و على ذلك مبنى حجية منصوص العلة، و التخلف في المثال المزبور باعتبار حصول العلة الشرعية في ثبوت أحدهما دون الآخر المفروض فيه اعتبار الحضور مع البينة و تعدد الإقرار، كما أنه علة تامة في المال الموجود مع صدوره من غير المحجور عليه فيه.

و بالجملة لا فرق بين العلل الشرعية و العقلية بالنسبة إلى ذلك، و الاختلاف هنا لاختلاف العلل، و هو جيد إن كان مرجعه إلى ما ذكرناه من درء الحد بالشبهة المتحققة في المقام. و من هنا يتجه الاقتصار على

ج 40، ص: 224

عدم القضاء به خاصة، أما الفسق و نحوه فهو ثابت و إن لم يكن من المال، و إلا فلا يخفى عليك ما فيه، ضرورة عدم دليل بالخصوص في اعتبار الحضور في القضاء بغير حقوق الناس في الغائب، خصوصا بعد استدلال غير واحد منهم بالعموم الصالح لشمول الفرض، فليس حينئذ إلا ما ذكرناه، فتأمل جيدا.

[المسألة الثالثة لو كان صاحب الحق غائبا فطالب وكيله و ادعى الغريم التسليم إلى الموكل و لا بينة له ألزم بالتسليم]

المسألة الثالثة:

لو كان صاحب الحق غائبا و له وكيل فطالب الوكيل الغريم بما عليه فادعى الغريم التسليم إلى الموكل و لا بينة له ففي الإلزام له بالتسليم تردد بين الوقوف في الحكم، لاحتمال الأداء، و بين الحكم و إلغاء دعواه، لأن التوقف يؤدي إلى تعذر طلب الحقوق بالوكلاء، و لا ريب في أن الأول أي الإلزام بذلك أشبه بأصول المذهب و قواعده التي منها عدم دفع الحق المقطوع به شرعا بالمحتمل، و التضرر مع أنه معارض باحتمال مثله أيضا لا يلتفت إليه بعد أن كان هو مقتضى ظاهر الشرع، نعم قد يقال بلزوم التكفيل لو طلبه الدافع، ضرورة مساواته لما في الخبرين(1)من التكفيل على المدعى على الغائب بعد إقامة البينة أو أولويته منه جمعا بين الحقين و رفعا للنزاع من البين و مصلحة للجانبين، و حينئذ فإذا حضر الموكل أو أقيمت عليه البينة أو نكل عن اليمين استعيد المال و إلا فلا، كما هو واضح.


1- 1 الوسائل الباب- 26- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 225

[المقصد الرابع في كيفية الاستحلاف]
اشاره

المقصد الرابع في كيفية الاستحلاف، و البحث في أمور ثلاثة:

[البحث الأول في اليمين]
اشاره

الأول في اليمين و لا خلاف في أنه لا يستحلف أحد لإيجاب حق أو إسقاطه إلا بالله تعالى شأنه و لو كان كافرا بإنكار أصل واجب الوجود نعوذ بالله فضلا عن غيره، بلا خلاف أجده في ذلك نصا و فتوى.

قال في محكي المبسوط: «و إن كان وثنيا معطلا أو كان ملحدا يجحد الوحدانية لم يغلظ عليه، و عندي أن الوثني و الملحد يستحلف بالذي يعبده و يعتقد أنه

الخالق و الرازق أو أنه الرازق، اعتقد وحدته أو تعدده أو بإحدى العبارتين، و إن قيل له إن الله هو الخالق الرازق و استحلف بالله ثانيا كان أولى، و اقتصر على قوله: و الله، فان قيل كيف حلفته بالله و ليست عنده بيمين قلنا: ليزداد إثما و يستوجب العقوبة» انتهى.

و

قال الصادق (عليه السلام) في صحيح سليمان بن خالد(1)و حسن الحلبي(2): «أهل الملل من اليهود و النصارى و المجوس لا يحلفون إلا بالله»

و خبر سماعة(3)«سأله هل يصلح لأحد أن يحلف أحدا من


1- 1 ليس لسليمان بن خالد في المقام خبر غير ما سيأتي نقله آنفا.
2- 2 الوسائل الباب- 32- من كتاب الأيمان- الحديث 3 و اللفظ مصطاد من صحيحة سليمان بن خالد الآتي و حسن الحلبي.
3- 3 الوسائل الباب- 32- من كتاب الايمان الحديث 5.

ج 40، ص: 226

اليهود و النصارى و المجوس بآلهتهم؟ قال: لا يصلح لأحد أن يحلف إلا بالله تعالى»

و قوله (عليه السلام) في صحيح سليمان بن خالد(1)«لا تحلفوا اليهودي و لا النصراني و لا المجوسي بغير الله، إن الله عز و جل يقول فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ»(2)

و في خبر الجراح المدائني(3)«اليهودي و النصراني و المجوسي لا تحلفوهم إلا بالله عز و جل».

بل مقتضى الإطلاق ذلك و إن تراضي الخصمان على الحلف بغيره، نعم ظاهر النص و الفتوى عدم اعتبار إضافة شي ء من صفات الذات أو الأفعال إلى الاسم في ترتب الأثر.

و لكن قيل و القائل الشيخ في المحكي من مبسوطه:

لا يقتصر في المجوس على لفظ الجلالة، بل يضم إلى هذه اللفظة الشريفة ما يزيل هذا الاحتمال كخالق الظلمة و النور كما في الدروس و «كل شي ء» كما في اللمعة لأنه سمى النور إلها فيحتمل إرادته من المعرف، فلا يكون حالفا بالله تعالى شأنه، و عن فخر المحققين الميل إليه، لتوقف الجزم بالحلف منه على ذلك، بل هو ظاهر الشهيد في الدروس أو صريحه و كذا اللمعة، و هو مناف لما عرفت من الإطلاق المزبور، و احتمال عدم قصده ذلك بل العلم به بعد أن كان الواجب عليه شرعا ذلك لا يقدح، لأن المدار في ثبوت الأثر دنيا و آخرة على نية المحلف لا الحالف، فلا يجديه قصده المزبور بعد أن يذكر له أن المراد منه شرعا الحلف بالله تعالى واجب الوجود، على أن الإضافة المزبورة لا يقتضي قصده ذلك، لأنه لا يعتقد كونهما مخلوقين له فلا إله عنده كذلك، و كذا خالق كل شي ء.


1- 1 الوسائل الباب- 32- من كتاب الأيمان الحديث 1.
2- 2 سورة المائدة: 5- الآية 48.
3- 3 الوسائل الباب- 32- من كتاب الأيمان الحديث 2.

ج 40، ص: 227

و كيف كان ف لا يجوز الإحلاف بغير أسماء الله سبحانه كالكتب المنزلة و الرسل المعظمة و الأماكن المشرفة و نحوها فضلا عن غيرها بلا خلاف أجده للنصوص المزبورة(1)و

النبوي(2)«لا تحلفوا إلا بالله»

و صحيح ابن مسلم(3)«قلت لأبي جعفر (عليه السلام):

قول الله: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَ النَّجْمِ إِذا هَوى و ما أشبه ذلك، فقال:

إن الله عز و جل أن يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه أن يقسموا إلا به»

و نحوه

قول الصادق (عليه السلام) في صحيح الحلبي(4): «لا أرى أن يحلف الرجل إلا بالله»

بل

عن النبي (صلى الله عليه و آله)(5)«من حلف بغير الله فقد أشرك»

و في آخر(6)«فقد كفر».

بل ظاهر العبارة و غيرها ترتب الإثم بذلك زيادة على عدم انقطاع الدعوى، بل كاد يكون صريح الدروس و الروضة، حيث قالا: «و في تحريمه في غير الدعوى نظر، من الخبر و الحمل على الكراهة، أما بالطلاق و العتاق و البراءة فحرام قطعا».

و حينئذ فلا يجوز حتى مع التراضي به و ان أدرجاه في عقد شرعي كالصلح و نحوه على معنى صلح المدعي عن حلف المنكر مثلا بالقسم بغير الله بإسقاط الدعوى، ضرورة كونه في مقام الدعوى، كالصلح عنه بالحلف بالطلاق الذي هو محرم في نفسه في غير الدعوى.

و في التحرير «و لا يجوز الإحلاف بشي ء من ذلك، لأنه بدعة، و كذا لا يجوز بالقرآن و لا بالبراءة من الله تعالى و لا من رسوله (ص) و لا


1- 1 الوسائل الباب- 32- من كتاب الأيمان.
2- 2 المستدرك الباب- 24- من كتاب الأيمان- الحديث 6 و سنن البيهقي ج 10 ص 29.
3- 3 الوسائل الباب- 30- من كتاب الأيمان- الحديث 3.
4- 4 الوسائل الباب- 30- من كتاب الأيمان- الحديث 4.
5- 5 المستدرك الباب- 24- من كتاب الأيمان- الحديث 2 و سنن البيهقي ج 10 ص 29.
6- 6 المستدرك الباب- 24- من كتاب الأيمان- الحديث 2 و سنن البيهقي ج 10 ص 29.

ج 40، ص: 228

من أحد من الأئمة (عليهم السلام) و لا من الكتب المنزلة، و لا يجوز الحلف بالكفر و لا بالعتق و لا بالطلاق».

لكن في المسالك و المراد بعدم الجواز هنا بالنظر إلى الاعتداد به في إثبات الحق، أما جواز الحلف في نفسه بمعنى عدم الإثم به ففيه وجهان من إطلاق الأخبار النهي عنه المقتضى للتحريم، و من إمكان حمله على الكراهة» و تبعه في الكفاية، بل ظاهره كون الوجهين في الإثم به في الدعوى و إن لم يترتب عليه أثر، و هو غير ما سمعته من الدروس و الروضة من كونهما في الحلف بغير الله تعالى في غير الدعوى الشامل للتأكيد في الاخبار عن شي ء فضلا عن غيره و إن كان الانصاف عدم وجه معتد به للتردد في ذلك، خصوصا بعد السيرة المستمرة في سائر الأعصار و الأمصار من العلماء و العوام من القسم بغير الله

في نحو ذلك، بل قوله تعالى «جَهْدَ أَيْمانِهِمْ»*(1)مشعر بوجود أيمان بغيره تعالى، بل يخطر في بالي وجود القسم في النصوص(2)بغير الله تعالى شأنه.

و في محكي المبسوط أن الحلف بغيره تعالى مكروه، و عن أبي علي لا بأس أن يحلف الإنسان بما عظم الله من الحقوق، لأن ذلك من حقوق الله عز و جل كقوله: «و حق رسول الله» «و حق القرآن» ثم ذكر نهي النبي (صلى الله عليه و آله) عن الحلف بغير الله و بالآباء(3)و احتمل أن يكون ذلك لا شراك آبائهم.

و على كل حال ففي المتن و غيره لو رأى الحاكم أن إحلاف الذمي بما يقتضيه دينه أردع جاز نعم في اللمعة و الروضة إلا أن يشتمل على محرم، كما لو اشتمل الحلف على الأب و الابن تعالى الله


1- 1 سورة المائدة: 5- الآية 53.
2- 2 الوسائل الباب- 30- من كتاب الأيمان- الحديث 6 و 7.
3- 3 سنن البيهقي- ج 10 ص 28 و 29.

ج 40، ص: 229

عن ذلك، و لعله ل

خبر السكوني(1)«أن أمير المؤمنين (عليه السلام) استحلف يهوديا بالتوراة التي أنزلت على موسى (عليه السلام)»

و لكن مع ضعفه و احتمال اختصاص ذلك بالإمام (عليه السلام) كما عن الشيخ في التهذيب أو بواقعة خاصة، أو الحلف بمن أنزلها عليه أو الغلظ بذلك مع الحلف بالله لا تصلح معارضة(2)للنصوص السابقة في ذلك، فضلا عن التعدية من مضمونها إلى غيره، على أنها لو صلحت لإثبات ذلك لم يختص بما إذا رآه الحاكم، بل لو اقترحه المدعي أجيب إليه.

و أما

صحيح ابن مسلم(3)عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «سألته عن الأحكام، فقال: في كل دين ما يستحلفون به» و عن بعض النسخ «ما يستحلون به»

و على التقديرين فهو مجرد إخبار عن شرائعهم، لا أن المراد منه جواز الحلف بغير الله كي ينافي النصوص السابقة، و كذا

خبر محمد بن قيس(4)قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قضى علي (عليه السلام) في من استحلف أهل الكتاب بيمين صبر أن يستحلفه بكتابه و ملته»

بناء على اختصاصه بالإمام (عليه السلام) إذا علم أن ذلك أردع لهم كما عن الشيخ، بل ربما احتمل كون المجرورين في «كتابه» و «ملته» راجعين إلى من استحلف، فتوافق الأخبار السابقة.

و على كل حال يستحب للحاكم تقديم العظة على اليمين و التخويف من عاقبتها بذكر ما ورد من ذلك له من الترغيب في الترك و التخويف من الفعل، و أنها إذا وقعت كاذبة تدع الديار بلاقع(5)و أنه مبارز لله تعالى(6)و يخشى عليه من انقطاع النسل و الفقر في عقبه(7)


1- 1 الوسائل الباب- 2 3- من كتاب الأيمان- الحديث 4.
2- 2 هكذا في النسخة الأصلية، و الصحيح« لا يصلح معارضا» و كذلك الضمائر التي تليه فإنها ترجع الى خبر السكوني.
3- 3 الوسائل الباب- 2 3- من كتاب الأيمان- الحديث 7.
4- 4 الوسائل الباب- 2 3- من كتاب الأيمان- الحديث 8.
5- 5 الوسائل الباب- 4- من كتاب الأيمان- الحديث 12.
6- 6 الوسائل الباب- 4- من كتاب الأيمان- الحديث 4.
7- 7 الوسائل الباب- 4- من كتاب الأيمان- الحديث 1 و 7.

ج 40، ص: 230

بل في بعض النصوص(1)أن الحالف بالله صادقا آثم إلى غير ذلك مما ورد(2)من التوعد على وقوعها كاذبا و الترغيب في تركها تعظيما(3)لله، كما

روي(4)«أن حضرميا ادعى على كندي في أرض من اليمن أنه اغتصبها أبو الكندي فتهيأ الكندي لليمين، فقال (صلى الله عليه و آله): لا يقطع أحد مالا بيمين إلا لقي الله أجذم، فقال الكندي: هي أرضه».

و يكفي أن يقول: و الله ما له قبلي حق لإطلاق الأدلة و إن كان قد يغلظ اليمين بالقول و الزمان و المكان لكن ذلك غير لازم و لو التمسه المدعي، بل هو

مستحب لخصوص الحاكم استظهارا في الحكم خلافا لأبي حنيفة، فلا يرى بالمكان تغليظا، و للشافعي فيراه شرطا، و لا يغلظ على المخدرة بحضور الجامع و نحوه، وفاقا لمحكي النهاية و التحرير، خلافا لما عن المبسوط من أنها كالبرزة، ثم البرزة إن كانت طاهرة حضرت المسجد و إلا فعلى بابه.

و كيف كان فلا ينافي ذلك ما ستسمع من عدم وجوب ذلك على المدعي عليه، بل ربما قيل برجحان اختياره لليمين المخففة، و ما عن بعض العامة من استحبابه للحالف واضح الضعف، كوضوح ما عن آخر منهم من وجوب التغليظ إذا التمسه المدعي، نعم قد يقال: إنه لا فائدة في رجحانه للحاكم بعد فرض عدم وجوب التزام الحالف به، و يدفعه أن ذلك لا ينافي استحبابه له، على أنه قد يعتبر به، بل ربما كان له طريق إلى إلزامه ببعض أفراد التغليظ، كما ستعرفه.


1- 1 الوسائل الباب- 1- من كتاب الأيمان- الحديث 6.
2- 2 الوسائل الباب- 4- من كتاب الأيمان.
3- 3 الوسائل الباب- 1 و 3- من كتاب الأيمان.
4- 4 سنن البيهقي ج 10 ص 180.

ج 40، ص: 231

و كيف كان فالتغليظ بالقول مثل أن يقول: و الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية ما لهذا المدعي علي شي ء مما ادعاه.

و يجوز التغليظ بغير هذه الألفاظ مما يراه الحاكم بحسب الأشخاص، و ستسمع ما كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) في يمين الأخرس(1)

و عنه (عليه السلام)(2)«أحلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بأنه بري ء من حول الله و قوته، فإنه إذا حلف فيها كاذبا عوجل، و إذا حلف بالله الذي لا إله إلا هو لم يعاجل، لأنه و حد الله سبحانه و تعالى».

و بالمكان كالمسجد و الحرم و ما شاكله من الأماكن المعظمة و الحضرات المشرفة و غيرها، و خصوصا منبر النبي (صلى الله عليه و آله)

فعنه (ص)(3)«من حلف على منبري هذا يمينا كاذبة تبوأ مقعده من النار»

و في آخر(4)«لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة و لو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار أو وجبت له النار»

و عنه (صلى الله عليه و آله) أيضا(5)«من حلف على منبري هذا يمينا كاذبة استحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين».

و بالزمان كيوم الجمعة و العيد و شهر رمضان و غيرها من الأوقات المكرمة المشار إليها بقوله تعالى(6):


1- 1 الوسائل الباب- 33- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 33- من كتاب الأيمان الحديث 2.
3- 3 سنن البيهقي ج 10 ص 176.
4- 4 سنن البيهقي ج 10 ص 176.
5- 5 مجمع الزوائد: ج 3 ص 307.
6- 6 سورة المائدة: 5- الآية 106.

ج 40، ص: 232

«تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ» المفسر بما بعد صلاة العصر، و

عنه (صلى الله عليه و آله)(1)«ثلاثة لا ينظر الله إليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:

رجل تابع إمامه فان أعطاه و في له به، و إن لم يعطه خانه، و رجل حلف بعد العصر يمينا فاجرة ليقطع بها مال امرئ مسلم.»

و يغلظ على الكافر بالأماكن التي يعتقد شرفها و الأزمان التي يرى حرمتها كالبيع و الكنائس، لما تسمعه من خبر الحسين بن علوان(2)المؤيد بالاعتبار المشتمل على بيوت النار التي ربما احتمل عدم التغليظ فيها لعدم حرمتها عند الله، بخلاف البيع و الكنائس، و لكن فيه أن العبرة، ارتداع الحالف بما يعتقده معظما، نعم ربما قيل: إنهم إنما يعظمون النار لا بيوتها، إلا أن الظاهر خلافه، و لعل من ذلك بيوت الأصنام للوثني، لكن قيل: إنهم لم يعتبروها.

و كذا يغلظ عليه بالأقوال التي يرى حرمتها كالكلمات العشر، و قد

روي(3)«أنه (صلى الله عليه و آله) حلف يهوديا بقوله: و الله الذي أنزل التوراة على موسى»

و في آخر(4)«أنه (صلى الله عليه و آله) قال لابن صوريا: أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى و رفع فوقكم الطور و أنجاكم و أغرق آل فرعون و أنزل عليكم كتابه و حلاله و حرامه هل في التوراة الرجم على من أحصن؟

- و في آخر(5)أنشدكم بالله الذي نجاكم من آل فرعون و أقطعكم البحر و ظلل


1- 1 سنن البيهقي ج 10 ص 177 مع اختلاف يسير.
2- 2 الوسائل الباب- 29- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
3- 3 سنن أبي داود- ج 2 ص 281- ط عام 1371.
4- 4 مجمع البيان ذيل الآية 41 من سورة المائدة.
5- 5 سنن أبي داود- ج 2 ص 281- ط عام 1371.

ج 40، ص: 233

عليكم الغمام و أنزل عليكم المن و السلوى أ تجدون في كتابكم الرجم؟- فقال ابن صوريا: ذكرتني بعظيم لا يسعني أن أكذبك»

إلى غير ذلك من أحوال التغليظ التي يراها الحاكم.

و يستحب للحاكم التغليظ في الحقوق كلها و إن قلت استظهارا عدا المال فإنه لا يغلظ فيه بما دون نصاب القطع على المشهور، كما في المسالك، بل في الرياض نفي الخلاف فيه، بل في كشف اللثام نسبته إلى قطع الأصحاب، و أن في الخلاف الإجماع عليه، و في المبسوط أنه الذي رواه أصحابنا، لكن في الأول «ذكروا أنه مروي و ما وقفت على مستنده، و للعامة اختلاف في تحديده بذلك أو بنصاب الزكاة و هو عشرون دينارا أو مأتا درهم، و ليس للجميع مرجع واضح».

قلت: لعله- مضافا إلى ما سمعت-

المرسل أو الصحيح عن زرارة و محمد بن مسلم(1)عنهما (ع) جميعا «لا يحلف أحد عند قبر النبي (صلى الله عليه و آله) على أقل مما يجب فيه القطع»

بناء على قراءته بالتشديد و إرادة مطلق التغليظ من الحلف عند قبر النبي (صلى الله عليه و آله) نعم لم نقف على عموم يقتضي استحبابه كذلك على كل أحد، و إنما الذي وقفنا عليه التغليظ في واقعة الأخرس(2)و في يمين الاستظهار(3)

و خبر الحسين بن علوان(4)المروي عن قرب الاسناد عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) «أن عليا (عليه السلام) كان يستحلف اليهود و النصارى في بيعهم و كنائسهم و المجوس في بيوت نيرانهم، و يقول:


1- 1 الوسائل الباب- 29- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 33- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
4- 4 الوسائل الباب- 29- من أبواب كيفية الحكم الحديث 2.

ج 40، ص: 234

شددوا عليهم احتياطا للمسلمين»

و ما عساه يظهر من فحوى المرسل أو الصحيح المزبور.

[فرعان]
[الفرع الأول لو امتنع عن الإجابة إلى التغليظ لم يجبر]

الأول:

لو امتنع عن الإجابة إلى التغليظ لم يجبر، و لم يتحقق بامتناعه النكول بلا خلاف أجده فيه إلا عند من ستعرف، للأصل بعد إطلاق ما دل على كون الواجب الحلف بالله من

قوله (عليه السلام)(1): «من حلف بالله فليصدق، و من حلف له بالله فليرض، و من لم يرض فليس من الله»

و غيره.

خلافا للمحكي عن بعض العامة من وجوب الإجابة عليه، و تحقق النكول بالامتناع لو طلبه الحاكم منه، و لعل وجهه أنه لا فائدة في استحبابه للحاكم مع فرض عدم وجوبه على المدعى عليه، مضافا إلى استمرار السيرة على توجيه اليمين مغلظة على المنكر مثلا مع عدم إخباره بعدم وجوبه عليه و إجراء حكم النكول عليه مع احتمال كونه لتغليظه لا لأصله، إلا أن ذلك كله كما ترى.

و عن آخر منهم تخصيصه بالتغليظ الزماني و المكاني دون القولي الذي هو من جنس المأتي به، فلم يكن تركه مخالفا للحاكم بخلاف الآخرين، و فيه أنه يمكن أن يكون الأمر بالعكس، ضرورة تعدد أفراد اليمين، فمتى وجه الحاكم أحدها جرى حكم النكول و غيره عليها، و لذا حكم على الأخرس


1- 1 الوسائل الباب- 6- من كتاب الأيمان- الحديث 3.

ج 40، ص: 235

بالامتناع من شربها و قد كانت مغلظة، و قد تقدم الخبر(1)المتضمن ليمين الاستظهار مغلظة و أنه إن لم يحلف كذلك لا حق له، بخلاف اقتراح الزمان و المكان، اللهم إلا أن يكون من جهة جواز تأخير المدعي دعواه مثلا إلى الزمان المراد به، و كذا المكان المزبور لو فرض اتفاق وجود المدعى عليه فيه، أو استعدى الحاكم فيه و هو غير ما نحن فيه، كما هو واضح.

لكن في كشف اللثام الموافقة على ذلك، فلم يجوز الجبر في التغليظ القولي. قال: «أما بالزمان و المكان فيجبر عليهما، فان اليمين حق للمدعي لا يحلف إلا إذا حلفه، و المستحلف إنما هو الحاكم، فأينما يحلفه وجب عليه الحلف».

قال في المبسوط: «و لا يجلب إلى مكة أو المدينة ليستحلف، بل يستحلفه الحاكم في الموضع الشريف في مكانه، فان امتنع بجند أو بعز استحضره الامام ليستحلفه في المكان الأشرف، اللهم إلا أن يكون بالقرب من موضعه- و قيل: بلد الامام- قاض يقدر عليه فيستحضره ذلك القاضي، و يستحلفه في المكان الشريف».

قلت: و لكن لا يخفى عليك أن هذا و نحوه ليس جبرا على التغليظ المفروض عدم وجوبه عليه من حيث كونه كذلك، إلا أن الأمر سهل بعد وضوح المراد.

و لو ادعى العبد- و قيمته أقل من نصاب القطع- العتق فأنكر مولاه لم يغلظ، و لو رد فحلف العبد غلظ عليه، لأن العتق ليس بمال، و لا المقصود منه المال.


1- 1 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.

ج 40، ص: 236

[الفرع الثاني لو حلف أن لا يجيب إلى التغليظ فالتمسه خصمه لم تنحل يمينه]

الفرع الثاني:

لو حلف أن لا يجيب إلى التغليظ فالتمسه خصمه لم تنحل يمينه لأنه مرجوح من طرفه و إن استحب للحاكم، ضرورة عدم التلازم بينهما، فينعقد حينئذ على تركه، و لا دليل على جواز حله منه أو من الحاكم، و حق المستحلف متأخر عن لزوم

اليمين، و ما ورد(1)من أن طرو أولوية المحلوف على تركه تبيح الحل لا تجدي، إذ لا أولوية للحالف و إن التمسه الخصم أي طلبه منه.

هذا و لكن في الدروس «و لو حلف على عدمه ففي انعقاد يمينه نظر، من اشتمالها على ترك المستحب، و من توهم اختصاص الاستحباب بالحاكم».

و فيه أنه لا خلاف أجده في اختصاص الاستحباب به، بل في الرياض نسبته إلى ظاهر النص و الفتوى بخلاف من عليه الحلف، فإن الأرجح له ترك التغليظ، بل الأرجح له ترك الحلف بالله، كما في

الخبر(2)قال:

«حدثني أبو جعفر (عليه السلام) أن أباه كانت عنده امرأة من الخوارج- إلى أن قال-: قضى لأبي أنه طلقها فادعت عليه صداقها فجاءت به إلى أمير المدينة تدعيه، فقال أمير المدينة: يا علي إما أن تحلف و إما أن تعطيها، فقال: يا بني أعطها أربعمائة دينار، فقلت له: يا أبت جعلت فداك ألست محقا؟ قال: بلى و لكني أجللت الله أن أحلف يمين صبر».

و خصوصا إذا كان المدعى به ثلاثين درهما،

للخبر(3)أيضا «إذا ادعى عليك مال و لم يكن له عليك بينة فأراد أن يحلفك فان بلغ مقدار


1- 1 الوسائل الباب- 18- من كتاب الأيمان.
2- 2 الوسائل الباب- 2- من كتاب الأيمان الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 3- من كتاب الأيمان الحديث 1.

ج 40، ص: 237

ثلاثين درهما فأعطه و لا تحلف، و إن كان أكثر من ذلك فاحلف و لا تعطه».

و من هنا قال في كشف اللثام معرضا بما سمعته من الدروس:

«و احتمال عدم انعقاد اليمين باستحباب التغليظ في غاية الضعف».

نعم لا تنعقد يمينه مع فرض وجوب الإجابة إليه فيما ذكرناه من الصورة السابقة و هي ما لو أخر المدعي دعواه إلى الزمان أو المكان الشريفين فطلبه و طلبه

الحاكم، و في كشف اللثام هنا «أما التغليظ القولي فقد عرفت أنه لا يجبر عليه بلا يمين فمعها أولى، و أما الزماني و المكاني فالظاهر أنه ليس للحالف و لا الحاكم التأخر لهما إذا طالب المدعي، إذ ربما يضيع الحق» و لعله يريد ما ذكرنا و إلا فقد عرفت فيما مضى خروجه عن مفروض المسألة فتأمل.

هذا و لكن الانصاف عدم خلو المسألة بعد من إشكال، ضرورة إمكان منع الكراهة في اليمين بالله بعد وجوبها عليه للمدعي، و خصوصا في نحو دعوى قصاص الأطراف، بل و كذا المغلظة منها بعد أمر الحاكم بها كذلك للاستظهار المأمور به استحبابا الذي يحصل بوقوعه من الحالف أو عدمه، بل لا يخفى استبعاد رجحان التغليظ للحاكم على وجه يأمر به من عليه اليمين مع استحباب عدمه من الحالف و إن كان مخالفا للحاكم الذي لا ينبغي أن يأمره بما هو مكروه في حقه، كما هو مقتضى القول المزبور، و الله العالم.

و كيف كان فالمشهور أن حلف الأخرس بالإشارة المفهمة كغيره من إنشائه عقدا أو إيقاعا و إقرارا، بل قد عرفت الاجتزاء بها في تكبيره و تلبيته و غير ذلك مما تقدم البحث فيه في العبادات و غيرها(1)بل قد تقدم هناك تحرير موضوعه.


1- 1 راجع ج 9 ص 315- 319 و ج 32 ص 60- 61.

ج 40، ص: 238

و ذكر المصنف هنا أنه قيل: حلفه بخصوص وضع يده على اسم الله في المصحف أو يكتب اسمه سبحانه و يوضع يده عليه إن لم يوجد المصحف.

و قيل: يكتب صورة اليمين في لوح مثلا و يغسل و يؤمر بشربه بعد إعلامه، فان شربه كان حالفا، و إن امتنع ألزم الحق استنادا إلى حكم علي (عليه السلام) في واقعة الأخرس المشهورة المروية في

صحيح محمد بن مسلم(1)قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأخرس كيف يحلف إذا ادعي عليه دين فأنكر؟

فقال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتي بأخرس فادعي عليه فأنكر و لم يكن للمدعي بينة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بلغت للأمة جميع ما تحتاج إليه، ثم قال:

ائتوني بمصحف فأتي به، فقال للأخرس: ما هذا فرفع رأسه إلى السماء و أشار إلى أنه كتاب الله تعالى، ثم قال: ائتوني بوليه، فأتي له بأخ فأقعده إلى جنبه، ثم قال: يا قنبر علي بدواة و صحيفة، فأتاه بهما، ثم قال لأخ الأخرس: قل لأخيك: هذا بينك و بينه أنه علي، فتقدم إليه بذلك، ثم كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) و الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المهلك المدرك الذي يعلم السر و العلانية أن فلان بن فلان المدعي ليس له قبل فلان بن فلان أعني الأخرس حق و لا طلبة بوجه من الوجوه و لا سبب من الأسباب، ثم غسله و أمر الأخرس أن يشربه، فامتنع فألزمه الدين».

لكن لم أعرف القولين لأحد من أصحابنا و إن نسب الأول إلى النهاية، و لكن الموجود فيها «و إذا أراد الحاكم أن يحلف الأخرس حلفه


1- 1 الوسائل الباب- 33- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 239

بالإشارة و الإيماء إلى أسماء الله تعالى و بوضع يده على اسم الله في المصحف، و يعرف يمينه على الإنكار كما يعرف إقراره و إنكاره، و إن لم يحضر المصحف و كتب اسم الله و وضعت يده عليه جاز، و ينبغي أن يحضر معه من له عادة بفهم أغراضه و إيمائه و إشارته، و قد روي أنه يكتب» إلى آخره، و هو كالصريح في عدم اختصاص ذلك و أن المدار على الإشارة التي أحد أفرادها ذلك.

و الثاني إلى ابن حمزة، لكن الموجود في وسيلته «و الأخرس يتوصل الحاكم إلى معرفة إقراره و إنكاره و إلى تعريفه حكم الحادثة بالإشارة، و أحضر مجلس الحكم من يفهم أغراضه و أمكنه إفهامه، و إذا أراد تحليفه إذا توجه عليه وضع يده على المصحف و عرفه حكمها و حلفه بالإيماء إلى أسماء الله تعالى، و إن كتب اليمين على لوح ثم غسلها و جمع الماء في شي ء و أمره بشربه جاز، فان شرب فقد حلف، و إن أبى ألزمه الحق».

و هي أيضا صريحة في عدم تعيين ذلك. و من هنا حكي عن المقداد نفي البعد عنه، قال: «فإن الإشارة لا تنافيه، بل هذا أحد جزئياتها».

لكن لا يخفى عليك أن ظاهر العبارة يقتضي اعتبار الخصوصية المزبورة، و احتمال كون المراد منها الجواز بعيد، إلا أنه عليه يكون المشهور عدم جوازه بذلك، لكونه ليس من أفراد الإشارة، و تحمل الصحيحة حينئذ على قضية في واقعة كما في التحرير أو على كون ذلك بطريق التغليظ أو على أخرس لم يكن له إشارة مفهمة، كما عن السرائر و إن كان ينافيه رفع رأسه إلى السماء أو غير ذلك مما لا يقتضي الخروج عن قاعدة الأخرس الذي إشارته نطقه المعتضدة بعمل الأكثر هنا، بل عامة من تأخر حتى الفاضل المقداد الذي قد عرفت بناء جواز ذلك على زعمه أنه أحد أفراد الإشارة، و لكن مع ذلك كله فالأحوط الجمع بينهما مع رضا الأخرس و إلا فالإشارة.

ج 40، ص: 240

و لا يستحلف الحاكم أحدا إلا في مجلس قضائه بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به في الرياض، بل فيه ظاهرهم الإجماع، كما يستفاد من كثير، منهم المقدس الأردبيلي و الخراساني، و لعله لأصالة عدم انقطاع الدعوى بغيره بعد الشك أو الظن بعدم تناول الإطلاق الوارد في تعليم ميزان القضاء للحكام لغير الفرض و لو للاتفاق المزبور، بل يمكن دعوى انسياق ذلك منه خصوصا

النصوص المستفيضة(1)المشتملة على الشكوى من نبي من الأنبياء إلى الله تعالى من القضاء بما لم تر العين و لم تسمع الاذن، فقال: «اقض بينهم بالبينات و أضفهم إلى اسمي يحلفون به»

الظاهرة في مباشرة ذلك بنفسه، فلا تصح الاستنابة فيه حينئذ.

نعم ذكر غير واحد من الأصحاب- بل نفي بعضهم الخلاف فيه أيضا- أن ذلك كذلك إلا مع العذر كالمرض المانع من الحضور و شبهه، فحينئذ يستنيب الحاكم من يحلفه في منزله، و كذا المرأة التي لا عادة لها بالبروز إلى مجمع الرجال أو الممنوعة بأحد الأعذار كحيض و نحوه مما يمنع دخول المسجد لو جلس فيه القاضي أو المانع لها من أصل الخروج. و بالجملة متى كان المانع عذرا شرعيا و لو العسر و الحرج المانعان من التكليف جازت الاستنابة و إن تمكن الحاكم من الوصول بلا نقص و مشقة عليه.

لكن الإنصاف صعوبة استنباط ذلك من الأدلة بعد فرض عدم سوقها لبيان ذلك أو فرض كون المنساق منها الأول، فلا إطلاق حينئذ يوثق به، فليس حينئذ إلا الأصل المقتضي لما عرفت، و لعله لذا حكي عن بعضهم وجوب مضي الحاكم

مع فرض عدم النقص عليه، إلا أنه كما ترى مناف للأصل المعتضد بالمعلوم من الشرع خلافه.


1- 1 الوسائل الباب- 1- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 241

نعم لا بأس بالقول بوقوف الدعوى حتى يرتفع العذر نحو ما سمعته في الغائب و غيره ممن يتوجه عليه اليمين و لكنه غير حاضر، فإن إيقاف الدعوى لعدم حصول شرط ميزان القضاء غير عزيز، اللهم إلا أن يكون هناك إجماع يقطع العذر، و الله العالم.

[البحث الثاني في يمين المنكر و المدعي]
اشاره

البحث الثاني في يمين المنكر و المدعي لا إشكال و لا خلاف في كون الأصل في اليمين أن تتوجه على المنكر تعويلا على الخبر بل الأخبار(1)الدالة على ذلك و على الإجماع بقسميه عليه و لا ينافي ذلك توجه اليمين على المدعي مع الرد للنصوص(2)السابقة أو النكول على الأصح و مع الشاهد الواحد و إذا كان أمينا و نحو ذلك، بل قد تتوجه مع اللوث في دعوى الدم كما تسمعه إنشاء الله، ضرورة كون الجميع للأدلة المخرجة عن الأصل المزبور الذي هو بمعنى القاعدة الشرعية المستفادة مما عرفت.

و على كل حال ف لا يمين للمنكر مع بينة المدعي التي هي حجة شرعا من دون ضم يمين المدعي معها لانتفاء التهمة عنها (11) و ما في بعض النصوص(3)من تحليفه معها استظهارا قد عرفت البحث فيه سابقا و (12) أنه مذهب بعض العامة.

نعم مع فقدها فالمنكر مستند إلى البراءة الأصلية، فهو أولى


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.
2- 2 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم.
3- 3 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 242

باليمين على نفي الدعوى من المدعي على إثباتها إلا إذا رده.

و مع توجهها عليه أو على المدعي يلزم الحلف على القطع و البت مطردا و إن كان مستنده أمارة شرعية من يد و نحوها، لأنه المنساق من النصوص الموجبة له، بل كاد يكون صريح خبري الأخرس(1)و ابن أبي يعفور(2)و الصحيح المشتمل على يمين الاستظهار(3)و غير ذلك.

نعم قال غير واحد من أصحابنا إلا على نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم به بخلاف إثباته أو نفي فعل نفسه أو إثباته لتعسر العلم بالنفي في الأول غالبا، و لو فرض جاز له الحلف على البت و على نفي العلم، و مرجعه إلى اعتبار الجزم في المحلوف عليه دائما بعد فرض عدم توجه اليمين على المدعى عليه إلا مع دعوى العلم به عليه، و حينئذ فيمينه على نفيه على البت باعتبار تعلقه في أمر يرجع إلى نفسه، و لعله لذا في القواعد بعد ما ذكر الاستثناء المزبور قال: «و الضابط أن اليمين على العلم دائما» و نحوه عن التحرير، بل لعل إلى ذلك يرجع ما عن ابن أبى ليلى من كونه على البت مطلقا، خلافا للمحكي عن الشعبي و النخعي فعلى نفي العلم مطلقا.

لكن ذكر بعض متأخري المتأخرين أنه لا وجه للاستثناء المزبور حينئذ، ضرورة كونه حينئذ على البت دائما، و قد يدفع بإمكان إرادة الأصحاب الاجتزاء به في مثل الفرض الذي متعلق الدعوى فيه فعل الغير، و أنه عالم به و إن كان متعلقة نفي العلم به لا العلم بنفيه بخلاف


1- 1 الوسائل الباب- 33- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 9- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 4- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.

ج 40، ص: 243

غيره من الصور، فإنه لا يجزئ و إن كان في ضمن دعوى المدعي العلم به أيضا فتأمل جيدا. و قد تقدم تحقيق الحال في جواب المنكر بقول:

لا أعلم و لا أدري، فلاحظ و تأمل و إن أطنب بها بعض متأخري المتأخرين هنا.

و على كل حال ف قد ظهر لك أنه لو ادعى عليه ابتياع أو قرض أو جناية فأنكر حلف على الجزم لأنه فعل نفسه.

و أما لو ادعى على أبيه الميت مثلا لم يتوجه عليه اليمين ما لم يدع عليه العلم، فيكفيه الحلف أنه لا يعلم.

و كذا لو قال المدعى عليه قد قبض ما علي وكيلك فإنه يكفيه حينئذ الحلف على نفي العلم إن ادعى عليه، و إلا انحصر الإثبات بالبينة، لكن في كشف اللثام «فإذا حلف الموكل أثبت المدعي قبض الوكيل أو حلف على البراءة» و فيه أنه لا وجه للحلف بدون رضا الموكل، بل و مع رضاه إن لم نقل: إنها من اليمين المردودة، بناء على أن المراد منها كل يمين رضي بها المدعى عليه من المدعي و إن لم تتوجه عليه، كما في الوارث و نحوه.

و لو كانت الدعوى عليه بأن عبده جنى على المدعي بما يوجب استحقاقه أو بعضه و أنكر ففي كونه كالميت باعتبار أنه فعل الغير، فلا يتوجه عليه يمين إلا مع دعوى العلم، فيجزؤه حينئذ الحلف على نفيه، أو كونه كالدعوى عليه نفسه باعتبار أن العبد مال له فهو الغريم المدعى عليه، وجهان، و لذا قال في القواعد: «و هل يثبت اليمين على البت على المولى في نفي أرش الجناية عن العبد؟ إشكال» و لعله من أنه الغريم و من أنه فعل الغير، و في كشف اللثام ما حاصله «أنه على الأول ينحصر إثبات حقه حينئذ بالبينة إذا حلف على نفي العلم أو اعترف به المدعي، و على الثاني إن نكل عنها لزم الأرش بحلف المدعي أو لا به

ج 40، ص: 244

و إن حلف على عدم العلم».

و لعل الوجه الأول وفاقا لكشف اللثام و محكي التحرير و الدروس و المجمع، و في المسالك «و ربما بني الوجهان على أن أرش الجناية يتعلق بمحض الرقبة، أم بالرقبة و الذمة جميعا حتى يتبع بما فضل بعد العتق، فان قلنا بالأول حلف على البت، لأنه يحلف و يخاصم لنفسه، و إن قلنا بالثاني فعلى نفي العلم، لأن للعبد على هذا ذمة» و فيه أن المخاصمة لنفسه لا توجب أن يكون فعله فعله، و إلا فالوارث يخاصم لنفسه، و يحلف على نفي العلم.

و أما لو كانت الدعوى إتلاف بهيمته التي قصر في حفظها ففي القواعد و محكي التحرير يجب الحلف على البت، لأنها لعدم شعورها بمنزلة الآلة و فعلها بمنزلة فعل ربها، و حينئذ فإن نكل قضى عليه به أو برد اليمين على المدعي، لكن في محكي الدروس على قول، و ظاهره التردد، بل في كشف اللثام عن بعضهم الحلف على نفي العلم، و هو المحكي عن الأردبيلي، و حينئذ فلا نكول بعدم الحلف على البت، بل لا يمين إن لم يدع عليه العلم. لكن في كشف اللثام «و الحق أنه إن علم العدم حلف على البت، و إلا فعلى نفي العلم، و إذا حلف عليه أثبت المدعي الإحلاف أو حلف عليه، و فيه الاشكال السابق في دعوى قبض الوكيل» و في الحواشي المنسوبة للشهيد «أن العبد يخالف البهيمة من وجهين: الأول أن البهيمة لا تضمن جنايتها إلا مع التفريط بخلافه، الثاني أن جناية العبد تتعلق برقبته، فإذا أتلف لم يضمن مولاه بخلاف البهيمة، فإنها إذا أتلفت بتفريط فان المالك يضمن جنايتها، و لا تتعلق برقبتها».

و لو نصب البائع وكيلا ليقبض الثمن و سلم المبيع فقال له المشتري:

إن موكلك أذن في تسليم المبيع و أبطل حق الحبس و أنت تعلم ففي الاكتفاء

ج 40، ص: 245

بالحلف على نفي العلم، لأنها لنفي فعل الغير، أو لا بد من اليمين على البت، لأنه يثبت لنفسه استحقاق اليد على المبيع، فان لم يحلف قضى عليه بالنكول أو برد اليمين، وجهان كما في المسالك.

و كذا لو طولب البائع بتسليم المبيع فادعى حدوث عجز عنه، و قال للمشتري: أنت عالم به ففي المسالك «قيل: يحلف على البت، لأنه يستبقي بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه، و يحتمل الحلف على نفي العلم، لأن متعلقة فعل الغير».

و فيها أيضا «أنه لو مات عن ابن في الظاهر فجاء آخر و قال: أنا أخوك فالميراث بيننا فأنكر قيل: يحلف على البت أيضا، لأن الإخوة رابطة جامعة بينهما، و يحتمل قويا على نفي العلم كالسابقة» إلى غير ذلك مما ذكروه في المقام.

و لكن تحقيق الحال في ذلك متوقف على تحقيق اقتضاء الدعوى المتعلقة بفعل الإنسان نفسه نفيا و إثباتا و بفعل الغير إثباتا يمينا على البت أو ردا، و إلا كان ناكلا قضى عليه به أو بردها من الحاكم، و لا يجديه الجواب بنفي العلم و إن صدقه المدعي فضلا عما لو ادعاه عليه أيضا، فإن جميع هذه الفروع مبنية على ذلك.

و قد تقدم سابقا في جواب المنكر ما يستفاد منه المناقشة في ذلك، و نزيد هنا بأنه لا دليل على تسبيبها ذلك، و ما في

النصوص(1)من أن «البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه»

ينساق منه حال كون الجواب إنكارا، خصوصا بعد ما في

الخبر الآخر(2)من أن «البينة على المدعي و اليمين على من أنكر»

بل هو كالمقيد للأول بناء على إرادة الحصر عنه


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.
2- 2 الوسائل الباب- 25- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3 و فيه « البينة على من ادعى.».

ج 40، ص: 246

و كون الإنكار الجواب بالنفي على البت دون نفي العلم، و إلا كان اليمين عليه و لو على نفي العلم و إن لم يدعه المدعى عليه، فتتفق النصوص حينئذ أجمع، خصوصا بعد استفاضة النصوص على عدم الحلف إلا على العلم،

قال الصادق (عليه السلام) في خبر هشام بن سالم(1): «لا يحلف الرجل إلا على علمه»

و في خبر أبي بصير(2)و

مرسل يونس(3)«لا يستحلف الرجل إلا على علمه»

مع زيادة «و لا تقع اليمين إلا على العلم استحلف أو لم يستحلف».

و دعوى أن تعذر العلم عليه يوجب الرد عليه ليس بأولى من القول بأن الواجب عليه الحلف على ما يعلمه من عدم العلم بما يدعيه المدعي و إن كانت الدعوى متعلقة بفعل نفسه، إذ لا دليل بالخصوص على الاجتزاء به في نفي فعل الغير دون فعل النفس مع فرض اتحادهما كذلك، و اعتبار البت في اليمين في كلام الأصحاب على وجه يقتضي عدم الاجتزاء بها على نفي العلم إلا إذا كان متعلقها فعل الغير إنما هو حيث تتوجه عليه يمين كذلك، كما إذا كان جوابه الإنكار المحض على ما هو الغالب.

و بذلك يظهر لك حينئذ ما في الفروع السابقة جميعها و أنه لا فرق في الحكم فيها بين القول بتعلقها في فعل الغير أو فعل المدعي عليه في الاجتزاء بيمين نفي العلم مطلقا أو إذا ادعى عليه» و إلا كان طريق إثباتها منحصرا في البينة، نحو الدعوى على الصغير و المجنون و الغائب و نحوهم.

هذا كله بناء على عدم جواز حلفه على البت بمقتضى الأصول و لو يقول: «لا حق لك علي» و «لا تستحق علي شيئا» و نحوهما» و إلا كان له الحلف حينئذ على ذلك أو رد اليمين و إلا كان ناكلا.

ثم لا يخفى عليك أن الدعوى يختلف كيفية إبرازها، فقد تبرز على


1- 1 الوسائل الباب- 22- من كتاب الأيمان الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 22- من كتاب الأيمان الحديث 2.
3- 3 الوسائل الباب- 22- من كتاب الأيمان الحديث 4.

ج 40، ص: 247

وجه تتعلق بالمدعى عليه و إن كانت في الواقع هي متعلقة بفعل الغير، كما إذا ادعى عليه مثلا أن ما في يده من المال له من دون قول: «قد غصبه مورثك» مثلا، و لا ريب في استحقاقه اليمين حينئذ على النفي واقعا لا على عدم العلم، و قد تقدم ما يستفاد منه زيادة تحقيق للمقام.

و من التأمل في جميع ما ذكرنا يظهر أن الذي أوقع بعض الناس في الوهم إطلاق اعتبار الجزم في اليمين على وجه لا يكفي فيه نفي العلم إذا كان متعلق الدعوى فعل المدعى عليه، و لكن قد عرفت تحقيق الحال، و الله العالم.

هذا و قد ظهر لك حال اليمين ممن توجهت عليه أما المدعي و لا شاهد له فلا يمين عليه لما سمعته من قوله (ص): البينة عليه إلا مع الرد أو نكول المدعى عليه على قول قوي عرفته سابقا فان ردها المنكر توجهت على المدعي فيحلف حينئذ على الجزم، و لو نكل سقطت دعواه إجماعا كما عرفت الكلام في ذلك مفصلا.

بل و في قوله أيضا و لو رد المنكر اليمين التي كانت في الأصل له ثم بذلها قبل الإحلاف أو في أثنائه و لو بعد توجيه الحاكم لها عليه و أن له ذلك، بخلاف ما لو بذلها بعد الإحلاف فإنه ليس له إجماعا و إن قال الشيخ في المحكي من مبسوطة في الأول ليس له ذلك إلا برضا المدعي لسقوط استحقاقه منه برده و لكن فيه تردد (11) واضح منشأه أن ذلك تفويض لا إسقاط (12) بل قد عرفت سابقا أن إطلاق الأدلة و الاستصحاب و غيرهما تقتضي الأول كما لا يخفى.

و (13) لا خلاف و لا إشكال في أنه يكفي مع الإنكار الحلف على نفي الاستحقاق (14) و إن كانت الدعوى سببا خاصا لأنه يأتي

ج 40، ص: 248

على الدعوى لكونه عاما لها، و لا دليل على اعتبار الخصوصية في الجواب، بل ظاهر الأدلة خلافه، بل ربما يكون له غرض في الجواب بذلك ف لا يكلف غيره.

نعم لو ادعى عليه غصبا أو إجارة مثلا فأجاب بأني لم أغصب و لم استأجر قيل و القائل الشيخ فيما حكي عنه يلزمه الحلف على وفق الجواب الذي صدر منه لأنه لم يجب به إلا و هو قادر على الحلف عليه و لكن الوجه بل الأصح أنه لا يلزم بذلك، للأصل و إطلاق الأدلة.

و حينئذ ف ان تطوع بذلك صح، و إن اقتصر على نفي الاستحقاق كفى و ظهور قدرته على الحلف عليه من جوابه به لا يقتضي إلزامه بذلك، بل لا يلزم و إن صرح بقدرته عليه، على أنه ربما كان له غرض بتغيير المحلوف عليه عما أجاب به، لمعلومية التسامح في العادة في المحاورة بما لا يتسامح به في حال الحلف الأول.

و لو ادعى المنكر الإبراء أو الإقباض مثلا فقد انقلب المنكر مدعيا و المدعي منكرا، فيكفي المدعي (11) حينئذ اليمين على بقاء الحق (12) و إن كان قد أجاب بإنكار ذلك بخصوصه على نحو ما سمعته في المنكر، بل في المسالك عن الشيخ الموافقة على ذلك هنا.

و لو (13) تطوع ف حلف على نفي ذلك (14) لطلب خصمه كان آكد لكنه غير لازم (15) عليه لما عرفت.

و كل ما (16) أي مقام يتوجه (17) استحقاق الجواب عن الدعوى فيه (18) و لو بقول: لا أعلم لا نحو الحدود التي لا تسمع الدعوى فيها مجردة عن البينة كما ستعرف يتوجه معه اليمين (19) و لو عليه أيضا و يقضي على المنكر به مع النكول كالعتق و النسب و النكاح (20) و الطلاق

ج 40، ص: 249

و الرجعة و الفيئة في الإيلاء و غير ذلك، و على القول الآخر الذي قد عرفت قوته فيما تقدم ترد اليمين على المدعي، و يقضى له مع اليمين و عليه مع النكول كل ذلك لعموم (لإطلاق خ ل) الأدلة.

خلافا لبعض العامة، فمنع من توجه الحلف على المنكر في الأبواب المزبورة، معللا له بأن المطلوب من التحليف الإقرار أو النكول ليحكم به، و النكول نازل منزلة البذل و الإباحة، و لا مدخل لهما في هذه الأبواب.

و لآخر منهم، فخص التحليف فيما يثبت بشاهدين ذكرين إلحاقا له بالحد.

و عموم الأدلة التي

منها «اليمين على المدعى عليه»(1)

و «من أنكر»(2)

حجة عليهم، مضافا إلى خصوص

ما رووه(3)من «أن ركانة أتى النبي (صلى الله عليه و آله) فقال: يا رسول الله طلقت امرأتي البتة، فقال: ما أردت بالبتة؟ قال: واحدة، فقال: و الله ما أردت بها إلا واحدة؟ فقال ركانة: و الله ما أردت بها إلا واحدة، فردها إليه ثم طلقها الثانية في زمن عمر و الثالثة في زمن عثمان»

حيث اكتفى فيه باليمين على ما أخبر به من قصده بها في الطلاق.

[مسائل ثمان]
[المسألة الأولى لا يتوجه اليمين على الوارث]

الأولى:

لا يتوجه اليمين في الدعوى على الوارث بالدين أو العين ما لم يدع عليه العلم بموت المورث و العلم بالحق و أنه ترك في


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.
2- 2 الوسائل الباب- 25- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.
3- 3 سنن البيهقي- ج 7 ص 342.

ج40، ص: 250

يده أي الوارث مالا يفي بالكل أو البعض إن كانت الدعوى دينا، بلا خلاف أجده بين من تعرض لذلك من المصنف و من تأخر عنه و إن كان فيه ما ستعرف.

و على كل حال فلا إشكال في أن الوارث لا يجب عليه أداء دين المورث إلا مما تركه بعد تحقق كونه وارثا و تحقق الدين، فمتى انتفى أحد هذه الثلاثة في نفس الأمر لم تتوجه عليه دعوى أصلا، و من هنا لو ساعد المدعي أي صدقه على عدم أحد هذه الأمور الثلاثة في الواقع لم يتوجه له عليه دعوى فضلا عن اليمين، بل ظاهر المتن سقوط الدعوى أيضا بالتصادق على انتفاء العلم في أحد الأولين بل و بالإطلاق.

هذا و قد عرفت فيما مضى أنه لو ادعى عليه العلم بموته أو بالحق كفاه الحلف أنه لا يعلم لتعلقهما في النفي عن الغير الذي هو الضابط في ذلك عندهم.

نعم لو أثبت الحق و الوفاة و ادعى في يده مالا حلف الوارث على القطع لا نفي العلم، لتعلق الدعوى حينئذ بأمر راجع إليه، بل قد عرفت أن التحقيق في هذه أيضا الاكتفاء بذلك لو أجاب بنفي العلم، بل قد يقال بعدم اعتبار دعوى العلم بالحق في استحقاق اليمين على الوارث بعد إثبات الأمرين الآخرين، ضرورة صدق الدعوى عليه بذلك، و حينئذ فتندرج في

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه»

إلا أن الظاهر الاكتفاء بيمينه على نفي العلم.

بل ذلك هو مقتضى التأمل في عبارة الشيخ في المبسوط قال فيها أولا: «تحليف الحالف لا يخلو إما أن يحلف على فعل نفسه أو فعل


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم الحديث 5.

ج 40، ص: 251

غيره، فان حلف على فعل نفسه كانت على البت و القطع نفيا و إثباتا، و إن كانت على فعل غيره نظرت فان كانت على الإثبات كانت على العلم، و إن شئت

اختصرت ذلك، و قلت: الأيمان كلها على القطع إلا ما كانت على النفي عن الغير، فإنها على العلم» إذ هو كالصريح في أن اليمين المزبورة هي يمين الدعوى المتعلقة بفعل الغير لا دعوى العلم بذلك التي هي كغيرها من الدعاوي و لا تحتاج إلى استثناء.

و أوضح من ذلك قوله أيضا: «إذا ادعى رجل على ابن رجل ميت أي من جهة أبيه لم تقبل منه الدعوى حتى يدعى عليه الحق و يدع موت الأب و أنه خلف في يده تركة، لأنه إن لم يمت الأب فلا حق له على ابنه، و إن مات و لم يخلف فلا حق له عليه أيضا، فلا بد من دعوى ثلاثة أشياء أي دعوى الحق على أبيه، و دعوى موته، و دعوى أنه خلف في يده تركة- ثم قال-: فان ثبت الموت و ثبت أنه خلف تركة فحينئذ تسمع دعواه بالحق عليه، و يكون القول قول الابن إنه لا يعلم أن على أبيه حقا» و هو كالصريح فيما قلناه، و لكن زاد فيها «لإرادة تحريرها اعتبار العلم بالموت و العلم بالحق».

و كان الأحرى الموافق لإطلاق

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه»

و لغير ذلك إبقاءها على حاله من غير هذه الزيادة التي تبعه عليها من تأخر عنه، بل صارت عندهم كالقاعدة في كل دعوى لها تعلق بفعل الغير، و مقتضاه أن اليمين حينئذ على نفيه طرف دعوى أخرى لا مدخلية لها في الأولى، بل هي على هذا التقدير لا طرف لها، بل مقتضاه أنه ليس للوارث رد اليمين على المدعي ما لم يدع عليه العلم، ضرورة عدم توجه يمين عليه أصلا حتى يكون له


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.

ج 40، ص: 252

ردها أو نكول عنها، بل مقتضاه أن اليمين المردودة في دعوى العلم حلف المدعي على علمه لا على أصل الحق، و هو خلاف ظاهر كلمات هؤلاء الذين اعتبروا العلم في توجه اليمين فضلا عن غيرهم.

و بالجملة إعطاء النظر حقه يقتضي ما ذكرناه و إن كان كلام المصنف و من تأخر عنه منافيا لذلك بعد أن ذكروا نحو ما سمعته من المبسوط أولا الذي هو

ظاهر فيما قلناه، لتقسيمهم اليمين إلى القسمين: أحدهما البت، و هي المتعلقة بفعل الإنسان نفسه نفيا و إثباتا و بإثبات فعل الغير، و الثاني على نفي العلم، و هي المتعلقة في نفي فعل الغير، ضرورة اقتضاء ذلك كون اليمين التي أوجبتها نفس الدعوى على الوجهين المزبورين لا يمين دعوى العلم، إذ هي دعوى مستقلة لا تحتاج إلى جعل اليمين قسما ثانيا، كما هو واضح بأدنى تأمل.

بل منه يعلم أن الأمر مشوش غير منقح عندهم، خصوصا بعد اقتضائه ما هو كالمقطوع بفساده من عدم سماع الدعوى في غير الوارث أيضا، كما لو ادعى مدع على عين في يد آخر أنه سرقه سارق و باعه أباك من دون أن يدعي عليه العلم بذلك، ضرورة عدم الفرق بين الوارث و غيره في ذلك.

بل لا يبعد في الوارث و غيره الإلزام بيمين البت التي هي الأصل لو فرض الجواب به على وجه ادعى أنه عالم بذلك، و يترتب عليه حكم النكول و غيره، خلافا لبعضهم، فإنه صرح في الفرض بتخييره بينه و بين الحلف على نفي العلم، كما أنه لا يبعد الإلزام به أيضا في دعوى موت المورث، و كان على وجه لا يعسر الاطلاع فيه على ذلك، لحضوره معه في البلد مثلا، كما عن أحد وجوه الشافعية.

و على كل حال فقد ظهر لك التحقيق في المسألة، إلا أن المصنف

ج 40، ص: 253

قطع طريقها باعتبار العلم بالحق في استحقاق اليمين، بل في أصل الدعوى التي قد عرفت صراحة كلام الشيخ في عدم توقف سماعها على ذلك بعد ثبوت موت المورث و أن له مالا في يد الوارث، نعم لا تتوجه قبل ثبوتهما، ضرورة لا دعوى مع الوارث قبل أن تتحقق وارثيته، كما لا دعوى عليه إذا لم يكن في يده مال.

و بذلك ظهر لك الفرق بين الأمور الثلاثة و إن كفى نفى أحدها في سقوط الدعوى و لذا كان المتجه الاجتزاء بيمين واحدة في سقوط دعوى المدعي في الأمور الثلاثة، و الله العالم.

[المسألة الثانية إذا ادعى على المملوك فالغريم مولاه]

المسألة الثانية:

إذا ادعى على المملوك فالغريم مولاه، و يستوي في ذلك دعوى المال و الجناية كما في القواعد و الإرشاد و الدروس و غيرها، و الظاهر أن المراد من ذلك ما إذا كانت الدعوى عليه من حيث إنه مملوك، لا الدعوى عليه من حيث ذمته التي يتبع بها بعد العتق، فإنها ليست مملوكة للسيد، و إنما المملوك له بدنه و ما في يده، فمتى كانت الدعوى باستحقاق أحدهما كان الغريم المولى الذي يعتبر إقراره و إنكاره بالنسبة إلى ذلك، بخلاف العبد، فإنه لا إقرار له و لا إنكار يمضي على السيد.

فلو ادعى مثلا على مال في يد العبد مدع أنه له كان الخصم السيد فإن أقربه دفعه إليه و إن أنكر العبد، و إن أنكره حلف له و بقي المال و إن أقر العبد.

و كذا إن ادعى على العبد أنه جنى خطأ- فيستحق المجني عليه استرقاقه أو فكه- كان الخصم السيد، لتعلق الدعوى بماله، فإن أقر بذلك

ج 40، ص: 254

دفعه أو فداه، و لا يجدي إنكار العبد، و إن أنكر حلف و سقطت الدعوى على السيد باستحقاق العبد و إن أقر بذلك.

و كذا الجناية عمدا المقتضية لاستحقاق استرقاق العبد و لو على جهة التخيير بينه و بين القصاص، فالخصم أيضا السيد، فإن أقر به دفعه للاسترقاق و إن أنكر العبد، و إن أنكره حلف و سقطت الدعوى معه و إن أقر به العبد، لأنه إقرار في حق الغير، لكونه مملوكا.

كما أنه لا يثبت القصاص عليه بإقرار السيد الذي ليس له إلا ماليته دون إزهاق النفس. نعم لو اتفقا معا استحق القصاص لانحصار الحق فيهما.

هذا كله إذا كانت الدعوى على ما يرجع إلى السيد، أما إذا كانت على ما لا يرجع إليه، بل مرجعها بعد ثبوتها إلى ذمة العبد بعد العتق- كدعوى أنه أتلف مالا أو غصب عينا و لو موجودة- فلا ريب في أن الخصم فيها العبد، لأنه الذي ينفع إقراره و إنكاره في الاستحقاق عليه بعد العتق، بل و كذا دعوى الجناية خطأ بناء على اقتضائها المال عليه أيضا بعد العتق فضلا عن الجناية عمدا التي لا ريب في اقتضائها القصاص بعد فرض ثبوتها بإقراره بعد العتق،

لعموم «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»

و غيره.

و بذلك ظهر لك أنه لا إشكال في إطلاق المصنف و غيره أن الغريم المولى بعد ظهور كون المراد في الدعوى على المملوك من حيث إنه مملوك لا الدعوى عليه من حيث ذمته التي يتبع بها بعد العتق مما لا يدخل في ملك السيد.

لكن في القواعد «إذا ادعى على مملوك فالغريم مولاه سواء كانت الدعوى مالا أو جناية، و الأقرب عندي توجه اليمين عليه، فان نكل ردت على المدعي و ثبتت الدعوى في ذمة العبد يتبع بها بعد العتق»

ج 40، ص: 255

و مراده على الظاهر الإشارة بذلك إلى توجه سماع الدعوى على العبد منفردا، أو اقتضاء الدعوى على المولى يمينا أخرى على العبد غير يمين المولى، لأن له ذمة يتبع بها بعد العتق، فيثبت حينئذ ذلك عليه بإقراره أو نكوله.

و هو الذي أشار إليه في الدروس قال: «و لو ادعى على العبد فالغريم المولى و إن كانت الدعوى معه، و لو أقر العبد به تبع به، و لو كان بجناية و أفر العبد فكذلك، و لو أقر المولى خاصة لم يقتص من العبد، و يملك المجني عليه بقدرها، و يلزم من هذا وجوب اليمين على العبد لو أنكر الملزوم لسماع الدعوى عليه منفردا» و هو كالصريح فيما قلنا.

و ليس مراد العلامة أن الغريم المولى و لكن اليمين في الدعوى على المولى على العبد كي يرد عليه ما في المسالك من التنافي بين كون الغريم المولى المقتضي لقبول إقراره و وجوب اليمين عليه مع إنكاره و غير ذلك من أحكام الدعوى، بل هو من الغرائب و إن أطنب في كشف اللثام في توجيهه بعد موافقته على كون المراد من العبارة ذلك، و ما أدري ما الذي دعاهم إلى ذلك؟ فان كان هو عدم توجه اليمين على السيد لكون الفاعل غيره ففيه أنه يحلف على نفي العلم على مقتضى ضابطهم الذي ذكروه.

و أغرب من ذلك دعوى التنافي بين ما ذكره هنا و ما ذكره في باب الإقرار، و هو لا يقبل إقرار العبد بمال و لا حد و لا جناية توجب أرشا أو قصاصا إلا أن يصدقه السيد، و يتبع بعد العتق بالمال، و لو قيل يقبل و يتبع و إن لم يصدقه السيد كان وجها، و هو كما ترى لا تنافي.

نعم في المقام رجح نفوذ إقراره على نفسه يتبع به بعد العتق في المال و الجناية، و في الإقرار جزم به في المال و جعله في غيره وجها، و هو ليس تنافيا. و ليس المراد تبعيته بالمال بعد العتق مع تصديق السيد، ضرورة عدم مدخلية تصديقه و تكذيبه بالنسبة إلى ذلك، إذ قد عرفت

ج 40، ص: 256

أن ذمته ليست مملوكة للمولى.

و بالجملة لا يخفى عليك ما في المسالك و مجمع البرهان و كشف اللثام و غيرها من تشويش المسألة، حتى أنه قال بعض من تأخر عنهم: إن هذه المسألة من المشكلات، و جعل كلمات الأصحاب فيها مختلفة مضطربة، و قد عرفت التحقيق و أنه لا إشكال في كون الخصم السيد مع كون الدعوى على المملوك أو ما في يده من حيث إنه مملوك، و لا في كون الخصم العبد مع كونها في ذمته يتبع بها بعد العتق و أن إقرار كل منهما و إنكاره مجد فيما له و عليه دون الآخر، من غير فرق في ذلك بين دعوى المال و الجناية عمدا و خطأ.

نعم يظهر من المحكي من المبسوط اختصاص الخصومة في دعوى الجناية عمدا بالعبد دون المولى، إلا أنه وافق على عدم تعجيله به و إن أقر به أو نكل عن اليمين، قال: «إذا ادعى على العبد حق فإنه ينظر فان كان حقا يتعلق ببدنه كالقصاص و غيره فالحكم فيه مع العبد دون السيد، فإن أقر به لزمه عند المخالف، و عندنا لا يقبل إقراره، و لا يقتص منه ما دام مملوكا، فإن أعتق لزمه ذلك، فأما إن أنكر فالقول قوله، فان حلف سقطت الدعوى، و إن نكل ردت اليمين على المدعي، فيحلف و يحكم بالحق، و إن كان حقا يتعلق بمال كجناية الخطأ و غير ذلك فالخصم فيه السيد، فإن أقر به لزمه و إن أنكر فالقول قوله، فان حلف سقطت الدعوى، و إن نكل ردت اليمين على المدعي، فيحلف و يحكم له بالحق».

و لا يخفى عليك ما فيها، و من هنا حررها المصنف بما سمعت، و تبعه عليه غيره، و هو في غاية الجودة بناء على ما فسرناه به، فتأمل جيدا كي يظهر لك ما في جملة هنا من المصنفات.

ج 40، ص: 257

[المسألة الثالثة لا تسمع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة]

المسألة الثالثة:

لا تسمع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به غير واحد، لأن من شرط سماع الدعوى أن يكون المدعي مستحقا لموجب الدعوى، فلا تسمع في الحدود، لأنها حق الله تعالى، و المستحق لم يأذن في الدعوى و لم يطلب الإثبات، بل أمر بدرء الحدود بالشبهات(1)و بالتوبة عن موجبها(2)من غير أن يظهره للحاكم، و

قد قال (صلى الله عليه و آله) لمن حمل رجلا على الإقرار عنده بالزنا(3): «هلا سترته بثوبك»

و سماعها بالبينة بمعنى ثبوتها بها، لا أنها تكون دعوى له معها، كما هو واضح و حينئذ ف لا يتوجه فيها اليمين على المنكر.

نعم لو كان الحق مشتركا بين الله و بين الآدمي، كما لو قذفه بالزنا و لا بينة فادعاه المقذوف بالزنا مثلا عليه ففي توجه اليمين على المقذوف به و عدمه قولان قال الشيخ في المبسوط:

جاز أن يحلف اليمين المردودة ليثبت الحد على القاذف ترجيحا لحق الآدمي، و يحتمل بل يمكن القطع به أن يكون المراد قذفه بالزنا بأن قال له: يا زاني ثم لما أريد قيام حد القذف عليه ادعى الزنا على المقذوف و لكن لا بينة له على ذلك جاز أن يحلف المقذوف على عدم

.


1- 1 الوسائل الباب- 24- من أبواب مقدمات الحدود- الحديث 4 من كتاب الحدود.
2- 2 الوسائل الباب- 16- من أبواب مقدمات الحدود- من كتاب الحدود.
3- 3 سنن البيهقي ج 8 ص 228 و 330 و 331 و فيه « لو سترته بثوبك» و « لو كنت سترت عليه بثوبك».

ج 40، ص: 258

الزنا ليثبت الحد على القاذف.

و لعل هذا ألصق بالمحكي عن المبسوط في الدروس، بل لعله الظاهر من المتن أيضا، بل في كشف اللثام عن المبسوط أنه قال: «فان ادعى عليه مثلا أنه زنى

لزمه الإجابة عن دعواه، و يستحلف على ذلك، فان حلف سقطت الدعوى، و يلزم القاذف الحد، و إن لم يحلف ردت اليمين و ثبت الزنا في حقه، و يسقط عنه حد القذف، و لا يحكم على المدعى بحد الزنا، لأن ذلك حق الله تعالى محض، و حقوق الله المحضة لا تسمع فيها الدعوى، و لا يحكم فيها بالنكول و رد اليمين» و لعله لذا حكى عنه في الدروس أنه لو طلب القاذف يمين المقذوف على عدم الزنا أجيب، فيثبت الحد إن حلف و إلا فلا- قال-: و هو حسن، لتعلقه بحق الآدمي و نفي اليمين في الحد إذا لم يتعلق به حق آدمي» لكن في المسالك بعد أن حكى عن الشيخ القول بسماع الدعوى في القذف و جريان حكم اليمين فيها قال: «و فرع الشيخ على ذلك» ثم ذكر حكم القذف الصريح.

و حينئذ فيه إشكال واضح إذ في النبوي لا يمين في حد

و في المرسل الذي هو كالصحيح بابن أبي عمير في رواية التهذيب بل و كذا في رواية الكافي المنجبر مع ذلك كله بالعمل(1)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أتى رجل لأمير المؤمنين (عليه السلام) برجل، فقال: هذا قذفني و لم تكن له بينة، فقال: يا أمير المؤمنين


1- 1 لم أعثر عليه في الوسائل مع التتبع التام و رواه الشيخ قده في التهذيب ج 10 ص 79 الرقم 310 و الكليني قده في الكافي ج 7 ص 255 نعم أشار الى ذيله في الوسائل في الباب- 70- من أبواب القصاص في النفس الحديث 1.

ج 40، ص: 259

استحلفه، فقال: لا يمين في حد»

و في آخر(1)«لا يستحلف صاحب الحد»

و في ثالث(2)«أن رجلا استعدى عليا (عليه السلام) فقال:

إنه افترى علي، فقال (عليه السلام) للرجل: فعلت ما فعلت؟ قال:

لا، فقال (عليه السلام) للمستعدى: أ لك بينة؟ فقال: ما لي بينة فأحلفه، فقال (عليه السلام): ما عليه يمين»

كل ذلك مضافا إلى الأصل بعد اختصاص النصوص بغير المفروض.

نعم قد يقال: إن أكثر هذه النصوص أو جميعها لا تنافي المحكي عن الشيخ على ما سمعته من الدروس بل و من كلامه، ضرورة عدم ثبوت الحد فيه باليمين، و إنما هو بالقذف المحقق منه إلا أن له حق اليمين على المقذوف بأنه ما زنى، و دعوى استفادة ذلك من الخبر بطريق الأولوية كما في كشف اللثام ممنوعة.

اللهم إلا أن يقال باندراج ذلك في عموم نفي اليمين في الحد، بل لعله المراد من

قوله (عليه السلام)(3): «لا يستحلف صاحب الحد»

على معنى أن لا يمين على من له الحد، أو يقال: يكفي في رده إطلاق ما دل على وجوب الحد بذلك في الكتاب و السنة(4)نحو قوله تعالى(5):

«وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ» إلى آخرها، و غيره و لا دليل على اشتراطه بحلف المقذوف بعد ظهور

قوله (صلى الله عليه و آله)(6): «و اليمين


1- 1 المستدرك الباب- 22- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 30- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
3- 3 المستدرك الباب- 22- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
4- 4 الوسائل الباب- 2- من أبواب حد القذف من كتاب الحدود.
5- 5 سورة النور: 24- الآية 4.
6- 6 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.

ج 40، ص: 260

على المدعى عليه»

و «من أنكر»(1)

في غير ذلك ممن يكون له حق في الدعوى المنساق منها ذلك، لا أن المراد منها مجرد الادعاء و إن لم يكن له حق فيها.

و على كل حال فالمحكي عن الشيخ ضعيف و إن سمعت استحسانه في الدروس، بل في كشف اللثام أنه قوي من حيث الاعتبار و قاعدة الإنكار، و قد عرفت التحقيق، و الله العالم.

[المسألة الرابعة منكر السرقة يتوجه عليه اليمين لإسقاط الغرم]

المسألة الرابعة قد عرفت فيما تقدم أن منكر السرقة يتوجه عليه اليمين لإسقاط الغرم لأنها توجب أمرين: حق الآدمي و هو المال و الثاني القطع و هو حق الله و لا ملازمة بينهما، فيجري حكم الدعوى في الأول بالنسبة إلى اليمين و رده و النكول دون الثاني الذي قد عرفت عدم جعل الشارع اليمين حجة فيه، بل لا دعوى من مدع حقيقة فيه.

و حينئذ ف لو ادعاها عليه و نكل لزمه المال دون القطع بناء على القضاء بالنكول، و هو الأظهر عند المصنف و لكن عرفت ضعفه و إلا حلف المدعي.

و على كل حال لا يثبت الحد على القولين لعدم ثبوت كونه سارقا على وجه يلحقه الحكم المعلق عليه في الكتاب(2)و السنة(3)فان اليمين لا تثبت الموضوع واقعا فضلا عن ثبوته به بالنسبة


1- 1 الوسائل الباب- 25- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.
2- 2 سورة المائدة: 5- الآية 38.
3- 3 الوسائل الباب- 2- من أبواب حد السرقة من كتاب الحدود.

ج 40، ص: 261

إلى الحد الذي اعتبر الشارع في بينته غير بينة المال من زيادة العدد و نحوها، و كذا لو أقام شاهدا و حلف كما هو واضح، و الله العالم.

[المسألة الخامسة لو كان له بينة فأعرض عنها و التمس يمين المنكر يجوز له الرجوع إليها بعد ذلك قبل الحلف]

المسألة الخامسة لو كان له بينة فأعرض عنها و التمس يمين المنكر أو قال:

أسقطت البينة و قبلت باليمين فهل له الرجوع إليها بعد ذلك قبل الحلف؟ قيل و القائل الشيخ في محكي المبسوط و تبعه ابن إدريس فيما حكي عنه لا يجوز له و فيه تردد، و لعل الأقرب الجواز بل هو الظاهر، بل يمكن القطع به، لإطلاق ما دل على حجيتها السالم عما يقتضي كون ذلك من الحقوق التي تسقط بالإسقاط لو فرض تصريحه بذلك فضلا عن غيره، بل ظاهر الأدلة كونها من الأسباب المقتضية ثبوت الحق، فلا يتصور فيها معنى الإسقاط الذي يتعلق بنحو حق الخيار و شبهه.

و كذا البحث لو أقام شاهدا فأعرض عنه و قنع بيمين المنكر ثم عاد إليه قبل الحلف أو رد المنكر اليمين على المدعي ثم عاد إلى اختيار الحلف الذي قد

عرفت الكلام فيه سابقا، و أنه لا يخرج بشي ء من ذلك عن صدق المدعي و المنكر اللذين قد قرر الشارع الميزان لكل منهما بما عرفت.

ج 40، ص: 262

[المسألة السادسة لو ادعى صاحب النصاب إبداله في أثناء الحول قبل قوله بلا يمين]

المسألة السادسة:

لو ادعى صاحب النصاب إبداله في أثناء الحول لينفي عنه الزكاة قبل قوله بلا يمين بلا خلاف أجده فيه. بل حكى الاتفاق عليه غير واحد، و كذا لو قال المسلم: لا زكاة أو لا خمس علي أو دفعتهما مثلا حيث يجوز له ذلك.

و كذا لو خرص عليه فادعى النقصان في الثمرة المخروصة أو الزرع عما خرص عليه لينقص عنه ما قدر عليه من الزكاة بلا خلاف أجده فيه، بل الاتفاق محكي عليه أيضا.

و كذا لو ادعى الذمي الإسلام قبل الحول ليتخلص عن الجزية بناء على وجوبها عليه مع الإسلام بعده لا خلاف فيه و الاتفاق محكي عليه مع أن الحق بين العبد و ربه و لا يعلم إلا من قبله.

أما لو ادعى الحربي بعد سبيه الإنبات بعلاج لا بالطعن بالسن الذي تدفعه الطبيعة غالبا الذي جعله الشارع أمارة البلوغ ليتخلص بذلك من القتل الذي هو حد من حدود الله تعالى التي تدرأ بالشبهة من دون يمين، خصوصا في المقام الذي يقتضي الأصل عدم بلوغه الذي هو شرط قبول اليمين ف فيه تردد من ذلك و من ظهور ما دل على كونه علامة للبلوغ في الحكم به حتى يعلم خلافه، و إلا لم يقتل محتمله و إن لم يدعه، و هو مخالف للإجماع المحكي في المسالك و غاية المراد و لغير ذلك.

و من هنا قال المصنف و لعل الأقرب أنه لا يقبل إلا مع

ج 40، ص: 263

البينة لكن لا يخفى عليك ما فيه من أنه بعد تسليم الظهور لا ينافي تحقق الشبهة الدارئة، بل الظاهر تحققها مع عدم اليمين خصوصا في مثل الفرض، لما عرفت. فما عن بعضهم- من اعتباره هنا فعلا في قول أو بعد التأخير إلى زمان القطع ببلوغه في آخر في قبولها، لأنها أقل ما تثبت به الدعوى المنافية للحكم عليه بالبلوغ ظاهرا و استحقاقه القتل فلا يزول ذلك بمجرد دعواه، و لأنه أحوط و أوثق في الحكم- واضح الضعف.

و حينئذ يسقط ما فرعه عليه من أنه لو نكل عن اليمين على الأول بل و على الثاني قتل بمجرد نكوله و إن لم نقل بالقضاء به في غيره، أو يقتل لثبوت سببه ظاهرا مع عدم تحقق المانع الذي هو اليمين للدعوى المزبورة.

نعم قد يتوقف في قبول ذلك منه بالنسبة إلى غير القتل الذي يدرأ بالشبهة، بل ظاهر المسالك العدم ترجيحا للظاهر السالم هنا من الدرء بالشبهة، و لأنه إن كان عدم العلاج شرطا لما جاز قتل محتملة إلا بعد العلم بالانتفاء، و هو باطل إجماعا، كما في غاية المراد و المسالك. و إن كان قد يناقش بمنع الظهور أولا، و منع الدليل على تقديمه على الأصل ثانيا، ضرورة كون الثابت أنه علامة البلوغ الإنبات الطبيعي لا العلاجي، و لا أصل- و لو بمعنى الظاهر- يقتضي كون هذا الشخص من الأول حتى مع ادعاء أنه من الثاني، و الفرض أنه شي ء لا يعلم إلا من قبله، و قتل محتملها مع عدم الدعوى لأصالة عدم العلاج، و لظهور ما دل على كونه علامة في الحكم به ما لم يحصل العلم أو الشك، و الإجماع المحكي عليه لا يقتضي مساواة الفرض له، فتأمل.

و مما ألحق بذلك دعوى البلوغ مطلقا أو بالاحتلام خاصة، لإمكان إقامة البينة على السن، و اعتبار الإنبات، لأن محله ليس من العورة، و على تقديره فهو من مواضع الضرورة، و على كل حال لا يمين و إلا

ج 40، ص: 264

لزم الدور، لأن اعتباره موقوف على البلوغ الموقوف على اعتباره، و قد تقدم الكلام فيه في محله.

و في غاية المراد «و ربما ألحق به مدعي بنوة الصغير و لا منازع» بل فيها و في المسالك أيضا «مدعي أنه من أهل الكتاب لتؤخذ منه الجزية، و مدعي تقدم الإسلام على الزنا بالمسلمة حذرا من القتل، و مدعي فعل الصلاة و الصيام خوفا من التعزير، و مدعي إيقاع العمل المستأجر عليه إذا كان من الأعمال المشروطة بالنية كالحج و الصلاة، و دعوى الولي إخراج ما كلف به من نفقة و غيرها، و الوكيل بفعل ما وكل فيه على إشكال فيها، و دعوى مالك الدار لو نازعه المستعير و المستأجر في ملكية الكنز على قول مشهور، و دعوى من أحرز الطعام أنه للقوت و إن زاد لا للاحتكار و قول المدعي مع نكول المنكر على القول بالقضاء به، و مدعي الغلط في إعطاء الزائد عن الحق لا التبرع، و دعوى المحللة الإصابة، و دعوى المرأة فيما يتعلق بالحيض و الطهر في العدة و غيرها، و دعوى الضئر أنه الولد، و منكر السرقة بعد إقراره مرة لا في المال، و مدعي هبة المالك ليسلم من القطع و إن ضمن المال، و منكر موجب الرجم الثابت بإقراره، و مدعي الإكراه فيه أو الجهالة مع إمكانهما في حقه. و مدعي الضرورة في الكون مع الأجنبي مجردين، و منكر القذف بناء على عدم سماع دعوى مدعيه بدون البينة، و مدعي رد الوديعة في المشهور، و مدعي تقدم العيب مع شهادة الحال» و في المسالك «و ضبطها بعضهم بأنه كل ما كان بين العبد و بين الله تعالى أو لا يعلم إلا منه و لا ضرر فيه على الغير، أو ما تعلق بالحد أو التعزير».

قلت: لا إشكال في قبول دعوى المسلم المحمول على الصحة قولا و فعلا مع عدم المعارض و المنازع، خصوصا ذوي الأيدي على ما في

ج 40، ص: 265

أيديهم في تطهير و غيره، و أما مع الخصومة المسموعة في جملة من هذه الأمور المذكورة فلا إشكال في اعتبار اليمين في كل من قدم قوله، لتوقف انقطاعها عليه قطعا، نعم حيث لا خصومة ينبغي تصديق المسلم مع احتماله، حتى في مثل دعوى الوكالة على مال الغير فضلا عما لا يعلم إلا من قبله، و بذلك يظهر لك النظر في الضابط المزبور، بل و في غيره حتى ما ذكراه من الإشكال في قبول قول الولي و الوكيل، فتأمل.

[المسألة السابعة لو مات رجل و لا وارث له و ظهر له شاهد بدين يحبس]

المسألة السابعة لو مات رجل و لا وارث له و ظهر له شاهد بدين موجود أيضا في روزنامجته فأنكر من عليه دين قيل و القائل الشيخ في المحكي من مبسوطة يحبس حتى يحلف أو يقر لتعذر رد اليمين في طرف المشهود له بموته و استحالة تحليف المسلمين و الامام (عليه السلام).

و كذا قال فيه أيضا لو ادعى الوصي على الوارث أن الميت أوصى للفقراء و ليس في كلامه و شهد واحد بذلك و أنكر الوارث ذلك فالقول قوله بيمينه، و لو نكل لم يمكن رد اليمين، لأن الوصي لا يجوز له أن يحلف عن غيره، و الفقراء و المساكين لا يتعينون، و لا يتأنى منهم الحلف، فقال قوم: يحكم بالنكول و يلزم الحق، لأنه موضع ضرورة، و قال آخرون: يحبس الوارث حتى يحلف أو يعترف.

و (11) على كل حال ف في الموضعين إشكال (12) عند المصنف و الفاضل لأن السجن عقوبة لم يثبت موجبها (13) و فيه أن موجبها اقتضاء الدعوى المسموعة من المنكر اليمين أو الأداء بعد تعذر الرد.

ج 40، ص: 266

و احتمال سقوط اليمين باحتمال كون الحق عليه مركبا من الحلف أو الرد- فتعذر الرد يسقط استحقاق الخصوصية، و ليس هو كالواجب المخير الذي يتعين أحد فرديه بتعذر الآخر، و إنما هو من الحقوق المستحقة له و عليه- واضح الضعف، ضرورة إطلاق الأدلة استحقاق اليمين على المنكر و المدعى عليه، و استحقاق الرد إنما جاء بنصوص أخر ظاهرة في استحقاقه على من يصح الرد عليه، فينبغي حينئذ استحقاق اليمين على المنكر من حيث كونه كذلك على حسب ما استفيد من الإطلاق الأول و ليس في أدلة الرد ما يقتضي لزوم ذلك للمنكر من حيث كونه منكرا على حسب استحقاق أصل اليمين عليه، كما هو واضح بأدنى تأمل.

و حينئذ فالحبس المذكور في كلام الشيخ الذي وافقه عليه الشهيد في الدروس متجه.

و أما ما في المسالك- من أنه لو قيل هنا بالقضاء بالنكول و إن لم نقل به في غيره كان وجها، و احتمله غيره أيضا- ففيه أنه لا دليل على إخراجه بالخصوص، و كأن ترك الشيخ ذكر الشاهد في الثاني دون الأول لعدم توقف صحة الدعوى فيها عليه، بخلاف الأول المفروض عدم علم الامام (عليه السلام) به إلا من الشاهد، و إن كان فيه ما عرفت من جواز الدعوى بدونه، و الأمر سهل.

لكن بقي شي ء: و هو أن الظاهر عدم اختصاص حكم ذلك بالفرض المزبور، ضرورة أنه لو كان له وارث لم يحلف مع الشاهد، لأن المفروض عدم علمه بالدين، و إنما وجد ذلك في روزنامجته، فيتعين له حينئذ بعد صحة الدعوى فيه اليمين على المنكر أو أداء الحق، و لا فرق بين الامام (عليه السلام) و غيره من الورثة في ذلك.

نعم مع فرض علمهما تتوجه اليمين من الوارث غير الامام (ع)

ج 40، ص: 267

مع الشاهد، بخلاف الامام (عليه السلام) المعصوم من الخطأ و الزلل و إن استعمل الموازين الشرعية و الأصول المرعية، لكنه مسدد في خصوصياتها التي استعملها عن الخطأ بخلاف غيره، فهو منزه عن انقلاب علمه جهلا أو خطأ، فلا يمين إنكار عليه و لا عليه بينة فيما يدعيه، و

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «إنما أقضي بينكم بالبينات و الأيمان، و ربما يكون بعضكم ألحن من الآخر بحجته»

لا يريد وقوع الخطأ منه في حكمه، بل المراد أن ما وضعته للقضاء من هذا الميزان قد يتفق فيه الخطأ لهم، فمن اقتطع له قطعة مع علم المقطوع له بذلك كأنما قطع له قطعة من نار، و ليس المراد خطأه (صلى الله عليه و آله) لو استعملها، فإنه مطهر من الرجس، تطهيرا، فتأمل.

[المسألة الثامنة لو مات و عليه دين يحيط بالتركة لم ينتقل إلى الوارث]

المسألة الثامنة:

لو مات و عليه دين يحيط بالتركة لم ينتقل إلى الوارث عند المصنف و جماعة و كانت بحكم مال الميت و حينئذ يتبعه النماء و إن لم يحط انتقل إليه ما فضل عن الدين و لكن قد ذكرنا في كتاب الحجر(2)و غيره أن الأقوى انتقالها إليه مطلقا و قد أشبعنا الكلام فيه.

و كيف كان فعلى الأول في الحالين للوارث المحاكمة على ما يدعيه لمورثه، لأنه قائم مقامه في الحلف دون الغريم و إن تعلق به حقه، و حينئذ فلو أقام شاهدا حلف هو معه دون الديان، نعم في القواعد «إن امتنع كان للديان إحلاف الغريم، لتعلق حقه بالتركة، فإن


1- 1 الوسائل الباب- 2- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 راجع ج 26 ص 89- 93.

ج 40، ص: 268

حلف برأ منه لا من الوارث، فان حلف الوارث بعد ذلك كان للديان الأخذ من الوارث إن أخذ، لأنه من التركة، و في الأخذ من الغريم إشكال» و لعله من سقوط حقه عليه بإحلافه.

لكن فيه أن أخذه باعتبار صيرورته تركة بحلف الوارث، فهو مستحق له من هذه الجهة و إن سقط الاستحقاق من تلك الجهة. و منه يعلم عدم الفرق بين أخذ الوارث له و عدمه.

نعم قد يناقش في أصل جواز تناول الغريم له مطلقا باقتضاء اليمين التي قد ذهبت بما فيها عدم كونه تركة في حقه و إن صار تركة للوارث بيمينه، فلا يتعلق به حق الدين حينئذ، كما أنه قد يناقش- لولا الإجماع على الظاهر- في أصل جواز الحلف للوارث مع الشاهد أو المردودة بناء على بقاء التركة على حكم مال الميت بكونها حينئذ يمينا لإثبات مال الغير، و تعلق حقه بها على وجه تكون ملكا له بإبراء الغريم مثلا و نحوه لا يقتضي اختصاص جواز الحلف به دون الغريم المتعلق حقه أيضا بالتركة، و ستسمع إنشاء الله لهذا تتمة فيما يأتي.

[البحث الثالث في اليمين مع الشاهد]
اشاره

البحث الثالث في اليمين مع الشاهد لا خلاف و لا إشكال عندنا في أنه يقضي بالشاهد و اليمين في الجملة استنادا إلى المقطوع به من قضاء رسول الله (صلى الله عليه و آله) و قضاء علي (عليه السلام) بعده على ما رواه العامة(1)و الخاصة(2)بل وافقنا عليه أكثر العامة.


1- 1 سنن البيهقي- ج 10 ص 167- 175.
2- 2 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 269

خلافا لأبي حنيفة و أتباعه، و قد

قال للصادق (عليه السلام)(1): «كيف تقضون باليمين مع الشاهد الواحد؟ فقال الصادق (عليه السلام): قضى به رسول الله (صلى الله عليه و آله) و قضى به علي (عليه السلام) عندكم، فضحك أبو حنيفة، فقال الصادق (عليه السلام): أنتم تقضون بشهادة واحد شهادة مائة، فقال: ما نفعل، قال: بلى تشهد مائة فترسلون واحدا يسأل عنهم ثم تجيزون شهادتهم بقوله».

و قد دخل الحكم بن عتبة و سلمة بن كهيل على أبي جعفر (عليه السلام) يوما فسألاه عن شاهد و يمين(2)فقال: «قضى به رسول الله (صلى الله عليه و آله) و قضى به علي (عليه السلام) عندكم بالكوفة، فقالا: هذا خلاف القرآن، قال: و أين وجدتموه خلاف القرآن؟

فقالا: إن الله عز و جل يقول وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ فقال لهما:

فقوله وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ(3)هو أن لا تقبلوا شهادة واحد و يمينا!! ثم قال: إن عليا (عليه السلام) كان قاعدا في مسجد الكوفة فمر به عبد الله التميمي و معه درع طلحة، فقال له علي (عليه السلام): هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال له عبد الله: فاجعل بيني و بينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه و بينه شريحا، فقال علي (عليه السلام): هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال له شريح: هات على ما تقول بينة، فأتاه بالحسن (عليه السلام) فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال: هذا شاهد و لا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر، قال: فدعا قنبر فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال شريح: هذا مملوك


1- 1 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 13.
2- 2 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 6.
3- 3 سورة الطلاق: 65- الآية 2.

ج 40، ص: 270

و لا أقضي بشهادة مملوك، قال: فغضب علي (عليه السلام) و قال:

خذوها فان هذا قضى بجور ثلاث مرات، قال: فتحول شريح عن مجلسه و قال: لا أقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرات؟ فقال له: ويلك أو ويحك إني لما أخبرتك أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة قلت: هات على ما تقول بينة، و قد قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): حيث ما

وجد غلول أخذ بغير بينة، فقلت: رجل لم يسمع الحديث، فهذه واحدة، ثم أتيتك بالحسن فشهد، قلت: هذا واحد و لا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر، و قد قضى رسول الله (صلى الله عليه و آله) بشهادة واحد و يمين، فهذه ثنتان، ثم أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقلت:

هذا مملوك و لا أقضي بشهادة مملوك. و لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا، ثم قال: ويلك أو ويحك إمام المسلمين يؤتمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا».

و كان اقتصاره (عليه السلام) على خطائه ثلاثا في هذه القضية على فهم شريح القاصر، و إلا فهو مخطئ من وجوه أخر أيضا قد أشار (عليه السلام) إلى بعضها، و بذلك ظهر لك حال قاضيهم و حال الفقيهين لهم الحكم و سلمة و حال إمامهم الأعظم أبي حنيفة و سوء أدبه.

و يشترط شهادة الشاهد أولا و ثبوت عدالته ثم اليمين بلا خلاف أجده فيه، بل في كشف اللثام نسبته إلى قطع الأصحاب، و حينئذ ف لو بدأ باليمين قبل الشهادة أو بعدها قبل التزكية وقعت لاغية و افتقر إلى إعادتها بعد الإقامة لكن الانصاف عدم دليل واضح على ذلك غير أصالة عدم ثبوت الحق بدون ذلك بعد الشك في إرادة غيره من الإطلاق، خصوصا بعد الترتيب في أكثر

ج 40، ص: 271

النصوص(1)التي وقفنا عليها.

نعم في المسالك تعليله بأن «المدعي وظيفته البينة لا اليمين بالأصالة فإذا أقام شاهدا صارت البينة التي هي وظيفته ناقصة و يتممها اليمين بالنص(2)بخلاف ما لو قدم اليمين، فإنه ابتدأ بما ليس له وظيفته، و لم يتقدمه ما يكون متمما له، و أما ثبوت عدالته فلا يترتب على شهادته بل المعتبر العلم بها قبل».

و في كشف اللثام أنه «استدل له بأن جانبه حينئذ يقوى، و إنما يحلف من يقوى جانبه، كما أنه يحلف إذا نكل المدعى عليه، لأن النكول قوى جانبه».

و هما معا كما ترى، و لعله لذا جوز بعض العامة تقدم اليمين على الأداء، لتنزيلها منزلة الشاهد الذي لا ترتب في شهادتهما، و آخر على التعديل.

كل ذا مع أن ما سمعته من المسالك لا يتم على ما هو الأقرب، كما في القواعد من أن الحكم إنما يتم و يصح بهما معا لا بأحدهما، لأن النصوص(3)تضمنت القضاء بهما، و لتوقفه على كل منهما، فيكون حجة مركبة منهما تمام كل واحد منهما موقوف على الآخر.

و ربما احتمل ضعيفا أن يكون بالشاهد بشرط اليمين، كيمين الاستظهار مع بينة المدعي، لأنها قول المدعي و هو ليس بحجة، و أن يكون باليمين وحدها، لأن المعلول إنما يحصل بعدها، و لأنها كالقسامة مع الشاهد.

و ضعف الكل ظاهر، و تظهر الفائدة في الغرم و قدره مع رجوع الشاهد، فعلى الأول النصف، و على الثاني الكل، و لا يغرم شيئا على


1- 1 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم.
2- 2 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم.
3- 3 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 272

الآخر، و ربما قيل بغرمه بناء على أن اليمين إنما تقوت به.

و كيف كان ف يثبت الحكم بذلك في الأموال، كالدين و القرض و الغصب و الالتقاط و الاحتطاب و الأسر و ما يقصد به المال كما في المعاوضات، كالبيع و الصرف و الصلح و الإجارة و القراض و الهبة و الوصية له و الجناية الموجبة للدية أصلا كالخطإ المحض و عمد الخطأ و قتل الوالد ولده و الحر العبد و كسر العظام و الجائفة و المأمومة، و ضابطه ما كان مالا أو المقصود منه مالا بخلاف القصاص و نحوه وفاقا للمشهور، بل عن الخلاف و السرائر الإجماع عليه.

مضافا إلى إطلاق ما ورد في القضاء بهما خصوصا مثل

خبر أبي مريم(1)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أجاز رسول الله (صلى الله عليه و آله) شهادة شاهد مع يمين طالب الحق إذا حلف أنه لحق».

و نحوه

خبر منصور بن حازم(2)عنه (عليه السلام) أيضا «كان رسول الله (صلى الله عليه و آله) يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحق»

و مثله خبر البصري(3).

و في الفقيه(4)«قضى رسول الله (صلى الله عليه و آله) بشهادة شاهد و يمين المدعي، و قال نزل علي جبرئيل بشهادة شاهد و يمين صاحب الحق، و حكم به في العراق أمير المؤمنين (عليه السلام)».

بل في

صحيح ابن مسلم(5)عن أبي جعفر (عليه السلام) «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأما ما كان من حقوق الله تعالى أو رؤية الهلال فلا»

و قد سمعت خبر درع طلحة(6).


1- 1 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 9.
2- 2 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 2.
3- 3 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 8.
4- 4 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 14.
5- 5 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 12.
6- 6 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 6.

ج 40، ص: 273

خلافا لما عن النهاية و الاستبصار و الغنية و المراسم و الإصباح و الكافي من التخصيص بالديون، بل في الغنية الإجماع عليه، و لعله ل

خبر حماد(1)«سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: كان علي (عليه السلام) يجيز في الدين شهادة رجل و يمين المدعي».

و خبر أبي بصير(2)«سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له عند الرجل الحق و له شاهد واحد، فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه و آله) يقضي بشاهد واحد و يمين صاحب الحق، و ذلك في الدين».

و خبر القاسم بن سليمان(3)«سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قضى رسول الله (صلى الله عليه و آله) بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده».

و خبر محمد(4)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «كان رسول الله (صلى الله عليه و آله) يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين، و لم يكن يجيز في الهلال إلا شاهدي عدل».

بل عن الشيخ في الاستبصار حمل إطلاق النصوص السابقة على التقييد في هذه النصوص، و

خبر درع طلحة(5)إنما أنكر أمير المؤمنين (عليه السلام) على إطلاق قول شريح: «ما أقضي إلا بشاهد آخر معه»

ضرورة عدم كون خصوص المقام مما يكتفى فيه بالشاهد و اليمين من الوالي.

نعم قد يقال: إن حمل المطلق على المقيد إنما يصح بعد فرض التقييد و عدم قوة المطلق من حيث كونه مطلقا و هما معا ممنوعان، لإمكان عدم إرادة التقييد في النصوص السابقة، ضرورة أن القضاء بهما في الدين أو


1- 1 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 11.
2- 2 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 5.
3- 3 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 10.
4- 4 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
5- 5 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 6.

ج 40، ص: 274

جوازه لا يقتضي عدم القضاء و لا عدم جوازه بغيره.

هذا بعد الإغضاء عن قصور السند و لا جابر له، لما عرفت من أن المشهور التعدية، بل قد سمعت دعوى الإجماع عليه من الشيخ و الحلي، بل عن الفاضل في المختلف نفي الخلاف فيه، حيث حمل كلام النهاية على المال المطلق، بل ادعى الإجماع فيه في محل آخر. و في الرياض «و هو ظاهر في ورود الدين بالمعنى العام الشامل له» بل يظهر من مجمع البحرين وروده لمطلق الحقوق، و عليه يمكن حمل عبارة من عدا النهاية عليه أيضا، فيرتفع الخلاف. و لعله لهذا لم يشر إلى الخلاف هنا أحد من الأصحاب و إن كان فيه ما فيه.

نعم قد يستفاد من المقابلة في الخبر الأخير(1)أن المراد به الأعم، لكن مقتضاه بل و مقتضى صحيح ابن مسلم و غيره(2)مما اشتمل على لفظ «الحق» عموم ذلك لكل حق للناس حتى القصاص و الوصاية و الوكالة و نحوها، لا خصوص المال، نعم تخرج الشهادة على الهلال الذي لا وجه للحلف عليه من حيث إنه كذلك من أحد، و كذا غيره من الموضوعات العامة التي لا حق بالخصوص فيها لأحد، و إنما يراد ثبوتها لترتب الأحكام الشرعية، و كذا كل ما لم تشرع اليمين فيه مثل حقوق الله تعالى التي هي أيضا لا دعوى لأحد بالخصوص فيها.

و بالجملة كل ما تشرع فيه رد يمين الإنكار على المدعي يشرع فيه الشاهد و اليمين، لأن الظاهر كون هذه اليمين يمين المنكر صارت للمدعي الذي له شاهد، و حينئذ فالاجتهاد في النصوص يقتضي الاختصاص بالدين أو التعميم لكل حق، إلا أن الأصحاب على خلاف ذلك، بل جعلوا


1- 1 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 12 و 5 و 8.

ج 40، ص: 275

ضابطه المال أو المقصود منه المال، و لعلهم فهموا من نصوص الدين ذلك و حملوا عليها نصوص الحقوق أو أنهم عملوا

بالمرسل عن ابن عباس «إن رسول الله (صلى الله عليه و آله) قال: استشرت جبرئيل في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار علي بذلك في الأموال، و قال: لا تعدو ذلك»

و لكن ليس هو من طرقنا و لا معروف النقل في كتب فروعنا، و إنما رواه في المسالك، بل لعل مضمونه لا يوافق أصول الشيعة، و يمكن أن يكون من محرفات العامة، لأنك قد سمعت ما نزل به جبرئيل عليه (صلى الله عليه و آله) في الخبر السابق(1)و ربما تسمع إنشاء الله فيما يأتي زيادة تنقيح لذلك.

و كيف كان فلا إشكال في الاجتزاء بها مع المرأتين القائمتين مقام رجل في الشهادة، كما عن الأكثر، خصوصا بعد

خبر منصور بن حازم(2)قال: «حدثني الثقة عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال: إذا شهدت لصاحب الحق امرأتان و يمينه فهو جائز»

و حسنة الحلبي(3)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «إن رسول الله (صلى الله عليه و آله) أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين يحلف بالله أن حقه لحق».

فما عن ابن إدريس- من المنع لعدم الإجماع و التواتر- مبني على أصله من انحصار الدليل بذلك و نحوه. نعم ما عن التحرير من الجزم بالعدم في هذا الكتاب واضح الضعف، خصوصا بعد مخالفته ذلك في المحكي عنه في كتاب الشهادة من الجزم بالقبول من غير نقل خلاف.

و على كل حال ف في ثبوت النكاح


1- 1 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 14.
2- 2 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 4.
3- 3 الوسائل الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم الحديث 3.

ج 40، ص: 276

بالشاهد و اليمين تردد و خلاف، فعن المشهور عدم ثبوته بالشاهد و اليمين مطلقا، لأن المقصود منه بالذات التناسل و المهر، و النفقة من التوابع، و في القواعد «الأقرب الثبوت إن كان المدعي الزوجة» و وافقه عليه في المسالك، و لعله لأنها تثبت مهرا و نفقة بخلاف الزوج، و عن بعضهم تقييده بما إذا كان دعواها بعد الدخول أو التسمية، لأنهما يثبتان المال، و ضعفه في المسالك بأن النفقة لا تتوقف على الأمرين، و مفوضة المهر تدعي مهرا في الجملة مطلقا. و لا يخفى عليك ما فيه.

و لو ماتت الزوجة كانت دعوى الزوج تتضمن المال و هو الميراث بل في كشف اللثام لعله ليس من دعوى النكاح، بمعنى أنهم لم يريدوا بها ما يعمه، بل في المسالك يمكن تضمن دعوى الزوج المال مطلقا نظرا إلى استحقاقه إياه.

أما الخلع و الطلاق و الرجعة و العتق و التدبير و الكتابة و النسب و الوكالة و الوصية إليه و عيوب النساء فلا يثبت شي ء منها بهما، لخروجها عن الضابط المزبور، بل لعله من الواضح في الطلاق و النسب و الوكالة و الوصية إليه و العيوب، بل في كشف اللثام في شرح عبارة الفاضل «عدم ثبوت الطلاق بهما» زيادة «و إن استلزم تنصيف المهر أو سقوط النفقة، و الرجعة و إن استلزمت النفقة، و العتق و إن كان الرقيق مالا، و الكتابة و إن استدعت مالا، و التدبير و النسب و إن استلزما إرثا أو نفقة، و الوكالة و إن كانت في مال و بجعل و الوصية إليه و إن كانت كذلك، و عيوب النساء و إن استتبعت براءة عن المهر أو ردا للثمن و غرامة».

بل في المسالك الاتفاق على عدم ثبوت الرجعة بهما، لأنها لا توجب مالا، إذ النفقة يوجبها النكاح الأول لا هي. نعم قد يتوقف في الخلع

ج 40، ص: 277

إذا ادعاه الزوج و إن أطلق جماعة المنع منه، بل في الروضة نسبته إلى الأكثر لتضمنه حينئذ دعوى المال و إن انضم إليه أمر آخر، بل في الروضة «ينبغي القطع بثبوت المال كما لو اشتملت الدعوى على الأمرين في غيره كالسرقة، فإنهم قطعوا بثبوت المال» و قواه في الرياض، و حكى عن الدروس الجزم به، و في المسالك الوجه قبوله بهما ناقلا عن العلامة في أحد قوليه.

و أما العتق فالمشهور عدم ثبوته بهما، لمعلومية عدم مالية الحرية، و لكن عن بعضهم ثبوته بهما، لتضمنه المال من حيث إن العبد مال للمولى، فهو يدعى زوال المالية، و ظاهر اللمعة عدم الخلاف في المنع من القبول في التدبير و الكتابة و الاستيلاد، لكن في الروضة ظاهره عدم الخلاف، مع أن البحث آت فيها، و في الدروس ما يدل على أنه بحكم العتق لكن لم يصرحوا بالخلاف، فلذا أفردها، و في المسالك اختلف كلام الفاضل في القواعد و التحرير، ففي كتاب العتق و التدبير قطع بثبوتهما بهما من غير نقل خلاف، و في هذا الباب قطع بعدم ثبوتهما بهما كذلك، و توقف في الدروس مقتصرا على نقل القولين، و له وجه.

و في الوقف إشكال بل و خلاف، فعن الشيخ في الخلاف المنع مطلقا، و عنه في المبسوط و المحكي في السرائر و الحلبي و الفاضل و غيرهم ثبوته بهما مطلقا، و في الدروس و المسالك و غيرها الثبوت بهما إذا كان خاصا، و قد ذكر غير واحد أن منشأه أي الاشكال و الخلاف النظر إلى من ينتقل فهل هو إلى الموقوف عليهم أم إلى الله تعالى أم الأول مع الانحصار و الثاني مع عدمه أو يبقى على ملك الواقف؟ و قد عرفت تحقيق الحال في ذلك في كتاب الوقف.

و الأشبه عند المصنف و غيره القبول، لانتقاله إلى الموقوف

ج 40، ص: 278

عليهم لكن قد يشكل في مثل العام بعدم صحة اليمين من أحد الموقوف عليهم و إن قلنا بالانتقال فيه إلى الموقوف عليهم، ضرورة كونهم حينئذ كمستحقي الزكاة و الخمس و الوصية على الوجه العام، كما أنه قد يشكل أصل المنشإ المزبور بإمكان القول بالاكتفاء بملك المنفعة الذي لا إشكال في كونها ملكا للموقوف عليهم و إن لم نقل بكونه ملكا لهم، و في القواعد في كتاب الشهادات «الأقرب جريانهما في حقوق الأموال كالأجل و الخيار و الشفعة و فسخ العقد و قبض نجوم الكتابة و في النجم الآخر إشكال» إلى غير ذلك من كلماتهم المبتنية على اندراج مثل هذه الأفراد في الضابط المزبور و عدمه.

و في الرياض «لا بد من تحقيق معنى تعلق الدعوى بالمال الموجب لقبول القضاء بهما هل هو التعلق المقصود بالذات من الدعوى أو مطلق التعلق و لو بالاستتباع؟ و الذي يقتضيه النظر في كلماتهم أن المراد به هو الأول، و لذا لم يثبتوا بهما النسب و الرجعة بلا خلاف أجده، بل عليه الوفاق في المسالك مع أنهما يستتبعان المال من النفقة و نحوها بلا شبهة، و حينئذ فالأقوى في النكاح عدم الثبوت مطلقا و في الخلع على التفصيل و لي في الثالث توقف، و لكن الأصل يقتضي العدم مع كونه أشهر».

و لا يخفى عليك ما فيه، ضرورة عدم ثبوت كون العنوان للحكم التعلق بالمال في شي ء من النصوص المروية من طرقنا كي يرجع في المراد منه إلى العرف، و كلامهم غير منقح، بل فيه من التشويش ما لا يخفى، بل لم يعلم كون المراد بالتعلق المزبور ذاتا أو حال الدعوى، كما إذا ادعى أنه ابن الرجل المزبور ليجوز إرثه، نحو دعوى الرجل أن المرأة زوجته بعد موتها ليحصل الإرث الذي جعلوه خارجا عن مسألة النكاح بل قد سمعت ما في الروضة في الخلع من ثبوت المال بهما دون السبب

ج 40، ص: 279

نحو السرقة، مع أن ذلك جار في جميع الأسباب التي لا إشكال عندهم في ثبوتها بهما، كما هو ظاهر ضابطهم المزبور.

و من الغريب اتفاقهم على خروج الوكالة على المال و إن كانت بجعل، و كذا الوصية، و اختلافهم في العتق.

و بالجملة كل من أعطى النظر حقه في كلماتهم و خلع ربقة التقليد يعلم أنها في غاية التشويش، و السبب فيه هو الضابط المزبور الذي لم نجده في شي ء من النصوص، و إنما الموجود فيها عنوانا للحكم «حقوق الناس» بعد عدم تقييدها بنصوص الدين، و لو للتجوز فيه بإرادة ذلك منه، خصوصا بقرينة المقابلة بذكر ما لا يثبت به من الهلال و حقوق الله تعالى.

مؤيدا ذلك بما سمعته فيها من ذكر يمين المدعى و يمين صاحب الحق، بل و بما تقدم سابقا من الخبر(1)المشتمل على أن استخراج الحقوق بأربعة، و عد منها الشاهد و اليمين الظاهر في كونه مثلها في ذلك.

بل قد عرفت سابقا أنه بالتأمل في نصوص المقام يستفاد منها أن اليمين الذي مع الشاهد هو يمين المنكر الذي لو شاء ردها على المدعي، و حينئذ يكون الميزان ما يثبت بها، و لكن حيث إن جملة من أوباش الناس لا تحمل عقولهم هذا الخلاف كان المتجه القول بأن عنوان الحكم هو ما ذكرناه، و لكن كل ما ثبت إجماع محقق على عدم ثبوته بالشاهد و اليمين و إن كان هو حقا للناس قلنا به و إلا فلا، و حينئذ كل أفراد الخلاف داخلة فيما ذكرناه من الضابط و إن خرجت عما ذكروه من الضابط، و الله العالم.

و لا تثبت دعوى الجماعة مالا بينهم مثلا مع الشاهد إلا مع حلف كل واحد منهم لأنها تنحل إلى دعاوي متعددة و إن


1- 1 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 4.

ج 40، ص: 280

كانت هي واحدة بالظاهر، على أنك ستعرف الإجماع ظاهرا على عدم ثبوت اليمين مال آخر، فلو اجتزئ هنا بيمين أحدهم كما استظهره المقدس البغدادي إن لم يكن إجماعا ثبت به حينئذ مال الغير، فلا وجه لاحتماله كما لا وجه لاحتمال توقف ثبوت الدعوى على الحلف من الجميع بحيث لو حلف أحدهم لم يثبت ما يخصه أيضا، ضرورة مخالفته لإطلاق الأدلة أجمع، فتعين حينئذ ما سمعته أولا من الأصحاب بلا خلاف نجده فيه بينهم، بل و لا إشكال بعد ما عرفت.

و حينئذ ف لو امتنع البعض من الحلف ثبت نصيب من حلف لاندراجه في جميع الأدلة السابقة دون الممتنع بل في القواعد «ليس لولد الناكل بعد موت أبيه أن يحلف» و لعله لأنه إنما ينتقل إليه من أبيه ما ملكه، و مع النكول يسقط الملك.

لكن فيه أنه لم يثبت سقوط الحق بمثل هذا النكول الذي هو ليس نكولا عن اليمين المردودة، و لهذا قال هو بعد ذلك: «و لو أقام شاهدا واحدا و نكل عن اليمين معه احتمل أن يكون له الحلف و عدم القبول إلا بشاهد آخر» و لو أن هذا النكول مثل النكول عن اليمين المردودة لم يقبل منه حتى لو أقام شاهدا آخر، فالمتجه أن نكوله عنه تأخير للدعوى التي لم يجبر عليها. و حينئذ فلولده الحلف بعد موت أبيه مع نكوله فضلا عما لو لم ينكل.

لكن في كشف اللثام أنه «يحلف كان لوالده إن كان يعلم، لعدم سقوط الملك و قيام الوارث مقامه، و لكن لا يكفيه هذا الحلف إلا إذا لم يثبت المدعى عليه البراءة أو الانتقال و لم يحلف على عدم استحقاق الولد، بخلاف الوالد، فإنه يحلف على استحقاقه الآن، فلا يحلف المدعى عليه على العدم» و كان مرجعه إلى الفرق بين يمين الوالد و الولد

ج 40، ص: 281

فيما لو فرض أن المدعى عليه ادعى عدم استحقاق الولد لذلك، فإنه يسمع منه ذلك، و حينئذ لو حلف على ذلك لم ينفع يمين الولد، فان ثبوته لأبيه أعم من استحقاقه له بخلاف يمين الوالد، فإنه لا يجرى فيها شي ء من ذلك، ضرورة كون صورتها أنه الآن مستحق له، فلا وجه لدعوى عدم استحقاقه له و لا لليمين على ذلك، و لكن لا يخلو من نظر.

ثم قال: «و لو أقر المدعى عليه بعد موت الوالد و شهد به واحد كان للولد الحلف بعد الشهادة، كما كان يحلف الوالد، و كفاه إن لم يثبت المدعى عليه البراءة أو الانتقال بعد إقراره، و هذا الحلف ليس مما قام فيه مقام الوالد، و لا هذه الدعوى دعواه».

و على كل حال ففي وجوب إعادة الشهادة لحلف الولد إشكال في القواعد أقواه عندنا عدم الوجوب، للأصل و غيره بعد اتحاد الدعوى و قيام الوارث منها مقام المورث، فتغاير المدعيين لا يعددها، و لو ورث الناكل الحالف قبل الاستيفاء استوفى المحلوف عليه، لثبوت ملكه له ما لم يكذبه في الدعوى، لأخذه بإقراره.

و لا يجوز أن يحلف من لا يعرف ما يحلف عليه يقينا و إن كان هو مقتضى الأصول العقلية، و قد تقدم جملة من الكلام فيه، لما سمعته من النصوص(1)المصرحة بذلك، إلا أن من المقطوع به جواز الحلف على ما تقتضيه اليد من الملك، كما سمعت التصريح به في الخبر(2)السابق، و إنما المراد هنا عدم جواز حلف الوارث مثلا بما يجده مكتوبا بخط والده أو بما يشهد له به شاهد، خلافا لبعض العامة، فجوز الحلف على شهادة شاهد واحد، أما لو شهد له به شاهدان فقد


1- 1 الوسائل الباب- 22- من كتاب الأيمان.
2- 2 الوسائل الباب- 25- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.

ج 40، ص: 282

يقال بالجواز، لأنها حجة شرعية، بل قد يحتمل جواز الحلف على مقتضى استصحاب الموضوع الثابت، لكنه لا يخلو من إشكال بل منع فيهما، لعدم العلم

المعتبر في الحلف الذي لم يثبت قيام نحو ذلك مقامه في الفرض، بل لعل الثابت خلافه.

و لا يثبت مالا لغيره و إن تعلق له به حق بلا خلاف، بل قد يظهر من المسالك و غيرها الإجماع عليه، و لا إشكال، للأصل السالم عن معارضة ما دل على الثبوت بها بعد ظهوره في المدعي لنفسه، لكن في كشف اللثام «إلا الولي لمال المولى عليه، فان الحالف إما المنكر أو المدعى له، أما الولي فقوله بمنزلة قول المولى عليه» و لم أجده لغيره، بل إطلاقهم يقتضي خلافه.

و حينئذ فلو ادعى غريم الميت مالا له على آخر مع شاهد فان حلف الوارث لأنه المالك للتركة عندنا و إن كان الدين مستوعبا ثبت و إن تعلق به حق الديان.

نعم قد يستشكل فيما لو كان الدين مستوعبا مثلا و قلنا ببقاء التركة على حكم مال الميت، فان يمين الوارث حينئذ لإثبات مال الغير، إلا أن ظاهرهم الاتفاق على جواز حلفه على كل حال، لأن له تعلقا به على وجه يكون له بإبراء الديان مثلا.

و فيه أن التعلق لا يكفي في جواز الحلف لإثبات مال الغير، اللهم إلا أن يكون مثل هذا التعلق كافيا. و منشأه ظهور الأدلة، بل قد يدعى معلومية قيام الوارث مقام مورثه في مثل ذلك، فله الحلف حينئذ على ماله، ثم يتبعه التعلق بالدين، و ربما يخرج على جواز حلفه كذلك تبعية الوصية، بل صريح بعضهم أنه بعد الحلف يتعلق بالمال الوصايا و الديون، و هو كذلك في الوصايا التي تكون كالديون، و هي الكلية المتعلقة بالتركة

ج 40، ص: 283

تعلق الدين، بل قد يقال: إن التركة معها ملك الوارث و إن وجب عليه أداؤها منه إلا على احتمال انحلالها إلى حصة مشاعة من التركة، بناء على أن الكلي في الخارج لا يكون إلا عليها، و لكن فيه بحث أو منع قد ذكرناه في محله.

أما الوصية بالثلث على وجه لا تعلق للوارث به فان قلنا بكونه ملكا للوارث تحرزا من بقاء المال بلا مالك لخروج الميت عن قابليته ابتداء و استدامة لم يكن إشكال في جواز حلفه أيضا، أما إذا قلنا ببقائه على حكم مال الميت فقد يشكل جواز حلفه بكونه لإثبات مال الغير، و الفرض عدم التعلق به كما في المال المتعلق به الدين، لخروجه بالوصية عن إرث الوارث، و ليس في الأدلة ما يقتضي قيام الوارث مقام المورث حتى في هذا الذي لا تعلق للوارث به في وجه.

اللهم إلا أن يقال: إنه قد ورث حق الدعوى به و إن صار بعد الثبوت على حكم مال الميت و لا تعلق للوارث به، و لكنه كما ترى، و لم أجد ذلك محررا في كلام الأصحاب.

و ربما ينقدح من هذا الإشكال في الحلف من المالك على العين التي تعلق بها الخمس و الزكاة، لأنه أيضا حلف لإثبات مال الغير، لكن السيرة على خلافه، و لعلها لبقاء تعلقه بها، و الأولى إذا أراد الحلف أن ينقلها إلى ملكه بما يقابل الخمس في ذمته حتى يتمحض له، لأنه مخير في دفعه منه و من غيره.

و على كل حال ف ان امتنع الوارث لم يحلف الغريم على أنه ملك الميت، و لا يجبر الوارث على الحلف، للأصل و غيره، و لكن للغريم إحلاف المدعى عليه، لأن له تعلقا بذلك، فإن أحلفه برأ من الغريم و لم يبرأ من الوارث، فان حلف الوارث كان للغريم

ج 40، ص: 284

أخذه من حيث ثبوت كونه تركة، بل يقوى جواز مطالبته به قبل قبض الوارث له، و إن استشكل فيه الفاضل من إحلافه، لكن فيه أن سقوط استحقاقه عليه من جهة لا ينافي الاستحقاق من جهة أخرى، كما أسلفنا الكلام فيه.

و كذا لو ادعى رهنا و أقام شاهدا أنه ملك للراهن لم يحلف على أنه ملك الراهن لأن يمينه لإثبات مال الغير حينئذ لكن في الدروس الإشكال في ذلك مما عرفت و من ثبوت النفع، إلا أني لم أعرفه لغيره من أصحابنا، و إنما هو محكي عن بعض العامة، نعم لو ادعى الرهانة و أراد إثباتها من غير تعرض للمالك لم يبعد إثباتها بالشاهد و اليمين، و لا ينافيها كونه ملكا للغير، فإنه يمكن تعلق الرهانة به و إن كان ملكا للغير، بل لو ادعى غريم الميت أن له حق الوفاء من هذه العين من غير تعرض لمالكها أمكن الثبوت و إن لم يثبت أنها تركة ميت، إلا أني لم أر مصرحا بذلك، و لعله لتوقف ثبوت حق الاستيفاء له على كونه تركة للميت، و الفرض عدم ثبوتها بيمينه، و بذلك يفرق بينه و بين الأول، فتأمل.

و لو ادعى الجماعة مالا لمورثهم و حلفوا أجمع مع شاهدهم ثبتت الدعوى بلا خلاف و لا أشكال و قسم بينهم على الفريضة، و لو كان وصية قسموه بالسوية لظهورها في ذلك إلا أن يثبت التفضيل من الموصى و لو امتنعوا لم يحكم لهم لعدم تمام الحجة.

و لو حلف بعض أخذ و لم يكن للممتنع معه شركة لإطلاق أدلة القضاء بالشاهد و اليمين، و انحلال دعوى الجماعة إلى دعاوي متعددة، كما عرفته في المسألة السابقة، و حينئذ لم يكن للممتنع معه شركة، لأنه

ج 40، ص: 285

بتركه لليمين قد أبطل حجته و أسقط حقه، فصار بمنزلة غير الوارث.

و في المسالك «و قد يشكل الفرق بين هذا و بين ما لو ادعيا على آخر مالا و ذكرا سببا موجبا للشركة كالإرث، فإنه إذا أقر لأحدهما شاركه الآخر فيما وصل إليه، فخص بعضهم هذا بالدين و ذاك بالعين، لأن أعيان التركة مشتركة بين الورثة، و المصدق معترف بأنه من التركة بخلاف الدين، فإنه إنما يتعين بالتعيين و القبض، فالذي أخذه الحالف تعين لنفسه بالقبض، فلم يشاركه الآخر فيه، و هذا الحكم مبني على ما إذا استوفى بعض الشركاء نصيبه من الدين هل يشاركه الآخر أم لا؟

و هذه التخصيصات لا توافق مذهب المصنف من مشاركة الشريك في الدين فيما قبضه الآخر منه، و مع ذلك فلو انعكس الفرض انعكس الحكم».

قلت: الذي صرح بالفرق الفاضل في التحرير، فإنه قال على ما حكي عنه: «و لا شركة للغائب فيما أخذ الحاضر إذا كانت الدعوى دينا، أما لو كانت عينا و أخذ نصيبه منها بالشاهد و اليمين فإن الغائب إذا حضر و امتنع من اليمين أخذ نصيبه مما أخذ، كما لو ادعى الوارثان عينا فأقر لأحدهما فصالحه كان للآخر الشركة».

و قال في الإرشاد في كتاب الشهادات في مفروض المسألة: «و لو استوفى الحاضر حصته من الدين لم يساهمه الغائب، و إن كان عينا ساهمه».

و قال في القواعد في مفروض المسألة: «هل للمولى عليه منهم شركة فيما يقبضه الحالف؟ الأقرب ذلك إن كمل و حلف».

و علله شارحه الأصبهاني بأن الإرث أو الوصية سبب لاشتراك الكل بالإشاعة و المفروض اعتراف الحالف بالسبب المشرك، و الاستيفاء ليس بقسمة، ثم قال الشارح المزبور: «و هو ظاهر في العين دون الدين، لأنه يتعين بالقبض، و أما إذا لم يحلف فقد أسقط حقه، و يحتمل الشركة

ج 40، ص: 286

و إن لم يحلف، لاعتراف القابض بشركته بالإشاعة و أن القسمة بغير إذنه، فباعترافه لم تقع موقعها، و العدم مطلقا للحكم بانتزاع ما قبضه، فهو أبلغ من القسمة بالتراضي».

و في المسالك «أنه فرق آخرون بين الإقرار و بين المقام بأن المدعي هناك تلقى الملك من إقرار ذي اليد ثم ترتب على ما أقر به إقرار المصدق بأنه إرث، فلذلك شاركه فيه، بخلاف ما هنا، فان السبب هنا الشاهد و اليمين، فلو أثبتنا الشركة لملكنا الناكل بيمين غيره، و بعيد أن يمتنع الإنسان من الحلف ثم يملكه بحلف غيره، مع أن اليمين لا تجرى فيها النيابة، و على هذا فلا يفرق بين العين و الدين- و أشكله فيها- بأن سبب الملك ليس هو اليمين بل الأمر السابق من إرث أو وصية و غيرها، و اليمين إنما كشفت عن استحقاقه السابق و رفعت الحجر عنه- ثم قال-:

و لو فرض حلف الآخر بعد ذلك فان كان قبل الدفع إلى الأول فلا كلام، و إن كان بعده ففي مشاركة الثاني له وجهان: من وجود السبب المقتضي للشركة، و سبق الحكم باختصاص الأول بما حلف عليه و قبضه، و تظهر الفائدة في المشاركة في النماء الحاصل قبل يمين الثاني».

و في الدروس بعد أن ذكر نحو ما سمعته من التحرير قال: «و يشكل بالفتوى أن الشريك في الدين يأخذ نصيبه من شريكه» إلى غير ذلك من كلماتهم المشوشة في المسألة.

و التحقيق عدم الفرق بين الدين و العين بعد تحقق سبب الشركة فيهما، إذ الدين عين أيضا، إلا أنها كلية، و قد تقدم التحقيق في الشركة بالدين أنه إذا قبض بعض الشركاء لنفسه و دفعه المديون له أيضا كذلك لم يختص به عن الشريك الآخر لو فرض إجازته القبض وفاء عن الدين المشترك، خلافا لابن إدريس، و قد ذكرنا النصوص و الفتاوي على

ج 40، ص: 287

خلافه، ضرورة عدم ولاية للمديون على تعيين الحصة المشاعة التي هي للشريك في عين خارجية و إن اتفق معه، نعم لو أراد الاستقلال بذلك صالحه عن حصته المشاعة بعين أو حول عليها على إشاعتها أو نحو ذلك مما ذكرناه في وجه اختصاص بعض الشركاء عن بعض حتى في العين.

و منه يعلم النظر فيما في التحرير من لحوق الشريك للآخر لو صالحه عن حصته في العين زيادة على ما سمعته منه و من غيره من اختصاص الشريك عن الغائب فيما يقبضه بالشاهد و اليمين من حصته في الدين.

و أغرب من ذلك ما سمعته من المحكي في المسالك من الفرق المزبور بين الإقرار و غيره، ضرورة أن لحوق الشريك فيما قبضه الآخر بيمينه ليس لإثبات حقه بيمين غيره مع فرض نكوله، بل هو لاعتراف القابض بإشاعة الدين و إن توصل هو إلى قبض بعضه بعنوان أنه حصة له بيمينه، لكن ذلك لا يغير الواقع و ما في النفس الأمر. و أغرب منه ما سمعته من الاحتمالات في كشف اللثام.

نعم قد يتجه اختصاص الشريك في الدين و العين بما يقبضه منهما إذا لم يعلم بقاء سبب الشركة، لاحتمال الإبراء من شريكه أو نقله بحصته على الإشاعة أو نحو ذلك، و العلم السابق بحصول مقتضى الشركة لا يقتضي التشريك فيما يدفعه المديون أو من في يده العين منها مع عدم ثبوت الشركة بظاهر الشرع، بل ربما ثبت عدمها بظاهر الشرع، كما لو رضي بيمينه أو نكل عن يمين ردت عليه أو نحو ذلك و حينئذ فالحكم الظاهري لم يعلم فساده، كما لم يعلم عدم تمامية ما قصداه معا من الاختصاص بعد عدم حجية الأصول المثبتة عندنا.

بل قد يقال باختصاصه في هذا الحال مع غيبة الشريك الآخر و إن جاء و حلف، لكن ذلك لا يقتضي التشريك في حق القابض الأول، إذ

ج 40، ص: 288

يمكن كذبه بيمينه، كما يمكن ذلك في الأول، فلا يلحق أحدهما الآخر إلا مع تداع جديد بينهما.

و بذلك بان لك الحال في جميع أطراف المسألة حتى لو كان في الجملة مولى عليه لصغر و نحوه، فإنه لم يحلف وليه لكون المال لغيره، و لكن يوقف نصيبه، فان كمل و رشد حلف و استحق و إن امتنع لم يحكم له و في شركته للقابض الأول حلف أو لم يحلف و شركة الآخر له على تقدير حلفه ما سمعته، و ليس للولي مطالبة المديون بكفيل إلى أوان الحلف على الأصح، كما أنه لا يجب على الوالي أخذ نصيب المولى عليه من الغريم، لعدم الثبوت و إن تردد في محكي التحرير في نصيب الغائب، و احتمل في كشف اللثام الفرق بين العين فيؤخذ و الدين فلا.

و إن مات المولى عليه مثلا قبل ذلك كان لوارثه الحلف أنه لمورث مورثه و استيفاء نصيبه كما سمعته في غيره، و الأقوى عدم احتياج إعادة الشهادة حتى في الوصية، لكن في كشف اللثام إن كان الدعوى في الإرث لم يفتقر إلى إعادة الشهادة و إن لم يأت الولي بالشاهد، و إن كان في الوصية افتقر إن لم يأت الولي به، و الفرق أنه ثبت في الأول أولا ملك المورث، و هو ملك واحد، بخلاف الثاني، و فيه أن إطلاق الأدلة يقتضي أعم من ذلك، كما أومأنا إليه سابقا في دعوى الجماعة غير الورثة.

هذا كله بالإثبات بالشاهد و اليمين، أما إذا كان بالبينة فلا خلاف عندهم في انتزاع حصة الغائب أو المولى عليه من العين و الدين و لو من الحاكم الذي هو ولي الغائب في نحو ذلك، كما لو علم بالاستحقاق، نعم في الدروس احتمل بقاء حصة الغائب في الدين و استبعده.

ج 40، ص: 289

و قد يشكل أصل الأخذ بأن البينة و إن كانت حجة شرعية إلا أنها لمن ادعى بها بنفسه أو وكيله أو وليه لا مطلقا، و يدفع بإطلاق ما دل على حجيتها ما لم يعلم فسادها، على أن الولي هنا و لو الحاكم الذي يتوقف استقلال الحاضر على نصيبه على مقاسمته له، فتأمل جيدا.

[مسائل خمس]
[المسألة الأولى لو قال هذه الجارية مملوكتي و أم ولدي حلف مع شاهده و ثبت رقيتها]

الأولى:

لو قال: هذه الجارية التي في يد زيد مثلا مملوكتي و أم ولدي و أنكر زيد و أقام شاهدا على ذلك حلف مع شاهده و ثبت بذلك رقيتها بلا خلاف و لا إشكال، لأنها مال و إن كانت أم ولد، و لكن يختص الثبوت بها دون الولد، لأنه ليس مالا حتى يثبت بالشاهد و اليمين و إن كان يثبت لها حكم أم الولد من عدم جواز بيعها و غيره بإقراره و حينئذ فيثبت من تلك الدعوى المتضمنة لأمور أربعة اثنان: كونها مملوكته، و الثاني أنها أم ولد، الأول بالشاهد و اليمين و الثاني بالإقرار، و يبقى لحوق الولد به، و يتبعه كونه حرا، و لا ريب أن الشاهد و اليمين لا يثبت النسب عند الأصحاب، نعم يلحقه حكم الولد من حيث الإقرار، فهو حينئذ كمدعي بنوة عبد الغير، و قد تقدم البحث فيه في محله، و الوجه ثبوت حريته على تقدير انتقاله إلى ملكه في الظاهر في وقت ما لا معجلا.

و أما الحرية فبناء على ثبوتها بالشاهد و اليمين فقد يقال بعدمه هنا باعتبار كونها هنا تابعة للنسب لا واقعة بالذات، و انتفاء المتبوع يستتبع انتفاء التابع.

ج 40، ص: 290

و فيه أن انتفاءه واقعا يقتضي ذلك، لا عدم الحكم به في ظاهر الشرع، و حينئذ يمكن إثباتها بهما، كما لو اشتملت الدعوى على أمرين يثبت أحدهما بذلك دون الآخر، و حينئذ ففي الفرض تثبت حريته بهما، و لا يقدح فيها كونها تابعة لما لا يثبت بهما، ضرورة كونها مدعى بها في الجملة، فهي حينئذ كدعوى السرقة.

و دعوى أن حرية الولد ليست من حقوق المدعي كي تندرج في ضابط الشاهد و اليمين يدفعها أنها من حقوقه مع استنادها إلى كونه ولدا له، بل قد يقال: إن الحكم بملكية الجارية يقتضي الحكم أيضا بملكية الولد الذي هو من نمائها التابع لها، كما لو ثبت غصب جارية، فإنه يحكم له بالولد الحاصل منها في يد الغاصب، بل ثبوت الاستيلاد يقتضي ذلك، و حينئذ فينتزع الولد و يتم لحوقه به بإقراره و إن كان قد يناقش بتقديم ما تقتضيه اليد من الملك فعلا على ذلك، خصوصا بعد دعواه الحرية بالاستيلاد الذي لا يقتضي ثبوته بالإقرار كونه كذلك في حق المدعى عليه.

هذا و في المسالك «الأظهر الأول، لأنه لا يدعي تملك الولد و لا عتقه، و إنما يدعي نسبه و حريته، و هما لا يثبتان بهذه الحجة، و على هذا فيبقى الولد في يد صاحب اليد».

و فيه أن دعوى نسبه و حريته تشتمل على دعوى مال و دعوى غيره، بناء على أن دعوى زوال المال عمن هو في يده و محكوم بكونه مالا له بظاهر الشرع- نحو دعوى العبد العتق على من في يده- من دعوى المال، بل لو فسرت دعوى المال بالتي تتعلق بالمال لو لا الدعوى لكان ما نحن فيه من ذلك قطعا، إذ هو مال لمالك الجارية باعتبار كونه نماءها التابع لها أو لمن في يده باعتبار اليد الظاهرة عليه.

و على كل حال هي دعوى مال على هذا التقدير و غير مال، فيثبت

ج 40، ص: 291

منها بالشاهد و اليمين ما رجع إلى المال دون الآخر و إن كان يثبت حينئذ بإقراره بعد ثبوت الحرية، فتأمل.

[المسألة الثانية لو ادعى بعض الورثة أن الميت وقف عليهم دارا فإن حلف المدعون مع شاهدهم قضي لهم]

المسألة الثانية:

لو ادعى بعض الورثة أن الميت وقف عليهم دارا مثلا و بعدهم على نسلهم فان حلف المدعون أجمع مع شاهدهم الواحد بناء على القضاء بذلك في مثله قضي لهم بالوقفية و لم يؤد منه دين و لا ميراث و لا وصية، فان انقرض المدعون معا أو على التعاقب فهل يأخذ البطن الثاني الدار من غير يمين أم يتوقف قبضهم على اليمين؟ ففي المسالك «فيه وجهان مبنيان على أن البطن الثاني يتلقون الوقف من البطن الأول دون الواقف، فعلى الأول كما هو الأشهر فلا حاجة إلى اليمين، كما إذا أثبت الوارث ملكا بالشاهد و اليمين ثم مات، فان وارثه يأخذه بغير يمين، و لأنه قد ثبت كونه وقفا بحجة يثبت بها الوقف فيدوم، كما لو ثبت بالشاهدين، و لأنه حق ثبت لمستحق فلا يفتقر المستحق بعده إلى اليمين، كما لو كان للمدعي ملكا، و لأن البطن الثاني و إن كانوا يأخذون عن الواقف فهم خلفاء عن المستحقين أولا، فلا يحتاجون إلى اليمين، كما إذا أثبت الوارث للميت ملكا بشاهد و يمين و للميت غريم، فان له أن يأخذه بغير يمين».

و هو كما ترى لا محصل له، ضرورة عدم تعقل تلقيهم من البطن الأول على وجه يقتضي التلازم بينهما أو اندراج حقهم في حق الأولين حتى يكون اليمين من الأولين مثبتا لحقهم لا حق الغير، و القياس على إثبات الملك مع حرمته عندنا هو مع الفارق، ضرورة أن الانتقال إلى الإرث

ج 40، ص: 292

و تعلق حق الدين من لوازم الملك، بخلاف كونه وقفا على خصوص الثاني، فإنه ليس من لوازم الأول، و الحجة الشرعية إنما هي في حق صاحب الحق لا لإثبات الشي ء في نفس الأمر، و لهذا كان فرق بينهما و بين البينة، فالمتجه حينئذ التوقف على اليمين كالبطن الأول.

ثم قال فيها تفريعا على هذا «و حينئذ فلو كان الاستحقاق بعد الأولاد للفقراء و كانوا محصورين كفقراء قرية و محلة فالحكم كالأول، و إن لم يكونوا محصورين بطل الوقف، لعدم إمكان إثباته باليمين، و عادت الدار إرثا، و هل تصرف إليهم بغير يمين؟ وجهان، و يحتمل عودها إلى أقرب الناس إلى الواقف بناء على أنه وقف تعذر مصرفه، كالوقف المنقطع، و يجري فيه الخلاف الذي قد تقدم في الوقف».

و هذا الكلام أغرب من الأول، إذ ما ذكره من الاحتمال الأخير لم نعرف أحدا ذكره في الوقف المنقطع، و لا وجه له، فإن أقرب الناس إلى الواقف لا مدخلية له في شي ء من ذلك، و احتمال إرادة الإرث منه كما عساه يشعر به كلامه في آخر المسألة يدفعه أنه ذكره بعد أن ذكر البطلان و أنه صار إرثا، و البحث في كونه لورثة الواقف حين الوقف أو حين الانقطاع أو غير ذلك تقدم في محله، نعم ذكروا في الوقف المعلوم بقاؤه على الأبد و اتفق تعذر مصرفه أنه يحتمل صرفه في أقرب الجهات إلى الوقف الأول أو في مطلق وجوه البر، و الفرض أن المقام ليس منه قطعا، لعدم ثبوت وقفه.

و كذا ما ذكره من الوجهين بعد الجزم ببطلان وقفه و عوده إرثا في توقف صرفه إليهم على اليمين و عدمه، إذ لا استحقاق لليمين على الوارث بعد عدم مدع لكون المفروض وقفه على الفقراء و هم غير منحصرين.

بل ما ذكره أولا من الحلف على فرض كون الوقف على فقراء

ج 40، ص: 293

قرية أو محلة قد يناقش فيه بأنه لا وجه له مع فرض كون المراد الجنس و إن اتفق انحصار أفراده في الخارج، فان ذلك لا يجعل للمخصوصين من حيث كونهم كذلك حق الدعوى على وجه لهم الحلف مع الشاهد و اليمين المردودة و نحو ذلك، فتأمل.

و لو مات أحد الحالفين صرف نصيبه إلى الآخرين، فان لم يبق إلا واحد صرف الكل إليه، لأن استحقاق البطن الثاني مشروط بانقراض الأولين، و لكن في المسالك أيضا «و هل أخذ الآخرين بيمين أو بغيره مبني على أن البطن الثاني هل يأخذ بيمين أم لا؟ فان قلنا بعدمه فهنا أولى، و إن قلنا به فهنا وجهان: من انتقال الحق إلى الثاني عن غيره فيفتقر إلى الحلف، و من كونه قد حلف مرة و صار من أهل الوقف، فيستحق بحسب شرط الوقف تارة أقل و تارة أكثر».

و فيه أنه أيضا إسراف من الكلام، ضرورة الفرق بين ذلك و بين البطن الثاني، بل ليس فيه إلا وجه واحد، لأن اليمين الأولى قد أثبتت استحقاق الحالف على حسب ما وقف الواقف، فلا يحتاج حينئذ في صيرورة نصيب الميت إليه إلى يمين، كما هو واضح.

و إن امتنعوا أجمع من اليمين حكم بها ميراثا للجميع و تتعلق بها الوصايا و الديون و لكن كان نصيب المدعين وقفا لأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، دون نصيب غيرهم، فان مات الناكلون ففي المسالك «في صرف حصتهم إلى أولادهم على سبيل الوقف بغير يمين وجهان مبنيان على تلقي الوقف، كما تقدم».

و فيه أن الإقرار من ذي النصيب هنا كاف في ثبوت الوقف لهم، بل لا وجه لليمين هنا مع عدم المنازع لهم، إذ الفرض إقرار الأب بما أصابه من نصيب الإرث، إلا أنه قد نكل عن اليمين السابقة، و ليس لشركائهم مخاصمة معهم في ذلك.

ج 40، ص: 294

ثم قال: «و هل للأولاد أن يحلفوا على أن جميع الدار وقف؟

وجهان من كون الأولاد تبعا لآبائهم، فإذا لم يحلفوا لم يحلفوا، و من أنهم يتلقون الوقف من الواقف فلا تبعية، و ربما بنى الخلاف على أن الوقف المنقطع الابتداء هل يصح أم لا؟ فان منعناه لم يحلف الأولاد على الجميع، لانقطاعه قبل طبقتهم، و إن جوزناه جاء الوجهان، و الحق مجيئهما حتى على المنع، لأن حلف الأولاد اقتضى عدم انقطاعه في الواقع و إن انقطع بالعارض حيث لم يحلف آباؤهم، و لأن البطن الثاني كالأول في تلقي الوقف من الواقف، و لأن منع الثاني يؤدي إلى جواز إفساد البطن الأول الوقف على الثاني و هذا لا سبيل إليه، فالقول بجواز حلفهم قوي، كما هو خيرة الشيخ و المصنف و غيرهما».

و فيه أيضا- بعد الإغضاء عما في الأول من الوجهين- أن يمين الأولاد لا يصلح لإثبات اتصال الوقف، لأنه حينئذ يكون يمينا للغير، و احتمال الاتصال بعد كونه منقطعا في ظاهر الشرع غير مجد، و إطلاق الإثبات بالشاهد و اليمين لا ينافي الفساد من جهة أخرى، فتأمل. إذ الظاهر عدم خلاف محقق في أن للبطن الثاني اليمين مع نكول البطن الأول عنه بناء على تلقيهم من الواقف، و يكفي في صحة الوقف في حقهم احتمال الاتصال و إن كان هو منقطعا في ظاهر الشرع بمعنى عدم ثبوته للبطن الأول، و الله العالم.

و لو (فان خ ل) حلف بعض و كانوا ثلاثة مثلا فحلف واحد منهم ثبت نصيب الحالف على تقدير الوقفية و هو الثلث وقفا و كان الباقي طلقا بالنسبة إلى غير المدعي تقضى منه الديون و تخرج الوصايا، و ما فضل عن ذلك يكون ميراثا للجميع حتى الحالفين، كما هو ظاهر بعض، بل عن بعضهم التصريح به،

ج 40، ص: 295

لاعتراف غيرهم من الورثة باشتراكه بينهم أجمع و إن كان مدعي الوقف قد ظلم بأخذ حصته منه بيمينه، و لا يحسب عليه ما أخذه من حقه في الباقي، لأنه معين و هو الدار المفروضة لا مشاع، فيؤاخذون بإقرارهم و يقسم على الحالف و غيره، و على هذا فما يخص الحالف يكون وقفا على الناكل، لأن الحالف معترف لهم بذلك.

و لكن فيه أنهم إنما يعترفون بالاشتراك في الجميع، و أن ما أخذه الحالف بالوقفية إنما استحقه بالإرث، و الحالف معترف بأنه لا يستحق إلا ما أخذه، نعم إن زاد نصيب مدعي الوقف إرثا على نصيبه وقفا كان الزائد مجهول المالك، و لعله لذا قيل- كما عن المبسوط التصريح به-:

إن الفاضل يقسم بين المنكرين من الورثة و الذين نكلوا دون الحالف، لأنه مقر بانحصار حقه فيما أخذه و أن الباقي لإخوته مثلا وقفا، بل الظاهر أيضا كون الزائد من نصيبهم إرثا على نصيبهم وقفا مجهول المالك نحو ما سمعته في الأول.

حصة الناكلين تصير وقفا بإقرارهما كما أن حصة الحالف من حيث الإرث كذلك، و حينئذ فإذا مات الناكلان و الحالف حي فنصيبهما له على ما شرط الواقف بإقرارهم، بل لا حاجة إلى اليمين كما عرفته فيما سبق، فإذا مات الحالف فالاستحقاق للبطن الثاني مع حلفهم كما سمعت.

و إن كان الحالف حيا عند موت الناكلين فأراد أولادهم أن يحلفوا ففي المسالك «على القولين المذكورين في أولاد الجميع إذا نكلوا، و الأصح أن لهم الحلف- قال-: و أما حكم نصيب الحالف الميت قبلهما ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يصرف إلى الناكلين، لأنه قضية الوقف، إذ لا يمكن جعله للبطن الثاني لبقاء البطن الأول، و لأنه أقرب الناس إلى الواقف، و على هذا ففي حلفهم الخلاف السابق، فان قلنا بالحلف يسقط بالنكول

ج 40، ص: 296

كالأول. و الثاني أنه يصرف إلى البطن الثاني، لأنه بنكول الناكل سقط حقه و صار كالمعدوم، و إذا عدم البطن الأول كان الاستحقاق للثاني، و هذا هو الذي اختاره الشيخ في المبسوط. و الثالث و هو أضعفها أنه وقف تعذر مصرفه، لأنه لا يمكن صرفه إلى الباقين من البطن الأول لنكولهم، و لا إلى البطن الثاني، لأن شرط استحقاقه انقراض الأول، فإذا تعذر مصرف الوقف بطل كمنقطع الآخر، و يرجع إلى أقرب الناس إلى الواقف، و يحتمل على هذا صرفه في وجوه البر، لأن هذا الانقطاع لم يكن واقعا، و إنما طرأ فكان كما لو بطل رسم المصلحة الموقوف عليها، و على هذا فإذا زال التعذر بأن مات الناكل و انتقل إلى البطن الثاني جاء في حلفه ما مر، و كذا في حلف أقرب الناس إليه إذا كان هو الناكل».

و فيه أنه لا ريب في صرف نصيبه من حيث الإرث إلى الناكلين، كما صرف نصيبهم إليه من هذه الحيثية للإقرار، و أما ما زاد عليه فيرجع إلى شركائه المنكرين للوقف، لانقطاع حكم يمينه بموته، و لم يتحقق استحقاق البطن الثاني باعترافه، نعم لو مات الناكلان انتقل إليهم حينئذ بيمينهم و إلا كان إرثا، و الله العالم.

هذا و قد عرفت أن ما يحصل من الفاضل للمدعين يكون وقفا للإقرار. و كذا عرفت أنه لو انقرض الممتنع كان للبطن التي تأخذ بعده الحلف مع الشاهد، و لا يبطل حقهم بامتناع الأول كما هو واضح.

و إذا أحطت بجميع ما ذكرنا عرفت الكلام فيما ذكره المصنف في

ج 40، ص: 297

[المسألة الثالثة إذا ادعى الوقفية عليه و على أولاده بعده و حلف مع شاهده ثبتت الدعوى]

المسألة الثالثة: من أنه إذا ادعى الوقفية عليه و على أولاده بعده و حلف مع شاهده ثبتت الدعوى، و لا يلزم الأولاد بعد انقراضه يمين مستأنفة عند المصنف و جماعة لأن الثبوت الأول أغنى عن تجديده و هم يتلقون الوقف منه، بمعنى الاكتفاء بثبوته في حق الأولين عن إثباته في حق البطن الثاني.

لكن قد عرفت أن فيه منعا واضحا، ضرورة كونه كذلك إذا كان في مال لا منازع لهم فيه لا في مثل الفرض، نعم يتجه ذلك فيما يخصهم على تقدير الارثية لا ما زاد، فإنه يحتاج إلى اليمين.

و كذا الكلام إذا انقرضت البطون و صار إلى الفقراء أو المصالح فإنه بناء على ما ذكرنا يتجه حينئذ انقطاع الوقف، لعدم صحة اليمين من أحدهم، و احتمال سقوطه هنا و إن قلنا به في غيرهم لعدم حصرهم ضعيف، بل مناف لظاهر الأدلة هذا كله في وقف الترتيب.

أما لو ادعى التشريك بينه و بين أولاده افتقر البطن الثاني إلى اليمين (يمين خ ل) قطعا بل لا خلاف أجده فيه لأن البطن الثاني بعد وجودها تعود كالموجودة وقت الدعوى ضرورة تلقي الجميع من الواقف، و لا يثبت حق أحد منهم بيمين غيره.

و حينئذ فلو ادعى إخوة ثلاثة مثلا أن الوقف عليهم و على أولادهم مشتركا فحلفوا مع الشاهد ثبت ذلك بالنسبة إليهم، و لم يتعلق فيه حق وصية و لا دين و لا حق إرث لغيرهم، فإذا كان كذلك ثم صار لأحدهم ولد مثلا فقد صار الوقف أرباعا (11) بعد

ج 40، ص: 298

أن كان أثلاثا و لكن لا تثبت حصة هذا الولد ما لم يحلف، لأنه يتلقى الوقف عن الواقف، فهو كما لو كان موجودا وقت الدعوى، و حينئذ يوقف له الربع و نماؤه.

و في المسالك «في تسليمه إلى وليه أو يوضع في يد أمين وجهان:

منشأهما مؤاخذتهم بإقرارهم، كما لو كانت العين في يد ثلاثة فاعترفوا بربعها لصبي، فإنهم يلزمون بإقرارهم، و يدفع إلى وليه، و من عدم ثبوت الحق له حينئذ لتوقفه على اليمين، و هذا هو الأصح، و الفرق بينه و بين المثال واضح».

قلت: بل يتوقف في أصل إيقافه، لما عرفته في الوجه الأصح، و حينئذ يجري عليه حكم ما لم يثبت وقفه، و يحرم الثلاثة منه، لاعترافهم بعدم استحقاقهم فيه شيئا، إلا أني لم أجد قائلا بذلك، و لعله قوى للاحتياط في مثله، و لو لعدم معلومية أنه للموقوف عليه أو للوارث على وجه لا ينقح بأصل أو غيره، ضرورة انكشافه باليمين أنه للموقوف عليه من أول الولادة، فهو أشبه شي ء بالمال المشتري فضولا حال عدم العلم بالإجازة، و الأصل فيه أنه بعد انتزاع الثلاثة إياه من الوارث بيمينهم لم يعلم كيفية رجوعه إلى الوارث بالنكول أو صيرورته إلى الموقوف عليه باليمين التي تنكشف حاله بها حال الولادة، فتأمل جيدا.

و كيف كان فان كمل بالبلوغ و الرشد و حلف لحصول القطع له بالتسامح أو غيره أخذ الربع و غلته المتجددة بعد ولادته كما في المسالك و إن امتنع ففي المسالك في مصرف الربع وجوه:

أحدها ما قال ه الشيخ في مبسوطة من أنه يرجع ربعه على الإخوة، لأنهم أثبتوا أصل الوقف عليهم ما لم يحصل المزاحم، و الولد بامتناعه جرى مجرى المعدوم (11) و لأن الواقف جعل الثلاثة أصلا

ج 40، ص: 299

في الاستحقاق ثم أدخل من يتجدد على سبيل العول، فإذا سقط الداخل فالقسمة بحالها على الأصول كما كانت، فهو حينئذ مثل ما إذا مات إنسان و خلف ألفا فجاء ثلاثة و ادعى كل واحد ألفا على الميت و أقام شاهدا، فان حلفوا معه فالألف بينهم، و إن حلف اثنان فهي لهما، و إن حلف واحد فهي له.

و فيه إشكال ينشأ من اعتراف الاخوة بعدم استحقاق الربع فلا يجوز لهم أخذه.

و زاد في المسالك يمنع الحكم في الأصل المشبه به، قال: «بل ليس لصاحب الدين الأول إذا لم يحلف الثاني إلا أخذ حصته، إلا أن يقضي بالنكول أو يبرؤه الثاني من حقه، لأن الثاني أبطل حقه حينئذ بخلاف النكول بمجرده عند من لم يقض ببطلان الحق به، و لهذا لو لم يحلف مع الشاهد ثم أتم البينة سمعت منه و حكم له بها».

و فيه أنه يكفي في استقلال الأول بأخذ الجميع عدم ثبوت حق الثاني و إن كان يلحقه لو أثبت بعد ذلك، نعم المتجه منع الشبه بما نحن فيه كما هو واضح.

و ثانيها صرفه إلى الناكل، لاعتراف الاخوة باستحقاقه، و أجاب عنه في محكي المبسوط بأن الإقرار ضربان: مطلق و مقترن إلى سبب، فإذا عزى إلى سبب فلم يثبت السبب عاد إلى المقر به، كقولهم مات أبونا و أوصى لزيد بثلث ماله فرد ذلك زيد، فإنه يعود إلى من اعترف بذلك، و كذلك من اعترف لغيره بدار في يده فلم يقبلها الغير عادت إلى المقر، فكذلك هنا.

و فيه ما لا يخفى من أن ثبوت السبب متحقق بالنسبة إلى المقر، و إنما تخلف بالنسبة إلى المقر له، و لازم ذلك انتقال المقر به عمن ثبت السبب في حقه و إن لم يثبت في حق الآخر، و دعوى أن من أقر له بدار

ج 40، ص: 300

فلم يقبلها المقر له تعود إلى المقر بمجرد الإنكار ممنوعة، بل تبقى مجهولة المالك، أو يشرع له الدس في ماله.

و إن أراد إقرارهم بسبب يتوقف أثره على قبول و لم يحصل فهو مسلم، و لكنه غير ما نحن فيه، ضرورة أن الملك في المقام غير متوقف على قبول، بل هم معترفون له به و إن لم يحلف، بخلاف التمليك بالوصية المتوقف على القبول، كل ذلك مضافا إلى اقتضائه حينئذ عدم اليمين.

و ثالثها أنه وقف تعذر مصرفه، إذ لا يصرف إلى الإخوة لما ذكرناه، و لا إلى الولد لعدم ثبوته له، فيرجع إلى الواقف أو ورثته كمنقطع الآخر أو إلى وجوه البر كما قررناه في السابق.

قلت: لا ريب في أن المتجه عوده إلى المنكرين أولا، لعدم ثبوت ما يقتضي انتقاله عنهم، فهو كما لو حلف أحد الثلاثة و نكل الآخران، إذ قد عرفت ان الولد المتجدد كالموجود وقت الدعوى، و ما في القواعد- من أنه لا يصرف إلى المدعى عليه أولا، و لا إلى ورثته، لثبوت عدم استحقاقهم أولا- يدفعه أنه إنما يثبت بالنسبة إلى خصوص الحالفين، و المتجدد مدع جديد، و لذا احتاج إلى اليمين مع شاهده، كما أشار إلى ذلك في الدروس و غيره، و حينئذ لم تتم الدعوى إلى أن يحصل الحلف من الجميع.

و كيف كان ف لو مات أحد الإخوة قبل بلوغ الطفل عزل له الثلث من حين وفاة الميت، لأن الوقف صار أثلاثا و قد كان وقف له الربع إلى حين الوفاة فيضاف إليه نصف سدس و يوقف له فان بلغ و حلف أخذ الجميع، و إن رد فعلى قول الشيخ كان الربع إلى حين الوفاة لورثة الميت و الأخوين، و الثلث من حين الوفاة للأخوين، و فيه أيضا إشكال كالأول و على غيره يرجع إلى الناكل،

ج 40، ص: 301

أو وقف تعذر مصرفه، أو إلى المدعى عليه أو وارثه، و هو الأصح.

و لو ادعى البطن الأول الوقف على الترتيب و حلفوا مع شاهدهم فقال البطن الثاني بعد وجودهم: إنه وقف تشريك ففي القواعد «كانت الخصومة بينهم و بين البطن الأول، فإن أقاموا شاهدا واحدا حلفوا و تشاركوا، و لهم حينئذ مطالبتهم بحصتهم من النماء من حين وجودهم» و في كشف اللثام «و إن نكلوا خلص الوقف للأولين ما بقي منهم أحد، و إن تجددوا و ادعوا التشريك قبل حلف الأولين كانوا خصوما لهم و لغيرهم من الورثة، و لكن لا يجدي نكولهم إلا المدعين، فإنهم لما ادعوا الاختصاص فحلفوا مع شاهدهم ثبت لهم ذلك، نعم إن انعكس بأن حلف هؤلاء و نكل الأولون صار نصيب الأولين ميراثا، و الله العالم.

[المسألة الرابعة لو ادعى عبدا و ذكر أنه كان له و أعتقه فأنكر المتشبث يحلف مع شاهده و يستنقذه]

المسألة الرابعة:

لو ادعى عبدا في يد آخر و ذكر أنه كان له و أعتقه فأنكر المتشبث به قال الشيخ: يحلف مع شاهده و يستنقذه لأنه يدعي ملكا متقدما، و حجته تصلح لإثباته و إن ترتب عليه العتق بعد ذلك بإقراره كمسألة الاستيلاد السابقة.

و لكن قال المصنف و تبعه غيره هو بعيد، لأنه لا يدعي مالا بل يدعي حرية العبد، و هي ليست مالا، بل و لا من حقوقه، فلا تثبت بشاهد و يمين، بل لو سلم ثبوت العتق بهما فهو فيما إذا ادعاه العبد لا المولى الذي يدعيه لغيره.

و فيه أنه لا فرق بينهما في عدم كون الحرية مالا و في كونها متعلقة بمال، على أن المولى قد يدعيها لإثبات الولاء له عليه بسبب عتقه،

ج 40، ص: 302

و بذلك يكون حقا من حقوقه، بل هو إن لم يكن أولى من الاستيلاد فهو مساو له.

(و دعوى) الفرق بينهما بأن مدعي الاستيلاد يدعي ملكا ثابتا بالفعل، لأن أم الولد مملوكة للمولى، و هو مما يثبت بهما، و لما كانت أمومة الولد تستلزم ولدا منه كان إثبات الولد و انعتاقه تابعا و لازما لما يثبت بالشاهد و اليمين لا بالاستقلال بخلاف عتق العبد، فإنه ليس له أصل يثبت بذلك يستند إليه و يتبعه، فلا يثبت مستقلا (يدفعها) أن ذلك لا يقتضي خصوصية الولد الموجود، فليس المنشأ حينئذ إلا كونه مالا له بالشرع لولا إقراره، و هو سبب آخر يترتب بعد إثبات ماليته، فتأمل جيدا، و الله العالم.

[المسألة الخامسة لو ادعى عليه القتل و أقام شاهدا فإن كان خطأ أو عمد الخطأ حلف و حكم له]

المسألة الخامسة قد عرفت فيما مضى أن الموافق لضابط الأصحاب فيما لو ادعى عليه القتل و أقام شاهدا فان كان ذلك موجبا لمال كما لو كان خطأ أو عمد الخطأ حلف معه و حكم له، و إن كان عمدا موجبا للقصاص لم يثبت باليمين مع الواحد لعدم تعلقه بالمال حينئذ و لكن كانت شهادة الشاهد لوثا، و جاز له إثبات دعواه بالقسامة التي يثبت بها القصاص في سائر أفراد اللوث، خلافا لما عن ابن حمزة، فجعل الشاهد الواحد في القتل عمدا بمنزلة خمس و عشرين يمينا، و مرجعه إلى قبوله في مثل ذلك، و ربما كان موافقا لما ذكرناه سابقا من كون المستفاد من النصوص أن العنوان حقوق الناس التي تثبت بالأيمان بخلاف حقوق الله و حقوق الناس العامة، مثل رؤية الهلال، فتذكر و تأمل.

ج 40، ص: 303

[خاتمة تشتمل على فصلين]
اشاره

خاتمة تشتمل على فصلين:

[الفصل الأول في كتاب قاض الى قاض]
اشاره

الأول في كتاب قاض الى قاض اعلم أن إنهاء حكم الحاكم إلى آخر إما بالكتاب أو القول أو الشهادة، أما الكتابة فلا عبرة بها عندنا إجماعا كما في القواعد و محكي الخلاف و السرائر و التحرير و غيرها في حد و غيره مختوما و غير مختوم لإمكان التشبيه و عدم القصد إلى الحقيقة، و عدم الدليل شرعا على اعتبار دلالتها فضلا عما سمعته من الدليل على عدم اعتبارها.

مضافا إلى خبري السكوني(1)و

طلحة بن زيد(2)عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام) «أنه كان لا يجيز كتابة قاض إلى قاض في حد و لا غيره حتى و ليت بنوا أمية فأجازوا بالبينات»

المشهورين المستفيضين كما عن المختلف.

خلافا للمحكي عن أبي علي، فجوزه في حقوق الناس دون حقوق الله تعالى، و عن الأردبيلي موافقته على ذلك مع العلم بكتابته قاصدا لمعناه،


1- 1 الوسائل الباب- 28- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 28- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 304

قال: «و لهذا جاز العمل بالمكاتبة في الرواية و أخذ المسألة و العلم و الحديث من الكتاب المصحح عند الشيخ المعتمد، و لأنه قد يحصل منها ظن أقوى من الظن الحاصل من الشاهدين، بل يحصل منها الظن المتآخم للعلم، بل العلم مع الأمن من التزوير، و أنه كتب قاصدا للمدلول، و حينئذ يكون مثل الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم بأن القاضي الفلاني الذي حكمه مقبول حكم بكذا، فإنه يجب إنفاذه و إجراؤه من غير توقف؛ و يكون ذلك مقصود ابن الجنيد، و يمكن أن لا ينازعه فيه أحد، بل يكون مقصودهم الصورة التي لم يأمن فيها التزوير أو لم يعلم قصد الكاتب إرادة مدلول الرسم».

قلت: التحقيق أن الكتابة من حيث إنها كتابة لا دليل على حجيتها قطعا مطلقا في إقرار و غيره، بل عن ابن إدريس في نوادر القضاء التصريح بأنه لا يجوز للمستفتي أن يرجع إلا إلى قول المفتي دون ما يجده بخطه إلى أن قال: «بغير خلاف من محصل ضابط لأصول الفقه» و بني على ذلك عدم حجية المكاتبة، قال: «لأن الراوي للكتابة ما سمع الامام يقول، و لا شهد عنده شهود أنه قال» و إن كان فيه ما ستعرف.

نعم إذا قامت القرائن الحالية و غيرها على إرادة الكاتب بكتابته مدلول اللفظ المستفاد من رسمها فالظاهر جواز العمل بها، للسيرة المستمرة في الأعصار و الأمصار على ذلك، بل يمكن دعوى الضرورة على ذلك، خصوصا مع ملاحظة عمل العلماء في نسبتهم الخلاف و الوفاق و نقلهم الإجماع و غيره في كتبهم المعمول عليها بين العلماء، و دعوى أن ذلك كله من جهة فتح باب الظن في الأحكام الشرعية و موضوعاتها واضحة الفساد، ضرورة كون السيرة المزبورة على الأعم من ذلك، كالوكالة و الإقرار و الوصايا و الأوقاف و تصنيفهم كتب الفتوى للأطراف و عمل الناس بها

ج 40، ص: 305

و نحو ذلك، و لكن مقتضى ذلك تكون الكتابة فيما نحن فيه بعد انتفاء احتمال التزوير و عدم القصد و غيرهما من الاحتمالات بمنزلة إخباره بالحكم فان قلنا بقبوله قبلت و إلا فلا.

و ربما أشعر التعليل الأول في عبارة المصنف و الثاني في عبارة غيره بإرادة غير هذا الفرد من الكتابة، كما أنه يمكن حمل كلام ابن الجنيد و من وافقه على ما ذكرنا، فيعود النزاع لفظيا، و تحمل الروايتان على العمل بالحكم بالكتابة، بمعنى إيجاد الحكم بها باللفظ. أو على العمل بها من حيث إنها كتابه، إذ من المعلوم عدم دلالتها على كونها منه و أنه قصد بها معنى اللفظ المستفاد من رسمها.

و بهذا يفرق بينها و بين اللفظ الذي يحكم بمجرد صدوره على اللافظ بما يقتضيه لفظه إلا أن يعلم خلافه، بخلاف الكتابة، فإنها من قسم الأفعال لا دلالة فيها كذلك، لا أن المراد منهما الأعم من ذلك حتى ما ذكرناه من الفرد الذي لا ينبغي التوقف في اعتباره في كل ما لا يشترط فيها اللفظ كالصيغ و نحوها، بل دعوى عدم جريان حكم الإقرار و الاخبار و الرواية و الشهادة و الفتوى و نحو ذلك على المستفاد مما ذكرته من فردها أيضا واضحة المنع، و على تقديره فالمراد هنا معرفة صدور الحكم منه و لو باخباره، و لا ريب في حصولها بها. و بذلك يظهر لك النظر فيما أطنب به في الرياض.

نعم يمكن دعوى عدم اعتبارها هنا بالخصوص، للخبرين المشهورين رواية و فتوى، إلا أنك قد عرفت بقرينة التعليل و غيره احتمال إرادة غير الفرد المزبور و لعله الأقوى.

و أما القول مشافهة فهو أن يقول للآخر: حكمت بكذا أو أنفذت أو أمضيت أو نحو ذلك بقصد الاخبار به عما وقع له من

ج 40، ص: 306

الفصل ففي القضاء به لحاكم آخر تردد أقربه القبول كما ستعرف و إن نص الشيخ في الخلاف ب أنه لا يقبل.

و أما الشهادة فإن شهدت البينة ب إنشاء الحكم و بإشهاده إياهما على حكمه تعين القبول بلا خلاف محقق أجده فيه و إن أشعر به ما عن المختلف، بل عن غاية المراد عليه استقر فتاوى معظم الأصحاب، بل عن الإيضاح أنه اتفق عليه، و لعله لعموم ما دل(1)على وجوب قبول حكمه الذي هو من حكمهم (عليهم السلام) و لذا كان الراد عليه رادا عليهم، و ما دل على حجية البينة و لأن ذلك مما تمس الحاجة إليه، إذ احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعدة غالب، و تكليف شهود الأصل التنقل إلى تلك البلاد لو فرض حاكم فيها و أمكن تزكية الشهود فيها متعذر أو متعسر، فلا بد من وسيلة إلى استيفائها مع تباعد الغرماء، و لا وسيلة إلا رفع الأحكام إلى الحكام، و أتم ذلك احتياطا في الإنهاء ما حررناه من حضور الشاهدين إنشاء الحكم و إشهادهما عليه.

لا يقال: يمكن أن يتوصل إلى ذلك بالشهادة على شهود الأصل فلا تمس الحاجة إلى الإنفاذ المزبور الذي هو حكم بغير علم لأنا نقول: (11) أولا شهادة الفرع ليست عامة، و ثانيا قد لا يساعد شهود الفرع على التنقل و (12) أيضا لا يمكن فروع الفروع لأن الشهادة الثالثة لا تسمع (13) فضلا عما فوقها بخلاف الإنفاذ، فإنه يستمر باستمرار الأزمنة.

و ظاهر المسالك تفسير ذلك بأن «في الشهادة على الشهادة قصورا عن الشهادة على الحكم من حيث إنها مقصورة على المرتبة الثانية، فلا تسمع


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.

ج 40، ص: 307

الشهادة الثالثة على الشهادة، و المرتبة الثالثة من الشهادة على الشهادة بمنزلة المرتبة الثانية من الشهادة على الشهادة على الحكم، فتكون مسموعة، فإذا تعذر وصول شهود الأصل في المرتبة الأولى من الشهادة على الحكم حصل الغرض من الشهادة عليهما دون ما لو كانت الشهادة على شهادة الأصل، لأنها تنقص

عنها بمرتبة، فقد لا يحصل الغرض بدون المرتبة الثالثة التي هي ثانية في الشهادة على الحكم».

إلا أنه كما ترى فرض نادر، بل هو خلاف ظاهر العبارة، خصوصا بملاحظة عبارة الفاضل في القواعد الظاهرة في إرادة مؤداها.

و احتمال كون مراده أنه لو لم يشرع الإنفاذ لبطل إقامة الحجج بتطاول الأزمان- ضرورة توقف الحكم على شهود الأصل أو فروعهم، و الفرض أن الشهادة الثالثة لا تسمع، بخلاف ما لو قلنا بمشروعيته، فإنه يبقى حينئذ على تطاول المدد بتجديد إنفاده عند كل حاكم، و لعله إلى ذلك أشار في القواعد كما عساه يفهم من الأصبهاني في شرحه، حيث إنه بعد أن استدل بالحاجة قال: «و لخوف الاندراس، و الشهادة الثالثة غير مسموعة»- يستلزم التكرار فيما بعده، و هو قوله:

و لأنه لو لم يشرع إنهاء الأحكام إلى الحكام لينفذوها بطلت الحجج مع تطاول المدد التي يموت فيها الحاكم و شهود الأصل و فروعهم، و قد عرفت أن الشهادة الثالثة غير مسموعة إلا أن يفرض له تقريران، و الأمر سهل.

و لأن المنع من ذلك يؤدي إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى آخر، فان لم ينفذ الثاني ما حكم به الأول اتصلت المنازعة و فات الغرض من نصب الحكام.

و لأن الغريمين لو تصادفا أن حاكما حكم عليهما ألزمهما الحاكم

ج 40، ص: 308

الآخر ما حكم به الأول إجماعا على ما حكاه غير واحد فكذا لو قامت البينة، لأنها تثبت ما لو أقر به الغريم ألزم به.

و لا يخفى عليك أن هذه الأدلة الأربعة يظهر من بعضها أنها مساقة بثلاث الاكتفاء بالشهادة في إثبات حكم الحاكم، و من آخر أنه مساق لإثبات مشروعية حكم الحاكم الآخر بإنفاذ ما حكم به الأول، إلا أن الأولى الاستناد في إثبات الأول إلى عموم دليل حجية البينة و القضاء بها، و في الثاني إلى عموم حكم الحاكم و أن الراد عليه راد علينا، و أن حكمه حكمهم (عليهم السلام)(1)و ما ندري أن

النزاع في أي المقامين، لأن كلامهم مشوش، ضرورة ظهور بعضه في المفروغية من مشروعية إنفاذ الحكم الأول بعد فرض معلوميته و لو بالإقرار من الخصمين فضلا عما لو فرض حضور الحاكم الثاني عند إنشاء الأول له، كظهور آخر في المفروغية عن قابلية البينة لإثبات ذلك.

اللهم إلا أن يكون مستند الثاني ما في ذيل الخبرين(2)السابقين اللذين لا جابر لهما في خصوص ذلك، بل قد عرفت عدم معروفية المخالف و إن أرسله في المختلف عن جماعة، مع احتماله أو ظهوره في إرادة البينة على كون الكاتب من القاضي فينفذون ما فيه حينئذ، و هو غير المفروض.

نعم يتجه على الأصحاب أن الموافق لعموم حجية البينة و ما ذكروه من الأدلة عدم اعتبار حضورها مجلس الخصومة و سماعها شهادة الشاهدين و إنشاء الحكم من الحاكم و إشهادها على ذلك، إذ ليس هي حينئذ إلا كباقي البينات التي لا ريب في حجيتها في الإخبارات و الإنشاءات من دون


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 28- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 309

اعتبار شي ء من ذلك، و يمكن إرادة الأصحاب من ذلك الاستظهار و الاحتياط في المشهود به لا الشرطية، كما أومأ إليه المصنف بقوله:

«و أتم ذلك» إلى آخره.

بل في كشف اللثام التصريح بعدم اعتبار الاشهاد، و أنه ذكره الفاضل للاحتياط، كما أن في غيره التصريح بعدم اعتبار حضور المخاصمة و سماع شهادة الشاهدين، بل لعل ذلك أيضا ظاهر المحكي عن ابن حمزة و غيره ممن أطلق قبول البينة هنا على الحكم.

و من ذلك يظهر لك النظر في جملة من الكلمات، خصوصا ما أطنب به في الرياض من تأصيل أصل هنا مقطوع بالعمومات، و قد بنى عليه كثيرا من مسائل هذا الفصل، فلاحظ و تأمل، و ربما نشير إلى بعض ذلك فيما يأتي إنشاء الله.

و حاصله «أن قضاء التنفيذ قسم آخر من القضاء غير أصل القضاء بالواقعة بموازينها المقررة شرعا، و هي البينة و الأيمان، بخلاف الحكم بحكم الأول الذي

هو من القول بغير علم، بل لعله مناف لرأي الحاكم الآخر، و أقصى ذلك عدم جواز نقضه، لا تنفيذه بمعنى إنشاء حكم منه على المحكوم عليه أولا بحكم الأول حتى لو كان حاضر الإنشاء فضلا عن ثبوته بالكتاب أو الاخبار أو البينة إلا أنه خرج ما خرج بالإجماع، و يبقى غيره على الأصل».

و فيه أنه يمكن استفادة قضاء التنفيذ من أدلة أصل القضاء التي

منها «جعلته حاكما و حجة كما أنا حجة»(1)

و نحو ذلك مما يشمل القضاء التنفيذي أيضا.

و احتمال كون المراد من ذلك عدم نقضه لا إنشاء إلزام بإلزام الأول


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1 و 9. و هو نقل بالمعنى.

ج 40، ص: 310

من حيث إلزامه يدفعه ما سمعته من الأدلة الدالة على مشروعيته، مضافا إلى إطلاق كونه حاكما و حجة المقتضي لتناول ذلك لو صدر منه، فتأمل جيدا، فإن المسألة غامضة و لم أجد من نقحها كما ذكرنا. بل ستسمع كلام بعض أن الإنفاذ ليس حكما، بل هو إقرار الحكم، و التحقيق ما عرفت.

و حينئذ ينبغي لحاكم التنفيذ عدم الحكم حتى يطلبه منه من له الحكم بناء على اعتبار مثل ذلك في أصل الحكم، كما أنه ينبغي ملاحظة تسلسل حكام الإنفاذ و ما لذلك من الأحكام التي ستسمع بعضها في حاكم الأصل بالنسبة إلى عروض الجنون و الفسق و العزل و نحو ذلك، و الله العالم.

و كيف كان فقد أشار المصنف إلى دليل الخصم إن كان بقوله:

لا يقال فتوى الأصحاب أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض و لا العمل به و هو بإطلاقه شامل لمحل النزاع

و رواية طلحة بن زيد(1)و السكوني(2)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أن عليا (عليه السلام) كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض في حد و لا غيره حتى و ليت بنوا أمية فأجازوا بالبينات»

لأنا نجيب عن الأول بمنع دعوى الإجماع على خلاف موضع النزاع بل قد عرفت أن الخلاف في ذلك بيننا غير محقق، و منه حينئذ يعلم عدم إرادة هذا الفرد من الإطلاق المزبور الممكن دعوى انسياق غيره منه، بل لعله الظاهر منه، و ذلك لأن المنع من العمل بكتاب قاض إلى قاض ليس منعا من العمل بحكم الحاكم مع ثبوته بالبينة على الوجه المفروض، ضرورة كون المراد من العمل بالكتاب من حيث كونه كتابا و نحن نقول بذلك ف انك قد عرفت أنه لا عبرة عندنا بالكتاب مختوما كان أو مفتوحا خلافا لبعض العامة.

و ربما يؤيد ذلك أنه إلى جواز ما ذكرناه أومأ


1- 1 الوسائل الباب- 28- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 28- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 311

غير واحد منهم الشيخ أبو جعفر (رحمه الله) في الخلاف مصرحا بالقبول في الفرض المزبور مع التصريح بعدم جواز العمل بكتابة قاض إلى قاض، و ما ذاك إلا لأنه ليس منه، كما هو واضح.

و نجيب عن الرواية بالطعن في السند، فإن طلحة بتري و هم فرقة من الزيدية، و عن الفهرست و النجاشي أنه عامي و أما السكوني فهو مشهور الحال و أنه عامي و لا جابر لهما في خصوص المفروض، بل الموهن محقق، و شهرة مضمونها في غير المفروض لا يقتضي جبرها فيه.

و مع تسليمها نقول بموجبها، فانا لا نعمل بالكتاب من حيث إنه كتاب أصلا و لو شهد به أنه كتاب القاضي شاهدان فصاعدا، و هو المراد من

قوله (عليه السلام) في ذيله: «فأجازوا بالبينات»

حتى يوافق صدره الذي منعه علي (عليه السلام) لا أن المراد عدم جواز العمل بالبينة على الحكم الموافقة لما في الكتاب، فإنه لم يحك عن علي (عليه السلام) منعه.

و حينئذ كان الكتاب من حيث كونه كتابا ملغى (11) عندنا، و إنما عملنا بشهادة العدلين على حصول إنشاء الحكم و إن كتبه القاضي في كتابه، بل قد يقال فيما ذكرناه نحن أيضا من العمل بالكتاب على الوجه المزبور: ليس عملا به من حيث كونه كتابا، بل هو في الحقيقة عمل بالمعلوم من قصده إرادة ما دل على رسمها

مما هو معلوم بالسيرة القطعية أن له حكم القول في ذلك، و أنه بمنزلة إخباره الذي ستعرف البحث فيه.

هذا و في المسالك «أنه أجاب في المختلف عن ضعف الروايتين بأنهما من المشاهير، فلا يضر هذا الطعن في الراوي، و هو يرجع إلى

ج 40، ص: 312

جبر الشهرة للضعف، و قد تكلمنا عليه غير مرة، و احتج على المنع أيضا بالإجماع على الحكم بالبينة و اليمين، و ليس هذا أحدهما، و جوابه أن هذا ليس حكما، و إنما هو إقرار للحكم على حاله، و هو معنى إنفاذه و على تقدير تسليمه فهو حكم بالبينة أيضا، فلا ينافي الإجماع المدعى، و لو سلم عدم كونه حكما بها منعنا الإجماع المذكور، فان القول بجواز إنفاذ الحكم على هذا الوجه مذهب أكثر علماء الإسلام، و منهم جملة الأصحاب سيما المتأخرين».

قلت: فيما حضرني من المختلف ذكر ذلك في مقام الرد على ابن الجنيد القائل بجواز العمل بالكتابة، لا فيما نحن فيه، فيمكن أن يكون قدسها نظره الشريف عن ذلك، فظن فيما نحن فيه، و إلا فهو موافق لجواز الحكم بالبينة على الوجه المزبور، فتدبر.

و على كل حال إذا عرفت هذا ف اعلم أن العمل بذلك مقصور على حقوق الناس دون الحدود و غيرها من حقوق الله تعالى بلا خلاف أجده فيه، بل حكى الإجماع عليه غير واحد، بل قد يشهد له التتبع، و هو حجة لا ما ذكروه من درء الحدود بالشبهات التي لا محل لها بعد قيام البينات.

اللهم إلا أن يقال: إن الشبهة حاصلة للحاكم الآخر حتى لو سمع إنشاء حكمه فضلا عن الشهادة به، فلا يشرع قضاء التنفيذ في الحد، للشبهة التي يسقط بها الحد المبني على التخفيف، و لكن إن لم يكن إجماع فللنظر فيه مجال، و عليه فالظاهر عدم مشروعية خصوص قضاء التنفيذ، أما التنفيذ من باب الأمر بالمعروف و وجوب طاعة الحاكم و أنه حجة الله على الناس فالظاهر ثبوته، بل للحاكم الآخر استيفاء الحد بأمر الحاكم الأول كغيره ممن يأمره، كما أن له جميع مراتب الأمر بالمعروف، فمن

ج 40، ص: 313

حكم عليه حاكم آخر بالحد فله حبسه مع امتناعه ليتمكن الحاكم عليه بالحد منه و نحو ذلك، فتأمل جيدا فإن المسألة غير محررة.

و على كل حال ف ما ينتهي إلى الحاكم أمران: أحدهما حكم وقع بين المتخاصمين، و الثاني حكم وقع منه بعد إثبات دعوى مدع على الغائب، أما الأول فإن حضر شاهدا الإنهاء خصومة الخصمين و سمعا ما حكم به الحاكم و أشهدهما على حكمه ثم شهدا بالحكم عند الآخر ثبت بشهادتهما حكم ذلك الحاكم و أنفذ ما ثبت عنده كما عرفت التفصيل في ذلك، و أن التحقيق عدم اشتراط حضورهما مجلس الخصومة و سماعهما شهادة الشهود إن كانوا، بل و لا إشهاده و يكفي فيهما حضور إنشاء حكومة الحاكم على وجه علما ذلك منه نحو باقي أفراد الإنشاء، و حينئذ ينفذه الحاكم الآخر بل الحاكم نفسه لو فرض نسيانه لا أنه يحكم بصحة الحكم في نفس الأمر كما صرح به في القواعد و غيرها إذ لا علم له به و ربما كان مبناه مخالفا لرأيه.

بل الفائدة فيه قطع خصومة المختصمين لو عاودا المنازعة في تلك الواقعة و إن كان قد يتوهم أن له الحكم بثبوت الحق على نحو ما يحكم به بالبينة، لأنه أحد الطرق المثبتة للحق ما لم يعلم خطأه، بل أدلته بالنسبة إلى ذلك أقوى من أدلة البينة، فله الحكم به بعد ثبوته عنده، بل يمكن إرادة هذا المعنى من الإنفاذ المزبور، و ذلك لأن الفرض وقوع الفصل في الخصومة من الحاكم الآخر، فلا يتصور لها فصل آخر على نحو الفصل الأول، فليس حينئذ إلا الحكم بمعنى إنفاذ الحكم الأول على الوجه المزبور و إلا فالفائدة المزبورة موجودة في الحكم الأول أيضا.

إلا أن ذلك كله كما ترى، ضرورة كون الحكم من الحاكم مجرد إلزام للخصم بالحق و فصل بينهما، لا أنه هو دليل الحق كما أوضحنا ذلك

ج 40، ص: 314

سابقا، فالانفاذ حينئذ ليس إلا إلزام من الحاكم الثاني بما ألزمه به الحاكم الأول من حيث كونه حكم حاكم يجب طاعته و لا يجوز نقضه، و قد تقدم بعض الكلام فيما له تعلق في المقام في المسألة الثالثة بعد ذكر الآداب فلاحظ و تأمل.

هذا كله مع حضور شاهدي الإنهاء إنشاء الحكم من الأول ف ان لم يحضرا الخصومة فحكى لهما الواقعة و صورة الحكم و سمى المتحاكمين بأسمائهما و آبائهما و صفاتهما و أشهدهما على الحكم ففيه تردد فضلا عن أدنى ذلك من الصور من أن إخباره بذلك بمنزلة شاهد واحد على صدور إنشاء الحكم، و ليس هو إقرارا، لأنه في حق الغير، و من إطلاق ما دل على كونه حاكما(1)و النهي عن الرد عليه(2)و أنه حجة(3)في ذلك إخبارا و إنشاء.

و لكن القبول أولى وفاقا للأكثر، بل لم أجد فيه خلافا سوى ما يحكى عن الشيخ في الخلاف، بل قيل: إن ظاهره دعوى الإجماع عليه، إلا أني لم أجد من وافقه عليه سوى بعض متأخري المتأخرين، بناء منهم على أن الأصل يقتضي عدم جواز الإنفاذ في غير صورة القطع، لأنه قول بغير علم، خرج ما خرج و بقي ما بقي.

و دعوى أولوية الفرض مما قام على إنشائه شاهدان عدلان ممنوعة، إذ ليس الحاكم إلا عدل واحد. و فيه أن مشاهدتهما لإنشاء حكمه إنما هو من حيث قرائن الأحوال على ذلك، و ليست هي أولى من إخباره به، على أنه شي ء لا يعلم إلا من قبله، فيكون مصدقا فيه و إن تعلق به حق الغير.

بل لا يبعد استفادة حجية إخباره به مما دل على حجية إنشائه، بل هو مقتضى

قوله (عليه السلام): «هو حجتي عليكم»(4)

و ان


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 9.
4- 4 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 9.

ج 40، ص: 315

الراد عليه راد علينا(1)بل قد يقال: إن كل من جعل حجة في شي ء كان إخباره به مصدقا فيه تعلق بالغير أو لا.

و لعله إلى ذلك أشار المصنف بقوله لأن حكمه كما كان ماضيا كان إخباره ماضيا و بذلك ينقطع الأصل المزبور، هذا كله مع فرض إرادته الاخبار بذلك، أما إذا حكي حال الخصومة و قصد الإنشاء فعلا للإشهاد بناء على صحة ذلك منه فلا ينبغي التوقف فيه، إذ تلك المقدمات يكفي فيها إخباره، لأن احتمال اعتبار التعدد فيها لأنها من مواضع الشهادة يمكن منعه.

و أما الثاني و هو إثبات دعوى المدعي على غائب ف الكلام فيها كالسابقة إلا أن الفرق بينهما حضور الخصمين في الأول دون الثاني، و حينئذ إذا أردت تصويره كالأول الذي قد عرفت الحال في اعتبار ما ذكر شرطا فيه قلت إن حضر الشاهدان الدعوى و إقامة الشهادة و الحكم بما شهد به الشاهدان مثلا و أشهدهما على نفسه بالحكم و شهدا بذلك عند الآخر قبلهما و أنفذ الحكم على حسب حاله الذي لا يمنع كون الغائب على حجته.

و إن أردت تصوير صورة الاخبار قلت و لو لم يحضرا الواقعة و أشهدهما بما صورته أن فلان بن فلان الفلاني ادعى على فلان بن فلان الفلاني كذا و شهد له بدعواه فلان و فلان و يذكر عدالتهما أو تزكيتهما فحكمت و أمضيت ففي الحكم به تردد على نحو ما عرفته في المسألة السابقة مع أن القبول أرجح خصوصا مع إحضار الكتاب المتضمن للدعوى و شهادة الشهود لتأكد أخباره بذلك، و قد عرفت أن الأقوى قبول إخباره بحكمه للمدعي على فلان الغائب أو الحاضر في كذا من دون ذكر شي ء


1- 1 الوسائل الباب- 11- من أبواب صفات القاضي- الحديث 1.

ج 40، ص: 316

من ذلك، و كذا الكلام في الشهادة على إنشاء الحكم من دون هذه الأمور، لعموم الأدلة و إطلاقها كما عرفت. نعم ينبغي ضبط أسماء الشهود ليتمكن الخصم من الجرح و نحوه، و كذا غير ذلك مما له مدخلية في بقاء الخصم على حجته، هذا كله في الحكم.

أما لو أخبر الحاكم الأول مثلا حاكما آخر بأنه ثبت عنده كذا لم يحكم به الثاني لأن الثبوت ليس حكما كي يندرج في أدلة الإنفاذ و ليس كذلك لو قال: حكمت ف انه يندرج في أدلة الإنفاذ كما عرفت إلا أن في ثبوت حكم ه باخباره ترددا قد عرفت الكلام فيه و أن القبول أرجح.

هذا و لكن في المسالك ما يظهر منه أن وجه التردد غير ذلك قال:

«قد ظهر من الأدلة المجوزة لقبول إنفاذ الحكم أن موردها الضرورة إلى ذلك في البلاد المتباعدة عن الحاكم الأول، فذهب بعض الأصحاب إلى اختصاص الحكم بما إذا كان بين الحاكمين وساطة، و هم الشهود على حكم الأول، فلو كان الحاكمان مجتمعين و أشهد أحدهما الآخر على ذلك لم يصح إنفاذه، لأن هذا ليس من محل الضرورة المسوغة للإنفاذ المخالف للأصل».

و فيه أن ذلك ليس قولا لأحد من أصحابنا، و لم نعرف أحدا حكاه غيره، و الضرورة المذكورة في الدليل إنما هي حكمة أصل المشروعية للإنفاذ، لا أنها علته، على أنها قد تتحقق فيه لقطع الخصومة مع عدم التباعد.

و حينئذ فلا إشكال في إنفاذه له مع فرض حضوره الإنشاء، ضرورة كونه أقوى من إثباته له بالبينة، كما أنه لا إشكال في إنفاذه له باخباره بناء على ثبوته بذلك، إذ هو أقوى من ثبوت إخباره بالبينة قطعا.

و حينئذ فالتردد في أصل ثبوت الإنشاء باخباره، و هو الذي قد ذكر

ج 40، ص: 317

المصنف في صدر المبحث و حكى عن الشيخ في الخلاف المنع، و الوجه ثبوته به، سواء شافعه الحاكم الثاني به أو ثبت بالبينة أخباره بذلك، لظهور الأدلة في قبوله مخبرا و منشئا.

و على كل حال فالفرق بين الثبوت و الحكم واضح، ضرورة عدم جواز الحكم من حاكم بالثبوت عند غيره، و ليس هو حكما حتى يجب عليه إنفاذه، كما هو واضح، و الله العالم.

و كيف كان ف صورة الإنهاء بالبينة و إن كان قد عرفت عدم اعتبار جملة من ذلك فيها أن يقص الشاهدان ما شاهداه من الواقعة و ما سمعاه من لفظ الحاكم و يقولا: و أشهدنا على نفسه أنه حكم بذلك و أمضاه، و لو أحالا على الكتاب بعد قراءته عليهما فقالا:

أشهدنا الحاكم أنه حكم بذلك جاز لأنها شهادة على أمر مفصل معلوم بالقراءة عليهما. و بالجملة فالأمر في هذه الشهادة كغيرها من الشهادات و من هنا كان لا بد فيها من ضبط الشي ء المشهود به بما يرفع الجهالة عنه.

و حينئذ ف لو اشتبه على الثاني لعدم ضبط الشهود له بما ترفع الجهالة عنه أوقف الحكم حتى يوضحه المدعي بطريق شرعي كشهادة غير الأولين على تفصيله أو تذكرهما أو نحو ذلك، كما هو واضح.

و لو تغير حال الحاكم الأول (11) بعد حكمه بموت أو عزل لم يقدح ذلك في العمل بحكمه (12) بلا خلاف أجده فيه للأصل و (13) إطلاق الأدلة ف ان تغير بفسق لم يعمل بحكمه (14) كما في القواعد و الإرشاد و الدروس و المسالك و غيرها، بل في الأخير «فرقوا بينه و بين الموت بأن ظهور الفسق يشعر بالخبث و قيام الفسق يوم الحكم»

ج 40، ص: 318

و ظاهره النسبة إليهم، إلا أنه لا يخفى عليك ضعف الفرق المزبور، و لذا نظر فيه في المسالك بعد حكايته، ثم حكى عن بعض العامة جواز إنفاذه كالموت، قال: «و أما الإنفاذ السابق على ظهور الفسق فيقر عليه كأصل الحكم».

و إليه أشار المصنف بقوله و يقر ما سبق إنفاذه على زمان فسقه و كذا الفاضل في القواعد و الإرشاد، و يرجع حاصله- بناء على أن المراد العمل بأصل الحكم لا خصوص إنفاذه، كما عساه يظهر من المتن بل و المسالك و غيرها- إلى أن الحكم قبل الفسق إن أنفذه حاكم آخر قبل الفسق عمل به و إلا فلا، إلا أنه لا نعرف له دليلا يقطع العذر، و إن كان قد يقال: إنه مع حكم الآخر بإنفاذه يكون العمل في الحقيقة بحكم الثاني، فلا يقدح فسق الأول بخلاف الفسق قبل الإنفاذ، كما أنه قد يقال: إن مراد الأصحاب اشتراط حكم الثاني بإنفاذه ببقاء الأول على وصف العدالة لا بطلان حكم الأول بتجدد الفسق على وجه تعود الدعوى كما كانت قبل الحكم، ضرورة منافاة ذلك لجميع الأدلة، بخلاف ما ذكرناه، فإنه قد يكون وجهه أصالة عدم نفوذ الحكم بالإنفاذ، بل هو حينئذ كفسق الشاهد بعد الشهادة قبل الحكم، و حينئذ يكون الفسق مانعا من الحكم بإنفاذه بخلاف الموت المقتضي لخروج الموضوع عن قابليته، فلا إسناد للحكم إليه، أما الفسق فهو حكم فاسق فعلا.

و على كل حال فالمراد الحكم بإنفاذه و عدمه، لا أصل العمل بحكمه في خصوص ما حكم به، و إلا لاقتضى ذلك بطلان ما وقع من العمل بفتاواه الذي هو أولى بذلك من الحكم، و هو معلوم البطلان.

و لكن الإنصاف أنه خلاف ظاهر العبارات، بل لا وجه له أيضا، ضرورة التلازم بين صحته في نفسه و بين إنفاذه، فلا معنى لكونه

ج 40، ص: 319

صحيحا يجب إنفاذه بمقتضى الأمر بالمعروف و لكن لا يجوز الحكم بإنفاذه، فلا محيص عن القول بكون المراد بطلان العمل به على معنى عود الدعوى كما كانت قبله، كما لا بعد في التزام ذلك في الفتوى أيضا، على معنى عدم جواز العمل بها في الزمان المتأخر عن الفسق، أما ما مضى فلا ينقض العمل الواقع بها.

بل لعل الأمر في الحكم كذلك أيضا، على معنى أنه إن عمل به بعد صدوره و أخذ الحق ممن عليه و دفع لمستحقه و تمت آثاره لم ينقض لوقوع الفسق بعده، و هو المراد من إقرار ما سبق إنفاذه على زمان فسقه بل لا موضوع لعدم العمل به، بخلاف ما إذا لم يعمل به بعد، بأن صدر من الحاكم ثم لم ينفذ بعد بالمعنى الذي سمعت ففسق، فإنه لا يجوز إنفاذه فيه و لا في غيره، من غير فرق بين القضاء بالنفوذ و بين ترتب الآثار عليه.

و يمكن استفادة بعض ما ذكرناه من

خبر الحسين بن روح المروي عن كتاب الغيبة للشيخ عن أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام)(1)«أنه سئل عن كتب بني فضال، فقال: خذوا بما رووا و ذروا ما رأوا»

بناء على إرادة الفتوى من الرأي فيه لا الوقف.

بل منه يستفاد أن الفتوى المعمول بها يبطل العمل بها من حين الفسق و ما تأخر عنه في الزمان المستقبل فيما تجدد من أفرادها من الصلاة و نحوها، دون ما تقدمها من ذلك المبني على أصل الصحة و البراءة و غيرهما من قاعدة الاجزاء و نحوها، بل ليس هو مصداقا لقوله (عليه السلام): «ذروا».

و لو فسق قاضي التنفيذ قبل العمل لم يعمل على حكمه، و بقي الحكم الأول كما إذا لم يحكم بإنفاذه.


1- 1 الوسائل الباب- 8- من أبواب صفات القاضي الحديث 79.

ج 40، ص: 320

و بذلك كله ظهر لك المراد من عدم العمل بالحكم بعد الفسق قبل النفوذ، و من إقراره مع سبق نفوذه على الفسق، بل ظهر لك ذلك في الفتوى.

بل قد يشكل أصل العمل بالحكم من الحاكم الذي حكم حاكم آخر بإنفاذه مع الفسق من الأول بعد الإنفاذ بأن مقتضاه بطلان الحكم الأول بالفسق المتأخر عنه، و تبعية بطلان التنفيذ الذي هو تابع لصحة الأول.

اللهم إلا أن يقال بعدم تأثير الفسق في الأول مع سبق الحكم بالإنفاذ، ضرورة اقتضاء الفسق البطلان من حينه لا من الأصل، و لا وجه له بعد الحكم بصحته من الحاكم الذي لم يصدر ما يقتضي بطلان حكمه، فيبقى على أصل الصحة المقتضي للعمل بالحكم الأول، هذا كله في الفسق.

أما غيره من العوارض كالجنون و الموت و نحوهما فالأصل يقتضي بقاء حكمه على الصحة المقتضي لتنفيذه بالمعنيين، بل قد يستفاد من ذلك حكم فتواه أيضا الذي قلد ببعض أفرادها، ضرورة تضمن الحكم للفتوى المفروض عدم انتقاضها أيضا بذلك و لو للأصل المزبور الذي لم يدل دليل على اشتراط أضدادها حين العمل بما يتجدد من أفراد الفتوى السابقة التي فرض التقليد فيها، نعم الظاهر الإجماع على عدم جواز العمل ابتداء بفتاوى الأموات، أما غير ذلك فلم يثبت.

بل يتجه حينئذ جواز العمل بفتوى من عرض له الجنون مثلا ابتداء مع عدم الإجماع فضلا عن الاستدامة، ضرورة كون المستفاد من الأدلة اعتبار هذه الشرائط في حصول الفتوى، بمعنى صدورها حال كونه عاقلا مثلا، لا أنه يعتبر حال العمل بها كونه كذلك، بل لعل ملكة الاجتهاد كذلك أيضا على إشكال، و لكن الاحتياط طريق النجاة.

و بذلك يظهر لك النظر في كلام الكركي في كتاب الأمر بالمعروف

ج 40، ص: 321

بل و غيره من الأصحاب، فلاحظ و تأمل، فإن المسألة غير محررة.

و الأصل فيه أن مقتضى الإطلاق عدم شرطية غير ما علم اشتراطه بعد عدم إطلاق في دليل الشرطية يقتضي أزيد من ذلك، ضرورة كون المسلم العلم بمدخلية العقل و نحوه في الجملة، فمن اللازم الاقتصار على المتيقن و بقاء غيره على مقتضى الإطلاق، و الله العالم.

و كيف كان ف لا أثر لتغير حال المكتوب إليه في الكتاب بموت أو عزل أو فسق أو غيره بل كل من قامت عنده البينة من الحكام بأن الأول حكم به و أشهدهم على ذلك عمل بها لعموم دليل حجيتها المقتضي حينئذ كون حكمه بذلك كالمعلوم، فيجب الحكم بإنفاذه إذ اللازم لكل حاكم إنفاذ ما حكم به غيره من الحكام لأن حكمه حكمهم (عليهم السلام) سواء كتب إليه أم لا، نعم ليس لمن اتفق عزله عن نصب الحكومة الحكم بالإنفاذ سواء كان خليفة الأول أو غيره.

و تصح الكتابة عندنا لواحد بخصوصه في الإنفاذ و لمطلق الحكام و إن كان لا يختص الحكم به في المكتوب إليه خلافا لبعض العامة، فلم يجوز الكتابة إلى غير المعين، و هو واضح الضعف، كوضوحه في كثير مما ذكروه في كتبهم من هذه المسائل و غيرها مما هو غير منطبق على أصولنا، لأن مبناه على قياس أو استحسان.

ج 40، ص: 322

[مسائل ثلاث]
اشاره

مسائل ثلاث:

[المسألة الأولى إذا أقر المحكوم عليه أنه هو المشهود عليه ألزمه الحاكم بأداء ما عليه]

الأولى:

إذا أقر المدعى عليه بأنه المحكوم عليه و أنه هو المشهود عليه ألزم ه الحاكم بأداء ما عليه بلا خلاف و لا إشكال.

و لو أنكر و لم تكن شهادة الشهود على عينه بل كانت الشهادة بوصف يحتمل الاتفاق فيه مع غيره غالبا ف لا ريب في أن القول قوله مع يمينه ما لم يقم المدعي بينة بل عن بعضهم بطلان أصل الحكم على عنوان مشترك بين متعددين كمحمد بن أحمد و نحوه، لأن المحكوم عليه منهم لم يتعين بإشارة و لا وصف، حتى لو حضر رجل و اعترف بأنه محمد بن احمد المعني بالكتاب لم يلزم ذلك، لبطلان الحكم في نفسه، إلا أن يقر بالحق فيؤاخذ به، بخلاف ما لو استقصى الوصف و لم يقصر و ظهر الاشتراك و اتفق اشتباهه، و لعله لا يخلو من وجه، لقصور أدلة الحكم على الغائب عن مثل الفرض و إن كان ظاهر المصنف الإلزام، بل هو صريح المسالك، و الدروس.

قال في الأخير: «لو اقتصر القاضي على صفة مشتركة غالبا كأحمد بن محمد و أقر واحد أنه المعني بالحكم ألزم، و قيل لا، لأنه قضاء مبهم، فيبطل من أصله، و هو بعيد».

و في القواعد «و لو قصر القاضي فكتب اسم المقر أو المشهود عليه و اسم أبيه خاصة فأقر رجل أنه يسمى باسمه و أن أباه يسمى باسم أبيه و أنه المعني بالكتاب و لكن أنكر الحق فالوجه أنه يلزم بالحق على إشكال ينشأ من أن القضاء المبهم في نفسه غير ملزم» و هو صريح فيما قلناه و إن

ج 40، ص: 323

توقف في الفرض من حيث احتمال كون الإبهام في الكتابة لا في عنوان الحكم.

و في التحرير «و لو قصر القاضي فكتب اني حكمت على جعفر بن محمد فالحكم باطل حتى لو أقر رجل بأنه جعفر بن محمد و أنه المقصود بالكتاب و لكن أنكر الحق لم يلزمه شي ء بالقضاء المبهم» بل أرسل في غاية المراد بطلان الحكم إرسال المسلمات و إن كان الانصاف عدم خلوه من البحث إن لم يكن إجماعا.

و كيف كان فان نكل حلف المدعي و توجه عليه الحكم، و إن قال:

لا أحلف أنه ليس اسمي و لا نسبي و لكن أحلف على أنه لا يلزمني شي ء ففي إجابته وجهان، أصحهما في المسالك و غيرها عدمه، لقيام البينة على المسمى بهذا الاسم، و ذلك يوجه الحق عليه.

و فيه أن قيامها عليه بعد فرض الاشتراك لا يوجه الحق عليه، فالأولى تعليله بأن المدعى عليه كونه المحكوم عليه بكذا، فلا يكفي الحلف على ذلك، اللهم إلا أن يصرح بإرادة الإلزام و لو من الحاكم، و حينئذ فيتجه انطباق اليمين على المدعي، و بذلك يفرق بين المقام و ما تقدم سابقا من الاكتفاء باليمين على براءة الذمة في جواب دعوى القرض مثلا، هذا كله مع اشتراك الوصف.

و أما إن كان الوصف مما يتعذر اتفاقه إلا نادرا لم يلتفت إلى إنكاره الحكم عليه بعد اعترافه بأنه المسمى بذلك الاسم و بالوصف أو قيام البينة عليه بذلك بلا خلاف أجده بين من تعرض لأنه خلاف الظاهر و هو كذلك مع فرض كون الاحتمال لا يقدح في الاطمئنان الذي هو علم في العادة، أما غيره فمشكل، لأن أقصاه الظن، و لا دليل على اعتباره هنا بحيث يقطع قاعدة المدعي و المنكر.

و لو ادعى أن في البلد مساويا له في الاسم و النسبة كلف إبانته

ج 40، ص: 324

فإن كان المساوي حيا سئل، فإن اعترف أنه الغريم ألزم و أطلق الأول، و إن أنكر وقف الحكم حتى يتبين كذا ذكره غير واحد، لكن قد يشكل الأول بعد فرض كون المدعي خص الأول في الدعوى، فان اعتراف الثاني لا يقتضي سقوط دعواه، بل لا يجوز له الدعوى على الثاني و أخذ الحق منه، و لكن مع فرض الاشتراك يتوجه له اليمين عليه على قاعدة المدعى و المنكر.

و منه يعلم الإشكال في الثاني الذي ذكر فيه وقوف الحكم، نعم مع فرض عدم دعوى من المدعي على خصوص الأول و إنما دعواه على حسب عنوان المكتوب المفروض اشتراكه قد يتم ذلك على إشكال في وقوف الدعوى، لاحتمال توجه اليمين له على كل منهما بناء على صحة الدعوى بمثل ذلك من الوارث و نحوه، و لا يكون فيها يمين رد، هذا كله مع كونه حيا.

و أما إن كان المساوي ميتا و هناك دلالة تشهد بالبراءة إما لأن الغريم لم يعاصره أو لأن تأريخ الحق متأخر عن موته أو غير ذلك ألزم الأول و إن لم يكن دلالة تشهد على ذلك، بل احتمل كون الحق عليه وقف الحكم حتى يتبين و فيه البحث السابق.

[المسألة الثانية للمشهود عليه أن يمتنع من التسليم]

المسألة الثانية قد تقدم البحث في أن للمشهود عليه في عين أو دين أن يمتنع من التسليم للمالك أو وكيله حتى يشهد القابض له على ذلك، لقاعدة لا ضرر و لا ضرار، و في ضمانه للعين حينئذ في زمان الامتناع وجهان.

ج 40، ص: 325

و لو لم يكن بالحق شاهد قيل: لا يلزم بالإشهاد لتمكنه حينئذ من إنكار الأصل لو نازعه و لو قيل: يلزم كان حسنا حسما لمادة المنازعة أو كراهة لتوجه اليمين و قد تقدم الكلام في ذلك مفصلا في باب الوكالة، فلاحظ و تأمل.

[المسألة الثالثة لا يجب على المدعى دفع الحجة مع الوفاء]

المسألة الثالثة:

لا يجب على المدعى دفع الحجة مع الوفاء لأنها ملكه و الناس مسلطون على أموالهم و لأنها حجة له لو خرج المقبوض مستحقا مثلا.

و كذا القول في البائع مثلا إذا التمس المشتري كتاب الأصل لأنه ملكه و لأنه حجة له على البائع الأول لو خرج المبيع مستحقا مثلا و الله العالم.

[الفصل الثاني في لواحق من أحكام القسمة]
اشاره

الفصل الثاني في لواحق من أحكام القسمة التي لا ريب في شرعيتها كتابا بقوله تعالى(1)«وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ» و «نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ»(2)و سنة، فقد

روي(3)«أن


1- 1 سورة النساء: 4- الآية 8.
2- 2 سورة القمر: 54- الآية 28.
3- 3 روى ذلك الشيخ في المبسوط ج 8 ص 133.

ج 40، ص: 326

عبد الله بن يحيى كان قساما لأمير المؤمنين (عليه السلام)

و

قد قسم رسول الله (صلى الله عليه و آله) خيبر على ثمانية عشر سهما(1)»

و قال (صلى الله عليه و آله): «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود و عرفت الطرق فلا شفعة»(2)

و غير ذلك من النصوص، و إجماعا بقسميه، بل ضرورة و قد تقدم الكلام في حقيقتها، و أنها ليست بيعا عندنا و إن اشتملت على رد، بل و في جملة من أحكامها في كتاب الشركة(3).

و حينئذ ف النظر هنا في القاسم و المقسوم و الكيفية و اللواحق:

[النظر الأول فيستحب للإمام عليه السلام أن ينصب قاسما]

أما الأول ف لا ريب في أنه يستحب للإمام (عليه السلام) أن ينصب قاسما لأنها حينئذ من المصالح العامة التي ينبغي للإمام القيام بها، بل في القواعد عليه الإجماع، إلا أن الظاهر إرادته الاستحباب المذكور كما عبر به في تحريره و إرشاده أو في بعض الوجوه المتوقف قطع النزاع عليه، و قد كان لعلي (عليه السلام) قاسم اسمه عبد الله ابن يحيى(4)و الظاهر كما قيل الحضرمي الذي هو من شرطة الخميس المبشر من أمير المؤمنين (عليه السلام) بالجنة(5).


1- 1 سنن البيهقي- ج 10 ص 132.
2- 2 سنن البيهقي- ج 6 ص 102.
3- 3 راجع ج 26 ص 309.
4- 4 روى ذلك الشيخ في المبسوط ج 8 ص 133.
5- 5 رجال البرقي ص 3 ط إيران عام 1342 ه ش.

ج 40، ص: 327

و كيف كان فلا خلاف في أنه يشترط فيه البلوغ و كما العقل لعدم قابلية الفاقد لهما بعد كونه كالبهائم لذلك، بل و الايمان بالمعنى الأخص فضلا عنه بالمعنى الأعم بل و العدالة لعدم قابلية فاقدها فضلا عن فاقده لنصب الامام له و جعله أمينا له في قسمة الإجبار و غيرها على وجه تمضي قسمته كما تمضي حكومة الحاكم، بل هي قسم من الحكومة. و من هنا اشترط أيضا فيه المعرفة بالحساب و نحوه مما تحتاج إليه القسمة غالبا على نحو اشتراط ما يحتاج إليه القاضي في القضاء.

نعم قد يتوقف في أصل استفادة كون ذلك من المناصب مما وصل إلينا من الأدلة، إذ ليس إلا ما سمعته من أنه كان لعلي (عليه السلام) قاسم(1)و هو أعم من ذلك، لاحتمال إعداده لإيقاع هذا الفعل لو احتيج إليه، لا لأنه منصب و ولاية كمنصب القضاء و الامارة، بل لعله كالكتابة و الوزن و نحوهما، اللهم إلا أن يكون إجماع كما هو ظاهر إرسالهم له إرسال المسلمات، فيكون حينئذ هو الحجة فيه و في اشتراط الشرائط المزبورة.

و كيف كان ف لا يشترط فيه الحرية عندنا، بل يجوز أن يكون عبدا إذا استجمع الشرائط و أذن المولى، خلافا لبعض العامة، كما لا يشترط في صحة القسمة حضوره بلا خلاف و لا إشكال، ف لو تراضى الخصمان (11) مثلا بقاسم (12) غير قاسم الامام جاز قطعا.

بل لم يشترط (13) فيه العدالة (14) لأنه وكيل عنهما، بل و لا الإسلام، كما أشار إليه المصنف بقوله و في التراضي بقسمة الكافر


1- 1 راجع التعليقة 4 ص 326.

ج 40، ص: 328

نظر من جهة كونه نوع ركون أو سبيل أو ولاية، و لكن أقربه الجواز كما في غيره من أفراد التوكيل الذي لا إشكال في صحته من المسلم في مثل ذلك.

و حينئذ فيختص باعتبار التكليف خاصة من بين الشرائط المزبورة كما صرح به غير واحد، و هو كذلك إذا أريد توكيله منهما على تولي القسمة بينهما، أما إذا رضيا بتعديله و إقراعه من دون توكيل له فقد يشكل اعتبار البلوغ فيه أيضا، لصدق القسمة بينهما برضاهما بالقرعة التي هي في الحقيقة المميزة لحق كل منهما عن الآخر و التعديل و نحوه من المعدات التي لا تفاوت فيها بين وقوعها من مكلف و غيره، و يمكن أن لا يريد الأصحاب هذا الفرد، فلا ينافيه إطلاقهم اشتراط التكليف.

أو يقال: إنه شرط فيها مطلقا، لأنها من المعاملات التي يشترط فيها ذلك، و لذا يتبعها حكم الصحة و الفساد و غيرهما من أحكام المعاملة فالقسمة حينئذ من حيث إنها قسمة يعتبر في مباشرها البلوغ، و الرضا من الشركاء في مباشرة غير البالغ مثلا لا يجدي كالرضا ببيعه مثلا، إذ هي بناء على ما سمعت قسم من أقسام الإنشاء الذي رتب الشارع عليه أحكاما، فتأمل.

و على كل حال فلا ريب في عدم اشتراط القاسم في صحة القسمة بل لو تراضيا بأنفسهما من غير قاسم جاز بلا خلاف و لا إشكال لإطلاق الأدلة و عمومها.

و كيف كان ف المنصوب من قبل الامام (عليه السلام) أو نائب الغيبة بناء على أن له ذلك أيضا كالإمام (عليه السلام) تمضي قسمته بنفس القرعة، و لا يشترط رضاهما بعده بلا خلاف و لا إشكال، كما لا يعتبر رضاهما بعد حكمه و في غيره

ج 40، ص: 329

و لو أنفسهما أو من نصباه و كان بصفات قاسم الامام يقف اللزوم على الرضا بعد القرعة في محكي المبسوط و التحرير و غاية المرام و الرياض اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن بعد أن لم يكن إطلاق يقتضي ترتب الأثر، و في خصوص المشتملة على الرد منها في محكي الإيضاح و الدروس، لأنها حينئذ معاوضة، فلا بد فيها من التراضي قبلها و معها و بعدها، بل ظاهر التنقيح و محكي الإيضاح خروج هذا الفرد من النزاع، حيث إنهما بعد أن ذكرا الخلاف السابق و الوجه فيه قالا: «هذا كله فيما لا يشتمل على الرد، أما المشتمل عليه فلا بد فيه من الرضا قبل و بعد، و صورة الرضا أن يقول: رضيت بالقسمة».

و كيف كان ف في هذا أي أصل اعتبار الرضا في لزومها بعد القرعة إشكال كما في القواعد و غيرها من حيث إن القرعة وسيلة إلى تعيين الحق و الفرض أنه قد قارنها الرضا فلا يعتبر بعدها، لأن التعيين على هذا الوجه أوجب تميز أحد الحقين عن الآخر، فيتعين بالرضا المقارن، بل في اللمعة و الروضة و المسالك و ظاهر القواعد حصول التعيين بتراضيهما على القسمة و تخصيص كل واحد من الشركاء بحقه و إن لم تحصل القرعة، بل في الكفاية نسبته إلى ظاهر الأكثر و صريح بعض و إن كنا لم نتحققه، لصدق القسمة و تسلط الناس على أموالها، و غير ذلك مما يستفاد من الأدلة من الاكتفاء في نحو ذلك بطيب النفس، و خلو كثير من النصوص(1)التي ذكرناها في كتاب الشركة عن القرعة، كخلو موضوع نصوص القرعة(2)عن الشركة.

و من هنا أطنب في الحدائق في الإنكار على الأصحاب بذكر القرعة،


1- 1 الوسائل الباب- 6- من كتاب الشركة.
2- 2 الوسائل الباب- 13- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 330

حتى أنه أساء الأدب، و نسبهم في ذلك إلى متابعة العامة.

و جزم هنا في المسالك بالصحة في الفرض، و قال: «كما تصح المعاطاة في البيع، إلا أن المعاطاة فيه يتوقف لزومها على التصرف من حيث إن ملك كل واحد من العوضين للآخر فيستصحب ملكه إلى أن يتصرف أحدهما بإذن الآخر فيكون رضا منه بكون ما في يده عوضا عن الآخر، أما القسمة فإنها مجرد تمييز أحد النصيبين عن الآخر، و ما يصل إلى كل منهما هو عين ملكه لا عوضا عن ملك الآخر، فيكفي تراضيهما عليها مطلقا».

و فيه- بعد الإغضاء عما في القياس على المعاطاة في البيع الظاهر الفرق بينهما- أن ذلك يقتضي الاحتياج إلى القرعة التي هي لإخراج مثل ذلك، لا الاستغناء عنها و الاكتفاء بمجرد التراضي الذي هو مقتضى المعاوضة لا التمييز و التعيين، و حينئذ فالمتجه اعتبارها في المال المشترك المتحد سبب الشركة فيه، إذ

ليس في الأدلة ما يقتضي تحقق القسمة بدونها، فأصالة بقاء الشركة حينئذ بحالها بعد عدم دليل على الاكتفاء بالرضا معينا إلا القياس على كلي الدين و نحوه مما استفيد الاكتفاء بالقبض مثلا من أدلة الوفاء و الأمر بالإعطاء و نحو ذلك.

و نصوص القسمة- بعد احتمال اعتبار القرعة في مفهومها باعتبار أنها تميز الحق عن الآخر و لا مميز له في الشرع غير القرعة التي هي لكل أمر مشكل و مشتبه- لا إطلاق فيها، خصوصا بعد معروفية الإقراع في قسمة المشتركات بين العوام و الخواص، و ظاهر الأساطين من الأصحاب المفروغية من اعتبارها فيها.

بل قد يتوقف في قيام الصلح مقامها، باعتبار عدم معلومية العوض و المعوض عنه لأحدهما و إن كان يقوى في النظر جوازه، لعموم أدلته حتى

ج 40، ص: 331

لو قلنا باستحقاق الشريك حصة معينة في علم الله تعالى، و هي التي تخرج بالقرعة لو أقرع، فإنه حينئذ إن صادف المغايرة أثر أثره و إلا كان لغوا، و الثمرة حاصلة، بل لا يبعد الاكتفاء بالتراضي على جهة معاطاته، بل ينبغي الجزم بمشروعية الصلح و بمعاطاته، بل و غيرهما كالبيع و نحوه في المشتركات المتعددة المختلفة جهة الشركة فيها، فيصالحه حينئذ عما يستحقه في هذا بما يستحقه في الآخر.

و لكن لا يخفى عليك أن ذلك كله ليس قسمة، بل هو حينئذ صلح تلحقه أحكامه، و المراد هنا تحقق القسمة التي هي أصل برأسها بمجرد التراضي و ليس في الأدلة ما يقتضيه.

نعم الظاهر عدم اعتبار الرضا بعد القرعة مع فرض سبق الرضا بالقسمة بها، ضرورة ظهور أدلتها في اقتضائها التعيين و التمييز، فمع حصوله بها لا دليل على عوده، بل إن كان مراد من قال باعتبار الرضا بعدها في اللزوم حصول الملك بها و لكنه جائز حتى يرضى بعدها كان محجوجا حينئذ باستصحابه بعد عدم الدليل على فسخه.

و بذلك ظهر لك ما أطنب فيه في الرياض الذي محصله أصالة بقاء الشركة المقطوع بظاهر أدلة القرعة و صدق القسمة و باستصحاب الملك و غير ذلك، و قد ذكرنا جملة من الكلام في كتاب الشركة و خصوصا فيما سمعته من المحدث البحراني، فلاحظ و تأمل، و الله العالم و الهادي.

كما أنه ظهر لك أيضا عدم الفرق حينئذ فيما ذكرنا بين منصوب الامام (عليه السلام) و غيره، ضرورة كونه في غير قسمة الإجبار كمنصوبهما، فمع فرض اعتبار الرضا بعد القرعة في صحة القسمة لم يتفاوت ذلك بين الامام (عليه السلام) و بين غيره، إذ هو منصوب للقسمة الشرعية، بل يتجه في قسمة الإجبار اعتبار رضاه بعدها أيضا عوضا عنهما،

ج 40، ص: 332

لأن القسمة مفهوم واحد لا تختلف حقيقتها باختلاف القاسم، كما هو واضح.

و حينئذ فاتفاقهم على عدم اعتباره بعدها فيه دليل على تحققها و صحتها بدونه في غيره أيضا، إذ ليس قسمته بين الشريكين برضاهما حكما منه، بل هو كأحد أفراد القسمة.

و كذا ظهر لك أيضا عدم الفرق بين قسمة الرد و غيره، ضرورة أنها قسم من القسمة المفروض إفرازها بالقرعة و إن استتبعت وجوب الرد على من خرج له النصيب الأوفر بها فهو استحقاق آخر يتبع القسمة المزبورة، و ليس هو معاوضة مستقلة خارجة عن القسمة كي يعتبر فيها التراضي، بل أقصاها تعاوض شرعي من توابع القرعة التي قد عرفت أنها مميزة في قسمة الرد و غيرها.

و كيف كان ف يجزئ القاسم الواحد إذا لم يكن في القسمة رد في مذهب الأصحاب كما في المسالك، بل لم يحك هو الخلاف في ذلك إلا عن بعض العامة، فاعتبر التعدد فيها جاعلا لها من قسم الشهادة و هو كما ترى، بل مناف لما سمعته من نصب علي (عليه السلام) قاسما واحدا(1).

نعم لا بد من اثنين فصاعدا في قسمة الرد، لأنها تتضمن تقويما، فلا ينفرد الواحد به لأنه من مقام الشهادة و إن كان يسقط اعتبار الثاني مع رضا الشريك لأن الحق لهما، و هما مسلطان عليه. و من هنا قال في المسالك: «لا إشكال في اعتبار العدد منها حيث لا يتراضى الشريكان بالواحد، لأن العدد شرط في التقويم مطلقا».

و لكن قد ينافيه (أولا) ما سمعته من نصب علي (عليه السلام) قاسما واحدا(2)و إلا كان المتجه نصب الاثنين احتياطا، لاحتمال حصول


1- 1 راجع التعليقة 4 ص 326.
2- 2 راجع التعليقة 4 ص 326.

ج 40، ص: 333

الرد في القسمة. و (ثانيا) أن التقويم غير منحصر في قسمة الرد، فان كثيرا من الأموال المشتركة المختلفة كالحيوانات و نحوها لا تقسم إلا بالتقويم و إن لم يكن فيها رد، و احتمال إرادة ذلك كله من قسمة الرد على معنى أنه قد يكون فيها رد مناف لما هو المصطلح عندهم من أن قسمة الرد المشتملة على دفع مال آخر من أحد الجانبين، و لذا أطلقوا عدم الجبر فيها بخلاف باقي ما يقسم بالتقويم الذي لا رد فيه، فإنه يجبر عليه. و (ثالثا) أن التقويم لا مدخلية له في القسمة التي هي إفراز الحق، و إنما هو من مقدماته، و الفرض ظهور كلامهم في تعدد القاسم لا المقوم، على أنه يمكن القول بتولي الواحد القسمة فيها و إن احتيج إلى التعدد بعدها في تقويم ما زاد في أحد النصيبين، إذ ذاك أمر خارج عن القسمة. و من هنا كان لعلي (عليه السلام) قاسم واحد(1)فتأمل جيدا.

و على كل حال ف أجرة القسام المنصوب من قبل الامام (عليه السلام) من بيت المال المعد للمصالح التي منها القسمة إن لم يكن يرتزق منه و إلا فلا أجرة له، لقيام ارتزاقه منه مقامها، بل يمكن إرادة ذلك منها، كما عساه ظاهر القواعد حيث عبر أولا بالارتزاق و ثانيا بالأجرة، لاختصاص منفعة عمله بغيره، بخلاف المؤذن و نحوه ممن شرك مع الغير في الانتفاع، فإنه يعبر عنه بالارتزاق و الأمر سهل.

و على كل حال فذلك له من بيت المال إذا نصب على هذا الوجه فان لم يكن إمام ينصب للقسمة شخصا كذلك أو كان و لكن لا سعة في بيت المال و لو لوجود الأهم من ذلك لتجهيز جيش أو سد ثغر كانت أجرته على المتقاسمين و إن كانت قسمة


1- 1 راجع التعليقة 4 من ص 326.

ج 40، ص: 334

إجبار أو كان الطالب للقسمة أحدهم، خلافا لما عن أبي حنيفة و أحد وجهي الشافعية فيختص بالطالب، و فيه أن العمل المحترم قد وقع لهم أجمع فيستحق

عوضه ما لم يقصد التبرع به فان كانت القسمة بسؤالهم و استأجره كل واحد منهم بأجرة معينة عليه فلا بحث في استحقاق ذلك المعين من غير ملاحظة السهام أو الرؤوس.

نعم قد ذكروا إشكالا من جهة أخرى فيما لو فرض ترتب العقود و كان الشركاء اثنين مثلا فعقد واحد لإفراز نصيبه، فعلى القسام إفراز النصيبين، و تميز كل واحد منهما عن الآخر، لأن تمييز نصيب المستأجر لا يمكن إلا بتمييز نصيب الآخر، و ما يتوقف عليه الواجب فهو واجب فإذا استأجر بعد ذلك الآخر على تمييز نصيبه فقد استأجره على ما وجب عليه و استحق في ذمته لآخر فلم يصح، و كذا لو كانوا ثلاثة فعقد واحد لإفراز نصيبه ثم الثاني أشكل عقد الثالث بما سمعت.

و أجيب كما في المسالك و بعض كتب العامة بأن السؤال مبني على أنه يجوز استقلال بعض الشركاء باستئجار القسام لإفراز نصيبه و لا سبيل إليه، لأن إفراز نصيبه لا يمكن إلا بالتصرف في نصيب الآخرين ترددا و تقديرا، و لا سبيل إليه إلا برضاهم، نعم يجوز أن ينفرد واحد منهم برضا الباقين فيكون أصيلا و وكيلا، و لا حاجة إلى عقد الباقين، و حينئذ إن فصل ما على كل منهم بالتراضي فذاك و إن أطلق وزع.

و فيه أن حاصله كما في كشف اللثام عدم استقلال أحد منهم بالاستئجار و إيجاب الإفراز على ذمة الأجير، و هو كما قيل لا يدفع الإشكال، ضرورة إمكان فرضه باستغناء القاسم للتردد فيه بضبطه إياه سابقا أو باستحقاقه ذلك لاستئجار و نحوه، أو يفرض برضا الشريك بالتردد فيه أو التخطي

ج 40، ص: 335

أو كون القسمة إجبارا و المستأجر المستضر.

و لعل لذا في كشف اللثام بعد حكاية الجواب المزبور قال: «و الحق عدم الاندفاع و من هنا التزم بعض الناس التفصيل بين القدرة على الافراز على وجه يكون واجبا مطلقا فلا يصح الاستئجار ثانيا، و بين كونه غير مقدور فيصح، لأنه يكون واجبا مشروطا».

و فيه أن المتجه في الثاني عدم صحة الأولى لا صحة الثانية مع الأولى كما هو مفروض البحث، اللهم إلا أن يراد أن الأولى وقعت مراعي صحتها بوقوع الثانية، كما لو اتحد الإيجاب و ترتب القبول خاصة، فإنه يقع مراعى بوقوع القبول من غيره، و التحقيق عدم صحة الثانية حيث تصح الأولى من دون مراعاة للثانية مع كون المستأجر عليه شيئا واحدا و إن تعدد عوضه، و لذا جاز الاستئجار عليه منهما دفعة واحدة، بخلاف الترتيب المقتضي استقلال الأول في الاستحقاق و كونه كالأجير الخاص بالنسبة إليه، لتعينه بالعمل الغير القابل للتعدد، فهو حينئذ كالمستأجر لحيازة شي ء من المباح مثلا، فإنه لا يجوز استئجاره ثانيا عليه لآخر بخلاف ما لو استأجراه دفعة كما هو واضح.

و كيف كان ف ان استأجروه في عقد واحد بأجرة معينة و لكن لم يعينوا نصيب كل واحد منهم من الأجرة لزمتهم الأجرة بالحصص، و كذا لو لم يقدروا أجرة كان له أجرة المثل عليهم بالحصص لا بالسوية عندنا من غير خلاف يعرف فيه بيننا، و في محكي الخلاف دليلنا أنا لو راعيناها على قدر الرؤوس ربما أفضى إلى ذهاب المال، كأن يكون بينهما لأحدهما عشر العشر سهم من مائة سهم و الباقي للآخر و يحتاج إلى أجرة عشرة دنانير على قسمتها، فيلزم من له الأقل نصف العشرة، و ربما لا يساوي سهمه دينارا واحدا

ج 40، ص: 336

فيذهب جميع المال و هذا ضرر، و القسمة وضعت لازالة الضرر، فلا يزال بضرر أعظم منه.

و في كشف اللثام «و لأن الأجرة تزيد بزيادة العمل، و العمل يزيد بزيادة المعمول، فكل من كانت حصته أزيد فالعمل له أزيد، كمن يسقي جريبين من الأرض فعمله أزيد ممن يسقي جريبا، و أن تحمل المشقة أكثر، و كمن رد عبدا قيمته مائة فعمله أزيد ممن رد عبدا قيمته خمسون، و الغموض في قلة النصيب إنما جاء من كثرة نصيب الآخر».

و في القواعد و غيرها احتمال التساوي، للتساوي في العمل، فإنه ليس إلا إفرازا أو حسابا أو مساحة، و الكل مشترك بينهما، بل قد يكون الحساب في الأقل أغمض، و قلة النصيب توجب كثرة العمل، لوقوع القسمة بحسب أقل الأنصباء، فان لم يجب على الأقل نصيبا من الأجرة أزيد فلا أقل من التساوي.

و لكن لم يذهب إليه أحد من أصحابنا، بل عن الشافعي و أبي حنيفة و مالك موافقتنا على ذلك، نعم هو محكي عن أحمد بن حنبل، و نقض عليه الفاضل في القواعد بالحفظ للمال المشترك، فان له الأجرة بالحصص مع التساوي في العمل، و مرجع هذا و غيره مما سمعته أو لم تسمعه مما ذكر هنا إلى معلومية القاعدة في المشترك أن جميع ما يترتب عليه من نفع أو غرم هو على الحصص إذا كان قد ترتب عليه من حيث الاشتراك، كما في مفروض البحث الذي هو أجرة المثل للعمل في المشترك من حيث إنه كذلك أو المسمى في العقد الواقع من هذه الحيثية، و لذا قد وافق عليها هنا من عرفت من العامة عدا ابن حنبل فضلا عن الخاصة، و وجهه- بعد معلومية مقابلة العوض بالعمل- أن التوزيع يكون بحسب أثر العمل في المال المشترك، لا بالنسبة إلى المتعاملين الذين لا مدخلية لهم في المعاوضة

ج 40، ص: 337

و لا ريب في استخراج السهام المتعددة لذي السهم الأكثر بعد تعديل المال المشترك على الأقل نصيبا، كما هو واضح، و الله العالم.

[النظر الثاني في المقسوم]

النظر الثاني في المقسوم و هو إما متساوي الأجزاء وصفا و قيمة كذوات الأمثال مثل الحبوب و الأدهان أو متفاوتها كالأشجار و العقار، فالأول يجبر الممتنع مع مطالبة الشريك بالقسمة بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم، بل الظاهر الاتفاق عليه، و لعله العمدة بعد قاعدة وجوب إيصال الحق إلى مستحقه مع عدم الضرر و الضرار في القسمة المفروض شرعيتها لأن الإنسان له ولاية الانتفاع بماله قطعا و لا ريب أن الانفراد أكمل نفعا.

و لا فرق في ذلك بين الجامد و المائع الذي مسته النار للعقد كالدبس و الرب لا للتصفية كالعسل و السمن و غيرهما، و ما عن بعض العامة من عدم جواز القسمة في الأول لعدم جواز بيعه بعضه ببعض و لو مثلا بمثل و هي بيع خرافة في خرافة.

نعم لو تعددت الأجناس المشترك فيها فطلب أحدهما قسمتها أنواعا بالقيمة ففي القواعد لم يجبر، لتعلق الغرض غالبا بالعين، و لأنه قسم من قسمة الرد، نعم لو تراضيا على القسمة كذلك لم يكن به بأس، و لا ينافيه عدم الجبر عليه، لإمكان القسمة بطريق آخر جامع بين الجميع.

و كيف كان ف يقسم المكيل و الموزون و غيرهما كيلا و وزنا و خرصا و مقابلة متساويا و متفاضلا ربويا كان و غيره، لأن القسمة عندنا تمييز حق لا بيع كي يلحقها أحكامه

ج 40، ص: 338

من القبض في المجلس لو كانت في نقدين مثلا، و من عدم الزيادة لو كانت في ربوي، و من العلم بالمقدار لو كانت في مجهول، بل قد عرفت فيما مضى هنا و في الشركة أنها ليست معاوضة، و إنما هي تمييز حق استخراج بالقرعة حتى في قسمة الرد و إن كان فيها شبه المعاوضة إلا أنه تعاوض شرعي لا معاوضة معاملة. و من ذلك يظهر لك المناقشة بما في المسالك و غيرها، فلاحظ و تأمل.

هذا و فيها هنا أيضا «و أما قوله متساويا و متفاضلا فالأصل في القسمة أن يكون بنسبة الاستحقاق، فإذا كان المشترك بينهما نصفين كان إفرازه قسمين، و إن كان بينهما أثلاثا كان إفرازه كذلك، و التفاضل في الثاني بحسب الصورة و إلا فهو متساو حقيقة، لأن مستحق الثلث له فيما في يد صاحب الثلثين ثلث و لصاحب الثلثين فيما في يد صاحب الثلث ثلثاه، فالقسمة على هذا الوجه موجبة للتسوية بينهما بالنظر إلى أصل الحق، و إن أراد بالتفاضل ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة على حقه فليس ذلك بداخل في حقيقة القسمة، بل هو هبة محضة للزائد، فلو ترك قوله: متساويا و متفاضلا كان أولى».

و فيه أن المراد بيان جواز قسمة الربويات بالتفاوت من حيث الجودة و الرداءة، فلو كان الحب مشتركا بينهما و فرض اختلافه على وجه يكون الوزنتان من بعضه تقابل بالوزنة من غيره فعدلا السهام بذلك و اقتسماه على هذا الوجه فإنه لا إشكال في صحة القسمة عندنا، بخلافه لو قلنا إنها بيع للربا، بل و إن قلنا إنها معاوضة و أن الربا عام للمعاوضات، لما عرفت أنها ليست معاوضة معاملة، و الله العالم.

و أما الثاني و هو المتفاوتة أجزاؤه ف اما أن يستضر الكل بقسمته أو البعض أو لا يستضر أحدهم، و في الأول

ج 40، ص: 339

لا يجبر الممتنع عن القسمة كالجواهر و العضائد الضيقة و نحوها المتوقف قسمتها على كسرها و إلا فإذا أمكن بتعديلها بالقسمة أجبر الممتنع كما تسمعه في الثياب و العبيد، إذ هو أحد الأفراد الذي لا ضرر فيه و لا رد، كما أنه قد عرفت قوة القول بصحة قسمتها مع التراضي و إن تضرر الجميع بناء على إرادة نقص القيمة منه لا الخروج عن المالية، فلاحظ و تأمل.

و في الثاني إن التمس المستضر لقلة نصيبه مثلا على القسمة أجبر من لا يتضرر لأن المانع من جهته و قد فرض زواله برضاه إذا كان الضرر النقص، و إن قلنا إنه الخروج عن التمول أشكل جوابه إلى ذلك، لأنه سفه، إلا أن يفرض غرض صحيح يخرجه عنه.

و إن امتنع المتضرر لم يجبر عندنا لقاعدة لا ضرر و لا ضرار و لا ريب في أنه يتحقق الضرر المانع من الإجبار بعدم الانتفاع بالنصيب أصلا بعد القسمة. و قيل: يتحقق مع ذلك بعدم الانتفاع به فيما كان ينتفع به مشتركا و إن لم تنقص قيمته، و قيل بنقصان القيمة على وجه يتحقق به الضرر الفاحش و هو أشبه بأصول المذهب و قواعده، كما حققنا ذلك في كتاب الشركة(1)و (11) إن كان للشيخ (12) بل و لغيره في المسألة قولان (13) الأول و الأخير.

ثم (14) اعلم أن المقسوم (15) مثليا كان أو قيميا عقارا أو غيره متحدا أو متعددا متفقا في الجنس أو مختلفا إن لم يكن فيه رد و لا ضرر أجبر الممتنع و تسمى قسمة إجبار، و إن تضمنت أحدهما لم يجبر، و تسمى قسمة تراض، و (16) حينئذ يقسم الثوب الذي لا تنقص قيمته بالقطع كما تقسم الأرض (17) المتساوية أجزاؤها قسمة إجبار و إن كانا قيميين، لعدم ضرر و عدم رد فيها. و إن كان ينقص


1- 1 راجع ج 26 ص 315.

ج 40، ص: 340

بالقطع لم يقسم، لحصول الضرر بالقسمة و كذا الأرض.

و تقسم الثياب اتحدت في النوع أو اختلفت. و كذا تقسم العبيد كذلك بعد التعديل بالقيمة قسمة إجبار مع فرض انحصار قسمتها في ذلك، لأن التعديل المزبور رافع للضرر عرفا، فتندرج حينئذ هي و غيرها في الضابط المزبور الذي هو منطبق على جميع ما تسمعه مما ذكر في المقام، و إن كان في دعوى تحقق

الضرر في بعض الأمثلة كالدكاكين المتلاصقة و الدور المتجاورة في قسمتها بعض في بعض تأمل و نظر، كما ستعرف.

هذا و لكن في المسالك و بعض كتب العامة كالروضة للرافعي من الشافعية تشويشا في المسألة حيث ذكر فيها «أن الأقسام ثلاثة: الأول قسمة الافراز، و هو أن يكون الشي ء قابلا للقسمة لتساوي أجزائه في الصفات، كذوات الأمثال، و الثوب الواحد كذلك، و الأرض المتحدة كذلك، و لا إشكال في أنها قسمة إجبار مع فرض عدم الضرر، و الثاني قسمة التعديل، و هي ما يعدل سهامها بالقيمة، و هي تنقسم إلى ما يعد شيئا واحدا و إلى ما يعد شيئين فصاعدا، فالأول كالأرض المختلفة أجزاؤها، و البستان المختلفة أشجارها، و الدار المختلف بناؤها و نحو ذلك، و ظاهر عبارة المصنف دخول الإجبار فيها، و يحتمل عدمه، لاختلاف الأغراض، و الأقوى الأول، و الثاني ينقسم إلى عقار و غيره، فالأول كدارين أو حانوتين، و لا جبر هنا على قسمتهما بعض في بعض و إن أمكن التعديل بالقيمة، و أما غير العقار فان كان من نوع واحد كعبيد أو ثياب و أمكن التسوية فيها بالعدد و القيمة فظاهر المصنف و الأكثر الجبر في قسمتها أعيانا، و لو لم يمكن التسوية في العدد كثلاثة أعبد بين اثنين على السوية أحدهما يساوي الآخرين ففي الجبر هنا وجهان: من التعديل بالقيمة

ج 40، ص: 341

و من اختلاف الغرض في التعدد و الاتحاد، بل أشكل من ذلك لو كانت الشركة لا ترتفع إلا عن بعض الأعيان كعبدين بين اثنين قيمة أحدهما مائة و قيمة الآخر مأتان و طلب أحدهما القسمة، فيختص من خرجت له القرعة بالخسيس و ربع النفيس، لعدم ارتفاع تمام الشركة بهذه القسمة، فيشكل الجبر عليها، و لو كانت الأعيان من أنواع مختلفة كعبد تركي مع هندي و ثوب إبريسم مع ثوب كتان ففي الإجبار هنا وجهان أيضا، بل أولى بالمنع، هذا كله مع اتحاد الجنس، أما مع اختلافه كعبد مع ثوب مثلا فلا إجبار في قسمة أعيانها بعض في بعض و إن تساوت بثمنها، و الثالث قسمة الرد، و لا جبر فيها أيضا، كما ستعرف».

و هو كما ترى لا نعرف له مدركا ينطبق على أصولنا إلا دعوى حصول الضرر في بعض دون آخر، و هي مجرد اقتراح، و إنما صدر من العامة على أصولهم الفاسدة من قياس أو استحسان أو مصالح مرسلة، و إنما المنطبق على أصولنا ما سمعته من الضابط المزبور، نعم قد يتوقف في دعوى اقتضائه عدم قسمة العقار مع تعدده بعض في بعض و لو مع الانحصار في ذلك للضرر، ضرورة كونه كالدار المختلف بناؤها و البستان المختلف أشجارها في عدم صدق الضرر عرفا، و كذا قسمة مختلف الجنس بعضه في بعض مع الانحصار فيه.

اللهم إلا أن يكون في مختلف جهة الشركة فيه، بمعنى عدم الشركة في مجموع آحاده و إن تحققت في أفراده بأسباب مستقلة، فإنه لا جبر في قسمة بعض في بعض قطعا، بل الظاهر عدم مشروعية القسمة فيه بالمعنى المصطلح و إن جازت بنوع من الصلح و نحوه، لكون القسمة حينئذ قسمة معاوضة لا إفراز، و ذلك لأنه معها يكون له النصف من كل منهما مثلا، و لا يجب عليه معاوضة ما يستحقه في أحدهما بما لصاحبه

ج 40، ص: 342

في الآخر، إذ ليست هي إفراز حينئذ، بخلاف ما لو كانت الشركة في مجموعه، فان له حينئذ نصفا منه، و هو يمكن انطباقه على أحدهما.

و من ذلك يظهر لك اعتبار الإشاعة في مجموع الأعيان المشتركة التي يراد قسمتها بعض في بعض، بل لا موضوع للقسمة في غيره مما آحاده مشتركة بأسباب مستقلة من دون شركة بمجموعه، و ليس المراد في الأول اعتبار نصف المجموع مثلا كي يرد حينئذ عدم جواز قسمة بعض المال المشترك دون بعض أو قسمة بعض بالإفراز و الآخر بالتعديل و المعلوم خلافه نصا و سيرة، و إنما المراد زيادة مصاديق النصفية بملاحظة الشركة في المجموع على وجه يصح قسمته بعض في بعض بحيث يكون النصف أحد المالين مثلا، فتأمل فإنه دقيق نافع، و حينئذ فالمتجه عدم الفرق بين العقار و غيره و متحد الجنس و مختلفه مع فرض انحصار قسمته بعض في بعض بالتعديل بالقيمة الذي فرض ارتفاع الضرر معه عرفا، فيندرج في الضابط المزبور.

و بذلك بان لك النظر في كلام كثير من الأصحاب حتى المصنف فيما يأتي له من عدم الجبر على قسمة الدارين و الدكاكين و الأقرحة بعضها في بعض و إن انحصر قسمتها فيه، نعم هو كذلك لو فرض إمكان قسمة كل منها بالإفراز على وجه لا ضرر فيه، فان المتجه عدم الجبر على خصوص هذا الفرد من القسمة، كما في كل مقام يمكن فيه قسمة الافراز، فإنها مقدمة على قسمة التعديل، لأنها أتم الافراد و أقل ضررا و أليق بمراعاة حق الاشتراك، و حينئذ فالجبر عليها عند اختلافهما في الإرادة في محله، نعم لو تعذرت و لو للضرر انتقل إلى قسمة التعديل إلا مع التراضي بها معه، فالمدار في الجميع- متساوي الأجزاء و مختلفها و المتحد و المتعدد عقار و غير عقار مختلف النوع و متحده بل مختلف الجنس و غيره- على

ج 40، ص: 343

ذلك بعد فرض الاشتراك في مجموعه، لا أن الشركة مختصة بآحاده الذي قد عرفت عدم موضوع لقسمته بعض في بعض و إنما يقسم كل واحد من آحاده بقسمة مستقلة، و تفاوت الغرض ليس ضررا ماليا، مضافا إلى عدم حصول منع بقاء الشركة التي لا يجب الجبر معها على المهاياة، و الله العالم.

و إذا سألا أي الشريكان مثلا القسمة للشي ء و لهما بينة بالملك كذلك قسم بينهما بلا خلاف حتى من العامة و لا إشكال، إذ البينة حجة شرعية و إن لم يحضر خصم.

و إن كان يدهما عليه و لا منازع قال الشيخ في المبسوط: لا يقسم كما في الدروس و إن كنا لم نتحققه، بل المحقق من موضع منه التصريح بالجواز، كالمحكي عن أبي علي في المختلف و قال في الخلاف: يقسم و هو الأشبه بأصول المذهب و قواعده من غير فرق بين العقار و غيره من المنقول و غيره، بل لعله لا خلاف فيه بيننا، بل قد يظهر من بعضهم الإجماع عليه لأن اليد و التصرف دلالة الملك و ليس قسمة الحاكم لهما حكما منه بالملك على وجه يقطع خصومة الخصم لو ظهر، كغيرها من تصرفاته فيها تبعا لظاهر اليد.

على أنه إذا أراد الاحتياط كتب في كتاب القسمة صورة الحال بعد الإعلان بذلك على وجه لو كان هناك منازع لظهر، فما عن أحد قولي الشافعية من عدم جواز القسمة و أبي حنيفة من عدم قسمة غير المنقول مع القول بأنه ملكنا إرثا واضح الفساد.

ج 40، ص: 344

[النظر الثالث في كيفية القسمة]
اشاره

النظر الثالث في كيفية القسمة المحتاجة إلى التعديل، و أقسامها أربعة لأن الحصص إن تساوت قدرا بأن كان الشركاء ثلاثة مثلا لكل واحد ثلث و قيمة بمعنى مساواة أجزاء المقسوم لقيمة الجملة ف هو القسم الأول.

و كيفية القسمة فيه بتعديلها على قدر السهام، لأنه يتضمن القيمة إذ قد عرفت تساوي قيمة الأجزاء لقيمة الجملة، و ذلك كالدار مثلا تكون بين اثنين مثلا و الفرض أن قيمتها متساوية (11) لعدم التفاوت في أجزائها و عند التعديل (12) بقسمتها نصفين يكون القاسم مخيرا بين الإخراج (13) للرقع على الأسماء و الإخراج على السهام.

أما الأول فهو أن يكتب كل نصف في رقعة و يصف كل واحد (14) منهما بما يميزه عن الآخر، و يجعل ذلك مصونا في ساتر كالشمع أو الطين (15) أو غيرهما و يأمر من لم يطلع على الصورة (16) المكتوبة في الرقعتين بإخراج أحدهما على اسم أحد المتقاسمين، فما خرج ف (17) هو له.

و أما الثاني فهو أن يكتب كل اسم (18) من اسمي الشريكين مثلا في رقعة و يصونهما (19) أيضا بساتر كالأول و يخرج (20) من يأمره ممن لم يطلع على ما فيهما على سهم من السهمين فمن خرج اسمه فله ذلك السهم.

(21) و الظاهر عدم وجوب خصوص كتابة الرقاع و عدم الصون في ساتر، بل و عدم وجوب كون المأمور مكلفا، بل و غير ذلك من القيود المزبورة،

ج 40، ص: 345

إذ المراد حصول التعيين من غير اختيارهما أو وكيلهما، بل يفوضان أمره إلى الله تعالى و يفعلان ما يفيده و إن كان الأولى الاقتصار على المأثور و المعهود.

و إن تساوت الحصص قدرا لا قيمة لاختلاف أجزاء المقسوم بالنسبة إلى ذلك فقد يكون الثلثان منه مثلا مساويا للثلث الآخر في القيمة و هو القسم الثاني، و حينئذ إذا أراد أن يقسم عدل السهام قيمة لأنها المدار في رفع الضرر و ألغى القدر، حتى لو كان الثلثان مثلا بقيمته مساويا للثلث جعل الثلث نصفا محاذيا للثلثين اللذين هما النصف الآخر و كيفية القرعة عليه كما صورناه سابقا من الإخراج على الأسماء أو السهام.

و إن تساوت الحصص قيمة لا قدرا مثل أن يكون للواحد النصف و للآخر الثلث و للآخر السدس و قيمة أجزاء ذلك الملك متساوية و هو القسم الثالث، و حينئذ فإذا أريدت القسمة سويت السهام على أقلهم نصيبا لأن المفروض تساوي القسمة فجعلت أسداسا كما هو الضابط في كل قسمة اختلفت سهامها، فإنها تعدل على أقلها ما لم يكن فيها كسر، و إلا احتيج تعديلها إلى فرضها عددا ينطبق عليها، كما لو فرض كون النصف في مفروض المسألة بين اثنين، فإنه لا تصح القسمة بالتعديل أسداسا للكسر فيها حينئذ، فلا تتساوى السهام كي يتجه الإقراع، بل لا بد من تعديلها باثني عشر جزء، لأنه الذي منه الثلث و السدس و الربعان صحاحا، فتعدل هكذا.

ثم (11) على كل حال كم يكتب رقعة؟ فيه تردد بين أن يكتب بعدد (12) أسماء الشركاء (13) فيكون في الفرض ثلاثة كما هو الأشهر أو بعدد السهام (14) فيكون ستة، رقعة باسم صاحب السدس و رقعتان باسم صاحب الثلث و ثلاثة لصاحب النصف.

ج 40، ص: 346

و لكن الأقرب الاقتصار على عدد الشركاء، لحصول المراد به، فالزيادة كلفة و إن كان الأقوى جوازه أيضا، بل عن المبسوط قوة تعينه، لأن كل من كان سهمه أكثر كان حظه أوفر» و له مزية على صاحب الأقل، فإذا كتب صاحب النصف ثلاث رقاع كان خروج رقعته أسرع و أقرب و إذا كتب له واحدة كان خروج رقعته و رقعة صاحب السدس سواء.

و فيه أن ذلك لا فائدة فيه بعد فرض تعديل السهام، فلا ريب في أن الأول أولى، لحصول الفائدة مع الاختصار و ترك اللغو في إخراج الثانية و الثالثة لصاحب النصف بعد إخراج الأولى و الثانية لصاحب الثلث.

إذا عرفت هذا فإنه يكتب حينئذ ثلاث رقاع لكل اسم رقعة، فتجعل للسهام أول و ثاني و هكذا إلى الأخير الذي هو السادس و الخيار في تعيين ذلك أي ترتيب السهام على الوجه المزبور إلى المتقاسمين، و لو تعاسرا عينه القاسم دفعا للنزاع، و يحتمل استخراجه بقرعة أيضا ثم تدفع الرقاع- بعد وضعها في ساتر كما عرفت- إلى من لم يطلع على ما فيها ثم يأمره بإخراج رقعة منها فان تضمنت اسم صاحب النصف فله الأسهم الثلاثة الأول ثم يأمره بأن يخرج ثانية، فان خرج صاحب الثلث فله السهمان الآخران و هو الرابع و الخامس و (11) حينئذ لا يحتاج إلى إخراج الثالثة، بل لصاحبها ما بقي (12) و هو السهم السادس.

و كذا لو خرج اسم صاحب الثلث أولا كان له السهمان الأولان ثم يخرج أخرى، فإن خرج صاحب النصف فله الثالث و الرابع و الخامس، و لا يحتاج إلى إخراج أخرى لأن السادس تعين لصاحبها.

و هكذا لو خرج اسم صاحب السدس أولا كان له السهم الأول

ج 40، ص: 347

ثم يخرج الأخرى، فإن كان صاحب الثلث كان له الثاني و الثالث، و الباقي لصاحب النصف، و لو خرج في الثانية صاحب النصف كان له الثاني و الثالث و الرابع و بقي الآخران و هو الخامس و السادس لصاحب الثلث من غير احتياج إلى إخراج اسمه و ذلك كله واضح.

كوضوح الحال فيما لو فرض كتابة ست رقاع بأسمائهم، فإذا خرج واحدة من رقاع صاحب النصف أولا أعطى الثلاثة الأول، فإذا خرجت ثانية باسمه أو ثالثة كانت ملغاة، للاستغناء عنها بالأولى، و إن خرجت واحدة من رقعتي صاحب الثلث بعد رقعة صاحب النصف أعطي الرابع و الخامس، و لا يحتاج إلى إخراج ما بقي، كما أنه لو خرجت رقعة صاحب السدس أعطي الرابع، و لا يحتاج بعد إلى إخراج غيرها، لتعين السهمين الأخيرين، و هما الخامس و السادس لصاحب الثلث، و كذا الكلام لو خرجت أولا إحدى رقعتي صاحب الثلث أعطي السهمان الأولان و تلغى رقعته الثانية، فإن خرج بعده رقعة صاحب السدس أعطي الثالث و تعين الباقي لصاحب النصف من غير حاجة إلى إخراج.

و كيف كان ف لا يصح أن تكتب رقاع و يخرج ها في هذه الصورة من القسمة على السهام نحو ما سمعته في الصورتين الأوليين بل يتعين إخراج رقاع هذا القسم على المسمين بتلك الأسماء المكتوبة في الرقاع بالطريق الذي ذكرنا إذ لا يؤمن أن يؤدي (11) إخراجها على السهام نحو ما سمعته في القسمين الأولين إلى تفرق السهام، و هو ضرر (12) غير جائز إلا مع الرضا به، إذ قد يخرج السهم الثاني لصاحب السدس، و هو مقتض لتفرق ملك صاحب الثلث أو النصف، و كذا لو خرج له الخامس، بل قد يخرج لصاحب النصف مثلا الرابع، فيحصل النزاع

ج 40، ص: 348

بينهم في إتمامه بسهمين قبله أو بعده، و القسمة إنما شرعت لدفع النزاع.

هذا و في الروضة للرافعي من علماء الشافعية «و إن أثبت الأجزاء في الرقاع فلا بد من إثباتها في ست رقاع، و حينئذ فالتفريق المحذور لو لزم إنما يلزم إذا خرج أولا صاحب السدس، و هو مستغن عنه، بأن يبدأ بصاحب النصف، فان خرج الأول باسمه فله الأول و الثاني و الثالث، و إن خرج الثاني فكذلك، فيعطي معه ما قبله و ما بعده، و إن خرج الثالث ففي شرح مختصر الجويني أنه يتوقف فيه و يخرج لصاحب الثلث، فان خرج الأول أو الثاني فله الأول و الثاني، و لصاحب النصف الثالث و الرابع و الخامس، و إن خرج الخامس فله الخامس و السادس، ثم أهمل باقي الاحتمالات، و كان يجوز أن يقال: إذا خرج لصاحب النصف الثالث فهو له مع اللذين قبله، و إن خرج الرابع فهو له مع اللذين قبله، و يتعين الأول لصاحب السدس، و إن خرج الخامس فهو له مع اللذين قبله، و يتعين السادس لصاحب السدس، و إن خرج السادس فهو له مع اللذين قبله، و إن أخذ زيد حقه و لم يتعين حق الآخرين أخرج رقعة أخرى باسم أحدهما، فلا يقع تفريق» إلى آخر ما ذكره مما هو غير معهود في كيفية القرعة.

و مع فرض جوازها كذلك على تقدير التراضي بها فالتفريق أيضا جائز مع التراضي به، بل يجوز معه الابتداء بذي السدس على أن يكون إذا خرجت رقعته على الأول أو الثاني فله الأول أو خرجت على الخامس أو السادس فله السادس كيلا يلزم تفريق، بل قد يفرض تفريق لا ضرر فيه، كما في قسمة الحبوب و الأدهان مثلا.

و على كل حال فهذه الوجوه خارجة عن مفروض المسألة، فإنها مع فرض صحتها و دخولها في المعهود من إطلاق القرعة لا تنافي ما ذكره المصنف و غيره من عدم جريان ما ذكره في القسمين الأولين من إخراج

ج 40، ص: 349

الأسماء على السهام بالكيفية المزبورة فيهما في هذا القسم، و إنما يختص بإخراج رقعة على الأسماء خاصة حذرا من حصول التفريق الذي لا ريب في احتماله على هذا الوجه، و التخلص منه بما عرفت خروج عن المفروض، و هو واضح.

كوضوح كون المراد من عبارة المتن عدم إخراج الرقاع على السهام على حسب ما ذكره في الأولين، بل يختص إخراجها على الأشخاص المسمين بتلك الأسماء، فلا إشكال حينئذ، بل عن بعض النسخ إبدال العبارة المزبورة «و لا تخرج في هذه السهام على الأسماء، إذ لا يؤمن» إلى آخره، و هي صريحة في ما قلناه، و الله العالم.

و لو اختلفت السهام و القيمة معا و هو القسم الرابع و لا يخفى عليك أنه إذا كان كذلك عدلت السهام تقويما و ميزت على قدر سهم أقلهم نصيبا و أقرع عليها كما صورناه ضرورة عدم الفرق بين الصورتين إلا بتفاوت مقدار المساحة في السهام في الثانية دون الأولى، نحو ما سمعته في القسم الثاني، هذا كله في قسمة التعديل بدون رد.

أما لو كانت قسمة رد- و هي المفتقرة إلى رد في مقابلة بناء أو شجر أو بئر أو نحو ذلك مما يكون في أحد السهمين و لا يمكن قسمته- ف لا خلاف عندنا بل و لا إشكال في أنه لا تصح القسمة فيه ما لم يتراضيا جميعا، لما يتضمن من دفع الضميمة التي لا تستقر إلا بالتراضي لعدم كونها من المال المشترك، فلا وجه لجبر أحدهما عليها، إذ هو كجبره على بيع ما لا يمكن قسمته، بل لعله كذلك عند العامة فضلا عن الخاصة، نعم قد يفرض الجبر في بعض الصور من باب السياسات التي لا مدخل لها فيما نحن فيه مما هو حكم شرعي.

و إنما الكلام فيما إذا اتفقا على الرد و عدلت السهام

ج 40، ص: 350

و أقرع فهل تلزم بنفس القرعة فيلزم بالرد من خرج الزائد له كما يلزم بالقبول من خرج الناقص له؟ قيل كما عن المبسوط و التحرير و الإرشاد و الدروس و الإيضاح و المسالك و غيرها لا تلزم إلا بالرضاع بعد القرعة، بل عن بعضهم التصريح باعتبار لفظ «رضيت» و نحوه بعد القسمة لأنها تتضمن معاوضة، و لا يعلم كل واحد من يحصل له العوض ف لا يتحقق رضا المعاوضة قبل القرعة و لذا قلنا يفتقر إلى الرضا بعد العلم بما ميزته القرعة حتى يتحقق الرضا المعتبر في صحة المعاوضة، بل و يتحقق أيضا إنشاؤها، و هو حاصل ما في محكي المبسوط و غيره من أن القرعة فيها تفيد معرفة البائع منهما من المشتري، و قبل القرعة لا يعلم هذا، فإذا علم بها البائع من المشتري و علمنا من الذي يأخذ الزائد و يرد خمسين مثلا قلنا الآن قد بان ذلك الرجل، فلا تلزم القسمة إلا بتراضيهما، ثم قال: «و تفارق هذه قسمة الإجبار، لأنه لا بيع فيها و لا شراء، فلهذا لزمت بالقرعة، و هذه فيها بيع و شراء، فلا يلزم بها- ثم قال-: و أيضا لما لم يعتبر التراضي فيها في الابتداء فكذلك في الانتهاء، و ليس كذلك هنا، لأنه اعتبر التراضي في ابتدائها فكذا في انتهائها».

هذا و لكن قد تشعر نسبة المصنف و الفاضل ذلك إلى القيل برده أو التردد فيه، بل مقتضى إطلاق المصنف و غيره فيما تقدم عدم اعتبار الرضا بعدها في قسمة منصوب الامام (عليه السلام) عدم الفرق بينها و بين غيرها، بل هو صريح الدروس.

و منه حينئذ يظهر عدم الفرق بين الجميع، ضرورة عدم مدخلية منصوب الامام (عليه السلام) في المعاوضات، على أن مرجعه الاكتفاء بقرعته عن إنشاء تعاوض، بل يتعين الدفع على ذي السهم الزائد و القبول

ج 40، ص: 351

على ذي السهم الناقص، فهو عوض شرعي لا معاوضة اصطلاحية، و من المعلوم عدم الفرق في نفاذ القرعة بين وقوعها منه و من غيره.

و أيضا ظاهر الجميع كون ذلك فردا من أفراد القسمة، لا أنها قسمة و بيع، بل ظاهر جماعة ممن اعتبر الرضا بعدها الاكتفاء بإنشاء الرضا بها بعدها لا إنشاء معاوضة، بل لا يكفي إنشاؤها على الاجمال، بل لا بد من قصد البيع أو الصلح أو الهبة المعوضة أو نحو ذلك مما يقطع بعدم التزامهم به، بل كلامهم كالصريح في نفي كون القسمة بيعا عندنا حتى قسمة الرد، على أن هذا البيع بعد القرعة يجب إنشاؤه بينهما على وجه إذا امتنع يقوم الحاكم مقامه أو يبقى مختارا فيه.

و التزام الأول كما ترى، و الثاني مناف لمفاد القرعة الذي هو التعيين.

و لعله لذا احتمل في كشف اللثام و غيره اللزوم بنفس القرعة، بل لعله الأقوى و إن كان الاحتياط لا ينبغي تركه، بل قد عرفت فيما سبق إطلاق بعضهم الاكتفاء في صحتها و لزومها بالتراضي و إن كان فيها رد، و أن القرعة عند التنازع.

لكن في المسالك هنا «ثم على تقدير التراضي عليها إن اتفقا على أن يكون الرد من واحد معين و أوقعا صيغة معاوضة تقتضي ذلك كالصلح و غيره فلا بحث، و إن اتفقا عليه و دفع الراد العوض من غير صيغة خاصة كان الحكم كالمعاطاة لا تلزم إلا بالتصرف عند من جعل ذلك حكم المعاطاة و إن لم نقل بتوقف التراضي على القسمة مع عدم الرد على التصرف، و الفرق ما أشرنا إليه من اشتمال قسمة الرد على المعاوضة المقتضية للصيغة الدالة على التراضي على ما وردت عليه من العوض، و المقسوم الزائد على ما قابل المردود غير متعين، فلا يمكن تخصيصه باللزوم مع التراضي بدون التصرف».

ج 40، ص: 352

و فيه ما لا يخفى من منافاة ذلك لظاهر كلام أصحابنا و غيرهم من أن قسمة الرد من أفراد القسمة و إن كان لا إجبار فيها، و لا يحتاج إلى صلح و غيره، حتى من اعتبر الرضا بعد القرعة فإنما يريد الرضا بها قسمة، و هو غير الرضا المعتبر في إنشاء المعاوضات المعلومة، و كأنه اشتبه عليهم العوض و المعاوضة المصطلحة، و لا ريب في الفرق بينهما، و أقصى ما في قسمة الرد الأول لا الثاني، كما هو واضح بأدنى تأمل.

نعم لو لم نقل إنها من أفراد القسمة بل هي قسمة و معاوضة اعتبر حينئذ قصد معاوضة خاصة و تعيين المعوض عنه و غير ذلك مما في تلك المعاوضة التي يتفقان على إنشائها، و من المعلوم أن قسمة الرد قد تشتمل على زيادة وصف في أحد السهمين و زيادة عين و غير ذلك مما يتوقف معادلته للسهم الآخر على جبر ممن يكون له ذلك. و بالجملة يقوي في النظر الاكتفاء في لزومها بالقرعة، و يتعين الدفع على ذي السهم الزائد و القبول على الآخر، و الله العالم.

[مسائل ثلاث]
اشاره

مسائل ثلاث:

[المسألة الأولى لو كان لدار علو و سفل فطلب أحد الشريكين قسمتها بحيث يكون لكل واحد منهما نصيب من العلو و السفل بموجب التعديل جاز]

الأولى:

لو كان لدار مثلا علو و سفل فطلب أحد الشريكين قسمتها بحيث يكون لكل واحد منهما نصيب من العلو و السفل بموجب التعديل جاز بلا خلاف و لا إشكال، لأنه توصل إلى حق كل منهما، بل أجبر الممتنع منهما عن ذلك مع فرض انتفاء الضرر المانع من الإجبار، بل ظاهر إطلاق المصنف و غيره عدم الفرق في الإجبار المزبور بين أن يجعل نصيب كل منهما من العلو فوق

ج 40، ص: 353

نصيبه من السفل و عدمه ما لم يستلزم ضررا يرتفع معه الإجبار.

و لو طلب انفراده بالسفل أو العلو لم يجبر الممتنع مع التمكن من الأول الذي لا ريب في تقدمه عليه، لما فيه من إيصال الحق إلى مستحقه في كل منهما، كما سمعته في تقديم قسمة الافراز على قسمة التعديل.

مضافا إلى ما في كشف اللثام من تعليله بأن البناء تابع للأرض و العلو للسفل، فإنما يجبر على قسمة تأتي على الأرض، و لأنه من ملك شيئا من الأرض ملك قراره إلى الأرض السابعة و هواءه إلى السماء، فلو جعلنا لأحدهما العلو قطعنا السفل عن الهواء، و العلو عن القرار، أما مع فرض عدم إمكانه و لو للضرر فيه المانع من الإجبار عليه بخلاف الفرض فالأقوى الجبر عليه، لأنه طريق لا ضرر فيه إلى إيصال الحق لمستحقه، و لعل إطلاق المصنف و غيره لا ينافيه بعد تنزيله على التمكن من الأول، حتى ما سمعته من كشف اللثام.

و كذا الكلام لو طلب قسمة كل واحد منهما منفردا عن الآخر لا يجبر عليه مع التمكن من قسمتهما على الوجه الأول، أما مع فرض عدم التمكن منه و فرض عدم الضرر في هذا يتجه الجبر، لما عرفت من وجوب إيصال الحق إلى مستحقه مع عدم الضرر.

هذا و في المسالك اقتصر في شرح عبارة المصنف على ذكر القسمين الأولين و ترك القسم الثالث، و لعله ليس في نسخته لكن ما جعله مدركا للأولين مناف له، و ذلك لأنه جعل العلو و السفل كالبيتين المتجاورين، فيجبر إن طلب قسمة كل منهما على حدته، و لا يجبر على قسمة أحدهما في الآخر على أن يكون لأحدهما العلو و للآخر السفل، و هو صريح في منافاة ذلك لما ذكره المصنف من عدم الجبر لو طلب قسمة كل واحد منهما منفردا، و إنما الذي ذكر الجبر فيه قسمتهما معا على أن يكون لكل

ج 40، ص: 354

واحد نصيب من العلو و السفل بقسمة واحدة.

على أنه لا يخفى عليك ما في دعوى جعل العلو و السفل بمنزلة البيتين المتجاورين، ضرورة كونهما كبيوت الدار الواحدة لا مثل ذلك، و لذا لم يجبر عندهم على قسمة كل منهما منفردا.

بل في القواعد «و لو طلب أحدهما قسمة السفل خاصة و يبقى العلو مشتركا أو بالعكس لم يجبر الآخر، لأن القسمة للتمييز، و مع بقاء أحدهما لا يحصل التمييز» و مراده أن البناء علوه و سفله تابع للأرض، فالمشترك شي ء واحد، فمع قسمة بعضه دون بعض لم يحصل التمييز، إذ هو كما لو اشتركا في جريب من الأرض فطلب أحدهما قسمة نصفه و بقاء الآخر على الإشاعة.

و الظاهر أن مراده عدم الجبر لا ما يتوهم من عدم صحة قسمة ذلك حتى مع الرضا، باعتبار عدم التمييز في القسمة المفروضة التي هي عبارة عنه، و الفرض أن المشترك شي ء واحد عرفا، خصوصا بعد ما عرفت من كون الشركة النصف مثلا في المشترك، لا أنها في كل جزء جزء، و حينئذ فمع فرض اتحاده يكون النصف المستحق دائرا بين مصاديقه فيه، فيمكن أن يكون هذا النصف الذي أرادا قسمته بينهما، فلا تصح القسمة، حينئذ إلا مع إيقافه عليه أجمع.

لكنه كما ترى مخالف للمقطوع به بين الناس، و خصوصا في المتماثلات بل و في مثل الأرض المتحدة الواسعة إذا أرادوا قسمة بعضها، و يكفي ذلك في جعلها متعددة، فإنه لا إشكال في جواز قسمتها مع فرض عروض التعدد لها عرفا.

كما أنه يلزم على التوهم المزبور عدم الصحة في الذي عرض له الاتحاد بعد أن كان متعددا، بل ملاحظة هذا الميزان تقتضي أمرا غريبا في الشريعة،

ج 40، ص: 355

نعم قد يقال: إنه لا يجبر عليه إذا كان قد بذل القسمة فيه أجمع، لعدم الدليل عليه في خصوص ذلك، بل ظاهر الأدلة خلافه، كما أن ظاهرها جواز جميع أفراد القسمة مع التراضي بها، كما تسمع تحقيقه إنشاء الله.

[المسألة الثانية لو كان بينهما أرض و زرع فطلب أحدهما قسمة الأرض حسب أجبر الممتنع]

المسألة الثانية:

لو كان بينهما أرض و زرع فيها فطلب أحدهما قسمة الأرض حسب أجبر الممتنع ل ما عرفته من وجوب إيصال الحق إلى صاحبه مع عدم الضرر، و هو هنا كذلك ف ان الزرع كالمتاع في الدار ف لا يمنع من قسمتها.

نعم لو طلب قسمة الزرع خاصة قال الشيخ كما في المحكي عن مبسوطة هنا لم يجبر الآخر، لأن تعديل ذلك بالسهام غير ممكن و في صلحه «لأن قطع نصفه لا يمكن، فان لكل واحد منهما حقا في كل طاقة منه».

و فيه إشكال واضح من حيث إمكان التعديل بالتقويم إذا لم يكن فيه جهالة و ثبوت الحق في كل طاقة لا يمنع شرعية القسمة في أمثاله بل في كل شي ء، و من هنا جزم من تأخر عنه بالجبر عليه، بل عن ابن البراج أنه قال: إذا كان التفصيل بين قوم و أرادوا قسمته لم يصح ذلك إلا ببيعه و قسمة ثمنه بينهم، أو بأن يقطع من الأرض و يقسمونه كما يقسمون الغلة مثله، أو يكون مما يمكن قسمته بالتعديل، و هو غير مخالف.

بل يمكن أن يريد الشيخ ذلك أيضا على معنى إرادة قسمته مع بقائه زرعا، لصعوبة تعديله حينئذ، لعدم معرفة قوة استعداده، و بالجملة

ج 40، ص: 356

يكون نزاعا في موضوع، هذا كله في قسمته زرعا.

أما لو كان بذرا بعد لم يظهر من الأرض لم تصح القسمة بلا خلاف لتحقق الجهالة المانعة من التعديل.

و لو كان سنبلا قال الشيخ أيضا: لا يصح لعدم إمكان التعديل و هو مشكل أيضا، بل أشد إشكالا من الأول لجواز بيع الزرع عندنا بل في المحكي من عبارة الشيخ اضطراب بالنسبة إلى ذلك، قال: «فان كان بينهما أرض فيها زرع فطلب أحدهما القسمة فاما أن يطلب قسمة الأرض أو الزرع أو قسمتهما معا، فان طلب قسمة الأرض دون غيرها أجبرنا الآخر عليها على أي صفة كان الزرع: حبا أو قصيلا أو سنبلا قد اشتد، لأن الزرع في الأرض كالمتاع في الدار لا يمنع القسمة، فالزرع مثله، و أما إن طلب قسمة الزرع وحده لم يجبر الآخر عليه، لأن تعديل الزرع بالسهام لا يمكن، و أما إن طلب قسمتها مع زرعها لم يخل الزرع من ثلاثة أحوال: إما أن يكون بذرا أو حبا مستترا أو قصيلا، فان كان حبا مدفونا لم تجز القسمة، لأنا إن قلنا القسمة إفراز حق فهو قسمة مجهول أو معدوم فلا تصح، و إن قلنا بيع لم يجز لمثل هذا، و إن كان الزرع قد اشتد سنبله و قوي حبه فالحكم فيه كما لو كان بذرا و قد ذكرناه، و إن كان قصيلا أجبرنا الممتنع عليها، لأن القصيل فيها كالشجر فيها، و لو كان فيها شجر قسمت بشجرها كذلك هنا».

و يمكن إرادته من البذر اخضراره في الجملة، فإنه في الحكم كالحب المدفون، لعدم إمكان تعديله، كما أنه يمكن أن يكون وجه الفرق بين كونه سنبلا قد قوي حبه و بين كونه قصيلا أن الأول قد صار بمنزلة المتاع المنفصل الموضوع في البيت فلا يتبع الأرض، و لا يجبر على قسمته تبعا لها، بخلافه قصيلا، فإنه كالشجر فيها يجبر على قسمته معها، إذ

ج 40، ص: 357

ليس هو كالحب المدفون الممتنع تعديله. و لم يتحقق تابعيته للأرض، و كذا المخضر في الجملة الذي لم يتم إثباته، و لا هو كالسنبل الذي قد آن انفصاله عن الأرض و إن كان فيه نظر، ضرورة خروج الزرع بحاليه عن تبعية الأرض عرفا بخلاف الشجر، و لعله لاتخاذ الثاني فيها باقيا كالبناء بخلاف الأول المبني على الانفصال، و لذا شبه بالمتاع في البيت حتى من الشيخ نفسه في تعليل الجبر على قسمة الأرض وحدها، فلاحظ و تأمل.

و من هنا صرح في التحرير بعدم الجبر لو أريد قسمته تابعا للأرض لعدم كونه من توابعها، و لذا لم تثبت الشفعة فيه بخلاف الشجر.

و على كل حال فمراد الشيخ الفرق بين السنبل و غيره في التبعية، و لم يتعرض لقسمته سنبلا وحده، و لعل المصنف قد عثر له على غير هذا الكلام، و الأمر سهل بعد وضوح الحال لديك حتى قسمتهما معا بعضا في بعض، فإنه لا جبر فيها، كما نص عليه غير واحد، لعدم كونهما شيئا واحدا، و الفرض إمكان قسمة كل واحد منهما أو الأرض خاصة.

فما عساه يتوهم من عبارتي المسالك و الكفاية من الجبر فيه في غير محله.

نعم قد يأتي على ما اخترناه الجبر على ذلك مع فرض انحصار القسمة الخالية عن الضرر المانع من الإجبار فيه، لوجوب إيصال الحق إلى مستحقه مع الإمكان و إن ترجح بعض أفرادها على بعض، أما الأرض ذات الشجر فيجبر على قسمتها معه، لكونه تابعا كالبناء، و لذا تثبت الشفعة فيه، و كذا يجبر على قسمتهما بعض في بعض مع فرض انحصار القسمة الخالية عن الضرر فيه، بل و كذا يجبر على قسمة كل منهما أو أحدهما منفردا مع الفرض المزبور.

و يمكن إرجاع ما في القواعد و غيرها إلى ما ذكرنا، قال: «و لو كان فيها غرس فطلب أحدهما قسمة أحدهما من الأرض أو الشجر خاصة

ج 40، ص: 358

لم يجبر الآخر، و لو طلب قسمتهما معا بعضا في بعض أجبر الآخر مع إمكان التعديل، و لو كانت الأرض عشرة أجربة و قيمة جريب واحد منها يساوي قيمة تسعة أجربة، فإن أمكن قسمة الجميع بينهما على أن يتساويا في الحصة مساحة و قيمة بأن يكون لأحدهما نصف ذلك الجريب و نصف التسعة الباقية و للآخر مثله بأن يكون الجريب في الوسط بحيث لا يلزم تفريق السهام وجب، و إن تعذر التعديل كذلك بأن يكون الجريب في الطرف أو ذا بناء أو شجر أو نحو ذلك عدلت بالقيمة، بأن جعل الجريب قسما و التسعة قسما و أجبر الممتنع عليها إذا لم يتضرر بتفريق السهام و لا غيره» و الله العالم.

[المسألة الثالثة لو كان بينهما قرحان متعددة و طلب واحد قسمتها بعضا في بعض لم يجبر الممتنع]

المسألة الثالثة:

لو كان بينهما قرحان متعددة و طلب واحد من الشريكين مثلا قسمتها بعضا في بعض لم يجبر الممتنع لأن المشهور بين الأصحاب على ما في المسالك أن ما يعد شيئين فصاعدا من العقار كالدور المتعددة و الأراضي المتعددة الخالية من الشجر- و هي المعبر عنها بالأقرحة- و الدكاكين المتعددة- سواء تجاورت أم لا- و الحبوب المختلفة كالحنطة و الشعير لا يقسم بعضها في بعض، بمعنى جعل بعضها في مقابل بعض قسمة إجبار، و إنما يقسم كل واحد منها على حدته قسمة إجبار إذا أمكن ذلك من غير ضرر، لأنها أملاك متعددة، و لكل واحد منها خواص لا تحصل في الآخر، بخلاف الأرض الواحدة و الدار الواحدة و إن كنا لم نتحققه.

بل ذكرنا سابقا أن قاعدة وجوب إيصال الحق إلى مستحقه مع

ج 40، ص: 359

التمكن منه و عدم الضرر تقتضي الجبر إذا فرض الضرر بقسمة كل منها على حدته، و فوات الغرض لا يمنع الإجبار، كفواته في المتعدد من النوع الواحد كالثياب و العبيد التي ذكروا فيها الجبر.

بل قد عرفت أن مقتضى إطلاق المصنف ذلك فيها و إن اختلف نوعها كثوب إبريسم و كتان، و عبد حبشي و زنجي، و لعله لذا حكي عن ابن البراج التصريح بقسمة الدور و الأقرحة بعضها في بعض مع تساوي الرغبات، بل عنه أنه قال: «و كذا لو تضرر بعضهم بقسمة كل على حدته جمع حقه في ناحية» و مقتضى إطلاقه أولا الجبر و إن لم تكن متجاورة و أمكن قسمة كل واحد منها على حدته، إلا أن المحكي عنه في كشف اللثام الحكم بالإجبار مع التجاور و التضرر إذا قسم كل على حدته بأن تكون حصة كل منهما في بعضها أو في كل مما لا يكاد ينتفع به.

و كيف كان ف لو طلب قسمة كل واحد بانفراده أجبر الآخر مع إمكانه بلا ضرر بلا خلاف و لا إشكال، للقاعدة المزبورة و غيرها، بل قد ذكرنا سابقا أن هذا الفرد من القسمة يقدم على غيره من الأفراد و كذا الكلام لو كان بينهما حبوب مختلفة مثلا.

و كذا لا خلاف و لا إشكال في أنه يقسم القراح الواحد بينهما و إن اختلفت أشجار أقطاعه كالدار الواسعة إذا اختلفت أبنيتها لأن الأصل في الملك هو الأرض، و هي واحدة، و الأشجار و الأبنية توابع.

و في محكي المبسوط «و يفارق هذا إذا كانت الأقرحة متجاورة، و لكل قراح طريق ينفرد به، لأنها أملاك متميزة، بدليل أنه إذا بيع سهم من قراح لم تجب الشفعة فيه بالقراح المجاور له، و ليس كذلك إذا كان القراح واحدا و له طريق واحدة، لأنه ملك مجتمع، بدليل أنه

ج 40، ص: 360

لو بيع بعضه وجب الشفعة فيه مما بقي، و أصل هذا و جوازه على الشفعة فكل ما بيع بعضه فوجب فيه الشفعة فهو الملك المجتمع، و كل ما إذا بيع بعضه لم تجب فيه الشفعة لمجاورة كانت أملاكا متفرقة».

قلت: ليس المهم بيان الاتحاد و التعدد، فان العرف كاف فيه، بل المهم بيان اعتبار الاتحاد في قسمة الإجبار، مع أنه ليس في شي ء مما وصل إلينا من الأدلة جعل ذلك عنوانا للحكم المزبور، و مقتضى القاعدة المذكورة الأعم من ذلك، على أنه لم يذكروا حكم المتحد عارضا و المتعدد كذلك، و بالجملة التحقيق ما عرفت.

و منه يعلم الحال أيضا فيما ذكره المصنف و غيره من أنه لا تقسم الدكاكين المتجاورة فضلا عن غيرها بعضها في بعض قسمة إجبار، لأنها أملاك متعددة يقصد كل واحد منها بالسكنى على انفراده، فهي كالأقرحة المتباعدة ضرورة عدم صلاحية ذلك للخروج عن مقتضى القاعدة المزبورة، على أنه يمكن أن يقال: إنها واحدة، لأن الأصل الأرض، و البناء تابع، فالدكاكين كبيوت الدار، و لعله لذا حكم في الإرشاد بالجبر، و هو كذلك مع فرض عدم إمكان قسمة كل واحد منها بانفراده، و الله العالم.

[النظر الرابع في اللواحق]
اشاره

النظر الرابع في اللواحق و هي ثلاث:

[الأولى إذا ادعى الشريك بعد القسمة الغلط لم تسمع دعواه]

الأولى: إذا ادعى الشريك بعد القسمة الغلط لم تسمع دعواه فإن أقام بينة سمعت و حكم ببطلان القسمة، لأن فائدتها تمييز الحق و لم يحصل، و لو عدمها فالتمس اليمين كان له إن ادعى على شريكه العلم بالغلط.

ج 40، ص: 361

و في المسالك «لا فرق في عدم سماع دعوى الغلط في القسمة بمجردها بين كون القاسم منصوب الامام (عليه السلام) و من تراضيا به و أنفسهما لأصالة الصحة إلى أن يثبت المزيل، و لأن منصوب الامام (عليه السلام) كالقاضي لا تسمع الدعوى عليه بالظلم، لكن لو أقام بينة سمعت و نقضت القسمة، كما لو أقام البينة على ظلم القاضي و كذب الشهود» ثم اختار أن له إحلاف الشريك مطلقا و إن لم يدع عليه العلم.

و في القواعد «و لو ادعى أحد المتقاسمين الغلط عليه و أنه أعطي دون حقه لم تتوجه له الدعوى على قسام القاضي بغير الأجر، و لا له عليه يمين، بل إن أقام بينة سمعت و نقضت القسمة، و إن فقدها كان له إحلاف شريكه، فان حلف بري ء، و إن نكل أحلف هو و نقضت، هذا في قسمة الإجبار، و أما قسمة التراضي فالأقرب أنه كذلك».

و ربما احتمل اقتضاء المفهوم في كلامه توجه الدعوى على القسام إذا كان بأجرة، لأنه ليس أمين الحاكم حينئذ، بل هو وكيل المتقاسمين» و أيضا فهو في محل التهمة فتتوجه عليه الدعوى، و في كشف اللثام «لم أر هذا لغيره».

و في الدروس «و لو ادعى الشريك الغلط في القسمة أو في التقويم و لا بينة حلف الآخر» و في المبسوط «إذا ادعى الغلط في قسمة التراضي كاختصاص أحدهما بالعلو و الآخر بالسفل أو كان فيها رد أو كانا قد اقتسما بأنفسهما لم يلتفت إليه، لأنه إن كان مبطلا فظاهر، و إن كان محقا فقد رضي بترك هذه الفضلة، و يشكل بإمكان عدم علمه بها حال القسمة، فالوجه السماع حينئذ، قيل و لا تقبل شهادة القاسم إن كان بأجرة، و إلا قبلت لعدم التهمة، و لا يحلف قاسم القاضي لأنه حاكم».

و المحكي عن المبسوط أنه لم يسمع دعواه مطلقا من غير فرق بين

ج 40، ص: 362

قسمة الإجبار و التراضي و إن كان قد قال في وجه الأخير: «إنها لم تخل من أحد أمرين: إما أن اقتسما بأنفسهما أو قسم بينهما قاسم لحاكم، فان اقتسما بأنفسهما لا يلتفت إلى قول المدعي، لأنه إن كان مبطلا سقط قوله، و إن كان محقا فقد رضي بترك هذه الفضلة، فلا معنى لرجوعه فيها، و إن كان القاسم قاسم الحاكم فمن قال يلزم بالقرعة قال الحكم فيها كقسمة الإجبار، و قد مضى، يعني لم تقبل، و من قال لا تلزم إلا بتراضيهما بعد القرعة فالحكم كما لو تراضيا من غير حاكم» كما أنه أشار بقوله: «قيل» إلى ما في التحرير من أن الأقرب ذلك.

ثم قال فيه أيضا: «و لو ادعى أحد الشريكين الغلط في القسمة و أنه أعطى دون حقه و أنكر الآخر فالقول قول المنكر مع يمينه، و لا تقبل دعوى المدعي إلا بالبينة، فإن أقام شاهدين على الغلط نقضت القسمة و أعيدت، و إن لم تكن هناك بينة كان له إحلاف الشريك، سواء كانت القسمة تلزم بالقرعة أو تتوقف على التراضي، كما لو اقتسما بأنفسهما، فإنه تسمع دعواه، و يحلف خصمه أيضا مع عدم البينة، و على كل تقدير فليس له إحلاف قاسم القاضي على عدم الغلط، لأنه حاكم، و لو حلف بعض الشركاء و نكل الباقون حلف مدعي الغلط، و أفادت يمينه نقض القسمة في حق الناكلين دون الحالفين» إلى غير ذلك من كلماتهم في المقام.

إلا أن ظاهر ما سمعته منها و غيره الاتفاق على اقتضائها توجه اليمين على الشريك و إن لم يدع عليه العلم، بل قيل: لم يوجد له موافق على ذلك إلا ما عساه يفهم من عبارتي المبسوط و المجمع. فما في الكفاية- من أنه لو ادعى عليه العلم مكن منه على الأشهر، و إلا ففيه قولان- في غير محله.

قلت: الظاهر أنه كما ذكر المصنف مع فرض كون القاسم غيرهما،

ج 40، ص: 363

ضرورة عدم اليمين له عليه، خصوصا إذا كان منصوب الامام (عليه السلام) لكونه أمينا لهما، فلا يمين عليه مع فرض عدم التهمة، لأن دعوى الغلط كما هو المفروض غيرها، و ليس له على الشريك اليمين على نفيه بعد أن كانت القسمة فعل غيره.

بل قد يقال: لا يمين له عليه أيضا إذا كانا قد اقتسما بأنفسهما أيضا من دون دعوى العلم، لأن دعواه من دونها لا توجب له حق اليمين على الشريك بعد اعتراف المدعي بكونه غير عالم به، إذ هو معنى الغلط، أي الخطأ بلا قصد، فلا يتوجه له يمين عليه إلا مع دعوى أنك علمت بالغلط الذي وقع منا.

و حينئذ يتجه إطلاق المصنف عدم سماع دعواه مطلقا بدون البينة، على معنى عدم اقتضائها يمينا مطلقا إلا مع دعوى العلم على الشريك، على أن القسمة فيهما من فعلهما المشترك بينهما، و الحلف على نفي فعل الغير إنما هو مع دعوى العلم به عندهم، و حينئذ لا ربط للدعوى المفروضة بالشريك على وجه يكون مدعى عليه حتى يندرج في

قولهم (عليهم السلام) : «البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه»

إلا مع دعوى علمه بذلك، و بدونها تكون دعوى مجردة عن مدعى عليه، فينحصر طريق ثبوتها بالبينة، كما تسمعه من الإسكافي، فمراد المصنف حينئذ عدم استحقاق المدعي بمجرد هذه الدعوى المفروض عدم اعتراف الشريك بها يمينا له عليه لعدم تعليقها بما يقتضيه على الشريك المفروض اعتراف خصمه بعدم علمه بالغلط المدعى به.

بل الظاهر عدم اقتضائها أيضا لو وجهها على منصوب الامام (عليه السلام) لاقتضائها فسقه بإنكاره، فهي كدعوى العلم بالخطإ على الحاكم،

ج 40، ص: 364

بل و على منصوبهما المفروض اعترافه بعدم التهمة له في قسمته، لما عرفت من كون دعوى الغلط الخطأ من غير قصد، و إنما هي بعد ذلك، بمعنى أنه علم بالغلط و أخفاه، و الظاهر أن إقراره بعد ذلك بسبب توجيه اليمين عليه أو نكوله عنه أو رده على المدعي لا يقتضي بطلان القسمة التي هي متعلق حق الغير، و لو أن هذا الإقرار يجدي في البطلان لكان الإقرار بعدم الغلط مجديا في الصحة، نعم ربما يكون لليمين فائدة عدم استحقاق الأجرة أو الغرم أو نحو ذلك، و هو غير المفروض الذي هو انتقاض القسمة، فتأمل.

و بذلك يظهر لك النظر في جملة من الكلمات السابقة بل و غيرها مما لم ننقله أيضا فلاحظ و تأمل.

نعم ما يحكى عن أبي علي قد يظهر منه موافقته المصنف، قال:

«و لو ادعى أحد الشركاء غلطا لم تنقض القسمة حتى يقيم المدعي البينة بالغلط» بل يمكن تقييد إطلاق اليمين في العبارات السابقة بما إذا ادعى العلم أو بالمستفاد من عبارة التحرير، و هو فرض إنكار الخصم بالتصريح بعدم الغلط في وجوب الدعوى، و حينئذ يتوجه له اليمين عليه، لتحقق الإنكار حينئذ، و هو غير المفروض في عبارة المتن الذي هو مجرد دعوى الغلط، فتأمل جيدا فإنه دقيق.

ثم لا يخفى عليك أن ما في التحرير من قبول شهادة القاسم إذا لم يكن بأجرة لا يخلو من نظر، كما يشعر به نسبته إلى القيل في الدروس من حيث رجوعها إلى أنها شهادة على فعل نفسه، فتخرج عن المنساق من موضوع الشهادة من غير فرق بين الأجرة و عدمها، نعم يبقى قبول إخباره من حيث كونه أمينا، و هو غير الشهادة، و لا تفاوت فيه بين الأجرة و عدمها على الظاهر، نعم ما ذكره من اختصاص الناكلين من

ج 40، ص: 365

الشركاء حيث يتوجه عليهم اليمين ببطلان القسمة في حقهم بعد حلف المدعي اليمين المردودة على الأصح جيد و إن حكي عن الشهيد في بعض فوائده بطلان أصل القسمة، لأنها شي ء واحد فلا تتبعض، إذ هو كما ترى، ضرورة إمكان تعددها في الظاهر بالنسبة إلى أحكامها و إن اتحدت في الواقع، كما في سائر النظائر، و الله العالم.

[الثانية إذا اقتسما ثم ظهر البعض مستحقا فإن كان معينا مع أحدهما بطلت القسمة]

الثانية: إذا اقتسما مثلا ثم ظهر البعض مستحقا فإن كان معينا مع أحدهما بطلت القسمة بلا خلاف بل و لا إشكال لبقاء الشركة حينئذ في النصيب الآخر لعدم التعديل و لو كان فيهما بالسوية لم تبطل بلا خلاف أيضا و لا إشكال لأن فائدة القسمة باق، و هو إفراز كل واحد من الحقين بعد إخراج المستحق، نعم عن بعض العامة احتمال البطلان لتبعض الصفقة، من غير فرق في ذلك بين اتحاد جهة الاستحقاق و تعددها و بين اتحاد المستحق و تعدده.

نعم ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يحدث نقصا في حصة أحدهما خاصة بأخذه و لم يظهر به تفاوت بين الحصتين، مثل أن يسد طريقه أو مجرى مائه أو ضوئه، فإن القسمة حينئذ باطلة، لبطلان التعديل.

و منه يعلم قوة بطلانها لو ظهر في نصيب أحدهما عيب لم يعلم قبل القسمة، لفقد التعديل، لكن ظاهر التحرير التخيير بين فسخها و بين الرجوع بالأرش كالبيع، و هو مشكل خصوصا مع القول بعدم قابليتها للفسخ، بل متى صحت لزمت و لا تعود إلا بسبب جديد مقتض للشركة، فما في القواعد من جريانه فيها إذا اتفقا عليه محل نظر و تأمل، إذ ليس في أدلة الإقالة ما يقتضي مشروعيتها في فسخ سبب الافراز و التعيين كي يخرج به عن الأصل، و الله العالم.

و لو كان المستحق فيهما معا لكن لا بالسوية

ج 40، ص: 366

بطلت القسمة أيضا لتحقق الشركة كما هو واضح.

و على كل حال فلا يضمن أحدهما درك ما يحدثه الآخر من غرس أو بناء لو ظهر الاستحقاق، لعدم كون القسمة بيعا عندنا. و كذا لا يضمن له العيب المتجدد في الثلاثة.

و إن كان المستحق مشاعا معهما فللشيخ قولان: أحدهما لا تبطل فيما زاد عن المستحق، و الثاني تبطل، لأنها وقعت من دون إذن الشريك حتى لو كانت الإشاعة في نصيب أحدهما خاصة و هو الأشبه بأصول المذهب و قواعده.

و لا فرق في جميع ما سمعت بين أن يكونا عالمين بالاستحقاق أو جاهلين أو أحدهما جاهلا دون الآخر، فان القسمة مع العلم بالاستحقاق المبطل للتعديل لا يدل على انتقال نصيب أحدهما أو شي ء منه إلى الآخر انتقالا لازما، و غاية ما يلزم العلم رضا أحدهما بنقصان نصيبه مع سلامة المستحق له.

هذا و ربما ظهر من تعليل المصنف و غيره الصحة مع الاذن على أن تكون حصته مشاعة معهما، و حينئذ فلحوقها كاف. و أولى منه بذلك لو ظهر تعدد الشركاء في السهمين مثلا و رضوا بما وقع من القسمة، إذ الظاهر جريان الفضولية فيها.

كما أن الظاهر جواز القسمة مع التراضي بينهم بإفراز حصة جملة من الشركاء عن جملة أخرى، فإذا أراد أحد الفريقين تمييز سهامهم اقتسموا بينهم قسمة أخرى و هكذا، بل و غير ذلك من الصور المتصورة في المقام حتى ما أشرنا إليه من القسمة بين الشريكين و بقاء الثالث على الإشاعة في نصيب كل منهما، فإنه و إن لم يتميز حقه بالخصوص كما أنه لم يتميز حق كل منهما عن تمام الشركة و لكن تميزهما عن الآخر و انقطاع

ج 40، ص: 367

شركة الثالث عن المجموع كاف في صحتها المستفادة من مشروعية ما تعينه القسمة من المقطوع به كتابا(1)و سنة(2)و إجماعا، فكلما لم يعلم فساده محكوم بصحته على نحو ما عرفته في غيرها.

و تعريفها بأنها تمييز الحقوق لا يقتضي اشتراط صحتها بوقوعها على ما يقتضي إفراز كل سهم و إن رضي الشركاء باجتماع بعض مع بعض و بقاء سهم بعضهم مشاعا مع كل واحد من المقتسمين، بل في بعض أدلة القرعة(3)ما يقتضي شرعيتها في القسمة مشاعا مرات متعددة.

بل كلامهم كالصريح في قسمة مختلف السهام بجواز اقتضاء القرعة خروج سهم أحدهم و بقاء الباقي على الإشاعة، و بجواز ما سمعته من الصور المشتملة على الاحتراز عن التفرق في الملك، و غير ذلك مما يقتضي البناء على الأصل المزبور في مشروعية القسمة حتى يعلم الفساد، لا أن المشروع منها مجمل فكلما شك فيه يبقى على أصل الاشتراك، و إلا لأشكل الحال في كثير من صورها المصرح بجوازها مع التراضي مثل قسمة العبدين الخسيس و النفيس المقتضية لبقاء الإشاعة في النفيس دون الخسيس و غيرها من الصور، و الله العالم.

[الثالثة لو قسم الورثة تركة ثم ظهر على الميت دين فلا ريب في صحة القسمة]

الثالثة: لو قسم الورثة تركة ثم ظهر على الميت دين فلا ريب في صحة القسمة و إن كان الدين مستوعبا، بل مع العلم بوجود الدين بناء على المختار من كونها ملكا لهم معه، و تعلق حق الدين بها لا ينافي صحة القسمة و إن بيع نصيب الممتنع منهم من وفائه،


1- 1 سورة النساء: 4- الآية 8 و سورة القمر: 54- الآية 28.
2- 2 الوسائل الباب- 2 و 7- من كتاب الشفعة.
3- 3 الوسائل الباب- 30- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 1 و 4 من كتاب الأطعمة و الأشربة.

ج 40، ص: 368

إذ هو كما تعلق بها مع كلية سهم الوارث يتعلق بها مع تشخصه.

و حينئذ فقول المصنف فان قام الورثة بالدين لم تبطل القسمة، و إن امتنعوا نقضت، و قضى منها الدين لا يخلو من إشكال، و كذا ما في الدروس «لو اقتسم الورثة ثم ظهر دين و امتنعوا من أدائه نقضت القسمة، و لو امتنع بعضهم بيع نصيبه» بل و ما في القواعد «و لو قسم الورثة التركة و ظهر دين فإن أدوه من مالهم و إلا بطلت القسمة، و لو امتنع بعضهم من الأداء بيع من نصيبه خاصة بقدر ما يخصه من الدين، و لو اقتسموا البعض و كان في الباقي وفاء أخرج منه الدين، فان تلفت قبل أدائه كان الدين في المقسوم إن لم تؤد الورثة».

اللهم إلا أن يريدوا بالنقض ما ذكروه من البيع كما هو ظاهر المسالك أو صريحها لإفساد القسمة و رجوع المال إلى الإشاعة، و إلا لاتجه بطلانها أيضا بامتناع البعض، ضرورة اقتضاء فسادها في البعض فسادها في الجميع، كما هو واضح.

نعم قد يشكل أصل جوازها مع استيعاب الدين بناء على مختاره من كونها على حكم مال الميت بأنه ليس للورثة حينئذ القسمة، لعدم الملك لهم، كما اختاره في كشف اللثام، بل و مع عدم الاستيعاب بناء على بقاء ما قابل الدين منها مشاعا على حكم مال الميت.

لكن قد يجاب عن ذلك باكتفاء هؤلاء بتعلق حق الوارث بها في جواز القسمة التي هي غير منافية لتعلق حق الدين فتأمل.

و لو ظهرت وصية تمليكية بعد القسمة ففي المسالك «فان كانت بمال فهو كما ظهر دين، و إن كانت بجزء شائع أو بعينه فعلى ما ذكرنا في ظهور الاستحقاق» و سبقه إلى ذلك في الدروس «و الوصية بجزء من المقسوم تبطل القسمة، بخلاف الوصية بالمال المطلق، فإنها كالدين»

ج 40، ص: 369

و سبقه إليه أيضا في القواعد «و لو ظهرت وصية بجزء من المقسوم فكالمستحق، و إن كانت بمال فكالدين».

و فيه أن الأول يتم إن لم نقل برجوعه إلى الإشاعة في التركة و إلا أشكل الصحة حينئذ، ضرورة كونه حينئذ كالقسمة مع الوصية بجزء مشاع في البطلان، لعدم إذن الشريك، بل يمكن البطلان بناء على أنه كلي في التركة نحو الصاع من الصبرة في أحد الاحتمالين، لأنه ليس كالدين في الذمة، بل هو كلي في التركة، فلا تجوز القسمة بدون إذن الموصى له، لأنه مالك للمقسوم في الجملة، إذ الكلي موجود بوجود أفراده، بل لا يعقل ملك الكلي في الخارج، و لا محل له. و بذلك يفترق عن الدين الذي محله الذمة و إنما تعلق في التركة استحقاق الغرماء.

اللهم إلا أن يقال: إنه باعتبار كون الموصى به كليا و لكن تعيين الفرد بيد الوارث فلا ينافي صحة القسمة حينئذ مع قيام الوارث بدفع الفرد منها و لو موزعا على الأنصباء، نحو ما سمعته في الدين، كما لا يمنع البائع من بيع باقي الصبرة قبل دفع الصاع منها على المشتري بناء على أنه كلي منها، إلا أنه لا يخفى عليك ما فيها معا من التأمل، و الله العالم.

و من اللواحق أيضا أنه لو أخذ أحد الشريكين بيتا في دار و الآخر غيره و بيت الأول يجري ماؤه في حصة الثاني لم يكن للثاني منعه من الجريان عليه، فان التعديل قد كان بأن يكون لكل منهما حصة بحقوقها، إلا أن يشترط حين القسمة رد الماء عنه، فإن أطلق بقي على حاله.

و لو وقع الطريق لأحدهما و كان لحصة الآخر منفذ و طريق إلى الدرب صحت القسمة و إلا بطلت، لانتفاء التعديل إلا أن يجعل عليه مجازا في حصته أو يشترط سقوط المجاز، خلافا لما عن القاضي من بطلان اشتراط سقوط المجاز.

ج 40، ص: 370

و لو كان مسلك البيت الواقع لأحدهما في نصيب الآخر من الدار فهو كمجرى الماء.

و منها أن لولي الطفل و المجنون المطالبة بالقسمة، لكن في القواعد «مع الغبطة لهما» و عليه الحصة من أجرة القسمة من مال المولى عليه لا بدونها» بل في كشف اللثام «و إن انتفت المفسدة و اكتفينا في تصرفات الولي بانتفائها، فان الإجبار بمجرده غير معلوم» و إن كان فيه بحث.

و إن طلب الشريك القسمة و انتفى الضرر أجبر الولي عليها و إن كانت الغبطة في الشركة، للقاعدة السابقة، و عليه الحصة من الأجرة من مال المولى عليه، و عن التحرير احتمال العدم، لأن أخذ الأجرة من ماله- و لا غبطة له- إجحاف.

و أما الكلام في المهاياة و قسمة الوقف فقد تقدم الكلام فيهما في كتاب الشركة(1)و الله العالم.

[النظر الرابع في أحكام الدعاوي]

اشاره

النظر الرابع في أحكام الدعاوي و هي تستدعي بيان مقدمة و مقاصد،

[أما المقدمة فتشتمل على فصلين]
اشاره

أما المقدمة فتشتمل على فصلين:


1- 1 راجع ج 26 ص 313 و 315.

ج 40، ص: 371

[الفصل الأول في المدعي]

الأول: في المدعي الذي قد استفاض في النصوص(1)أن البينة عليه، كما استفاض(2)كون اليمين على المدعى عليه، و من أنكر كما في بعض النصوص(3).

و على كل حال فالمرجع فيهما العرف على حسب غيرهما من الألفاظ التي لم تثبت لها حقيقة شرعية و لا قرينة على إرادة معنى مجازي خاص، و ما عن بعض الناس من ثبوتها في المدعي واضح الفساد، نعم ربما ثبت حكم المنكر للمدعي كما في دعوى الرد للودعي و غيره، لا أنه يكون بذلك مدعى عليه، فلا مرجع حينئذ إلا العرف الذي لا اشتباه فيه في كثير من أفراده بل جميعها، و لعله لذا اقتصر في الصحاح على قوله: «ادعيت على فلان كذا، و الاسم الدعوى» و مع فرض الاشتباه ينحصر الإثبات بالبينة التي هي حجة شرعية، و مع فرض تعارضها تلتمس المرجحات و إلا فالقرعة كما ستعرف.

و حينئذ فالواقع من المصنف و غيره بل قيل: إنه المشهور من تفسيره بأنه هو الذي يترك لو ترك الخصومة أي سكت عنه لو سكت عنها لا يراد منه إلا الإشارة إلى تميز معناه العرفي في الجملة، نحو التعاريف اللفظية، فلا يناقش بعدم الانعكاس أو عدم الاطراد، ضرورة عدم كون ذلك معنى للمدعي المراد به هنا من قام به إنشاء الدعوى التي هي الاخبار الجازم المقتضي لترتب الحق على الغير أو الخروج من الحق الذي له عليه، و إنما هو من لوازم الدعوى الأولى، بخلاف


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.
2- 2 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.
3- 3 الوسائل الباب- 25- من أبواب كيفية الحكم الحديث 3.

ج 40، ص: 372

الثانية التي هي نحو دعوى الإعسار و الوفاء و رد المغصوب و الوديعة و نحوهما مما لا يترك عن المطالبة بالحق لو ترك الدعوى بذلك. و قد اعترف به في المسالك في دعوى الرد من الأمين و إن اشتبه بذكر ذلك في وجه كونه مدعيا.

و من ذلك يعلم ما في كلام جماعة أن هذا التفسير هو المتبادر المتناسب لما ذكره غير واحد من كون الدعوى بمعنى الطلب الذي منه «وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ»(1).

مضافا إلى معلومية التغاير بين الدعوى بمعنى التداعي الذي هو المخاصمة و بينها بمعنى التمني، و إلى عدم انطباقه على دعوى الزوج عدم التصرف بالزوجة مع الخلوة، فإنه مدع عندهم و لا يترك لو ترك هذه الدعوى، فإن الزوجة تطالبه بتمام المهر بدعوى دخوله بها، و الفرض أن القول قولها معها.

و لعله لذا قيل: إن المدعي هو الذي يدعي خلاف الأصل، أو أمرا خفيا منافيا للظاهر الشرعي، فإنه حينئذ أشمل من الأول، لاندراج دعوى الحق له و الخروج عما عليه فيه، لكونهما معا مخالفين للأصل، و اندراج دعوى ما يخالف الظاهر شرعا فيه أيضا، و عن بعضهم حكاية التفسير بالمعطوف خاصة عن بعض و بالمعطوف عليه خاصة عن آخر، و حينئذ تكون الأقوال الأربعة.

لكن ظاهر المصنف و النافع و غيره انحصار الخلاف في قولين، و لعله لأن دعوى تفسيره بالأخير خاصة مما لا ينبغي صدوره، ضرورة عدم منافاة أكثر الدعاوي للظاهر الذي هو مقتضى العادة و نحوها، لا أن المراد به و لو من جهة الأصل الذي لم يعهد التعبير به، بل في الغالب


1- 1 سورة يس: 36- الآية 57.

ج 40، ص: 373

يجعل مقابلا للأصل، و كذا تفسيره بالمعطوف عليه. فإنه مناف لما يخالف الظاهر و كيف عرفناه فالمنكر في مقابلته.

و على كل حال لا يخفى عليك أيضا أنه ليس شي ء منها منطبقا على معنى المدعي الذي قد عرفت، و إنما المراد بتعريفه بذلك التمييز بذكر شي ء من خواصه اللازمة أو الغالبة و إن خرجت عن مفهومه.

مع أنه قد يناقش أيضا بأن فيه إجمالا، لأنه إن كان المراد مخالفة مقتضى كل أصل بالنسبة إلى تلك الدعوى فلا ريب في بطلانه، ضرورة أعمية المدعي من المخالفة للأصل، فان كثيرا من أفراده موافقة لأصل العدم و غيره، و لكنها مخالفة لأصل الصحة و نحوه، و إن أريد مخالفة أصل في الجملة فلا تمييز فيه عن المنكر الذي قد يخالف أصلا من الأصول.

و أما تمييزه بمخالفته الظاهر فالظاهر إرادة إدراج ما ثبت في الأدلة الشرعية من تقديم قول مدعي الظاهر بيمينه في مقامات خاصة، فيكون المخالف له حينئذ مدعيا، و من هنا كان الوجه ذكر ذلك منضما إلى دعوى مخالفة الأصل في تفسير المدعي لا مقتصرا عليه، لخلو كثير من الدعاوي عنه.

و حينئذ قد يقال: إن ذلك ليس بأولى من القول بأنه من قبول دعوى المدعي بيمينه للدليل، نحو ما ذكروه في دعوى الرد من الودعي، و دعوى التلف من الأمين و نحو ذلك، بل هذا أولى، ضرورة صدق كون المرأة هي المدعية لدخول الزوج بها مع الخلوة، و كذا غير ذلك من المقامات التي ثبت من الأدلة تقديم موافق الظاهر على مخالفه حتى مدعي الصحة على مدعي الفساد الذي هو مقتضى الأصول العقلية.

و بذلك ظهر لك أنه ليس مدار المدعي و المدعى عليه عرفا من يقدم قوله بيمينه و من يطلب منه البينة، فإنه قد يكون مدعيا عرفا و يقبل قوله بيمينه.

ج 40، ص: 374

كما أنه ظهر لك صدق المدعي عرفا مع موافقته الأصل و الظاهر، بل و لا يترك إذا ترك.

كل ذلك مع شدة الخفاء في تفسير المدعي بأنه الذي يدعي أمرا خفيا، ضرورة عدم تفاوت الخفي و الظاهر في صدق المدعي و المدعى عليه.

و أعظم من ذلك كله أنهم جعلوا هذه التعاريف المتعددة اختلافا من ذويها في معنى المدعي، حتى أنهم رتبوا الأحكام عليها عند اختلاف مقتضاها الذي ذكروا مثاله اختلاف الزوجين قبل الدخول إذا أسلما في معية الإسلام و تعاقبه و نحو ذلك.

فقال في القواعد: «المدعي هو الذي يترك لو ترك الخصومة، أو الذي يدعي خلاف الظاهر أو خلاف الأصل، و المنكر في مقابلته، و لو أسلما قبل الوطء فادعى الزوج التقارن فالنكاح دائم، و ادعت التعاقب فالزوج هو الذي لا يترك و سكوته، و المرأة تدعي الظاهر، و هو التعاقب، لبعد التقارن، ففي تقديم قول أحدهما احتمال».

و في الدروس «المدعي هو الذي يخلى و سكوته، أو يخالف الأصل أو الظاهر، و المنكر بإزائه، و الفائدة في مثل دعوى الزوج تقارن الإسلام قبل المسيس و المرأة تعاقبه، فعلى الظاهر الزوج مدع، و على التخلية هي، لأنها لو سكتت لم يتعرض الزوج و استمر النكاح، و الزوج لا يخلى، و كذا على مخالفة الأصل، و في دعوى الزوج الإنفاق مع اجتماعهما و إنكارها».

و على هذا المنوال جرى ثاني الشهيدين في المسالك و الروضة و الأردبيلي في مجمع البرهان و الأصبهاني في كشفه و السيد في رياضة و غيرهم.

و الأصل في ذلك الشافعي، قال في الروضة للرافعي: «في معرفة المدعي و المدعى عليه قولان مستنبطان من اختلاف قول الشافعي في مسألة

ج 40، ص: 375

إسلام الزوجين، أظهرهما عند الجمهور أن المدعى من يدعي أمرا خفيا يخالف الظاهر، و الثاني من لو سكت خلي و سكوته و لم يطالب بشي ء، فإذا ادعى زيد دينا في ذمة عمرو أو عينا في يده فأنكر فزيد هو الذي لو سكت ترك، و هو الذي يذكر خلاف الظاهر- إلى أن قال-: فزيد مدع بمقتضى القولين، و عمرو مدعى عليه، و لا يختلف موجبهما غالبا، و قد يختلف، كما إذا أسلم زوجان قبل الدخول، فقال الزوج: أسلمنا معا فالنكاح باق، و قالت: بل على التعاقب و لا نكاح، فان قلنا: إن المدعي من لو سكت ترك فالمرأة مدعية، فيحلف و يستمر النكاح، و إن قلنا بالأظهر فالزوج مدع، لأن ما يزعمه خلاف الظاهر، و هي مدعى عليها، فتحلف و يرتفع النكاح» إلى آخر ما ذكر مما هو مسطور في كلمات الأصحاب، خصوصا المسالك منها.

و الذي يظهر أن المدعي و المدعى عليه معنى واحد، و ليس هذا اختلافا في معناهما على وجه يوجب اختلاف الأحكام، و إنما ذكروا تعريفه ببعض الخواص لإرادة التمييز في الجملة، و إلا فمن المقطوع أنه ليس بشي ء منها معنى المدعى، و خصوصا المراد به هنا، و هو الذي من التداعي بمعنى المخاصمة، و لعله لذا جعله في اللمعة من كيفية الحكم، و ربما كان هو المومى إليه ب

قوله (عليه السلام)(1)«استخراج الحقوق بأربعة»

و بقوله (عليه السلام)(2): «بالقضاء بالشاهد و اليمين في


1- 1 الوسائل الباب- 7- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 4.
2- 2 الظاهر أنه قده أراد به ما في صحيح محمد بن مسلم المروي في الوسائل- الباب- 14- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 12 حيث قال عليه السلام: «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأما ما كان من حقوق الله عز و جل أو رؤية الهلال فلا» و لم نجد نص ما ذكره قده بعينه في الأخبار.

ج 40، ص: 376

حقوق الناس دون حقوق الله».

و حينئذ فالمراد به الذي قام به إنشاء الخصومة في حق له أو خروج من حق عليه، سواء وافق الظاهر و الأصل بذلك أو خالفهما، و سواء ترك مع سكوته أو لم يترك، فان المدعي عرفا لا يختلف باختلاف ذلك.

و حينئذ ففي مسألة الإسلام كل من الزوج و الزوجة مدعى لو كان مصب دعواهما ذلك، و الزوجة خاصة مدعية لو كان دعواها انفساخ النكاح و الزوج بقاؤه و بالعكس.

و كيف كان فالرجوع إلى العرف في مصداقهما أولى من ذلك كله، و لعله لا اشتباه فيه بعد امتياز خصوص الدعوى بين المتخاصمين، نعم قد يقدم قول المدعي بيمينه في مقامات كثيرة للأدلة الخاصة، و ذلك لا يخرجه عن كونه مدعيا، و إنما يخرج عن الحكم بأن عليه البينة، و ليس كل من قدم قوله بيمينه منكرا، و كل من طلب منه البينة مدعيا. و من ذلك دعوى الودعي رد الوديعة و دعوى الأمين تلف المال و غير ذلك، بل لعل منه تقديم قول مدعي الصحة، فإنه مدع، و لكن قدم قوله بيمينه، فتأمل فإنه بما ذكرنا يظهر لك النظر في كلمات كثيرة في المقام، و الله الهادي.

و كيف كان فلا خلاف في أنه يشترط فيه أي المدعي البلوغ و العقل، و أن يدعي لنفسه أو لمن له ولاية الدعوى عنه، و ما يصح منه تملكه، فهذه قيود أربعة، فلا تسمع دعوى الصغير و لا المجنون بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم، بل هو إجماع مضافا إلى انسياق غيرهما من الأدلة، بل الدعوى أيضا إنشاء يترتب عليه أحكام، و عبارته مسلوبة عنه، كغيرها من الإنشاءات، لاتفاق النص(1)الفتوى على أنه لا يجوز أمره حتى يبلغ.


1- 1 الوسائل الباب- 4- من أبواب مقدمة العبادات الحديث 2.

ج 40، ص: 377

و لا دعواه ما لا لغيره إلا أن يكون وكيلا أو وصيا أو وليا كالأب و الجد أو حاكما أو أمينا لحاكم بلا خلاف أجده في حكم المستثنى منه، لأصالة عدم وجوب الجواب لغيرهم ممن لا حق له، لكن قد يشكل بالمرتهن و الودعي و المستعير و الملتقط و نحوهم، فان التزام عدم سماع دعواهم على وجه لا تقبل منهم البينة

على من غصب منهم ذلك مثلا كما ترى، و لا يندرج أحد منهم في أحد هؤلاء، اللهم إلا أن يدعى اندراجهم في الولي في المتن بدعوى عموم الولاية لمثل ذلك.

لكن فيه أن غير المصنف قد صرح بإرادة الأب و الجد من الولي، أو يقال: إن المراد نفي سماع دعوى المال لغيرهم، لا نفي سماعها من حيث حق العارية و الرهانة مثلا، كما أنه قد يشكل أيضا بدعوى المحتسبين أموال الأطفال و المجانين مثلا، فان عدم سماع دعواهم مشكل، و اندراجهم في أحد هؤلاء أشكل، اللهم إلا أن يتوكلوا من الولي الذي هو غير عالم بالحال، و مع فرض عدم وجوده يكون المحتسب وليا.

و لا في حكم المستثنى و إن قال بعض مشايخنا: «لا يحلف الولي و لا يحلف، إذ لا فائدة للمولى عليه في ذلك، إذ لعله إذا بلغ صالح» و فيه أن عموم الولاية يقتضي أن له التحليف الذي هو حق من حقوقه فله استيفاؤه، على أنه قد تقتضي المصلحة ذلك أيضا.

و كذا لا تسمع دعوى المسلم خمرا أو خنزيرا و نحوهما مما لا يصح تملكه له، نعم لا بأس بدعوى استحقاق ثمنها حال عدم الإسلام.

و لا بد في السماع أيضا من كون الدعوى صحيحة في نفسها، فلا تسمع دعوى المحال عقلا أو عادة أو شرعا لازمة أي ملزمة للمدعى عليه فلو ادعى هبة لم تسمع حتى يدعي الإقباض، و كذا لو ادعى رهنا أو وقفا بناء على اعتبار القبض في الصحة، إذ

ج 40، ص: 378

لا حق له عليه بدونه، و في كشف اللثام «فإن الإنكار فيما لم يلزم رجوع، أو لأنه مع الإثبات لا يجبر على التسليم» و في الأول منع واضح، و في الدروس التعبير عن ذلك بقوله: «و كل دعوى ملزمة معلومة فهي مسموعة، فلا تسمع دعوى الهبة من دون الإقباض، و كذا الرهن عند مشترطه فيهما، و لا البيع من دون قوله: و يلزمك تسليمه إلى، لجواز الفسخ بخيار المجلس».

و كيف كان فلا أجد خلافا بينهم في الحكم المزبور، بل و لا إشكالا.

نعم عن الأردبيلي «ما المانع من أن يدعي الصحة أولا فيثبتها و يدعي اللزوم، ثم إنه يرد عليهم مثله فيما إذا ضم إليها دعوى القبض، إذ لعل الموهوب له أجنبي، على أنه يرد مثله في دعوى البيع، إذ على هذا لا بد من دعوى انقضاء المجلس أو الأيام الثلاثة في الحيوان و لا قائل به.

و فيه أن الصحة بدون القبض ليس حقا لازما للمدعى عليه، ضرورة رجوع ذلك إلى التهيؤ للصحة مع تمام ما يعتبر فيها، و هبة الأجنبي مع القبض صحيحة، و يترتب عليها الأثر و إن جاز له الفسخ، فان المراد باللازمة المقتضية للاستحقاق على المدعى عليه، لا كون المدعى به أمرا لازما على وجه لا يكون به خيار للمدعى عليه، و ما سمعته من الدروس إنما يراد به إتمام الدعوى بما تكون به حقا لازما للمدعى عليه، إذ يمكن مع البيع الفسخ بخيار أو إقالة أو غير ذلك، فيحتاج إلى التتمة المزبورة ليثبت الاستحقاق، لا أن المراد اعتبار اللزوم في صحة دعوى البيع.

و منه يعلم النظر في ما بقي من كلامه نعم قد يقال: إن المنساق من الهبة المقبوضة، فيكفي في صحة دعواها حينئذ، و كذا الرهن و الوقف و لكن فيه منع، و على تقديره فهو بحث لفظي، و الله العالم.

و لو ادعى المنكر فسق الحاكم أو الشهود و لا بينة فادعى علم المشهود له ففي توجه اليمين على نفي العلم تردد كما عن التحرير و الإرشاد

ج 40، ص: 379

و غاية المراد أشبهه عدم التوجه كما في الدروس و المسالك و محكي الإيضاح و غيره لأنه أي المدعى به ليس حقا لازما للمدعى عليه و قد عرفت اعتباره في سماع الدعوى ف لا تثبت الدعوى المزبورة حينئذ بالنكول على القول بالقضاء به و لا باليمين المردودة على القول الآخر، و لأنه أي القول بتوجه اليمين يثير فسادا و هو اجتراء الناس على تحليف كل من حكم له أو شهد له، بل هو كالدعوى على الشهود بالكذب بل و الحاكم بالفسق الذي هو مناف لمنصب الحكومة الذي قد عرفت سابقا عدم سماع الدعوى عليه بفسق أو جور إلا بالبينة.

و ربما علل بعضهم الحكم المزبور بعدم ثبوته بالنكول و اليمين المردودة، و ظاهره المفروغية منه، بل ربما فسر عبارة المتن بذلك بعد إبدال الفاء بالواو، و مقتضاه حينئذ عدم بطلان الحكم بالعلم بالفسق من المدعي و إن كان لو أقر بذلك بطل الحكم في حقه، لعموم دليل الإقرار، بخلاف العلم بالفسق و استحلاله المال، لكون المفروض العلم واقعا أنه ماله، نعم لو كان طريقه إليه شهادة الشهود مثلا و كان عالما بفسقهم لم يحل له، فتأمل جيدا.

و لكن قد يناقش بمنعه أولا بعد فرض توجه اليمين له، و بعدم التلازم بين توجه اليمين و استحقاق رده، كما في كثير من المواضع، بل قد يناقش في أصل عدم توجه اليمين، لإطلاق

«البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه»(1)

و بأن له حقا يترتب عليه إذا أقر بذلك، و يكفي ذلك في كونه حقا لازما.

و من هنا مال الأردبيلي (قدس سره) إلى توجه اليمين في غير


1- 1 الوسائل الباب- 2- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 380

دعوى العلم بفسق الحاكم لما فيه من الفساد، كدعوى كذب الشهود و جوره.

و فيه أن الفساد بالدعوى على الحاكم، أما الدعوى على غيره فلا فساد فيه، على أن دعوى الجرح لا فساد فيها، بل عن العلامة توجه اليمين في الدعوى على الشهود بالكذب- و إن كان هو كما ترى- مناف لمذاق الشرع.

و كذا لو التمس المنكر يمين المدعي منضمة إلى الشهادة لم تجب إجابته، لنهوض البينة بثبوت الحق فلا دعوى له عليه بحق لازم بلا خلاف فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى النص(1)من غير فرق في ذلك بين العين و الدين، و قد تقدم الكلام فيه سابقا.

لكن في القواعد مع ذكر الحكم المزبور قال: «و لو التمس المنكر بعد إقامة البينة عليه إحلاف المدعي على الاستحقاق أجيب إليه و لو التمس المنكر يمين المدعي مع الشهادة لم يلزم إجابته».

و يمكن أن يريد في الأول الحلف على الدين بعد دعوى البراءة منه، إذ التماس الإحلاف دليل على ذلك، أو المراد أنه لو ادعى أنه أقرضه مثلا مائة درهم و شهدت البينة على التسليم دون الثبوت في الذمة فالتمس المنكر الحلف على الاستحقاق أو اليمين على الاستحقاق فعلا الذي شهدت البينة على أصله، نحو

يمين الاستظهار الذي يمكن من فحواه الاستدلال على المقام و إن فرق بينهما بتوقف الإجابة هنا على سؤال المنكر بخلافه في الاستظهار، و لعل

قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح(2): «و رد اليمين على المدعي مع بينته، فان ذلك أجلى للعمى و أثبت في القضاء»

محمول على نحو الفرض.

و عن المبسوط «و كيف يحلف؟ قال قوم: يحلف ما اقتضاه


1- 1 الوسائل الباب- 8- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1 و 2.
2- 2 الوسائل الباب- 1- من أبواب آداب القاضي- الحديث 1.

ج 40، ص: 381

و لا شيئا منه، و لا اقتضى له و لا شي ء منه، و لا أجال به و لا بشي ء منه، و لا أبرأه و لا عن شي ء منه، و أن حقه لثابت، و لا اقتضى له مقتض بغير أمره فأوصل إليه، قال: فان ادعى أنه قد أبرأه منه أو قد أجال به لم يحلف المدعى عليه على أكثر من الذي ادعاه عليه، و إن كانت الدعوى مبهمة فقال: ما له قبلي حق أو قد برئت ذمتي من حقه احتاج إلى هذه الألفاظ كلها حتى يأتي بجميع جهات البراءة، و من الناس من قال: أي شي ء ادعى، فان المدعى عليه يحلف ما برئت ذمتك من ديني فإذا قال هذا أجزأه، لأنها لفظة تأتي على كل الجهات، فإن الذمة إذا كانت مشغولة بالدين أجزأه أن يقول ما برئت ذمتك من حقي، و هذا القدر عندنا جائز كاف و الأول أحوط و آكد، فأما قوله و إن حقي لثابت فلا خلاف أنه ليس بشرط» انتهى.

و ظاهر أول كلامه الموافقة على الحلف على الاستحقاق من دون دعوى البراءة أو غير ذلك مما لا ينافي الحكم الأول الذي لم يخالف فيه هو و لا غيره منا، كما هو واضح.

في الثاني الشهادة على العين الذي لم يخالف فيه إلا التبعي و النخعي و شريح و ابن أبي ليلى من العامة، لأن الشهادة فيها على الملك الفعلي كي تصلح معارضة لليد، فلا تحتاج إلى يمين، و الله العالم.

و كيف كان ف في الإلزام بالجواب عن دعوى الإقرار تردد منشأه أن الإقرار لا يثبت حقا في نفس الأمر فلا توجب دعواه حقا لازما للمدعى عليه بل إذا ثبت قضى به ظاهرا فينحصر طريقه بالبينة حينئذ، و أنه ينتفع به مع التصديق به في حق لازم، فإنه إذا أقر بإقراره ثبت الحق.

لكن في القواعد و المسالك و محكي الإيضاح و غاية المرام أن الأقرب

ج 40، ص: 382

الثاني، و لعله كذلك لأن المدار على ثبوت الحق ظاهرا، فنكوله عن ذلك يثبت عليه الحق، أو مع يمين المدعي الذي يجوز له الحلف عليه و الأخذ به و إن لم يعلم استحقاقه من غير جهة إقراره الذي له الأخذ به ما لم يعلم كذبه، لجواز استناده إلى سبب لا يعلم به، و لأنه إذا سمعت دعواه بالبينة توجه له اليمين على عدمها، لعموم

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه».

نعم قد يقال بعدم إلزامه باليمين على نفي ذلك بخصوصه إذا بذل اليمين على براءة ذمته الذي يأتي على ذلك كله، نحو ما تسمعه في عدم إلزامه بجواب دعوى أنه أقرضه أو باعه بثمن في ذمته أو نحو ذلك، معللين له بإمكان أدائه له و العجز عن إثباته، فيكفي جوابه ببراءة ذمته مما يدعيه عليه، فإنه يأتي على ذلك كله، و مثله آت هنا.

اللهم إلا أن يفرق بأن الدعوى في الأول الشغل بسبب في الواقع، فيكفي في جوابه نفي الواقع بخلاف الثاني، فإن الدعوى فيه بصدور سبب من المدعى عليه يؤخذ به و إن لم يعلم الواقع.

و فيه أن الإقرار كما يؤخذ بظاهره و إن لم يعلم صحته و قد ادعاه على خصمه كذلك البيع عليه مثلا له الأخذ بظاهره أيضا ما لم يعلم فساده و قد ادعاه على

خصمه، فكما لا يلزم هناك الجواب بنفي البيع و يكفيه الجواب ببراءة الذمة كذلك هنا، فتأمل.

و لا تفتقر صحة الدعوى إلى الكشف عن الأسباب في الأملاك المطلقة عينا كانت أو دينا بلا خلاف كما عن المبسوط، بل الإجماع بقسميه عليه، بل قيل لا مخالف فيه من العامة.

بل و لا في النكاح و لا غيره من العقود و نحوها عندنا،


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 383

بل الإجماع بقسميه عليه، خلافا للمحكي عن الشافعي في وجه له من احتياج النكاح إلى الكشف مطلقا، و في آخر أيضا ذلك إن ادعى النكاح لا الزوجية، فيقول: تزوجتها بولي و شاهدين عدلين و رضاها، و عن بعض أصحابه حمله على الندب، و عن آخر تخصيصه بما إذا ادعى ابتداءه لا استدامته و له (و للشافعية خ ل) أيضا في غيره من العقود أيضا من الاحتياج إلى الكشف مطلقا في وجه، و في خصوص ما لو تعلقت بجارية في آخر للاحتياط في الفروج و الكل كما ترى.

نعم ربما افتقرت صحة الدعوى إلى ذلك في دعوى القتل لأن أمره شديد و فائته لا يستدرك و للخلاف في أسبابه قيل: فلا بد من الوصف بالعمد أو خلافه، و بأنه قتله وحده أو مع غيره بالمباشرة أو التسبيب، و لعله لذا حكي عن المبسوط الاتفاق عليه.

لكن الانصاف عدم خلوه عن الاشكال إن لم يتم الإجماع المزبور باقتضائه بطلان دم المسلم، خصوصا مع العذر من نسيان أو اشتباه و نحوهما، بل قيل: إنه يمكن بحكم الأصل تشخيص أنه خطأ، و من هنا قال في الدروس بل و الكتاب في القصاص: «الأقرب الاكتفاء في القتل بعدم التفصيل» بل هو ظاهر الأردبيلي، بل قد يلوح من قول المصنف هنا:

«و ربما» إلى آخره نوع تأمل في إطلاق الحكم المزبور، بل ينبغي الجزم بالعدم فيما كان لكلية حكم يترتب عليه، فلا مانع حينئذ من الدعوى به و إثباته لأن يترتب عليه ذلك مع فرض عجزه عن إثبات الخصوصية، بل ربما ظهر من الأردبيلي سماع دعوى الكلي و إن لم يترتب عليه حكم، و لكنه مقدمة لإثبات الخصوصية فيما بعد.

و بالجملة لا فرق بين القتل و غيره في ذلك، فإنه مع فرض عدم ترتب حكم على الكلي في غيره لم تسمع الدعوى به أيضا، و إلا سمعت

ج 40، ص: 384

إن لم يثبت الإجماع المزبور، و ستسمع إنشاء الله في كتاب القصاص تمام الكلام في ذلك، بل منه يعلم ما في الإجماع المزبور.

و كيف كان ف لو اقتصرت المرأة على قولها: هذا زوجي كفى في صحة دعوى النكاح، و لا يفتقر ذلك إلى دعوى شي ء من حقوق الزوجية، لأن ذلك يتضمن دعوى لوازم الزوجية و للعامة قول بالاشتراط بناء على أن ذكرها لمجرد الزوجية إقرار لا دعوى، و هو واضح الضعف.

و حينئذ ف لو أنكر النكاح لزمه اليمين، و لو نكل قضي عليه على القول بالنكول، و على القول الآخر يرد اليمين عليها، فإذا حلفت ثبتت الزوجية و عن التحرير «و في تمكين الزوج منها إشكال، من إقراره على نفسه بتحريمها، و من حكم الحاكم بالزوجية» و كذا السياق لو كان هو المدعي و إن كان لا خلاف هنا في قبول دعواه من دون ضم شي ء من لوازم الزوجية، و قد تقدم في كتاب النكاح(1)بيان حكمهما مع الاختلاف، فلاحظ و تأمل. و إن كان لا إشكال في استحقاقها المهر بالوطء إن قهرها أو قلنا بوجوب التمكين لحكم الحاكم بالزوجية أو اعتقدت ذلك، و في عدم استحقاقها لشي ء منه بدون الوطء لإقرارها، و في كشف اللثام «و الظاهر استحقاقها النفقة لحبسها عليه» و فيه نظر.

و لو ادعى أن هذه بنت أمته لم تسمع دعواه كما في القواعد و الدروس و الإرشاد و المسالك و الكشف و غيرها لاحتمال أن تلد في ملك غيره ثم تصير له فلا تقتضي حينئذ الدعوى حقا لازما للمدعى عليه.

و كذا لو قال: ولدتها في ملكي، لاحتمال أن تكون حرة أو


1- 1 راجع ج 29 ص 512- 153.

ج 40، ص: 385

ملكا لغيره بالشرط و نحوه.

و كذا لا تسمع البينة بذلك ما لم يصرح بأن البنت ملكه، و كذا البينة لا تسمع ما لم تصرح بذلك لما عرفت، لكن عن لقطة المبسوط و التذكرة سماع الدعوى و البينة في الثاني، بل عن الأخير الإجماع عليه، و لعله لأصالة تبعية النماء للمال حتى يعلم خلافه، و هو كذلك حيث لا يكون لآخر يد تقضي بالملكية لها و إلا انقطع بها الأصل المزبور، كما انقطع بها ما هو أقوى من ذلك، و كلام الأصحاب هنا في الدعوى على آخر.

و مثله لو قال: هذه ثمرة نخلي مثلا.

و كذا لو أقر له من الثمرة في يده أو بنت المملوكة في يده بأنها ثمرة نخلتك و بنت مملوكتك التي ولدتها في ملكك لم يحكم عليه بالإقرار لو فسره بما ينافي الملك كما في القواعد، بأن قال: و مع ذلك هي ملكي، لما عرفت من عدم دلالة ذلك على الاعتراف بكونهما ملكا له، إذ هو أعم.

لكن في المسالك «أن ظاهر المصنف كون ذلك إقرارا بالملك مع عدم إضافة ما ينافي ذلك إليه، عملا بالظاهر من كونهما تابعين للأصل، حيث لا معارض، و لو كان هناك شي ء لذكره، فإطلاقه كونهما من الأصل الذي هو مملوك للمقر له ظاهر في تبعيتهما له بخلاف الدعوى، فان شرطها التصريح بالملك له و لو بالاستلزام و لم يحصل، و تبع المصنف على هذا الحكم العلامة في القواعد و التحرير، و الفرق بين الدعوى و الإقرار لا يخلو من إشكال، لأن الاحتمال قائم على تقدير الإقرار و الدعوى، و العمل بالظاهر في الإقرار دون الدعوى لا دليل عليه، و الفرق باشتراط التصريح فيها دونه رجوع إلى نفس الدعوى و في الإرشاد أطلق عدم سماع الدعوى و الإقرار معا، و لم يعتبر التقييد في الإقرار بتفسيره بما ينافي

ج 40، ص: 386

الملك و هذا هو الظاهر».

و فيه أنه لا ظهور في عبارتي المصنف و الفاضل باعتبار التقييد المزبور و أن المراد عدم الحكم عليه لو فسره و لو بعد حين بما ينافي الملك بأنه إنكار بعد إقرار، و ليس إلا لعدم ظهور العبارة في ذلك، و ليس المراد عدم الحكم بالإقرار إن فسره، بمعنى إضافة ذلك إليه متصلا و إلا حكم عليه به. و على كل حال فالحكم فيه كما عرفت.

و لا كذلك لو قال: هذا الغزل من قطن فلان حال كونه ملكا له أو هذا الدقيق من حنطته كذلك، فإنه إقرار، فلو عقبه بما ينافي ذلك كان إنكارا بعد إقرار، لأن الغزل و الدقيق نفس حقيقة القطن و الحنطة، و إنما تغيرت الأوصاف، فملك الأصل يقتضي ملك الفرع، بخلاف الثمرة و الولد، فإنهما منفصلان عن أصلهما جنسا و وصفا و شرعا، فالإقرار بالفرعية لا تقتضي الإقرار بالملك، و كذا في المسالك و غيرها، بل لا أجد فيه خلافا، بل هو عندهم من الواضحات.

لكن قد يشكل بأن فرض التداعي يقتضي كونه في يد آخر على جهة الملكية، و اعترافه بكونه من حنطته التي هي ملكه لا يقتضي الاعتراف بكونه ملكا له الآن، فلو عقبه بقوله: و لكنه الآن ملكي لم يكن منافيا لكلامه السابق، ضرورة احتمال تجدد الملك له بعد ذلك فيده حينئذ بحالها.

اللهم إلا أن يفرض عدم احتمال تجدد ناقل، و حينئذ يتجه كونه اعترافا به، ضرورة اقتضاء ملكية الحنطة ملكية دقيقها و ملكية القطن ملكية غزله، لعدم تصور كون الحنطة ملكا له و بصيرورتها دقيقا تخرج عن ملكه، بخلاف الأمة و الشجرة، فإنه لا مانع من كونه مالك الأصل، و الفرع ملك لغيره بشرط أو صلح أو غير ذلك على وجه يخرج من ملكه و يكون ملكا لغيره، و هذا المعنى لا يتصور في الحنطة و القطن و نحوهما،

ج 40، ص: 387

اللهم إلا أن يفرض بنذر و نحوه على خروج الحنطة عن ملكه بصيرورتها دقيقا و كذا القطن، و البحث في صحته، و الله العالم.

[الفصل الثاني في التوصل إلى الحق]
اشاره

الفصل الثاني في التوصل إلى الحق الذي هو عقوبة أو مال، فان كان الأول كالقصاص و القذف، ففي المسالك و غيرها بل في الكفاية لا أعرف فيه خلافا لا بد فيه من الرفع إلى الحاكم لعظم خطره و الاحتياط في إثباته، و لأن استيفاؤه وظيفة الحاكم على ما تقتضيه السياسة و زجر الناس.

و فيه أن إطلاق السلطان للولي و تسلط الناس على استيفاء حقوقها و غير ذلك يقتضي عدم اعتبار الرفع إلى الحاكم مع فرض معلومية الحال و إقرار الخصم، كما أنه يقتضي مباشرته لا خصوص الحاكم.

و إن كان الثاني ف من كانت دعواه عينا في يد انسان معترف بها أو معلوم حالها فله انتزاعها منه و لو قهرا بمساعدة ظالم أو بنفسه و إن استلزم ضررا بتمزيق ثوب أو كسر قفل أو نحو ذلك ما لم تثر فتنة بل و إن ثارت ما لم تصل إلى حد وجوب الكف عن الحق له لترتب تلف الأنفس و الأموال و غيره من الفساد الذي يمكن دعوى العلم من مذاق الشرع بعدم جواز فعل ما يترتب عليه ذلك و إن كان مباحا في نفسه أو مستحبا بل أو واجبا و إن لم يكن الترتيب ترتيب سببية أو علية، كما أشار (عليه السلام) إليه ب

قوله في بيع الوقف(1): «إنه ربما حصل من الاختلاف تلف الأنفس و الأموال»


1- 1 الوسائل الباب- 6- من كتاب الوقوف و الصدقات- الحديث 6 و فيه « فإنه ربما جاء في الاختلاف تلف الأموال و النفوس».

ج 40، ص: 388

بل ربما أشير إليه بقوله تعالى(1)«إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ» و غير ذلك، بل قد يستفاد من الأول كون المدار على مظنته بل احتماله احتمالا معتدا به فضلا عن العلم و لا يفتقر انتزاعها في الظاهر و الواقع على إذن الحاكم إذا كانت على الوجه المزبور.

نعم لو كان الحق دينا و كان الغريم مقرا باذلا لم يستقل المدعي بانتزاعه من دونه أو دون الحاكم لو فرض عذره بمرض و نحوه على وجه يتعذر منه التوكيل بلا خلاف بل و لا إشكال لأن للغريم نفسه تخييرا في جهات القضاء لأنه المخاطب فلا يتعين الحق في شي ء من دون تعيينه أو تعيين الحاكم مع امتناعه أي امتناع تعيينه لحبس أو مرض أو نحوهما، لأن له الولاية العامة في ذلك، و لو كان الغريم مقرا ممتنعا ففي القواعد «استقل الحاكم بالأخذ دونه» و يمكن دعوى استفادته من المتن أيضا.

و قد يشكل بإطلاق ما تسمعه من الأدلة و غيرها خصوصا مع القول به في الجاحد الذي ساوى في المسالك بينه و بين المماطل في الحكم، و اعترف الفاضل في القواعد بأن حكمه ما أشار إليه المصنف بقوله و لو كان المدين جاحدا و للغريم بينة تثبت حقه عند الحاكم و الوصول إليه ممكن ففي جواز الأخذ تردد و خلاف أشبهه وفاقا للأكثر كما في كشف اللثام و غيره الجواز، و هو الذي ذكره الشيخ في الخلاف و المبسوط (11) و محكي التهذيب و النهاية و عليه دل عموم الاذن في الاقتصاص (12) كتابا بقوله تعالى «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا»(2)


1- 1 سورة الأنفال: 8 الآية 73.
2- 2 سورة البقرة: 2 الآية 194.

ج 40، ص: 389

«وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ»(1)«فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ»(2)و سنة

«لي الواجد يحل عقوبته و عرضه»(3)

بناء على إرادة ما يشمل ذلك من العقوبة، و ما يشمل الجحود من اللي، و

«خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف»(4)

إن لم نقل ذلك إذن منه (صلى الله عليه و آله).

و خبر جميل بن دراج(5)«سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يكون له على الرجل الدين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده أ يأخذه و إن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال: نعم».

و صحيحتي داود بن رزين و ابن زربي قال في إحداهما(6): «قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): إني أخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها، و الدابة الفارهة يبعثون فيأخذونها، ثم يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ فقال: خذ مثل ذلك و لا تزد عليه».

و قال في الأخرى(7): «قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إني أعامل قوما فربما أرسلوا إلى فأخذوا مني الجارية و الدابة فذهبوا بهما مني ثم يدور لهم المال عندي فآخذ منه بقدر ما أخذوا مني؟ فقال: خذ منهم بقدر ما أخذوا منك، و لا تزد عليه»

إن لم يكن ذلك إذنا منه (ع)


1- 1 سورة البقرة: 2- الآية 194.
2- 2 سورة النحل: 16- الآية 126.
3- 3 راجع التعليقة 1 من ص 164.
4- 4 سنن البيهقي ج 10 ص 141.
5- 5 الوسائل- الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 10- 1 من كتاب التجارة.
6- 6 الوسائل- الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 10- 1 من كتاب التجارة.
7- 7 أشار إليه في الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 1 و ذكره في الفقيه ج 3 ص 115- الرقم 489.

ج 40، ص: 390

كما هو الظاهر، و مثله

خبر علي مهزيار(1).

و صحيح أبي بكر(2)«قلت له: رجل لي عليه دراهم فجحدني و حلف عليها أ يجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي؟

قال: فقال: نعم، و لكن لهذا كلام، قلت: و ما هو؟ قال: تقول: اللهم إني لا آخذه ظلما و لا خيانة، و إنما أخذته مكان مالي الذي أخذ مني لم أزد عليه شيئا»

و في

خبر آخر له(3)«اللهم إنما آخذ هذا مكان مالي الذي أخذه مني»

و في آخر له(4)«اللهم إني لم آخذ ما أخذت منه خيانة و لا ظلما، لكن أخذته مكان حقي»

إلى غير ذلك من النصوص.

و ما في الأخير من جواز الأخذ بعد الحلف منزل على الحلف من دون استحلاف أو عند غير الحاكم أو نحو ذلك حتى لا ينافي غيره من النصوص، و لا ريب في

استحباب القول المزبور و إن أطنب بعض الناس بدعوى الوجوب الذي يمكن تحصيل الإجماع على خلافها.

كل ذلك مع أنه لم نر للقائل بالمنع من شي ء يعتد به- و إن ذهب إليه المصنف في النافع، بل حكي عن تلميذه الآبي في كشفه و الفخر في إيضاحه- عدا الأصل المقطوع بما عرفت، بل يمكن معارضته بأصل عدم وجوب الرفع إلى الحاكم، و عدا دعوى قيام الحاكم مقام المالك، فمع التمكن لا يجوز بغير إذنه، و هو كالاجتهاد في مقابلة النص، و نحو ذلك


1- 1 الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به الحديث 8 من كتاب التجارة عن ابن مهزيار عن إسحاق بن إبراهيم، و مماثلته انما هو في الاذن في التقاص، و الا فهو وارد في الوديعة.
2- 2 الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 4- 5 من كتاب التجارة.
3- 3 الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 4- 5 من كتاب التجارة.
4- 4 الفقيه ج 3 ص 115- الرقم 489.

ج 40، ص: 391

من الاعتبارات التي لا تصلح مدركا للحكم فضلا عن معارضة الدليل.

هذا كله مع التمكن من الإثبات عند الحاكم.

و لو لم تكن له بينة أو تعذر الوصول إلى الحاكم بل في المسالك «أو أمكن و لم تكن يده مبسوطة بحيث يمكنه تولي القضاء عنه» و إن كان فيه أن الفائدة الاستئذان منه.

و على كل حال فمتى تعذر و وجد الغريم من جنس ماله اقتص مستقلا بالاستيفاء بلا خلاف فيه عندنا، بل الإجماع بقسميه عليه، لإطلاق الأدلة المزبورة و غيرها.

نعم لو كان المال وديعة عنده ففي جواز الاقتصاص تردد أيضا و خلاف أشبهه الكراهة وفاقا لأكثر المتأخرين، جمعا بين ما دل على الجواز من الأدلة السابقة و خصوص

صحيح البقباق(1)«إن شهابا ما رآه في رجل ذهب له بألف درهم و استودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العباس: فقلت له: خذها مكان الألف التي أخذ منك فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب على أبي عبد الله (عليه السلام) فذكر ذلك له، فقال: أما أنا فأحب أن تأخذ و تحلف».

و خبر علي بن سلمان(2)قال: «كتب إليه (عليه السلام) رجل غصب رجلا مالا أو جارية ثم وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه أ

يحل له حبسه عليه أم لا؟ فكتب (عليه السلام) نعم يحل له ذلك إن كان بقدر حقه، و إن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه و يسلم الباقي إليه إنشاء الله».

و بين ما دل على النهي عن ذلك بل عن مطلق الأمانة، ل

خبر


1- 1 الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 2 من كتاب التجارة.
2- 2 الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 9 من كتاب التجارة.

ج 40، ص: 392

ابن أخ الفضيل بن يسار(1)قال: «كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) و دخلت امرأة و كنت أقرب القوم إليها، فقالت: أسأله، فقلت: عما ذا؟ فقالت: إن ابني مات و ترك مالا في يد أخي فأتلفه ثم أفاد مالا فأودعنيه فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شي ء؟ فأخبرته بذلك، فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): أد الأمانة إلى من ائتمنك، و لا تخن من خانك».

و خبر سلمان بن خالد(2)«سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه و حلف ثم وقع له عندي مال فآخذه لمكان مالي الذي أخذه و أجحده و أحلف عليه كما صنع، قال:

إن خانك فلا تخنه، و لا تدخل فيما عبته عليه».

و صحيح معاوية بن عمار(3)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قلت له: الرجل يكون لي عليه حق فيجحدنيه ثم يستودعني مالا أ لي أن آخذ مالي عنده؟ قال: هذه الخيانة».

بل لعل في

قوله (عليه السلام): «و لا تدخل فيما عبته عليه»

إشعار بذلك، خصوصا بعد معلومية عدم كون المقاصة خيانة، بل هي في قوة أداء الأمانة إلى من ائتمنه بعد أن جعله الشارع وليا له في استيفاء دينه منها، و

ليس هو أخذا بغير حق الذي قد عابه عليه، كما يومئ إليه الأدعية السابقة، فمراد الامام (عليه السلام) بيان نوع مرجوحية بسبب كونها صورة الخيانة التي قد تأكد النهي عنها(4)حتى

قال الصادق (ع)


1- 1 الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 3 من كتاب التجارة.
2- 2 الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 7 عن سليمان بن خالد.
3- 3 الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 11 من كتاب التجارة.
4- 4 الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة و الباب- 3- من كتاب الوديعة.

ج 40، ص: 393

في خبر عبد الله بن إسماعيل(1): «أد الأمانة لمن ائتمنك و أراد منك النصيحة و لو أنه قاتل الحسين (عليه السلام)»

و قال (عليه السلام) أيضا في خبر عمار(2): «اعلم أن ضارب علي (عليه السلام) بالسيف و قاتله لو ائتمنني على سيف و استشارني ثم قبلت ذلك منه لأديت إليه الأمانة»

مضافا إلى تأكد الأمر(3)بأداء الأمانة إلى أهلها.

و على كل حال فما عن النهاية و الغنية و الكيدري و القاضي- من القول بعدم الجواز، بل عن الغنية الإجماع عليه- واضح الضعف و إن توقف فيه في ظاهر الدروس و الروضة، بل مال إليه الأردبيلي.

و ما عساه يقال-: إن الأدلة بعد تعارض الخاصة منها و تساقطها فالعمومات بينهما تعارض العموم و الخصوص من وجه و لا ترجيح، و الأصل حرمة التصرف في مال الغير و عدم تعيين الكلي في الذمة بتعيين غير المديون و نحو ذلك- يدفعه أولا منع عدم رجحان الأدلة الخاصة بعد قيام احتمال الكراهة أو ظهوره في الأدلة المعارضة دونها، مضافا إلى اعتضاد عموم المقاصة بأدلة نفي الضرر و الضرار و الحرج و غير ذلك، بل قد عرفت أن المقاصة ليست من الخيانة المندرجة في هذه العمومات.

بل لو لا شهرة الكراهة لأمكن المناقشة فيها بظهور

قوله (عليه السلام)(4): «أما أنا فأحب أن تأخذ و تحلف»

في عدمها، مع احتمال حمل ما دل على النهي عن خيانة من خان على ما لو استحلفه،


1- 1 الوسائل الباب- 2- من كتاب الوديعة الحديث 4 عن إسماعيل ابن عبد الله.
2- 2 الوسائل الباب- 2- من كتاب الوديعة الحديث 8.
3- 3 الوسائل الباب- 1- من كتاب الوديعة.
4- 4 الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 2 من كتاب التجارة.

ج 40، ص: 394

فإنه لا يجوز حينئذ المقاصة، كما أومأ إليه في

خبر عبد الله وضاح(1)مع اليهودي الذي حلفه، ثم وقع له عنده أرباح تجارة دراهم كثيرة فسأل أبا الحسن (عليه السلام) عن ذلك فقال له: «إن كان ظلمك فلا تظلمه، و لو لا أنك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك»

و هو دليل آخر أيضا على جواز المقاصة، كما هو واضح.

بل من إطلاق الأدلة السابقة و ترك الاستفصال في بعضها و خصوص نصوص(2)الجارية و الدابة الفارهة يستفاد أنه لو كان المال الذي له في ذمته من غير جنس الموجود عنده جاز أخذه بالقيمة العدل، و يسقط اعتبار رضا المالك بالطاطه و جحوده بل و استئذان الحاكم أيضا في الأخذ المزبور و إن كان هو أولى من الأول كما يسقط اعتبار رضاه و استئذانه في متحد الجنس بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك بيننا، نعم عن جماعة من العامة الاقتصار على الجنس و هو واضح الضعف.

بل مقتضى الإطلاق المزبور أنه يجوز أن يتولى بنفسه بيعها أي الوديعة مثلا و قبض دينه من ثمنها (11) سواء كان من جنس حقه أم لا دفعا لمشقة التربص بها (12) بل يجوز له بيع ثمنها إلى أن ينتهي إلى ما يساوي حقه في الجنس ثم يأخذه مقاصة، لأن له على المالك ذلك، و قد أقامه الشارع مقامه في الاستيفاء، فلا يلزم بالمقاصة من غير الجنس كما عساه يتوهم في بادئ النظر من النصوص، نعم حيث كان هو الولي في ذلك وجب عليه الجمع بين حقه و حق المالك.

و من الغريب ما عن الكفاية «و يتخير عند الأصحاب بين أخذه


1- 1 الوسائل الباب- 10- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
2- 2 الوسائل الباب- 83- من أبواب ما يكتسب به.

ج 40، ص: 395

بالقيمة و بين بيعه و صرفه في جنس الحق، و لا يجوز أن يتولى بيعه و يقبض ثمنه من دينه» مع أن الذي عثرنا عليه من كلمات الأصحاب و المحكي منها كالمبسوط و القواعد و الدروس و الإيضاح و غيرها جواز ذلك له بنفسه، بل عن الأول أنه الأقوى عندنا كما ستسمع، و هو كذلك بناء على عدم الرجوع إلى الحاكم في الأصل.

نعم عن المبسوط «و من الذي يبيع؟ فقال بعضهم: الحاكم، لأن له الولاية عليه، و قال آخرون: يحضر عند الحاكم و معه رجل قد واطأه على الاعتراف بالدين و الامتناع من الأداء- ثم قال-: و الأقوى عندنا أن له البيع بنفسه، لأنه قد يتعذر إثباته عند الحاكم، و الذي قال الآخرون كذب يتنزه عنه» و ظاهره أن الأولين من العامة أو من القائلين بالرجوع إلى الحاكم في أصل المسألة فضلا عن هذه الخصوصية، و لكن الأقوى ما عرفت في الأصل.

بل فيما حضرني من نسخة الكفاية مناف للمحكي عنها، قال:

«و يتخير عند الأصحاب بين أخذه بالقيمة و بين بيعه و صرفه في جنس الحق، و يستقل بالمعاوضة، و يجوز أن يتولى بيعه و قبض دينه من ثمنه، فان تلف قبل البيع ففي الضمان قولان».

نعم قد يقال بوجوب الاقتصار في المقاصة على الأخذ من جنس حقه مع الإمكان و من غيره مع عدم الإمكان، لعدم إطلاق في الأدلة يوثق به على الجواز من غير الجنس مطلقا، فيقتصر فيما خالف الأصل على المتيقن.

فما في الرياض من الميل إلى عدم تعين ذلك عليه للإطلاق المزبور نصا و فتوى لا يخلو من نظر.

نعم لا يجب عليه بيع الوديعة بجنس حقه و إن حكي عن بعضهم، و يمكن حمله على إمكان ذلك من غير ضرر على المالك، أما مع عدمه

ج 40، ص: 396

فقد عرفت ظهور النفي في ولايته بالنسبة إلى ذلك، فينبغي مراعاة المصلحة التي يلحظها الوكيل و الولي، فتأمل.

كما أن ظاهر النصوص جواز المقاصة و إن لم يعلم بانتقال العين إلى قيمتها في الذمة بتلف و نحوه، بل و إن علم العدم، فلا وجه لقصر الأصحاب عنوان المقاصة على الدين.

بل ظاهرها ملك المقاص العوض الذي يأخذه، و ينبغي أن يلزمه انتقال مقابله إلى ملك الغاصب، لقاعدة عدم الجمع بين العوض و المعوض عنه، بل قد يشكل استحقاق الرد عليه لو بذله له بعد ذلك، بل لعله كذلك لو كان البذل من المالك استصحابا لملك العوض، و احتمال كون الملك متزلزلا- نحو ما ذكروه في القيمة التي يدفعها الغاصب للحيلولة- مناف لقاعدة اللزوم بعد ظهور النصوص في الملك، بل يمكن دعواه أيضا هناك و يجعل ما هنا دليلا عليه، فتأمل جيدا.

و كيف كان ف لو تلفت العين التي قبضت لإرادة المقاصة بثمنها بلا تعد و لا تفريط و لو بالتكاسل في بيعها قبل البيع قال الشيخ: الأليق بمذهبنا أنه لا يضمنها للأصل و لأنها في يده أمانة شرعية أو بحكمها، و تبعه الشهيدان في المسالك و ظاهر غاية المراد و الأردبيلي في مجمعه.

و الوجه كما في القواعد و محكي الإيضاح الضمان، لأنه قبض لم يأذن فيه المالك حتى يكون أمانة مالكية، نعم أذن به الشارع، و لكن لا منافاة بينه و بين الضمان بعد أن لم يكن في شي ء من النصوص الحكم بكونه قبض أمانة فيندرج في ما دل على عدم ضمانها، كما أنه ليس في شي ء من الأدلة الشرعية عنوان للأمانة الشرعية على وجه يكون المقام منها موضوعا و حكما، إذ ليس إلا الاذن في القبض لاستيفاء حقه، و هو

ج 40، ص: 397

أعم من الائتمان الذي لا يستعقب الضمان كالالتقاط و نحوه، و ليس كل ما أذن الشارع في قبضه يكون أمانة خصوصا القبض لمصلحة القابض التي هي استيفاء حقه منها، بل ذلك من المالك لا يقتضي الائتمان المزبور، و حينئذ فتبقى قاعدة ضمان مال المسلم المستفادة من

عموم «على اليد»(1)

و غيره بحالها ف يتقاصان حينئذ بقيمتها مع التلف و لو بغير تفريط.

مضافا إلى أن القبض للمقاصة هو قبض ضمان لا قبض مجان، بل هو أولى من قبض السوم، و كونه وليا بمعنى أن له المقاصة بنفسه لا يقتضي عدم ضمانه نحو باقي الأولياء الذين ليس هو منهم بالمعنى الذي يترتب عليه ذلك.

و بذلك ظهر لك النظر في جملة من الكلمات المبينة على الأصل و الاكتفاء بالإذن الشرعية في استيفاء الحق من مال الغير في تحقق الأمانة التي حكمها عدم الضمان، و قد عرفت ما فيهما.

كما أن منه ظهر لك الحال في الزيادة على الحق و أنها على الضمان أيضا، فما عن الفاضل في التحرير و القواعد من الحكم بعدم ضمانها مع قوله في الثاني بضمان ما قابل الحق لا يخلو من نظر.

و كذا لا يخلو ما يحكى من صريح بعض و ظاهر آخر من عدم الضمان لو أخذه بعنوان المقاصة به، و لكن لم ينشأها لإرادة معرفة قيمته فاتفق تلفه منه أيضا، بل لعل هذا بالضمان أولى من الأول، لما عرفت من القاعدة السابقة التي مقتضاها الضمان قبل البيع و بعده قبل استيفاء (إنشاء خ ل) المقاصة، نعم لا ضمان معه، ضرورة صيرورة المال ملكا له به و إن لم يعرف قيمته، لعدم توقف صحة الاستيفاء على اقتران معرفة القيمة، بل له قبضه


1- 1 المستدرك الباب- 1- من كتاب الغصب- الحديث 4 و سنن البيهقي ج 6 ص 95.

ج 40، ص: 398

بالعنوان المزبور ثم تحسب له قيمة وقته وفاء، كما لو دفع المالك أعيانا وفاء، فإنها تحسب قيمتها وقت الدفع، كما هو محرر في محله.

[مسألتان]
اشاره

مسألتان:

[المسألة الأولى من ادعى ما لا يد لأحد عليه قضي له]

الأولى:

من ادعى ما لا يد لأحد عليه قضي له به من دون بينة و يمين بلا خلاف أجده فيه، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، لأصالة صحة قول المسلم و فعله بل كل مدع و لا معارض له.

و من بابه أن يكون كيس مثلا بين جماعة فيسألون هل هو لكم فيقولون: لا و يقول واحد: هو لي، فإنه يقضى به لمن ادعاه كما رواه

منصور بن حازم في الصحيح(1)«قلت للصادق (عليه السلام):

عشرة كانوا جلوسا و وسطهم كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضا أ لكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم: لا، فقال واحد منهم: هو لي، قال: هو للذي ادعاه».

بل قد يظهر من الراوي المزبور المفروغية من هذا الأصل عند العقلاء أجمع

قال(2): «قلت له أيضا: إن الله أجل و أكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون بالله، قال: صدقت، قلت: إن من عرف له ربا فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا و سخطا و أنه لا يعرف رضاه و سخطه إلا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي أن يطلب الرسل، فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة- إلى أن قال-: فقلت لهم: من قيم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، و عمر يعلم،


1- 1 الوسائل الباب- 17- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الكافي- ج 1 ص 168.

ج 40، ص: 399

و حذيفة يعلم، قلت: كله، قالوا: لا، فلم أجد أحدا يقول إنه يعرف ذلك كله إلا عليا (عليه السلام) و إذا كان الشي ء بين القوم فقال هذا:

لا أدري، و قال هذا: لا أدري، و قال هذا: أنا أدري فأشهد أن عليا (عليه السلام) كان قيم القرآن».

بل قد يقال بظهور الصحيح المزبور في قبول دعوى المدعي و لو بعد قوله: «ليس لي» بناء على إرادة الحقيقة من قوله: «كلهم» و يمكن أن يكون على القواعد أيضا، لأصالة صحة قوليه معا باحتمال التذكر و غيره، لعدم المعارض.

و عليه حينئذ يتفرع جواز تمكينه من الزوجة التي أنكر زوجيتها ثم أقر بها، و لا يمنعه الحاكم عن ذلك، كما مر في كتاب النكاح.

هذا كله مع عدم اليد أما معها و لو يد غير ملك باعتراف صاحبها فقد يشكل إلزامه بدفعه إليه بمجرد دعواه، ضرورة تحقق الخطاب معها بإيصاله إلى مالكه

الواقعي، و مجرد الدعوى ليس طريقا للفراغ من الشغل كما عرفت ذلك في كتاب اللقطة(1).

و في محكي السرائر هنا بعد أن ذكر الصحيح المزبور فقال: «هذا الحديث صحيح، و ليس هذا في من أخذه بمجرد دعواه، و إنما هو لما لم يثبت له صاحب سواه، و اليد على ضربين: يد مشاهدة و يد حكمية، فهذا يدعيه، لأن كل واحد منهم نفي يده عنه و بقي يد من ادعاه حكمية، و لو قال كل واحد من الجماعة في دفعة واحدة أو مفترقا: هو لي لكان الحكم فيه غير ذلك، و كذلك لو قبضه واحد في الجماعة ثم ادعاه غيره لم تقبل دعواه بغير بينة، لأن يد المشاهدة عليه لغير من ادعاه، و الخبر الوارد في الجماعة أنه نفوه عن أنفسهم و لم يثبتوا لهم عليه يدا، لا من


1- 1 راجع ج 38 ص 383- 387.

ج 40، ص: 400

طريق الحكم، و لا من طريق المشاهدة، و من ادعاه له عليه يد من طريق الحكم فقبلنا فيه دعواه من غير بينة ففقهه ما حررناه، و أيضا إنما قال ادعاه من حيث اللغة، لأن الدعوى الشرعية من ادعى في يد غيره عينا أو دينا» و هو على طوله لا يخلو من نظر في محصوله، و التحقيق ما ذكرناه، و الله العالم.

[المسألة الثانية لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله]

المسألة الثانية:

لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله، و ما أخرج بالغوص فهو لمخرجه على الأشهر عند الأصحاب، كما في الكفاية و إن كنا لم نتحققه حتى من المصنف، فإنه قال بعد ذلك:

و به رواية في سندها ضعف و ظاهره التردد فيه، نعم قد عمل بها في الإرشاد و ظاهر المحكي عن النهاية و التذكرة و التحرير.

و الأصل في ذلك

خبر الشعيري(1)«سألت الصادق (عليه السلام) عن سفينة انكسرت في البحر فاخرج بعضها بالغوص، و أخرج البحر بعض ما غرق منها، فقال: أما ما أخرجه البحر فهو لأهله، الله تعالى أخرجه لهم، و أما ما أخرج بالغوص فهو لهم، و هم أحق به».

و هو مع ضعفه و عدم الجابر له محتمل لإرادة كون الجميع لأهله، و التفصيل إنما هو بإخراج الله و إخراج الغير، كما عن بعضهم الجزم به.

و حمله في محكي السرائر على اليأس قال: «وجه فقه هذا الحديث أن ما أخرجه البحر فهو لأصحابه، و ما تركه أصحابه آيسين منه فهو لمن وجده و غاص عليه، لأنه صار بمنزلة المباح، و مثله من ترك بعيره


1- 1 الوسائل الباب- 11- من كتاب اللقطة- الحديث 2.

ج 40، ص: 401

من جهد في غير كلأ و لا ماء، فهو لمن أخذه، لأنه خلاه آيسا منه و رفع يده، فصار مباحا، و ليس هذا قياسا، و إنما هذا على جهة المثال، و المرجع فيه إلى الإجماع و تواتر النصوص دون القياس و الاجتهاد».

قلت: لعل ذلك هو العمدة في تملك المعرض عنه، مضافا إلى السيرة في عطب المسافر و نحوه، و إلا فمن المعلوم توقف زوال الملك على سبب شرعي كتوقف حصوله، و لا دليل على ارتفاع الملك عن صاحبه بالاعراض على وجه يتملكه من أخذه كالمباح.

و من هنا احتمل جماعة إباحة التصرف في المال المعرض عنه دون الملك، بل عن ثاني الشهيدين و المقداد الجزم بذلك، و عن بعض أنه لا يزول الملك بالإعراض إلا في الشي ء اليسير كاللقمة و في التالف كمتاع البحر و في الذي يملك بغاية قد حصلت كحطب المسافر.

و عن آخر اعتبار كون المعرض عنه في مهلكة و يحتاج الاستيلاء عليه إلى اجتهاد كغوص و تفتيش و نحوهما في حصول التملك به.

و ربما استظهر من عبارة ابن إدريس المتقدمة اعتبار اليأس زيادة على الاعراض فيه أيضا، إلى غير ذلك من كلماتهم التي مرجعها إلى تهجس في

ضبط عنوان لذلك، مع أن السيرة عليه في الجملة، و ليس في النصوص- غير ما عرفت- تعرض له.

فالأولى أن يقال: ما علم إنشاء إباحة من المالك لكل من يريد أن يتملكه كنثار العرس و نحوه يملكه الآخذ بالقبض أو بالتصرف الناقل أو المتلف أو مطلق التصرف على الوجوه أو الأقوال المذكورة في المعاطاة بناء على أنها إباحة، و كذا ما جرت السيرة و الطريقة على تملكه مما قام شاهد الحال بالاعراض عنه، كحطب المسافر و نحوه، أو ما كان كالمباحات الأصلية باندراس المالك كأحجار القرى الدارسة.

ج 40، ص: 402

و أما المال الذي امتنع على صاحبه تحصيله بسبب من الأسباب كغرق أو حرق و نحوهما فيشكل تملكه بالاستيلاء عليه، خصوصا مع العلم بعدم إعراض صاحبه عنه على وجه يقتضي إنشاء إباحة منه لمن أراد تملكه أو رفع يد عن ملكيته، و إنما هو للعجز عن تحصيله نحو المال الذي يأخذه قطاع الطريق و الظلمة و نحوهم.

و أما تملك بعض المال بالالتقاط على التفصيل المذكور في كتاب اللقطة(1)فهو قسم آخر خارج عما نحن فيه، أي التملك مع العلم بصاحبه و وجوده و إرادة ماله، لصيرورة الشي ء بالامتناع في نفسه كسائر المباحات الأصلية، و الله العالم.

[المقصد الأول في الاختلاف في دعوى الأملاك]
اشاره

المقصد الأول في الاختلاف في دعوى الأملاك و فيه مسائل:

[المسألة الأولى لو تنازعا عينا في يدهما و لا بينة قضي بها بينهما نصفين]

الأولى:

لو تنازعا عينا في يدهما و لا بينة قضي بها بينهما نصفين بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى

المرسل(2)«أن رجلين تنازعا دابة ليس لأحدهما بينة فجعلها النبي (ص) بينهما».


1- 1 راجع ج 38 ص 369- 377.
2- 2 سنن البيهقي ج 10 ص 255.

ج 40، ص: 403

إنما الكلام في احتياج ذلك إلى اليمين من كل منهما و عدمه، فظاهر المصنف و محكي الخلاف و الغنية و الكافي و الإصباح الثاني، بل عن الأولين الإجماع عليه، و هو الحجة بعد إشعار المرسل المزبور بذلك أو ظهوره.

و قيل كما عن الأكثر بل المشهور على ما اعترف به في غاية المرام، بل في المسالك و الكفاية لم ينقل الأكثر فيه خلافا يحلف كل منهما لصاحبه لقاعدة البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه، فان كلا منهما مدع و مدعى عليه باعتبار قضاء يد كل منهما بالنصف، فهو بالنسبة إلى ما قضت به يده مدعى عليه و إلى الآخر مدع، و لفحوى ما تسمعه من النصوص(1)المشتملة على تحليفهما مع البينة فمع عدمها بطريق أولى.

و قد يناقش بعدم اندراجهما في القاعدة المزبورة، إذ الفرض أن يد كل منهما على العين لا نصفها، ضرورة عدم تعقل كونها على النصف المشاع إلا بكونها على العين أجمع في كل منهما، و حينئذ فلا مدعي و لا مدعى عليه منهما، ضرورة تساويهما في ذلك إلا أن الشارع قد جعل القضاء في ذلك بأن العين بينهما كما سمعته من النبوي المرسل(2)فالنصف هو القضاء بينهما في الدعوى المزبورة التي كان مقتضى يد كل منها الكل.

و منه يظهر لك عدم كون كل منهما مدعيا لنصف الآخر و مدعى عليه في نصفه كي يتوجه التحالف، بل المتجه إلغاء حكم يد كل منهما بالنسبة إلى تحقق كونه مدعى عليه، و يكون كما لو تداعيا عينا لا يد لأحد عليها و لا بينة لكل منهما، فان القضاء حينئذ بالحكم بكونها بينهما، لكون الدعوى كاليد في السبب المزبور المحمول على التنصيف بعد تعذر إعماله في


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم.
2- 2 سنن البيهقي ج 10 ص 255.

ج 40، ص: 404

الجميع للمعارض الذي هو استحالة اجتماع السببين على مسبب واحد، إذ لا وجه لاستحقاق كل منهما اليمين على الآخر، ضرورة عدم كونه مدعى عليه بعدم يد

له على العين يراد رفعها عنه، فقول كل منهما: هي لي دعوى بلا مدعى عليه، فلا يمين فيها، فتأمل جيدا فإنه دقيق نافع، أو يقال في الفرض باعتبار ثبوت اليد لكل منهما على العين مدعى عليه لو كان مدعي خارج عنهما، و إلا فلا يتصور كونه منهما بعد أن كان مع كل منهما عنوان المدعي عليه، لمعلومية التباين بين المدعي و المدعى عليه.

و من هنا كان التحالف إذا كان كل منهما مدعي منكر، بمعنى أنه مدعي لشي ء و منكر لآخر، كما هو ظاهر في النظر إلى أفراد ذلك، لا في مثل المقام الذي دعوى كل منهما الكل، و الفرض أن اليد لكل منهما، فلا يكون مدعي فيما هو مدعى عليه فيه.

اللهم إلا أن يقال: إن اليمين هنا لترجيح أحد السببين كالترجيح بها لإحدى البينتين و إن ترتب عليه كون العين للحالف منهما بخلاف ما لو حلفا معا أو لم يحلفا كذلك، و ليس هو يمين إنكار و يمين رد حتى يأتي فيه البحث الذي تسمعه من الاكتفاء بيمين واحدة جامعة بين الإثبات و النفي أو يمينين.

أو يقال: إن لكل منهما إحلاف صاحبه، بمعنى أن التحالف أمر راجع إليهما لا يجبر الحاكم عليه، و لا يتوقف عليه القضاء بالنصف، بل كل منهما ميزان للقضاء.

و كان هذا هو الذي فهمه الأصبهاني في كشفه من المصنف في النافع، فإنه بعد أن ذكر القول الأول قال: «و لم يذكر الحلف في الغنية و الإصباح، و نسبه في الشرائع إلى القيل، و لعل الوجه فيه أنهما إن لم يحلف أحدهما صاحبه كان الحكم أيضا كذلك، و لذا قال في النافع بعد الحكم بكونها بينهما: و لكل منهما إحلاف صاحبه».

ج 40، ص: 405

و لكن غيره قد جعله من القائلين بالقول الأول، و لعله المنساق من مثل هذه العبارة التي عبر بنحوها القائل باعتبار ذلك في القضاء، خصوصا بعد معلومية توقف القضاء عليه أو على البينة، ل

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «إنما أقضي عليكم بالبينة أو اليمين».

فحمل كلامه حينئذ خاصة على إرادة عدم توقف القضاء بالنصف على التحالف، بل موكول إلى اختيارهما إن أراداه تحالفا، و جرى حكم التحالف و النكول عليه، و إلا قضي بينهما بالنصف بدونه لا يخلو من نظر.

اللهم إلا أن يكون ذلك مراد الجميع بقرينة تقديم القضاء بالنصف على الحلف.

و لكن فيه أيضا أن مشروعية التحالف منهما تقتضي تحقق التداعي بينهما، و لا يكون فصل فيه الذي هو بمعنى القضاء بين المتخاصمين إلا بميزانه من البينة أو اليمين، و عدم تحليف من له اليمين لا يقتضي صحة القضاء بدونه، بل أقصاه بقاء العين في يد المدعى عليه بالسبب المقتضي لذلك شرعا، و حق الدعوى باق متعلق بهما إذا أسقط حقه بناء على قيام مثل ذلك مقام إحلافه، فيحكم الحاكم حينئذ بكونها للمدعي على وجه لا تسمع الدعوى المزبورة فيها، لأن ذلك هو معنى القضاء، نعم لو لم يكن ثم تداع بينهما مثلا و قد ماتا و العين في أيديهما فهي على النصف بينهما شرعا من دون قضاء، لعدم تداع، و على تقديره من الورثة كان له القضاء به عليهم من دون يمين إن لم يدع بعضهم على بعض العلم بالحال، و إلا توقف القضاء به على اليمين.

بل لعله أيضا كذلك في الأصيلين إذا ادعى أحدهما على الآخر أن يده من يده أو أنه عالم بكونه مبطلا و أن العين أجمع لصاحبه و إن لم


1- 1 الوسائل الباب- 2- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1 و فيه « إنما اقتضي بينكم بالبينات و الأيمان».

ج 40، ص: 406

نقل به في أصل دعوى كل منهما العين له، ضرورة تحقق المدعي و المدعى عليه في تلك دونها، فتأمل جيدا. و قد تقدم لنا بعض الكلام في المسألة في كتاب الصلح(1)فلاحظ و تأمل، و الله العالم.

و على كل حال فعلى المشهور يبدأ القاضي في الحلف بمن يراه أو بمن تخرجه القرعة، و فيه أن المتجه- بناء على كونهما دعويين- تقديم الأسبق منهما، و مع الاقتران يقدم من كان على يمين صاحبه.

و كيف كان فان حلفا معا كانت بينهما على النصف، و إلا فإن حلف الأول ثم نكل الثاني ردت اليمين على الأول، و لا يكفيه اليمين الأولى، لأنها كانت على نفي استحقاق صاحبه فيما هو بيده من النصف، و اليمين المردودة على الإثبات، و هو أن نصف صاحبه له، نعم لو نكل الأول حلف الآخر يمينا واحدة جامعة بين النفي و الإثبات من غير خلاف يعرف فيه بينهم.

و لا يخفى ما فيه من الاشكال إن لم يكن إجماعا بناء على الدعويين، ضرورة اقتضاء تعدد الأسباب تعدد المسببات، و لعل في ذلك تأييدا لما ذكرناه من عدم كونهما دعويين كي يترتب على كل منهما يمين، بل هي مقالة واحدة من كل منهما، فيمين كل منهما على أن الجميع له المقتضي عدم شي ء منه للآخر كاف في اختصاصه بالحق على القول بمدخلية اليمين في ذلك من غير فرق بين الأخير و الأول، فتأمل فإن منه يظهر لك النظر في جملة من الكلمات، خصوصا المسالك و أتباعه، هذا كله إذا كانت يدهما عليها.

و أما لو كانت يد أحدهما خاصة عليها قضى بها للمتشبث مع يمينه إن التمسه الخصم المستحق لها عليه بلا خلاف


1- 1 راجع ج 26 ص 262.

ج 40، ص: 407

و لا إشكال، إذ هو أظهر أفراد قاعدة «البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه» التي لا يخفى عليك ذكر أحكامها من القضاء بالنكول أو مع رد اليمين و غيره.

و لو كانت في يد ثالث و يدهما معا خارجة عنها فان صدق من هي في يده أحدهما أحلف و قضى له لأنه صار بالإقرار له، كذي اليد في قيام الشاهد فعلا على ملكه، فيكون الثاني بالنسبة إليه مدعيا، و هو مدعى عليه.

و قد يناقش بعدم اقتضاء ذلك صدق كونه مدعى عليه عرفا في تلك الدعوى المتعلقة أولا بمن في يده المال، نعم له استئناف دعوى جديدة نحو استئنافها لو انتزعها منه بيمين مردودة مثلا أو بشاهد و يمين، و تدفع تبعية الدعوى بها لها في يد من كانت.

و فيه أن الكلام في المدعى عليه بينها لا بها، و لا ريب في عدم كونه مدعى عليه قبل تصديقه الذي قد يفرض تأخيره عن دعوى الأول فتأمل.

و له اليمين على المصدق أيضا، لفائدة الغرم مع النكول لا العين، و في القواعد «و لو كانت في يد ثالث حكم لمن يصدقه بعد اليمين منهما» أي الثالث و من يصدقه كما في كشف اللثام، و فيه أن يمين المصدق لا دخل له في الحكم بها لمن صدقه، و يمكن تعلق «منهما» بقوله: «يصدقه» فيكون المراد بعد اليمين من المقر له، و حينئذ تكون كعبارة المصنف، لكنه خلاف الظاهر.

هذا و في كشف اللثام أيضا و غيره «و المصدق يحلف للآخر إن ادعى علمه بملكه» و فيه أن الظاهر توجه اليمين عليه على البت، لأنه مدعى عليه.

اللهم إلا أن يقال: إنه بإقراره بها لأحدهما انصرفت تلك الدعوى

ج 40، ص: 408

عنه لتبعيتها للعين، فيمين البت حينئذ على من صارت له، نعم تبقى عليه دعوى العلم لإرادة الغرم.

و فيه أيضا أن الدعوى قد تعلقت به و العين في يده على وجه استحق عليه اليمين على البت، لكن ستسمع من المصنف و غيره المفروغية من انصراف الخصومة بالإقرار بالعين لمعين، و ليس المراد إلا انصراف تلك الدعوى و إن بقيت دعوى العلم للغرامة مع احتمال إرادة انصرافها بالنسبة إلى انتزاع العين و إن بقيت الدعوى بها للغرامة، لكنه في غاية البعد، و ستسمع إنشاء الله زيادة لذلك في المسألة الثالثة.

و إن قال: هي لهما قضي بها بينهما نصفين و أحلف كل منهما لصاحبه بناء على استحقاق اليمين، و كذا إن نكلا، و إن نكل أحدهما كان الكل للآخر، و في كشف اللثام «و غرم الثالث النصف إن سلم إلى الناكل واعى الحالف عليه العلم فأحلفه فنكل» و هو لا يخلو من إشكال لوصول حقه تماما إليه.

اللهم إلا أن يقال: إنه وصل إليه باليمين المردودة، فهو كما لو وصل إليه بعوض لا يدفع الدعوى على من في يده، مع أنه لا يخلو من نظر، ضرورة الفرق بين الفرض و بين العوض الذي هو غرامة، نعم قد يشهد له أنه لو فرض سبق الدعوى على المصدق فنكل و حلف المدعي و غرم له ثم تداعيا بينهما فنكل أحدهما و حلف الآخر الذي قد غرم المصدق فانتزع العين من صاحبه فان المتجه حينئذ إرجاع الغرامة التي أخذها، لوصول العين إليه، و ليس له أزيد منها، مع أن الأصحاب قد أطلقوا الحكم في الدعويين، و لم يشر أحد منهم إلى ترتيب بينهما، أو إلى رد ما اقتضاه أحدهما بعد انتزاع العين في الأخرى، اللهم إلا أن يكون أو كلوا ذلك إلى ما تقتضيه القواعد، و هو ما عرفت، و قد صرح به في المسالك

ج 40، ص: 409

في المسألة الثالثة من المقصد الأول في الاختلاف في الأملاك فتأمل جيدا.

و على كل حال فقد عرفت أن لهما على المصدق اليمين إن ادعيا عليه أو أحدهما العلم أو مطلقا، فان نكل حلف المدعي و غرم له النصف، فان حلفا غرم لهما الكل.

و لو دفعهما بأن قال: ليست لكما أقرت في يده بعد اليمين لهما، فان نكل فكما لا يد لأحد عليه، فان قلنا بالتحالف فيه فان حلفا أو نكلا اقتسماه، و إن حلف أحدهما خاصة كان له.

و لو قال: ليست لي أو لا أعرف صاحبها أو هي لأحدكما و لا أعرف عينه ففي القواعد «قرع بينهما، لتساويهما في الدعوى و عدم البينة» و في التحرير و كشف اللثام «فمن خرجت باسمه حلف و كانت له، فان نكل حلف الآخر، و إن نكلا قسمت بينهما- ثم قال-: و الوجه عندي التحالف وفاقا للتذكرة، فإن حلفا أو نكلا كانت بينهما، و إلا فللحالف».

قلت: لا وجه للقرعة بعد ظهور الأدلة في التنصيف مع التساوي في السبب المقتضي للملك، و الكلام في اعتبار التحالف و عدمه في القضاء بذلك ما عرفت، و حينئذ فلا إشكال و لا اشتباه حتى يحتاج إلى القرعة.

ثم إنه على القول بها لا حاجة حينئذ إلى اليمين، ضرورة كونها هي ميزان القضاء للدعوى المزبورة، و احتمال أنها تجعل من يخرج اسمه بها كصاحب اليد يقتضي عدم القسمة بينهما مع فرض النكول منهما، ضرورة أن النكول عن اليمين المردودة يوجب عدم الحق للناكل و انحصاره في الراد.

ثم إن القرعة مع قوله ليست لي أو لا أعرف صاحبها في غير محله، لعدم ما يقتضي انحصار الحق فيهما كي يستخرج بالقرعة، و لعله لذا اقتصر ثاني الشهيدين في احتمالها على صورة إقراره لأحدهما، و التحقيق ما عرفت من عدم اعتبار القرعة هنا، بل يقضي فيها بالتنصيف بينهما مع التحالف أو بدونه على القولين السابقين، و الله العالم.

ج 40، ص: 410

[المسألة الثانية يتحقق التعارض في الشهادة مع تحقق التضاد]

المسألة الثانية:

يتحقق التعارض في الشهادة مع تحقق التضاد، مثل أن يشهد شاهدان بحق لزيد، و يشهد آخران أن ذلك الحق بعينه لعمرو، أو يشهدا أنه باع ثوبا مخصوصا لعمرو غدوة، و يشهد آخران ببيعه بعينه لخالد في ذلك الوقت و نحو ذلك، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، كما إذا شهدت إحدى البينتين بملك أحدهما أمس و الأخرى بملك الآخر اليوم، عمل بالثانية، لإمكان صدقهما معا.

و من المعلوم أنه مهما أمكن التوفيق بين الشهادتين وفق، فان لم يمكن بأن تحقق التعارض بينهما على وجه يقتضي صدق كل منهما تكذيب الأخرى، كما لو شهدت إحداهما أن هذه العين ملك زيد الآن و الأخرى تشهد أنها ملك عمرو الآن ف لا يخلو الحال عن أحد أمور ثلاثة أو أربعة، لأنه إما أن تكون العين في يدهما أو في يد أحدهما أو في يد ثالث أو لا يد لأحد عليها ففي الأول يقضي بها بينهما نصفين من دون إقراع و لا ملاحظة ترجيح بأعدلية أو أكثرية بلا خلاف أجده بين من تأخر عن القديمين الحسن و أبي علي، بل صرح غير واحد منهم بعدم الالتفات إلى المرجحات الآتية في غير هذه الصورة.

و في المسالك «لا إشكال في الحكم بها بينهما نصفين، لكن اختلف في سببه، فقيل: لتساقط البينتين بسبب التساوي، فيبقى الحكم كما لو لم تكن بينة، و قيل: لأن مع كل منهما مرجحا باليد على نصفهما فقدمت بينته على ما في يده، و قيل لأن يد كل واحد على النصف، و قد

ج 40، ص: 411

أقام الآخر بينة عليه فيقضى له بما في يد غريمه بناء على تقديم بينة الخارج، فكل منهما قد اعتبرت فيما لا تعتبر فيه الأخرى، و لذا لم يلحظ ترجيح بالعدد و العدالة، و هذا هو الأشهر، و تظهر الفائدة حينئذ في اليمين على من قضي له، فعلى الأول يلزم لكل منهما، و على الآخرين لا يمين، لترجيح كل من البينتين باليد على أولهما، فنعمل بالراجح، و لأن البينة ناهضة بإثبات الحق على الثاني، فلا يمين معها».

قلت: لكن في التحرير بعد أن ذكر تعليل التنصيف بما سمعت مصرحا بكونه من تقديم بينة الخارج قال: «و هل يحلف كل واحد على النصف المحكوم له به أو يكون له من غير يمين؟ الأقوى عندي الأول مع احتمال الثاني».

و في التنقيح بعد أن ذكر التنصيف و جعل منشأه دائرا بين الأخيرين، و أنه على أولهما يقضى لكل منهما بما في يده، و على ثانيهما يقضى له بما في يد غريمه قال: «يكون لكل منهما اليمين على صاحبه، فان حلفا أو نكلا فالحكم كما تقدم، و إن حلف أحدهما و نكل الآخر قضي بها للحالف».

و عن مهذب أبي العباس التصريح باليمين بناء على كون المنشأ دخولهما، و لعل ذلك منه خلافا في أصل المسألة، و هو أن تقديم بينة الداخل بمعنى إسقاطها بينة الخارج، لا أنها حجة، فيرجع الحاصل- كما لو لم تكن بينة- على المنكر منهما اليمين، و هو الذي قواه في المختلف بعد أن حكى القولين في ذلك، بل هو قوي في نفسه، لاشتمال دليل تقديم بينة الداخل على اليمين كما ستعرف.

كما أن القول باليمين مع القول بكون المنشأ تقديم بينة الخارج لعله ل

خبر إسحاق بن عمار(1)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «إن رجلين


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.

ج 40، ص: 412

اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابة في أيديهما و أقام كل واحد منهما البينة أنها نتجت عنده، فأحلفهما علي (عليه السلام) فحلف أحدهما و أبى الآخر أن يحلف فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البينة، فقال: أحلفهما، فأيهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف، فان حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين، قيل:

فان كانت في يد أحدهما و أقاما جميعا البينة، قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده».

بل ربما كان هو دليل التحالف على القول الأول و إن لم نقل به في غيره، إلا أنه خبر واحد، و في سنده ما فيه، و المشهور نقلا و تحصيلا على خلافه، فلا يصلح

مقيدا لما دل مما تسمعه من النصوص(1)و غيره على التنصيف بدونه، و كان ذلك هو العمدة في القول به، ضرورة أنه لو كان منشأه عند المصنف ما ذكره كان المتجه عنده التحالف مع عدم البينة، و قد عرفت عدمه عنده، بل كان ينبغي ملاحظة ما تسمعه منه من التفصيل في تقديم بينة الخارج على بينة الداخل، فمن ذلك و غيره يعلم أن ذلك ليس منشأ حقيقة و إن ذكروه تقريبا للمقصود.

و يؤيده أيضا ما قدمناه سابقا من أن يد كل منهما على الكل لا النصف، بل الظاهر عدم اندراج بينة كل منهما تحت ما دل على تقديم بينة المدعي، لما تقدم من أن في كل منهما عنوان المدعى عليه باعتبار اليد، على أن العمل بنصف ما يشهد به بينة كل منهما ليس عملا ببينة خارج، ضرورة كون المشهود به الجميع فتأمل، فليس هذا منهم إلا تأييدا لما قلناه سابقا من استفادة القضاء في ذلك بالنصف، فيكون حينئذ ذلك ميزانا من موازين القضاء من غير حاجة إلى تحالف.


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 413

و يدل عليه- مضافا إلى ما أسلفناه في كتاب الصلح(1)من خبر الدرهمين(2)و قاعدة توارد السببين الممكن إعمالهما معا على مسبب واحد نحو المتسابقين على حيازة مباح- إطلاق

خبر تميم بن طرفة(3)«إن رجلين ادعيا بعيرا فأقام كل واحد منهما بينة، فجعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بينهما»

لكن في بعض النسخ «عرفا بعيرا» و حينئذ يكون ظاهرا في غير المقام، بل قد يقال بظهور «ادعيا» في ذلك لا تداعيا في ما بينهما.

و إطلاق

قوله (عليه السلام) في الخبر الآتي(4): «لو لم تكن في يد أحدهما جعلتها بينهما نصفين»

مضافا إلى إطلاق النبوي(5)السابق و غيره.

بل هو كاد يكون صريح

المرسل(6)عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا «في البينتين تختلفان في الشي ء الواحد يدعيه الرجلان أنه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بينة كل واحد منهما و ليس في أيديهما، فأما إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، و إن كان في يد أحدهما فالبينة فيه على المدعي و اليمين على المدعى عليه».

و حينئذ فما عن ظاهر ابن أبي عقيل- من اعتبار القرعة التي هي لكل أمر مشكل في خصوص ما نحن فيه لأن التنصيف تكذيب للبينتين- كأنه اجتهاد في مقابلة النص، على أن نصوص القرعة(7)في المقام مع عدم


1- 1 راجع ج 26 ص 223.
2- 2 الوسائل الباب- 9- من كتاب الصلح الحديث 1.
3- 3 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم الحديث 4.
4- 4 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم الحديث 3.
5- 5 سنن البيهقي- 10 ص 255.
6- 6 المستدرك الباب- 10- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
7- 7 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم الحديث 5 و 6 و 7.

ج 40، ص: 414

التصريح في شي ء منها بخصوص الفرض لاستخراج من يكون عليه اليمين، و هو خلاف ظاهر المحكي عنه من التعويل عليها بدونه.

و كذا ما عن ابن الجنيد من أنه مع تساوي البينتين تعرض اليمين على المدعيين، فان حلف أحدهما استحق الجميع، و إن حلفا اقتسماها، و مع اختلافهما يقرع، فمن أخرجته القرعة حلف و أخذ العين، فإنه كما ترى لا دليل عليه، بل ظاهر الأدلة السابقة خلافه.

هذا و في الرياض بعد أن نسب المختار- الذي هو التنصيف تساوت البينتان عددا و عدالة و إطلاقا و تقييدا أو اختلفت- إلى الأشهر، بل عامة من تأخر إلا نادرا، قال: «خلافا للمهذب، و به قال جماعة من القدماء، فخصوا ذلك بما إذا تساويا في الأمور المتقدمة كلها، و حكموا مع الاختلاف فيها لأرجحها، و اختلفوا في بيان المرجح لها، فعن المفيد اعتبار الأعدلية خاصة هنا و إن اعتبر الأكثرية في غيرها، و عن الإسكافي اعتبار الأكثرية خاصة، و في المهذب اعتبارهما مرتبا بينهما الأعدلية فالأكثرية، و عن ابن حمزة في اعتباره التقييد أيضا مرددا بين الثلاثة غير مرتب بينها، و عن الديلمي اعتبار المرجح مطلقا غير مبين له أصلا».

و لم أعرف نقل هذه الأقوال على الوجه المزبور فيما نحن فيه لغيره، و الذي عثرت عليه في المقنعة في المسألة أجمع «و إذا تنازع نفسان في شي ء و أقام كل

واحد منهما بينة على دعواه بشاهدين عدلين و لا ترجيح لبعضهم على بعض بالعدالة حكم لكل واحد من النفسين بنصف الشي ء، و كان بينهما جميعا نصفين، و إن رجح بعضهم على بعض في العدالة حكم لأعدلهما شهودا و إن كان الشي ء في يد أحدهما و استوى شهودهما في العدالة حكم للخارج اليد منه و نزعت يد المتشبث به منه، و إن كان لأحدهما شهود أكثر عددا من شهود صاحبه مع تساويهم في العدالة حكم لأكثرهما شهودا

ج 40، ص: 415

مع يمينه بالله عز و جل على دعواه» و ليس فيها ما نحن فيه بالخصوص.

و الذي عثرت عليه في النهاية أيضا في المسألة «و من شهد عنده شاهدان عدلان على أن هذا لزيد و جاء آخران يشهدان أن ذلك الحق لعمرو فان كانت أيديهما خارجة منه فينبغي أن يحكم لأعدلهما شهودا، فان تساويا في العدالة كان الحكم لأكثرهما شهودا مع يمينه بأن له الحق، فإن تساويا في العدد أقرع بينهم، فمن خرج عليه حلف و كان الحكم له، فان امتنع من خرج اسمه في القرعة عن اليمين حلف الآخر، و كان الحكم له، فان امتنعا جميعا من اليمين كان الحق بينهما نصفين، و متى كان مع واحد منهما يد متصرفة فإن كانت البينة تشهد أن الحق ملك له فقط و تشهد الأخرى بالملك أيضا انتزع الحق من اليد المتصرفة، و أعطى اليد الخارجة، و إن شهدت البينة لليد المتصرفة بسبب الملك من بيع أو هبة أو معاوضة كانت أولى من اليد الخارجة» و لم يتعرض أيضا فيها لخصوص ما نحن فيه.

و أما ابن حمزة فقد ذكر في خصوص ما نحن فيه أنه إن تساوى البينتان كان المدعى به بينهما نصفين، و إن اختلفا لم يخل من ثلاثة أوجه: إما أن تكون إحداهما مطلقة و الأخرى مقيدة، و الحكم للمقيدة، أو تكون إحداهما عادلة و الأخرى غير عادلة، و الحكم للعادلة، أو تكون إحداهما أكثر مع التساوي في العدالة، و الحكم لأكثرهما عددا.

و على كل حال لا أعرف دليلا يعتد به على شي ء منها على وجه يصلح لمعارضة ما عرفت.

و ما عساه يتخيل- من الدليل عليها في الجملة من كون الشهادة كالاخبار المتعارضة التي يرجع فيها إلى الترجيح بغير المنصوص فضلا عنه- واضح الفساد، ضرورة وضوح الفرق بينهما بأن مبنى حجية الخبر خصوصا في مقام التراجيح على قوة الظن بخلاف الشهادة المعلوم عدم

ج 40، ص: 416

اعتبار ذلك فيها، بل الترجيح فيها مقصور على مقام خاص منها بمرجح خاص للدليل الخاص، بل لو رجح إحدى البينتين على الأخرى بشهادة جملة من الفساق على مضمون إحداهما لكان من منكرات الفقه.

و أما الاستدلال على بعضها بإطلاق بعض النصوص ففيه أنه يجب الخروج عنه بالأدلة السابقة المعتضدة بما سمعت، فلا محيص حينئذ عن القول بالتنصيف من دون ملاحظة شي ء من هذه المرجحات، نعم في اعتبار التحالف و عدمه ما عرفته سابقا حال عدم البينة، بل لعل القول بعدمه هنا أولى على بعض الوجوه المتقدمة. هذا كله في القسم الأول.

و أما الكلام في الثاني الذي هو أن تكون العين في يد أحدهما فالمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة أنه يقضي بها للخارج دون المتشبث ان شهدتا لهما بالملك المطلق مع التساوي في العدد و العدالة و عدمه، بل عن الخلاف و الغنية و السرائر و ظاهر المبسوط الإجماع عليه، بل عن الأول و الأخير نسبته إلى أخبار الفرقة، و هو الحجة بعد المرسل السابق عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(1)المنجبر بما سمعت، و التعليل في

خبر منصور(2)عن الصادق (عليه السلام) «قلت له: رجل في يده شاة فجاء رجل فادعاها و أقام البينة العدول أنها ولدت عنده لم يبع و لم يهب و جاء الذي في يده بالبينة مثلهم عدول أنها ولدت عنده لم يبع و لم يهب، قال أبو عبد الله (عليه السلام):

حقها للمدعي، و لا أقبل من الذي هي في يده بينة، لأن الله عز و جل أمر أن تطلب البينة من المدعي، فان كانت له بينة و إلا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر الله عز و جل».


1- 1 المستدرك الباب- 10- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم الحديث 14.

ج 40، ص: 417

و منه يظهر وجه الاستدلال أيضا

بالخبر المشهور(1)و هو «البينة على المدعي و اليمين على من أنكر»

بناء على أن المراد منه عدم قبول بينة للمنكر، و أن ذلك مختص بالمدعي، و إن كان دلالته على ذلك مع قطع النظر عن الخبر المزبور لا تخلو من نظر، ضرورة عدم دلالته على أزيد من استحقاق المدعي على المنكر اليمين دون البينة بخلاف المنكر، فان له على المدعي البينة، و هو غير قبول البينة من المنكر و لو في الجملة، المستفاد مما تسمعه من نصوص(2)الباب و فتاوى الأصحاب.

مضافا إلى عموم ما دل على حجية شهادة العدلين كتابا(3)و سنة(4)و لا معارض لذلك كله إلا خبر منصور(5)المزبور الذي في سنده ما فيه، و موافق لصريح المنقول عن ابن حنبل، و لعل ذلك لا يخلو من قوة و إن قلنا في خصوص الفرض بعدم النظر إليها في مقابلة بينة المدعي و إن جمعت المرجحات أجمع للإجماعات المحكية و غيرها.

و كيف كان ف فيه قول آخر ذكره في الخلاف و هو تقديم بينة الداخل، لكنه بعيد لما عرفت، بل لم نتحققه قولا له، و ذلك لأن المحكي عنه في البيع في مسألة العبد الذي يد أحدهما عليه «أن البينة بينة الخارج و إن شهدتا بالسبب» و في كتاب الدعاوي «إذا ادعيا ملكا مطلقا و يد أحدهما عليه كانت بينته أولى، و كذلك إن أضافاه إلى


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم الحديث 5 و الباب- 25- منها- الحديث 3.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم.
3- 3 سورة الطلاق: 65- الآية 2.
4- 4 الوسائل الباب- 1- من أبواب كيفية الحكم.
5- 5 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 14.

ج 40، ص: 418

سبب، و إن ادعى الملك مطلقا و الخارج أضافه إلى سبب كانت بينة الخارج أولى، و به قال الشافعي، و قال أصحاب الشافعي: إذا تنازعا عينا يد أحدهما عليها و أقام كل واحد منهما بينة سمعنا بينة كل واحد منهما، و قضينا لصاحب اليد، سواء تنازعا ملكا مطلقا أو ما يتكرر، فالمطلق كل ملك لم يذكر أحدهما سببه» و ما يتكرر كآنية الذهب و الصفر و الحديد، يقول كل واحد: صيغ في ملكي، و هذا يمكن أن يصاغ في ملك كل واحد منهما، و كذلك ما يمكن نسجه كالصوف و الخز، و ما لا يتكرر سببه مثل ثوب قطن و إبريسم، فإنه لا يمكن أن ينسج دفعتين، و كذلك النتاج لا يمكن أن تولد الدابة دفعتين و كل واحد منهما

يقول: ملكي نتج في ملكي، و به قال شريح و النخعي و مالك و الشافعي، و هل يحلف مع البينة: على قولين- إلى أن قال-: و قال أبو حنيفة و أصحابه: إن كان التداعي ملكا مطلقا أو ما يتكرر سببه لم تسمع البينة من المدعى عليه، و هو صاحب اليد و إن كان ملكا لا يتكرر سببه سمعنا بينة الداخل، و هذا هو الذي يقتضيه مذهبنا، و قد ذكرناه في النهاية و المبسوط و كتابي الأخبار، و قال:

أحمد لا تسمع بينة صاحب اليد بحال في أي مكان كان، و روى ذلك أصحابنا- إلى أن قال-: و يدل على مذهبنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و

الخبر المشهور(1)عن النبي (صلى الله عليه و آله) «البينة على المدعي و اليمين على المدعي عليه»

و يدل على الأول ما رواه جابر(2)و ما رواه غياث(3)أي المشتملان على تقديم بينة ذي اليد مع ذكر السبب، و هو النتاج في كل منهما».


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم الحديث 5.
2- 2 سنن البيهقي- ج 10 ص 256.
3- 3 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.

ج 40، ص: 419

و الظاهر أن ما ذكره أولا ليس مذهبا له، بل مذهبه الأخير الذي استدل عليه بما عرفت، نعم في كشف اللثام نسبة الخلاف في المقام إلى المبسوط و الوسيلة فقدما بينة الداخل لتأيد البينة باليد، و لما سيأتي من أدلة التقديم مع شهادتهما بالسبب بناء على مساواة الإطلاق له أو أولويته منه، و هل يستحلف مع ذلك؟ فعن الشيخ لا، بناء على استعمال بينته، و الأقوى نعم، للنص الكاشف أن بينته دفعت بينة المدعي بعد فرض عموم الدليل على حجية الجميع، فيبقى حينئذ استحقاق المدعى عليه اليمين على مقتضى إطلاق دليله.

و إلى الصدوقين و المفيد لحكمهم بترجيح بينة الخارج بعد التساوي عدالة، و زاد المفيد و عددا، ل

خبر أبي بصير(1)سأل الصادق (عليه السلام) «عن رجل يأتي القوم فيدعي دارا في أيديهم و يقيم الذي في يديه الدار البينة أنه ورثها عن أبيه و لا يدري كيف كان أمرها، فقال:

أكثرهم بينة يستحلف و تدفع إليه، و ذكر أن عليا (عليه السلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة فقامت البينة لهؤلاء أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا و لم يهبوا و أقام هؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا و لم يهبوا، فقضى بها لأكثرهم بينة و استحلفهم، قال: فسألته حينئذ فقلت: أ رأيت إن كان الذي ادعى الدار قال: إن أبى هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، و لم يقم الذي هو فيها بينة إلا أنه ورثها عن أبيه، قال: إذا كان أمرها هكذا فهي للذي ادعاها و أقام البينة عليها».

قال الصدوق: «لو قال الذي في يده الدار: إنها لي و هي ملكي و أقام على ذلك بينة و أقام المدعي على دعواه بينة كان الحق أن يحكم بها للمدعي، لأن الله تعالى إنما أوجب البينة على المدعي و لم يوجبها على المدعى


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 420

عليه، و لكن هذا المدعى عليه ذكر أنه ورثها من أبيه، و لا يدري كيف أمرها، و لهذا أوجب الحكم باستحلاف أكثرهم بينة و دفع الدار إليه».

و لعل التأمل في كلامه هذا يقتضي موافقته على تقديم بينة الخارج في المقام، نعم يستحلف أكثرهم بينة مع تقييد بينة الداخل، و حينئذ فنقل خلاف ذلك عنه لا يخلو من إشكال.

و على كل حال فلا يخفى عليك أخصية الدليل من الدعوى، لعدم تعرض للأعدلية فيها، بل خروجه عنها، ضرورة ذكر السبب في بينة المنكر و الإطلاق في بينة المدعي، بل لا يخلو ذيله من منافاة لصدره، إلا أن يفرض الأول على جهة (وجه خ ل) التعارض، و الثاني على عدمه.

و إلى أبي علي فرجح ذا اليد مع تساوي البينتين، و حكم بإحلافهما، قال: «فان حلفا جميعا أو أبيا أو حلف الذي في يده كان محكوما للذي هي في يده بها، فان حلف الذي ليست في يده و أبى الذي في يده أن يحلف حكم بها للحالف قال-: و لو اختلف أعداد الشهود و كان الذي هي في يده أكثر شهودا كان أولى باليمين إن بذلها، فان حلف حكم له بها، و لو كان الأكثر شهودا، الذي ليست في يده فحلف و أبى الذي هي في يده أن يحلف أخرجت ممن كانت في يده و سلمت إلى الحالف مع شهوده الأكثر من شهود من كانت في يده».

و هو كما ترى و إن قال في كشف اللثام: «لعله جمع بين نصوص تقديم ذي اليد و ما أطلق من النصوص بتقديم الأرجح من البينتين».

و كيف كان ف لو شهدتا بالسبب قيل و القائل الشيخ في ظاهر النهاية و المحكي عن كتابي الأخبار يقضي لصاحب اليد و إن أطلق في الأول تقديم بينته إذا شهدت بالسبب و خصها في الأخيرين بما إذا شهدتا به لقضاء علي (عليه السلام) في الدابة

ج 40، ص: 421

في ما رواه

إسحاق(1)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «إن رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابة في أيديهما و أقام كل واحد منهما البينة أنها نتجت عنده، فأحلفهما علي (عليه السلام) فحلف أحدهما و أبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل: فلو لم يكن في يد واحد منهما و أقاما البينة، قال: أحلفهما فأيهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف، فان حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين، قيل:

فان كانت في يد أحدهما و أقاما جميعا بينة، قال: أقضي بها للحالف الذي هي في يده».

و خبر غياث(2)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «إن أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دابة كلاهما أقاما البينة أنه أنتجها فقضى بها للذي هي في يده و قال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين».

مؤيدا ذلك بما رواه

العامة عن جابر بن عبد الله الأنصاري(3)«إن رجلين تداعيا دابة و أقام كل منهما بينة أنها دابته أنتجها فقضى رسول الله (صلى الله عليه و آله) للذي في يده».

و قيل و القائل المشهور على ما حكي بل عن الغنية الإجماع عليه يقضى للخارج ل لأدلة التي سمعتها سابقا التي منها خبر منصور(4)السابق المشتمل مع ذلك على أنه لا بينة على ذي اليد كما لا يمين على المدعي، عملا ب

قوله (صلى الله عليه و آله)(5): «و اليمين على من أنكر»

و التفصيل قاطع للشركة و إن كان فيه ما فيه.

و منه يعلم ما في قوله و هو أولى لما عرفت، و لكن عليه


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.
3- 3 سنن البيهقي- ج 10 ص 256.
4- 4 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 14.
5- 5 الوسائل الباب- 25- من أبواب كيفية الحكم الحديث 3.

ج 40، ص: 422

لا إشكال في تقديمها مع فرض تقييد بينة الخارج و إطلاق بينة الداخل، و هي الصورة الثالثة التي تركها المصنف اعتمادا على ظهور حكمها بالأولوية القطعية على التقدير المزبور و إن كان الذي يقوى خلافه للخبرين(1)المؤيدين بخبر جابر(2)و بما دل على حجية شهادة العدلين و لو من المنكر، حتى نصوص المقام، و مقتضاها حينئذ دفع حجة المدعي الذي لم يعلم تقدمها عليها، فيقى حق اليمين على المنكر بحاله الذي مقتضى دليله استحقاقه و لو كان مع المنكر بينة، خلافا للمحكي عن الشيخ فأسقط اليمين عنه ترجيحا لبينته باليد على بينة الخارج، فكما لا يحلف الخارج لا يحلف الداخل، و هو مبني على عدم تساقط البينتين، بل على استعمالهما، و الأقوى ما عرفت.

و على كل حال فما عن المجلسي من حمله النصوص المزبورة على التقية لشهرته بين العامة فتوى و رواية يدفعه ما سمعت من موافقة خبر بينة الخارج لأحمد بن حنبل أيضا، بل ملاحظة كلام العامة يقضي باضطراب أقوالهم في ذلك على وجه لا تقية في إظهار الحق فيما بينها، خصوصا مع نسبته إلى علي (عليه السلام) على أن المحكي عن الشيخ نسبته إلى مذهبنا و أنه الذي تدل عليه أخبارنا، فكيف يحمل مثله على التقية، و الله العالم.

هذا كله مع تقييدهما أما لو شهدت للمتشبث بالسبب و للخارج بالملك المطلق فإنه يقضي لصاحب اليد سواء كان السبب مما لا يتكرر كالنتاج و نساجة الثوب

الكتان أو يتكرر كالبيع و الصياغة كما عن الشيخ في النهاية و كتابي الأخبار و المبسوط و القاضي و الطبرسي و الفاضلين و الشهيدين، بل عن الأول الاشعار بالإجماع


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم الحديث 2 و 3.
2- 2 سنن البيهقي ج 10 ص 256.

ج 40، ص: 423

حيث قال: «قبلناها» بل عنه أيضا أنه قال: «بلا خلاف بيننا لقوة البينة حينئذ».

قيل: و لما في

خبر عبد الله بن سنان(1)«أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان إذا اختصم الخصمان في جارية فزعم أحدهما أنه اشتراها و زعم الآخر أنه أنتجها فكان إذا أقاما البينة جميعا قضى بها للذي أنتجت عنده»

بناء على أن مبنى ذلك قوة النتاج على الشراء، و فيه أن ذلك يقتضي الترجيح في الأسباب، و لم يلتزم به القائل المزبور في المقيدتين، و لعل الأولى الاستدلال له بإطلاق قول أمير المؤمنين (عليه السلام)(2)المتقدم.

و قيل و القائل ابن إدريس فيما حكي عنه بل يقضى للخارج و إن شهدت بينته بالملك المطلق بل في الرياض عن الصدوقين و المفيد و الحلبي و ابن زهرة إطلاق تقديم بينة الخارج، بل عن الأخير الإجماع عليه عملا بالخبر.

و الأول أشبه بأصول المذهب و قواعده المقتضية حجية البينة من المدعي و المنكر، فاما أن يفزع إلى ترجيح بينة المنكر بالتقييد و اليد، أو يقال: لا دليل على الترجيح بهما، و مقتضاه تكافؤهما و بقاء الدعوى، كما إذا لم تكن بينة، فيتوجه اليمين على صاحب اليد الذي هو المدعى عليه لغة و شرعا و عرفا، و عليه ينزل قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخبرين(3)السابقين، و يستفاد منه ما نحن فيه بالأولوية، نعم يشكل الاستدلال للمصنف القائل في مفروض الخبرين بتقديم بينة الخارج، إذ لا وجه للأولوية حينئذ، فليس له إلا ما عرفت، و فيه ما سمعت.


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 15.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
3- 3 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2 و 3.

ج 40، ص: 424

و بذلك كله ظهر لك أن الأقوى تقديم بينة الداخل إلا في المطلقتين إن تم الإجماع عليها، و أولى منها ما إذا كانت بينة الخارج مقيدة و الداخل مطلقة، و إن أمكن ترجيح ما ذكره المصنف بالشهرة على فرض تحققها، و الله العالم.

و أما لو كانت في يد ثالث و هي الصورة الثالثة ففي المتن و غيره قضي بأرجح البينتين عدالة، فإن تساويا قضي لأكثرهما شهودا، و مع التساوي عددا و عدالة يقرع بينهما، فمن خرج اسمه أحلف و قضي له، و لو امتنع أحلف الآخر و قضي له، و إن نكلا قضي به بينهما بالسوية بل في المسالك و غيرها نسبته إلى الشهرة، بل في الغنية الإجماع عليه، بل في الرياض نسبته إلى الأشهر، بل عامة متأخري أصحابنا و النهاية و كتابي الحديث و موضع من الخلاف و الحلي و القاضي و الحلبي و ابن حمزة و يحيى بن سعيد و ابن زهرة، مع أنه هو بعد ذلك قد اعترف باختلاف كثير من فتاوى القدماء في الترجيح بالأعدلية و الأكثرية و الرجوع بعد التساوي فيهما إلى القرعة.

قال: «فبين من اقتصر على اعتبار الأعدلية خاصة كالمفيد، من اقتصر على اعتبار الأكثرية كذلك كالاسكافي و الصدوقين، نعم ذكرا قبل اعتبارها إن أحق المدعيين من عدل شاهداه، فان استوى الشهود في العدالة فأكثرهما شهودا، و هو ليس نصا في اعتبار الأعدلية، و بين من اقتصر على اعتبارهما خاصة و لم يذكر الترتيب بينهما و لا القرعة بعدهما كالشيخ في موضع من الخلاف قائلا إنه الظاهر من مذهب الأصحاب، و بين من اقتصر على ذكر المرجح مطلقا من دون بيان له و لا ذكر قرعة كالديلمي و الشيخ في موضع من الخلاف، لكنه ذكر القرعة بعد العجز عن الترجيح مدعيا عليه الإجماع من الإمامية، و بين من فصل بعين ما في

ج 40، ص: 425

العبارة لكنه مقدما للأكثرية على الأعدلية كالحلي في السرائر و عزه إلى ظاهر الأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه، و بين من اقتصر على القرعة خاصة كالعماني».

و من الغريب الركون بعد ذلك إلى دعوى شهرة محققة فضلا عن إجماع ابن زهرة، و أغرب من ذلك اعتماده في الرياض عليه، و جعله هو الجامع بين النصوص و الفتاوى المختلفة قال: «خصوصا بعد اعتضاده بالشهرة المحكية، و ما سمعته من إجماع الشيخ صريحا و ظاهرا و إجماع السرائر في الجملة» إذ هو كما ترى لا يفيد الفقيه طمأنينة، على أنه ليس على جميع الأحكام المزبورة، قال: «و إن كان مع كل منهما بينة و لا يد لأحدهما حكم لأعدلهما شهودا، فان استويا في ذلك حكم لأكثرهما شهودا مع يمينه، فان استويا أقرع بينهما، فمن خرج اسمه حلف و حكم له، و إن كان لكل واحد منهما يد و لا بينة لأحدهما كان الشي ء بينهما نصفين، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة» و هو خال عن حلف الآخر و عن القضاء بالنصف مع نكولهما.

و على كل حال فلا ريب في عدم الوثوق بالإجماع المزبور بعد ما عرفت خصوصا مع شدة اختلاف النصوص أيضا، ف

في الصحيح(1)«أن عليا (عليه السلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة فقامت البينة أنها لهؤلاء أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا و لم يهبوا و قامت لهؤلاء البينة بمثل ذلك، فقضى بها لأكثرهم بينة و استحلفهم».

و في

صحيح داود(2)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «في شاهدين شهدا على أمر واحد و جاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا و اختلفوا قال: يقرع بينهم، فأيهم قرع فعليه اليمين، و هو أولى بالقضاء».


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 6.

ج 40، ص: 426

و نحوه

الصحيح الآخر(1)عنه (عليه السلام) أيضا غير أنه قال:

«أولى بالحق».

و في

خبر البصري(2)عنه (عليه السلام) أيضا قال: «كان علي (عليه السلام) إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء و عددهم سواء أقرع بينهم على أيهم

يصير اليمين، قال: و كان يقول: اللهم رب السماوات السبع أيهم كان الحق له فأده إليه، ثم يجعل الحق للذي يصير عليه اليمين إذا حلف».

و في

موثق سماعة(3)عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أن رجلين اختصما إلى علي (عليه السلام) في دابة فزعم كل واحد منهما أنها نتجت على مذوده و أقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين فعلم السهمين كل واحد بعلامة- ثم قال-: اللهم رب السماوات السبع و رب الأرضين السبع و رب العرش العظيم عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم، أيهما كان صاحب الدابة و هو أولى بها فأسألك أن تخرج سهمه، فخرج سهم أحدهما فقضى له بها».

و نحوه

خبر عبد الله بن سنان(4) إلا أنه قال في آخره: «فأسألك أن تقرع و تخرج اسمه، فخرج اسم أحدهما فقضى له بها»

إلى غير ذلك من النصوص التي تقدم بعضها أيضا.

إنما الكلام في استنباط الأحكام المذكورة أو غيرها منها، فالتحقيق أن يقال: إنه يمكن استفادة ترجيح الحكم المزبور في خصوص هذه الصورة بتخصيص نصوص القرعة بما إذا تساوت البينتان عددا و عدالة و لم تكن


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 11.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.
3- 3 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 12.
4- 4 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 15.

ج 40، ص: 427

العين في أيديهما، أما الأول فواضح، و أما الثاني فلما سمعته من النص(1)الدال على التنصيف في ما إذا كان بأيديهما، و على أن القول قوله إذا كان في يد واحد منهما(2)و أصرح من ذلك

المرسل(3)عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا «في البينتين يختلفان في الشي ء الواحد يدعيه الرجلان أنه يقرع بينهما فيه إذا اعتدلت بينة كل واحد منهما

و ليس في أيديهما، فإن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، و إن كان في يد أحدهما فالبينة فيه على المدعي و اليمين على المدعى عليه».

بل منه يستفاد عدم العبرة بهذه المرجحات في غير هذه الصورة، و لذا لم يعتبرها الأكثر في غيرها، خلافا لمن عرفت.

كما أنه يستفاد أيضا منه و من خبر البصري(4)كون الأعدلية مرجحة، ضرورة عدم صدق الاعتدال معها، بل ذكرها مع العدد في خبر البصري يقتضي كونها مثله في الترجيح المستفاد من دليله بالخصوص، و إلا لم يكن ثمرة لذكره معه بعد فرض معلومية كونه بمجرده مرجحا، كما سمعت التصريح به في الصحيح(5).

نعم قد يقال: إن المتجه بناء على ذلك ما سمعته من ابن إدريس ناسبا له إلى ظاهر الأصحاب من تقديم الأكثرية عليها، لإطلاق دليلها القاضي بالرجوع إليها و لو مع الأعدلية في الجانب الآخر، و لا ينافي ذلك


1- 1 لم يتقدم فيما سبق ما يدل على التنصيف فيما إذا كان بأيديهما غير المرسل الذي سيذكره، و ما دل على التنصيف فيما تقدم هو خبري إسحاق و غياث و موردهما ما لو لم تكن في يد واحد منهما.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2 و 3.
3- 3 المستدرك الباب- 10- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.
4- 4 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.
5- 5 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 428

ثبوت الترجيح بها في الجملة إلا أن المشهور خلافه كما عرفت، و لعله لإطلاق ما دل على الترجيح بهما من النص و غيره، فيحصل التعارض بينهما في صورة اختلاف البينتين بالأعدلية في واحدة و الأكثرية في الأخرى شبه التعارض من وجه. و لا ريب في أن الترجيح للأعدلية، لإجماع ابن زهرة المعتضد بالشهرة المحققة بين الأصحاب و وجود ذلك في رسالة علي بن بابويه التي قيل فيها: كانوا إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إليها و في النهاية التي هي متون الأخبار و غير ذلك.

و أما اشتراط اليمين لمن خرج بالقرعة فهو صريح بعض النصوص(1)بل

قوله (عليه السلام) في خبر البصري(2): «ثم يجعل»

إلى آخره مشعر بما ذكره الأصحاب من كون اليمين على الآخر إذا لم يحلف المخرج بالقرعة، ضرورة اقتضاء الشرط عدم كون الحق له بعدم اليمين و الفرض أنه منحصر فيهما، و احتمال ثبوته للآخر من دون يمين مناف ل

قوله (صلى الله عليه و آله)(3): «إنما أقضي عليكم بالبينات و الأيمان»

مع أن ثبوته فيمن أخرجته القرعة يقتضي أولويته بذلك، بل لعل إقراع الامام لاستخراج من يصير عليه اليمين يراد منه الأعم من الصيرورة و لو بالأخرة، بل لعل إجماله ب

قوله (عليه السلام): «ثم يجعل»

إلى آخره إشارة إلى ذلك، فتأمل فإنه دقيق.

بل منه يعلم اعتبار اليمين أيضا من ذي البينة المرجحة بغير القرعة كالأعدلية و الأكثرية، و إن ترك المصنف و جماعة التعرض له فيهما، حتى ظن بعض الناس الخلاف في ذلك، إلا أن الظاهر كون تركه اعتمادا على


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 7.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.
3- 3 الوسائل الباب- 2- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1 و فيه « إنما أقضي بينكم بالبينات و الأيمان».

ج 40، ص: 429

ما ذكروه في القرعة التي هي أحد المرجحات للبينة، كما يومئ إليه بعض نصوصها(1)على أنه قد نص عليه في الأكثرية التي ذكرت في الخبر(2)مع الأعدلية على وجه يظهر اتحادهما في كيفية الترجيح، و لذا نص غير واحد على اليمين فيها، كما نص عليه بعض في الأعدلية.

و حينئذ فاحتمال عدم اليمين فيهما أو في خصوص الأعدلية في غاية الضعف، كاحتمال عدم اليمين مع القرعة الذي هو كالاجتهاد في مقابلة النص و إن ترك في بعض نصوصها كخبري سماعة(3)و عبد الله بن سنان(4)المحمولين على قضية في واقعة قد اشتملت على دعاء الامام (عليه السلام)- الذي لا برد-

بخروج اسم من له الحق، لا أنه أقرع على من تصير اليمين منهما كما في خبر البصري(5)و هذه دقيقة أخرى فيه لطيفة تظهر بملاحظة كيفية ما وقع من الإقراع فيه و فيهما، فلاحظ و تأمل.

و أما التنصيف بينهما على تقدير النكول فلإطلاق قوله (عليه السلام) في

خبر إسحاق(6): «و إذا لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين»

و هذا أقصى ما يمكن أن يقال في النصوص، و لا ينافيه مخالفة ما في بعض نصوص أخر بعد الإجماع بقسميه على اطراحه على وجه لا يقدح فيه ندرة المخالف.

و منه يعلم ضعف ما قال ه في المبسوط من أنه مع التساوي يقضي بينهما بالقرعة إن شهدتا أي البينتان بالملك المطلق، و يقسم بينهما بالسوية إن شهدتا بالملك المقيد و إن اختصت إحداهما بالتقييد قضي بها دون الأخرى و إن قيل في توجيهه: إنه جمع بين ما دل على القرعة و خبري تميم بن طرفة(7)و غياث(8)المتقدمين سابقا بالتفصيل المزبور.


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 7.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.
3- 3 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 12.
4- 4 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 15.
5- 5 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.
6- 6 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
7- 7 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 4.
8- 8 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.

ج 40، ص: 430

لكن فيه أن المفروض في خبري سماعة(1)و ابن سنان(2)من أخبار القرعة المقيدتين(3)كما أن فيها المطلق أيضا، و في أخبار التنصيف المقيدتين كخبر غياث(4)و المطلقتين كخبر تميم بن طرفة(5)فليس في ما ذكره جمع بين النصوص، بل في خبر إسحاق(6)ما هو خارج عن الجميع، و هو تحليفهما معا، فأيهما حلف و نكل الآخر كانت للحالف، فان حلفا جميعا كانت بينهما نصفين.

و لم أعرف من عمل به عدا ما تسمعه من ظاهر أبي علي و لذا حمله الشيخ على أنهما اصطلحا على ذلك، و عن الاستبصار «و يمكن أن يكون ذلك نائبا عن القرعة بأن لا يختارا القرعة و اختار كل واحد اليمين و رأى ذلك الامام صوابا كان مخيرا بين العمل عليه و العمل على القرعة».

نعم في كشف اللثام عن ظاهر أبي علي العمل به، قال: «و لو كانت العين في أيديهما جميعا أو لم تكن في يد واحد و تساوى عدد البينتين عرضت اليمين على المدعيين، فأيهما حلف استحقها إن أبى الآخر، و إن حلفا جميعا كانت بينهما نصفين، قال: و لو اختلفت أعداد البينتين فتشاحا على اليمين أقرع بينهما بسهام على أعداد الشهود لكل واحد منهما، فأيهما خرج سهمه كانت اليمين عليه، فإذا حلف دفعت العين التي قد ادعيت إليه».

و كأنه استند في الأخير إلى

خبر السكوني(7)عن الصادق عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) «أن عليا (عليه السلام) قضى في رجلين ادعيا بغلة فأقام أحدهما شاهدين و الآخر خمسة، فقال: لصاحب الخمسة


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 12.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 15.
3- 3 هكذا في النسخة الأصلية، و العبارة غير نقية، فإن« المقيدتين» خبر« أن» و هي في محل الرفع، و الصحيح هكذا« إقامة المقيدتين».
4- 4 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.
5- 5 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 4.
6- 6 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
7- 7 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 10.

ج 40، ص: 431

خمسة أسهم، و لصاحب الشاهدين سهمان»

حاملا للسهام فيه على سهام القرعة، و فائدة تكثير السهام نظير ما مر ذكره في القسمة، و هو تكثير رقاع الأكثر شهودا ليكون أقرب إلى الخروج.

لكن لا يخفى عليك أنه مناف لما دل على الترجيح بالكثرة، كما لا يخفى عليك قصوره عن المقاومة له من وجوه، و لذا حكي عن الشيخ حمله على الاصطلاح. و في كشف اللثام «و أولى منه استناد قضائه إلى أمر آخر» كقصور مقاومة ما دل على التنصيف مطلقا عن أخبار القرعة المعتضدة بما سمعت، فالجمع حينئذ بإرادة التنصيف بعد القرعة على الوجه الذي عرفت أو بغير ذلك أولى.

و لذا قال المصنف: إن الأول أنسب بالمنقول بل لعل التأمل الجيد يقتضي عدم ظهور شي ء من النصوص في كون التقييد مرجحا على وجه يقتضي اختصاص

من كانت بينته كذلك بالمال، و خبر غياث(1)و غيره مما ذكر فيه المقيدتان ظاهر في ترجيح اليد.

و منه يعلم حينئذ النظر في ترجيح بينة الداخل به على بينة الخارج إذا كانت مطلقة و إلا لاقتضى ذلك التوقف مع فرض تقييدهما معا و الرجوع إلى القرعة لا ترجيح بينة الخارج أو الداخل، فالتحقيق حينئذ الرجوع إلى النص في ذلك لا التقييد و الإطلاق الذي لم نجد للترجيح به أثرا في نصوصنا، و إنما هو شي ء ذكره العامة، نعم في بعض النصوص الترجيح بالأسباب كما سمعته في خبر النتاج و الشراء المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(2)المقدم لبينة الأول على الثاني بناء على أن الوجه فيه ذلك، و هو مع عدم القائل به خروج عما نحن فيه.

و لو أقر الثالث بالعين لأحدهما فالوجه- كما في القواعد- أنه


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 3.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 15.

ج 40، ص: 432

كاليد، تقدم على قيام البينتين أو تأخر، لقيام المعنى القائم في اليد فيه، و يحتمل العدم بعد إقامة البينتين، لكشفهما عن أن يد المقر مستحقة للإزالة، فإقراره كإقرار الأجنبي، بل قد يشكل- إن لم يكن إجماع- اندراج ذلك قبل إقامة البينتين فضلا عما بعده في ما دل على حكم ذي اليد بالنسبة إلى الدخول و الخروج، و لعله لذا أطلق بعضهم الحكم من غير فرق بين إقرار الثالث و عدمه، فتأمل جيدا.

و لو لم يكن العين في يد أحد- و هي الصورة الرابعة- فالظاهر أن حكمها لهم ما كانت في يد ثالث، لإطلاق الدليل، و لا ينافي ذلك إطلاق خبر تميم بن طرفة(1)بعد تنزيله على غيره، و الله العالم.

و كيف كان فلا خلاف بل و لا إشكال في أنه يتحقق التعارض بين الشاهدين و الشاهد و المرأتين مثلا، لصدق اسم البينة على كل منهما، فتشمله الأدلة السابقة و إن كان قد ينساق إلى الذهن في بادئ النظر قوة الأولى على الثانية أو بالعكس للأكثرية، لكن لا عبرة به لأنه كالاستحسان.

و لا يتحقق بين الشاهدين و شاهد و يمين لا لما ذكر من بعض الأمور الاعتبارية، بل لعدم صدق اسم البينة، فلا يندرج حينئذ في النصوص السابقة.

و ربما قال الشيخ في فصل الرجوع عن الشهادة من المبسوط:

نادرا يتعارضان و يقرع بينهما كالبينتين ناسبا له إلى مذهبنا، لكن لم نتحققه و إن حكاه الشهيد عنه صريحا، إلا أن المحكي عن الفخر نسبة التردد إليه، لاقتصاره على نقل قولي العامة في ذلك و على تقديره فلا ريب في ضعفه.


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 4.

ج 40، ص: 433

بل لا تعارض بين شاهد و امرأتين و شاهد و يمين لما عرفت فضلا عن الشاهدين، فلا يلتفت إليه، على أن الأكثرية متحققة بل يقضى بالشاهدين و الشاهد و المرأتين دون الشاهد و اليمين.

و كذا لا خلاف و لا إشكال في أن كل موضع قضينا فيه بالقسمة فإنما هو في موضع يمكن فرضها بإمكان الاشتراك فيه و إن لم يقسم فعلا كالعبد و الأمة دون ما يمتنع لامتناع الشركة فيه كما إذا تداعى رجلان زوجة فيحكم حينئذ بالقرعة فيه قطعا كما نص عليه في

مرسل داود بن أبي زيد العطار(1)عن الصادق (عليه السلام) «في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود فشهدوا أن هذه المرأة امرأة فلان و جاء آخرون فشهدوا أنها امرأة فلان فاعتدل الشهود و عدلوا، قال: يقرع بين الشهود، فمن خرج اسمه فهو المحق، و هو أولى بها».

بل في المسالك «لا يمين عليه، لأن فائدته القضاء للآخر مع نكوله و هو منفي هنا» و فيه أنه لا مانع منه، و إنما المنفي التنصيف بينهما على تقدير النكول منهما، بل يتجه فيه انتفاؤها عنهما. نعم لا تعرض في الخبر لليمين، و لا ينافي إطلاق ثبوتها في غيره، خصوصا بعد ما عرفت أن القرعة لا ثبات الرجحان الذي يتبعه اليمين على حسب الترجيح بالأعدلية و الأكثرية، بل قد يقال إن ظاهر المصنف و غيره ذلك أيضا لاقتصارهم في مخالفة السابقة على عدم التنصيف هنا، لعدم تعقله.

و مما ذكرنا يظهر لك النظر في كلام الفاضل حيث قال: «فصل في أسباب الترجيح لحجة على أخرى، و هي ثلاثة: الأول قوة الحجة كالشاهدين و الشاهد و المرأتين على الشاهد و اليمين، و لو اقترنت اليد بالحجة الضعيفة احتمل


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 8 و هو مرسل داود بن أبي يزيد العطار.

ج 40، ص: 434

تقديمها و التعادل» إذ قد عرفت عدم اندراجها في النصوص، فلا تعارض أصلا، بل يكون اليد- كما إذا لم يكن شاهد- لا تعارض بينة الخارج، كما هو واضح، نعم لو قلنا: إن مدرك تقديم الشاهدين على الشاهد و اليمين قوة الأول و ضعف الثاني توجه حينئذ احتمال قوته لو اقترن بمرجح آخر و لو ضعيف، فان الضعيفين يغلبان القوي، إلا أنه كما ترى يناسب مذاق العامة، و لذا كثر نحو ذلك في كلامهم، أما على أصولنا التي لا قياس فيها و لا استحسان و لا مثل هذه الاعتبارات فلا يتوجه ذلك، إذ قد عرفت أن الموجود في نصوصنا تعارض البينات لا كل مثبت للحق من الشاهد و اليمين و اليمين المردودة و نحوهما، فتأمل جيدا.

ثم قال: «الثاني اليد، فيقدم الداخل على الخارج على رأي، و الأقوى العكس إلا أن يقيمها بعد بينة الخارج على إشكال، فلو ادعى عينا في يد غيره فأقام البينة فأخذها منه ثم أقام الذي كانت في يده أنها له نقض الحكم و أعيدت إليه على إشكال» و فيه أيضا ما لا يخفى، ضرورة اقتضاء ذلك التسلسل المنافي لحكمة القضاء الذي هو الفصل بين المتخاصمين، و الفرض أنها دعوى واحدة، فالمتجه عدم سماعها مطلقا.

ثم قال أيضا: «و لو أراد ذو اليد إقامة البينة قبل ادعاء من ينازعه فالأقرب الجواز، و لو أقام بعد الدعوى أي ممن لا بينة له لإسقاط اليمين جاز» و فيه أن مبنى تقديم بينة الخارج على أنه لا بينة للداخل فلا يسجل لها حينئذ، و لا تسقط يمينا كما هو واضح، على أن فائدة هذا التسجيل إن كان لقطع ما يأتي من الدعاوي، فهو واضح البطلان، و إن كان لإرادة الحكم له فيما يأتي لو توجهت عليه دعوى بناء على تقديم بينة الداخل ففيه أن المدار على التعارض حال الدعوى.

على أنه ليس في كلامه إشعار ببناء المسألة على تقديم بينة الداخل،

ج 40، ص: 435

نعم صرح في التحرير و قال: «لا أعرف لأصحابنا نصا في ذلك، و منع أكثر الجمهور منه، إذ لا بينة إلا على خصم، فطريقه أن ينصب لنفسه خصما- ثم قال-: و الأقرب عندي سماع البينة لفائدة التسجيل».

ثم قال أيضا: «و لو أقام بعد إزالة يده ببينة الخارج و ادعى ملكا سابقا ففي التقديم بسبب يده التي سبق القضاء بإزالتها إشكال» و في كشف اللثام تبعا للتحرير «من سبق يده، و أنه الداخل و البينة تشهد له بالملك المستند إلى ذلك الزمان، و من كون تلك اليد قد اتصل القضاء بزوالها، أما لو أقام البينة بعد القضاء للخارج قبل إزالة اليد فهي بينة الداخل» و فيه ما لا يخفى من أنه ليس من الداخل على التقديرين، بل قد عرفت عدم سماع دعواه لانقطاعها بالقضاء للخارج.

ثم قال أيضا: «و إذا قدمنا بينة الداخل فالأقرب أنه يحتاج إلى اليمين» و كأنه مناف لما ذكره سابقا من إسقاطها اليمين، اللهم إلا أن يفرق بين معارضة البينة و بين معارضة مجرد الدعوى، فتسقط على الأول، فيبقى استحقاق اليمين بحاله بخلاف الثاني، و لعل ذلك يكون فائدة التسجيل الأول، إلا أنه لا يخفى عليك ما فيه أيضا فتأمل.

و إذا قامت البينة على الداخل أو أقر فادعى الشراء من المدعي أو ثبت الدين عليه ببينته أو إقرار فادعى الإبراء فإن كانت البينة بدعواه حاضرة سمعت قبل إزالة اليد و توفية الدين، و إن كانت غائبة طولب في الوقت بالتسليم، لثبوت الاستحقاق شرعا من غير ظهور معارض، و ليس له المطالبة بكفيل، للأصل.

ثم إذا أقام البينة استرد، و ربما احتمل العدم و التأجيل ثلاثة أيام كما هو حكم مدعي جرح الشهود، و لكنه واضح الضعف، نعم لو طلب

ج 40، ص: 436

الإحلاف على أنه لم يبعه منه أو لم يبرأه قدم على الاستيفاء، لكونه كحضور البينة.

هذا و في القواعد «و لو اعترف لغيره بملك لم تسمع بعده دعواه لأخذه بإقراره حتى يدعي تلقي الملك من المقر له إما بواسطة أو غيرها، و لو لم يعترف و لكن أخذ منه لغيره بحجة ففي احتياجه بعده في الدعوى إلى ذكر التلقي منه إشكال».

و في كشف اللثام «لما تقدم من الإشكال في ما يقدم من دعوى الداخل و إقامة البينة بعد إزالة يده فيحتاج إليه على عدم السماع، بل هو عين ما تقدم، و في التحرير احتمل أن لا تسمع حتى يذكر في الدعوى تلقى الملك منه، لأن البينة في حقه كالإقرار و السماع، لأن المقر مؤاخذ بإقراره في الاستقبال، و إلا لم يكن للأقارير فائدة، أما حكم البينة فلا يلزم على كل حال، و إن كانت الحجة هي اليمين المردودة بنيت المسألة على كونها كالإقرار أو البينة».

قلت: قد يقال: يكفي في صحة دعواه مع الإقرار فضلا عن غيره احتمال تلقيه و إن لم يذكره، حملا لدعوى المسلم على الوجه الصحيح شرعا، فتشملها العمومات، و على كل حال فالأجنبي إذا لم يعترف بالعين لمن في يده لا يحتاج في دعواه إلى ذكر التلقي قطعا، و إن كان ذو اليد أقام بينة لإسقاط اليمين أو التسجيل، فإن البينة ليست حجة عليه، لأنه مدع، و كذا الأجنبي عن المتداعيين أولا أحدهما ذو اليد و إن أقام الآخر البينة، فإن بينته حجة على ذي اليد لا عليه، فله دعوى الملك مطلقا، كما هو واضح.

و لو ادعى عليه قرضا أو ثمنا فجحد الاستحقاق كان له أن يدعي الإيفاء و يقيم البينة عليه، لعدم المنافاة، أما لو جحدهما بمعنى أني

ج 40، ص: 437

لم استقرض و لم اشتر لم تسمع دعواه الإيفاء حينئذ، و لا تقبل بينته به، لأنه مكذب حينئذ لها.

و كيف كان فالثابت من المرجحات المذكورة في بعض كتب العامة و الخاصة اشتمال إحدى البينتين على زيادة كزيادة التأريخ و حينئذ ف الشهادة بقدم الملك أولى من الشهادة بالحادث في العين الخارجة عن أيديهما مثل أن تشهد إحداهما بالملك في الحال و الأخرى بقديمه، أو إحداهما بالقديم و الأخرى بالأقدم، فالترجيح لجانب الأقدم كما عن الشيخ و ابني إدريس و حمزة، بل في المسالك نسبته إلى المشهور، و عللوه بأن الزائدة تثبت الملك في وقت لا تعارضها الأخرى، و إنما يتساقطان في محل التعارض دون السابق الذي لا معارض له فيها، و الأصل في الثابت دوامه، و لهذا له المطالبة بالنماء في ذلك الزمان ممن تصرف فيه، لأنه ملك لا معارض له فيه، فيجب استدامته و إن لا يثبت لغيره ملك إلا من جهته، و لم أجد في شي ء من النصوص إشارة إليه إلا ما في

صحيح ابن سنان(1)عن الصادق (عليه السلام) عن علي (عليه السلام) «أنه كان إذا اختصم الخصمان في جارية فزعم أحدهما أنه اشتراها و زعم الآخر أنه أنتجها و كانا إذا أقاما البينة جميعا قضى بها للذي أنتجت عنده».

و لكن مع ذلك كله قد احتمل غير واحد التساوي، لأن المتأخرة لو شهدت أنه اشتراه من الأول قدمت على الأخرى قطعا، لأنها لما صرحت بالشراء علم أنها اطلعت على ما لم تطلع عليه الأخرى، فإنها و إن شهدت بأنها ملكه من ابتداء سنتين مثلا إلى الآن لكن غايته أنه علم أنه ملكه و لم يعلم بمزيله في المدة.

و احتمال ترجيح القديمة حتى مع ذكر المتأخرة السبب- كما في


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 15.

ج 40، ص: 438

التحرير- لعدم المعارض لها في السابق أيضا واضح الضعف، ضرورة أنه بذكرها السبب كما تعارض الأخرى في المدة المشتركة تعارضها فيما قبلها و تسقطها، و حينئذ فلا إشكال في تقديمها عليها مع ذكرها السبب، فأما إذا أطلقت أي المتأخرة كما هو المفروض فلا أقل من التساوي إن لم نقل بالرجحان أيضا، لأنها تدعي أيضا الاطلاع على ما لم تطلع عليه الأخرى، فإنه ما لم يظهر لها ما يرجح الملك أو يعينه منذ سنة فكيف تشهد به، و غاية الأخرى أنها لم يظهر لها ذلك و الإثبات مقدم، إلا أن هذه البينة لما لم تتعرض لسبب الملك أمكن استناد شهادتها إلى اليد، و هي تحتمل الملك و غيره، و يمكن أن تكون الأخرى أيضا تعلم باليد و أنها لغير الملك، و لذا حكمنا بالتساوي.

و ما قالوه من ثبوت الملك في الماضي و هو هنا السنة الأولى ببينة الأقدم من غير معارضة البينة الأخرى فمدفوع بأنه إنما ثبت تبعا لثبوته في الحال، فان النزاع في الملك فيه، و لهذا لو انفرد أحد المتداعيين بادعاء الملك في الماضي خاصة مع ادعاء خصمه الملك في الحال لم تسمع دعواه و لا بينته، لعدم تعارض الدعويين، فالمقصود في الإثبات إنما هو الملك في الحال، و إذا لم يثبت لتعارض البينتين فيه فلا عبرة بثبوته في الماضي.

و فيه أنه إن كان مفروض المسألة قيام البينتين التي شهد كل منهما بالملكية الحالية لكل منهما بغير الاستصحاب و نحوه بل بالاطلاع على عدم الانتقال فلا ريب في تعارضهما في المدة المشتركة، و بقاء الاستصحاب المستفاد من ثبوت

الملك في الزمن السابق بحاله، إذ لا قاطع له إلا البينة الساقطة بالأخرى، فيبقى ملك لم يعلم زواله.

و من ذلك يظهر لك ما في قوله: «إن الدعوى بالماضي غير مسموعة» ضرورة سماعها لإثبات الملك في الحال في مثل المقام، بل و في

ج 40، ص: 439

غيره إذا كان المراد إثباتها للمطالبة بالنماء في ذلك الوقت.

نعم لو كانت شهادة القديم بالاستصحاب فالمتجه تقديم الثانية عليها لا التساوي، ضرورة ثبوت الانقطاع ببينة لم يعلم معارضها، إذ الفرض كون مستند البينة الأخرى الاستصحاب الذي لا يعارض بينته، فإن ملكية زيد فعلا تقطع ملكية عمرو المستصحبة. و دعوى احتمال كون مستند الثانية سببا لا يقتضي الملكية واقعا يدفعها التعبد بمفادها و إن لم نعلم سببه نعم لو فرض إطلاق الأولى على وجه لم يعلم مستندها اتجه حينئذ ما عرفته أولا من العمل بالاستصحاب بعد التعارض و التساقط فتأمل.

و لو أطلقت إحداها و أرخت الأخرى قيل: تساوتا، لاحتمال الإطلاق هذا التأريخ و غيره زائدا أو ناقصا، فلا زيادة في إحداهما على الأخرى إلا بالتعرض للتأريخ، و هو مما لا يؤكد الملك ليتسبب الترجيح.

و فيه أيضا أن المتجه تقديم المطلقة مع العلم باستناد المؤرخة إلى الاستصحاب الذي قد عرفت عدم معارضته للبينة التي تقتضي انقطاعه، أما إذا لم يعلم فالمتجه العمل بالاستصحاب أيضا اقتصارا في تساقطهما على ما علم تعارضهما فيه، و هو الملك في الحال فيبقى غيره مستصحبا.

و لو شهدت إحداهما بسبب الملك كشراء أو إنتاج أو غيرهما ففي القواعد و غيرها قدمت على المطلقة المحتملة الاستناد إلى اليد، و هي أعم، أو الاستفاضة و قد تكذب، و قد مر في خبر أبي بصير(1)ما يؤيده في الجملة.

و فيه أيضا أنه لا إشعار في خبر أبي بصير بذلك كما سمعته سابقا، و لا دليل على الترجيح بمثله، و إنما ذكره العامة لاندراجه في عنوان المرجح، و هو الاشتمال على الزيادة، و المسلم منه زيادة التأريخ و نحوه


1- 1 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 1.

ج 40، ص: 440

مما يمكن أن تقوم به الأدلة لا مطلقا كما هو واضح.

هذا كله مع كون المشهود عليه ليس في يد أحدهما، أما إذا كان فان كانت بينة الداخل الأسبق تأريخا ففي المسالك هو المقدم لا محالة، بل عن الخلاف نفي الخلاف فيه، لاجتماع مرجحين فيه، و لعموم دليله، و لكن في القواعد تعارض رجحان القدم و كون الآخر خارجا، فيحتمل التساوي و تقديم الخارج لعموم دليله.

بل في كشف اللثام هو الأقوى قال: «و يضعف الأول بأن دليله إن تم نزلت بينة الخارج منزلة العدم، و لا عبرة ببينة الداخل إذا لم يكن للخارج بينة، و بأنه على القول بترجيح بينة الخارج لا عبرة ببينة الداخل أصلا، لأنها ليست من شأنه، و إذا لم تعتبر لم يكن لترجيحها بالقدمة و غيرها معنى».

قلت: الظاهر بناء الأول على القول بأن للداخل بينة مسموعة، و حينئذ يتوجه ترجيحها بالأمرين، و تنزيل بينة الخارج منزلة العدم إنما هو لمعارضة بينة الداخل، فلا وجه للقول بأنه لا عبرة ببينة الداخل إذا لم يكن للخارج بينة، بل عن الخلاف الجزم بتقديم بينته هنا في صورة العكس أيضا مدعيا عليه الإجماع و الأخبار، و لعله لأن البينة بقدم الملك لم تسقط بها اليد، كرجل ادعى دارا في يد رجل و أقام بينة بأنها كانت له أمس لم تزل بها فكذلك هنا، و لعله لذا حكي عن أبي حنيفة مع تقديمه بينة الخارج أنه قدم الداخل هنا، لأن بينته أفادت ما لم تفده اليد.

و في كشف اللثام «و يقوى تقديم الخارج كما في المبسوط، لأن بينته في الزمان المختص بها غير معارضة، و إذا انفرد الخارج بالبينة فلا إشكال في تقديم قوله».

ج 40، ص: 441

و في المسالك «و إن كانت بينة الآخر أي الخارج أسبق تأريخا فان لم يجعل سبق التأريخ مرجحا فكذلك يقدم الداخل، و إن جعلناه مرجحا ففي ترجيح أيهما و عدمه أوجه: أحدها ترجيح اليد، لأن البينتين متساويتان في إثبات الملك في الحال، فيتساقطان فيه، و يبقى من أحد الطرفين اليد، و من الآخر إثبات الملك السابق، و اليد أقوى من الشهادة على الملك السابق، و لهذا لا يزال بها، و الثاني ترجيح السبق، لأن مع أحدهما ترجيحا من جهة البينة، و مع الأخرى ترجيحا من جهة اليد، و البينة تتقدم على اليد، فكذلك الترجيح من جهتها يتقدم على الترجيح من جهة اليد، و الثالث أنهما متساويان، لتعارض المعنيين».

قلت: لا يخفى عليك التحقيق في المسألة، و هو بناء على أن للداخل بينة فلا ريب في تقديم قوله سواء كانت بينته الأسبق تأريخا أو بينة الخارج لبقاء مقتضي اليد الصالح لقطع الاستصحاب، و إن قلنا لا بينة له فلا ريب في تقديم بينة الخارج التي لا تصلح اليد لمعارضتها، و الفرض عدم البينة له، سواء اشتملت على تأريخ سابق أو لا.

هذا و قد يظهر من إطلاق المصنف عدم اشتراط إضافة البينة بالملك القديم التعرض للملك في الحال، و في المسالك و هو أحد الوجهين في المسألة، لأن الملك إذا ثبت سابقا فالأصل فيه الدوام و الاستمرار، فلا يفتقر إلى التصريح باستمراره، و الثاني و هو المشهور أن الشهادة بالملك القديم لا تسمع حتى تقول هو ملكه في الحال أو لا أعلم له مزيلا، حتى لو قال:

لا أدري زال أم لا لا تقبل، لتضمنها ترددا و ريبة تنافي الشهادة.

بل في القواعد «لو قال: اعتقد أنه ملكه الآن بالاستصحاب ففي قبوله إشكال» و في كشف اللثام «من أنه تصريح بمستند الشهادة بالملك في الحال، إذ لا طريق إلى العلم، فكما تسمع مع الإهمال تسمع مع التصريح،

ج 40، ص: 442

و هو خيرة التحرير، و من أنه ربما انضم إلى الاستصحاب أمور أخر تقوى بقاء الملك حتى يكاد يحصل العلم به، و هو الأقوى».

و في المسالك «الحق أن إطلاق الشهادة بالملك القديم لا تسمع، لعدم التنافي بين كونه ملكا له بالأمس مع تجدد انتقاله عنه اليوم و إن كان الشاهد يعلم بذلك، بل لا بد من إضافة ما يفيد عدم علمه بتجدد الانتقال، و ذلك يتحقق بهذه الصيغ و إن كان الاقتصار على ما لا يشتمل على التردد أولى».

قلت: لا مدرك للمسألة بحسب الظاهر إلا صدق اسم الشهادة عرفا، فلا حكم للمشكوك فيها فيه فضلا عن غيرها، و لا ريب في عدم صدق الشهادة بالملك في الحال بمجرد الشهادة على قدم الملك، بل قد يشك في صدقها مع التصريح بالاستصحاب، بل و مع قوله: «لا أعلم له مزيلا» فضلا عن قول: «لا أدري زال أم لا» و جواز الشهادة بالاستصحاب لا يقضي تحقق اسمها مع التصريح به أو بما يساويه، و إنما المعلوم كونها شهادة عرفا قوله: «هو ملكه في الحال» و لعله لذا اقتصر عليه بضعهم كما عن آخر التصريح بإرادة تحقيق الملك الحال من قوله: «لا أعلم له مزيلا» نحو القول إن هذا الأمر قطعي لا أعلم فيه مخالفا ففي الحقيقة هو شهادة على عدوان اليد المعارضة.

و منه حينئذ يعلم عدم انتزاع المال ممن في يده ببينة أنه لغيره سابقا، و لا أعلم له مزيلا على إرادة عدم العلم حقيقة لا العلم بالعدم إلا بناء على انتزاعها منه بالاستصحاب، و ستسمع الكلام فيه عند تعرض المصنف له في المسألة الخامسة.

و ما عساه يظهر من بعض الناس- من الإجماع على كون الشهادة المزبورة كالشاهدة على الملك في الحال في الانتزاع بها، بل مرجع الأخيرة إلى الأولى عند التحليل، ضرورة عدم الإحاطة بأسباب الانتقال التي منها

ج 40، ص: 443

ما يقع بين المالك و بين نفسه من دون اطلاع أحد، و حينئذ فما دل على الأخذ بشهادة العدلين من

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة على المدعي»

شامل للصورتين، بل محل البحث منهما هي الغالبة، لندرة البينة المطلعة على العدم- لم أتحققه، فإن تم كان هو الحجة و إلا فالمسألة، محل نظر، و الظاهر عدم تماميته حيث يراد قيامها على مال في يد مسلم، نعم ربما يقال بتماميته حيث لا تكون يد، كما في خبر حمران(2)المشتمل على دعوى ملكية جارية بنت سبع سنين، فلاحظ.

بل قد يقال بعدم جواز الشهادة بالاستصحاب المعارض باليد التي لم يعلم فسادها و إن جوزناها به مع عدم المعارضة، كما تجوز باليد و غيرها من الأمارات الشرعية، فتأمل جيدا.

هذا و في كشف اللثام «و للشيخ في كل من الخلاف و المبسوط قولان إذا لم يقيده بإحدى العبارتين أي الملك في الحال أو لا أعلم له مزيلا، و كان وجه عدم

اعتبار التقييد أنه إذا ثبت الملك استصحب إلى أن يظهر المزيل، و استوجهه في محكي التحرير، و هو كذلك إذا لم تعارضه يد أو غيرها مما تقتضي انقطاعه».

و لكن لا يخفى عليك خروج ذلك عما نحن فيه الذي هو الشهادة بالملك الحالي لا استصحاب المشهود به الذي هو الملك السابق و أحدهما غير الآخر، ضرورة أن الأخير عمل باستصحاب المشهود به لا بالشهادة عليه و فرق واضح بينهما. هذا كله في الشهادة بالملك السابق.

أما لو شهد بأنه أقر له بالأمس ففي القواعد «ثبت الإقرار، و استصحب موجبه و إن لم يتعرض الشاهد للملك الحالي» و في كشف اللثام «كما إذا


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.
2- 2 الوسائل الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 9.

ج 40، ص: 444

سمعنا نحن منه الإقرار حكمنا بالملك للمقر له إلى ظهور المزيل، و الفرق بين ثبوت الملك بالإقرار و ثبوته بالبينة ظاهر» و فيه نظر يأتي الكلام فيه عند تعرض المصنف.

و كيف كان فقد ظهر لك الحال في الترجيح بزيادة التأريخ و كذا بزيادة غيره.

أما الشهادة بالملك فلا ريب أنها أولى من الشهادة باليد لأنها محتملة للملك و غيره و إن كانت ظاهرة فيه لكن مع عدم معارضة الصريح فيه، إذ من المعلوم عقلا و نقلا عدم معارضة الظاهر للنص، و لذا لم تعارض اليد الفعلية الحسية البينة على الملك فعلا، كما هو المعلوم من

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة على المدعي»

و غيره، فضلا عن اليد الثابتة بالبينة.

و كذا الشهادة بسبب الملك من شراء و نحوه أولى من الشهادة بالتصرف الذي يكون عن ملك و عن وكالة و عن غيرها و إن كان هو ظاهرا في الأول، لكن مع عدم معارضة الصريح فيه، نحو ما سمعته في اليد الذي ما نحن فيه قسم منها في الحقيقة، و من هنا تقدم البينة المزبورة على التصرف المحسوس فعلا فضلا عن الثابت بالبينة، بل الظاهر كون الحكم كذلك و إن لم تشتمل بينة الملك على السبب، إذ العلة جارية فيهما، كما هو واضح.

و بذلك ظهر لك أن مقصود المصنف و غيره عدم التعارض بين بينة الملك أو اليد و التصرف حيث يتعلقان بمورد واحد، كما لا تعارض بينة القديم للأقدم و الحادث للقديم.

هذا و لكن في المسالك بعد ما ذكر نحو ما ذكرنا «و لا فرق على


1- 1 الوسائل الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.

ج 40، ص: 445

هذا التقدير بين تقديم تأريخ شهادة اليد- بأن شهدت أن يده على العين منذ سنة، و شهدت بينة الملك بتأريخ متأخر أو بأنه يملكه في الحال- و تأخره، لاشتراك الجميع في المقتضى، و هو احتمال اليد بخلاف الملك، و في هذه المسألة قول بتقديم اليد على الملك القديم، و سيأتي الكلام فيه».

و هو كما ترى، ضرورة أجنبية ذلك عما نحن فيه، و هو ما عرفت من إرادة بيان عدم تعارضهما بعد فرض تعلقهما بمورد واحد، لا أن المراد عدم معارضة اليد الفعلية للملكية السابقة المختلف متعلق كل منهما، نعم في معارضة اليد لاستصحاب الملك السابق بحث تسمع الكلام فيه إنشاء الله في المسألة الخامسة، و هو غير ذلك.

[المسألة الثالثة إذا ادعى شيئا فقال المدعى عليه هو لفلان اندفعت عنه المخاصمة]

المسألة الثالثة:

إذا ادعى شيئا في يد آخر فقال المدعى عليه: هو لفلان اندفعت عنه المخاصمة فعلا حاضرا كان المقر له أو غائبا و سواء قال: هو وديعة عندي أو عارية أو لم يقل، لعدم يمين له عليه، إذ لا يحلف على مال لغيره.

و لكن إن قال المدعي: أحلفوه أنه لا يعلم أنها لي توجهت اليمين عليه كما في القواعد و غيرها، بل هو أحد قولي الشيخ على ما قيل لأن فائدتها الغرم لو امتنع عنها و أحلف المدعى، لحيلولته حينئذ بين المالك و ماله بإقراره لا القضاء بالعين لو نكل أو رد لصيرورتها مال الغير بالإقرار السابق الذي لا يبطله الإقرار اللاحق فضلا عما كان بحكمه.

و قال الشيخ: لا يحلف و ذلك لأنه لا يغرم لو نكل

ج 40، ص: 446

بل أو أقر للمدعي، لعدم صدق الإتلاف بذلك شرعا.

و الأقرب عند المصنف و غيره أنه يغرم، لأنه حال بين المالك و بين ماله بإقراره لغيره فهو كالمتلف نحو ما تسمعه في ضمان شاهد الزور.

هذا و لكن في المسالك بعد أن فرع توجه الدعوى على القول بالغرم بإقراره اللاحق قال: «و إن قلنا لا- و هو أحد قولي الشيخ- فان قلنا النكول و رد اليمين كالإقرار لم يحلفه، لأنه و إن أقر أو نكل و حلف المدعي لا يستفيد شيئا، و إن قلنا كالبينة فله التحليف، لأنه قد ينكل فيحلف المدعي، فإذا حلف و كانت العين تالفة أخذ القيمة».

و فيه- بعد الإغماض عما في تقييده بتلف العين- أن غاية ذلك كون اليمين المردودة كالبينة على إقراره مع علمه بكونه للمدعى، و الفرض عدم اقتضاء ذلك الغرم لو أقر به هو، و ليس هو بينة على كون المال له، ضرورة كون الدعوى علمه بالمال (بالحال خ ل) فهي تكون كالبينة على ذلك، و لا تزيد على الإقرار المفروض عدم الغرم به كما هو واضح، و لذا حكى عن الشيخ إطلاق عدم توجه اليمين على التقدير المزبور، فتأمل.

و لو أنكر المقر له حفظها الحاكم بعد أن ينتزعها منه، لأنها خرجت عن ملك ه أي المقر و لم تدخل في ملك المقر له و حينئذ ف لو أقام المدعي بينة و لو شاهدا و يمينا على أنها له قضي بها له أما إذا لم تكن له بينة فلا يقضي بها له.

و احتمل في القواعد دفعها إليه بلا بينة و لا يمين، لعدم المنازع له فيه، و هو بعيد، لكونها في يد.

و أبعد منه ما عن بعض العامة من أنه يقال للمقر إنك نفيت أن تكون لك و قد رده المقر له، فان لم تقر به لمعروف تنصرف الخصومة

ج 40، ص: 447

إليه أو تدعيه لنفسك و إلا جعلناك ناكلا، و حلف المدعي و استحق، إذ لا يخفى عليك ما فيه.

و عن التحرير احتمال تركها في يد المقر إلى قيام حجة، لأنه أقر للثالث، و بطل إقراره، فكأنه لم يقر، و فيه أن بطلانه بالنسبة إلى تملك المقر له لا بالنسبة إلى نفيها عنه، كما هو واضح.

و إن رجع المقر له عن إنكاره و صدق المقر في كونه له فعن التذكرة أن له الأخذ عملا بإقرار المقر السالم عن إنكاره، لزوال حكمه بالتصديق الطاري فتعارضا و بقي الإقرار سالما عن المعارض، و تردد فيه في محكي التحرير، و فيه منع زوال حكمه بذلك بالنسبة إلى نفيه عنه، و من هنا لو رجع ذو اليد فقال: غلطت بل هو لي لم يقبل منه، كما عن الكتابين المزبورين الاعتراف به بناء على انتزاع الحاكم، لخروجه عن يده و أخذه بإقراره الأول، و الله العالم.

ثم الحكم في المقر له الغائب كالحكم في الحاضر بالنسبة إلى تصديقه و تكذيبه، و للمدعي إقامة البينة و أخذه قبل معرفة حاله، و لكن هو من الحكم على الغائب، فينبغي مراعاة شروطه السابقة كما له أيضا إحلافه على عدم العلم، نحو ما سمعته في الحاضر.

نعم في القواعد «إذا نكل و حلف المدعي فهل ينتزع العين أو يغرم له؟ الأقرب الثاني، و على الأول إن رجع الغائب كان هو صاحب اليد، فيستأنف الخصومة معه، و لو كان للمدعي بينة فهو قضاء على الغائب يحتاج إلى يمين، و لو كان لصاحب اليد بينة على أنه للغائب سمعت إن أثبت وكالة نفسه، و قدمت على بينة المدعي إن قلنا بتقديم بينة ذي اليد، و إن لم يدع وكالة فالأقرب السماع و إن لم يكن مالكا و لا وكيلا، لدفع اليمين عنه، و لو ادعى رهنا أو إجارة سمعت، فان سمعنا لصرف

ج 40، ص: 448

اليمين قدمت بينة المدعي في الحال، و إن سمعنا لعلقة الإجارة و الرهن ففي تقديم بينته أو بينة المدعي إشكال».

و هو جيد إلا دعوى دفع اليمين عنه بالبينة المزبورة التي لا وجه لإقامتها منه مع فرض عدم كونه وكيلا و لا صاحب حق و إن قلنا بانتفاعه بها لو أقامها المقر له في دفع اليمين عنه من حيث الإقرار الذي لا حيلولة به في الفرض بناء على ثبوت المال بالبينة، و أما ما ذكره من الإشكال فالأقرب أنهما معا خارجان، و الله العالم.

و لو أقر بها لمن يمتنع مخاصمته و تحليفه كما لو قال: هي وقف على الفقراء، أو على مسجد، أو على ابني الطفل، أو هي ملك له انصرفت الخصومة عنه، و لا سبيل إلى تحليف الولي و لا الطفل، و لا تغني إلا البينة.

و في المسالك «و إذا قضى له الحاكم بالبينة و كان الإقرار لطفل كتب الحاكم صورة الحال في السجل ليكون الطفل على حجته إذا بلغ».

قلت: قد يقال: بعدم الحجة له لوجود وليه القائم مقامه الذي هو أولى من الوكيل، فتأمل. هذا كله إذا أقر بها لمعين.

أما لو أقر المدعى عليه بها لمجهول فقال: هي ليست لي و لكن لمن لا أسميه ففي القواعد و غيرها لم تندفع الخصومة عنه و ألزم البيان أو الاعتراف للمدعي قيل أو الادعاء لنفسه.

و فيه أنه مناف لإقراره الأول، كما أنه قد يناقش في أصل عدم اندفاع الخصومة عنه بعد الحكم شرعا بانتفاء المال عنه، و حينئذ يأخذه الحاكم منه و ينحصر إثباته للمدعي بإقامة البينة عليه.

و لو قال المدعي للعين: هي وقف علي و أقر بها من هي في يده لآخر و صدقه فقد عرفت انصراف الخصومة عنه، لكن في المسالك في

ج 40، ص: 449

إحلافه هنا و إن قلنا به في غيره وجهان، من حيث إن المدعي قد اعترف بالوقف و الوقف لا يعتاض عنه، و من أنه مضمون بالقيمة عند الإتلاف و الحيلولة في الحال كالإتلاف، و هذا أقوى».

[المسألة الرابعة إذا ادعى أنه آجره الدابة و ادعى آخر أنه أودعه إياها تحقق التعارض]

المسألة الرابعة إذا ادعى مدع أنه مثلا قد آجره الدابة المعينة لمن هي في يده مدة معينة و ادعى آخر أنه أودعه أو أعاره إياها في المدة المزبورة تحقق التعارض مع فرض قيام البينتين بالدعويين و عدم تصديق من هي في يده لأحدهما لموته أو عدم حضوره أو غير ذلك و عمل بالقرعة مع فرض تساوي البينتين في عدم الترجيح بشي ء من المرجحات السابقة، فيحلف من خرجت القرعة باسمه، فان نكل حلف الآخر و إن نكلا قسمت العين بينهما نصفين، إذ هي حينئذ من دعوى الملك بدعوى اليد و التصرف من كل منهما، فيجري فيها الحكم السابق، و لا تكون المسألة حينئذ من مسألة الاختلاف في العقود كي ينبغي للمصنف ذكرها في الفصل الثاني، بل هي من الاختلاف في الأملاك حينئذ، و لذا ذكرها في فصله.

و أصرح منها عبارة الإرشاد، قال: «و لو أقام بينة بإيداع ما في يد الغير منه و آخر بينة باستئجار القابض منه أقرع مع التساوي» و مثلها عبارته في التحرير، و بما ذكرناه شرحها في مجمع البرهان إلى أن قال:

«و إن نكلا يمكن الحكم بالقسمة كما مر، و يحتمل ترجيح من صدقه المتشبث، و أن للآخر تحليفه على عدم العلم بأنه له، بل لكل واحد على تقديري دعوى العلم و إنكاره يمكن تحليفه».

ج 40، ص: 450

قلت: لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه سابقا بعد أن كان ما نحن فيه منه. هذا و في المسالك في شرح العبارة «المراد أن الدابة في يد المدعى عليه، و المدعيان خارجان فادعى أحدهما أنه آجرها من صاحب اليد و ادعى الآخر أنه أودعه إياها، فان لم يقيما بينة حكم بها لمن يصدقه المتشبث، و إن أقام كل منهما بينة بدعواه تحقق التعارض بين البينتين مع الإطلاق أو اتحاد التأريخين، و حينئذ فيرجع إلى ترجيح إحدى البينتين بالعدالة أو العدد، فان انتفى فالقرعة، و لو تقدم تأريخ إحداهما بنى على الترجيح به و عدمه، و قد تقدم نظيره في الملك و سيأتي مثله، و قد كان ذكر هذه المسألة في المقصد الثاني أولى، لأن الاختلاف فيها اختلاف في العقود».

و فيه- مع أن ظاهر عدم العبرة بتصديق المتشبث مع قيام البينتين- أنه قد جعل المسألة من الاختلاف في العقود الذي معناه اختلاف فيها مع الاتفاق على المالك، و هو غير ما ذكرناه، على أن قوله أولا:

«في يد المدعى عليه» يقتضي كون الدعوى منهما عليه، مع أن المسألة في الدعوى بينهما مع قطع النظر عمن في يده، فتأمل.

نعم هي في القواعد مفروضة في اختلاف العقود، قال: «و لو ادعى استئجار العين و ادعى المالك الإيداع تعارضت البينتان و حكم بالقرعة مع تساويهما» و شرحها في كشف اللثام فقال: «و لو ادعى استئجار العين و ادعى المالك الإيداع فكل منهما يدعي عقدا مخالفا لما يدعيه الآخر و إن تضمن الأول تسلط ذي اليد على المنافع دون الثاني، فإذا أقام كل منهما بينة تعارضت البينتان، و حكم بالقرعة و اليمين مع تساويهما فيما عرفت، و مع نكولهما يقتسمان المنافع بانقسام المدة أو العين في تمام المدة».

و فيه ما لا يخفى حتى دعوى القسمة بينهما على الوجه المزبور، و من

ج 40، ص: 451

هنا قال: «و الأقوى أن القول قول المالك و البينة بينة الآخر، للإنفاق على أن العين و المنافع ملك له، فمن يدعي الاستئجار يدعي تمليك المنافع و هو ينكره، و قد

روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(1)«في الثوب يدعيه الرجل في يد رجل فيقول الذي هو في يديه: هو لك عندي رهن، و يقول الآخر: هو لي عندك وديعة، قال: القول قوله، و على الذي في يديه البينة أنه رهن عنده»

و يحتمل العكس بعيدا بناء على أنه ذو يد و اليد كما ترجح ملك العين ترجح ملك المنفعة» انتهى. و هو جيد لكن ينبغي بناء المسألة على تقديم بينة الداخل و الخارج.

و كيف كان فما ذكره المصنف بناء على ما عرفت غير مفروض القواعد و إن أبيت عن تفسير المتن بما سمعت، لعدم مدخلية اختلافهما في الإجارة و الإيداع في ذلك، ضرورة مساواته لما إذا ادعى كل منهما الإجارة أو الوديعة، إذ المراد

بيان كونها له بذلك. فالمتجه حينئذ تفسيرها بإرادة بيان التداعي بين المدعيين الخارجين مع قطع النظر عن المالك لغيبة مثلا أو غيرها، فقال أحدهما: إن المالك قد آجرها لي سنة مثلا و قال الآخر: إن المالك أو دعنيها أو أعارنيها السنة المزبورة و أقام كل منهما بينة و اتحد تأريخهما و عددهما و عدالتهما يقرع بينهما، إلا أن الظاهر كونها قرعة تعيين لا لليمين، إذ القول بالتنصيف بينهما على الوجه الذي سمعته من الفاضل في دعوى المالك و غيره واضح الضعف، لعدم مساعدة الأدلة عليه، و أقرب منه القول على تقدير اليمين وقوف الدعوى مع نكولهما و عدم الحكم بصحة دعوى أحد منهما، و الله العالم.


1- 1 المستدرك الباب- 14- من كتاب الرهن- الحديث 2.

ج 40، ص: 452

[المسألة الخامسة لو ادعى دارا مثلا في يد انسان و أقام بينة أنها كانت في يده أمس أو منذ شهر قيل لا تسمع هذه البينة]

المسألة الخامسة:

لو ادعى دارا مثلا في يد انسان و أقام بينة أنها كانت في يده أمس أو منذ شهر قيل كما عن الإسكافي و الشيخ في محكي المبسوط و الخلاف لا تسمع هذه البينة بل و كذا لو شهدت له بالملك أمس، لأن ظاهر اليد الآن الملك فعلا فلا تدفع بالمحتمل و هو اليد و الملك السابقان، و لعدم تطابق الشهادة و الدعوى التي هي الملك الآن، و الاستصحاب مقطوع بظاهر اليد.

و فيه إشكال، و لعل الأقرب القبول عند المصنف كما هو أحد قولي الشيخ أيضا، لأن اليد الحاضرة و إن كانت دليل الملك لكن السابقة المستصحبة و الملك السابق كذلك أولى، لمشاركتها لها في الدلالة على الملك الآن و انفرادهما بالزمن السابق، فيكونان أرجح، و الحكم باستصحابها أوجب المطابقة بين الدعوى و الشهادة، و لأن الثابت من اقتضاء اليد الملكية فعلا حال عدم ما يعارضها و لو استصحاب يدعيه الخصم، و لذا صرح غير واحد بانتزاع العين من يد من أقر بأنها ملك المدعي أمس.

بل في الكفاية «و في كلامهم القطع بأن صاحب اليد لو أقر أمس أن الملك له أو شهدت البينة بإقراره له أمس أو أقر بأن هذا له أمس قضي به له» و إن استشكل هو في إطلاق ذلك.

و دعوى ظهور الفرق بين ثبوت الملك بالإقرار و بين ثبوته بالبينة كما سمعته سابقا من كشف اللثام كما ترى.

و كان عبارة الفاضل في القواعد لا يخلو من تدافع في الجملة، حيث

ج 40، ص: 453

قال في المسألة: «و لو شهد أنه كان في يد المدعي بالأمس قبل، و جعل المدعي صاحب يد، و قيل: لا يقبل لأن ظاهر اليد الآن الملك، فلا يدفع بالمحتمل، نعم لو شهدت بينة المدعي أن صاحب اليد غصبه أو استأجرها منه حكم له، لأنها شهدت بالملك و سبب يد الثاني» و قد قال سابقا:

«و لو شهدت البينة بأن الملك له بالأمس و لم تتعرض للحال لم تسمع إلا أن تقول: و هو ملكه في الحال أو لا نعلم له مزيلا، و لو قال: اعتقد أنه ملكه بالاستصحاب ففي قبوله إشكال، أما لو شهد بأنه أقر له بالأمس ثبت الإقرار و استصحب موجبه و إن لم يتعرض الشاهد للملك الحالي، و لو قال المدعى عليه: كان ملكك بالأمس انتزع من يده، فيستصحب بخلاف الشاهد، فإنه عن تخمين، و كذا يسمع من الشاهد لو قال: هو ملكه بالأمس اشتراه من المدعى عليه، أو أقر له المدعى عليه بالأمس، لأنه استند إلى تحقيق».

و مثلها عبارة الإرشاد قال: «و لو شهدت بملكه في الأمس لم تسمع حتى تقول: و هو ملكه في الحال أو لا أعلم زواله، و لو قال: لا أدرى زال أم لا لم يقبل، أما لو قال هو ملكه بالأمس اشتراه من المدعى عليه أو أقر له به أو غصبه من المدعي أو استأجره منه قبل، و لو شهد بالإقرار الماضي ثبت و إن لم يتعرض للملك في الحال، و لو قال المدعى عليه: كان ملكك بالأمس انتزع من يده، و لو شهد أنه كان في يده أمس ثبتت اليد و انتزعت من يد الخصم على إشكال».

و في غاية المراد التصريح باختيار المصنف و كذا الفاضل في المختلف و اقتصر في الدروس على نقل القولين من دون ترجيح، و لعل الوجه في ذلك منهم ما أشرنا إليه سابقا من عدم الحكم بالشهادة حتى يضيف إليها ما يقتضي الشهادة بالحال، أما مع عدم ذلك فليس إلا الاستصحاب،

ج 40، ص: 454

و هي المسألة التي اختلف فيها كلام الشيخ.

و على كل حال فقد احتج في المختلف على مختاره بما حاصله أنه قد بينا تقديم البينة التي تشهد بالملك القديم على البينة التي تشهد بالملك الحادث، و هو مما لا يجتمع مع القول بعدم الحكم بسبق اليد التي هي دليل ظاهر على الملكية، فإذا ثبت بالبينة أو بالإقرار سبقها فقد ثبت دليل الملك، و ثبوت دليل الملك يقتضي ثبوت مدلوله، و إلا لم يكن دليلا، و قد عرفت تقديم بينة قدم الملك، ثم حكى عن الشيخ الاحتجاج بأعمية اليد السابقة من الملكية، و أجاب بمنع ذلك، فان اليد مع عدم دليل ينافي الملكية دليل عليها، و إلا لجاء ذلك في اليد المتأخرة أيضا.

و في المسالك بعد أن ذكر القولين و مختار المصنف منهما و دليله قال:

«و قد تقدم البحث فيه، و الفرق بين هذه و السابقة الموجب لإعادة البحث أن المعارضة في هذه بين اليد المتحققة و السابقة الثابتة بالبينة و الملك السابق كذلك، و السابقة وقع فيها التعارض بين البينتين الدالة إحداهما على اليد في الحال مع عدم ظهورها في غيره و الأخرى على الملك السابق فلا تعرض فيها للمعارضة بين اليد السابقة و الحالية، و قد تأكد من إطلاقه الحكم هنا و في السابقة تقديم الملك القديم بغير تقييد بكونه إلى الآن أو عدم المزيل أن إضافة ذلك غير شرط، و إلا صح اشتراط إضافة ما يعلم منه أن الشاهد لم يتجدد عنده علم الانتقال، لما بيناه من عدم المنافاة بين علمه بالملك و شهادته به مع انتقاله عن المالك الآن».

و هو من غرائب الكلام، كما أشرنا إليه سابقا، و مقتضاه موافقة المصنف على القبول مع إضافة ما يعلم منه عدم علم الشاهد بالملك أمس بالانتقال، و بالجملة لا يخفى على من تأمل كلمات الجميع ما فيها من الخلط و الخبط في موضوعات المسائل، إذ من المعلوم أن المراد في المسألة السابقة

ج 40، ص: 455

التي قدمنا فيها بينة الملك القديم على بينة الملك الحادث كون كل من البينتين تشهد بالملك فعلا للمال الخارج عنهما و يتعارضان في ذلك، و لكن إحداهما تشهد مع ذلك بملك سابق لا تعارضها الأخرى فيه، فترجح حينئذ أو يبقى استصحابه سالما عن المعارض، و هذه غير الشهادة بالملك أمس فقط أو باليد السابقة الدالة عليه، فإنه ليس إلا استصحاب ذلك، و هو لا يصلح معارضا لما تقضي به اليد الحالة من الملك فعلا، إذ هو وارد على الاستصحاب و قاطع له، فلا مدخلية لهذه المسألة في تلك.

نعم لو قلنا بكون اليد أمارة على الملك في الجملة لا مطلقا أشكل الحال حينئذ، و لكنه ظاهر الأصحاب، و يمكن استفادته أيضا من التأمل في النصوص، خصوصا الخبر(1)المشتمل على جواز الشهادة باليد و القسم على ذلك و إلا لم يقم للمسلمين سوق و غيره(2)و بذلك مضافا إلى ما تقدم لنا ظهر لك الحال في المسألة و دليلها و ما في الكلمات المزبورة.

و أما ما سمعته من الفرق بين الإقرار و غيره فالمسلم منه إن لم يكن إجماعا ما إذا بقيت العين في يد المقر و لم يعلم تجدد يد أخرى له، فان الظاهر حينئذ أخذه بإقراره الرافع لحكم استدامة يده السابقة مع فرض عدم العلم بتجدد يد غيرها، و الأصل عدمها، أما لو كان قد أقربها و دفعها إلى المقر له ثم وجدت في يده المقتضية كونه مالكا لها فان انتزاعها من يده لاستصحاب الإقرار السابق محل إشكال بل محل منع، ضرورة عدم الفرق بينه و بين انتزاعها باستصحاب الملك السابق الثابت بالبينة الذي قد عرفت عدمه.

و بذلك يظهر لك الوجه بانتزاعها منها بإقراره بالغصبية أو الاستئجار أو نحوهما، لأصالة عدم يد أخرى غير الى صادفت إقراره، و حينئذ


1- 1 الوسائل الباب- 25- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2.
2- 2 الوسائل الباب- 25- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5.

ج 40، ص: 456

فالميزان ذلك، فلاحظ انطباقه على ما في العبارات السابقة، هذا كله مع شهادة البينة بملكه سابقا فقط.

أما لو شهدت أي بينة المدعي مع ذلك ب أن صاحب اليد غصبه أو استأجره حكم بها بلا خلاف و لا إشكال لأنها شهدت بالملك و سبب يد الثاني و الأصل عدم تجدد يد أخرى غير الأولى له، كما أن الأصل عدم تجدد سبب غير حكم الاستدامة للابتداء و هو واضح.

كوضوح الحكم فيما لو قال: غصبني إياها و قال آخر: بل أقر لي بها و أقاما البينة قضي بها للمغصوب الذي شهدت بينته له بالملك و سبب يد المتشبث و أنها عارية في مجموع وقتها، و حينئذ يكون إقراره للغير بها في زمن اليد إقرارا بعين مغصوبة فلا ينفذ و لم يضمن المقر للمقر له شيئا لأن الحيلولة لم تحصل بإقراره لآخر بل بالبينة التي يزعم أنها ظالمة، و الله العالم.

[المقصد الثاني في الاختلاف في العقود]
اشاره

المقصد الثاني (11) من المقاصد الأربعة في الاختلاف في العقود إذا اتفقا (12) المؤجر و المستأجر على استئجار دار معينة شهرا معينا و اختلفا في الأجرة (13) فاما أن يعدما البينة أو يجداها أو يجدها أحدهما خاصة، و على التقديرات فالاختلاف إما بعد استيفاء المدة أو في

ج 40، ص: 457

أثنائها أو ابتدائها، فيكون الصور حينئذ تسعة، فإن عدما البينة فالقول قول المستأجر بيمينه في صورة الثلاثة على المشهور، بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا، لحصول عنوان المدعى عليه و المنكر فيه كحصول وصف المدعي للمؤجر، فهما حينئذ بمنزلة ما لو ادعى عليه عشرة دنانير و أقر له بخمسة، فإن القول قوله في نفي الزائد بغير إشكال.

خلافا للشيخ في المحكي عن مبسوطة فالتحالف، و تبعه عليه بعض المتأخرين» نظرا إلى أن كلا منهما مدعي و مدعى عليه، لأن العقد المتشخص بالعشرة غير العقد المتشخص بالخمسة، فيكون كل منهما مدع لعقد غير العقد الذي يدعيه الآخر، و هذا يوجب التحالف حيث لم يتفقا على شي ء و يختلفان فيما زاد عليه، فإذا تحالفا حينئذ انفسخ العقد بحكم الحاكم، و رجع المؤجر بأجرة المثل للمنفعة المستوفاة كلا أو بعضا و إلا فلا شي ء له.

و ضعفه في المسالك و غيرها بأن «العقد لا نزاع بينهما فيه، و لا في استحقاق العين المؤجرة للمستأجر، و لا في استحقاق المقدار الذي يعترف به المستأجر، و إنما النزاع في القدر الزائد، فيرجع فيه إلى عموم الخبر(1)و لو كان ما ذكروه من التوجيه موجبا للتحالف لورد في كل نزاع على حق مختلف المقدار، كما لو قال: أقرضتك عشرة فقال: بل خمسة، فان عقد القرض المتضمن أحد المقدارين غير العقد المتضمن للآخر، و كما لو قال: أبرأتني من عشرة من جملة الدين الذي علي فقال: بل خمسة، فان الصيغة المشتملة على أحدهما غير الأخرى، و هكذا القول في غيره، و هذا مما لا يقول به أحد، و الحق أن التحالف إنما يرد حيث لا يتفق الخصمان على قدر و يختلفان في الزائد عنه، كما لو قال المؤجر: آجرتك


1- 1 الوسائل- الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.

ج 40، ص: 458

الدار شهرا بدينار فقال، بل بثوب، أو قال: آجرتك هذه الدار بعشرة فقال: بل تلك الدار، و نحو ذلك. أما في المتنازع فالقول المشهور من تقديم قول المستأجر هو الأصح».

قلت: قد يقال: إن المتجه التحالف إذا فرض كون مصب الدعوى منهما في تشخص العقد الذي هو سبب الشغل، إذ لا فرق في مشخصاته بين زيادة الثمن و نقصانه و بين غيرهما من المشخصات، نعم لو كانت الدعوى بينهما في طلب الزائد و إنكاره و إن صرحا بكون ذلك من ثمن الإجارة كان المؤجر حينئذ المدعي و المستأجر المنكر بخلاف الأول الذي لا يشخص الأصل أحدهما، إذ كل منهما أمر وجودي و الأصل عدمه، و الفرض أنه شخص واحد لا شخصان.

و فرق واضح بين ذلك و بين دعوى القرض و الإبراء اللذين يتصور فيهما تعدد عقد القرض و الإبراء، إلا أن يفرض اتفاقهما على صيغة واحدة و اختلفا فيما تضمنته، فان المتجه حينئذ التحالف، و لكن نتيجته فيها عدم ثبوت الزيادة المدعاة للمقرض و مدعي الإبراء، بخلاف المقام الذي يرجع إلى أجرة المثل التي قد تخالف الزيادة المدعاة، و بذلك يمكن عود النزاع لفظيا.

و احتمال القول بأنه مدع و منكر حتى على الفرض المزبور باعتبار موافقة دعوى النقيصة لأصل البراءة يدفعه أن ذلك الشخص ليس مقتضى أصل البراءة، كما أنه يدفع القول بأن ضابط التحالف عدم اتفاقهما على قدر متفق عليه- و هو خلاف الفرض- أن النقيصة ليست قدرا متفقا عليها في العقد الذي هو محل النزاع، ضرورة أن الخمسة فيه ليست جزء من العشرة في التقدير الآخر، و إنما يتصور ذلك فيما لو اتفقا على ذكر مقدار مخصوص في العقد و اختصما في عطف أمر زائد عليه، لا في مثل المقام الذي محل النزاع فيه أن عقد الإجارة المشخص هل كان لفظ الثمن فيه

ج 40، ص: 459

خمسة أو عشرة، كما هو واضح و قد أشرنا إلى ذلك في كتاب البيع(1)مع الاختلاف في الثمن لولا النص المخصوص فيه، فلاحظ و تدبر.

اللهم إلا أن يقال: إن ذلك كله لا ينافي الاتفاق على شغل الذمة بمعنى الخمسة الذي هو قدر مشترك بين لفظها و لفظ العشرة مثلا، ضرورة تحقق شغل الذمة بذلك على كل من التقديرين، فلا يتحقق موضوع التحالف، نعم قد يمنع انحصار موضوعه في ذلك، و إنما العمدة فيه العرف الصادق في الفرض أن كلا منهما مدع و مدعى عليه، فتأمل.

هذا و عن موضع من الخلاف القرعة مع اليمين، و لعله لإشكال الحال عليه في أنه من التداعي أو من المدعي و المنكر و إن كان فيه أنه لا إشكال بحسب الاجتهاد فيه على ما ذكرناه، بل و على غيره أيضا.

و لم يتعرض الشيخ لما إذا نكلا معا بعدها، فهل تقسم الزيادة بينهما أو يوقف الحكم، و في الثاني إشكال مع فرض استيفاء المنفعة بل و الأول، لعدم شمول دليل التنصيف لها، خصوصا مع كون نزاعهما في العقد الذي هو غير قابل للقسمة لا فيها نفسها، و قد يقال مع الاستيفاء بوجوب دفع أقل الأمرين من أجرة المثل المفروض. كونها أقل مما يدعيه المؤجر و من المسمى الذي يدعيه المستأجر على الثاني و يحتمل القرعة بلا يمين، هذا كله مع عدم البينة لأحدهما.

و أما إذا أقام كل منهما بينة بما قدره في دعواه فان تقدم تأريخ إحداهما للعقد بأن قال وقع في شهر رمضان مثلا و الآخر في شوال عمل به، لأن العقد الثاني يكون باطلا بعد اتفاقهما على عدم الإقالة.

و إن كان التأريخ واحدا أو كانت البينتان مطلقتين، بل أو


1- 1 راجع ج 23 ص 184- 186.

ج 40، ص: 460

إحداهما مطلقة و الأخرى مؤرخة، لعدم مدخلية جهل التأريخ هنا، كما هو واضح تحقق التعارض، إذ الفرض كون العقد واحدا، و لا يمكن في الوقت الواحد وقوع عقدين صحيحين متنافيين، و حينئذ فليس مع فقد الترجيح بينهما بالمرجحات السابقة إلا أن يقرع بينهما، و يحكم لمن خرج اسمه مع يمينه للنصوص(1)السابقة، فإن نكل حلف الآخر، و إن نكلا معا فقد عرفت الكلام فيه.

و هذا اختيار شيخنا في المبسوط و هو متجه في صورة التحالف مع عدم البينتين، ضرورة حصول التعارض بين الشهادتين بعقدين متخالفين يكذب كل منهما الآخر كالشهادة بعقدين على معنيين كدرهم و دينار، فإن استيجار عين

بألف في وقت يناقض استيجارها بألفين في عين ذلك الوقت، كما أن استئجارها بدرهم في وقت ينافي استيجارها بدينار في ذلك الوقت بعينه، بخلاف ما إذا شهدت بينة بأن عليه ألفا و أخرى بأن عليه ألفين أو بينة بإبرائه من ألف و أخرى بإبرائه من ألفين، كما اعترف بذلك كله في كشف اللثام، و هو يؤيد القول بالتحالف مع عدمهما و مشتمل على الفرق بين المقام و بين القرض و الإبراء اللذين سمعت الإيراد به من ثاني الشهيدين.

و قال آخر و هو الحلي في محكي السرائر يقضي ببينة المؤجر، لأن القول المستأجر لو لم تكن بينة، إذ هو يخالف على ما في ذمة المستأجر، فيكون القول قوله، و من كان القول قوله كان البينة في طرف المدعي، و حينئذ نقول: هو أي المؤجر مدع زيادة و قد أقام البينة بها، فيجب أن تثبت لأنه خارج و لا بينة للمستأجر، لأنه داخل، إذ المراد من الداخل و الخارج في كلامهم المدعي و المنكر


1- 1 الوسائل- الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 5 و 6 و 7 و 8.

ج 40، ص: 461

لا خصوص ذي اليد و مدعيه و إن كانت النصوص قد اشتملت عليه.

و في إطلاق القولين تردد بناء على ما عرفته من اختلاف صورة الدعوى التي يتجه في إحداهما ما ذكره الشيخ و في الأخرى ما ذكره الحلي بناء على تقديم بينة الخارج، و إن قلنا بتقديم بينة الداخل اتجه تقديم بينة المستأجر، و مع فرض تساويهما في ذلك يرجع إلى القرعة، كما هو واضح. و أما إذا كانت البينة لأحدهما خاصة فلا ريب في القضاء بها له في صورة التحالف و للمدعي في الصورة الأخرى، أما إذا أقامها المنكر فيها فلا عبرة بها بناء على عدم بينة له مطلقا.

و مما تقدم يظهر لك الحكم في ما لو ادعى استئجار دار معينة مدة معينة بأجرة كذلك فقال المؤجر: بل آجرتك بيتا منها و في التحرير و كشف اللثام أو ادعى استئجارها شهرين بعشرة و المؤجر شهرا بها، ضرورة اتحاد وجه البحث فيهما، و لذا قال الشيخ فيها يقرع بينهما نحو ما سمعته منه في السابقة أو يتحالفان على قوله الآخر.

و قيل و القائل ابن إدريس في محكي السرائر القول قول المؤجر نحو ما سمعته منه أيضا في تقديم قول المستأجر في نفي الزيادة في الأجرة.

و لكن في المتن هنا أن الأول أشبه لأن كل واحد منهما مدع (11) مع تردده في القولين في السابقة، على أن تعليله يقتضي التحالف لا القرعة، و لعله لظهور التداعي في المقام بخلاف الأول الذي مرجعه إلى دين في الذمة، و لذا جزم في التحرير بالفرق بينهما. و على كل حال فلا يخفى عليك طرد ما تقدم هنا.

و (12) منه ما لو أقام كل منهما بينة تحقق التعارض مع

ج 40، ص: 462

اتفاق التأريخ أو إطلاقهما أو إطلاق إحداهما و تأريخ الأخرى و التساوي في العدد و العدالة، فيقرع بينهما على القول بالتحالف، و تقدم بينة المستأجر على القول بكونه المدعي الخارج و المؤجر هو الداخل الذي لا بينة له.

و في كشف اللثام «في الأول يحكم بالقرعة مع اليمين، فان نكلا فالظاهر أن البيت لما اتفقا على إجارته فهو في إجارته إلى أن تمضي المدة و يقتسمان الباقي نصفين، و يسقط من الأجرة بالنسبة، و كذا مع الاختلاف في الزمان يقتسمان شهرا من الشهرين، فتكون الدار عند المستأجر شهرا و نصفا، و يسقط من الأجرة ربعها، و إن كان النزاع أو رفعه بعد مضي المدة و تصرف المستأجر في تمام الدار و تمام الشهرين يثبت للمالك في نصف غير البيت أو في نصف شهر أجرة المثل».

و فيه أن المتجه في الأول ثبوت الأجرة مع قسمة ما فيه النزاع بالنصف، نعم يتجه أجرة المثل في الأخير، لوقوع التصرف فيه بلا أجرة، و يمكن القول هنا بالقرعة بلا يمين، لعدم تناول دليل التنصيف للفرض كما سمعته في المسألة الثانية، بل لعله هنا أولى.

و في الدروس «فان اتحد التأريخ أعملنا أو أسقطنا أو أقرع مع اليمين» و لعل إعمالهما بمعنى تقديم بينة الداخل أو الخارج، و إسقاطهما بمعنى الرجوع إلى الحكم مع عدم البينة كل على مختاره فيه، و أما احتمال كون المراد بإعمالهما بطلان الإجارة في البيت و صحتها في بقيته بالنسبة بعد تصويرها بإيقاع ذلك من الأصليين و الوكيلين فبعيد أو باطل.

و مع التفاوت في التأريخ يحكم للأقدم و بطلان المتأخر لكن قد ذكر المصنف و غيره هنا أنه إن كان الأقدم بينة البيت حكم بإجارة البيت بأجرته و بإجارة بقية الدار بالنسبة من الأجرة لبطلان ما قابل البيت المفروض تقدم إجارته منها و صحة الباقي، فلو كان

ج 40، ص: 463

البيت يساوي نصف أجرة الدار صح في باقيها بنصف الأجرة، فيجتمع على المستأجر مجموع الأجرة للبيت الذي قد تقدم تأريخ إجارته و نصفها لبقية الدار، فإذا فرض مثلا أن الأجرة التي اتفقا عليها عشرة لكن ادعى المستأجر أنها أجرة الجميع و ادعى المؤجر أنها أجرة البيت و كان المتقدم تأريخ بينة البيت ثبت على المستأجر خمسة عشر في مقابلة المجموع عشرة أجرة البيت ببينة المؤجر، و خمسة في مقابلة باقي الدار ببينته، و لا ينافي ذلك خروجه عن دعواهما التي هي وقوع عقد واحد منهما و كون العوض فيه عشرة، و إنما الاختلاف فيما تضمنه في مقابلة العشرة الدار أو البيت، لأن الثابت في الشرع حجية بينتهما لا دعواهما، و قد اقتضتا ما عرفت، فينبغي العمل به، لاحتمال كونه الواقع و إن خرج عن دعواهما معا، كما سمعته في تنصيف العين التي ادعى كل منهما له و هي في أيديهما، و تسمعه في غيره، بل قد يقال بوجوب العمل بكل منهما و إن علم الحاكم بخروج الحاصل من مقتضي الاجتهاد في إعمالهما عن الواقع فضلا عن دعواهما مع احتماله الواقع.

و كيف كان ففي الدروس احتمال الحكم بصحة الاجارتين مع عدم التعارض، لأن الاستئجار الثاني يبطل ملك المستأجر فيما سبق، و كأنه فرضه في غير دعوى اتحاد العقد، إذ يمكن حينئذ استئجار البيت منه أولا ثم انتقل منه إلى المؤجر بعقد إجارة من المستأجر ثم آجره الدار كلها فتصح الإجارتان، و الله العالم.

و لو ادعى كل منهما أنه اشترى دارا معينة من شخص بعينه و أقبض الثمن و هي في يد البائع و لا بينة لأحدهما فإن كذبهما حلف لهما و اندفعا عنه، و إن صدق أحدهما دفع له العين و حلف للآخر و إن لم نقل إن الإقرار بها قبل القبض بمنزلة التلف لآفة سماوية،

ج 40، ص: 464

و للآخر إحلافه لادعائه عليه أيضا، و إن عاد فأقر للثاني غرم له القيمة إلا أن يصدقه الأول، فيدفع العين إليه، نعم لو قلنا إن الإقرار قبل القبض إتلاف كالآفة السماوية لم يتوجه له اليمين حينئذ و إن كان هو كما ترى. و لو صدق كل واحد في النصف حكم به لكل منهما و حلف لهما، و لو قال:

لا أعلم لمن هي منكما ففي كشف اللثام تقارعا و قضي لمن خرج بالقرعة بعد اليمين.

و لو أقام كل منهما بينة قضي بالقرعة مع تساوي البينتين عدالة و عددا و تأريخا أو مطلقتين أو إحداهما مطلقة و الأخرى مؤرخة بناء على عدم تأخر مجهول التأريخ عن معلومه و إذا كان كذلك حكم لمن يخرج اسمه مع يمينه على المشهور، لما عرفته من الأدلة السابقة أو لا معها على احتمال أو قول، و في كشف اللثام «و يحتمل الاقتسام للتعارض و التساقط فيحلف الثالث لهما لو أكذبهما إلى آخر ما مر» و التفريع على احتمال التساقط.

و كيف كان ف لا يقبل قول البائع لأحدهما بعد الحكم بما سمعت، لكن في كشف اللثام «لاعترافه بأنه ليس عليها يد ملك و قيام البينة بذلك، و يحتمل القبول فيكون المقر له ذا اليد فتقدم بينته أو بينة الآخر على الخلاف» و فيه أن جزم المصنف و غيره بعدم قبول قول البائع مبني على كون ذلك قد كان منه بعد الحكم بمقتضى القرعة و بعد انتزاعها منه بالبينتين، فلا وجه للاحتمال المزبور.

و على كل حال يلزمه إعادة الثمن على الآخر، لأن قبض الثمنين ممكن فتزدحم البينتان فيه أي تجتمع فيه بخلاف عقد البيع، و لو نكل من أخرجته القرعة حلف الآخر و لو نكلا عن اليمين قسمت بينهما على حسب ما تقدم في العين التي قد ادعيا ملكيتها و لكن

ج 40، ص: 465

هنا يرجع كل منهما بنصف الثمن الذي دفعاه إلى البائع المفروض قبضه للثمنين.

نعم في كشف اللثام «إلا إذا اعترفا أو اعترف أحدهما أو شهدت بينتاهما أو إحداهما بقبض المبيع، فمن قبضه من بائعه باعترافه أو بشهادة بينة لم يكن له الرجوع عليه بشي ء من الثمن، لثبوت استحقاقه له بالإقرار أو بالبينة، غاية الأمر أنه اغتصب منه نصف العين بعد ذلك».

و قد سبقه إلى ذلك الشهيد في المسالك، فإنه قال في المسألة الأخيرة:

«و حيث قلنا بثبوت الخيار على تقدير القسمة فذلك إذا لم تتعرض البينة لقبض المبيع و لا اعترف به المدعي، و إلا فإذا جرى القبض استقر العقد، و ما يحدث بعده فليس على البائع عهدته» و كذا في التحرير، و قد وقع ذلك للرافعي من الشافعية.

و فيه أن الاعتراف بالقبض أو ثبوته بالبينة لا ينافي الرجوع بالثمن بعد ثبوت استحقاق المبيع لغير البائع بالبينة، كما هو واضح. اللهم إلا أن يقال: إن عدم الرجوع بعد القبض لتركهما اليمين باختيارهما، و لكن ذلك غير موافق لما سمعته من التعليل، بل لا يتم فيما سمعته من كشف اللثام أخيرا، على أن ترك اليمين إن كان مقتضيا لذلك فلا فرق فيما بين قبل القبض و بعده.

و على كل حال ف هل لهما أن يفسخا البيع الذي ثبت لكل منهما بالبينة؟ الأقرب عند المصنف و الفاضل و غيرهما نعم، لتبعض المبيع عليه قبل قبضه و عدم حلفهما تنزيها عن القسم بالله عذر، و يحتمل العدم، لأن لكل منهما إحراز الكل بيمينه، فالتبعيض إنما جاء منهما، و أشار المصنف بقوله: «قبل قبضه» إلى ما صرح به في كشف اللثام من أنه «لا خيار لهما مع دعوى كل منهما قبض المبيع

ج 40، ص: 466

أو شهدت البينة به» و فيه ما عرفت من عدم الفرق في ثبوت الخيار بالتبعيض قبل القبض و بعده بعد أن كان ذلك لثبوت استحقاقه للغير بالبينة، و كذا بالنسبة إلى الرجوع بالثمن.

و كيف كان فان فسخا كانت العين للبائع و رجع كل منهما عليه بكمال الثمن و لو فسخ أحدهما كان للآخر أخذ الجميع حينئذ الذي هو مقتضى بينته لعدم المزاحم له.

خلافا للمحكي عن الشيخ فليس له، لأن الحاكم قد قضى له بنصفها دون النصف الآخر فلا يعود إليه، و ضعفه واضح، على أن الذي حكاه عنه في الدروس التفصيل، قال: «و لو فسخ أحدهما فللآخر الجميع، و فيه أوجه ثالثها- و هو مختار الشيخ في المبسوط- الفرق بين كون الآخذ الأول و الثاني، لأن القضاء للأول بالنصف إذا لم يتعقبه فسخ يقرر ملكه عليه بحكم الحاكم، فليس له نقضه بأخذ الجميع، و نعني بالأول الذي فاتحة القاضي بتسليم النصف فرضي، بخلاف ما إذا فسخ المفاتح، فإن الثاني يأخذ الجميع قطعا، لإيجاب بينته الجميع ما لم ينازع و إن كان هو أيضا ضعيفا».

و توهم أن مقتضى الفسخ الرجوع إلى البائع لا إليه بمقتضى الحكم الظاهري مدفوع بأن التنصيف قد كان جمعا بين البينتين، و مع فرض الفسخ استقلت بينة الآخر بكون الجميع له بلا معارض، بل المتجه صيرورة ذلك له قهرا عليه، لأنه مقتضى دعواه و بينته.

و لكن قال المصنف و غيره في لزوم ذلك عليه تردد من ذلك و من استصحاب الخيار له أقربه اللزوم للأصل و غيره بعد انتفاء المقتضي له.

و لو أرخت البينتان تأريخين مختلفين حكم للسابق و بالثمن للآخر،

ج 40، ص: 467

بل في كشف اللثام «و إن أمكن أن يكون باعها من الأول ثم اشتراها ثم باعها من الثاني، لحصول الجمع بين البينتين ببيعها من الثاني و إن لم يشترها، لجواز بيع ملك الغير، لكن إذا لم يجزه انفسخ و استقر عليه الثمن» أي فلا يتوقف الجمع بينهما على الأول.

و لو كانت في يد أحدهما قضي بها له مع عدم البينة و عليه اليمين للآخر، و لو أقاما بينة حكم للخارج على رأي و للداخل على آخر، كما عرفت الكلام فيه، و الله العالم.

و لو ادعى اثنان مثلا أن ثالثا اشترى من كل منهما هذا المبيع الذي في يده بثمن معين عكس المسألة السابقة و أقام كل منهما بينة ففي القواعد و التحرير فان اعترف لأحدهما قضي عليه بالثمن، و كذا إن اعترف لهما قضي عليه بالثمنين لإمكان صدقه و لو بشرائه ثم بيعه ثم شرائه، لكن فيه أن الحكم المزبور لا مدخلية فيه لاقامتهما البينة، ضرورة استناده إلى اعترافه به لا إليها، و لذا لو اختص بأحدهما قضي له بالثمن خاصة دون الآخر، فيحلف له إن لم تكن له بينة، و إلا أخذ منه أيضا كما ستعرف.

و على كل حال ف ان أنكر هما مع إقامة كل منهما البينة على دعواه و كان التأريخ مختلفا أو مطلقا قضي بالثمنين جميعا، لمكان الاحتمال الذي هو شراؤه من أحدهما ثم بيعه من الآخر ثم شراؤه منه، و مهما أمكن الجمع بين البينتين وجب بخلاف المسألة السابقة، إذ الشراء لا يجوز لملك نفسه، و البيع يجوز لملك غيره و لو فضولا، كذا قيل.

و فيه أن الاحتمال في الشراء لمال نفسه فضولا عن الغير ممكن أيضا، فالأولى في وجه الفرق اتحاد المدعى به في المسألة السابقة، و هو شراء

ج 40، ص: 468

المبيع من مالكه إلا أنه لم يعلم السابق منهما ليكون شراء اللاحق في غير محله بخلاف المقام، فان المدعى به استحقاق الثمن الذي ثبت بثبوت سببه، فمع فرض قيام البينة به في وقتين مثلا وجب المسبب، حتى لو كان المدعى واحدا، نعم لو فرض كون الثمن معينا و كل منهما قد ادعاه بسبب كونه البائع لثمنه و أقام كل منهما بينة تحقق التعارض و لو مع إطلاقهما فتأمل جيدا.

هذا و في المسالك و غيرها احتمال كون المطلقتين أو المطلقة إحداهما كمتحدي التأريخ الذي ستسمع حكمه، لاحتمال الاتحاد، و الأصل براءة المشتري، فلا يؤخذ إلا باليقين، و لعله لذا كان المحكي عن ظاهر الشيخ التردد، و لكن لا يخفى عليك ظهور البينة في التعدد، و الأصل تعدد المسبب بتعدد سببه.

و لو كان التأريخ واحدا تحقق التعارض، إذ لا يكون الملك الواحد في الوقت الواحد لاثنين، و لا يمكن إيقاع عقدين من الأصيلين مثلا في الزمان الواحد و حينئذ ف لا محيص عن أن يقرع بينهما لما عرفته من النص و الفتوى على أن ذلك حكم البينتين المتعارضتين بعد فقد الترجيح بينهما فمن خرج اسمه أحلف و قضي له، و لو امتنعا من اليمين قسم الثمن بينهما إن كان متفق الجنس و الوصف و إلا كان لكل واحد نصف ما ادعاه من الثمن، لأن الدعوى في الحقيقة على المثمن، و تنصيفه يقتضي تنصيف الثمن أو يقسم الثمن بينهما بلا قرعة أو يقرع بلا يمين أو يحكم بسقوط البينتين على ما مر من الخلاف و الاحتمال.

و لو ادعى مدع شراء المبيع من زيد و قبض الثمن و ادعى آخر شراءه من عمرو و قبض الثمن و كانت العين في يد البائعين أو أحدهما أو خامس و أقاما بينتين متساويتين في العدالة و العدد و التأريخ

ج 40، ص: 469

فالتعارض متحقق ضرورة عدم كون المال الواحد مملوكا بتمامه لشخصين في زمان واحد فحينئذ يقضى بالقرعة لما عرفته سابقا و يحلف من خرج اسمه و يقضى له و يرجع الآخر على بائعه بالثمن و لو نكلا عن اليمين قسم المبيع بينهما و قد عرفت احتمال القسمة بلا قرعة و التساقط.

و على كل حال فإذا اقتسماها رجع كل منهما على بائعه بنصف الثمن و في كشف اللثام إن لم يدعيا قبض العين و لا شهدت به بينتاهما و فيه البحث السابق و لهما حينئذ الفسخ و الرجوع بالثمنين لتبعض الصفقة و لو فسخ أحدهما جاز، و لكن لم يكن للآخر أخذ الجميع كما عرفته سابقا لأن النصف الآخر لم يرجع إلى بائعه (11) بل إلى بائع آخر بخلاف السابق.

و كذلك لو كانت العين في يدهما مع تعارض البينتين أو فقدان البينة مع التحالف أو نكولهما و يرجع كل بنصف الثمن، و لهما الفسخ، و في كشف اللثام بالشرط المتقدم، و فيه ما عرفت.

و لو كانت في يد أحدهما قضي له ببينته أو للخارج على الخلاف، و يرجع الآخر على بائعه بالثمن، و في كشف اللثام «إلا إذا اعترف أو شهدت بينته بقبض العين» و فيه ما عرفت. و كذا لو كانت في يد البائع المصدق لمدعي الشراء، فان كانت في يد أحدهما فمدعي الشراء منه ذو اليد، فيقضي له ببينته أو للخارج، و إن كانت بأيديهما و صدق كل منهما مشتريه فكلاهما ذو اليد، فيقسم بينهما عند التعارض، و يرجع كل منهما بنصف ثمنه، بناء على ما ذكرناه من عدم الفرق في ذلك بين القبض و عدمه بعد أن كان ثبوت ذلك بالبينة.

و لذا قال في الدروس: «الثالثة: بائعان و مشتريان بأن ادعى كل منهما

ج 40، ص: 470

أنه اشتراها من آخر و أقبضه الثمن و أقاما بينتين، فان تشبثا قسمت بينهما و رجع كل على بائعه بنصف الثمن، و إن تشبث أحدهما بني على ترجيح الداخل أو الخارج، فيرجع المرجوح بالثمن، و إن خرجا و تكافأت البينات أقرع على الأقوى، و مع النكول يقسم و يرجع كل على بائعه بنصف الثمن، سواء كانت في يد أحد البائعين أو يد أجنبي و لكل منهما الفسخ، و ليس للآخر أخذ الجميع لو فسخ أحدهما، لعدم عوده إلى بائعه» و كلامه صريح في الرجوع و لو بعد القبض، و كذا في القواعد، و الله العالم.

ثم إنه قد يتوهم من اقتصار المصنف في التعارض على الصورة المزبورة عدمه في غيرها، مع أن الظاهر تحقق ذلك أيضا في صورة الإطلاق، إذ هي كغيرها من صور الإطلاقات السابقة، بل و كذا لو أطلقت إحداهما و أرخت الأخرى بناء على عدم الحكم بتأخر مجهول التأريخ عن معلومه، كما حرر في محله، نعم لو كانا مؤرخين بتأريخين مختلفين ففيه البحث السابق في تقديم الملك السابق و عدمه.

هذا و في القواعد في أصل المسألة زيادة قول كل من المتداعيين و أنها أي العين ملكهما، و لعله لجواز أن يكون اشتراها أحدهما للآخر و أن يكون باعها أحد البائعين وكالة عن الآخر أو فضولا.

و في المسالك «يقوم مقام ذلك أن يقول: و تسلمته أو سلمه هو إلى، لأن الظاهر أنه إنما ينصرف بالتسليم في ما يملك، و في دعوى الشراء من صاحب اليد لا يحتاج أن يقول: و أنت تملكه، و يكتفى بأن اليد تدل على الملك، و كذلك يشترط أن يقول الشاهد في الشهادة اشتراه من فلان و هو يملكه أو اشتراه و تسلمه منه، و هذا القيد حسن، و سيأتي اختيار المصنف إياه، و كأنه تركه هنا اتكالا عليه، و فرعوا عليه أنه

ج 40، ص: 471

يجوز أن يقيم شاهدين على أنه اشترى من فلان و آخرين على أن فلانا كان يملكه إلى أن باع منه، لحصول المطلوب من جملة الشهود، و لكن الآخرين إن شهدا هكذا فقد شهدا على البيع و الملك أيضا، و كذا إذا أقام شهودا على أنه اشترى منه وقت كذا و آخرين على أنه كان يملك ذلك إلى وقت كذا، و لو أقام أحد المدعيين بينة على أنه اشترى الدار من فلان و كان يملكها و أقام آخر البينة على أنه اشتراها من مقيم البينة الأولى حكم ببينة الثاني و إن لم يقل لمقيم البينة و أنت تملكها، كما لا يحتاج أن يقول لصاحب اليد، لأن البينة تدل على الملك، كما أن اليد تدل عليه» و لا يخفى ما في ذلك كله من التطويل بلا طائل، ضرورة معلومية كون المراد النزاع في الشراء من المالك و لو بظاهر اليد أو غيرها.

و لو ادعى عبد أن مولاه أعتقه و ادعى آخر أن مولاه باعه منه و كان العبد في يد المولى أو ثالث أو لا يد لأحد عليه و لم تكن لأحدهما بينة و أكذبهما المولى حلف لهما يمينين. و إن كذب أحدهما و صدق الآخر ففي التحرير و ظاهر القواعد حلف لمن كذبه.

لكن في كشف اللثام «و الحق ما في المبسوط من أنه إن صدق المشتري لم يحلف للعبد، لأنه لو أقر بعد ذلك بالعتق لم يقبل، لكونه إقرارا في حق الغير و لم يلزمه غرم، و كذا إن صدق العبد لم يحلف للمشتري، لأنه لو صدقه بعد ذلك فقد اعترف بالإتلاف قبل الإقباض، و هو كالآفة السماوية في انفساخ البيع به، نعم إن ادعى عليه قبض الثمن حلف له إن أنكره».

و به جزم في المسالك، لكن قال: «إن قلنا: إن إتلاف البائع كالآفة السماوية» و سبقهما إلى ذلك الرافعي من الشافعية قال: «و قال الروزباني: و ليس هنا موضع يقر لأحد المدعيين و لا يحلف للآخر

ج 40، ص: 472

قولا واحدا إلا هذا».

و فيه منع عدم توجه اليمين للمشتري، فإنه مع إقراره المستخرج باليمين يكون من الحيلولة لا التلف، فيغرم له القيمة، و لذا جزموا في المسألة السابقة- و هي دعوى الاثنين شراء العين من شخص هي في يده- أنه لو أقر لأحدهما كان اليمين عليه للآخر، بل و له اليمين على المقر له، فلا يبعد حينئذ أن يكون هنا أيضا له اليمين على السيد و العبد، كما أنه قد يقال باليمين على السيد للعبد مع الإقرار للمشتري، لعموم

قوله (صلى الله عليه و آله) : «البينة»

و فائدته ثبوت الحرية في حقه على وجه لو انتقل إليه بعد ذلك بارث و غيره يحكم بحريته إن لم نقل بوجوب شرائه فعلا عليه، كما عن بعضهم التصريح به، و إلا كانت الثمرة واضحة.

و إن كان في يد المشتري ففي المسالك و كشف اللثام قدم قوله بيمينه، و فيه أنه مدع على السيد بعد اعترافه بالشراء منه و إن كان في يده، و لعله لذا أطلق في القواعد تقديم قول السيد فيه، هذا كله مع عدم البينة.

أما معها و كان العبد في يد السيد المكذب لهما أو في يد أجنبي أو لا يد لأحد عليه فان اختصت بأحدهما عمل بها و إن أقاما معا البينة قضى لأسبق البينتين تأريخا لتبين بطلان الثاني منهما بيعا أو عتقا.

فان اتفقتا في العدد و العدالة و التأريخ أو الإطلاق أو أطلقت إحداهما و أرخت الأخرى قضي بالقرعة مع اليمين على من أخرجته لزوما للأدلة السابقة، لا احتياطا كما عن الشيخ، فان نكل حلف الآخر.

ج 40، ص: 473

و لو امتنعا معا من اليمين قيل و القائل الشيخ و جماعة يكون نصفه حرا و نصفه رقا لمدعي الابتياع لأدلة التنصيف السابقة، لكن لا تخلو دعوى شمولها لمثل الفرض من تأمل و نظر، و لذا نسبه المصنف إلى القيل. و لكن عليه يرجع على البائع بنصف الثمن لفوات نصف المبيع، و في كشف اللثام «إن لم يعترف أو لم تشهد بينة بإقباضه العبد» و فيه البحث السابق، و له خيار التبعيض على الأقوى لما عرفت.

و حينئذ ف لو فسخ عتق كله لزوال المزاحم للبينة الشاهدة على المولى بعتقه و لو لم يفسخ المشتري ف هل يقوم على بائعه إن كان موسرا؟ الأقرب نعم (11) وفاقا لجماعة لشهادة البينة بمباشرة عتقه (12) فيتم شرط السراية.

و ما يقال- من أن البينة قد شهدت بإعتاقه كله و لم يعمل بها، و إنما حكم بعتق النصف حكما قهريا للتعارض بناء على عدمها في القهري فلا سراية، على أن الواقع إما عتق الكل أو البيع أو عدم واحد منهما، و لا معنى للسراية على الجميع- يدفعه بناء الأحكام على مقتضى ظاهر الأدلة الشرعية، و هو هنا عتق النصف بالبينة و لو بعد الأدلة على إعمالها مع التعارض على الوجه المزبور.

و لو كان العبد في يد المشتري فان قدمنا بينة الداخل حكم له، و إن قدمنا بينة الخارج حكم بالعتق، لأن العبد خارج، و عن بعض العامة على الأول تقدم بينة العبد، لأنه الداخل، إذ يده على نفسه، و فيه أنه لو قلنا يكون للحر يد على نفسه إنما يكون للعبد ذلك بالعتق و إلا فهو في يد السيد أو المشتري.

ج 40، ص: 474

و لو كان في يد البائع فصدق المشتري فهو ذو اليد بناء على ما عرفته سابقا في العين في يد ثالث، فتأمل.

[مسائل]
اشاره

مسائل:

[المسألة الأولى لو شهد للمدعي بأن الدابة ملكه منذ مدة فدلت سنها على أقل من ذلك قطعا أو أكثر]

الأولى:

لو شهد للمدعي بأن الدابة ملكه منذ مدة فدلت سنها على أقل من ذلك قطعا أو أكثر منها إن ادعى أنها نتجت عنده سقطت البينة، لتحقق كذبها كما في القواعد و التحرير و غيرهما، لكن عن بعض النسخ أو «أكثريا» عطفا على «قطعا» و هي التي شرحها في المسالك، فقال: «أما على تقدير كون الدلالة قطعية فواضح، لأن الكذب حينئذ قطعي، و أما على تقدير الأكثرية فالدلالة ظنية، و يشكل معارضتها للحكم الظاهر من عدالة الشاهد، و في التحرير اقتصر في الحكم بسقوط البينة على الدلالة القطعية، و هو أولى».

قلت: لا ينبغي التأمل في عدم معارضة الظن للشهادة التعبدية، و ظني غلط النسخة التي شرحها، بقرينة عدم عنوان من أحد من الأصحاب بذلك عدا الفاضل في الإرشاد، فإنه قال «قطعا أو ظاهرا» و قرينة تعليله بتحقق الكذب، فلا وجه للإشكال في ما ذكره، و لا أظنه قولا لأحد، إنما الكلام في بطلان البينة مطلقا أو في خصوص ما كذبت به، الظاهر الثاني، و لم أجد ذلك محررا في كلامهم، و الله العالم.

ج 40، ص: 475

[المسألة الثانية إذا ادعى دابة مثلا في يد زيد و أقام بينة أنه اشتراها من عمرو فان شهدت البينة بالملكية مع ذلك للبائع أو للمشتري أو بالتسليم قضي للمدعي]

المسألة الثانية:

إذا ادعى دابة مثلا في يد زيد و أقام بينة أنه اشتراها من عمرو فان شهدت البينة بالملكية مع ذلك للبائع أو للمشتري أو بالتسليم قضي للمدعي بناء على تقديم الملك السابق، بل اليد السابقة على اللاحقة.

و إن شهدت بالشراء لا غير قيل و القائل الشيخ في المحكي من مبسوطة و تبعه جماعة، بل في المسالك نسبه إلى الأكثر لا يحكم له به، لأن ذلك قد يفعل فيما ليس بملك، فلا تدفع اليد المعلومة بالمظنون بل المحتمل و هو قوي عند المصنف و غيره و قيل و القائل الشيخ في محكي الخلاف يقضى له على القول المزبور لأن الشراء دلالة على التصرف السابق الدال على الملكية كما أن اليد السابقة دالة عليها، إذ كما أن الظاهر من اليد كونها أصالة لا نيابة و لا عدوانا، فكذا البيع و الشراء، خصوصا الواقعان منه بعنوان الملكية و السلطنة بلا معارض له و إن لم يكن المال في يده.

هذا و في المختلف الاعتراض على الشيخ في اكتفائه في ثبوت الملك بالتسليم بحكمه أنه لو شهدت البينة للخارج بأن الدار كانت في يده منذ أمس أنه لا تزال اليد المتصرفة فكيف يمكن الجمع بين ذلك و بين ترجيحه هنا بتسليم البائع إلى المشتري.

و فيه أن ذلك مبني على قوله بترجيح اليد السابقة، فإن له في المسألة قولين، فلا يعترض عليه بالقول الآخر، كما أن له في هذه المسألة قولين، و الذي يسهل الخطب في المسألة ما عرفت فيما سبق من أنه لا يقضى له حتى لو شهدت البينة بالملك السابق فضلا عن اليد السابقة، لعدم

ج 40، ص: 476

معارضته للملك الفعلي المستفاد من اليد الفعلية، فبناء هذه المسألة على المسألة السابقة، و الله العالم.

[المسألة الثالثة الصغير المجهول النسب إذا كان في يد واحد و ادعى رقيته قضي بذلك ظاهرا]

المسألة الثالثة:

الصغير المجهول النسب إذا كان في يد واحد و ادعى رقيته قضي بذلك ظاهرا، و كذا لو كان في يد اثنين بلا خلاف أجده فيه، لأنه و إن كان الأصل فيه الحرية إلا أن رقيته أمر ممكن، و قد ادعاه ذو اليد، و لا منازع له فيحكم به، بل في التحرير و المسالك لا يلتفت إلى إنكاره بعد البلوغ لسبق الحكم برقيته، بل و كذا في القواعد و عن التذكرة إلا أنه قال: «له اليمين على من في يده» و إن كان فيه أن ذلك لا يقتضي سقوط حجته، كما في كل مدع دعوى لا معارض لها، مثل الوكالة عن الغير و شبهها، فإنه لا ينافي دعوى الغير عدمها بعد ذلك. و لعله لذا قال المصنف: «ظاهرا» بل في الإرشاد و غيره الجزم بأنه إذا بلغ و أنكر أحلف، بل قال في موضع آخر من القواعد: «لو ادعى الصبي المميز الحرية لم تسمع، فان بلغ و ادعاها سمعت، و لا تأثير لليد عليه و لا إبطال الدعوى السابقة».

بل إن لم يكن إجماعا أو سيرة قطعية أمكن المناقشة بالحكم برقيته حال صغره على وجه تجري عليه أحكام الملك، ل

خبر حمران بن أعين(1)«سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن جارية لم تدرك بنت سبع سنين مع رجل و امرأة ادعى الرجل أنها مملوكة له و ادعت المرأة أنها ابنتها، فقال: قد قضى علي (عليه السلام) قلت: و ما قضى في هذا؟ قال:


1- 1 الوسائل- الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 9.

ج 40، ص: 477

كان يقول: الناس كلهم أحرار إلا من أقر على نفسه بالرق و هو مدرك، و من أقام بينة على من ادعى من عبد أو أمة فإنه يدفع إليه و يكون رقا، قلت: فما ترى أنت؟ قال: أرى أن يسأل الذي ادعى أنها مملوكة له بينة على ما ادعى، فإن أحضر شهودا يشهدون أنها مملوكة لا يعلمون أنه باع و لا وهب دفعت الجارية إليه حتى تقيم المرأة من يشهد لها أن الجارية ابنتها حرة مثلها فلتدفع إليها و تخرج من يد الرجل، فقلت: فان لم يقم الرجل شهودا أنها مملوكة له، قال: تخرج من يده، فإن أقامت المرأة البينة على أنها ابنتها دفعت إليها، و إن لم يقم الرجل البينة على ما ادعى و لم تقم المرأة البينة على ما ادعت خلى سبيل الجارية، تذهب حيث شاءت»

فإنه ظاهر أو صريح بما ذكرنا.

و لعله لذا كان المحكي عن المبسوط توقف ثبوت رقية المميز على البينة كما عن الشافعية في وجه، إلا أن المعروف بين أصحابنا ما سمعت و إن كان الخبر المزبور منافيا له، و ليس دعوى المرأة البينة مغيرا لموضوع المسألة، ضرورة عدم يد للمرأة، على أن قوله (عليه السلام) أخيرا:

«تخرج من يده» مشعر بكون الجارية في يده، على أن دليلهم المزبور مقتض للحكم بالرقية و إن لم يكن في يده، مع أن اليد مقتضاها الملك في معلوم المالية لا أنها تنقح المشكوك في ماليته أنه مال.

بل المراد باليد في المتن و غيره الاستيلاء العرفي نحو استيلاء الوالد على ولده لا اليد بمعنى التصرف الملكي، فإن ذلك هو معنى دعوى المسلم المالية و لا معارض له، فمتى حصل المعارض كان على حجته التي هي هنا ما عرفت من كون الناس على الحرية.

و من هنا صرح بعضهم بعدم الفرق في الحكم المزبور بين الصغير و المجنون الكبير، بل و العاقل الساكت الذي لم يقر و لم ينكر و إن أشعرت

ج 40، ص: 478

بعض العبارات بنوع تأمل في الأول.

بل في الإرشاد التصريح بالإشكال في الأخير، لأصالة الحرية في الآدمي، و عدم دعواها لا يخرجها عن كونها أصلا، و سكوته أعم من التصديق، إلا أن ذلك إن تم اقتضى عدم الحكم بالرقية في الصغير، و يؤيده الخبر المزبور، لكن عرفت إجماعهم على الظاهر على الحكم برقيته.

و من هنا قال في غاية المراد: الصحيح الحكم برقية الكبير الساكت، و هو قضية كلام الأصحاب، و صرح به المصنف في بعض كتبه، و الأصل يخرجه عن كونه أصلا ما ينافيه، و هو هنا موجود، أي تصرف المسلم و دعواه الملكية، بل مقتضى ذلك الحكم برقية الصغير المعلوم نسبه إذا كان ممكن الملكية، ضرورة عدم الفرق في الدليل المزبور بين الجميع، و إنما قيد الأصحاب بجهل النسب لإرادة إخراج معلومه المقتضي للعلم بالحرية لا مطلقا، هذا كله في الصغير.

أما لو كان كبيرا و أنكر الرقية على مدعيها عليه ف لا ريب و لا خلاف في أن القول قوله، لأن الأصل الحرية نعم لا تسمع دعوى التحرير إلا ببينته، و هو غير دعوى الحرية، و على ذلك يحمل ما في بعض النصوص(1)الدالة على جواز شراء المملوك من سوق المسلمين مع دعواه الحرية.

و كذا لو ادعى اثنان رقيته فاعترف لهما قضي عليه، و إن اعترف لأحدهما كان مملوكا له دون الآخر

لعموم إقرار العقلاء(2)


1- 1 الوسائل- الباب- 5- من أبواب بيع الحيوان من كتاب التجارة.
2- 2 الوسائل- الباب- 3- من كتاب الإقرار- الحديث 2 و المستدرك- الباب- 2- منه الحديث 1.

ج 40، ص: 479

و لخصوص خبر حمران(1)المتقدم المعتضد بعدم خلاف أجده في الحكم بذلك هنا، بل و لا عثرت على من حكاه، نعم عن العامة قول بعدم قبول إقراره مطلقا، و آخر بالقبول فيما يضر به نفسه لا فيما يضر غيره، و حكي عن الشيخ في مسألة دعوى العبد العتق و الآخر الشراء في إنكار كون العبد ذا يد على نفسه أنه قال: «لأنه لو كان ذا يد لقبل إقراره بالملكية لأحد المتنازعين فيه» و مقتضاه المفروغية من عدم قبول إقراره، إلا أنه كما ترى لا دليل عليه، بل ظاهر الأدلة خلافه.

و في كشف اللثام «و إذا أقاما بينتين متعارضتين فصدق أحدهما خاصة لم تترجح به بينته، لأنه لا يد له على نفسه، فإنه إن كان حرا فلا يد له، و إن كان مملوكا فلا يد عليه إلا لمالكه» و فيه أنه مناف لقبول إقراره بالرقية مع عدم البينة الذي اعترف به سابقا، بل ظاهره الإجماع عليه، فتأمل.

[المسألة الرابعة لو ادعى كل منهما أن الذبيحة له و في يد كل واحد بعضها]

المسألة الرابعة:

لو ادعى كل منهما أن الذبيحة له و في يد كل واحد بعضها منفصلا عن الآخر و أقام كل منهما بينة قيل: قضي لكل منهما بما في يد الآخر، و هو الأليق بمذهبنا الذي هو تقديم بينة الخارج على الداخل، أما على القول بتقديم بينة ذي اليد

فيقضي لكل منهما بما في يده، كما أنه يقضي بالإشاعة بينهما لو فرض اتصال البعض الذي في يد أحدهما بالآخر كما عرفته سابقا.

و كذا الكلام فيما لو كان في يد كل واحد شاة و ادعى


1- 1 الوسائل- الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم الحديث 9.

ج 40، ص: 480

كل منهما الجميع و أقاما بينة قضي لكل منهما بما في يد الآخر إذ لا فرق بينهما و بين بعضي الذبيحة المنفصلين، كما هو واضح.

و مما يتفرع على ذلك أنه لو كان المتخاصمان في بعضي الذبيحة المنفصلين كافرا و مسلما حكم بكون ما يقضي به للكافر ميتة و للمسلم مذكى و إن كان كل واحد من الجزءين انتزعه من الآخر، عملا بظاهر اليد المعتبرة شرعا، و لا يقدح في ذلك اليد السابقة، بل لعل الحكم كذلك في الجزءين المتصلين، ضرورة اتحاد المدرك فيهما، كما تقدم الكلام في ذلك في قسم العبادات(1)فلاحظ.

[المسألة الخامسة لو ادعى زيد شاة في يد عمرو و أقام بينة فتسلمها]

المسألة الخامسة:

لو ادعى زيد شاة في يد عمرو و أقام بينة فتسلمها ثم أقام عمرو الذي كانت في يده بينة أنها له بالملك السابق الذي انتزعه منه زيد قال الشيخ: ينقض الحكم و تعاد الشاة إلى عمرو و هو بناء على القضاء لصاحب اليد فإنه قد كان عمرا و الأولى أنه لا ينقض حتى لو قدمنا بينة ذي اليد، إلا أنه خرجت من يده بحكم الحاكم و لو لعدم حضور بينته التي كانت نافعة له لو أقامها حال إقامة زيد بينته لا بعد انقطاع الخصومة و حكومة الحاكم المبنية على الدوام للأصل المؤيد بالحكمة و ظاهر الأدلة، بل لو قلنا بكونه الآن خارجا لم تسمع بينته أيضا بعد أن علم أن شهادتها بالملكية السابقة التي كانت مقتضى اليد، لما عرفته من انقطاع الخصومة فيها، فلا تسمع حينئذ دعوى تتعلق بها على وجه لا توجب يمينا فضلا عن قبول بينة بها، نعم لو أقامها


1- 1 راجع ج 8 ص 55.

ج 40، ص: 481

على انتقال جديد ممن انتزعها سمعت بلا خلاف و لا إشكال، بل لا يبعد القول بسماعها مع الإطلاق المحتمل لذلك، لعموم

قوله (صلى الله عليه و آله)(1): «البينة»

و ما دل على قبول شهادة العدل(2)و غير ذلك.

و مما ذكرنا يعلم النظر في ما في المسالك من وجوه، فلاحظ و تأمل.

[المسألة السادسة لو ادعى دارا في يد زيد بأجمعها و ادعى عمرو نصفها]

المسألة السادسة:

لو ادعى دارا في يد زيد بأجمعها و ادعى عمرو نصفها و لم يصدق زيد أحدهما و أقاما معا البينة و تساوتا عددا و عدالة قضي لمدعي الكل بالنصف المشاع لعدم المزاحم له فيه و تعارضت البينتان في النصف الآخر، فيقرع بينهما و يقضى لمن يخرج اسمه مع يمينه فان امتنع حلف الآخر و لو امتنعا معا من اليمين قضي بينهما في النصف بالسوية فيكون لمدعي الكل ثلاثة أرباع النصف الذي لا معارض له فيه، و ربع من النصف الآخر و لمدعي النصف الربع (11) كما هو واضح. و قد سمعت الكلام فيه مفصلا(3)ضرورة كونه فردا من مسألة تداعي العين الخارجة عن أيديهما التي قد عرفت الحال فيها.

نعم يحكى عن ابن الجنيد هنا أنه بعد أن فرض المسألة في ما لو كانت العين في أيديهما- و هي التي أشار إليها المصنف بقوله و لو كانت


1- 1 الوسائل- الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.
2- 2 سورة الطلاق: 65- الآية 2 و الوسائل- الباب- 1- من أبواب كيفية الحكم الحديث 6 و الباب- 7- منه- الحديث 4.
3- 3 راجع ص 407- 408.

ج 40، ص: 482

يدهما على الدار و ادعى أحدهما الكل و الآخر النصف و أقام كل منهما بينة بذلك كانت لمدعي الكل، و لم يكن لمدعي النصف شي ء و ذلك لما عرفت من أن نصفا منها لا نزاع لهما فيه، و هو الذي في يد مدعي الكل، فلم يبق إلا النصف

الذي في يد الخصم، و قد قلنا بتقديم بينة الخارج لأن بينة ذي اليد بما في يده غير مقبولة نعم لو لم تكن بينة كان القول قوله بيمينه و لا يمين له على مدعي الكل، و حينئذ تكون الدار بينهما نصفين- قال: «يقتسمان الدار مع البينة و عدمها على طريق العول، فيجعل لمدعي الكل الثلثان و لمدعي النصف الثلث، لأن المنازعة وقعت في أجزاء غير معينة و لا مشار إليها، بل كل واحد من أجزائها لا يخلو من دعوى كل منهما باعتبار الإشاعة، فلا يتم ما ذكروه من خلوص النصف لمدعي الكل بغير منازع، بل كل جزء يدعي مدعي النصف نصفه و مدعي الكل كله، و نسبة إحدى الدعويين إلى الأخرى بالثلث، فتقسم العين أثلاثا، واحد لمدعي النصف و اثنان لمدعي الكل، فيكون كضرب الديان في مال المفلس و الميت».

و في المختلف «و هو الأقوى عندي لو زاد المدعون على اثنين» و في كشف اللثام «يعني و استوعب دعاوي غير مدعي الجميع العين أو زادت عليها، كما إذا ادعى أحد الثلاثة الجميع و آخر منهم الثلثين و آخر الثلث أو النصف، فإنه حينئذ لا يبقى في العين جزء لا نزاع فيه بخلاف ما إذا ادعى أحدهم الجميع، و كل من الآخرين الثلث».

قلت: يمكن أن يكون مبنى كلام ابن الجنيد على دعوى ظهور نصوص التنصيف(1)بعد الإقراع و عدم اليمين منهما في العول، ضرورة


1- 1 الوسائل- الباب- 12- من أبواب كيفية الحكم- الحديث 2 و 3 و 4 و الباب- 9- من كتاب الصلح و لكن ليس في شي ء من هذه النصوص ذكر عن القرعة.

ج 40، ص: 483

أن بينة كل منهما تقتضي الكل و هما متعذران فيحصل النقصان عليهما. و من هنا اتجه التعدية إلى التثليث لو كانوا ثلاثة، و التربيع لو كانوا أربعة و هكذا، و ليس إلا لما ذكرنا. و منه مفروض المسألة التي لا يمكن الجمع فيها بين بينة النصف مثلا و بين بينة الكل، فنقول في النصف كما عالت في الأول، فيوزع عليهما أثلاثا، لأن نسبة الكل إلى النصف كذلك، فالعول عنده نحو العول في الفرائض لو لا نصوص أهل العصمة (عليهم السلام) لقضاء كل بينة مثلا بمقتضاها نحو قوله: للزوج النصف و للأختين من الأب الثلثان و من الأم الثلث،

لا مثل العول في تزاحم الديون على التركة الذي مرجعه عند التأمل أيضا إلى ذلك.

لكن فيه أن محل النصوص حيث لا يسلم جزء من العين لا نزاع فيه، أما في المفروض فلا دلالة فيها عليه، بل لعل ظاهر

مرسل ابن المغيرة(1)عن الصادق (عليه السلام) «في رجلين كان بينهما درهمان فقال أحدهما:

الدرهمان لي، و قال الآخر: هما بيني و بينك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أما الذي قال: هما بيني و بينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له فيه شي ء و أنه لصاحبه، و أما الآخر فبينهما»

خلاف ذلك.

و كذا مرسل ابن أبي حمزة(2)عنه (عليه السلام) أيضا.

و لكن الانصاف مع ذلك عدم خلو كلام ابن الجنيد من قوة مع تزاحم الأمارات الشرعية، و لم يكن شي ء متسالم عليه فيما بينهم أنه لأحدهم، و لعله لذلك أو لما يقرب منه سمعت الميل إليه في المختلف في ما فرضه، فلاحظ و تأمل.


1- 1 الوسائل- الباب- 9- من كتاب الصلح الحديث 1.
2- 2 أشار إليه في الوسائل الباب- 9- من كتاب الصلح- الحديث 2 و ذكره في التهذيب ج 6 ص 292 الرقم 809.

ج 40، ص: 484

و لو ادعى أحدهم النصف و الآخر الثلث و الثالث السدس و كانت يدهم عليها فلا نزاع حتى على مذهب الإسكافي، لأن سهام المدعين لا تزيد على أجزاء العين، من غير فرق بين إقامة البينة و عدمها ف ان يد كل واحد منهم على الثلث بناء على ما عرفت من أن اشتراك الأيدي على الدار يقتضي كون كل يد على مقدارها لكن صاحب الثلث في الفرض لا يدعي زيادة على ما في يده الذي اقتضته و صاحب السدس يفضل في يده ما لا يدعيه هو و لا مدعي الثلث و هو السدس فيكون لمدعي النصف فيكمل له النصف ضرورة نقصان الثلث عن النصف بسدس و الفرض صيرورته له.

و لا فرق في ذلك بين إقامتهم البينة و عدمها كما أشار إليه بقوله:

و كذا لو قامت لكل منهم بينة بدعواه و كأن المصنف نبه على حكمها لمكان خلاف بعض العامة فيها حيث جعل مع إقامتهم البينة لمدعي النصف ثلثا و نصف سدس بناء على أن السدس الزائد على ما في يده لا يدعيه على مدعي السدس خاصة، بل إنما يدعيه شائعا في بقية الدار و هي في يد الآخرين جميعا، فنصفه على مدعي الثلث و عارضت فيه بينته و ترجحت باليد على تقدير إقامتهما البينة، و قدم قول ذي اليد على تقدير عدمها و نصفه على مدعي السدس، فيحكم به لمدعي النصف ببينته، لأن بينة مدعي السدس لا تعارضها، فيجعل لمدعي النصف ثلث و نصف سدس، و للآخرين مدعاهما، و يبقى بيد مدعي السدس نصف سدس لا يدعيه أحد.

و لا يخفى عليك ضعف القول المزبور المبني على تقديم بينة الداخل، ضرورة تعلق الدعوى بالدار و لا تعارض فيها كما عرفت، و لو قدمنا بينة الخارج أخذ منه نصف السدس و قد كمل له نصفه، كما أن مدعي السدس كذلك، بل في يده زيادة نصف سدس هو مقدار ما نقص من

ج 40، ص: 485

سهم مدعي الثلث فيتجه أخذه له ببينته تتمة لسهمه، و عن بعض آخر من العامة أنه إذا جحد بعضهم بعضا كانت بينهم أثلاثا، و هو أوضح فسادا من الأول لاقتضائه الحكم بالثلث لمن يدعي أن له السدس، فتأمل.

و لو ادعى أحدهم الكل و الآخر النصف و الثالث الثلث و كانت يدهم أجمع عليها و لا بينة قضي لكل واحد بالثلث، لأن يده عليه، و على الثاني و الثالث اليمين لمدعي الكل الشامل لما في أيديهما و عليه و على مدعي الثلث اليمين لمدعي النصف إن لم يعترف لذي الثلث، و ليس لمدعي الثلث يمينا عليهما، لأنه لا يدعي زائدا على ما في يده بخلاف مدعي النصف، فإنه يدعي سدسا عليهما، و مدعي الكل فإنه يدعي جميع ما بأيديهما.

و إن أقام أحدهم بينة فان كان المستوعب أخذها منهم ثلث منها بيده مع يمينه أو عدمه إن قلنا بكفاية البينة عنه و الباقي ببينته، و إن أقامها مدعي النصف خاصة أخذه بإضافة سدس يأخذه منهما بالبينة إلى ما في يده بغير يمين أيضا بناء على نيابتها عنه للداخل- و في كشف اللثام مازجا عبارة القواعد «أخذ النصف مما في يد الآخرين أو بإضافة نصفي سدس يأخذهما من الباقين إلى ما في يده» انتهى- و النصف الباقي بين الآخرين نصفان لكل منهما سدس و نصف سدس، لكن للمستوعب منهما السدس بغير يمين، لعدم المنازع له فيه، و يحلف على نصف السدس للثالث، فإنه يدعيه الآن عليه، كما أنه هو يحلف للمستوعب على جميع الربع الذي أخذه، و هو السدس و نصف، و إن أقامها مدعي الثلث أخذ ما في يده من غير يمين إن قلنا بكفاية البينة عنه- و في كشف اللثام «أخذه أي الثلث الذي بيده أو الذي بأيدي الباقين» انتهى- و الباقي بين الآخرين للمستوعب منهما السدس منه بغير يمين، لعدم المنازع له فيه،

ج 40، ص: 486

و يحلف على السدس الآخر الذي يدعيه الآن مدعي النصف عليه، كما أن مدعي النصف يحلف على جميع ما يأخذه من السدسين للمستوعب الذي يدعيهما عليه.

و في كشف اللثام بعد أن ذكر ما سمعت قال: «و كون الباقي بين الآخرين على هذين التقديرين مبني على ما سيأتي من إسقاط بينة الداخل اليمين، و إلا فمن أقام بينة أخذ ما يدعيه مما في أيدي الباقين و بقي ما في يده و باقي ما في أيديهما يتنازعان فيه، فما بأيديهما يقتسمانه كما ذكر، و ما في يد ذي البينة خارج عن أيديهما، فيقرع و يحكم بكله أو بعضه لمن حلف منهما».

و قد يناقش فيه بأنه لا يتم ذلك في المشاع، بل مناف لما تسمعه من إقامة كل منهم البينة المنزلة على ما في يده إلا ما زاد عليه، على أن البينة لا تزيد على إثبات المشاع الذي كانت تقتضيه اليد، و كأن الذي أحوجه إلى ذلك ذكرهم البينة هنا، و ظاهرهم عدم الاحتياج معها إلى يمين مع معروفية تقديم بينة الخارج عندهم، كمعروفية عدم الاكتفاء بها عن اليمين في الداخل، و مع هذه المقدمات يقتضي تنزيل مفاد البينة على الخارج بالتقرير الذي ذكره.

إلا أن ذلك كله كما ترى، بل كلام الأصحاب الآتي فيما لو أقام كل منهم البينة كالصريح في خلافه، فلا محيص عن حمل كلامهم هنا على تقدير تقديم بينة الداخل، أو على الاكتفاء بها عن اليمين، أو التزام اليمين على ما في اليد فتأمل.

و إن أقام كل منهم بينة فان قضينا مع التعارض ببينة الداخل فالحكم كما لو لم تكن بينة، لأن لكل واحد بينة و يدا على الثلث ف تقسم الدار بينهم حينئذ أثلاثا و إن قضينا ببينة الخارج و هو الأصح

ج 40، ص: 487

كما عرفت كان لمدعي الكل مما في يده ثلاثة من اثني عشر بغير منازع لأنه لا معارض له فيما في يده إلا مدعي النصف بنصف سدس، و هو واحد من الأربعة التي هي الثلث الذي في يده و كان له أيضا الأربعة التي في يد مدعي النصف أي الثلث لقيام البينة له أي لصاحب الكل بها و سقوط بينة صاحب النصف بالنظر إليها، إذ الفرض أنه لا تقبل بينة ذي اليد على ما في يده و كان له أيضا ثلاثة مما في يد مدعي الثلث الذي بينته داخل بالنسبة إليه بخلاف بينة المستوعب و حينئذ يبقى واحد مما في يد مدعي الكل المدعي النصف (11) لأن بينته بالنسبة إليه بينة خارج، و لا تعارضها بينة المستوعب التي هي داخلة بالنسبة إليه و واحد مما في يد مدعي الثلث يدعيه كل واحد من مدعي النصف و مدعي الكل (12) و هو خارج عنهما، ف يقرع بينهما (13) بعد تساوي بينتهما و يحلف من يخرج اسمه و يقضى له (14) فان امتنع احلف الآخر و قضي له فان امتنعا قسم بينهما نصفين (15) كما عرفته في العين التي تداعياها و هي خارجة عنهما. و حينئذ فيحصل (16) من مجموع ما عرفت لصاحب الكل عشرة و نصف، و لصاحب النصف واحد و نصف، و تسقط دعوى مدعي الثلث (17) فان بينته داخلة، فلا تعارض الخارجة.

و قد ظهر لك من ذلك كله أن لمدعي النصف من الاثنى عشر ثمن، و لمدعي الكل سبعة أثمان، فإذا أردت إخراج ذلك صحيحا فرضت النزاع في أربعة و عشرين، فإن لمدعي الكل منها واحدا و عشرين، و لمدعي النصف ثلاثة.

هذا و في القواعد جعل لمدعي النصف سدسا، و للمستوعب خمسة أسداس، و هو مبني على أخذ السدس تاما من المستوعب. و فيه أنه

ج 40، ص: 488

لا يدعيه تماما عليه، بل يدعي نصفه عليه و النصف الآخر على مدعي الثلث، كما عرفت، و الله العالم.

و لو كانت يدهم جميعا خارجة و اعترف ذو اليد بأنه لا يملكها و لا بينة فللمستوعب النصف، لعدم المنازع له فيه من كل من مدعي النصف و الثلث، و يقرع في النصف الآخر، فان خرجت للمستوعب أو للثاني حلف و أخذ، و إن خرجت للثالث حلف و أخذ الثلث، ثم يقرع بين الآخرين في السدس، فمن خرج حلف و أخذ.

و لو أقام أحدهم خاصة بينة فان كانت للمستوعب أخذ الجميع، و إن أقامها مدعي النصف أخذه، و يبقى للمستوعب السدس بغير منازع، و الثلث يتنازع فيه مع مدعيه، و الحكم فيه كما لو لم تكن بينة. و لو أقامها مدعي الثلث أخذه و للمستوعب السدس أيضا بغير منازع، و النصف يقرع فيه بين مدعيه و المستوعب.

و إن أقام كل منهم بينة و تساوت فالنصف للمستوعب، لعدم المنازع، و السدس الزائد على الثلث يتنازعه المستوعب و مدعي النصف، و قد تعارضت فيه بينتاهما، و الثلث يدعيه الثلاثة و قد تعارضت فيه البينات الثلاثة، فيقرع بين المتنازعين فيما تنازعوا فيه، فمن خرج اسمه حلف و أخذ، فإن نكلوا اقتسموا المتنازع فيه، فيقسم المستوعب و مدعي النصف السدس بينهما نصفين لأنهما المتنازعان فيه دون مدعي الثلث، و أما الثلث فيقتسمونه أثلاثا بينهم، فيكون للمستوعب النصف بلا منازع و نصف السدس و ثلث الثلث، و لمدعي النصف ثلث الثلث و نصف السدس، و لمدعي الثلث ثلث الثلث خاصة و هو التسع، و تصح في ستة و ثلاثين، للمستوعب خمسة و عشرون، ثمانية عشر بلا نزاع و ثلاثة نصف السدس الزائد و أربعة ثلث الثلث، و لمدعي النصف سبعة، ثلاثة نصف السدس و أربعة ثلث

ج 40، ص: 489

الثلث، و لمدعي الثلث أربعة، ثلث الثلث، هذا كله على المشهور.

و أما على العول فتصح في أحد عشر، للمستوعب ستة، و لمدعي النصف ثلاثة، و لمدعي الثلث اثنان، لأن فريضتهم من ستة، و يعال عليها نصفها و ثلثها، و الله العالم.

و لو كانت في يد أربعة فادعى أحدهم الكل و الآخر الثلثين و الثالث النصف و الرابع الثلث ففي يد كل واحد ربعها بناء على ما عرفته من اقتضاء اليد ذلك فان لم تكن بينة قضينا لكل واحد منهم بما في يده و أحلفنا كلا منهم لصاحبه لأنه لم يخلص لأحد منهم، و لو كانت يدهم خارجة فان أقام أحدهم بينة حكم له.

و إن كان لكل منهم بينة خلص لصاحب الكل الثلث، إذ لا مزاحم له فيه من كل واحد من الثلاثة مع تداخل الدعاوي بعضها في بعض و إرادة القضاء فيها أجمع، لا أن له ذلك على كل حال حتى لو أراد رفع اليد عن الدعوى أو كانت الدعاوي مترتبة و كان القضاء بين كل واحد مع الأخرى مستقلا إلا مع إقرار المدعي بالثلث مثلا أن له ذلك في النصف المدعى به مثلا.

و حينئذ مع التداخل المزبور و إرادة القضاء في الجميع يبقى التعارض بين بينة مدعي الكل و مدعي الثلثين في السدس الزائد على النصف، إذ لا ينازعهما فيه أحد من الباقين فيقرع بينهما فيه بعد تساوي البينتين عدالة و عددا، فمن خرج اسمه حلف و أخذه، و إلا حلف الآخر، فان امتنعا قسم بينهما نصفين.

ثم يقع التعارض بين بينة مدعي الكل و مدعي الثلثين و مدعي الصنف في السدس أيضا (11) و هو الزائد على الثلث لا ينازعهم فيه الرابع فيقرع بينهم فيه (12) على الوجه السابق ثم يقع التعارض بين الأربعة

ج 40، ص: 490

في الثلث الباقي فيقرع بينهم فيه أيضا و يختص به من تقع القرعة له بعد يمينه و قد عرفت غير مرة أنه لا يقضى في نحو الفرض لمن يخرج اسمه بها إلا مع اليمين.

و لا يستعظم أن يحصل بالقرعة الكل لمدعي الكل بخروج القرعة له في المراتب كلها فان ما حكم الله تعالى به غير مخطئ فلا قسمة بتعارض البينات من غير قرعة كما ذهب إليه بعضهم للاستبعاد المزبور.

و لو نكل الجميع عن الأيمان قسمنا ما يقع التدافع فيه بين المتنازعين في كل مرتبة بالسوية و حينئذ فتصح القسمة من ستة و ثلاثين سهما لأنها أقل عدد لسدسه نصف و ثلث.

لمدعي الكل عشرون (11) منها، اثنا عشر بلا نزاع، و ثلاثة نصف السدس الذي تنازع فيه مع مدعي الثلثين، و اثنان ثلث السدس الذي تنازع فيه معه أيضا و مع مدعي النصف، و ثلاثة ربع الثلث الذي يتنازع فيه مع الجميع.

و لمدعي الثلثين ثمانية (12) ثلاثة نصف السدس الذي تنازع فيه مع مدعي الكل، و اثنان ثلث السدس الذي تنازع فيه معه أيضا و مع مدعي النصف، و ثلاثة ربع الثلث الذي تنازع فيه مع الجميع.

و لمدعي النصف خمسة (13) اثنان ثلث السدس الذي تنازع فيه مع مدعي الجميع و مدعي الثلثين، و ثلاثة ربع الثلث الذي تنازع فيه مع الجميع.

و لمدعي الثلث ثلاثة (14) ربع الثلث الذي تنازع فيه مع الجميع.

و حينئذ يكون الإقراع في مواضع ثلاثة، أو يقال: قد لا يحتاج إلى ذلك، بل يأخذ المستوعب الثلث بلا مزاحم، ثم يتقارع الجميع في الباقي، فإن خرج المستوعب أو الثاني أخذه، فان كلا منهما يدعي كله، و إن خرج الثالث أخذ منه النصف و أقرع بين الثلاثة الباقين في الباقي و هو

ج 40، ص: 491

السدس، فمن خرج أخذه، و إن خرج الرابع أخذ الثلث و أقرع بين الثلاثة الباقين في الثلث الباقي، هذا كله مع خروج المدعى به عن أيديهم.

و لو كان المدعى به في يد الأربعة ف قد عرفت أن في يد كل واحد ربعها، فإذا أقام كل واحد منهم بينة بدعواه قال الشيخ: يقضي لكل واحد بالربع، لأن له بينة و يدا بناء منه على تقديم بينة الداخل.

و الوجه القضاء ببينة الخارج على ما قررناه و حينئذ فيسقط اعتبار بينة كل واحد بالنظر إلى ما في يده و يكون ثمرتها في ما يدعيه مما في يد غيره، فيجمع بين كل ثلاثة منهم على ما في يد الرابع و ينتزعه لهم، و يقضي فيه بالقرعة و اليمين، و مع الامتناع بالقسمة على حسب ما تقدم فيجمع بين مدعي الكل و النصف و الثلث على ما في يد مدعي الثلثين و ذلك ربع اثنين و سبعين لأنا نريد عددا لربعه ثلث و تسع و لتسع ربعه نصف و هي كذلك و هو أي ربعها ثمانية عشر، فمدعي الكل يدعيها أجمع و مدعي النصف يدعي منها ستة لأن دعواه ستة و ثلاثين و بيده منها ثمانية عشر، و الباقي له ثمانية عشر على الثلاثة في كل ربع ستة و مدعي الثلث يدعي منها اثنين (11) تسعها، لأن دعواه الثلث أربع و عشرون، بيده منها ثمانية عشر، فالباقي له ستة على ربع كل واحد من الثلاثة اثنان.

و حينئذ فنكون عشرة منها لمدعي الكل (12) بلا نزاع لقيام البينة بالجميع الذي تدخل فيه العشرة (13) التي قد عرفت عدم منازعة الآخرين له فيها و يبقى ما يدعيه صاحب النصف- و هو ستة- يقرع بينه و بين مدعي الكل فيها و يحلف (14) من يخرج اسمه و إلا حلف الآخر و مع الامتناع يقسم بينهما (15) نصفين على حسب ما عرفته في غيرها

ج 40، ص: 492

و يبقى ما يدعيه صاحب الثلث و هو اثنان يقرع عليه بين مدعي الكل و بينه، فمن خرج اسمه أحلف و أعطي و لو امتنعا قسم بينهما نصفين على حسب ما عرفته مكررا.

ثم يجمع دعوى الثلاثة على ما في يد مدعي النصف و هو ثمانية عشر أيضا فصاحب الثلثين يدعي عليه عشرة لأن دعواه الثلثين ثمانية و أربعين و بيده ثمانية عشر منها، فالباقي له ثلاثون على كل منهم عشرة، و هي خمسة أتساع ثمانية عشر و مدعي الثلث يدعي منها اثنين كما عرفته و حينئذ يبقى في يده منها ستة لا يدعيها إلا مدعي الجميع، فتكون له لقيام البينة على الجميع التي تدخل فيه و يقارع الأخيرين في العشرة و الاثنين ثم يحلف (11) من يخرج اسمه و إن امتنعوا أخذ (12) من كل منهما نصف ما ادعياه (13) و هو خمسة من العشرة و واحد من الاثنين.

ثم يجتمع الثلاثة على ما في يد مدعي الثلث و هو (14) أيضا ثمانية عشر فمدعي الثلثين يدعي منه عشرة (15) لما عرفت و مدعي النصف يدعي ستة (16) لما عرفت أيضا يبقى (17) منه اثنان لمدعي الكل (18) بلا منازع و يقارع على ما أفرد للآخرين فان امتنعوا عن الأيمان قسم ذلك بين مدعي الكل و بين كل واحد منهما بما ادعاه (19) على حسب ما عرفت.

ثم تجتمع الثلاثة على ما في يد مدعي الكل (20) و هو أيضا ثمانية عشر فمدعي الثلثين يدعي عشرة (21) منها لما عرفت و مدعي النصف يدعي (22) منها ستة، و مدعي الثلث يدعي اثنين، فتخلص يده عما كان فيها (23) لأن ذلك تمام ثمانية عشر، و إذا تم ذلك فيكمل لمدعي الكل ستة و ثلاثون من أصل اثنين و سبعين (24) أربعة عشر مما في

ج 40، ص: 493

يد الثاني، و اثنا عشر مما في يد الثالث، و عشرة مما في يد الرابع و لمدعي الثلثين عشرون خمسة مما في يد الثالث، و خمسة أخرى مما في يد الرابع، و عشرة مما في يد المستوعب و لمدعي النصف اثنا عشر ثلاثة مما في يد الثاني. و ثلاثة أخرى مما في يد الرابع، و ستة مما في يد المستوعب و لمدعي الثلث أربعة اثنان مما في يد المستوعب، و اثنان مما في يد الباقين هذا إن امتنع صاحب القرعة عن اليمين و منازعة و إلا كان الحاصل غير ذلك كما هو ظاهر.

كظهور الحكم لو أقام أحدهم بينة خاصة، بل و ظهور غير ذلك مما تقدم نظيره في المسائل السابقة، فتدبر.

[المسألة السابعة إذا تداعى الزوجان متاع البيت قضي لمن قامت له البينة]

المسألة السابعة:

إذا تداعى الزوجان متاع البيت الذي في يدهما كلا أو بعضا قضي به لمن قامت له البينة منهما مطلقا بلا خلاف كما في الرياض.

و إن لم تكن بينة فيد كل واحد منهما على نصفه، قال في المبسوط و تبعه العلامة في القواعد و ولده في المحكي من شرحه يحلف كل منهما لصاحبه كغير المتاع مما يتداعى فيه اثنان مثلا و كان في أيديهما سواء كان مما يختص بالرجال كالعمائم و الطيالسة و السلاح و الدرع و نحوها أو النساء (11) كالحلي و المقانع و نحوها أو يصلح لهما (12) كالفرش و الأواني و سواء كانت الدار لهما أو لأحدهما (13) أو لغيرهما و سواء كانت الزوجية باقية أو زائلة (14) بطلاق و نحوه، بل في كشف اللثام و سواء كانت يدهما عليه مشاهدة كعمامة أو خلخال

ج 40، ص: 494

لبساه (يلبسانه خ ل) أو حكما و هو الكون في بيت يسكنانه، و سواء جرت العادة بجهاز مثلها بقدره أم لا، كل ذلك للعمومات التي منها

«البينة على المدعي و اليمين على المدعي عليه»(1).

و يستوي في ذلك تنازع الزوجين و الوارث أو أحدهما مع الآخر، لأعمية الدليل المزبور من ذلك كله، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة من أنه إن تنازع أحدهما و ورثة الآخر فالقول قول الباقي منهما، و أنه إن كان في يدهما حكما فما يصلح للرجال أو لهما فالقول قوله، و إلا فقولها و عن أبي يوسف إن جرت العادة في جهاز مثلها بقدره فالقول قولها.

و قال الشيخ في الخلاف و محكي النهاية ما يصلح للرجال للرجل، و ما يصلح للنساء للمرأة، و ما يصلح لهما يقسم بينهما بعد التحالف أو النكول، و قد سبقه إلى ذلك الإسكافي و لحقه ابنا حمزة و إدريس و الكيدري و القاضي في ظاهره- و إن خصه بحال الطلاق- و يحيى بن سعيد و الفاضلان في النافع و التحرير و التلخيص و أبو العباس في المهذب و الشهيد في الدروس و غيرهم على ما حكي عن بعضهم.

بل في المسالك نسبته إلى الأكثر، بل عن نكت النهاية للمصنف نسبته إلى المشهور، بل عن الخلاف و السرائر الإجماع عليه، و هو الحجة بعد

صحيح النخاس(2)عن الصادق (عليه السلام) «إذا طلق الرجل امرأته و في بيتها متاع فلها ما يكون للنساء، و ما يكون للرجال و النساء يقسم بينهما، قال: و إذا طلق الرجل المرأة فادعت أن المتاع لها و ادعى الرجل أن المتاع له كان له ما للرجال و لها ما للنساء».


1- 1 الوسائل- الباب- 3- من أبواب كيفية الحكم.
2- 2 الوسائل- الباب- 8- من أبواب ميراث الأزواج- الحديث 4 من كتاب الفرائض.

ج 40، ص: 495

و الموثق(1)«في امرأة تموت قبل الرجل أو رجل يموت قبل المرأة قال: ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما، و من استولى على شي ء منه فهو له».

و خبر زرعة عن سماعة(2)«سأله عن الرجل يموت ما له من متاع البيت؟ قال: السيف و السلاح و ثياب جلده»

و قصور الدلالة عن إفادة تمام المدعى صريحا- كما ذكره جماعة- غير ضائر بعد اعترافهم بالظهور.

هذا و في رواية مروية بعدة طرق فيها الصحيح و الموثق أنه للمرأة، لأنها تأتي بالمتاع من بيت أهلها و أفتى بها الشيخ أيضا في المحكي من استبصاره.

قال عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح(3)«سألني أبو عبد الله (عليه السلام) كيف قضاء ابن أبي ليلى؟ قلت: قد قضى في مسألة واحدة بأربعة وجوه في التي يتوفى عنها زوجها فيجي ء أهله و أهلها في متاع البيت، فقضى فيه بقول إبراهيم النخعي: ما كان من متاع الرجل فللرجل، و ما كان من متاع النساء فللمرأة، و ما كان من متاع يكون للرجل و المرأة قسمه بينهما نصفين، ثم ترك هذا القول، فقال: المرأة بمنزلة الضيف في منزل الرجل، لو أن رجلا أضاف رجلا فادعى متاع بيته كلف البينة، و كذلك المرأة تكلف البينة، و إلا فالمتاع للرجل، و رجع إلى قول آخر، فقال: القضاء أن المتاع للمرأة إلا أن يقيم الرجل البينة على ما أحدث في بيته، ثم ترك هذا القول، و رجع إلى قول إبراهيم الأول،


1- 1 الوسائل- الباب- 8- من أبواب ميراث الأزواج- الحديث 3- 2 من كتاب الفرائض.
2- 2 الوسائل- الباب- 8- من أبواب ميراث الأزواج- الحديث 3- 2 من كتاب الفرائض.
3- 3 أشار إليه في الوسائل- الباب- 8- من أبواب ميراث الأزواج الحديث 1 و ذكره في التهذيب ج 6 ص 297 الرقم 829.

ج 40، ص: 496

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): القضاء الأخير و إن كان رجع عنه، المتاع متاع المرأة إلا أن يقيم الرجل البينة، قد علم من بين لابتيها- يعني بين جبلي منى، لأنه قاله و نحن يومئذ بمنى- إن المرأة تزف إلى بيت زوجها بمتاع».

و في

خبر آخر له(1) أيضا حكى للصادق (عليه السلام) فيه اختلاف ابن أبي ليلى في هذه المسألة و قضاءه فيها أربع قضيات أولها كما في الخلاف و ثانيها كما سمعته من المبسوط ثم قال: «ثم قضى بعد ذلك بقضاء لولا أني شهدته لم أرده عليه، ماتت امرأة منا و لها زوج و تركت متاعا فرفعته إليه، فقال: اكتبوا لي المتاع فلما قرأه قال: هذا يكون للمرأة و الرجل فقد جعلته للمرأة إلا الميزان فإنه من

متاع الرجل، ثم سألته ما تقول فيه؟ فقال: القول الذي أخبرتني أنك شهدته منه قال:

يكون المتاع للمرأة، فقال (عليه السلام): لو سألت من بينهما يعني الجبلين- و نحن يومئذ بمكة- لأخبروك أن الجهاز و المتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الرجل، فتعطى الذي جاءت به، و هو المدعى، فان زعم أنه أحدث فيه شيئا فليأت بالبينة».

و كيف كان ف ما ذكره في الخلاف أشهر في الروايات و أظهر بين الأصحاب بل عن المبسوط أيضا نسبته إلى روايات الأصحاب، بل لعل ما في المختلف راجع إليه- و إن جعله في المسالك قولا رابعا و اختاره ناسبا له إليه و إلى الشهيد في الشرح و جماعة من المتأخرين.

قال: «و المعتمد أن نقول: إنه إن كان هناك قضاء عرفي يرجع إليه و يحكم به بعد اليمين، و إلا كان الحكم فيه كما في غيره من الدعاوي- إلى أن قال-: لنا أن عادة الشرع في باب الدعاوي بعد الاعتبار


1- 1 الوسائل- الباب- 8- من أبواب ميراث الأزواج- الحديث 1 من كتاب الفرائض.

ج 40، ص: 497

و النظر راجعة إلى ما ذكرنا، و لهذا حكم بقول المنكر مع اليمين بناء على الأصل، و بأن المتشبث أولى من الخارج، لقضاء العادة بملكية ما في يد الإنسان غالبا، و حكم بإيجاب البينة على من يدعي خلاف الظاهر، و الرجوع إلى من يدعى الظاهر. و أما مع انتفاء العرف فلتصادم الدعويين مع عدم الترجيح لأحدهما فتساويا فيها- ثم قال أيضا-: و اعلم أن ما رواه الشيخ من الأحاديث يعطي ما فصلناه نحن أولا، و يدل عليه حكمه (عليه السلام) بأن العادة قاضية بأن المرأة تأتي بالجهاز من بيتها، فحكم لها به، و أن العادة قاضية بأن ما يصلح للرجال خاصة فإنه يكون من مقتضياته دون مقتضيات المرأة، و كذا ما يصلح للمرأة خاصة يكون من مقتضياتها دون مقتضيات الرجل، و المشترك يكون للمرأة قضاء لحق العادة الشائعة، و لو فرض خلاف هذه العادة في وقت من الأوقات أو صقع من الأصقاع لم يحكم لها» ضرورة أن مبناه أولا و آخرا الرجحان الناشئ من العادة و لو لكون الشي ء لا يصلح إلا لأحدهما، فإن العادة قاضية بذلك، فمرجع كلام المشهور حينئذ إلى ذلك، خصوصا بعد تصريح ابن إدريس الذي قد عرفت دعواه الإجماع على ذلك في ما حكي عنه بذلك.

قال بعد ذكر القول المزبور: «و تعضده الأدلة، لأن ما يصلح للنساء الظاهر أنه لهن و كذلك ما يصلح للرجال، و أما ما يصلح للجميع فيداهما معا عليه، فيقسم بينهما، لأنه ليس أحدهما أولى به من الآخر، و لا يترجح أحدهما على الآخر».

و حينئذ فإطلاق بعض عبارات بعض القائلين منزل على ذلك، كما جزم بذلك في الرياض تبعا للأردبيلي في شرحه.

لكن في التنقيح بعد أن اختار ما سمعته من المبسوط قال: «لتكافؤ الدعويين من غير ترجيح، و لأن الحكم بما يصلح له لو كان حقا لزم

ج 40، ص: 498

الحكم بمال شخص معين لغيره، لكونه صالحا لذلك الغير، و هو باطل، بيان اللزوم أنه جاز أن يموت للمرأة أب أو أخ فترث منه عما ثم و طيالسة و دروعا و سلاحا، و تموت للرجل أم أو أخت فيرث منها حليا و مقانع و قمصا مطرزة بالذهب، و يكون ذلك تحت أيديهما، فلو حكم لكل بما يصلح له لزم الحكم بمال الإنسان لغيره، لا يقال قال النبي (صلى الله عليه و آله): نحن نحكم بالظاهر و الله أعلم بالسرائر، و ما ذكرنا هو الظاهر، لأنا نقول: نمنع أن ذلك هو الظاهر، لأن الظاهر راجح غير مانع من النقيض، و مع ما ذكرنا من الاحتمال لا رجحان، و أما ما ذكره العلامة من العرف فممنوع، لأنه لو كان قاعدة شرعية لزم الحكم بذلك في غير الزوجين لو حصل التداعي بين رجل و امرأة في متاع هذا شأنه، و هو باطل».

و أطنب في الرياض في رده بأنه اجتهاد في مقابلة النص، و بأن الظاهر لا ينافيه الاحتمال، و بأن الأدلة المزبورة كافية في حجية مثل هذا الظاهر هنا و إن لم يتعد إلى غيره.

قلت: قد يقال: لا ظهور في النصوص بل و لا الفتاوى على وجه يخرج به عن القواعد المحكمة المقتضية للحكم باليد المفروض اشتراكها على ما لا يصلح إلا لأحدهما.

نعم لو كانت يد فعلية لأحدهما و لو لعدم وقوع الاستعمال في ما مضى من الزمان إلا من أحدهما زائدة على يد البيت المشتركة بينهما اتجه الحكم له به حتى لو كان من المختص بغيره، و كذا لو علم بأنه في الأصل له و إن وضعه في البيت المفروض اشتراكه في اليد لهما، فان اليد البيتية لا تصلح قاطعة لاستصحاب الملك، و لعل

قوله (عليه السلام) في

ج 40، ص: 499

صحيح ابن الحجاج(1)السابق: «فتعطي الذي جاءت به من أهلها»

شاهد على ذلك، ضرورة أن الذي جاءت به جعلته في البيت المشترك بينهما.

أما إذا لم يكن ذلك و كانت اليد البيتية لهما معا عليه و لا طريق إلى معرفة مالكه إلا يدهما عليه فالمتجه حينئذ الحكم به بينهما، و يمكن تنزيل النصوص على ذلك، بل لعل

قوله (عليه السلام) في آخر الموثق(2): «و من استولى شيئا فهو له»

الذي هو كالاستدلال على ما قدمه من الحكم مشعر أو ظاهر في ذلك، كاشعار

قوله (عليه السلام)(3): «ثياب جلده»

و نحوه، بل لعل متاع النساء كذلك، فان المراد ما يتمتعن به و يستعملنه فعلا، و مجرد كونه لا يصلح إلا للنساء مثلا مع عدم العلم بإعداده للزوجة أو غيره لا ظهور في اختصاصه بالنساء كما سمعته من المقداد، و ربما كان في كلام ابن حمزة ظهور في الجملة في بعض ما قلناه، لأنه قال: «و إن كان في يد أحدهما- أي شي ء من متاع البيت- كانت البينة على اليد الخارجة و اليمين على المتشبثة».

و على كل حال فإن أمكن تنزيل النصوص و الفتاوى على ذلك بمعنى اختصاص كل منهما بما يصلح له مما كان في يده و لو باختصاص استعماله له أو كان معلوم الأصل أنه له كانت المسألة حينئذ على القواعد، و إلا فلا ريب في أن المتجه المشهور، لكن في خصوص المفروض الذي لم يكن لأحدهما يد زائدة

على اليد البيتية عليه، و لا علم كون أصله لأحدهما عملا بالنصوص المزبورة المعتضدة بما سمعت.

و لا ينافيها النصوص(4)الدالة على كون المتاع للمرأة مطلقا التي قد سمعتها بعد عدم العمل بها من أحد حتى الشيخ في الاستبصار المحتمل


1- 1 الوسائل- الباب- 8- من أبواب ميراث الأزواج- الحديث 1 من كتاب الفرائض.
2- 2 الوسائل- الباب- 8- من أبواب ميراث الأزواج- الحديث 3 من كتاب الفرائض.
3- 3 الوسائل- الباب- 8- من أبواب ميراث الأزواج- الحديث 2 من كتاب الفرائض.
4- 4 الوسائل- الباب- 8- من أبواب ميراث الأزواج من كتاب الفرائض.

ج 40، ص: 500

كون ما فيه جمعا بين الأخبار لا فتوى، على أنها غير صريحة، بل و لا ظاهرة في المخالفة، بل الأخير منها ظاهر في إرادة المتاع الذي تأتي به من أهلها.

بل لعل التأمل في النصوص يقتضي تنزيلها على اعتياد كان في السابق أن المرأة تأتي بالمتاع التي يحتاجه البيت من فراش و رحى و أواني و نحوها، بل هي كالصريحة في عدم حكم خاص تعبدي بين الرجل و زوجته في ذلك، أو تنزيلها على إرادة بيان فساد القول بكونها كالضيف، لأن كل أحد يعلم أنها حين تزف إلى زوجها تزف بمتاع، أو غير ذلك، فلاحظ و تأمل حتى تعرف قصورها عن معارضة غيرها من وجوه، فضلا عن القواعد الشرعية.

على أنك قد سمعت ما ذكره الفاضل من دعوى دلالة هذه النصوص على ما عرفته منه الذي قد نزل بعضهم كلام المشهور عليه و إن كان هو بعيدا جدا.

بل كلامه عند التأمل في غاية البعد، إذ حاصله استفادة الحكم الشرعي من الحكم العادي، و هو واضح الفساد، ضرورة عدم مدخلية للعادة في الأحكام الشرعية، نعم قد يرجع إلى العرف في موضوع الحكم الشرعي لا فيه نفسه، و دعوى دوران صدق المدعي و المدعى عليه على العادة المزبورة حتى لو كان في يد الآخر واضحة المنع، بل من المقطوع به عدم إرادته ذلك.

و بالجملة كلامه لا يرجع إلى حاصل ينطبق على القواعد الشرعية الموافقة لأصول الإمامية، و إن مال إليه جماعة ممن تأخر عنه.

بل من ذلك يعلم النظر فيما ذكره في القواعد من أنه لو كان في دكان عطار و تجار فاختلفا في قماشه أي ما فيه من آلات حكم لكل بآلة

ج 40، ص: 501

صناعته مع يمينه، على أنه لا يوافق مختاره فيها في مسألة المتاع، فتأمل جيدا.

و كيف كان ف لو ادعى أبو الميتة أنه أعارها بعض ما في يدها من متاع أو غيره كلف البينة كغيره من الأسباب للعمومات و لكن فيه رواية بالفرق بين الأب و غيره ضعيفة في احتمال في الكافي و التهذيب نعم هي في الفقيه هي صحيحة جزما على ما قيل، و هي

رواية جعفر بن عيسى(1)قال: «كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) جعلت فداك المرأة تموت فيدعي أبوها أنه أعارها بعض ما كان عندها من متاع و خدم أتقبل دعواه بلا بينة أم لا تقبل دعواه بلا بينة؟ فكتب (عليه السلام): يجوز بلا بينة، قال: كتبت إليه جعلت فداك إن ادعى زوج المرأة الميتة أو أب الزوج أو أم زوجها في متاعها أو خدمها مثل الذي ادعى أبوها من عارية بعض المتاع أو الخدم أ يكونون بمنزلة الأب في الدعوى؟ فكتب: لا».

و قد أطنب ابن إدريس في ردها بأنها كتابة، و لا يجوز للمستفتي أن يرجع إلا إلى قول المفتي دون ما يجده بخطه بغير خلاف من محصل ضابط لأصول الفقه إلى أن قال: «و لقد شاهدت جماعة من متفقهة أصحابنا المقلدين لشواذ الكتاب يطلقون بذلك و أن أبا الميتة لو ادعى كل المتاع و جميع المال كان قوله مقبولا بغير بينة، و هذا خطأ عظيم في هذا الأمر الجسيم، لأنهم إن كانوا عاملين بهذا الحديث فقد أخطأوا من وجوه: أحدها أنه لا يجوز العمل بأخبار الآحاد عند محصلي أصحابنا على ما كررنا القول فيه و أطلقناه، الثاني أن من يعمل بأخبار الآحاد لا يقول بذلك و لا يعمل به إلا إذا سمعه من الراوي من الشارع، و الثالث أن الحديث ما فيه أنه ادعى أبوها جميع متاعها و خدمها، و إنما قال لبعض ما كان عندها،


1- 1 الوسائل- الباب- 23- من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.

ج 40، ص: 502

و لم يقل جميع ما كان عندها، ثم إنه مخالف لأصول المذهب و لما عليه إجماع المسلمين أن المدعي لا يعطي بمجرد دعواه- إلى أن قال. ثم لم يورد هذا الحديث إلا القليل من أصحابنا، و من أورده في كتابه لا يورده إلا في باب النوادر، و شيخنا المفيد و سيدنا المرتضى لم يتعرضا له و لا أورداه في كتبهما، و كذلك غيرهما من محققي أصحابنا، و شيخنا أبو جعفر ما أورده في كتبه، بل في كتابين منها فحسب إيرادا لا اعتقادا، كما أورد أمثاله من غير اعتقاد لصحته- إلى

أن قال-: ثم شيخنا أبو جعفر الطوسي رجع عنه و ضعفه في جواب المسائل الحائريات المشهورة عنه المعروفة» ثم حكى عن المفيد أن النوادر هي التي لا عمل عليها، ثم احتمل حمله على الاستفهام بإسقاط حرفة، أو على إرادة التهجين و الذم لمن يرى ذلك، كما قال الله تعالى(1)«ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» إلى آخره.

و لكن في كشف اللثام «أن الذي رأيناه في حائريات الشيخ أنه سأل عن الرجل إذا ادعى بعد وفاة ابنته إذا هلكت عند زوجها أنه قد أعارها جميع متاعها هل يقبل قوله في ذلك كما يقبل في بعضه؟ و إن ادعى عليها في حياتها ما ادعاه بعد وفاتها من إعارتها بعض المتاع أو كله فما الحكم في ذلك؟ فأجاب الشيخ القول قول أبيها في الحالين مع يمينه أنه كان أعارها و لم يهبه لها و لا استحقه على وجه- ثم قال في الكشف أيضا-: و عندي لا إشكال و لا مخالفة فيه للأصول، و أن المراد ادعاء الأب فيما جهزها به و علم أنه نقلها من بيت أبيها، و أنه الذي أعطاها، فحينئذ إذا ادعى أنه أعارها فالقول قوله، لأن الأصل عدم انتقال الملك، و الفرق بينه و بين الزوج و أبيه و أمه ظاهر، لجريان العادة بنقل المتاع و الخدم من بيت الأب- ثم قال-: و قريب منه ما في التحرير من الحمل


1- 1 سورة الدخان: 44- الآية 49.

ج 40، ص: 503

على الظاهر من أن المرأة تأتي بالمتاع من بيت أهلها».

قلت: لا ريب في ضعف الحملين المزبورين في كلام ابن إدريس، لعدم جريانهما في المكاتبة الخالية عن قرائن الأحوال، على أن ملاحظة آخرها مناف لهما أيضا، و أما ما ذكره في التحرير ففيه أنه لا دليل على حجية مثل هذا الظاهر الذي لا دليل فيه على البقاء على ملكية أهلها لذلك مع العلم بكونه منهم» ضرورة كون اليد أمارة شرعية على الملك و إن لم يدعه ذو اليد لموت و نحوه، و لا يعارضها أصالة عدم الانتقال و لا غيرها، كما هو واضح.

نعم لو فرض كون الدعوى بين الأب و الوارث أو بينه و بين البنت بدعوى التمليك عليه كان القول قوله حينئذ، لأنه منكر حينئذ لا مدع، و على ذلك يحمل ما سمعته من الشيخ في الحائريات، بل يمكن حمل الخبر المزبور عليه.

و لا ينافيه الفرق بين الأب و غيره، لإمكان دعوى غلبة كون الدعوى بينه و بين البنت في ذلك بخلاف غيرهم، و لو فرض كون الدعوى على حسب ما عرفت كان القول قولهم أيضا كالأب و إن أبي الخبر المزبور عن التنزيل على ذلك و نحوه، فلا ريب في عدم جواز العمل به، لضعفه عن مقابلة العمومات بعد عدم العمل به من أحد سوى ما يحكى عن الصدوق، حيث رواه في كتابه الذي قال: «إنه لا يروى فيه إلا ما يعمل به» و قد ذكرنا غير مرة رجوعه عن هذا القول، كما اعترف به بعض الأفاضل، و الله العالم.

ج 40، ص: 504

[المقصد الثالث في دعوى المواريث]
اشاره

المقصد الثالث في دعوى المواريث و فيه مسائل:

[المسألة الأولى لو مات المسلم عن ابنين فتصادقا على تقدم إسلام أحدهما على موت الأب و ادعى الآخر مثله فأنكر أخوه]

الأولى لو مات المسلم عن ابنين مثلا فتصادقا على تقدم إسلام أحدهما على موت الأب و ادعى الآخر مثله فأنكر أخوه و لم يعلم تأريخ أحدهما أو علم تأريخ موت الأب دون الآخر فالقول قول المتفق على إسلامه المدعى عليه الشركة مع يمينه أنه لا يعلم أن أخاه أسلم قبل موت أبيه إن كان قد ادعى عليه العلم، و إلا فلا حلف كما في كشف اللثام، لأنه ضابط الحلف على نفي فعل الغير.

و كذا لو كانا مملوكين مثلا فأعتقا و اتفقا على حرية أحدهما و اختلفا في الآخر إذ المناط في الجميع- و هو استصحاب البقاء على دينه و على رقيته- واحد، كذا ذكره من تعرض لذلك.

لكن قد يشكل الأول بل و الثاني- بناء على أن أصالة تأخر الحادث لا تفيد تأخر نفس المدعى به عن نفس الآخر المعلوم تأريخه- بأن ذلك يقتضي عدم الحكم بإسلامه قبل موت الأب، و ذلك لا يكفي في نفي الإرث المقتضي له نفس الولدية، و الكفر و الرق مانعان، لا الإسلام و الحرية شرطان حتى يكفي فيه عدم تحقق الشرط، و من هنا لو اتفقا على أن

ج 40، ص: 505

أحدهما لم يزل مسلما أو حرا و اختلفا في الآخر جزم في كشف اللثام بأن القول قول الآخر لأصل الإسلام و الحرية و الإرث، و يحلف على أن الميت لم يسبق إسلامه و لا حريته. و كذا لو ادعى كل منهما ذلك و أنكر الآخر.

و في المسالك «احتمل في الأول مساواته في الحكم للسابق، لأصالة عدم الإسلام و تقديم قوله، لأن ظاهر الدار تشهد له، و ليس مع صاحبه أصل يستصحب هنا بخلاف السابق، و كذا في الثاني احتمل الوجهين:

أحدهما أنه لا يصرف إلى واحد منهما شي ء، لأن الأصل عدم الاستحقاق، و ثانيهما جعل المال بينهما بعد حلف كل واحد منهما، لأن ظاهر الدار يشهد لكل منهما- لكنه قال-: أصحهما الثاني».

و في كشف اللثام «نعم إن كانت الدار دار كفر و كان إسلام المورث مسبوقا بكفره احتمل ترجيح الظاهر على الأصل، فلا يرث المختلف فيه ما لم يعلم انتفاء المانع من إرثه بالبينة، و لو ادعى المختلف فيه علم الآخر بحاله كان له إحلافه على نفيه».

و فيه ما عرفت أيضا، و كذا في قوله أيضا: «و لو اتفقا على كفر كل منهما أو رقيته زمانا و ادعى كل منهما سبق إسلامه أو حريته على الموت و أنكر الآخر و لم تكن بينة و لا ادعى أحدهما العلم على الآخر أو ادعاه فحلف على العدم لم يرث أحد منهما، لأنه لا إرث ما لم يثبت انتفاء المانع، و لا مجال هنا للحلف، لأن كلا منهما مدع لزوال المانع عن نفسه، و أما إنكاره ففي الحقيقة إنكار لعلمه بزوال المانع عن الآخر، و لا يفيد الحلف عليه، بل خصمهما في الحقيقة هو الوارث المسلم، فان كان غير الامام (عليه السلام) حلف على عدم العلم بزوال المانع» ضرورة أنك قد عرفت الاكتفاء باحتمال سبق زوال المانع مع فرض جهل تأريخ الموت، بل الظاهر الاكتفاء بمقارنته، لإطلاق دليل المقتضي الذي هو

ج 40، ص: 506

معنى أصل الإرث الذي احتج به سابقا».

و لو أقام أحدهما بينة في هذه المسائل قضي بها، و لو أقام كل واحد بينة في صورة اختلافهما بأنه لم يزل مسلما و صاحبه أسلم بعد موت الأب تعارضتا و رجع إلى القرعة مع عدم المرجح، بل الظاهر ذلك أيضا في الأول الذي لم يتعرض فيه لخصوص تأريخ الموت أو الإسلام و إن جعله في المسالك أحد الاحتمالات، و الثاني احتمالا، و تقديم بينة مدعي تقدم الإسلام، لاشتمالها على زيادة، و هي نقله إلى الإسلام في الوقت السابق، و الأول مستصحب دينه، فمع الأول زيادة علم، ورد بأن بينة المتأخر تشهد بالحياة في زمان بينة المتقدم، فيتحقق التناقض، قال: «و ربما احتمل ضعيفا تقديم بينة المتأخر بناء على أنه قد يغمى عليه في التأريخ المتقدم فيظن الشاهدان موته، و هو ضعيف، لأنه قدح في الشاهد».

و هذه الاحتمالات الثلاثة قد ذكرها غير واحد أيضا في المسألة الثانية، و لا ريب في ضعف الأخيرين منها، نعم لو قلنا بعدم قبول بينة الداخل و أنه في المسألة الثانية مدع تأخر الإسلام اتجه حينئذ تقديم بينة الآخر عليه فيها، و الله العالم.

[المسألة الثانية لو اتفقا أن أحدهما أسلم في شعبان و الآخر في غرة رمضان]

المسألة الثانية:

لو اتفقا أن أحدهما أسلم في شعبان و الآخر في غرة رمضان أي أوله ثم قال المتقدم: مات الأب قبل دخول شهر رمضان، و قال المتأخر: مات بعد دخول رمضان كان الأصل بقاء الحياة، و التركة بينهما نصفين بلا خلاف و لا إشكال و إن كان المدرك عندنا عدم ثبوت المانع، فالمقتضي حينئذ بحاله لا استصحاب الحياة، فتأمل جيدا.

ج 40، ص: 507

قال في كشف اللثام هنا: «و كل من أقام منهما بينة على دعواه ثبتت، و لو أقاما تعارضت البينتان للتناقض، و ربما يحتمل ضعيفا تقديم مدعي التقديم، لاشتمال دعواه على زيادة، و تقديم مدعي التأخير، لجواز أن يكون قد أغمي عليه أولا فتوهم الموت، نعم لو صرحت هذه البينة بالإغماء أولا فلا إشكال في تقديمها، كما أنه لو صرحت الأخرى بأنه كان قد مات و لم يعلم بموته إلا بعد رمضان مثلا لم يكن إشكال في تقديمها».

قلت: قد عرفت احتمال أن بينة المتأخر بينة داخل فتقدم عليه بينة الخارج فتأمل.

[المسألة الثالثة دار في يد انسان و ادعى آخر أنها له و لأخيه الغائب إرثا عن أبيهما]

المسألة الثالثة إذا كان دار مثلا في يد انسان و ادعى آخر أنها له و لأخيه الغائب إرثا عن أبيهما و أنكر الإنسان ذلك ف أقام المدعي بينة فان كانت كاملة و شهدت أنه لا وارث سواهما سلم إليه النصف بلا خلاف و لا إشكال، و القاسم الحاكم أو أمينه أو من في يده الدار و كان الباقي في يد من كانت الدار في يده إلى مجي ء الغائب، كما عن المبسوط، لعدم ثبوتها له قبل دعواه بها، إذ البينة حجة للمدعي بها لا غيره.

و لكن الأقوى ما في الخلاف من أنه تنتزع منه و تجعل في يد أمين حتى يعود لأن البينة حجة شرعية، كما هو مقتضى إطلاق دليلها إلا إذا ردها ذو الحق أو رفع يدا عن حقه و الحاكم ولي الغائب، و لأنه بإنكاره سقط عن الأمانة، و في كشف اللثام «و لأن الدعوى للميت و البينة له، و لذا تقضى منها ديونه و تنفذ وصاياه» و اختاره في المختلف.

ج 40، ص: 508

و فيه أن ذلك يقتضي عدم تمامية الدعوى قبل حضور الوارث الآخر، و من هنا قرر ذلك في المسالك في وجه اختيار المبسوط لا الخلاف، و هو مبني على أن الذي يقوم مقام الميت تمام الوارث لا بعضه، اللهم إلا أن يقال: يكفي في إثبات كونه للميت إقامة بعض الورثة البينة على ذلك و يتبعه حكم الميراث، بخلاف الشركاء، فإنه لا يكفي إقامة أحدهم البينة في ثبوت الحق لغيره بدون وكالة أو ولاية، مع احتماله، لإطلاق دليل البينة، فتأمل.

و على كل حال ف لا يلتزم القابض للنصف إقامة ضمين بما قبض للأصل و غيره بعد ثبوت الانحصار بالبينة.

و نعني بالكاملة ذات المعرفة المتقادمة و الخبرة الباطنة بما شهدت به و الظاهر الاكتفاء في ثبوت الوصفين بشهادتهما بذلك بعد ثبوت عدالتهما، بل الظاهر كون المراد بكمالها أنها تشهد بالنفي، و حينئذ فعدم شهادتها بذلك هو عدم كمالها، فقول المصنف و لو لم تكن البينة كاملة و شهدت أنها لا تعلم وارثا غيرهما بمنزلة التفسير لها كقوله أولا:

«و شهدت» إلى آخره.

لكن في المسالك «قد اختلفت عبارات الأصحاب في معنى البينة الكاملة هاهنا، فمقتضى عبارة المصنف و الأكثر أن المراد بها ذات الخبرة و المعرفة بأحوال الميت، سواء شهدت بأنها لا تعلم وارثا غيرهما أم لا، و حينئذ تنقسم إلى ما يثبت بها حق المدعي بأن تشهد بنفي وارث غيره و إلى غيره، و هي التي لا تشهد بذلك» و قال أولا في بيان الشهادة:

«إذا شهد عدلان من أهل الخبرة بباطن حال الميت أن هذا ابنه مع آخر ليس له وارث غيرهما في ما يعلمان، و لا يجب القطع بل لا يصح، و لا تبطل به شهادتهم» و تبعه في ذلك كله كاشف اللثام في تفسير عبارة

ج 40، ص: 509

القواعد التي هي مثل عبارة المتن.

و ما أدري ما الذي دعاهما إلى ذلك!! مع أن حمل العبارة على إرادة التفسير أولى، كما هو صريح الإرشاد، قال: «و لو ادعى ما في يد الغير أنه له و لأخيه الغائب بالإرث و أقام بينة كاملة بأن شهدت بنفي وارث غيرهما سلم إليه النصف، و لا ينافي ذلك قوله في المتن: و نعني» إلى آخره المحمول على إرادة بيان أن الشهادة بالنفي على وجه القطع لا تكون غالبا إلا من ذي الخبرة الباطنة، و دعوى المفروغية من الاجتزاء بشهادة ذي الخبرة بنفي العلم محل منع و إن جزم به في الدروس كدعوى المفروغية من عدم قبول شهادة غير ذي الخبرة بالنفي على وجه القطع، بل هو في الحقيقة قدح في الشاهد العدل، فالتحقيق حينئذ الاكتفاء بالشهادة بالنفي من العدل مطلقا و عدم الاكتفاء بها إذا كانت بنفي العلم كذلك إلا إذا أريد من عدم العلم النفي فيما يعلم، فإنها شهادة بالنفي حينئذ كما هو ظاهر كلامهم خصوصا الدروس، و بهذا المعنى يمكن الفرق بين ذات الخبرة و غيرها، لكن قد يقال: إن الشهادة بالنفي المزبور أيضا لا تكون إلا من ذي الخبرة أو شبهه.

نعم قد يقال بالاكتفاء بالاستصحاب بالشهادة بالنفي ل

خبر معاوية(1)«قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يكون في داره ثم يغيب عنها ثلاثين سنة و يدع عياله فيها ثم يأتينا هلاكه و نحن لا ندري ما حدث في داره و لا ندري ما أحدث له من الولد، إلا أنا لا نعلم نحن أنه أحدث في داره شيئا و لا حدث له ولد و لا نقسم هذه الدار بين ورثته الذين ترك في هذه الدار

حتى يشهد شاهدا عدل أن هذه الدار دار فلان بن فلان مات و تركها ميراثا بين فلان و فلان أو نشهد على هذا، قال: نعم»


1- 1 الوسائل كتاب الشهادات الباب 17 الحديث 2.

ج 40، ص: 510

و غيره من النصوص.

و على كل حال فما ذكرناه هو المراد بالكمال و عدمه، ضرورة عدم اعتبار الكمال زائدا على ذلك في شي ء مما وصل إلينا من الأدلة، كما هو واضح.

و بذلك ظهر لك ما فيهما بل و ما في غيرهما، و من الغريب دعواه في المسالك عدم إمكان الشهادة بالنفي و عدم صحته إلا على إرادة العلم، إذ هو مخالف للوجدان، كما هو واضح.

فان كانت البينة كاملة بالمعنى المزبور دفع إلى ذي الحق، و إلا أرجئ التسليم حتى يبحث الحاكم عن الوارث مستقصيا بحيث لو كان وارث لظهر لأن أصل العدم لا يفيد انحصار الوارث في الظاهر، على أن قاعدة الضرر الحاصل بضمان من في يده المال لو ظهر بعد ذلك معارضة له، فأصل البراءة من وجوب الدفع إلى هذا الحاضر الذي لم يعلم انحصار الوارث فيه بحاله.

بل ظاهر قول المصنف و غيره و حينئذ يسلم إلى الحاضر نصيبه و يضمنه استظهارا أنه لا يجب الدفع بعد البحث و الفحص إلا بعد أخذ ضامن منه بما يقبضه لو ظهر بعد ذلك، بناء على صحة ضمان العين و المجهول مراعاة للاحتمال الذي يبقى بعد البحث و الفحص.

بل صرح بعضهم كالشهيد في الدروس و غيره بعدم الاكتفاء بالتكفيل، لإمكان الإتلاف و الإعسار خلافا لما عن ابن حمزة من الاكتفاء به و إن كان ذلك لا يخلو من نظر، ضرورة عدم العبرة بمثل الاحتمال المفروض شرعا على وجه يرفع وجوب دفع الحق إلى صاحبه، و الأصل براءة ذمته من دفع ضمين، على أنه إذا وجب مع الضمين وجب بدونه، ضرورة كون الضمين لا يشخص أنه صاحب الحق، اللهم إلا أن يكون ذلك كله لقاعدة الضرر التي هي العمدة في الأحكام المزبورة، و إلا فأصل العدم

ج 40، ص: 511

لا زالوا يتمسكون به في الموضوعات من غير اعتبار للفحص و النظر، و قد سمعت جواز الشهادة به، و ليس هو مشخصا حتى يكون أصلا مثبتا، بل وجوب الدفع إليه لثبوت كونه وراثا مع عدم شريك له للأصل، فلذلك حينئذ من أحكامه الثابتة له من حيث كونه كذلك، لا إثبات شي ء آخر به، كما هو واضح.

و منه يعلم عدم وجوب خصوص الضمين أو الكفيل، بل المراد الوثوق العادي بحضور المال عند ظهور شريك مثلا، و ربما كان الوارث موثوقا بوفائه و ملاءته. بل منه يعلم أيضا أن المدار على الاحتمال المعتد به لا الوهمي.

بل و يعلم أيضا أن المراد عدم إلزام من في يده المال بالدفع حتى يستظهر بالبحث و الفحص و الضمين، لا عدم الجواز اعتمادا على أصل العدم بعد البحث و الفحص إلا مع أخذ الضمين، ضرورة كونه المصلحة بناء على كون الوجه في المسألة ما عرفت للدافع، فإذا رضي بالدفع بلا ضمين لم يكن بذلك بأس، نعم لو كان الوجه في ذلك الاستظهار لذي المال الذي لم يتحقق كونه الحاضر ببينة شرعية اتجه حينئذ عدم الجواز و إن رضي الدافع، و الله العالم.

هذا كله إذا لم يكن الوارث الحاضر ذا فرض، و أما إذا كان ذا فرض لا ينقص عن فرضه على كل تقدير فلا إشكال في وجوب دفع نصيبه تاما إليه.

و لو كان ذا فرض ينقص على تقدير وجود الوارث عن فرضه أعطي مع اليقين بانتفاء الوارث أو مع الشهادة الكاملة أو غيرها مع البحث و إعطاء الضمين نصيبه تاما بلا إشكال و على التقدير الثاني أي عدم اليقين واقعا و لا شرعا يعطيه اليقين

ج 40، ص: 512

أي ما يتيقن استحقاقه له إن كان وارث، فيعطى الزوج مثلا الربع لاحتمال وجود ولد منها و لو شبهة و الزوجة ربع الثمن لاحتمال وجود زوجات له ثلاثة، يدفع ذلك لهما معجلا من غير تضمين لاستحقاقهما إياه على كل حال و بعد البحث يتم الحصة لهما فيعطى الزوج النصف و الزوجة الثمن مع الضمين.

و إن كان الوارث ممن يحجبه غيره كالأخ المحجوب بالأبوين و الأولاد فإن أقام البينة الكاملة التي تشهد بأنه الوارث لا غير أعطي المال كله و إن أقام بينة غير كاملة أعطي بعد البحث و الاستظهار بالضمين و لا يعطى قبله شي ء إلا إذا تيقن مقدار مخصوص.

هذا و في المسالك تبعا للدروس «و لو صدق المتشبث المدعي على عدم وارث غيره فلا عبرة به إن كان المدعى به عينا، لأنه إقرار في حق الغير، و إن كان دينا أمر بالتسليم، لأنه إقرار في حق نفسه، لأنه لا يتعين للغائب على تقدير ظهوره إلا بقبضه أو قبض وكيله، و قد تقدم البحث في نظيره من دعوى وكالة الغائب في الأمرين».

و قد وافقهما على ذلك في كشف اللثام، قال: «و حكم الدين حكم العين في جميع ذلك إلا في وجوب انتزاع حصة الغائب، فقد يقال بالعدم، و الفرق أن الأحوط هنا العدم، لأنه لا يتلف ما لم ينتزع، لتعلقه بالذمة، و بأن العين شي ء واحد شهدت به البينة و الدين حقوق متفرقة بعدد مستحقيه، و يفارقها أيضا في أنه لا يكفي في العين تصديق صاحب اليد في الانحصار، و يكفي في الدين، فإذا صدقه أعطي نصيبه كاملا من غير بحث، أخذا بإقراره».

قلت: قد عرفت في ما تقدم المناقشة في عدم وجوب دفع العين على من في يده مع اعترافه بانحصار الحق في المطالب و إن كان ذلك لا يقتضي

ج 40، ص: 513

ثبوت الانحصار شرعا، و أما وجوب انتزاع الدين فالظاهر أن دليله متحد مع دليل العين، فتأمل.

[المسألة الرابعة إذا ماتت امرأة و ابنها]

المسألة الرابعة:

إذا ماتت امرأة و ابنها مثلا و لم يعلم سبق أحدهما و لا الاقتران فقال أخوها: مات الولد أولا ثم المرأة فالميراث الحاصل من تركتها المشتملة على إرثها لي و للزوج نصفان و قال الزوج: بل ماتت المرأة أولا فارثها لي و لولدها ثم الولد فالمال كله لي قضي لمن تشهد له البينة بلا خلاف و لا إشكال، فإن أقاما بينتين متكافئتين أقرع على حسب ما تقدم، إلا أن الظاهر هنا مع نكولهما معا بعد القرعة قسمة نصف المدعي به بينهما، لأنه الذي عليه النزاع دون النصف الآخر، فإنه مفروغ منه للزوج و مع عدمها أي البينة أصلا لا يقضى بإحدى الدعويين، لأنه لا ميراث إلا مع تحقق الحياة؛ فلا ترث الأم من الولد لعدم العلم بحياتها حال موته و لا الابن من أمه لعدم العلم بحياته حال موتها، و حينئذ يكون تركة الابن لأبيه بعد يمينه أنه ما مات قبل أمه و تركة الزوجة بين الأخ و الزوج (11) بعد يمينه أنها ما ماتت قبل ولدها نصفين لا أرباعا، لأنه لم يتعارض في النصف يمينان، كما لا يتعارض في تركة الولد يمينان، فان الزوج يدعيه بتقدم موت الزوجة، فإذا حلف الأخ تعين له، لأنه حلف سابقا ما مات قبل أمه، فيكون بمقتضى اليمينين إرثه لأبيه، كما أن الأم إرثها بينهما لانتفاء وارثية الولد بيمين الأخ.

و بذلك ظهر الفرق بين اليمينين و البينتين اللتين قد عرفت الحكم فيهما

ج 40، ص: 514

و كذا الحكم لو نكلا معا عن الأيمان أصلا.

هذا إذا لم يتفقا على وقت موت أحدهما فإن اتفقا عليه و اختلفا في موت الآخر قبله أو بعده فالمصدق مدعي التأخر، لأن الأصل دوام الحياة بناء على الحكم بتأخر مجهول التأريخ عن معلومه، و إلا كان الحكم كما عرفت أيضا.

و لو علم سبق أحدهما الآخر و لكن لم يعلم بخصوصه و لم يتداعيا فيه فالمتجه القرعة التي هي لكل أمر مشكل، كما أن المتجه مع فرض عدم التداعي و اعترافهما معا بعدم معلومية السبق و الاقتران عدم التوارث بين الأم و الولد، فيختص إرثه بأبيه و قسمة تركة أمه بينهما بالنصف، و الله العالم.

[المسألة الخامسة لو قال هذه الأمة ميراث أبي و قالت الزوجة]

المسألة الخامسة:

لو قال الوارث هذه الأمة ميراث أبي و قالت الزوجة مثلا هذه أصدقني إياها أبوك فالقول قول الأول بيمينه، فان ادعت المرأة ثم أقامت بينة قضي بها له، بل لو أقام كل منهما بينة قضي هنا أيضا ب تقديم بينة المرأة و إن قلنا بتقديم بينة الداخل في غير المقام لأنها أي بينتها تشهد بما يمكن خفاؤه على الأخرى.

و كذا لو كانت العين في يد أجنبي لا يدعيها فكذلك، لعدم التعارض بين البينتين، نعم لو تناقضتا قطعا بأن تدعي الاصداق في وقت بعينه فتشهد بينة الوارث بموته قبل ذلك الوقت تحقق التعارض، فيقرع مع عدم المرجح و إن كان ذلك لا يخلو من نظر يعلم مما قدمناه في المباحث السابقة.

ج 40، ص: 515

[المقصد الرابع في الاختلاف في الولد]

المقصد الرابع في الاختلاف في الولد المعلوم عدم لحوقه بأبوين فصاعدا عندنا، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة من الإلحاق بهما مع الاشتباه، بل عن أبي يوسف الإلحاق بثلاثة، بل عن المتأخرين من العامة جواز الإلحاق بألف أب على قول أبي حنيفة، بل عنه أيضا الإلحاق بأمين إذا تنازعتا و اشتبه الأمر، بل قد يأتي بناء على ما سمعته من متأخريهم لجواز إلحاقه بألف أم.

و لا عبرة بالقيافة في مذهبنا، و في

المرسل عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(1)«لا يؤخذ بقول عراف و قاثف»

بل عنه (عليه السلام)(2)أيضا أنه «لم يكن يقبل شهادة أحد منهما»

و عن أبي جعفر (عليه السلام)(3)«من سمع قول قائف أو كاهن أو ساحر فصدقه أكبه الله على منخريه في النار»

و ما في بعض النصوص من الدلالة على قبولهم (عليه السلام) قول القائف(4)محمول على خصوص الواقعة التي طابق فيها قوله الواقع.


1- 1 الوسائل- الباب- 32- من كتاب الشهادات الحديث 4 و فيه «لا آخذ بقول عراف و لا قائف» رواه الصدوق قده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول.» و هو ليس بمرسل.
2- 2 الموجود في البحار ج 104 ص 318 عن فقه الرضا «نروى أنه لا تجوز شهادة عراف و لا كاهن»
3- . 3 لم نعثر على هذه الرواية مع التتبع التام في مظانه، و إنما رواها الشهيد قده في المسالك في مسألتنا هذه.
4- 4 الكافي ج 1 ص 322.

ج 40، ص: 516

و من ذلك خبر المدلجي(1)الذي بشر النبي (صلى الله عليه و آله) أن أقدام أسامة و زيد بعضها من بعض، فإنه (صلى الله عليه و آله) لم يكن في شك من ذلك، و إنما سر بذلك لطعن المنافقين بينهما إغاظة لهم و كان اعتمادهم على قول القائف.

فما عن الشافعي و مالك و احمد- من الرجوع إلى القائف في الولد للخبر المزبور و نحوه فان لم يكن قافة أو اشتبه عليهم ترك حتى يبلغ الولد فيلحق بمن ينتسب إليه- واضح الفساد.

و كيف كان ف إذا وطئ اثنان مثلا امرأة في طهر واحد فان كان عن زنا لم يلحق الولد بأحدهما، بل إن كان لها زوج يحتمل إلحاقه به ألحق به، فان الولد للفراش و للعاهر الحجر، و إلا كان ولد زنا.

و إن كان وطءا يلحق به النسب و لم يعلم سبق أحدهما إما بأن يكون زوجة لأحدهما و مشتبهة على الآخر أو مشتبهة عليهما أو يعقد كل منهما عليها عقدا فاسدا لا يعلم به ثم تأتي بولد لستة أشهر فصاعدا ما لم يتجاوز أقصى الحمل فحينئذ يقرع بينهما بلا خلاف أجده فيه بيننا، فإنها لكل أمر مشكل.

و عن زيد بن أرقم(2)«أنهم أتوا أمير المؤمنين (عليه السلام) في امرأة أتوها في طهر واحد كلهم يدعي الولد فأقرع و ألحق الولد بمن أقرع، و غرمه ثلثي قيمة الأم، و أنهم سألوا رسول الله (صلى الله عليه و آله) عن ذلك فقال: لا أعلم إلا ما قال علي (عليه السلام)».


1- 1 سنن البيهقي ج 10 ص 262.
2- 2 سنن البيهقي ج 10 ص 267 راجع المستدرك- الباب- 11- من أبواب كيفية الحكم الحديث 3 و 15.

ج 40، ص: 517

و عن الباقر (عليه السلام)(1)«إن رسول الله (صلى الله عليه و آله) سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أعجب ما ورد عليه فخبره بذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): ليس من قوم يتنازعون ثم فوضوا أمرهم إلى الله تعالى إلا خرج سهم المحق»

إلى غير ذلك مما مر في محله في باب أحكام الأولاد(2)بل و في غيره.

و على كل حال فمذهبنا الرجوع إلى القرعة سواء كان الواطئان مسلمين أو كافرين أو عبدين أو حرين أو مختلفين في الإسلام و الكفر و الحرية و الرق أو أبا و ابنه و إن كانت ولاية الأب على الابن و ابنه بلا خلاف معتد به أجده بيننا في ذلك، بل الظاهر الإجماع عليه، بل ادعاه بعض صريحا.

و في

صحيح الحلبي(3)عن الصادق (عليه السلام) «إذا وقع المسلم و اليهودي و النصراني على المرأة في طهر واحد أقرع بينهم، فكان الولد للذي تصيبه القرعة»

نعم عن لقطة المبسوط أن المسلم و الحر أولى، و لكن قد استقر الإجماع على خلافه.

و لو علم سبق أحدهما على الآخر في الوطء ففي إلحاقه بالأخير أو القرعة أيضا بحث مر في كتاب النكاح كما مر البحث في حكم وطء الثاني بعد تخلل الحيضة بينه و بين وطء الأول.

لكن في القواعد و كشف اللثام «أنه إذا كان ذلك انقطع الإمكان عن الأول، لأن الحيض علامة براءة الرحم شرعا إلا أن يكون الأول زوجا في نكاح صحيح، لكون الولد للفراش، إلا أن يعلم الانتفاء،


1- 1 الوسائل- الباب- 13- من أبواب كيفية الحكم الحديث 5.
2- 2 راجع ج 31 ص 241- 242.
3- 3 الوسائل- الباب- 10- من أبواب ميراث ولد الملاعنة الحديث 1 من كتاب الفرائض.

ج 40، ص: 518

و تخلل الحيض لا يفيد العلم به هنا، لقوة الفراش، و لو كان زوجا في نكاح فاسد لم يظهر فساده للزوجين ففي انقطاع إمكانه نظر، من تحقق الفراش ظاهرا و انتفائه حقيقة» إلا أنه لا يخفى عليك ما فيه على كل من تقديري مجامعة الحيض للحمل و عدمه، و قوة الفراش لو كانت تنفع لنفعت في اجتماعهما في طهر واحد أيضا، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا لم يكن لأحدهم بينة أو كان لكل منهم بينة و لا مرجح، و إلا حكم بها لمن كانت له، لكن قد يصعب إقامة أصل البينة مع فرض تحقق الوطء من الكل في طهر واحد.

و كيف كان ف يلحق النسب بالفراش المنفرد و لو شبهة و الدعوى المنفردة لمجهول النسب و بالفراش المشترك بين اثنين فصاعدا و الدعوى المشتركة لمجهول النسب بين اثنين أو أزيد و لكن المشترك يقضي فيه بالبينة و مع عدمها أو تعارضها بالقرعة خلافا لمن عرفته من العامة.

و لا فرق عندنا بين الرجل و المرأة في ذلك، فلو استلحقت ولدا فان لم ينازعها أحد لحق بها، و إلا فلذات البينة، فان لم تكن أو تعارضت فالقرعة، و قد مر في كتاب النكاح و الإقرار(1)و اللقطة(2)جملة مما له تعلق في هذا الفصل و إن ذكر بعضهم بعض ذلك هنا، فقال: «و من انفرد بدعوى مولود صغير في يده لحقه إلا أن يضر بغيره، كأن يكون معتقا ولاؤه لمولاه، فان بنوته تقتضي تقدمه على المولى في الإرث، فإن بلغ و انتفى عنه لم يقبل نفيه إلا ببينة، استصحابا لما ثبت شرعا، و كذا لو أقر بالمجنون فأفاق و أنكر، و ليس لأحدهما إحلاف الأب، لأنه لو


1- 1 راجع ج 35 ص 158- 159.
2- 2 راجع ج 38 ص 200.

ج 40، ص: 519

جحد بعد الإقرار لم يسمع» و لا يخفى عليك وجه البحث في ذلك.

ثم قال: «و لو ادعى نسب بالغ عاقل فأنكر لم يلحقه إلا بالبينة، و إن سكت لم يكن تصديقا، و لو ادعى نسب مولود على فراش غيره بأن ادعى وطءا لشبهة لم يقبل و إن وافقه الزوجان، بل لا بد من البينة على الوطء، لحق الولد، و لو تداعيا صبيا و هو في يد أحدهما لحق بصاحب اليد خاصة على إشكال في أن اليد هل ترجح النسب كما ترجح الملك، نعم لو استلحقه صاحب اليد و لو ملتقطا و حكم له شرعا لم يحكم للآخر إلا ببينة، و لو استلحق ولدا و قال: إنه من زوجتي هذه فأنكرت الزوجة ولادته ففي لحوقه بها بمجرد إقرار الأب نظر» قلت: بل منع لكونه إقرارا في حق الغير.

«و لو بلغ الصبي بعد أن تداعاه اثنان قبل القرعة فانتسب إلى أحدهما قبل، و أشكله بعض بأنه إقرار في حق الغير مع عدم دليل على قيام تصديقه مقام البينة أو القرعة، و لا عبرة بميل الطبع عندنا، و إن لم ينتسب إلى أحد منهما أقرع إن لم ينكرهما معا، و إلا لم تفد القرعة بناء على قبول تصديقه، و لا يقبل رجوعه بعد الانتساب، و لا اعتبار بانتساب الصغير و إن كان مميزا. و نفقته قبل الثبوت شرعا عليهما، ثم يرجع من لم تلحقه القرعة به على الآخر» و فيه أن دفعها قد كان لإقراره فلا وجه لرجوعه.

«و لو أقام كل من المدعيين بينة بالنسب و تعارضتا و لا ترجيح حكم بالقرعة عندنا، و لو أقام أحدهما بينة أن هذا ابنه و آخر بينة أن هذا بنته فظهر خنثى فان

حكم بالذكورية بالبول و غيره فهو لمدعي الابن، و إن حكم بالأنوثية فهو لمدعي الأنثى، لأن كلا منهما لا يستحق إلا من ادعاه، و إن ظهر خنثى مشكلا أقرع».

ج 40، ص: 520

إلى غير ذلك مما ذكروه هنا مما هو محل للنظر زيادة على ما أشرنا إليه، و التعرض لتفصيل ذلك في محله أولى، نسأل الله التوفيق له.

و الحمد لله أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا، و صلى الله على محمد و آله الطيبين الطاهرين، أولياء النعم، و سادات الأمم، و منبع الجود و الكرم، فإنهم وسيلتي إلى ربي في توفيقي لإتمام بقية مباحث هذا الكتاب، و يتلقاه مني بالقبول، فإنه الجواد الكريم ذو المن القديم و الفضل العميم على عبده المعترف بالتقصير في خدمة اللطيف الخبير، و فرغ منه مؤلفه العبد العاثر محمد حسن ابن المرحوم الشيخ باقر نجل المرحوم عبد الرحيم نجل المرحوم آغا محمد الصغير نجل المرحوم عبد الرحيم الشريف الكبير يوم الثلاثاء خامس جمادى الأولى سنة (1250) ألف و مأتين و خمسين، و يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب الشهادات.

إلى هنا- و الحمد لله- تم الجزء الأربعون، و قد بذلنا غاية الجهد في تنميقه و تحقيقه و التعليق عليه و تصحيحه فنشكره سبحانه على ما وفقنا لذلك، و نسأله أن يديم توفيقنا لإخراج الأجزاء الأخيرة الثلاثة.

و يتلوه الجزء الحادي و الأربعون في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى.

النجف الأشرف محمود القوچاني

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.