جواهر الكلام في شرح شرايع الاسلام المجلد21

اشارة

شماره بازيابي : 6-21842

سرشناسه : صاحب جواهر، محمدحسن بن باقر 1200؟ - 1266ق.

عنوان و نام پديدآور : جوااهرالكلام[چاپ سنگي]/محمدحسن نجفي [صاحب جواهر]؛نويسنده متن:علامه حلي؛كاتب:ابوالقاسم خوانساري؛مصحح:موسي طهراني

وضعيت نشر : [بي جا: بي نا]:، 1274ق.

مشخصات ظاهري : [518ص.]،ج1؛قطع:23×37س م

يادداشت : زبان:عربي

آغاز، انجام، انجامه : آغاز:بسمله... الحمدلله الذي ختم الشرايع باسمهما طريقة و اوضحها حقيقة و اظهرها برهانا ... و بعد فيقول العبد القاصر العاثر محمد حسن بن المرحوم باقر احسن الله اليهما ...

انجام:... الاصحاب الثاني و الله اعلم الحمدلله اولا و آخرا و ظاهرا و باطنا علي ما انعم و وفق لاتمام مباحث الطهارة.

انجامه:المكرم من سنة1274ق.و انا الفقير الي الله الغني ابن اسدالله ابوالقاسم خوانساري.

يادداشت استنساخ : تاريخ كتابت:1274ق.

مشخصات ظاهري اثر : نوع و درجه خط:نسخ

نوع و تز ئينات جلد:جلد مقوايي،روكش تيماج قهوه اي،عطف و لچكي ها گالينگور مشكي الحاقي.

خصوصيات نسخه موجود : حواشي اوراق:تصحيحاتي اندك با نشان«صح» و توضيحاتي اندك با نشان«منه»

يادداشت تملك و سجع مهر : يادداشت هاي تملك:يادداشتي با خط تحريري و با مركب مشكي " بسم الله الرحمن الرحيم و قد انتقل ذلك الكتاب مع مجلداته الاخر التي كانت عباره عن ست المجلدات مطبوعه بطبع حاجي موسي ره الي ملكي و هو مالك الملك و الرقاب من البايع المحترم الحاج شمس صاحب المكتبه في شارع ناصر خسرو و قرينا من شمس العملاره من العاصمه تهران صانها ... من الحدثان علي المبلغ الف و خمس مائه تومانا المقابل 1500ريالا و وقع هذا الانتقال في يوم الخامس المطباق با يوم الثاني من شهر جماديا لاولي من سنه اربع مائه بعد الالف من الهجره النبويه المصادف 29/12/1358 و انا الاحقر حسين الصالحي ... النجفي و التهراني المسكن" ( ظهريه صفحه اول)

توضيحات نسخه : نسخه بررسي شد.

نمايه ها، چكيده ها و منابع اثر : منابع ديده شده: ريحانة الادب (3: 358) ، ملي (2: 277) ، ذريعه (59: 24)

معرفي چاپ سنگي : جواهر الكلام كتابي مشروح و استدلالي در فقه شيعه قرن سيزدهم هجري و به زبان عربي است اين كتاب شرح مبسوط كتاب شرايع الاسلام (علامه حلي) است و جامعترين كتاب در موضوع فقه و استنباط و احكام است و همه ابواب فقه را در بر ميگيرد.نسخه حاضر مشتمل بر كتاب الطهاة است،و عناوين مطالب در حاشيه آمده است.

عنوانهاي گونه گون ديگر : جواهر الكلام في شرح شرايع الاسلام.

موضوع : محقق حلي،جعفر بن حسن602-676ق.-شرايع الاسلام في مسائل الحلال و الحرام--نقد وتفسير

فقه جعفري -- قرن 7ق.

شناسه افزوده : محقق حلي،جعفر بن حسن،602-676ق.شرايع الاسلام في مسائل الحلال و الحرام.شرح

خوانساري،ابوالقاسم،قرن 13ق.كاتب

طهراني،موسي،قرن 13ق.مصحح

حسيني،فروشنده

ج 21، ص: 1

[تتمة القسم الأول في العبادات ]

اشاره

ج 21، ص: 2

ج 21، ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و به نستعين و الحمد للَّه رب العالمين و صلى اللَّه على محمد و آله الطيبين الغر الميامين

[كتاب الجهاد]

اشاره

(كتاب الجهاد) من الجهد بالفتح لغة التعب و المشقة، أو منه بالضم كذلك أيضا الوسع و الطاقة، و شرعا بذل النفس و ما يتوقف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجه مخصوص، أو بذل النفس و المال و الوسع في إعلاء كلمة الإسلام و إقامة شعائر الإيمان، و هو و إن كان شاملا للكافرين و الباغين لكن فيه أنه غير مانع، لأن إعزاز الدين أعمّ من كونه بالجهاد المخصوص، إلا أن الأمر في أمثال هذه التعاريف التي لا يراد منها إلا التمييز في الجملة سهل كما تسمعه إن شاء اللَّه في نظائرها و على كل حال فهو

ذروة سنام الإسلام(1)

و رابع أركان الإيمان(2)

و باب من أبواب الجنة(3)

و أفضل الأشياء بعد الفرائض(4)

و سياحة أمة محمد صلى اللَّه عليه و آله (5)

التي قد جعل اللَّه عزها بسنابك خيلها


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 3.
2- 2 الوسائل- الباب 4 من أبواب جهاد النفس الحديث 11.
3- 3 الوسائل- الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 13.
4- 4 الوسائل- الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 9.
5- 5 الوسائل- الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 22.

ج 21، ص: 4

و مراكز رماحها(1)

و فوق كل بر بر فإذا قتل في سبيل اللَّه فليس فوقه بر(2)

و الخير كله في السيف و تحت ظل السيف، و لا يقيم الناس إلا السيف، و السيوف مقاليد الجنة و النار.(3)

و للجنة باب يقال له باب المجاهدين يمضون إليه، فإذا هو مفتوح و هم متقلدون سيوفهم (4)

و من غزا غزوة في سبيل اللَّه فما أصابه قطرة من السماء أو صداع إلا كانت له شهادة يوم القيامة(5)

و أن الملائكة تصلي على المتقلد بسيفه في سبيل اللَّه حتى يضعه(6)

و من صدع رأسه في سبيل اللَّه غفر اللَّه له ما كان قبل ذلك من ذنب (7)

إلى غير ذلك مما ورد فيه، مضافا إلى قوله تعالى (8): «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - إلى قوله تعالى- فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ » إلى آخره، و قوله تعالى (9)«لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ» إلى آخره، و غير ذلك.

و لكن لا ريب في أن الأصلي منه قتال الكفار ابتداء على الإسلام و هو الذي نزل فيه (10)«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» و يلحق به قتال من دهم المسلمين منهم، و إن كان هو مع ذلك دفاعا، و قتال الباغين ابتداء فضلا عن دفاعهم على الرجوع إلى الحق، و أما دفع من


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
2- 2 الوسائل- الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 21.
3- 3 الوسائل- الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
4- 4 الوسائل- الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
5- 5 الوسائل- الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 10.
6- 6 كنز العمال ج 2 ص 265 الرقم 5651 و 5653.
7- 7 كنز العمال ج 2 ص 252 الرقم 5359.
8- 8 سورة التوبة- الآية 112.
9- 9 سورة النساء- الآية 97.
10- 10 سورة البقرة- الآية 212.

ج 21، ص: 5

يريد قتل نفس محترمة أو أخذ مال أو سبي حريم فليس من الجهاد المصطلح، بل هو من الدفاع، و لذا ذكروه في كتاب الحدود.

و تمام النظر في الجهاد يكون في أركان أربعة

[الركن الأول في من يجب عليه ]

اشاره

(الأول من يجب عليه) الجهاد بالمعنى الأول و هو فرض على كل مكلف حر ذكر غيرهم و لا معذور فلا يجب على الصبي و لا على المجنون و نحوهما ممن هو غير مكلف بلا خلاف أجده فيه، كما عن الغنية الاعتراف به فيه، بل و باقي الشرائط، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى خبر رفع القلم و غيره مما دل على اعتبار البلوغ و العقل في التكليف و لا على المملوك بلا خلاف

أجده فيه، بل في المنتهى الحرية شرط فلا يجب على العبد إجماعا، لأن النبي صلى اللَّه عليه و آله كان يبايع الحر على الإسلام و الجهاد، و العبد على الإسلام دون الجهاد، و لأنه عبادة يتعلق بها قطع مسافة، فلا تجب على العبد، و زاد في محكي المختلف قوله تعالى (1)«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ» لأن العبد لا يملك، و إن نوقش بأن عدم الملكية لا يستلزم عدم الوجدان، فقد يجد بالبذل له و إن لم يكن مالكا، فلا يدخل في الآية، بل يبقى على عموم الأدلة، و لذا جعل الأصحاب الحرية شرطا غير اشتراط السلامة من الفقر، و لو صح


1- 1 سورة التوبة- الآية 92.

ج 21، ص: 6

ما ذكره من التلازم لأغنى اشتراط السلامة من الفقر عن اشتراط الحرية، مع أنه مبني على عدم ملكية العبد، و أما على القول بها كما هو رأي جماعة في الجملة أو مطلقا فلا تلازم، مع أنهم اشترطوا الحرية أيضا، و إن كان قد يجاب بأن اتفاق حصول البذل لا ينافي اشتراط الوجوب المطلق بالوجدان، كما لا ينافيه بالنسبة إلى اشتراط السلامة من الفقر مع إمكان اتفاق البذل، و القول بالملكية مع الاتفاق على حجر التصرف عليه غير مجد، و احتمال الإذن من المولى كاحتمال البذل لا يحقق الوجوب المطلق.

و من ذلك ينقدح إمكان الاستدلال بالآية بوجه آخر عليه و على نحوه من فاقدي الشرائط لصدق الضعف و لو بسبب عدم القدرة على شي ء و إن

أمكن حصول الإقدار من المولى، و بذلك و ما سمعته من الإجماع يخص العموم المقتضي لاندراج العبد فيه، و إن حكي عن الإسكافي عدم اشتراط الحرية مشعرا بوجوبه على العبد للعموم الذي قد عرفت حاله مع أنه معارض بما دل على عدم قدرته و وجوب الطاعة و عدم إمكان التصرف منه بنفسه،

و للمرسل (1)«إن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام ليبايعه فقال: يا أمير المؤمنين ابسط يدك أبايعك على أن أدعو لك بلساني، و أنصحك بقلبي، و أجاهد معك بيدي، فقال عليه السلام: أ حر أنت أم عبد؟ فقال: عبد فصفق يده فبايعه»

الذي هو غير حجة في نفسه، و محتمل للجهاد معه على تقدير الحرية أو إذن المولى، أو عموم الحاجة و غير ذلك.

فالتحقيق حينئذ عدم وجوبه على العبد بجميع أقسامه إلا المبعض منه إذا كان قد تهايأ مع مولاه، فإن العمومات حينئذ شاملة له في


1- 1 الوسائل- الباب 4 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 7

نوبته، و الإجماع المحكي إنما هو على عدم وجوبه على العبد، لا على أن الحرية شرط و إن توهم نحو ما تسمعه في الذكورة، و فرق واضح بينهما، ضرورة اقتضاء اشتراطها عدم وجوبه على فاقدها و لو جزءا يسيرا، بل و إن ارتفع عنه سائر الموانع من حيث الرقية بأن كان مأذونا من المولى في الجهاد و في بذل المال، إذ ليس لازم الرقية مانعا عن الوجوب

كي يتجه الوجوب مع ارتفاعه، بل لأن الحرية من حيث هي كذلك شرط، و الفرض عدمها، إلا أنك قد عرفت عدم دليل عليها لا من الآية و لا من الإجماع و لا من غير ذلك، فيبقى العموم حينئذ سالما، اللَّهمّ إلا أن يمنع من حيث التغرير بجزء الرق مؤيدا ذلك بظاهر اشتراط الأصحاب الحرية، و إن فرعوا عليه عدم الوجوب على العبد، فإن ذلك لا يقتضي إرادة خصوص المملوك بتمامه منها، فتأمل جيدا.

و لا على المرأة بلا خلاف أيضا، بل الإجماع بقسميه عليه مضافا إلى ضعفها عن ذلك، و

قول أمير المؤمنين عليه السلام في خبر الأصبغ(1): «كتب اللَّه الجهاد على الرجال و النساء، فجهاد الرجل أن يبذل ماله و نفسه حتى يقتل في سبيل اللَّه، و جهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها»

و لو باعتبار أن التفصيل في معنى الجهاد بينهما قاطع للشركة، بل في المنتهى الخنثى المشكل لا يجب عليها الجهاد و هو كذلك إن تم الإجماع على اشتراط الذكورة، أو غيره من الأدلة و لو الخبر المزبور، ضرورة اقتضاء الشك في الشرط الشك في المشروط و إلا كان محلا للنظر، لأن الإجماع على عدم وجوبه على المرأة لا يقتضي نفيه عنها بعد فرض عدم العلم بكونها امرأة، مع عموم قوله تعالى


1- 1 الوسائل- الباب 4 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 8

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ» اللَّهمّ إلا أن يقال بعدم اندراجها في ضمير خطاب المذكرين، فتبقى

حينئذ على أصالة عدم الوجوب كما هو الظاهر لعدم عموم يشملها، و لعل ذلك هو العمدة، و إلا فلا إجماع صريح في المنتهى على اعتبار الذكورة، و إن حكي، قال: «الذكورة شرط في وجوب الجهاد فلا يجب على المرأة إجماعا» و من المحتمل بل الظاهر إرادته على عدم وجوبه على المرأة، ثم قال: «الخنثى المشكل لا يجب عليه الجهاد، لأن الذكورة شرط الوجوب، و مع الشك في الشرط يحصل الشك في المشروط، مع أن الأصل العدم» نعم عن الغنية نفي الخلاف فيه و في غيره من الشرائط مؤيدا بظاهر الاشتراط في عبارات الأصحاب على وجه لا يقدح فيه تفريع الخاص الذي هو غير مقتض لإرادة خصوص الخاص منه.

و لا على الشيخ الهم العاجز عنه للأصل و ظاهر الآية المعتضد بعدم الخلاف المحكي و المحصل، مضافا إلى قاعدة نفي الحرج المقتضية كالآية للحوق المريض و نحوه به كما صرح به غير واحد إلا أن يكون مريضا مرضا لا يمنعه منه، نعم لو فرض قوة الهم عليه وجب عليه و إن كبر سنه كما وقع من عمار بن ياسر في صفين و مسلم بن عوسجة في كربلاء و كيف كان فلا خلاف بين المسلمين في وجوبه في الجملة بل هو كالضروري، خصوصا بعد الأمر به في الكتاب العزيز في آيات كثيرة، كقوله تعالى (1)«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ»* و قوله تعالى (2)«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» و قوله تعالى(3)


1- 1 سورة التوبة- الآية 74.
2- 2 سورة التوبة- الآية 29.
3- 3 سورة محمد صلى اللَّه عليه و آله- الآية 4.

ج 21، ص: 9

«فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ» و قوله تعالى (1)«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ» و قوله تعالى (2)«فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» و قوله تعالى (3)«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا» و قوله تعالى (4)«حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ» إلى غير ذلك.

نعم فرضه على الكفاية بلا خلاف أجده فيه بيننا بل و لا بين غيرنا، بل كاد يكون من الضروري فضلا عن كونه مجمعا عليه، مضافا إلى المعلوم من سيرة النبي صلى اللَّه عليه و آله و أصحابه، و قوله تعالى (5)«لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ، فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً، وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى » و قاعدة الحرج، إلا ما يحكى عن سعيد بن المسيب فأوجبه على الأعيان لظاهر قوله تعالى (6)«انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا، وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ثم قال (7)«إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً»

و النبوي (8)«من مات و لم يغز و لم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق»

و فيه ما قيل من أن الآية منسوخة بظاهر قوله تعالى (9)«وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً،

فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ» إلى آخره، أو أنها في خصوص


1- 1 سورة النساء- الآية 73.
2- 2 سورة النساء- الآية 76.
3- 3 سورة التوبة- الآية 5.
4- 4 سورة الأنفال- الآية 66.
5- 5 سورة النساء- الآية 97.
6- 6 سورة التوبة- الآية 41.
7- 7 سورة التوبة- الآية 39.
8- 8 سنن البيهقي- ج 9 ص 48 و كنز العمال- ج 2 ص 255 الرقم 5423.
9- 9 سورة التوبة- الآية 123.

ج 21، ص: 10

غزاة تبوك التي استنفرهم النبي صلى اللَّه عليه و آله فيها، فتخلف فيها كعب بن مالك و أصحابه فهجرهم النبي صلى اللَّه عليه و آله حتى تاب اللَّه عليهم، أو أن المراد من الآية الوجوب ابتداء، فإن الواجب الكفائي عندنا واجب على الجميع و إن كان يسقط بفعل من يقوم به منهم، و لذا يعاقب الجميع بتركه،

قال أمير المؤمنين عليه السلام في المروي (1)عنه في دعائم الإسلام: «و الجهاد فرض على جميع المسلمين لقول اللَّه عز و جل كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ »

فإن قامت بالجهاد طائفة من المسلمين وسع سائرهم التخلف عنه ما لم يحتج الذين يلون الجهاد إلى المدد، فإن احتاجوا لزم الجميع أن يمدوهم حتى يكتفوا، قال اللَّه عز و جل:

«وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» و إن دهم أمر يحتاج فيه إلى جماعتهم نفروا كلهم، قال اللَّه عز و جل «انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» و أما النبوي (2)فهو مع أن رواية أبو هريرة المعلوم كذبه محتمل ضربا من الندب أو وجوب العزم الذي هو من أحكام الإيمان أو غير ذلك، و ما يحكى عن بعض العامة من أنه كان واجبا

على الصحابة ثم نسخ مما هو معلوم البطلان، بل يمكن دعوى الضرورة على خلافه.

ثم إن الكفاية بحسب الحاجة بكثرة المشركين و قلتهم و ضعفهم و قوتهم، و عن الشيخ و الفاضل و الشهيدين و الكركي أن أقل ما يفعل الجهاد في السنة مرة، بل عن الأخير دعوى الإجماع عليه، و هو الحجة


1- 1 المستدرك- الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 23.
2- 2 سنن البيهقي- ج 9 ص 48 و كنز العمال- ج 2 ص 255 الرقم 5423.

ج 21، ص: 11

إن تم، لا ما قيل من قوله تعالى (1)«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ» الآية باعتبار تعليق وجوبه على الانسلاخ، فيجب كلما وجد الشرط، و لا يتكرر بعد ذلك بقية العام، لعدم إفادة الأمر المطلق التكرار، إذ هو كما ترى فيه نظر من وجوه.

و على كل حال فلا خلاف بيننا بل الإجماع بقسميه عليه في أنه إنما يجب على الوجه المزبور بشرط وجود الإمام عليه السلام و بسط يده أو من نصبه للجهاد و لو بتعميم ولايته له و لغيره في قطر من الأقطار، بل أصل مشروعيته مشروط بذلك فضلا عن وجوبه، ففي

خبر بشير الدهان (2)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «قال: قلت له: إني رأيت في المنام أني قلت لك إن القتال مع غير الإمام المفروض طاعته حرام مثل الميّتة و الدم و لحم الخنزير، فقلت لي هو كذلك، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام هو كذلك هو كذلك»

و في

خبر عبد اللَّه ابن المغيرة(3)«قال محمد بن عبد اللَّه للرضا عليه السلام و أنا أسمع حدثني أبي عن أهل بيته عن آبائه عليهم السلام أنه قال له بعضهم إن في بلادنا موضع رباط يقال له قزوين و عدوا يقال له الديلم، فهل من جهاد أو هل من رباط فقال: عليكم بهذا البيت فحجوه، فأعاد عليه الحديث فقال عليكم بهذا البيت فحجوه أما يرضى أحدكم أن يكون في بيته ينفق على عياله من طوله ينتظر أمرنا فإن أدركه كان كمن شهد مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله بدرا، و إن مات منتظرا لأمرنا كان كمن كان مع قائمنا صلوات اللَّه عليه هكذا في فسطاطه و جمع بين السبابتين، و لا أقول هكذا و جمع بين السبابة و الوسطى فإن هذه أطول من هذه، فقال أبو الحسن عليه السلام: صدق»

و في


1- 1 سورة التوبة- الآية 5.
2- 2 الوسائل- الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.

ج 21، ص: 12

موثق سماعة(1)عنه عليه السلام أيضا قال «لقي عباد البصري علي بن الحسين عليه السلام في طريق مكة فقال له يا علي بن الحسين عليه السلام تركت الجهاد و صعوبته و أقبلت على الحج و لينته، إن اللَّه عز و جل (2)يقول «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيل

ِ وَ الْقُرْآنِ، وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» فقال له علي بن الحسين صلوات اللَّه عليهما أتم الآية، فقال: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» فقال له علي بن الحسين صلوات اللَّه عليهما: إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج»

و في

خبر أبي بصير(3)عن أبي عبد اللَّه عن آبائه عليهم السلام المروي عن العلل و الخصال «قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن في الحكم و لا ينفذ في الفي ء أمر اللَّه عز و جل، فإنه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدونا في حبس حقنا، و الإشاطة بدمائنا و ميتته ميتة جاهلية»

و خبر الحسن بن علي بن شعبة المروي (4)عن تحف العقول عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون «و الجهاد واجب مع إمام عادل، و من قاتل فقتل دون ماله و رحله و نفسه فهو شهيد، و لا يحل قتل أحد من الكفار في دار التقية إلا قاتل أو باغ، و ذلك


1- 1 الوسائل- الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
2- 2 سورة التوبة- الآية 112.
3- 3 الوسائل- الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 8.
4- 4 الوسائل- الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 10.

ج 21، ص: 13

إذا لم تحذر على نفسك، و لا أكل أموال الناس من المخالفين و غيرهم و التقية في دار التقية واجبة، و لا حنث على من حلف تقية يدفع بها ظلما عن نفسه»

و خبر محمد بن عبد اللَّه السمندري (1)«قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام إني أكون بالباب يعني باب من الأبواب فينادون السلاح فأخرج معهم، فقال: أ رأيتك إن خرجت فأسرت رجلا فأعطيته الأمان و جعلت له من العهد ما جعله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله للمشركين أ كان يفون لك به؟ قال: لا و اللَّه جعلت فداك ما كان يفون لي قال فلا تخرج ثم قال لي أما أن هناك السيف»

و خبر الحسن بن العباس ابن الجريش (2)عن أبي جعفر الثاني عليه السلام في حديث طويل في بيان «إنا أنزلناه» قال «و لا أعلم في هذا الزمان جهادا إلا الحج و العمرة و الجوار»

و خبر عبد الملك بن عمر(3)قال: «قال لي أبو عبد اللَّه عليه السلام:

يا عبد الملك ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك، قال: قلت و أين قال جده و عبادان و المصيصة و قزوين، فقلت: انتظارا لأمركم و الاقتداء بكم، فقال: إي و اللَّه، لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ، قال: قلت له كان يقولون ليس بيننا و بين جعفر خلاف إلا أنه لا يرى الجهاد، فقال: أنا لا

أراه، بلى و اللَّه إني لأراه و لكن أكره أن أدع علمي إلى جهلهم»

إلى غير ذلك من النصوص التي مقتضاها كصريح الفتاوى عدم مشروعية الجهاد مع الجائر و غيره، بل في المسالك و غيرها عدم الاكتفاء بنائب الغيبة، فلا يجوز له توليه بل في الرياض نفي علم الخلاف فيه حاكيا له عن ظاهر المنتهى و صريح الغنية إلا من أحمد في الأول، قال و ظاهرهما الإجماع، مضافا إلى


1- 1 الوسائل- الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 7.
2- 2 الوسائل- الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
3- 3 الوسائل- الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 14

ما سمعته من النصوص المعتبرة وجود الإمام، لكن إن تم الإجماع المزبور فذاك، و إلا أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة الشاملة لذلك المعتضدة بعموم أدلة الجهاد، فترجح على غيرها.

و كيف كان ف لا يتعين إلا أن يعينه الإمام عليه السلام على شخص خاص أو أشخاص كذلك لاقتضاء المصلحة في الخصوصية أو لقصور القائمين عن القيام به أو الدفع إلا بالاجتماع فيعين الإمام عليه السلام من يتم به القيام بذلك، و إلا وجب كفاية أيضا كأصله أو يعينه على نفسه بنذر و شبهه كالعهد و اليمين و الإجارة أو غير ذلك مما يكون سببا للتعيين المخرج له عن الكفائية، و منه إذا التقى الزحفان و تقابل الفئتان، قال اللَّه تعالى (1)«إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا» و(2)«إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ»

هذا، و قد أطنب في المسالك في بيان قصور العبارة من حيث عطف قوله: «أو لقصور» على المستثنى أو على قوله: «مصلحة» و لكن لا فائدة مهمة بعد وضوح المراد، و اللَّه العالم.

و قد تجب المحاربة على وجه الدفع من دون وجود الإمام عليه السلام و لا منصوبه كأن يكون بين قوم يغشاهم عدو يخشى منه على بيضة الإسلام، أو يريد الاستيلاء على بلادهم أو أسرهم و أخذ مالهم، أو يكون بين أهل الحرب فضلا عن غيرهم و يغشاهم عدو يخشى منه على نفسه فيساعدهم دفعا عن نفسه

قال طلحة بن زيد(3)«سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل دخل أرض الحرب


1- 1 سورة الأنفال- الآية 47.
2- 2 سورة الأنفال- الآية 15.
3- 3 الوسائل- الباب 6 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 مع الاختلاف في اللفظ.

ج 21، ص: 15

بأمان فغزا القوم الذين دخل عليهم قوم آخرون، قال: على المسلم أن يمنع عن نفسه و يقاتل على حكم اللَّه و حكم رسوله، و أما أن يقاتل على حكم الجور و دينهم فلا يحل له ذلك»

و لا يكون ذلك و نحوه جهادا بالمعنى الأخص الذي يعتبر فيه الشرائط المزبورة، بل في المسالك «أشار المصنف بذلك إلى عدم جريان حكم الفرار و الغنيمة و شهادة المقتول فيه على وجه لا يغسل و لا يكفن» بل في الدروس نسبته إلى ظاهر الأصحاب، قال بعد أن ذكر الدفاع عن البيضة مع الجائر و عن النفس: «و ظاهر الأصحاب عدم تسمية ذلك كله جهادا، بل دفاع، و تظهر الفائدة في حكم الشهادة و الفرار و قسمة الغنيمة و شبهها» قلت: قد يقال بجريان الأحكام المزبورة عليه إذا كان مع إمام عادل عليه السلام أو منصوبه و إن كان هو دفاعا أيضا، لكنه مع ذلك هو جهاد كما وقع لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله لما دهمه المشركون إلى المدينة، و إطلاق المصنف و غيره نفي الجهاد عنه أنما هو مع عدم وجود الإمام العادل عليه السلام و لا منصوبه، فهو حينئذ ليس إلا دفاعا مستفادا من النصوص المزبورة و غيرها، بل هو كالضروري، بل ظاهر غير واحد كون الدفاع عن بيضة الإسلام مع هجوم العدو و لو في زمن الغيبة من الجهاد، لإطلاق الأدلة، و اختصاص النواهي بالجهاد ابتداء للدعاء إلى الإسلام من دون إمام عادل عليه السلام أو منصوبه، بخلاف المفروض الذي هو من الجهاد من دون اشتراط حضور الإمام و لا منصوبه و لا إذنهما في زمان بسط اليد، و الأصل بقاؤه على حاله، و احتمال عدم كونه جهادا حتى في ذلك الوقت مخالف لإطلاق الأدلة و إن كان قد يظهر من خبر يونس (1)الآتي في المرابطة كون الجهاد هو الابتداء


1- 1 الوسائل- الباب 6 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 16

إلا أنه محمول على إرادة كون ذلك الأكمل من أفراده، و إلا فالجهاد أعمّ كما يشعر به تقسيمهم إياه إلى الابتداء و إليه، بل قد تقدم في كتاب الطهارة تصريح جماعة بكون المقتول فيه شهيدا كالمقتول بين يدي الإمام

عليه السلام، فلا يغسل و لا يكفن، بل حكاه بعضهم عن الغنية و الإشارة و المعتبر و الذكرى و الدروس و جامع المقاصد و الروضة و الروض و غيرها، و إن نفاه آخرون كما عن المقنعة و المبسوط و النهاية و المراسم و السرائر و الوسيلة و المهذب و الجامع و القواعد و التحرير و المنتهى و المسالك بل ربما نسب إلى الأصحاب، بل هو ظاهر المصنف في أحكام الأموات و قد تقدم الكلام في ذلك هناك، فلاحظ و تأمل، و تسمع إن شاء اللَّه بعض الكلام في ذلك أيضا.

و كذا يجب الدفاع على كل من خشي على نفسه مطلقا أو ماله أو عرضه أو نفس مؤمنة أو مال محترم أو عرض كذلك إذا غلب ظن السلامة كما أشبعنا الكلام فيه في كتاب الحدود فلاحظ كي تعرف الفرق بين النفس و المال بالنسبة إلى اعتبار غلبة الظن بالسلامة في الثاني دون الأول، بل و بالنسبة إلى وجوب الدفع عنه مع حصول الغلبة المزبورة و عدمه و إنما أقصاه الجواز كما هو الأقوى، هذا و قد صرح غير واحد هنا بالإثم و الضمان لو قصد معاونة الجائر، بل في الرياض نفي الإشكال عنه، قال: «و هل يأثم و يضمن لو جاهد بغير قصد؟ قيل: نعم، و هو أحوط إن لم نقل بأنه أظهر، و هل يشترط في العدو المزاحم كونه كافرا كما عن الشيخ أم لا كما عن الأكثر» و نحو ذلك في المسالك، قال فيها في تفسير قوله «و لا يكون جهادا» «أي يجب عليه قصد المدافعة، فلا يكفي قتالهم بدونه و إن لم يقصد

ج 21، ص: 17

الجهاد، لأن الفعل الواحد الواقع على وجوه متعددة إنما يتميز بالنية فلو ترك القصد كان مأثوما ضامنا لما يحترم من النفوس و الأموال، و هل يشترط في العدو الهاجم كونه كافرا أم يجوز دفعه و إن كان مسلما قيل بالأول، و به صرح الشيخ في النهاية لتحريم قتل المسلم، و ظاهر الأكثر عدم الاشتراط، لأنه مدافعة عن نفسه، و المسلم يجوز دفعه كذلك، و أشار المصنف بقوله «و لا يكون جهادا» إلى أن حكم الشهيد من عدم تغسيله و تكفينه لا يلحق المقتول هنا، و كذا حكم الجهاد من تحريم الفرار و قسمة الغنيمة، نعم هو بمنزلة الشهيد في الأجر، و إطلاق الأخبار(1)بكونه شهيدا ينزل على ذلك».

قلت: لكن قد يناقش- مضافا إلى ما أشرنا إليه سابقا في إطلاق الضمان في الرياض في الأول فضلا عن الثاني، و هو الجهاد مع عدم القصد إذا كان التالف كافرا حربيا أو ماله حتى لو جاهد معهم ابتداء- بمعلومية هدر الكافر و ماله مطلقا، و أنه لا احترام له، و الحرمة من حيث معاونة الجائر و تقوية سلطانه لا تنافي عدم ضمان الحربي فضلا عمن جاهد بغير قصد، بل ينبغي الجزم بعدم الضمان في الجهاد مع الجائر بقصد إعلاء كلمة الإسلام و تقوية أمره و إن حرم، كما دلت عليه النصوص السابقة،

قال أبو عميرة السلمي (2)«سأل رجل أبا عبد اللَّه عليه السلام فقال: إني كنت أكثر الغزو و أبعد في الأجر و أطيل في الغيبة فحجر ذلك علي فقالوا: لا غزو إلا مع إمام عادل


1- 1 الوسائل- الباب 46 من أبواب جهاد العدو الحديث 5 و 8 و 9 و 10 و غيرها.
2- 2 الوسائل- الباب 10 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 عن أبي عرة السلمي مع اختلاف يسير أيضا.

ج 21، ص: 18

فما ترى أصلحك اللَّه؟ فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام إن شئت أجمل لك أجملت، و إن شئت أن ألخص لك لخصت، فقال: بل أجمل، فقال: إن اللَّه يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة، قال:

فكأنه اشتهى أن يلخص له قال: فلخص لي أصلحك اللَّه. فقال: هات فقال الرجل غزوت فوافقت المشركين فينبغي قتالهم قبل أن أدعوهم.

فقال: إن كان غزوا و قوتلوا و قاتلوا فإنك تجزى بذلك. و إن كانوا أقواما لم يغزوا و لم يقاتلوا فلا يسعك قتالهم حتى تدعوهم. قال الرجل فدعوتهم فأجابني مجيب و أقر بالإسلام في قلبه و كان في الإسلام فجير عليه في الحكم و انتهكت حرمته و أخذ ماله و اعتدي عليه فكيف بالمخرج و أنا دعوته. فقال: إنكما مأجوران على ما كان من ذلك. و هو معك يحوطك من وراء حرمتك و يمنع قبلتك و يدفع عن كتابك و يحقن دمك خير من أن يكون عليك يهدم قبلتك و ينتهك حرمتك و يسفك دمك و يحرق كتابك»

و يمكن أن يريد ضمان المحترم نفسا و مالا كما سمعته من المسالك. نعم قد يمنع الضمان فيه أيضا مع تحقق اسم الدفاع في الواقع و إن لم يكن قاصدا له و لا للجائر للأصل و غيره. بل قد يقال بصدقه أيضا. خصوصا مع قصده و إن كان هو ممن تبع الجائر للجهاد معه و كان آثما. لكن ذلك لا ينافي خطاب الدفاع بعد تحقق موضوعه الذي يتبعه ما هو حكم له من عدم الضمان و غيره. فتأمل جيدا.

و كيف كان فقد تلخص مما ذكرنا أن الجهاد على أقسام: أحدها أن يكون ابتداء من المسلمين للدعاء إلى الإسلام. و هذا هو المشروط بالشروط المزبورة. و الذي وجوبه كفائي. و الثاني أن يدهم المسلمين عدو من الكفار يخشى منه على البيضة. أو يريد الاستيلاء على بلادهم و أسرهم و سبيهم و أخذ أموالهم. و هذا واجب على الحر و العبد و الذكر

ج 21، ص: 19

و الأنثى و السليم و المريض و الأعمى و الأعرج و غيرهم إن احتيج إليهم، و لا يتوقف على حضور الإمام عليه السلام و لا إذنه، و لا يختص بمن قصدوه من المسلمين، بل يجب على من علم بالحال النهوض إذا لم يعلم قدرة المقصودين على المقاومة، و يتأكد الوجوب على الأقربين فالأقربين، الثالث أن يكون بين المشركين مقيما أو أسيرا أو بأمان و يغشاهم عدو و يخشى المسلم على نفسه فيدفع عن نفسه بحسب الإمكان، و هذا غير مشروط بالشروط السابقة أيضا.

و كيف كان فلا خلاف نقلا و تحصيلا في أنه يسقط فرض الجهاد بالمعنى الأول بأعذار أربعة: العمى و الزمن كالمقعد و المرض المانع من الركوب و العدو، و الفقر الذي يعجز معه عن نفقة طريقه و عياله و ثمن سلاحه و إن كان يختلف ذلك بحسب الأحوال بل الإجماع بقسميه عليه، و هو الحجة بعد قاعدة نفي الحرج، و قوله تعالى (1)«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» و قوله تعالى (2)«لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ» و قوله تعالى (3)«وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» بل و قوله تعالى (4)«لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ» و غير ذلك.


1- 1 سورة التوبة- الآية 92.
2- 2 سورة النور- الآية 60.
3- 3 سورة التوبة- الآية 93.
4- 4 سورة النساء- الآية 97.

ج 21، ص: 20

نعم يتحقق العمى بذهاب البصر من العينين معا، فيسقط حينئذ عنه الجهاد و إن وجد قائدا، أما الأعور فالجهاد واجب عليه، لإمكانه منه، فيبقى على عموم الأدلة، بل في المسالك و كذا الأعشى و غيره مما لا يصدق عليه العمى، و الزمانة بالإقعاد و نحوه، و

لعله المراد بالعرج الذي يسقط معه الجهاد، بخلاف اليسير منه الذي يمكنه الركوب و المشي معه و إن تعذر عليه شدة العدو، فإنه واجب عليه، لعموم الأدلة، و كذا المرض اليسير نحو وجع الضرس و نحوه مما يتمكن معه من الجهاد بل قد سمعت ما في المتن من اعتبار كونه مانعا من الركوب و العدو بل في المسالك «أي المانع من مجموعهما، فإن الراكب قد يحتاج إلى العدو بأن يصير ماشيا لقتل دابته و نحوه، و من يقدر على العدو قد يحتاج إلى الركوب» و إن كان هو لا يخلو من مناقشة باعتبار كون العنوان في السقوط صدق المرض، نعم الظاهر انسياق المتعذر أو المتعسر معه الجهاد كما هو الغالب دون غيره، و أما عدم وجدان النفقة فهو مختلف بحسب أحوال الشخص بالنسبة إلى ما يحتاج إليه من النفقة له و لعياله و ما يحتاج إليه من السلاح من سيف و فرس و سهام و رمح و غير ذلك فإن من الناس من يحسن الضرب بالسهم خاصة فيعتبر في حقه، و منهم من يحسنه بالسيف فيعتبر في حقه، و منهم من يعتاد النفقة الواسعة و هو من أهلها فتعتبر في حقه، و هكذا، بل في المسالك «و كذلك الفقر يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأشخاص، فقد يطلق الفقر على شخص مع ملكه لمال كثير، و غيره يعد غنيا بذلك المال، و يجوز اعتباره في المرض أيضا فإن الأمراض تختلف في اغتفارها بالنسبة إلى أحوال الجهاد و أنواعه، فإن بعض أفراد الجهاد لا يحتاج إلى ركوب و لا عدو فلا يعتبران في المرض» و إن كان لا يخلو من مناقشة بكون المدار على

ج 21، ص: 21

تحقق عنوان السقوط بالمرض و عدم الوجدان، نعم قد يختلف الأخير بالنسبة إلى أحوال المجاهدين و أنواع الجهاد فقد تكون المسافة قصيرة لا يحتاج معها إلى الحمولة بخلاف المسافة الطويلة معها إليها، و عن الشيخ اعتبار مسافة التقصير، و لا دليل عليه و الظاهر تحقق الوجدان بالبذل على نحو الحج كما ستسمع إن شاء اللَّه.

[فروع ثلاثة]
[الأول إذا كان عليه دين مؤجل فليس لصاحبه منعه ]

الأول إذا كان عليه دين مؤجل فليس لصاحبه منعه منه و إن علم حلوله قبل رجوعه و لم يترك مالا في بلده يقابله و لا ضامنا، لعدم استحقاق المطالبة، و احتمل بعضهم جواز المنع إذا كان يحل قبل رجوعه، لاستلزامه تعطيل حقه، لكنه كما ترى و لو كان الدين حالا و هو معسر قيل له منعه و إن كنا لم نتحقق القائل به منا، نعم حكاه في المنتهى عن الشافعي و أحمد، و في المسالك أن الشيخ ذكر في المبسوط كلاما يدخل فيه المعسر لا بخصوصه و على كل حال هو بعيد جدا، ضرورة شمول العمومات له بعد فرض سقوط المطالبة عنه و عدم استحقاق له في عينه، و كون الجهاد يقصد منه الشهادة التي يفوت الحق بها لا يقتضي تسلطا له على منعه على أن الشهادة غير معلومة و لا مظنونة، فلا يترك لأجلها أعظم أركان الإسلام، بل لو علمت أو ظنت كان المتجه الجواز أيضا،

و في المرسل (1)«إن رجلا جاء إلى النبي صلى اللَّه عليه و آله فقال يا رسول اللَّه: إن قتلت في سبيل اللَّه صابرا محتسبا تكفر عني خطئي قال: نعم إلا الدين، فإن جبرئيل عليه السلام قال لي ذلك»

محمول على المفرط في قضاء الدين بقرينة استثنائه من الخطايا، و لو تعين على المديون الجهاد وجب عليه الخروج فيه سواء كان الدين حالا أو مؤجلا موسرا كان أو معسرا أذن له غريمه أو لا لأن الجهاد تعلق بعينه فكان مقدما


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 25.

ج 21، ص: 22

على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان، و لكن ينبغي له عدم التعرض لمظان القتل بأن يبارز أو يقف في أول المقاتلة أو نحو ذلك مما فيه تغرير، و لو ترك وفاء أو أقام كفيلا مليا جاز له الغزو أذن له صاحب الدين أو لم يأذن، لعدم المانع حينئذ، و ل

ما يحكى (1)عن عبد اللَّه أبي جابر من أنه خرج إلى أحد و عليه دين كثير فاستشهد و قضاء عنه ابنه جابر و لم يذمه النبي صلى اللَّه عليه

و آله على ذلك مع علمه به، بل قال صلى اللَّه عليه و آله في حقه: «لا زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه»(2)

و اللَّه العالم.

[الثاني للأبوين منعه من الغزو ما لم يتعين عليه ]

الثاني للأبوين المسلمين العاقلين الحرين منعه من الغزو ما لم يتعين عليه بلا خلاف أجده فيه، بل عن ظاهر التذكرة و الإيضاح الإجماع عليه، بل في المنتهى من له أبوان مسلمان لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما، و لهما منعه، و به قال كافة أهل العلم، و في

خبر عمرو بن شمر(3)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله فقال يا رسول اللَّه: إني راغب في الجهاد نشيط فقال صلى اللَّه عليه و آله: فجاهد في سبيل اللَّه- إلى أن قال له- يا رسول اللَّه إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي و يكرهان خروجي فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله: أقم مع والديك فو الذي نفسي بيده لأنسك بهما يوما و ليلة خير من جهاد سنة»

بل

في آخر


1- 1 البحار ج 18 ص 31 الطبع الحديث.
2- 2 البحار ج 20 ص 131 الطبع الحديث.
3- 3 الوسائل- الباب 2 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 عن عمرو بن شمر عن جابر.

ج 21، ص: 23

«لأنسهما بك ليلة خير من جهاد سنة»

و عن ابن عباس (1)«جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه و آله فقال: أجاهد معك فقال: لك أبوان قال: نعم، قال ففيهما جاهد»

و في آخر(2)«إني جئت أبايعك على الهجرة و تركت أبوي يبكيان قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما»

و عن أبي سعيد(3)«أن رجلا هاجر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله هل لك باليمن أحد قال: نعم أبواي قال: أذنا لك قال: لا، قال فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد و إلا فسرهما»

بل ظاهر الأخير و معقد الإجماع المزبور اعتبار الإذن فضلا عن سلطنة المنع، بل ربما كان ذلك أيضا ظاهر محكي المبسوط و الوسيلة و التحرير و التذكرة، إلا أن الخبر عامي، و معقد الإجماع محتمل لإرادة ولاية المنع، و زاد في المنتهى الاستدلال بأن طاعة الأبوين فرض عين، و الجهاد فرض كفاية، و فرض العين مقدم على فرض الكفاية إلا أنه لا يقتضي اعتبار الإذن، و بالجملة إن تم الإجماع المزبور فذاك و إلا أشكل اعتبار الإذن بحيث إن خرج من دون ذلك و لو مع عدم علمهما و عدم نهيهما عنه يكون آثما للأصل و عموم الأدلة، و لعل ذلك هو ظاهر المصنف و الفاضل و يحيى بن سعيد و الشهيدين و الكركي و غيرهم على ما حكي عن بعضهم لاقتصارهم على أن لهما المنع، بل قد يشكل عموم وجوب الطاعة في جميع ما يقترحانه

في غير فعل محرم و ترك واجب مما لا أذية عليهما فيه في الفعل و الترك على وجه يكون كالسيد و العبد بعدم دليل معتد به على ذلك، و دعوى كون مطلق المخالفة عقوقا و إيذاء و عدم مصاحبته بالمعروف واضحة المنع، خصوصا بعد أن كان العقوق


1- 1 المستدرك- الباب 2 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
2- 2 سنن البيهقي- ج 9 ص 26.
3- 3 المستدرك- الباب 2 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 24

ضد البر على ما في القاموس و النهاية، بل إليه يرجع ما في المصباح المنير و مجمع البحرين و قد

مر(1)في صلاة الجماعة السؤال عن الصلاة مع رجل لا بأس به غير أنه يخالف أبويه قال: «لا بأس».

نعم يحرم عليه العقوق الذي هو أحد الكبائر كما استفاضت به النصوص (2)بل من أكبرها، و الإيذاء لهما و لو بقول أف و نهرهما كما أنه يجب عليه الإحسان إليهما و المصاحبة لهما بالمعروف، بل في المنتهى بعد ذلك في أثناء فروع ذكرها «لو سافر لطلب العلم و التجارة استحب له استئذانهما، و لو منعاه لم يحرم عليه مخالفتهما، و فارق الجهاد، لأن الغالب فيه الهلاك، و هذا الغالب فيه السلامة» و هو مناف لما ذكره أولا من وجوب الطاعة عليه مع فرض عدم تعين السفر المزبور عليه، و من هنا التزم بعضهم عدم الفرق بين الجهاد و غيره

من الأسفار المباحة و المندوبة و الواجبة كفاية مع قيام من فيه الكفاية.

و على كل حال فلو كانا كافرين لم يعتبر إذنهما في الجهاد، بل و لا يحرم مخالفتهما فيه كما صرح به الشيخ و الفاضل و غيرهما، خلافا للمحكي عن الثوري، بل قيل إنه مقتضى إطلاق المصنف و الوسيلة و الفاضل و يحيى بن سعيد و الشهيد و الكركي و غيرهم، بل في الروضة «و في اشتراط إسلامهما قولان، و ظاهر المصنف عدمه» و لكن لا يخفى عليك


1- 1 الوسائل- الباب 11 من أبواب صلاة الجماعة- الحديث 1 و فيه « أنه سأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن إمام لا بأس به في جميع أموره عارف غير أنه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما أقرأ خلفه؟ قال: لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا» و قد ذكره في الجواهر في الجزء 13 ص 275 و 282.
2- 2 الوسائل- الباب 46 من أبواب جهاد النفس.

ج 21، ص: 25

ضعفه، لعموم الأدلة الراجح هنا على غيره من وجوه، خصوصا بناء على ما قيل من كون التعارض بينهما من وجه، بل في المنتهى «كان النبي صلى اللَّه عليه و آله يخرج معه من الصحابة إلى الجهاد من كان له أبوان كافران من غير استئذان كأبي بكر و غيره، و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان مع النبي صلى اللَّه عليه و آله يوم بدر و أبوه كان رئيس المشركين يومئذ قتل ببدر، و أبو عبيدة قتل أباه في الجهاد، بل فيه أيضا الاستدلال بأنهما كافران، فلا ولاية لهما على المسلم، و لأنه يسوغ قتلهما فترك قبول قولهما أولى» و إن كان لا يخلو من نظر في الجملة بعد الأمر بمصاحبتهما في الدنيا بالمعروف، فتأمل.

و لو كان الجهاد متعينا عليه وجب عليه الخروج له من غير استئذان بل و مع المخالفة بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به الفاضل، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، و كذا في جميع الواجبات، و لو كانا مملوكين فعن ظاهر الشيخ و غيره كونهما كالحرين، بل هو صريح ثاني الشهيدين لعموم الأدلة، و لكن في المسالك حكاية قول بالعدم، و لم أتحققه، و لعله لكونهما مولى عليهما فلا ولاية لهما، و فيه أن الطاعة و نحوها غير الولاية، و في إلحاق الأجداد و الجدات بهما قول للفاضل في التذكرة، و قواه في المسالك، بل قال: «و لو كانا مع الأبوين ففي اعتبار إذن الجميع أو سقوط الأجداد وجهان، أجودهما الأول» و لعل الأجود الثاني، لعموم أدلة الجهاد، و لأن المستفاد من الكتاب و السنة و أكثر الفتاوى منع الأبوين، و احتمال إرادة الأب فصاعدا و الأم كذلك خلاف المنساق، و من ذلك يستفاد ضعف القول المزبور، و لذا كان خيرة الفخر و الكركي عدم الإلحاق، نعم لا فرق في الحكم بين منعهما أو أحدهما كما صرح به غير واحد، بل لا خلاف فيه، بل

ج 21، ص: 26

و لا إشكال بعد ما عرفت من كونه مقتضى الأدلة السابقة، و لو منعه أحدهما و ألزمه الآخر فالظاهر السقوط أيضا للأصل و غيره، و اللَّه العالم

[الثالث لو تجدد العذر بعد التحام الحرب لم يسقط فرضه ]

الثالث لو تجدد العذر بعد التحام الحرب و التقاء الصفين لم يسقط فرضه المستفاد من قوله تعالى (1)«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا» و غيره مما دل على وجوب الصبر و حرمة الفرار من الزحف و تولية الدبر لكن على تردد من ذلك، و من الشك في الوجوب معه، لإطلاق ما دل على السقوط معه إلا مع العجز عن القيام به المانع من التكليف المعلوم اشتراطه بعدمه عقلا و نقلا، فإنه لا إشكال حينئذ في السقوط معه، هذا، و لكن في المسالك إذا تجدد العذر بعد التئام الحرب فإن كان خارجا كرجوع الأبوين و صاحب الدين لم يعتبر رجوعه، لعموم الأوامر الدالة على الثبات حينئذ، و إن كان ذاتيا كالمرض و العمى و الإقعاد ففي السقوط قولان، أقربهما ذلك لعدم القدرة التي هي شرط الوجوب، و قال ابن الجنيد: يجب الثبات هنا أيضا، و هو ضعيف، نعم لو لزم من رجوعه تخاذل في المسلمين و انكسار اتجه عدم السقوط، قال: «و اعلم أن ظاهر العبارة كون الخلاف في القسم الأول خاصة، و الموجود في كتب الخلاف كونه في الثاني» قلت: قد حكي التفصيل المزبور في المنتهى عن الشيخ و خلاف الشافعي في أحد قوليه فيهما، و صرح هو بعدم سقوط الفرض عنه في رجوع الأبوين عن الإذن في ذلك الحال، و كذا لو أسلما و لم يأذنا أو رجع الغريم أو السيد عنها كذلك، بل صرح فيه بأنه لو رجع الأبوان قبل التعين عليه رجع إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع و لو من حدوث مرض أو ذهاب نفقة، فإن أمكنه الإقامة في الطريق و إلا مضى


1- 1 سورة الأنفال- الآية 47.

ج 21، ص: 27

مع الجيش، فإذا حضر الصف تعين عليه بحضوره، و لم يبق لهما إذن بل صرح فيه أيضا بأنه لو خرج بغير إذنهما فحضر القتال ثم بدا له الرجوع لم يجز له ذلك، و قد يناقش في الأخير بمنع التعين عليه بعد فرض اعتبار الإذن في الخروج، بل و سابقه، بل و أصل التفصيل بنحو ذلك مع كون التعارض بين الأدلة من وجه، و مع التسليم فدعوى انتفاء القدرة بالعمى و نحوه يمكن منعها إن كان المراد منها المقاومة، لمعلومية عدم اعتبارها هنا، نعم لو انتفى بذلك حقيقة المقاتلة اتجه السقوط حينئذ، و لعل هذا الذي أشار إليه المصنف بقوله، «إلا مع العجز» فإن احتمال الوجوب في هذا الحال واضح الفساد، و أوضح منه فسادا دعوى تناول إطلاق الأمر بالثبات و نحوه لمثله، و اللَّه العالم و إذا بذل للمعسر ما يحتاج إليه وجب بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المسالك، لصدق الوجدان حينئذ، فيندرج في أدلة الوجوب كتابا و سنة، نعم لو كان ذلك على سبيل الأجرة لم يجب لا أن الإجارة لا تتم إلا بالقبول، و هو نوع اكتساب لا يجب تحصيله للواجب المشروط، بخلاف البذل الذي يتحقق بالإيجاب من الباذل، فيتفرع عليه الوجوب، و قد تقدم في الحج ما له دخل في المقام، فإنه شبيه بالبذل له، بل عن بعض هنا أيضا اعتبار كونه على وجه لازم كالنذر أو قبوله البذل، و إلا لم يجب نحو ما سمعته في البذل للحج، فلاحظ و تأمل.

و من عجز عنه بنفسه لعذر من الأعذار السابقة و كان مؤسرا وجب إقامة غيره كما عن الشيخ و القاضي و الحلي و المقدار في الكنز، و إن كنا لم نتحققه، و الكركي في جامعه، بل في غاية المراد نسبته إلى الشيخ و أتباعه و قيل يستحب و إن كنا لم نعرف القائل

ج 21، ص: 28

به قبل المصنف، نعم هو خيرة جماعة ممن تأخر عنه كالفاضل و ثاني الشهيدين و الصيمري و غيرهم و لكن هو أشبه بأصول المذهب و قواعده التي منها أصل البراءة و إطلاق نفي الحرج الشامل للنفس و المال و كما لا يشترط في غير الواجد الضعف أو المرض فكذا لا يشترط في الضعيف و المريض عدم الوجدان، و لم يفرق أحد بين أصناف المعذورين و لمعلومية سقوط المباشرة عنه بالعجز الذي يتبعه سقوط النيابة، لأنها تتبع وجوب المباشرة، و دعوى كون الوجوب أصالة لا بطريق البدل يدفعها أنه خلاف ظاهر فرض موضوع المسألة، بل لم أعرف قائلا بوجوب الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس، و إن كان مقتضى ما استدل به للأول من قوله تعالى (1)«وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ» بل و قوله تعالى (2)«وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» باعتبار ذمه لهم على عدم الإنفاق، و عموم الأوامر بالجهاد القابل للنيابة و خصوصا

قوله تعالى «وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ»(3)فإن التأكيد مشعر بالمعذور، و عموم الأمر(4)بالمعاونة على البر و التقوى المندرج فيه المقام، إلا أن ذلك كله كما ترى لا دلالة في شي ء منه على وجوب الاستنابة مع العجز، و دعوى أن الجهاد بالمال لا يكون إلا به في غير الجهاد بالنفس و إلا كان إنفاقا على نفسه لا جهادا بالمال- مع أنها لا تدل على الترتيب المزبور ضرورة إمكان وجوب الجهاد بالنفس و الجهاد بالمال بمعنى تجهيز المعسرين له- يمكن منعها بمعلومية صدق الإنفاق في سبيل اللَّه و المعاونة على ما هو أعمّ من بذل المال على نفسه حال


1- 1 سورة التوبة- الآية 41.
2- 2 سورة التوبة- الآية 82.
3- 3 سورة الحج- الآية 77.
4- 4 سورة المائدة- الآية 3.

ج 21، ص: 29

الجهاد و غيره، إلا أن يقال إن مقتضى الآية وجوب الجهاد بالمال على الإطلاق أي سواء جاهد بنفسه مع ذلك أو كان عاجزا، خرج عنه الصورة الأولى بالإجماع، فتبقى الثانية، و لكن ذلك لا يقتضي الاستنابة المفروضة، بل يمكن أن يكون المراد معونة المجاهدين بماله في الخيل و السلاح و الظهر و الزاد و سد الثغر كما عن ظاهر الحلبي إيجاب ذلك على المعذور الغني، اللَّهمّ إلا أن يقال بأولوية التقييد الأول، لندرة القول بالثاني بعد الإجماع على عدم وجوب الأعم منهما، و لأن الاستنابة أقرب المجازات لصدق الجهاد بالمال من ذلك، خصوصا

بعد كون فعل النائب فعل المنوب عنه، إلا أن ذلك كله كما ترى تهجس في تهجس، و ليس بأولى من القول بأن المراد من الأمر القدر المشترك بين الوجوب و الندب، و إن كان قد يقال إن الأول تقييد، و هذا مجاز و الأول أولى، على أنه لم نعلم قائلا برجحان الاستنابة في حال القدرة على الجهاد بالنفس إلا أن مرجعه أيضا إلى التهجس المزبور الذي يمكن معارضته بإرادة ما ينفقه المجاهد من المال حال الجهاد بالنفس أو غير ذلك.

و بالجملة لا دلالة فيها واضحة على المطلوب نحو الاستدلال بقاعدة عدم سقوط الميسور بالمعسور، بل و بما سمعته من آية(1)التعاون و الأمر بالجهاد حق الجهاد الذي لا يخفى ما فيه خصوصا الأخير المحتمل أمورا متعددة خارجة عما نحن فيه من الجهاد بمعنى المقاتلة، فالأصل حينئذ بحاله، و لكن يسهل الخطب في المسألة ما في الرياض، فإنه قال بعد ذكر المسألة: «ثم إن هذا إذا لم يحتج إلى الاستنابة بأن يعجز القائمون بدونها و إلا فيجب قولا واحدا» و ظاهره فرض الخلاف


1- 1 سورة المائدة- الآية 3 و سورة الحج- الآية 77.

ج 21، ص: 30

حال عدم الاحتياج، و من المعلوم سقوط الواجب كفاية بذلك، و حينئذ فيرتفع الخلاف، و لعله لذا قال في غاية المراد بعد ذكر الخلاف و أدلة الطرفين: و لقائل أن يقول: الخلاف مرتفع لأن الجهاد فرض كفاية إجماعا من

المسلمين إلا من شذ، و التكليف به مشروط بعدم ظن الاكتفاء به، فإن حصل الشرط وجب قطعا بالنفس و المال بطريق أولى و إن انتفى سقط قطعا، و إن احتيج إلى غزو أحد و هناك مؤسر و معسر وجب على المؤسر أحد الأمرين إما الخروج بنفسه أو تجهيز المعسر، و كذا لو كان أكثر و فرض كثرة المؤسرين و المعسرين، و قد نبه في المختلف على شي ء من ذلك، و لعله أشار إلى ما ذكره فيه، فإنه بعد أن ذكر ترجيح القول بعدم الوجوب قال: نعم لو احتيج إلى الاستنابة بأن يعجز القائمون وجبت، و لكن عن الكركي في جامعه أنه قال: «و عبارة المختلف تدل على الوجوب إذا كان محتاجا إليه، و عدمه مع عدم الحاجة، و هو مشكل، فإن الوجوب كفائي و الدليل فيه جار أيضا» قلت قد يقال إن لم يكن إجماع إن القائل بالسقوط عن المعذور لا يوجب الاستئجار عليه و لو مع الحاجة، كما لا يجب عليه نفسه، و القائل بالوجوب يريد الوجوب كفاية على معنى أنه إن فعل كان ممن قام بالواجب و إن لم يحتج إليه، و إلا لم يكن كذلك و إن لم يكن مأثوما مع فرض قيام الغير به، نعم لو لم يقم به الجميع أثم الجميع، و كأنه لذا قال في المسالك: الأقوى وجوب الاستئجار مع الحاجة إليه أو أمر الإمام له بذلك، و إلا فلا، لأصالة البراءة، فيكون الاستئجار واجبا كفائيا كما يجب النهوض على القادر، و لعل هذا هو الأصح.

هذا كله في العاجز عن الجهاد بنفسه و لو كان قادرا عليه فجهز غيره سقط عنه ما لم يتعين بتوقف الأمر عليه، أو

ج 21، ص: 31

بتعيين الإمام عليه السلام بلا خلاف أجده فيه، بل عن المنتهى نسبته إلى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع، كما هو مقتضى المحكي عن التذكرة أيضا، و في الدروس يجوز الاستئجار على الجهاد عندنا، قد استثناء غير واحد من عدم جواز الاستئجار على الواجب و لو كفاية في كتاب المكاسب، و لعله لمعلومية عدم إرادة المباشرة من الجهاد، فيكفي استنابة الغير، و هو المراد مما في المسالك من أن الغرض في الواجب الكفائي المقتضي لسقوطه عمن زاد على ما فيه الكفاية لحصول من فيه الكفاية تحصيله بنفسه أو بغيره، و ربما يؤيد ذلك

خبر أبي البختري (1)عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام «أن عليا عليه السلام سئل عن إجعال الغزو فقال لا بأس أن يغزو الرجل عن الرجل، و يأخذ الجعل منه»

مؤيدا

بالنبوي (2)«من جهز غازيا كان له كمثل أجره»

بل ظاهره كظاهر الفتاوى عدم الفرق في النائب بين كونه قادرا بنفسه على الغزو من

دون حاجة إلى الجعل و غيره ممن لم يكن قادرا، و لا ينافي ذلك كونه واجبا على الأول بعد أن كان مخيرا بين فعله لنفسه و بين فعله عن غيره، كما أن الجاعل مخير بين فعله بنفسه و بين النائب عنه و من ذلك يعلم ما في تقييد بعضهم النائب في المسألة السابقة بكونه غير واجب عليه الجهاد لفقر و نحوه، هذا، و في محكي التحرير قال الشيخ: «للنائب ثواب الجهاد، و للمستأجر ثواب النفقة» و كان نسبته إلى الشيخ مشعرة بنوع تردد فيه، و لعله لاقتضاء الإجارة كون الثواب للمستأجر لكونه نائبا عنه و فعله فعله، نعم مقتضى ما سمعته من النبوي أن اللَّه تعالى شأنه يعطيهما معا ثواب ذلك تفضلا منه، و الأمر سهل.


1- 1 الوسائل- الباب 8 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 كنز العمال ج 2 ص 254 الرقم 5419.

ج 21، ص: 32

و يحرم الغزو في أشهر الحرم و هي رجب و ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم إلا أن يبدأ الخصم أو يكون ممن لا يرى للأشهر الحرم حرمة بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، لقوله تعالى (1)«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ: قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» أي ذنب كبير، و قوله تعالى (2)«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» الآية، و قوله تعالى (3)«الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» الذي قيل في سبب نزوله أنه كان أهل مكة قد منعوا النبي صلى اللَّه عليه و آله عام

الحديبية سنة ست في ذي القعدة و هتكوا الشهر الحرام، فأجاز اللَّه تعالى للنبي صلى اللَّه عليه و آله و أصحابه أن يدخلوه في سنة تسع في ذي القعدة لعمرة القضاء مقابلا لمنعهم في العام الأول، ثم قال:

«وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ» أي يجوز القصاص في كل شي ء حتى في هتك حرمة الشهر، ثم عمم الحكم فقال «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ» الآية، و

مضمر العلاء بن الفضيل (4)المنجبر بما عرفت «سألته عن المشركين أ يبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام فقال: إذا كان المشركون يبتدئونهم باستحلاله ثم رأى المسلمون أنهم يظهرون عليهم فيه، و ذلك قول اللَّه عز و جل «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ، وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ» و الروم في هذا بمنزلة المشركين، لأنهم لم يعرفوا للشهر الحرام حرمة و لاحقا لهم يبتدئون بالقتال فيه، و كان المشركون يرون له حقا و حرمة


1- 1 سورة البقرة- الآية 214.
2- 2 سورة التوبة- الآية 5.
3- 3 سورة البقرة- الآية 190.
4- 4 الوسائل- الباب 22 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 33

فاستحلوه، فاستحل منهم، فأهل البغي يبتدئون بالقتال»

و المراد إذا كان المشركون يبتدئونهم فنعم، و حينئذ فجواب «إذا» محذوف، و كان المشركون يرون له حرمة أي في بدء أمرهم، فأهل البغي

يعني من استحل منهم يبتدئون بالبناء للمفعول.

و في المنتهى كان الفرض في عهد النبي صلى اللَّه عليه و آله الجهاد في زمان دون زمان و في مكان دون آخر، أما الزمان فإنه كان جائزا في جميع السنة إلا في أشهر الحرم، و هي رجب و ذو القعدة و ذو الحجة و محرم، لقوله تعالى «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» و أما المكان فإن الجهاد كان سائغا في جميع البقاع إلا الحرم، فإن الابتداء بالقتال فيه كان محرما، لقوله تعالى (1)«وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ» إذا عرفت هذا فإن أصحابنا قالوا: إن تحريم القتال في أشهر الحرم باق إلى الآن لم ينسخ في حق من يرى للأشهر الحرم حرمة للأصل، و أما من لا يرى لها حرمة فإنه يجوز قتاله فيها، و ذهب جماعة من الجمهور إلى أنهما منسوختان بقوله تعالى «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» و بعث النبي صلى اللَّه عليه و آله عليا عليه السلام إلى الطائف فافتتحها في ذي القعدة و قال اللَّه تعالى (2)«وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أما تحريم القتال في المسجد الحرام فإنه منسوخ أي بقوله تعالى «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» و من ذلك يعلم الوجه في قول المصنف و يجوز القتال في الحرم و قد كان محرما فنسخ بالآية المزبورة، بل و بقوله تعالى(3)


1- 1 سورة البقرة- الآية 187.
2- 2 سورة البقرة- الآية 189.
3- 3 سورة البقرة- الآية 187.

ج 21، ص: 34

«وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» قال في الكنز: «هذه الآية ناسخة لكل آية فيها أمر بالمرادعة أو الكف عن القتال، كقوله (1)«وَ دَعْ أَذاهُمْ» و قوله (2)«لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ» و أمثاله، لأن حيث للمكان أي في أي مكان أدركتموهم من حل أو حرم، و كان القتال في الحرم محرما ثم نسخ بهذه الآية و أمثالها، فصدرها ناسخ لعجزها» إلى آخره، هذا، و قال بعض الأفاضل: «و هل يلحق بمحل البحث أي الحرمة في الأشهر المقاتلة لدفع الكفار الذين دهموا المسلمين في زمن الغيبة لتسخيرهم و أخذ بلادهم؟ فيه إشكال، و لكن احتمال الإلحاق في غاية القوة، مع أنه أحوط في الجملة» و كأنه أشار بذلك إلى ما وقع من الأرس في بلد العجم، و فيه أولا أن محل البحث في غزوهم لا في دفاعهم، و ثانيا أنهم ممن لا يرون حرمة لهذه الأشهر، فاحتمال الإلحاق حينئذ في غاية الضعف، بل هو واضح الفساد، و اللَّه العالم.

و تجب المهاجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن إظهار شعار الإسلام من الأذان و الصلاة و الصوم و غيرها، سمي ذلك شعارا لأنه علامة عليه، أو من الشعار الذي هو الثوب الملاصق للبدن، فاستعير للأحكام اللاحقة للدين، بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له كالفاضل و

الشهيدين و غيرهم، و الأصل فيه بعد معلومية إيجاب النبي صلى اللَّه عليه و آله لها قوله تعالى(3)


1- 1 سورة الأحزاب- الآية 47.
2- 2 سورة الجحد- الآية 6.
3- 3 سورة النساء- الآية 99- و 100.

ج 21، ص: 35

«إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً» و قوله تعالى (1)«يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» بناء على كون المراد به الإشارة إلى الهجرة عن المكان الذي لا يتمكن فيه من العبادة، بل و قوله تعالى (2)«وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» الآية و قوله تعالى (3)«وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً، وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» و قوله تعالى (4)«وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» و غير ذلك مما دل على طلب المهاجرة من الكتاب و السنة،

كالنبوي «من فر بدينه من أرض إلى أرض و إن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة، و كان رفيق أبيه إبراهيم و نبيه محمد صلى اللَّه عليه و آله»

الذي الأصل فيه الوجوب.

نعم إنما تجب مع المكنة لا مع عدمها بلا خلاف أجده أيضا فيه لما سمعته من ظاهر الآية المؤيد بنفي الحرج و غيره من العقل و النقل و من هنا كان الناس في الهجرة على أقسام ثلاثة كما صرح به في المنتهى أحدها من تجب عليه، و هو من أسلم في بلاد الشرك و كان مستضعفا


1- 1 سورة العنكبوت- الآية 56.
2- 2 سورة النساء- الآية 101.
3- 3 سورة الحج- الآية 57.
4- 4 سورة النحل- الآية 43 و 44.

ج 21، ص: 36

فيهم لا يمكنه إظهار دينه و لا عذر له من مرض و نحوه، و الثاني من تستحب له، و هو من أسلم في بلاد الشرك أو كان فيها و يمكنه إظهار دينه لعشيرة تمنعه أو غير ذلك، فإنها لا تجب عليه كما صرح به جماعة بل لا أجد فيه خلافا، للأصل و ظاهر الآية أيضا و غيره، و لكن يستحب له كما صرح به جماعة تجنبا لهم عن تكثير عددهم و عن معاشرتهم، اللَّهمّ إلا أن يكون في بقائه مصلحة للدين، الثالث من لا تجب عليه و لا تستحب له، و هو من كان له عذر يمنعه عنها من مرض و نحوه مما أشير إليه بقوله تعالى «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ» الآية، نعم إذا تجددت له القدرة وجبت.

و على كل حال ف الهجرة باقية ما دام الكفر باقيا كما صرح به الفاضل و الشهيدان و غيرهم، بل لا أجد فيه خلافا بيننا، بل ظاهر المسالك انحصار المخالف في بعض العامة، و لا إشكالا لإطلاق الأدلة السابقة، و

النبوي (1)«لا هجرة بعد الفتح»

مع عدم ثبوته من طرقنا معارض

بالآخر «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، و لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»

فيجب حمله على إرادة نفيها عن مكة لصيرورتها بالفتح بلد إسلام، أو على إرادة نفي الكمال على نحو قوله تعالى (2)«لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ» أو غير ذلك.

هذا كله في بلاد الشرك، و عن الشهيد إلحاق بلاد الخلاف التي لا يتمكن فيها المؤمن من إقامة شعار الإيمان، فتجب عليه الهجرة مع


1- 1 الوسائل- الباب 36 من أبواب جهاد العدو الحديث 7.
2- 2 سورة الحديد- الآية 10.

ج 21، ص: 37

الإمكان إلى بلد يتمكن فيها من إقامة ذلك، و استحسنه الكركي، لكن قال: «الظاهر أن هذا إنما يكون حال وجود الإمام عليه السلام و ارتفاع التقية، أما مع غيبته و بقاء التقية فهذا الحكم غير ظاهر، لأن جميع البلاد لا يظهر فيها شعار الإيمان و لا يمكن إنفاذها إلا بالمسارة، و إن تفاوتت في ذلك» قلت: قد

يظهر من النصوص(1) - الواردة في الحث على التقية و الترغيب فيها، حتى

ورد(2)أن المصلي معهم كمن صلى مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله في الصف الأول،

و أنها دينهم عليهم السلام (3)و النصوص (4)الواردة في الأمر بحسن المعاشرة و المصاحبة معهم و استعمال عيادة مرضاهم و تشييع جنائزهم، و السيرة المستمرة على كثرة الممارسة لهم و المجاورة و نحو ذلك- عدم وجوب المهاجرة في زمن الغيبة و إن تمكن من بلاد يظهر فيها شعار الإيمان، لأن الزمان زمان تقية حتى يظهر ولي الأمر روحي له الفداء بل لعل ذلك معلوم من مذهب الإمامية قولا و فعلا، فمن الغريب ما سمعته عن الشهيد، و لم أعرف ذلك لغيره، بل و لا له أيضا في كتاب من كتبه المعروفة.

ثم إن الظاهر كون المراد بالتمكن من إظهار شعار الإسلام الذي


1- 1 الوسائل- الباب 24 من أبواب الأمر و النهي من كتاب الأمر بالمعروف.
2- 2 الوسائل- 5 من أبواب صلاة الجماعة.
3- 3 الوسائل- الباب 24 من أبواب الأمر و النهي الحديث 3 و 23 من كتاب الأمر بالمعروف.
4- 4 الوسائل- الباب 75 من أبواب صلاة الجماعة و الباب 26 من أبواب الأمر و النهي من كتاب الأمر بالمعروف.

ج 21، ص: 38

يسقط معه وجوب الهجرة هو عدم المعارضة و الأذية من العمل على ما يقتضيه دينه في واجب أو ندب، فلو تمكن من بعض دون بعض وجبت خصوصا إذا كان المتروك مثل الصوم و الصلاة و الحج و نحوها مما هو من أعظم الشعائر، بل

الظاهر إرادة التجاهر بما يقتضيه الإسلام، فلا يكفي في عدم وجوبها الإتيان بها متخفيا، كما أنه لا يكفي الإتيان بها على مقتضى مذهبهم تقية، فإن التقية الدينية غير مشروعة في مذهبنا من غير أهل الخلاف من المسلمين، و اللَّه العالم.

[و من لواحق هذا الركن المرابطة]

و من لواحق هذا الركن المرابطة و هي الإرصاد و الإقامة لحفظ الثغر من هجوم المشركين الذي هو الحد المشترك بين دار الشرك و دار الإسلام كما في التنقيح، أو كل موضع يخاف منه كما في جامع المقاصد أو هما معا كما في المسالك، قال: الثغر هنا الموضع الذي يكون بأطراف بلاد الإسلام بحيث يخاف هجوم المشركين منه على بلاد الإسلام، و كل موضع يخاف منه يقال له ثغر لغة.

و على كل حال ف هي مستحبة لما تسمعه من النصوص (1)كما صرح به الفاضلان و الشهيدان و غيرهم، بل لا أجد فيه خلافا بينهم للأصل السالم عن معارضة ما يقتضي الوجوب كتابا و سنة، ضرورة خلو الأول عما يزيد على مدح الذين جاهدوا و رابطوا، و قصور ما وصل إلينا من الثانية عن إثبات الحكم بالوجوب، لكن في التنقيح وجوبها على المسلمين كفاية من غير شرط ظهور الإمام عليه السلام، و لعله يريد حال الضرر بعدمها على الإسلام، لا أن المراد وجوبها من حيث كونها كذلك مطلقا، نعم هي راجحة و لو كان تسلط الإمام عليه السلام مفقودا أو كان غائبا لأنها لا تتضمن قتالا


1- 1 الوسائل- الباب 6 و 7 من أبواب جهاد العدو.

ج 21، ص: 39

ابتداء مع غير إمام عادل كي يكون مندرجا فيما دل على النهي عنه بل تتضمن حفظا و إعلاما إذ الرباط الإقامة في الثغر للإعلام بأحوال المشركين كي يؤخذ الحذر من هجومهم على بلاد الإسلام، و لو اتفق الاحتياج معه إلى القتال فهو من الدفاع حينئذ عن البيضة الذي قد عرفت كونه قسما من الجهاد و مأمورا به،

قال يونس(1): «سأل أبا الحسن عليه السلام رجل و أنا حاضر فقال له جعلت فداك إن رجلا من مواليك بلغه أن رجلا يعطي سيفا و فرسا في سبيل اللَّه فأتاه فأخذهما منه ثم لقيه أصحابه فأخبروه أن السبيل مع هؤلاء لا يجوز و أمروه بردهما قال: فليفعل، قال: قد طلب الرجل فلم يجده، و قيل له قد شخص الرجل قال: فليرابط و لا يقاتل، قلت: مثل قزوين و عسقلان و الديلم و ما أشبه هذه الثغور قال: نعم، قال فإن جاء العدو من الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام، قال:

يجاهد قال: لا إلا أن يخاف على ذراري المسلمين، قلت: أ رأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم أن يمنعوهم قال يرابط و لا يقاتل قال: فإن خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه لا للسلطان، لأن في درس الإسلام درس ذكر محمد صلى اللَّه عليه و آله»

و منه يعلم كون الرباط لا قتال فيه، و استحبابه حال زمان قصور اليد الملحق به

زمان الغيبة، و لا ينافيه الأمر بالرد المحتمل إرادة الاحتياط باعتبار إرادة التارك الجهاد معهم ابتداء في سبيل اللَّه تعالى شأنه، أو كون ذلك أظهر الأفراد عنده، كما لا ينافي النهي عن الجهاد الأمر بالمقاتلة عن البيضة بعد حمله على إرادة الابتداء بالقتال مع


1- 1 الوسائل- الباب 6 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 40

غير العادل.

و على كل حال فلا ريب في دلالته على أن المرابطة في سبيل اللَّه تعالى شأنه مستحبة، مضافا إلى إطلاق المروي في المنتهى عن

سلمان (1)عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله «رباط ليلة في سبيل اللَّه خير من صيام شهر و قيامه، فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل، و أجري عليه رزقه، و أمن الفتان»

و عن فضالة بن عبيدة(2)قال: «إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله قال: كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل اللَّه، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، و يؤمن من فتان القبر»

و المروي عن ابن عباس (3)قال: «سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله يقول عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية اللَّه، و عين باتت تحرس في سبيل اللَّه»

و لا ينافي ذلك ما في

خبر عبد اللَّه بن سنان (4)قال: «قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: جعلت فداك ما تقول في هؤلاء الذين يقتلون في هذه الثغور، قال: فقال الويل لهم ليعجلون قتلة في الدنيا و قتلة في الآخرة، و اللَّه ما الشهداء إلا شيعتنا و لو ماتوا على فرشهم»

بعد إمكان إرادة المرابطين الذينهم من أتباع الجائرين أو المجاهدين بابتداء القتال معهم، أو غير ذلك مما هو غير المفروض الذي قد صرح به غير واحد من الأصحاب، بل ظاهر المنتهى الاتفاق عليه


1- 1 كنز العمال- ج 2 ص 253 الرقم 5378.
2- 2 كنز العمال- ج 2 ص 257 الرقم 5478 عن فضالة بن عبيد.
3- 3 تيسير الوصول ج 1 ص 223.
4- 4 الوسائل- الباب 6 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.

ج 21، ص: 41

و كذا ما في

خبر محمد بن عيسى (1)المروي عن قرب الإسناد عن الرضا عليه السلام «عن رجل من هؤلاء مات و أوصى أن يدفع من ماله فرس و ألف درهم و سيفان يرابط عنه و يقاتل في بعض هذه الثغور فعمد الوصي و دفع ذلك كله إلى رجل من أصحابنا فأخذه منه و هو لا يعلم ثم علم أنه لم يأن لذلك وقت بعد فما تقول يحل له أن يرابط عن الرجل في بعض هذه الثغور أم لا؟ فقال يرد إلى الوصي ما أخذ منه و لا يرابط، فإنه لم يأن لذلك وقت بعد، فقال يونس: فإنه لم يعرف الوصي قال: يسأل عنه، قال:

فقد سأل عنه فلم يقع عليه كيف يصنع يقاتل أم لا؟ فقال له الرضا عليه السلام إذا كان ذلك كذلك فلا يقاتل عن هؤلاء و لكن يقاتل عن

بيضة الإسلام فإن في ذهاب بيضة الإسلام درس ذكر محمد صلى اللَّه عليه و آله»

بل لا أجد فيه خلافا عدا ما يحكى عن الشيخ و القاضي و لم أتحققه، بل قيل إنهما أفتيا بمضمون الخبر المزبور و إن زادا ذكر لفظ المرابطة، لكن يمكن إرادة غير المشروعة منها، و هي التي تتضمن قتالا غير مشروع نعم صرح في النهاية و التحرير و المنتهى بعدم تأكده حال الغيبة، و لم أجد ما يشهد له عدا ما سمعته من خبر قرب الإسناد(2)المحمول على إرادة القتال من المرابطة فيه، بل مقتضى إطلاق الأدلة السابقة عدم الفرق بين الحضور و الغيبة، و لعله لذا كان ظاهر غير واحد عدم الفرق، بل في الروضة التصريح بالتأكد فيهما، نعم قيل: وجهه عدم الخلاف فيه في الأول فتوى و رواية، بخلاف زمان الغيبة فإن فيه الخلاف أو احتماله فتوى و رواية، مع أن عبارة السرائر صريحة في عدم جزمه باستحبابه، بل ظاهر مساق عبارته العدم، لكنه كما ترى.

و كيف كان فالرباط أقله ثلاثة أيام و أكثره أربعون يوما كما


1- 1 الوسائل- الباب 7 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 مع الاختلاف.
2- 2 الوسائل- الباب 7 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 مع الاختلاف.

ج 21، ص: 42

صرح به في النهاية و المنتهى و التذكرة و الإرشاد و القواعد و الدروس و جامع المقاصد و الروضة و غيرها، بل في المنتهى نسبة الأول إلى علمائنا و التذكرة إلى الاتفاق عليه، و

قال أبو جعفر و أبو عبد اللَّه عليهما السلام في خبر زرارة و محمد بن مسلم(1): «الرباط ثلاثة أيام و أكثره أربعون يوما فإذا جاز ذلك فهو جهاد»

أي ثوابه ثواب المجاهدين كما صرح به غير واحد و إن بقي على وصف المرابطة كما صرح به في الدروس، و على كل حال فما عن الإسكافي من أن أقله يوم كالمحكي عن أحمد من العامة من أنه لا طرف له في القلة محجوج بما عرفت، اللَّهمّ إلا أن يقال للتسامح في السنن بأن مقتضى النبوي (2)السابق تحققه برباط ليلة و يمكن إرادة الإسكافي باليوم ما يشملها مع البياض، و حينئذ فما في الروضة- من أن أقله ثلاثة، فلا يستحق ثوابه و لا يدخل في النذر و الوقف و الوصية للمرابطين بإقامة دون الثلاثة، إلى أن قال: و لو نذره و أطلق وجب ثلاثة بليلتين بينهما كالاعتكاف لا يخلو من نظر، خصوصا بعد إطلاق ما دل على فضله الذي لا يحكم عليه الخبر المزبور بناء على عدم حمله على المقيد في المندوبات، هذا.

و قد

قال أبو عبد اللَّه الجعفي (3)قال لي أبو جعفر محمد بن علي عليهما السلام: «كم الرباط عندكم؟ قلت: أربعون، قال لكن رباطنا الدهر، و من ارتبط فينا دابة كان له وزنها و وزن وزنها ما كانت عنده، و من ارتبط فينا سلاحا كان له وزنه و وزن وزنه ما كان عنده، لا تجزعوا من مرة و لا من مرتين و لا من ثلاث و لا من أربع، فإنما


1- 1 الوسائل- الباب 6 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 كنز العمال- ج 2 ص 253 الرقم 5378.
3- 3 الوسائل- الباب 57 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 43

مثلنا و مثلكم مثل نبي كان في بني إسرائيل فأوحى اللَّه تعالى إليه أن ادع قومك للقتال، فإني سأنصركم، فجمعهم من رءوس الجبال و من غير ذلك ثم توجه بهم، فما ضربوا بسيف و لا طعنوا برمح حتى انهزموا ثم أوحى اللَّه تعالى إليه أن ادع قومك إلى القتال فإني سأنصركم، فدعاهم فقالوا وعدتنا النصر فما نصرنا، فأوحى اللَّه تعالى إليه إما أن يختاروا القتال أو النار، فقال: القتال أحب إلي من النار، فدعاهم فأجابه منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر عدد أهل بدر، فتوجه بهم فما ضربوا بسيف و لا طعنوا برمح حتى فتح اللَّه لهم»

و هو محمول على إرادة ترقب الفرج ساعة بعد ساعة كما جاءت به النصوص (1)لا الرباط المصطلح، كما هو واضح، و اللَّه العالم.

و من لم يتمكن منها أي المرابطة بنفسه يستحب أن يربط فرسه هناك كما في النافع و القواعد و التحرير و غيرها، و الظاهر عدم إرادة الشرطية من ذلك، فيرجع إلى ما في التذكرة من استحباب المرابطة بنفسه و فرسه و غلامه و جاريته و إعانة المرابطين، و نحوه ما في الإرشاد و الدروس و اللمعة و الروضة و غيرها، ضرورة كون ذلك من الإعانة على البر و التقوى، و من هنا لم يكن فرق بين الفرس و غيرها من الدواب و الغلام و الجارية و نحوها

مما ينتفع بها المرابطون، فيبيح حينئذ لهم الانتفاع بذلك، و في

خبر جعفر بن إبراهيم الجعفري (2)«سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: من ربط فرسا عتيقا محيت عنه ثلاث


1- 1 البحار- ج 13 ص 136 الطبعة الكمپاني.
2- 2 الوسائل- الباب 4 من أبواب أحكام الدواب- الحديث 2 من كتاب الحج عن إبراهيم الجعفري إلا أن الموجود في المحاسن يعقوب بن جعفر بن إبراهيم بن محمد الجعفري.-

ج 21، ص: 44

سيئات و كتبت له إحدى عشر حسنة، و من ارتبط هجينا محيت عنه في كل يوم سيئتان و كتبت له سبع حسنات، و من ارتبط برذونا يريد به جمالا أو قضاء حوائج أو دفع عدو عنه محيت عنه كل يوم سيئة واحدة و كتبت له ست حسنات»

و رواه في الفقيه بإبدال السبع بالتسع، و أفضل الرباط أشد الثغور خطرا، نعم لا ينبغي له نقل الأهل و الذرية إلى الثغور المخوفة بل ربما حرم.

و كيف كان ف لو نذر المرابطة وجبت مع وجود الإمام عليه السلام و بسط يده و فقده أي غيبته أو قصور يده كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا معتدا به، بل عن السرائر ما يشعر بدعوى الإجماع عليه، بل و لا إشكالا لما عرفته من استحبابها على كل حال، لكن مقتضى ما تسمعه من الشيخ في نذر المال عدم انعقاد النذر عليها، و لا ريب في ضعفه.

و كذا لو نذر أن يصرف شيئا في المرابطين وجب أيضا لذلك مع بسط يد الإمام إجماعا بقسميه، بل و مع غيبته أو قصور يده على الأصح، و قيل و القائل الشيخ في النهاية، بل قيل و جماعة:

يحرم و يصرفه في وجوه البر إلا مع خوف الشنعة بعدم الوفاء بالنذر، أو بأنه لا يرى صحته للمرابطة فيه أو غير ذلك، ل

خبر علي ابن مهزيار(1)«كتب رجل من بني هاشم إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام أني كنت نذرت نذرا منذ سنين أن أخرج إلى ساحل من سواحل البحر إلى ناحيتنا مما يرابط فيه المطوعة نحو مرابطتهم بجدة و غيرها من سواحل البحر أ فترى جعلت فداك أنه يلزمني الوفاء به أو لا يلزمني أو أفتدي الخروج إلى ذلك الموضع بشي ء من أبواب البر لأصير إليه


1- 1 الوسائل- الباب 7 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 45

إن شاء اللَّه فكتب عليه السلام إليه بخطه و قرأته إن كان سمع منك نذرك أحد من المخالفين فالوفاء به إن كنت تخاف شنعته، و إلا فاصرف ما نويت من ذلك في أبواب البر، وفقنا اللَّه و إياك لما يحب و يرضى».

و لا ريب في أن الأول أشبه بأصول المذهب و قواعده بعد ما عرفت من استحباب صرف المال في إعانتهم، فينعقد النذر عليه و لا يجوز صرفه في غيره في حال بسط اليد أو قصورها

الذي هو مورد الخبر المزبور الذي أعرض عنه الأكثر، بل في التذكرة «لو نذر أن يصرف شيئا من ماله إلى المرابطين وجب الوفاء به إجماعا، سواء كان الإمام ظاهرا أو مستترا» إلى آخره، على أن مورد الخبر المزبور نذر الخروج بنفسه و إن كان يلزمه صرف مال، أو يكون المراد أني أخرج شيئا من المال، و على كل حال فإذا فرض عدم انعقاد النذر لم يكن عليه شي ء لأصرف ذلك في وجوه البر و لا غيره، فالمتجه حينئذ حمل الخبر المزبور على نذر لخصوص مرابطين مرابطة غير مشروعة و لو باعتبار كونهم جندا للمخالفين أو غير ذلك، و حمل الصرف حينئذ على ضرب من الندب، و اللَّه العالم.

و لو آجر نفسه أو غلامه أو دابته أو غير ذلك وجب عليه القيام بها و لو كان الإمام عليه السلام مستورا لعموم الأدلة و أولويتها من الجهاد بذلك بعد ما عرفت من كونها مندوبة في حالتي الظهور و الاستتار، بل لو قلنا بوجوبها جاز على نحو ما سمعته في الجهاد التي هي من لواحقه و قيل و القائل الشيخ فيما حكي عنه إن وجد الأجير المستأجر أو ورثته ردها و إلا قام بها و في المسالك استنادا إلى رواية تدل عليه ظاهرا لكن لم أجد إلا ما سمعته من خبري يونس و محمد بن عيسى و خبر علي بن مهزيار، و ليس في شي ء منها

ج 21، ص: 46

الإجارة، اللَّهمّ إلا أن يدعى استفادة حكمها من الأولين بل و الثالث، إلا أن مقتضى ذلك فسادها لا القيام بها مع عدم وجدان المستأجر، و لعله لفحوى ما سمعته في الخبرين الأولين، و على كل حال فلا ريب في ضعف القول المزبور و أن الأولى و الأصح الوجوب من غير تفصيل لعموم الأدلة بعد ما عرفت من مشروعيتها على كل حال

[الركن الثاني في بيان من يجب جهاده و كيفية الجهاد]

اشاره

(الركن الثاني) (في بيان من يجب جهاده و كيفية الجهاد) و فيه أطراف خمسة

[الطرف الأول في من يجب جهاده ]

الأول فيمن يجب جهاده، و هم ثلاثة الأول البغاة على الإمام من المسلمين عليه السلام و يلحق بهم مانعوا الزكاة و إن لم يكونوا مستحلين كما تعرفه إن شاء اللَّه، و الثاني أهل الذمة، و هم اليهود و النصارى و المجوس إذا أخلوا بشرائط الذمة و الثالث من عدا هؤلاء من أصناف الكفار، و كل من يجب جهاده فالواجب على المسلمين النفور إليهم، إما لكفهم عن فسادهم كما في البغاة الذين هم من المسلمين، و من هجم على بلاد الإسلام من غيرهم على وجه يخشى منه على بيضة الإسلام أو على أسر المسلمين و قتلهم و سبي ذراريهم و إما لنقلهم إلى الإسلام أو الإيمان أو إعطاء الجزية كما في الأقسام الثلاثة أيضا، فما قيل- من كون العبارة لفا و نشرا مرتبا على أن يكون لكفهم للبغاة، و لنقلهم إلى الإسلام للقسمين الأخيرين

ج 21، ص: 47

لا يخلو من نظر، و لا يشكل ذلك بأن البغاة كفار مرتدون عن فطرة أو أكثرهم أو بعضهم، و المرتد كذلك لا تقبل توبته عندنا كما في حاشية الكركي و المسالك، لإمكان القول بقبول توبة هؤلاء خاصة كما وقع من أمير المؤمنين عليه السلام معهم، و لعله لكون الشبهة عذرا في حقهم، و لذا اختصوا بأحكام لا تكون لغيرهم كما تسمعه إن شاء اللَّه في محله، و حينئذ يتجه تعلق الحكم المزبور بكل من الأقسام الثلاثة.

و كيف كان فلا إشكال في أصل الحكم بعد الأمر به و الحث الأكيد عليه كتابا و سنة، بل هو إن لم يكن من الضروريات فلا ريب في كونه من القطعيات، نعم قد يمنع الوجوب، بل قد يقال بالحرمة لو أراد الكفار ملك بعض بلدان الإسلام أو جميعها في هذه الأزمنة من حيث السلطنة مع إبقاء المسلمين على إقامة شعار الإسلام و عدم تعرضهم في أحكامهم بوجه من الوجوه، ضرورة عدم جواز التغرير بالنفس من دون إذن شرعي، بل الظاهر اندراجه في النواهي عن القتال في زمن الغيبة مع الكفار في غير ما استثني، إذ هو في الحقيقة إعانة لدولة الباطل على مثلها.

نعم لو أراد الكفار محو الإسلام و درس شعائره و عدم ذكر محمد صلى اللَّه عليه و آله و شريعته فلا إشكال في وجوب الجهاد حينئذ و لو مع الجائر لكن بقصد الدفع عن ذلك لا إعانة سلطان الجور، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى النصوص (1)بالخصوص التي تقدم بعضها، و إلى عموم الأمر بالقتال في الآيات المتكثرة الشاملة للفرض، بل ظاهر الأصحاب أنه من أقسام الجهاد فتشمله حينئذ آياته و رواياته و إن كان لا يشترط فيه الشرائط الخاصة التي هي للجهاد الابتدائي للدعاء إلى


1- 1 الوسائل- الباب 6 و 7 من أبواب جهاد العدو.

ج 21، ص: 48

الإسلام كما تقدم بعض الكلام فيه، و لقد أطنب بعض أفاضل العصر في الاستدلال على وجوبه و في ذكر أحكام في ذلك تزيد على خمسين و إن كان جملة منها من الواضحات كذكره التقصير في السفر فيه الذي هو من المعلومات الأولية بعد أن كان سفر طاعة واجبة، و بعضها واضح المنع، كدعوى كون المقاتلة المزبورة من الواجب العيني على جميع الناس و أغرب شي ء ذكره منها أنه رجح كون الوجوب فيه على التراخي، ثم ذكر لو تعارض مع الحج فهل يقدم عليه أو يقدم القتال عليه، مع أن من المعلوم فورية وجوب الحج، فلا ينبغي معارضة الواجب على التراخي إياه، هذا بعد الإغضاء عن دعوى كون الوجوب في الفرض على التراخي، خصوصا في بعض الأحوال، بل و الإغضاء عما في كثير من كلامه من أشباه ذلك.

و كيف كان فإن بدءوا المسلمين بالقتال فالواجب محاربتهم مع المكنة بلا خلاف و لا إشكال، بل هو كالضروري، بل إن كفوا وجب ابتداؤهم بها بحسب المكنة كذلك أيضا بعد

تعاضد الكتاب و السنة و المعلوم من سيرة النبي صلى اللَّه عليه و آله و التابعين من شدة المواظبة و الحث عليه حتى تكرر ذلك منه صلى اللَّه عليه و آله و هو في النزع، و خصوصا في تنفيذ جيش أسامة بن زيد، لكن قد يظهر من العبارة اعتبار المكنة في الثاني دون الأول، و لكن من المعلوم عدم إرادته، ضرورة اعتبارها في كل منهما، نعم هي في الأول بمعنى القدرة على دفعهم و ردهم و كف أذاهم، و في الثاني القدرة على مقاومتهم و قهرهم على الإسلام و القيام بشرائط الذمة إن كانوا من أهلها، و إلا فالقتل.

ج 21، ص: 49

و لعل اقتصار المصنف عليها في الثاني مقدمة لقوله و أقله في كل عام مرة كما سمعته سابقا من غير واحد مستدلين عليه بقوله تعالى «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ» إلى آخره بالتقريب الذي أسلفناه و لكن لا يخفى عليك ما فيه، و لذا قيل التحقيق خلاف ذلك في الوجود و العدم، فقد تجب الزيادة عليها مع الحاجة، كخوف قوة العدو مع الاقتصار عليها، و أداؤه إلى ضعف المسلمين عنهم، و يجوز تركه أصلا في السنة بل و السنتين للعذر مثل أن يكون في المسلمين ضعف في عدد أو عدة أو حصول مانع في الطريق، كعدم الماء و نحوه، أو لرجاء الرغبة في الإسلام أزيد من القتال و نحو ذلك، بل إن اقتضت المصلحة للإسلام و المسلمين مهادنتهم جاز أو وجب لكن لا يتولى ذلك إلا الإمام عليه السلام أو من يأذن له بالخصوص أو بما يشمله كما صالح النبي صلى اللَّه عليه و آله قريشا عشرين سنة حتى نقضوا العهد على ما حضرني من نسخة المسالك، و لكن المعروف أن أقصى مدة صلح النبي صلى اللَّه عليه و آله عشر سنين كما ستعرف التحقيق فيه إن شاء اللَّه بل عنه صلى اللَّه عليه و آله أنه أخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة لها أيضا، و قد سمعت سابقا البحث في جواز تولي نائب الغيبة ذلك.

[الطرف الثاني في كيفية قتال أهل الحرب ]
اشاره

الطرف الثاني من الأطراف في كيفية قتال أهل الحرب، و الأولى و في التحرير و القواعد و المنتهى و محكي السرائر ينبغي للإمام عليه السلام أن يبدأ بقتال من يليه من الكفار إلا أن يكون الأبعد أشد خطرا و يمكن إرادة الوجوب من ذلك، كما هو ظاهر النافع و الإرشاد و التذكرة و الدروس و اللمعة و غيرها، بل هو صريح الكركي و ثاني الشهيدين، لقوله تعالى (1)«قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ»


1- 1 سورة التوبة- الآية 124.

ج 21، ص: 50

الظاهر في الوجوب و إن كان قد يناقش بأن الأمر بمقاتلتهم غير الأمر بالبداءة بقتالهم، فتبقى العمومات حينئذ بحالها، نعم يتجه إرادة التأكد فيهم كما في كل عام أمر ببعض أفراده بالخصوص بعد الأمر بالعموم، و من هنا

صرح المقداد بالندب الذي يشعر به التعبير بالأولى و ينبغي، بل يمكن إرادته من غيرهم أيضا، و لعله لكونه مقتضى السياسة أيضا، نعم إذا كان الأبعد أشد خطرا و أكثر ضررا بدأ به كما صرح به الفاضل و الشهيدان و غيرهم، بل لا أجد فيه خلافا، و لذا أغار النبي صلى اللَّه عليه و آله (1)على الحارث بن أبي ضرار لما بلغه أنه تجمع له، و كان بينه و بينه عدو أقرب منه، و كذا فعل بخالد بن سفيان الهذلي (2)أو كان الأقرب مهادنا كما صرح به أيضا غير واحد أو منع من مقاتلة الأقرب مانع، و بالجملة ينبغي مراعاة المصلحة في ذلك، و هي مختلفة باختلاف الأحوال، و منه يعلم حال الأقرب فالأقرب فإن ذلك من أحكام السياسة التي ترجع إلى نظر الإمام عليه السلام و مأذونه و لذا يجب على الإمام عليه السلام و منصوبه التربص إذا كثر العدو و قل المسلمون حتى تحصل الكثرة للمقاومة ثم تجب المبادرة كما في القواعد، و لكن في التحرير يستحب له أن يتربص بالمسلمين مع القلة و يؤخر الجهاد حتى يشتد الأمر بالمسلمين، و لعل المراد حال آخر غير المفروض ثم إن الكثرة المقاومة تختلف باختلاف الحال، و

قال عمر بن أبي نصر(3)«سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: خير الرفقاء أربعة، و خير

السرايا أربعمائة، و خير العساكر أربعة آلاف، و لا تغلب


1- 1 سنن البيهقي- ج 9 ص 38.
2- 2 سنن البيهقي- ج 9 ص 38.
3- 3 الوسائل- الباب 54 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 عن عمرو بن أبي نصر.

ج 21، ص: 51

عشرة آلاف من قلة»

و في

خبر فضيل بن حنتم (1)عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله «لا يهزم جيش عشرة آلاف من قلة»

و قال شهر بن حوشب (2)«سألني الحجاج عن خروج النبي صلى اللَّه عليه و آله إلى مشاهدة فقلت: شهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله بدرا في ثلاث مائة و ثلاثة عشر، و شهد أحدا في ستمائة، و شهد الخندق في تسعمائة، فقال. عمن قلت؟ قلت عن جعفر بن محمد عليهما السلام فقال: ضل و اللَّه من سلك غير سبيله»

و في المروي (3)عن الخصال بسنده إلى ابن عباس قال: «قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله خير الصحابة أربعة، و خير السرايا أربعمائة، و خير الجيوش أربعة آلاف و لم يهزم اثنا عشر ألف من قلة إذا جردوا و صدقوا».

و كيف كان فينبغي للإمام عليه السلام ملاحظة أطراف بلاد المسلمين فيجعل فيها من يكف المشركين و يعمل الحصون و يحفر الخنادق و

غير ذلك مما يحترس المسلمون به، كما أنه ينبغي له جعل أمير في كل ناحية يقلده أمر الحروب و تدبير الجهاد ذي أمانة و رفق و نصح للمسلمين و رأي و قوة و شجاعة و مكابدة للعدو، و إذا احتاج إلى المدد مده، إلى غير ذلك مما يقتضيه الحال، فإن الجهاد موكول إلى نظر الإمام عليه السلام و يلزم الرعية طاعته كما يراه.

و كيف كان ف لا يبدءون أي الكفار الحربيون بالقتال مع عدم بلوغ الدعوى إليهم إلا بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام و هي الشهادتان و ما يتبعهما من أصول الدين و امتناعهم عن ذلك و عن


1- 1 الوسائل- الباب 54 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 عن فضيل بن خيثم.
2- 2 الوسائل- الباب 54 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
3- 3 الوسائل- الباب 54 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.

ج 21، ص: 52

إعطاء الجزية إن كانوا من أهلها بلا خلاف أجده بل و لا إشكال، و في

خبر مسمع بن عبد الملك (1)عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال أمير المؤمنين عليه السلام: «بعثني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إلى اليمن فقال: يا علي لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه، و ايم اللَّه لأن يهدي اللَّه على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس و غربت، و لك ولاؤه يا علي»

و نحوه غيره من النصوص، مضافا إلى الأصل و غيره بعد ظهور الأدلة في الأمر بجهادهم و قتلهم كي يسلموا، فلا بد من إعلامهم أن المراد ذلك لا طلب المال و الملك و نحوهما مما يستعمله الملوك، و لكن لو بدر أحد من

المسلمين إلى أحد من الكفار و قتله قبل الدعوة أثم و لا ضمان، خلافا للشافعي فحكم بالضمان للقياس على الذمي الذي هو مع بطلانه في نفسه عندنا مع الفارق، بل ربما حكي عن الشيخ نفي الأمرين معا، و لكن فيه أنه مناف لما عرفت من عدم جواز قتالهم قبل الدعوة إلى الإسلام.

و على كل حال ففي النافع و التحرير و التذكرة و التبصرة و الإرشاد و القواعد و الدروس و الروضة يكون الداعي الإمام عليه السلام أو من نصبه و ربما ظهر منهم الوجوب، بل قيل إنه يدل عليه خبر مسمع (2)السابق و إن كان فيه ما لا يخفى، بل ربما ظهر من

خبر السلمي (3)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام خلافه، قال: «إني كنت أكثر الغزو و أبعد في طلب الأجر و أطيل الغيبة، فحجروا ذلك علي، فقالوا: لا غزو إلا مع إمام عادل، فما ترى أصلحك اللَّه تعالى»

إلى آخر ما سمعته سابقا، و لعله لذا حكي عن النهاية و السرائر التعبير


1- 1 الوسائل- الباب 10 من أبواب جهاد العدو الحديث.
2- 2 الوسائل- الباب 10 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب 10 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 53

بينبغي المشعر بالندب المحتمل إرادته ممن عرفت أيضا، بل قيل هو أوفق بقولهم: «و تسقط الدعوة عمن قوتل لها و عرفها» الشامل لدعاء الإمام عليه السلام و منصوبه و غيرهما، و إن كان فيه إمكان إرادة الدعوة من الإمام عليه السلام و منصوبه، خصوصا ممن ذكر ذلك متصلا

بالعبارة السابقة، بل لا تخفى عليك أمارات التقية من الخبر المزبور، و إلا فقد عرفت عدم جواز الغزو في زمان الغيبة، نعم قد يقال إنه لا دليل صالح على الوجوب، و الأصل البراءة، مؤيدا بحصول الغرض بصدورها من كل أحد، و الظاهر الاكتفاء ببلوغها إلى رئيسهم مشافهة أو مراسلة أو مكاتبة، و الأولى اعتبار بلوغها إلى كل مقاتل منهم، كما أن الأولى كونها بالمأثور، و هو بسم اللَّه أدعوك إلى اللَّه و إلى دينه، و جماعة أمران أحدهما معرفة اللَّه، و الآخر العمل برضوانه، و أن معرفة اللَّه أن يعرفه بالوحدانية و الشرافة و العلم و القدرة و العلو في كل شي ء و أنه الضار النافع القاهر لكل شي ء الذي لا تدركه الأبصار، و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير، و أن محمدا عبده و رسوله، و أن ما جاء به الحق من عند اللَّه، و أن ما سواه لهو الباطل، فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمؤمنين و عليهم ما على المؤمنين.

و كيف كان فقد صرح الشيخ و الفاضلان و الشهيدان و غيرهم بأنه يسقط اعتبار وجوب الدعوة على تقديره في حق من عرفها بقتال سابق عليها أو بغير ذلك، للأصل و ما سمعته في خبر السلمي و ما حكاه غير واحد(1)من أن النبي صلى اللَّه عليه و آله غزا بني المصطلق و هم آمنون و إبلهم تسقى على الماء و استأصلهم، بل لعله لا خلاف فيه و إن حكي عن إطلاق النهاية و السرائر و التبصرة، لكن


1- 1 البحار- ج 20 ص 281 إلى ص 309 الطبع الحديث.

ج 21، ص: 54

يمكن تنزيله على غير الفرض الذي لا حكمة ظاهرة في وجوبها فيه مع فرض علمهم بها.

نعم هو مستحب كما صرح به غير واحد لتأكيد الحجة، و للمحكي (1)من فعل علي عليه السلام عند مقاتلة عمرو بن عبدود، و ما سمعته (2)من وصية النبي صلى اللَّه عليه و آله له عليه السلام لما بعثه إلى اليمن، و ما يحكى من دعوة سلمان أهل فارس و غير ذلك، و لجواز حدوث الرغبة في الإسلام أو إعطاء الجزية أو إيقاع الهدنة، و خصوصا إذا كانت بلاد المشركين واسعة يجوز فيها من لم تبلغه الدعوة، و لا تخص الدعوة الحربي من غير أهل الكتاب، بل هي شاملة لهم و لغيرهم و إن زادت فيهم بطلب الجزية.

و يستحب الدعاء بالمأثور ففي خبر الميمون (3)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «أن أمير المؤمنين عليه السلام كان إذا أراد القتال قال هذه الدعوات اللَّهمّ إنك أعلمتنا سبيلا من سبلك جعلت فيه رضاك، و ندبت إليه أولياؤك، و جعلته أشرف سبلك عندك ثوابا و أكرمها لديك مآبا و أحبها إليك مسلكا، ثم اشتريت له من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل اللَّه فيقتلون و يقتلون وعدا عليك حقا فاجعلني ممن اشترى فيه منك نفسه ثم وفى لك ببيعه الذي بايعك عليه غير ناكث لك، و لا ناقض لك عهدا، و لا

مبدل تبديلا، بل استحبابا لمحبتك، و تقربا به إليك، فاجعله خاتمة عملي، و صير فيه فناء عمري و ارزقني فيه لك به مشهدا توجب لي به منك الرضا، و تحط به عني


1- 1 البحار- ج 20 ص 227 و 253 و 255 الطبع الحديث.
2- 2 الوسائل- الباب 10 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب 55 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 55

الخطايا، و تجعلني في الأحياء المرزوقين بأيدي العداة و العصاة تحت لواء الحق و راية الهدى، ماضيا على نصرتهم، قدما غير مول دبرا و لا محدث شكا، اللَّهمّ و أعوذ بك عند ذلك من الجبن عند موارد الأهوال و من الضعف عند مساورة الأبطال، و من الذنب المحبط للأعمال، فأحجم من شك أو أمضي بغير يقين، فيكون سعيي في تباب، و عملي غير مقبول».

ثم إنه ينبغي اتخاذ الشعار في الحرب، و هو النداء الذي يعرف به أهلها فيكون علامة على ذلك،

قال الصادق عليه السلام في خبر معاوية(1)«شعارنا يا محمد يا محمد و شعارنا يوم بدر يا نصر اللَّه اقترب، و شعار المسلمين يوم أحد يا نصر اللَّه اقترب، و يوم بني النضير يا روح القدس أرح، و يوم بني قينقاع يا ربنا لا يغلبنك، و يوم الطائف يا رضوان، و شعار يوم حنين يا بني عبد اللَّه يا بني عبد اللَّه، و يوم الأحزاب حم لا يبصرون، و يوم بني قريظة يا سلام أسلمهم، و يوم المريسيع و هو يوم بني

المصطلق ألا إلى اللَّه الأمر، و يوم الحديبية ألا لعنة اللَّه على الظالمين، و يوم خيبر و هو يوم القموص يا علي آتهم من عل، و يوم الفتح نحن عباد اللَّه حقا حقا، و يوم تبوك يا أحد يا صمد، و يوم بني الملوح أمت أمت و يوم صفين يا نصر اللَّه، و شعار الحسين يا محمد، و شعارنا يا محمد»

و قال الصادق عليه السلام في خبر السكوني (2)«قدم أناس من مزينة على النبي (ص) فقال ما شعاركم؟ قالوا: حرام، قال: بل شعاركم حلال»

و في الكافي «و روي (3)أيضا أن شعار المسلمين يوم بدر يا منصور أمت و شعار يوم أحد للمهاجرين يا بني عبد اللَّه يا بني عبد الرحمن، و للأوس يا بني


1- 1 الوسائل- الباب 56 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 56 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
3- 3 الوسائل- الباب 56 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 56

عبد اللَّه»

و اللَّه العالم.

و على كل حال ف لا يجوز الفرار إذا كان العدو على الضعف أو أقل كما صرح به الشيخ و الفاضلان و الشهيدان و غيرهم بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به في التنقيح، بل الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما استفاضت به النصوص أو تواترت، و قال اللَّه تعالى (1)«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ، وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» و في مرسل الكليني (2)عن أمير المؤمنين عليه السلام «و ليعلم المنهزم أنه مسخط ربه و موبق نفسه، له في الفرار موجدة اللَّه و الذل اللازم و العار الباقي، و أن الفار لغير مزيد في عمره، و لا محجور بينه و بين يومه، و لا يرضي ربه، و لموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها و الإقرار عليها»

و في خبر محمد بن سنان (3)«أن أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله حرم اللَّه الفرار من الزحف، لما فيه من الوهن في الدين، و الاستخفاف بالرسل و الأئمّة العادلة، و ترك نصرتهم على الأعداء، و التقوية لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية و إظهار العدل و ترك الجور و إماتة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، و ما يكون في ذلك


1- 1 سورة الأنفال- الآية 15 و 16.
2- 2 الوسائل- الباب 29 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب 29 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 57

من السبي و القتل و إبطال دين اللَّه عز و جل و غيره من الفساد» و في

خبر إسماعيل بن جابر(1)عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليهم السلام المروي عن رسالة المحكم و المتشابه نقلا عن تفسير النعماني مسندا إليه «أن اللَّه تعالى لما بعث نبيه صلى اللَّه عليه و آله أمر في بدء أمره أن يدعو بالدعوة فقط، و أنزل عليه «وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ (2)» فلما أرادوا ما هموا به من تبييته أمره اللَّه بالهجرة و فرض عليه القتال، فقال. «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا(3)»- ثم ذكر بعض آيات القتال إلى أن قال. فنسخت آية القتال آية الكف- ثم قال- و من ذلك أن اللَّه تعالى فرض القتال على الأمة فجعل على الرجل أن يقاتل عشرة من المشركين، فقال:

«إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا(4)» ثم نسخها سبحانه فقال «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ (5)» فنسخ بهذه الآية ما قبلها، فصار فرض المؤمنين في الحرب إن كان عدة المشركين أكثر من رجلين لرجل لم يكن فارا من الزحف، و إن كانت العدة رجلين لرجل كان فارا من الزحف»

و قال الصادق عليه السلام في خبر مسعدة بن صدقة(6)في حديث طويل: «إن اللَّه عز و جل فرض على المؤمن في


1- 1 الوسائل- الباب 27 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
2- 2 سورة الأحزاب- الآية 47.
3- 3 سورة الحج- الآية 40.
4- 4 سورة الأنفال- الآية 66.
5- 5 سورة الأنفال- الآية 67.
6- 6 الوسائل- الباب 27 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 58

أول الأمر أن يقاتل عشرة من المشركين ليس له أن يولي وجهه عنهم و من ولاهم يومئذ دبره فقد تبوأ مقعده من النار، ثم حولهم عن حالهم رحمة منه لهم فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من اللَّه عز و جل، فنسخ الرجلان العشرة»

و قال عليه السلام أيضا في خبر الحسين بن صالح (1)«من فر من رجلين في القتال في الزحف فقد فر، و من فر من ثلاثة في القتال فلم يفر».

بل قد يقال إن مقتضى الإطلاق عدم الفرق في ذلك بين القسم الأول من الجهاد و الثاني، أي الذي يدهم المسلمين فيه عدو يخشى منه على شعار الإسلام، كما جزم به بعض الأفاضل، إلا أنه قد يناقش بأن المنساق من النص و الفتوى الأول خصوصا مع ذكرهم له في أحكامه فيبقى الثاني على مقتضى الأصل، و لكن مع ذلك الأول أحوط مع عدم ظن العطب.

و كيف كان فالمراد حرمة الفرار من الحرب و الهرب منها، و هو المكني عنه بتولية الدبر دون غير ذلك، و لذا قال المصنف كغيره من

الأصحاب إلا لمتحرف للقتال كقول اللَّه تعالى شأنه (2)«إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ» أي لا يكون للفرار بل لحصانة الموضع، و ربما قيل هو الكر بعد الفر، و لعله هو أحد أفراد المتحرف، فإنه الميل إلى حرف أي طرف، و منه التحرف في طلب الرزق، و هو الميل إلى جهة يظن الرزق فيها، فيراد حينئذ مطلق المتحرف للقتال كطالب السعة كما في القواعد و التذكرة و المسالك و غيرها، ليكون أمكن له في القتال من المكان الضيق المفروض كونه فيه أو موارد المياه كما في


1- 1 الوسائل- الباب 27 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 عن حسن بن صالح.
2- 2 سورة الأنفال- الآية 16.

ج 21، ص: 59

القواعد و التحرير و التنقيح و التذكرة و المسالك و غيرها، دفعا لعطشه المانع له عن القتال أو استدبار الشمس كما في القواعد و التحرير و التذكرة و التنقيح و الروضة و غيرها، لأنه أولى من القتال مقابلا لها أو تسوية لأمته كما في القواعد و التنقيح و الروضة و المسالك و غيرها، أي درعه، و غير ذلك مما هو نوع تحرف للقتال، كنزع شي ء و لبسه المصرح به في الدروس و القواعد و المسالك، و الارتفاع عن هابط و الاستناد إلى جبل المصرح بهما في التذكرة و التحرير إلى غير ذلك من المصالح التي لا يعد مع ملاحظتها فرارا و هربا أو متحيزا أي مائلا إلى حيز فئة أي جماعة من الناس منقطعة عن غيرها قليلة كانت أو كثيرة كما في التحرير و الإرشاد و القواعد و الروضة و غيرها، بل هو

ظاهر الآية و النافع و التبصرة و اللمعة و الدروس بل لا فرق بين كونها قريبة أو بعيدة بحيث لا يصدق معها الفرار من الحرب كما صرح به جماعة، و عليه ينزل إطلاق أخرى، و دعوى أن مطلق البعد مخل بالمقصود و مبطل لصورة الجهاد كما احتمله في الإيضاح واضحة المنع.

نعم الظاهر اعتبار كون الفئة صالحة للاستنجاد و لو بالانضمام كما صرح به الفاضل و الكركي و ثاني الشهيدين و المقداد، بل لعله المراد من إطلاق المصنف و النافع و التبصرة و الإرشاد و التحرير و الدروس و اللمعة ضرورة انسياق المدخلية في القتال من المستثنى في الآية، إذ لو فرض كون الفئة غير صالحة لكونهم مرضى أو زمنى أو غير ذلك مما لا غنى به عنده لم تكن فائدة في التحيز إليها بالفرار الذي فيه قوة للعدو و ضعف و وهن للمسلمين، لكن الظاهر عدم اعتبار رجاء حصول الظفر بها، بل يكفي رجاء النفع و الدفع و قوة القلب و كمال القتال

ج 21، ص: 60

و نحو ذلك، كما أن الظاهر عدم اعتبار إشعار المتحيز عجزا محوجا إلى الاستنجاد لإطلاق الآية، فيكفي حينئذ في جوازه كونه أتم في القتال أو غير ذلك مما له مدخلية كما صرح به في التذكرة خلافا لبعض الشافعية، نعم قد يقال بعدم جواز التحيز إلى الفئة إذا كان فيه انكسار للمسلمين و استظهار للعدو، هذا، و في المسالك «و لو وصل إلى الفئة في زمان لم يخرج به عن كونه مقاتلا فبدا له الانتقال إلى أخرى جاز بشرط أن لا يخرج بمجموع التحيزين عن الوصف، لا بكل واحد على انفراده مع اتصال الانتقال، أما لو طرأ بعد الانتقال معها اعتبر كل واحدة» و لا يخلو من تأمل، و المدار على صدق عدم الفرار و الهرب بالتحيز المفروض إلى فئة من غير فرق بين الفئات.

و في التذكرة و المتحيز إلى فئة بعيدة لا يشارك الغانمين في غنيمة فارق قبل اغتنامها، و لو فارق بعد غنيمة البعض شارك فيه دون الباقي أما لو تحيز إلى فئة قريبة فإنه يشارك الغانمين في المغنوم بعد مفارقته و هو أحد وجهي الشافعية لأنه لا تفوت نصرته و الاستنجاد به، فهو كالسرية تشارك جند الإمام (ع) فيما يغنمون، و إنما يسقط الانهزام الحق إذا اتفق قبل القسمة، أما إذا غنموا شيئا و اقتسموه ثم انهزم بعضهم لم يسترد منه ما أخذ» و هو جيد لكن أوله لا يخلو من نظر، و لو تحيز إلى فئة و في الأثناء قد تحيزت هي إلى أخرى تحيز معها إذا لم يصدق الفرار و الهرب، و إلا وجب الثبات، و الأولى تحقق ما عزم عليه من القتال بالتحيز إلى الفئة، لأنه الظاهر من الآية، فلا يكفي حينئذ عزمه من دون تحقق عزم الفئة التي يتحيز إليها، و يحتمل الاكتفاء بعزمه الذي رخص له الانصراف.

و على كل حال فقد صرح الفاضل و ثاني الشهيدين و غيرهما بأن

ج 21، ص: 61

ذلك كله للمختار، أما المضطر كمن عرض له مرض أو نفد سلاحه فإنه يجوز له الانصراف، و هو كذلك مع الضرورة التي يسقط معها التكليف، و إلا لم يجز، لإطلاق الآية، و خصوصا إذا كان بالانصراف مفسدة على المسلمين بظهور الضعف و الوهن أو خوف انكسارهم و غلبة العدو عليهم، و لو قدم العدو إلى بلد جاز لأهله التحصن منهم و إن كانوا أكثر من الضعف ليلحقهم المدد و النجدة، و ليس ذلك فرارا و لا توليا، بل لو لقوهم خارج الحصن جاز لهم التحيز إليه، نعم ذهاب الدواب ليس عذرا في جواز الفرار، لأن القتال ممكن للرجال، بل لو ذهب سلاحهم جاز تحيزهم إلى مكان فيه الحجارة ليقاتلوا بها، و اللَّه العالم.

و على كل حال ف لو غلب عنده الهلاك مع كون العدو على الضعف أو أقل و كان في فئة لم يجز له الفرار كما في النافع و الإرشاد و التحرير و التذكرة و التنقيح و المسالك و غيرها، بل في الرياض نسبته إلى الأكثر و قيل يجوز و القائل الشيخ في محكي المبسوط و لم أتحققه، لأن المحكي عنه في التنقيح أنه حكاه قولا، بل حكي عنه في الخلاف أنه قال: الأولى عدم الجواز، نعم هو خيرة الفاضل في القواعد و المختلف للأصل، و لقوله تعالى (1)وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ و للحرج و سقوط أكثر الواجبات بظن الهلاك و لكن الأول أظهر لقوله تعالى (2)«إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا» و

النصوص (3)المستفيضة أو المتواترة الدالة على حرمة الفرار من الزحف و أنه من


1- 1 سورة البقرة- الآية 191.
2- 2 سورة الأنفال- الآية 47.
3- 3 الوسائل- الباب 29 من أبواب جهاد العدو و الباب 46 من جهاد النفس.

ج 21، ص: 62

الكبائر، و بناء الجهاد على التغرير بالنفس الذي هو في الحقيقة حياة أبدية عند اللَّه تعالى لقوله تعالى (1)«وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» و لأن إيجاب الثبات للضعف مظنة العطب و الهلاك، خصوصا إذا كان العدو مع ذلك أشد شجاعة و أقوى قلبا، و الإخبار من اللَّه تعالى بالغلبة إن كان المراد حقيقة رافع لمظنة العطب حينئذ على كل حال فلا موضوع للمسألة.

و من ذلك يعلم ما في دعوى أن التعارض بين الأدلة من وجه، و لا ترجيح فيكون مخيرا، مضافا إلى ما سمعته من دعوى الأكثرية و إلى ظهور القول المزبور في نفي الوجوب لا الجواز الذي مقتضاه ترجيح أدلة الجهاد على تلك العمومات، و يلزمه وجوب الثبات حينئذ لأدلته، اللَّهمّ إلا أن يكون وجه القول بالجواز دعوى تعارض الأدلة و لا ترجيح فيكون مخيرا، و فيه ما عرفت من وضوح الترجيح بما سمعت، و من الغريب دعوى انسياق غير الفرض من العمومات مع فرض كون العدو على الضعف، و أغرب منه الاستدلال بقاعدة الحرج و أنها من القواعد العقلية التي لا تقبل التخصيص، مع أنك قد عرفت سابقا وجوب ثبات العشرة للمائة، و أي حرج في الجهاد حتى يقتل و تحصل له الحياة الأبدية و السعادة السرمدية،

و قد وقع من سيد الشهداء روحي له الفداء في كربلاء الثبات بنيف و سبعين رجلا لثلاثين ألفا الذي هو أقل ما روي (2)في نصوصنا، نعم لا بأس بالفرار للنساء كما في التذكرة، قال:

لأنهن لسن من أهل فرض الجهاد، مع أنه قد يشكل في القسم الثاني من الجهاد بناء على وجوب الثبات فيه على حسب جهاد الدعوة، أما


1- 1 سورة آل عمران- الآية 163.
2- 2 البحار ج 45 ص 4 المطبوعة عام 1385.

ج 21، ص: 63

الصبيان و المجانين فلا تكليف عليهم، و كذا السكران إلا إذا كان عاصيا بسكره في وجه، و اللَّه العالم.

و إن كان المسلمون أقل من ذلك لم يجب الثبات كما صرح به غير واحد، للأصل بعد انتفاء شرط الوجوب المستفاد من الكتاب و السنة و الفتاوى المقتضي لانتفاء المشروط، نعم قد يشكل ذلك في نحو زيادة الواحد و الاثنين مثلا مع الضعف و الجبن في الكفار، و الشجاعة و القوة في المسلمين بإطلاق أدلة الثبات بعد انسياق اعتبار كون العدو على الضعف فأقل إلى ما هو الغالب من غير الفرض، و كذا الكلام في صورة العكس، و من هنا قال الفاضل: و في جواز فرار مائة بطل من المسلمين من مائتين و واحد من ضعفاء الكفار إشكال، من مراعاة العدد و من المقاومة لو ثبتوا، و العدد مراعى مع تقارب الأوصاف، و كذا الإشكال في عكسه، و هو فرار مائة من ضعفاء المسلمين من مائة و تسع و تسعين من أبطال الكفار، فإن راعينا صورة العدد لم

يجز، و إلا جاز بل في القواعد الأقرب المنع في الأول، لأن العدد معتبر مع تقارب الأوصاف، لكن قد يقال بخروج ذلك عن محل البحث الذي هو مجرد زيادة العدو بالعدد من غير ملاحظة حيثية أخرى، و لذا قال المصنف:

و لو غلب على الظن السلامة استحب أي الثبات و إن زاد الكفار على الضعف، لما فيه من إظهار القوة و زيادة العزم، خصوصا بعد ما يستفاد من قوله تعالى (1)«كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» و غيره من الترغيب فيه و في إدراك الشهادة و عدم الاكتراث بزيادة العدد، لأن النصر من عند اللَّه.

و إذا غلب العطب قيل يجب الانصراف مع السلامة به،


1- 1 سورة البقرة- الآية 250.

ج 21، ص: 64

لوجوب حفظ النفس و حرمة التغرير بها و قيل و لكن لم نعرف القائل به قبل المصنف يستحب الانصراف و هو أشبه عند المصنف بأصول المذهب و قواعده التي منها أصالة البراءة من الوجوب في نحو الفرض بعد ما يستفاد من الكتاب و السنة من الترغيب في الشهادة، و من كون النصر بإذن اللَّه و غير ذلك مما يكون أقل مراتبه الجواز، بل لعل المتجه الندب، ضرورة ظهور الأدلة في رجحانه، بل لا أعرف دليلا على جوازه خاليا عن الرجحان، بل يمكن القطع بعدمه، بل لم أعرف من حكاه قولا غير المصنف، و الذي حكاه في المنتهى عدم وجوب

الانصراف لأن لهم غرضا في الشهادة، و استحسنه، كما أن المحكي من عبارة المبسوط الجواز لا الندب فمتى جاز كان واجبا أو مستحبا، بل يمكن إرادة القائل المزبور أفضلية الانصراف منه باعتبار حصول البقاء الذي هو سبب لكثير من العبادات و الطاعات و المبرات لا الجواز بالمعنى الأخص الذي هو بمعنى الإباحة الصرفة من دون ترتيب شي ء من الثواب عليه مع فرض بذل نفسه في الدين، فإنه يمكن القطع بعدمه، كما أنه يمكن القطع بعدم الوجوب بعد ملاحظة ما ورد في الكتاب و السنة من الترغيب في الشهادة و الحث على الثبات و نحو ذلك مما يكفي بعضه في رفع الوجوب، و به يفترق حال الجهاد حينئذ عن غيره ضرورة وجوب الانصراف في الفرض في غير الجهاد بخلافه، و اللَّه العالم.

و لو انفرد اثنان بواحد من المسلمين لم يجب الثبات كما في المبسوط و المختلف و القواعد و التحرير و التنقيح للأصل بعد ظهور الأدلة في وجوب الثبات للضعف مع الكثرة كما يشعر به قوله تعالى(1)


1- 1 سورة الأنفال- الآية 67.

ج 21، ص: 65

«فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ- إلى قوله- أَلْفٌ » إلى آخره، بل ربما فسر الزحف في قوله تعالى (1)«إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً» بذلك، ففي كنز العرفان «قيل المراد بالزحف الجيش الذي

يرى لكثرته كأنه يزحف» إلى آخره و قيل يجب و هو المروي فيما سمعته من خبر الحسن بن صالح و غيره، لكن يمكن كون المراد منه مع الجيش لا الآحاد، فالأقوى الأول و إن كان الأحوط الثاني، إذ الظاهر عدم الخلاف في الجواز، بل و الإشكال مع ظن السلامة، أما مع ظن العطب فيحتمل وجوب الهرب مع فرض السلامة فيه لنحو ما عرفته سابقا، و يحتمل العدم، و لعله الأقوى، لما سمعته، هذا كله في هذين القولين، و أما التفصيل بين ما لو طلباه فيجوز له الفرار و بين ما لو طلبهما فلا يجوز، فلم أعرف له مستندا بل و لا قائلا و إن حكاه في التذكرة بلفظ القيل، و اللَّه العالم.

و يجوز محاربة العدو بالحصار و منع السابلة دخولا و خروجا و بالمناجيق و التفنك و القنابر و الأطواب و البارود و رمي الحيات القاتلة و العقارب و غيرها من الحيوانات و هدم الحصون و البيوت و قطع الأشجار و القذف بالنار و إرسال الماء لينصرفوا به و منعه عليهم ليموتوا عطشا و كلما يرجى به الفتح بلا خلاف أجده فيه، للأصل و إطلاق الأمر بقتلهم، و المروي (2)عن النبي صلى اللَّه عليه و آله أنه نصب على أهل الطائف منجنيقا و كان فيهم نساء و صبيان و خرب حصون بني النظير و خيبر و هدم دورهم، بل في الدروس و الروضة أنه صلى اللَّه عليه و آله حرق بني النظير، و في خبر حفص بن غياث (3)«كتب


1- 1 سورة الأنفال الآية 15.
2- 2 البحار ج 21 ص 168 الطبع الحديث.
3- 3 الوسائل- الباب 16 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 و التهذيب ج 6 ص 142 الرقم 242.

ج 21، ص: 66

بعض إخواني إلي أن أسأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن مدينة من مدائن أهل الحرب هل يجوز أن يرسل عليهم الماء أو يحرقون بالنار أو يرمون بالمنجنيق حتى يقتلوا و فيهم النساء و الصبيان و الشيخ و الأسارى من المسلمين و التجار فقال: تفعل ذلك و لا تمسك عنهم لهؤلاء، و لا دية عليهم و لا كفارة»

مضافا إلى قوله تعالى (1)«ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها» و قوله تعالى (2)«وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» و قوله تعالى (3)«وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» و أنهم شر الدواب و أشدها أذية، و غير ذلك، فما عساه يظهر من الشهيد في الدروس من حرمة قتلهم بمنع الماء مع الاختيار في غير محله، و كذا ما في الروضة من اعتبار توقف الفتح في جواز هدم الحصون و المنجنيق و قطع الشجر.

نعم يكره قطع الأشجار و رمي النار و تسليط المياه إلا مع الضرورة ففي

خبر جميل و محمد بن حمران (4)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إذا بعث سرية دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه و أجلس أصحابه بين يديه، ثم قال:

سيروا بسم اللَّه و باللَّه و في سبيل اللَّه و على ملة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، لا تغدروا و لا تغلوا و لا تمثلوا و لا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها، و لا تقتلوا شيخا فانيا و لا صبيا و لا امرأة»

و نحوه خبر الثمالي (5)عنه عليه السلام أيضا، و في ثالث و هو

خبر


1- 1 سورة الحشر- الآية 5.
2- 2 سورة الأنفال- الآية 62.
3- 3 سورة التوبة- الآية 5.
4- 4 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
5- 5 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 67

مسعدة بن صدقة(1)عنه عليه السلام أيضا «أن النبي صلى اللَّه عليه و آله كان إذا بعث أميرا له على سرية أمره بتقوى اللَّه تعالى في خاصة نفسه ثم في أصحابه عامة، ثم قال له: اغزوا بسم اللَّه و في سبيل اللَّه قاتلوا من كفر باللَّه، و لا تغدروا و لا تغلوا و لا تمثلوا، و لا تقتلوا وليدا و لا متبتلا في شاهق، و لا تحرقوا النخل، و لا تغرقوه بالماء، و لا تقطعوا شجرة مثمرة، و لا تحرقوا زرعا، لأنكم لا تدرون، لعلكم تحتاجون إليه، و لا تعقروا من البهائم مما يؤكل لحمه إلا ما لا بد لكم من أكله»

الحديث، و عن النبي (2)صلى اللَّه عليه و آله أنه قطع أشجار الطائف، لكن ليس في شي ء منها تعميم النهي عن النار و الماء كما عساه يظهر من إطلاق المصنف إلا أن يحمل على إرادة

ذلك بالنسبة إلى الأشجار، إلا أن الأمر سهل بعد كون الحكم الكراهة المحمول عليها لقصوره عن إفادة الحرمة من وجوه، و اللَّه العالم.

و يحرم إلقاء السم كما في النهاية و الغنية و السرائر و النافع و التبصرة و الإرشاد و الدروس و جامع المقاصد مع التقييد في كثير منها بما إذا لم يضطر إليه أو يتوقف الفتح عليه، ل

خبر السكوني (3)عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام «أن النبي صلى اللَّه عليه و آله نهى أن يلقى السم في بلاد المشركين»

بل في السرائر نسبته إلى الأخبار و إن كنا لم نجد غير الخبر المزبور و قيل يكره كما في القواعد و التحرير و التذكرة و اللمعة و الروضة و غيرها، و هو المحكي عن المبسوط و الإسكافي، بل في المختلف نسبته إلى أصحابنا حملا للنهي في


1- 1 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
2- 2 البحار ج 21 ص 169 الطبع الحديث.
3- 3 الوسائل- الباب 16 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 68

الخبر المزبور عليها، لقصوره سندا عن إفادة الحرمة، و لعله لذا قال المصنف و هو أشبه و فيه أن السكوني مقبول الرواية، بل حكي الإجماع على العمل بأخباره، نعم قد يقال إنه ظاهر في النهي عن إلقائه في البلاد، لاستلزامه غالبا قتل الأطفال و النساء و الشيوخ و من فيها من المسلمين و نحوهم ممن يحرم قتلهم، أما إذا فرض اختصاص قتله

بالكفار الذين يجوز قتلهم بأنواع القتل فلا، بل قد يتوقف في الجواز في الأول و إن توقف الفتح عليه، لإطلاق الخبر المزبور، بل إن كان هو المراد من الضرورة في عبارة من قيد أمكن منعه لذلك أيضا و منه يعلم ما في قول المصنف فإن لم يمكن الفتح إلا به جاز بلا كراهة، ضرورة أن الخبر مطلق، فما عن ظاهر بعض من جوازه و إن أدي إلى قتل نفس محترمة و لم يتوقف الفتح عليه واضح الضعف لذلك و للمقدمة، كما هو واضح.

و لو تترسوا بالنساء و الصبيان منهم و نحوهم ممن لا يجوز قتله منهم كالمجانين كف عنهم مع إمكان التوصل إليهم بغير ذلك للمقدمة، و إلا كما أشار إليه المصنف بقوله إلا في حال التحام الحرب جاز و إن استلزم قتل الترس، خصوصا إذا خيف من الكف عنهم الغلبة، ترجيحا لما دل على الأمر بقتلهم على ما دل على حرمة قتل الترس بخبر حفص بن غياث (1)السابق و الشهرة أو عدم الخلاف و غير ذلك.

و كذا لو تترسوا بالأسارى من المسلمين و إن قتل الأسير إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك بل مقتضى إطلاق الخبر المزبور جوازه و إن لم يتوقف عليه، بل في التحرير لو تترس الكفار بنسائهم و صبيانهم فإن كانت الحرب ملتحمة جاز قتالهم، و لا يقصد قتل الصبي و لا المرأة،


1- 1 الوسائل- الباب 16 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 69

و إن لم تكن ملتحمة بل كان الكفار متحصنين بحصن أو من وراء خندق كافين عن القتال قال الشيخ: يجوز رميهم، و الأولى تجنبهم، و لكن ظاهره أولوية التجنب مع عدم التحام الحرب و إن توقف الفتح عليه، كما أن ظاهره الاكتفاء في جواز قتلهم بالتحام الحرب و إن تمكن من غيره، و منه ينقدح ذلك أيضا في عبارة المصنف بل و الفاضل في القواعد، قال: لو تترسوا بالنساء و الصبيان جاز رمي الترس في حال القتال، اللَّهمّ إلا أن يكون المراد و لو بقرينة قوله أخيرا «إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك» عدم التمكن في تلك الحال و هو حال قيام الحرب من غيره كما هو الغالب، و لذا قال في النافع: «لو تترسوا بالصبيان و المجانين و لم يمكن الفتح إلا بقتلهم جاز» و نحوه ما في التبصرة و الإرشاد بل و التذكرة قال: «لو تترس الكفار بنسائهم و صبيانهم فإن دعت الضرورة إلى الرمي بأن كانت الحرب ملتحمة و خيف لو تركوا لغلبوا جاز قتالهم، و يجوز قتل الترس، و إلا كف عنهم لأجل الترس، ل

قول الصادق (1)عليه السلام «و لا تمسك عنهم لهؤلاء»

و لأن ترك الترس يؤدي إلى تعطيل الجهاد، لئلا يتخذوا ذلك ذريعة إليه» و في الدروس «و يكف عن النساء إلا مع الضرورة، و كذا عن الصبيان و المجانين، و لو لم يمكن الفتح إلا بقتلهم

جاز» و كذا في المسالك، نعم أطلق في اللمعة و الروضة فقال:

«يجوز قتل الترس ممن لا يقتل».

و خلاصة الكلام أن قتل الكافر الحربي واجب، فمتى أمكن الوصول إليه من دون مقدمة محرمة فعل، و إلا تعارض خطاب الوجوب و الحرمة، فمع عدم الترجيح يتجه التخيير، و لعله المراد من الجواز في عبارة الأصحاب، بل ظاهر الخبر المزبور ترجيح الأول على وجه يبقى


1- 1 الوسائل- الباب 16 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 70

الوجوب، ل

قوله عليه السلام: «و لا تمسك عنهم لهؤلاء»

بل ربما يؤيده معلومية ترجيح الإسلام على مثل ذلك، و لذا رمى النبي صلى اللَّه عليه و آله الطائف بالمنجنيق و فيهم النساء و الصبيان، و أما احتمال ترجيح خطاب الحرمة في الفرض فلم أجده لأحد إلا ما سمعته من الفاضل في التحرير من أولوية التجنب التي سمعتها، و نحوه في التذكرة قال: «و إن لم تكن الضرورة داعية إلى قتلهم بأن كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم و لم تكن الحرب ملتئمة و كان المشركون في حصن متحصن أو كانوا من وراء خندق كافين عن القتال فالأقرب كراهة قتلهم، للنهي عن قتل النساء و الصبيان، و نحن في غنية عن قتلهم، و القول الثاني الشافعي المنع، و ليس بجيد، لأنه يجوز نصب المنجنيق و إن كان يصيبهم، فلو تترسوا بهم في القلعة كذلك، و لكن فيه ما لا يخفى، و التحقيق ما عرفت، و لا فرق في ذلك بين قسمي الجهاد و لا بين الترس المسلم و غيره ممن هو محترم الدم، فما في الإيضاح- من رمي الترس مطلقا إذا كان الجهاد دفعا للكفار القاصدين، و أما إذا كان للدعوة و لم يحتمل الحال تركهم رمي الترس غير المسلم، و أما الترس المسلم فلا يجوز رميه، لقوله تعالى (1)«وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ» الآية، و تبعه الكركي- لا يخلو من نظر، خصوصا بعد اشتمال الخبر المزبور على النساء و الصبيان و الأسارى و التجار من المسلمين، و ظهوره في القسم الثاني، و الآية ليست فيما نحن فيه، هذا، و قد صرح بعضهم باعتبار عدم القصد إلى قتل الترس، و لعل المراد عدم قصد قتله لعداوة و نحوها مما لا مدخل له في الجهاد، و أما قصد قتله مقدمة للفتح و غلبة الكفار و الاستيلاء عليهم فهو معنى جوازه، و اللَّه العالم.


1- 1 سورة الفتح- الآية 25.

ج 21، ص: 71

و على كل حال ف لا يلزم القاتل قود في الحال المزبور إجماعا بقسميه، و لخبر حفص (1)السابق المعتضد بالأصل و غيره، بل و لا دية عندنا كما صرح به الشيخ و الفاضل و الشهيدان و غيرهم، بل عن ظاهر المنتهى الإجماع عليه، للأصل بعد الإذن شرعا و خبر حفص السابق، و ظاهر تركها في قوله تعالى (2)«فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» بناء على مساواته للفرض باعتبار كون القصد فيهما قتل الكافر لا المؤمن، و إن كان

لا يخلو من بحث مؤيدا بأن إيجابها مقتض للتساهل في أمر الجهاد باعتبار خوف الرامي لاحتمال كون المرمي مسلما، اللَّهمّ إلا أن يقال بأن الوجوب على تقديره فهو في بيت المال نحو ما تسمعه في الكفارة، نعم هو فرع الدليل الذي قد عرفت انتفاءه، بل ظاهر الأدلة خلافه، و به يخص

قوله (3)عليه السلام «لا يبطل دم امرئ مسلم»

حتى بالنسبة إلى بيت المال كما هو مقتضى النفي في خبر حفص و الفتاوى، فما عن الشافعي من وجوبها لقوله تعالى (4)«وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» واضح الضعف، لما عرفت، مع أنه ليس من الخطأ قطعا، بل هو عمد مأذون فيه، فلا يندرج فيها.

و لكن تلزمه الكفارة كما صرح به الفاضل و الشهيدان و غيرهم، بل نفى الإشكال فيه ثانيهما كما عن غيره نفي الخلاف، و لعله كذلك و إن قال المصنف في النافع: «و في الكفارة قولان» بل ظاهره التردد كالتحرير، إلا أنا لم نتحققه، نعم نسبه في


1- 1 الوسائل- الباب 16 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
2- 2 سورة النساء- الآية 94.
3- 3 الوسائل- الباب 29 من أبواب القصاص في النفس الحديث 1.
4- 4 سورة النساء- الآية 94.

ج 21، ص: 72

التنقيح إلى الشيخ في النهاية باعتبار نفيه الدية فيها دونها لكنه كما ترى، و على تقديره فهو واضح الضعف بعد فحوى قوله تعالى «

فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» و عموم ما دل على وجوبها.

و لكن في بعض الأخبار و هو خبر حفص السابق لا دية عليهم و لا كفارة مؤيدا بأنها للذنب، و لا ذنب في الفرض، و بالأصل، إلا أنه- بعد معلومية عدم اعتبار الذنب فيها، و لذا وجبت في الخطأ الذي لا ذنب فيه، و انقطاع الأصل بما عرفت- غير جامع لشرائط الحجية، و قد أعرض عنه الأكثر أو الجميع، فلا يصلح معارضا لما دل على وجوبها، مع إمكان حمله على إرادة نفيها عن مال القاتل بناء على وجوبها في بيت المال كما صرح به في الروضة و المسالك لأنه من المصالح بل أهمها، خصوصا بعد ملاحظة خوف التخاذل عن الجهاد بوجوبها على القاتل خشية الغرامة، و لعله لا يخلو من قوة، و لكن ظاهر المصنف و الفاضل و الشهيد و المقداد وجوبها على القاتل، بل هو ظاهر الدليل من الآية و غيرها، و هل هي كفارة خطأ لظاهر الآية، و لأنه في الأصل غير قاصد للمسلم، و إنما قصده الكفار فلم يجعل عامدا و لأنه مأذون فيه شرعا، أو عمد نظرا إلى صورة الواقع، ضرورة كونه عامدا إلى قتله، و الآية إنما وردت فيمن قتل المسلم خطأ و لو لزعمه أنه كافر، و هو غير الفرض؟ وجهان، أحوطهما و أقواهما الثاني.

و لو تعمده الغازي مع إمكان التحرز لزمه القود و الكفارة بلا خلاف و لا إشكال للعموم و إن كانت الحرب قائمة، و لو كان خطأ فالدية على العاقلة و عليه الكفارة كما هو واضح، و اللَّه العالم.

ج 21، ص: 73

و لا يجوز قتل المجانين و لا الصبيان و لا النساء منهم و لو عاونهم بتشديد النون إلا مع الاضطرار بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، بل في المنتهى الإجماع عليه في النساء و الصبيان، بل و على قتل النساء مع الضرورة، مضافا إلى ما سمعته من خبري جميل (1)الثمالي (2)و غيرهما، بل في رواية

الجمهور عن أنس بن مالك (3)أن النبي صلى اللَّه عليه و آله قال: «انطلقوا بسم اللَّه و باللَّه و على ملة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، و لا تقتلوا شيخا فانيا و لا صغيرا و لا امرأة»

، كما أن فيها أيضا

عن ابن عباس (4)أن النبي صلى اللَّه عليه و آله مر بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال من قتل هذه؟

فقال رجل: أنا يا رسول اللَّه، قال: لم؟ قال: نازعتني قائم سيفي فسكت»

و في خبر حفص بن غياث (5)الذي رواه المشايخ الثلاثة في حديث أنه سأل أبا عبد اللَّه عليه السلام «عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن و رفعت عنهن؟ قال: فقال. لأن رسول اللَّه صلى اللَّه

عليه و آله نهى عن قتل النساء و الولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن، فإن قاتلن أيضا فأمسك عنها ما أمكنك و لم تخف خللا، فلما نهي عن قتلهن في دار الحرب كان ذلك في دار الإسلام أولى، و لو امتنعت أن تؤدي الجزية لم يمكن قتلها، فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها، و لو امتنع الرجال أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد و حلت دماؤهم


1- 1 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
2- 2 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
3- 3 سنن البيهقي- ج 9 ص 90 و كنز العمال ج 2 ص 274 الرقم 5871.
4- 4 مجمع الزوائد- ج 5 ص 316.
5- 5 الوسائل- الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 74

و قتلهم، لأن قتل الرجال مباح في دار الشرك، و كذا المقعد من أهل الذمة و الأعمى و الشيخ الفاني و المرأة و الولدان في أرض الحرب، فمن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية»

و نحوه خبر الزهري (1)عن علي بن الحسين عليه السلام المروي عن العلل ، و في

خبر السكوني (2)عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام «أن النبي صلى اللَّه عليه و آله قال: اقتلوا المشركين و استحيوا شيوخهم و صبيانهم»

على معنى استبقائهم و في خبر طلحة(3)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه و لا من المغلوب على عقله»

بناء على أن من لا جزية عليه لا يقتل كما عساه يشعر به الخبر الأول (4).

و المراد بالضرورة أن يتترس الكفار بهن أو يتوقف الفتح على قتلهن أو نحو ذلك، بل في المنتهى و عن التحرير لو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها

روى عكرمة(5)قال: «لما حاصر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقال: ها دونكم فارموا فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذلك منها»

و يجوز النظر إلى فرجها للرمي و إن كان لا يخلو من نظر، لعدم اندراج نحو ذلك في الضرورة و الخبر ليس من طرقنا، بل مقتضى إطلاق النهي في النصوص من طرقنا خلافه، نعم لو قاتلن جاز قتلهن، مع أنك قد سمعت ما في خبر حفص من الأمر بالإمساك عنهن ما أمكن مع ذلك، و لكن

في المنتهى


1- 1 الوسائل- الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
3- 3 الوسائل- الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
4- 4 الوسائل- الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
5- 5 سنن البيهقي ج 9 ص 82.

ج 21، ص: 75

أن النبي صلى اللَّه عليه و آله قتل يوم بني قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة(1)

و وقف على امرأة مقتولة فقال ما بالها قتلت و هي لا تقاتل(2)

و فيه إشعار بجواز قتلها إذا قاتلت.

و أولى من ذلك المراهقون إذا قاتلوا أودعت الضرورة من توقف الفتح و نحوه على قتلهم، أما مع عدم ذلك فلا يجوز قتلهم، لإطلاق النهي و كذا لا يجوز قتل الشيخ الفاني الذي لا رأي له و لا قتال بلا خلاف أجده فيه، بل قد يظهر من التذكرة و المنتهى الإجماع عليه لإطلاق النهي عن قتله فيما سمعته من النصوص مؤيدا بكونه كالمرأة و الصبي، نعم لو كان ذا رأي و قتال قتل إجماعا محكيا في المنتهى و التذكرة إن لم يكن محصلا، لعموم الأدلة الذي لا يخصصه إطلاق النهي عن الشيخ المنزل على غير الفرض و لو للإجماع المزبور، بل في المنتهى دعواه أيضا على ذي الرأي دون القتال، قال. «لأن دريد بن الصمة قتل يوم خيبر و كان له مائة و خمسون سنة، و كان له معرفة بالحرب، و كان المشركون يحملونه معهم في قفص حديد ليعرفهم كيفية القتل، فقتله المسلمون و لم ينكر عليهم النبي صلى اللَّه عليه و آله» و نحوه في التذكرة، قال: «الشيخ من المحاربين إن كان ذا رأي و قتال جاز قتله إجماعا، و كذا إن كان فيه قتال و لا رأي له، أو كان له رأي و لا قتال فيه، لأن دريد بن الصمة قتل يوم خيبر، و الأصح يوم حنين» إلى آخره، و بذلك ظهر الحال في الأحوال الأربعة للشيخ التي يقتل في ثلاثة منها، لما عرفت من العموم و غيره دون الرابعة، خلافا لأحمد و المزني و أبي إسحاق و الشافعي في أحد قوليه فيقتل أيضا، للعموم


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 82 و فيها محمود بن مسلمة.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 91.

ج 21، ص: 76

المخصوص بما عرفت.

و يلحق به المقعد و الأعمى كما صرح به الفاضل، و سمعت ما في خبر حفص، لكن ينبغي تقييد ذلك أيضا بما إذا لم يكونا ذا رأي في الحرب و لم يقاتلا و لم تدع الضرورة إلى قتلهما كما إذا تترسوا بهما و نحو ذلك مما عرفته.

و ألحق الفاضل و الشهيدان أيضا الخنثى المشكل بالمرأة، و لعله لترجيح مراعاة مقدمة الحرام على مقدمة الواجب، ضرورة وجوب قتل المشركين و حرمة قتل النساء، أو لدعوى عدم اندراجها في أدلة الوجوب باعتبار كون الخطاب به للمذكرين، و على كل حال فلا ريب في التقييد بعدم الضرورة نحو ما سمعته في النساء، هذا.

و في القواعد يقتل الراهب و لكن في التحرير: الرهبان و أصحاب الصوامع يقتلون إن كان لهم رأي و قتال» و في التذكرة «الرهبان و أصحاب الصوامع يقتلون إن كان لهم قوة و رأي أو كانوا شبانا» و في المختلف «قال في المبسوط: أهل الصوامع و الرهبان يقتلون، و قال ابن الجنيد: لا يقتل منهم راهب و لا صاحب صومعة حيث قد حبس نفسه فيه إلا أن يكون أحد منهم قتل أحدا من المسلمين، و يكون منهم يخاف مع ترك قتلهم النكاية بالمسلمين، و الأقرب ما اختاره الشيخ، لعموم الأدلة» و في المنتهى «الرهبان و أصحاب الصوامع يقتلون إن كانوا شيوخا لهم قوة أو رأي، و كذا لو كانوا شبانا قتلوا كغيرهم إلا من كان شيخا فانيا للعموم، قال الشيخ: و قد روي أنهم لا يقتلون» قلت: قد سمعت النهي عن قتل المتبتل في شاهق في خبر مسعدة بن صدقة(1)إلا أنه غير جامع لشرائط الحجية، و من هنا يقوى العمل


1- 1 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 77

بالعموم، كقوله تعالى (1)«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» و نحوه الشامل للمريض أيضا الذي لم ييأس من برئه، فإنه حينئذ بمنزلة الجريح الذي يجهز عليه، نعم لو يئس من برئه ففي المنتهى و التحرير لم يقتل كالنساء، مع أنه لا يخلو من بحث للعموم، و كونهم شر الدواب، و في قتلهم تطهير للأرض منهم.

و من هنا يقتل الفلاح الذي لم يقاتل، و

قول عمر بن الخطاب (2)«اتقوا اللَّه في الفلاحين الذين لا يبغون لكم الحرب

ليس بحجة، خصوصا مع معارضة الكتاب و السنة كالمحكي عن الشافعي في أحد قوليه من عدم قتل أرباب الحرف و الصناعات و السوقة الذين لا يتعاطون القتال و لا يمارسون الأسلحة.

نعم في التذكرة لا يقتل رسول الكافر،

روى العامة عن ابن مسعود(3)«أن رجلين أتيا النبي صلى اللَّه عليه و آله رسولين لمسيلمة فقال لهما: اشهدا أني رسول اللَّه فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول اللَّه فقال النبي صلى اللَّه عليه و آله: لو كنت قاتلا رسولا لضربت عنقيكما»

و منه يستفاد الأمان للرسل الذي هو مقتضى المصلحة و السياسة، ضرورة مسيس الحاجة إلى ذلك كما هو واضح، و اللَّه العالم.

و لا يجوز التمثيل بهم بقطع الآناف و الآذان و نحو ذلك في حال الحرب بلا خلاف أجده فيه، لما سمعته من النهي عنه في


1- 1 سورة التوبة- الآية 5.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 91 و كنز العمال- ج 2 ص 296 الرقم 6266.
3- 3 مجمع الزوائد- ج 5 ص 314.

ج 21، ص: 78

النصوص (1)السابقة، مضافا إلى ما

عن علي عليه السلام (2)عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله أنه قال: «لا تجوز المثلة و لو بالكلب العقور»

و إلى مخافة استعمالهم إياها مع المسلمين، بل مقتضى النصوص و أكثر الفتاوى عدم الفرق في ذلك بين حال الحرب و غيره، و بين ما بعد الموت و قبله، فما عساه يشعر به التقييد بحال الحرب في المسالك و الرياض في غير محله، بل لا فرق أيضا بين ما لو فعلوا ذلك بالمسلمين و عدمه، و إن كان مقتضى قوله تعالى (3)«وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ» الجواز لكن إطلاق النص و الفتاوى يقتضي عدمه، نعم في القواعد و التذكرة يكره نقل رءوس الكفار إلا مع

نكاية الكفار به أي إذ لا لهم، و زاد في الثاني ما لو أريد معرفة المسلمين بموته، فإن أبا جهل لما قتل حمل رأسه، و إن لم يكن كذلك كان مكروها، فإنه لم ينقل إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله رأس كافر قط، قلت: لعل ذلك ليس من التمثيل أو هو مستثنى، لكن يتوقف على الدليل، و اللَّه العالم.

و كذا لا يجوز الغدر بهم بأن يقتلوا بعد الأمان مثلا، قال في مجمع البحرين: «الغدر ترك الوفاء و نقض العهد» بلا خلاف أجده فيه، للنهي عنه أيضا في النصوص (4)السابقة، مضافا إلى قبحه في نفسه و تنفير الناس عن الإسلام،

قال


1- 1 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو.
2- 2 الوسائل- الباب 62 من أبواب القصاص في النفس الحديث 6 و الاختصاص للمفيد ص 150.
3- 3 سورة البقرة- الآية 190.
4- 4 الوسائل- الباب 15 و 21 من أبواب جهاد العدو.

ج 21، ص: 79

أمير المؤمنين عليه السلام في خبر الأصبغ بن نباتة(1)في أثناء خطبة له «لو لا كراهة الغدر كنت من أدهى الناس، ألا إن لكل غدرة فجرة و لكل فجرة كفرة، ألا و إن الغدر و الفجور و الخيانة في النار»

و في خبر طلحة بن زيد(2)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام سأله «عن فرقتين من أهل الحرب لكل واحدة منهما ملك على حدة اقتتلوا ثم اصطلحوا ثم إن أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزوا تلك المدينة، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: لا

ينبغي للمسلمين أن يغدروا و لا يأمروا بالغدر، و لا يقاتلوا مع الذين غدروا، و لكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم، و لا يجوز عليهم ما عاهدوا عليه الكفار»

نعم تجوز الخدعة في الحرب كما صرح به الفاضل في جملة من كتبه، بل في التذكرة و المنتهى دعوى الإجماع، قال: تجوز المخادعة في الحرب و أن يخدع المبارز قرينه ليتوصل بذلك إلى قتله إجماعا، ثم قال: و

روى العامة «أن عمرو بن عبد ود بارز عليا عليه السلام فقال: ما أحب ذلك يا ابن أخي، فقال علي عليه السلام لكني أحب أن أقتلك فغضب عمرو فأقبل إليه فقال علي عليه السلام: ما برزت لأقاتل اثنين فالتفت عمرو فوثب علي عليه السلام فضربه، فقال عمرو خدعتني، فقال عليه السلام: الحرب خدعة»

و في

خبر إسحاق بن عمار(3)عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «أن عليا عليه السلام كان يقول لأن تخطفني الطير أحب إلي من أن أقول على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله ما لم يقل، سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله يوم الخندق


1- 1 الوسائل- الباب 21 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
2- 2 الوسائل- الباب 21 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب 53 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 80

يقول: الحرب خدعة، و يقول تكلموا بما أردتم»

و قال الصدوق من ألفاظ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله الحرب خدعة،

و في

خبر أبي البختري (1)المروي عن قرب الإسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم السلام أنه قال: «الحرب خدعة، و إذا حدثتكم عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله فو اللَّه لأن أخر من السماء أو تخطفني الطير أحب إلي من أن أكذب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله بلغه أن بني قريظة بعثوا إلى أبي سفيان إذا التقيتم أنتم و محمد صلى اللَّه عليه و آله أمددناكم و أعناكم، فقام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله خطيبا فقال: إن بني قريظة بعثوا إلينا إنا إذا التقينا نحن و أبو سفيان أمدونا و أعانونا فبلغ ذلك أبا سفيان، فقال غدرت يهود فارتحل عنهم»

و قال عدي بن حاتم (2)«إن عليا عليه السلام قال يوم التقى هو و معاوية بصفين فرفع بها صوته يسمع أصحابه: و اللَّه لأقتلن معاوية و أصحابه، ثم قال في آخر قوله إن شاء اللَّه و خفض بها صوته و كنت منه قريبا فقلت يا أمير المؤمنين عليه السلام إنك حلفت على ما قلت، ثم استثنيت فما أردت بذلك؟ فقال: إن الحرب خدعة و أنا عند المؤمنين غير كذوب، فأردت أن أحرض أصحابي عليهم كي لا يفشلوا و لكي يطمعوا فيهم، فافهم فإنك تنتفع بها بعد اليوم إن شاء اللَّه، و اعلم أن اللَّه عز و جل (3)قال لموسى عليه السلام حيث أرسله إلى فرعون

فأتياه «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى »


1- 1 الوسائل- الباب 53 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
2- 2 الوسائل- الباب 53 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
3- 3 سورة طه- الآية 46.

ج 21، ص: 81

و قد علم أنه لا يتذكر و لا يخشى و لكن ليكون أحرض لموسى عليه السلام على الذهاب».

و كذا يحرم الغلول منهم على ما صرح به في النهاية و النافع و القواعد و الإرشاد و التحرير و المنتهى و التذكرة و المسالك و غيرها على ما حكي عن بعضها للنهي عنه في النصوص (1)السابقة، و فسره في المحكي عن جامع المقاصد بالسرقة من أموالهم، و لكن فيه أنه مناف لما هو المعلوم في غير المقام من كون مال الحربي فيئا للمسلم، فله التوصل إليه بكل طريق، اللَّهمّ إلا أن يكون إجماعا، أو يكون المراد السرقة منهم بعد الأمان و نحوه مما يكون به محترم المال مع كفره، أو يراد به النهي عن السرقة من الغنيمة، بل قيل إنه أكثر ما يستعمل في ذلك، بل يمكن حمل ما يقبل ذلك من عبارات الأصحاب عليه، و اللَّه العالم.

و يستحب أن يكون القتال بعد الزوال مع الاختيار كما في النهاية و الغنية و التذكرة و الدروس و غيرها لأن عنده تفتح أبواب السماء و تنزل الرحمة و النصر كما في

خبر يحيى بن أبي العلاء(2)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «كان علي عليه السلام لا يقاتل حتى

تزول الشمس، و يقول تفتح أبواب السماء و تقبل الرحمة و ينزل النصر و يقول: هو أقرب إلى الليل، و أجدر أن يقل القتل، و يرجع الطلب و يفلت المنهزم»

و في المروي (3)عن سيد الشهداء في طف كربلاء أنه ابتدأ بالقتال مع كفرة أهل الكوفة بعد الزوال، بل بعد صلاة الظهرين

كما صرح باستحباب كون القتال بعدهما غير واحد، و لعله لمخافة


1- 1 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو.
2- 2 الوسائل- الباب 17 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
3- 3 البحار ج 45 ص 21 المطبوعة عام 1385.

ج 21، ص: 82

الاشتغال عنهما.

و يكره الإغارة عليهم ليلا كما في الإرشاد و هو المراد من التبييت المصرح بكراهته في النهاية و النافع و القواعد و التحرير و التذكرة و المنتهى و الدروس و الروضة و غيرها، لأن المراد به كما في التنقيح و الروضة و غيرهما النزول عليهم ليلا، ل

خبر عباد بن صهيب (1)قال: «سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: ما بيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله عدوا قط ليلا»

و في رواية

الجمهور(2)عنه صلى اللَّه عليه و آله «كان إذا طرق العدو لم يغر حتى يصبح»

مضافا إلى ما في ذلك من قتل النساء و الأطفال و نحوهم ممن لا يجوز قتلهم، نعم لو دعت الحاجة إلى ذلك جاز بلا كراهة، و لعل منه ما رواه

الجمهور(3)عن النبي صلى اللَّه عليه و آله من أنه شن الغارة على بني المصطلق ليلا.

و كذا يكره القتال قبل الزوال إلا لحاجة كما صرح به غير واحد، و لعل المراد به خصوص ما قرب منه إلى الزوال مخافة ذهاب الصلاة، و لأنه المنساق منه لا مطلقا حتى الصبح الذي أقسم اللَّه تعالى شأنه (4)بالمغيرات فيه، و سمعت أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إذا طرق العدو ليلا لم يغر حتى يصبح.

و يكره أيضا أن يعرقب الدابة و إن وقفت به أو أشرف على القتل كما في النهاية و النافع و التذكرة و المنتهى و اللمعة و التنقيح و جامع المقاصد و المسالك و غيرها إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك


1- 1 الوسائل- الباب 17 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 79 و 80.
3- 3 ليس في الأخبار أنه ص شن الغارة عليهم ليلا بل الموجود أنه ص أغار عليهم و هم على الماء و في لفظ آخر « و هم غارون».
4- 4 سورة العاديات- الآية 3.

ج 21، ص: 83

كما فعله جعفر ذو الجناحين بموتة على ما صرح به غير واحد، و في

خبر السكوني (1)المروي في الكافي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:

«لما كان يوم موتة كان جعفر بن أبي طالب على فرس، فلما التقوا نزل عن فرسه فعرقبها بالسيف، فكان أول من عرقب في الإسلام»

و رواه في المنتهى (2)عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: «أول من عرقب الفرس في سبيل اللَّه جعفر بن أبي طالب ذو الجناحين، عرقب فرسه».

و لو تمكن من ذبحها كان أحسن كما صرح به أيضا غير واحد ل

خبر السكوني (3)على ما في المنتهى عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إذا حرن على أحدكم دابته يعني إذا قامت في أرض العدو ذبحها و لا يعرقبها»

و الموجود في

الكافي عن السكوني (4)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إذا حرنت على أحدكم دابته يعني أقامت في أرض العدو أو في سبيل اللَّه فليذبحها و لا يعرقبها»

و على كل حال فمن ذلك يعلم الوجه فيما ذكرناه، و من الغريب ما في المنتهى من دعوى نسخ الخبر الأول بالثاني.


1- 1 الوسائل- الباب 52 من أبواب أحكام الدواب الحديث 2 من كتاب الحج
2- 2 التهذيب ج 6 ص 170 الرقم 328.
3- 3 الوسائل- الباب 39 من أبواب الذبائح الحديث 1 من كتاب الصيد و الذباحة و التهذيب ج 6 ص 173 الرقم 337.
4- 4 الوسائل- الباب 52 من أبواب أحكام الدواب الحديث 1 مع اختلاف يسير، و الكافي ج 5 ص 49 الطبع الحديث.

ج 21، ص: 84

نعم كان مقتضى النهي التحريم لا الكراهة، و لعله لما في جامع المقاصد، قال: «و أما عدم التحريم فلأن الناس مسلطون على أموالهم فإن قيل يحرم تعذيب الدابة و عدم إطعامها و سقيها و تحميلها فوق الطاقة فكيف جازت العرقبة قلنا: حال الحرب مخالف لغيره، و إتلاف الدابة و إضعافها أمر مطلوب، لأن إبقاءها بحالها ربما أدى إلى استعانة الكفار بها» و إن كان هو كما ترى، و في التنقيح أنما قلنا بكراهته لأنه يئول إلى هلاكها، و نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله عن قتل الحيوان لغير أكله (1)و فيه أنه لا يدل على كراهة خصوص ذلك، فالعمدة ما عرفت و من الغريب إنكار بعض الأفاضل الدليل، و قال: ليس في النصوص إلا ما سمعته سابقا

(2)«و لا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلا ما لا بد لكم من أكله»

إلا أنه غير دال على خصوص ذلك، و لكن أمر الكراهة سهل يكفي فيها الفتاوى.

و كيف كان فالذي يدل على أصل الجواز

(3)عموم «الناس مسلطون على أموالهم»

و أنها مخلوقة للناس يفعلون بها كيف شاءوا و نحو ذلك، و فعل جعفر الذي لم ينكره النبي صلى اللَّه عليه و آله بل أعطي في تلك الشهادة جناحان يطير بهما في الجنة كيف يشاء، و المناقشة بكونه ظلما فيقبح يدفعها أن

الشارع بجوازه كشف عن عدم قبحه كالذبح و الإشعار و نحوهما مما يجوز شرعا، نعم قد يقال إن المنساق دابة المسلم أما دابة الكافر فلا كراهة في تعرقبها حال الحرب إضعافا لهم و مقدمة لقتل راكبها و غير ذلك كما صرح به الكركي و ثاني الشهيدين، بل


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 86.
2- 2 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
3- 3 البحار ج 2 ص 272 الطبع الحديث.

ج 21، ص: 85

هو أولى من قتل الصبيان، و قد عقر حنظلة بن الراهب (1)فرس أبي سفيان يوم أحد فرمت به فخلصه ابن مسعود، و لكن مع ذلك لو تمكن من ذبحها كان أولى حتى لو كان في غير حال الحرب، لما فيه من الإضرار بهم، بل لو لم يتمكن إلا من القتل غير الذبح أو العقر و نحوه و كان فيه إضرار لهم لم يبعد الجواز بلا كراهة كما هو مقتضى إطلاق بعض و إن كان لا يخلو من بحث، بناء على حرمته في نفسه أو كراهته من حيث احترام الدابة، و اللَّه العالم.

و تكره المبارزة بغير إذن الإمام عليه السلام كما في اللمعة و الدروس و الإرشاد و القواعد و التحرير و المختلف و التنقيح و الروضة و المسالك و محكي المبسوط و غيرها، و لعل المراد طلبها بدون إذنه لا الجواب إليها من الطالب لها بدون إذنه، ضرورة كون المستفاد من النصوص الأول دون الثاني، بل ربما ظهر منها خلافه ففي

خبر ابن القداح (2)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «دعا رجل بعض بني هاشم إلى البراز

فأبى أن يبارزه فقال له أمير المؤمنين عليه السلام ما منعك أن تبارزه؟ فقال: كان فارس العرب و خشيت أن يغلبني فقال له أمير المؤمنين عليه السلام فإنه بغي عليك، و لو بارزته لغلبته و لو بغي جبل على جبل لهد الباغي، و قال أبو عبد اللَّه عليه السلام:

إن الحسين بن علي عليهما السلام دعا رجلا إلى المبارزة فعلم به أمير المؤمنين عليه السلام فقال: لئن عدت إلى مثل هذا لأعاقبنك، و لأن دعاك أحد إلى مثلها فلم تجبه لأعاقبنك أ ما علمت أنه بغي»

و في نهج


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 87 و فيها أنه أخلصه ابن شعوب.
2- 2 الوسائل- الباب 31 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 86

البلاغة(1)قال أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام «لا تدعون إلى مبارزة، و إن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي باغ و الباغي مصروع»

و في

خبر عمرو بن جميع (2)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام سئل «عن المبارزة بين الصفين بغير إذن الإمام عليه السلام فقال: لا بأس و لكن لا يطلب إلا بإذن الإمام عليه السلام»

و لعله لذا قال الشيخ في النهاية لا بأس بالمبارزة بين الصفين في حال القتال، و لا

يجوز له أن يطلب المبارزة إلا بإذن إمام عليه السلام و نحوه عن ابن إدريس.

و إليه أشار المصنف بقوله و قيل: يحرم بل في المحكي عن أبي الصلاح أيضا، قال: «لا يجوز للمسلم أن يستبرز كافرا إلا بإذن سلطان الجهاد» و في المنتهى «و هل طلب المبارزة من دون إذنه حرام أو مكروه؟ كلاهما يلوحان من كلام الشيخ، و الذي تدل الأخبار عليه التحريم» و قال الكركي: «الأصح الكراهة، و يحرم طلبها لما ورد من النهي عنه و أنه بغي» و لكن ظاهره الكراهة في غير صورة الطلب، بل قيل إنه الظاهر من القائلين بجواز المبارزة بغير الإذن، و في الرياض «يدل على رجحان الاستئذان مضافا إلى النص و الوفاق الاعتبار و الآثار، لأن الإمام عليه السلام أعلم بفرسانه و فرسان المشركين و من يصلح للمبارزة و من لا يصلح، و ربما حصل ضرر بذلك، فينبغي أن يفوض النظر إليه ليكون أقرب إلى الظفر و أحفظ لقلوب المسلمين» و عن المنتهى أنه أيده بما رواه الجمهور من أن عليا عليه السلام و حمزة و عبيدة استأذنوا النبي صلى اللَّه عليه و آله يوم بدر، قلت: قد


1- 1 الوسائل- الباب 31 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
2- 2 الوسائل- الباب 31 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 87

سمعت ما في النصوص السابقة من الأمر بها بعد الدعاء إليها من غير استئذان و النهي عن طلبها، إلا أنه غير صالح لتخصيص أدلة الجهاد و الأمر بالمقاتلة و نحوهما، لضعف السند و إعراض المشهور، و لذا حمل على الكراهة، نعم تحرم إذا منع منها بلا خلاف و لا إشكال، و على كل حال فلا إشكال في أصل مشروعيتها في الجملة، بل في الإيضاح دعوى إجماع الأمة على ذلك، و في المنتهى المبارزة مشروعة غير مكروهة في قول عامة أهل العلم إلا الحسن البصري فإنه لم يعرفها و كرهها، و لا ريب في فساده، لما عرفت و لما رواه الجمهور(1)و غيرهم من أن عليا عليه السلام بارز يوم خيبر مرحبا فقتله، و بارز عمرو بن عبد ود فقتله، و بارز هو و حمزة و عبيدة بن الحارث يوم بدر بإذن النبي صلى اللَّه عليه و آله، و فيما رواه الجمهور(2)أيضا أن بشر بن علقمة بارز أسوارا فقتله فبلغ سلبه اثنى عشر ألفا، و لم يزل أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله تقع منهم المبارزة، و أنه كان أبو ذر يقسم أن قوله تعالى (3)«هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا» نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر، و هم حمزة و علي عليه السلام و عبيدة(4)، و أن أبا قتادة قال:

بارزت رجلا يوم خيبر فقتلته (5)إلى غير ذلك، بل يمكن دعوى كونه من الضروري.


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 131 و 132 و البحار ج 21 ص 1 إلى ص 40 و ج 20 ص 226 و ج 19 ص 253.
2- 2 سنن البيهقي ج 6 ص 311.
3- 3 سورة الحج- الآية 20.
4- 4 سنن البيهقي ج 9 ص 94.
5- 5 سنن الدارمي ج 2 ص 229.

ج 21، ص: 88

و كذا يستحب المبارزة كفاية أو عينا إذا ندب إليها الإمام عليه السلام من دون أمر جازم و تجب كفاية أو عينا إذا ألزم بها بلا خلاف في شي ء من ذلك و لا إشكال بعد معلومية

وجوب الطاعة له، بل في المنتهى «لو خرج علج يطلب البراز استحب لمن فيه قوة و يعلم من نفسه الطاقة له مبارزته بإذن الإمام عليه السلام، و يستحب للإمام عليه السلام أن يأذن له- إلى أن قال- إذا ثبت هذا فالمبارزة تنقسم أقساما أربعة: واجبة و مستحبة و مكروهة و مباحة، فالواجبة إذا ألزم الإمام عليه السلام بها، و المستحبة أن يخرج المشرك فيطلب المبارزة، فيستحب لذي القوة من المسلمين الخروج إليه، و المكروهة أن يخرج الضعيف من المسلمين الذي لا يعلم من نفسه المقاومة، فيكره له المبارزة لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا و المباحة أن يخرج ابتداء فيبارز، لا يقال: إن الضعيف قد جوز له الدخول في القتال من غير كراهة فكيف كره له المبارزة لأنا نقول الفرق بينهما ظاهر، فإن المسلم هنا يطلب الشهادة و لا نترقب منه الغلبة بخلاف المبارزة فإنه يطلب منه الظفر و الغلبة، فإذا قتل كان ذلك كسرا في المسلمين» و في القواعد «لو طلبها مشرك استحب الخروج إليه للقوي الواثق من نفسه بالنهوض لكن بإذن الإمام عليه السلام فيستحب له أن يستأذنه، و يستحب للإمام عليه السلام أن يأذن له، فتجي ء فيه الأحكام الأربعة» قلت: قد يظهر من النصوص السابقة عدم اشتراط إذن الإمام عليه السلام في الخروج إلى من طلبها، لأنه باغ، كما أن المتجه كون أقسامها خمسة كما في التحرير فإنها تحرم كما عرفت إذا منع الإمام منها، و مع طلبها ابتداء عند من عرفت، بل ظاهره

ج 21، ص: 89

هو أيضا التحريم في الأخير كما سمعت، و أيضا قد يقال ظاهر النصوص السابقة عدم الكراهة في الجواب إليها مع طلب المشرك لها و إن كان المسلم ضعيفا، لأنه باغ كما سمعت، فالأولى جعل المكروه طلبها بناء على المختار، كما أن المباحة ما ذكره مع عدم الطلب من كل منهما، لكن في القواعد «تحرم أي المبارزة على الضعيف على إشكال قيل من قوله تعالى(1) «وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ» و من عموم الخطاب بالقتال» و لا يخفى عليك ما في الأول من منع كونه إلقاء بل هو شهادة و عن جامع المقاصد أن الأولى الترك، ثم قال: «و إن قيل هل الإشكال مع الإذن أو بدونه؟ الأول مشكل، لأنه مع الإذن كيف يحرم أو يكره، و هل يأذن الإمام في الحرام، قلنا: يحتمل أن يأذن الإمام عليه السلام و لا يعلم حال المستأذن، فيكون التحريم أو الكراهة بناء على أن المبارزة من دون إذن مكروهة» و هو كما ترى لا حاصل له يعتد به، و اللَّه العالم.

[فرعان ]
[الأول المشرك إذا طلب المبارزة و لم يشترط جاز معونة قرنه ]

الأول المشرك إذا طلب المبارزة و لم يشترط عدم الإعانة جاز للمسلمين معونة قرنه المسلم كما في القواعد و التحرير و المختلف، لعموم أدلة قتل المشرك حيث وجد، و إليه يرجع ما في الدروس لو نكل المبارز عن قرنه جازت الإعانة إلا مع شرط عدمها و أبطل ابن الجنيد شرط عدم المعاونة، و عن ابن الجنيد أنه قال: إذا خرج جماعة إلى جماعة و لم يقع بينهم شرط على أن كل واحد واحد يعين بعضا كان لبعضهم إعانة بعض على صاحبه قبل الفراغ من صاحبه، و بالجملة لا إشكال في الحكم المزبور إلا إذا كانت عادة تقوم مقام الشرط كما أومأ إليه في المنتهى في نظير المسألة، قال: «لو خرج المشرك طالبا للبراز جاز


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 94.

ج 21، ص: 90

لكل أحد رميه و قتله، لأنه مشرك لا أمان له و لا عهد له إلا أن تكون العادة جارية بينهم أن من خرج بطلب المبارزة لا يتعرض له، فيجري ذلك مجرى الشرط» إلى آخره، و لأنه كالغدر فإن شرط أن لا يقاتله غيره وجب الوفاء له كما في القواعد و التحرير و المختلف بل لا أجد فيه خلافا إلا ما يحكى عن ابن الجنيد من أنه إن تشارطوا أن لا يعين أحد على أحد كان هذا الشرط باطلا، لأن اللَّه تعالى ألزم المؤمنين بالدفع عن المؤمنين ممن يريد البغي عليهم، و

قال النبي صلى اللَّه عليه و آله (1): «المؤمنون يد على من سواهم»

و فيه أن ذلك مخصوص بغير صورة الشرط في الفرض الذي هو كالأمان للكافر على هذا الوجه ف لا يجوز نقضه.

نعم إن فر المسلم فطلبه الحربي جاز دفعه عنه كما في القواعد و التحرير و المختلف و المنتهى و غيرها، لانقضاء القتال المشروط فيه الأمان ما دام القتال، و لو شرط المشرك أن لا يقاتل حتى يرجع إلى صفه ففي المنتهى «وجب الوفاء له إلا أن يترك المسلم قتاله أو يثخنه بالجراح، فيرجع فيتبعه ليقتله أو يخشى عليه منه فيمنع و يدفع عن المسلم، و يقاتل إن امتنع من الكف عنه، لأنه نقض الشرط و أبطل أمانه» قلت: و هو كذلك، أما لو كان الشرط على هذا الوجه أيضا فقد يقال إن المتجه الوفاء له أيضا، قال في التحرير: «لو انهزم تاركا للقتال أو مثخنا بالجراح جاز قتال المشرك إلا أن يشترط ألا يقاتل حتى يرجع إلى فئته، فيجب الوفاء له إلا أن يترك المسلم أو يثخنه بالجراح فيتبعه ليقتله أو يخشى عليه منه فيمنع و يدفع عن المسلم، فإن امتنع قوتل، و لو أعان المشركون صاحبهم كان على المسلمين إعانة


1- 1 كنز العمال ج 5 ص 267 الرقم 5333.

ج 21، ص: 91

صاحبهم، و يقاتلون من أعان عليه» بل في المنتهى و التحرير «و لا يقاتلونه لأنه ليس النقض من جهته، و لو أثخن المسلم بالجراح و

لم يرجع لم تجز معاونته مع فرض الشرط، أما إذا ترك القتال و رجع جاز دفعه عنه» و لعل ذلك هو مراد الأوزاعي فيما حكي عنه من عدم جواز معاونة المسلم مع إثخانه بالجراح، لأن المبارزة هكذا مقتضاها، و لكن لو حجز بينهما و خلي سبيل العلج جاز، و ما

في رواية الجمهور(1)من أن عليا عليه السلام و حمزة أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شيبة بن ربيعة حين أثخن عبيدة بالجراح قضية في واقعة لم يحك فيها الشرط.

و كيف كان ف لو فر المسلم و لم يطلبه الحربي لم تجز محاربته لأنه لم ينقض شرطا و قيل و القائل بعض علمائنا على ما في المختلف بل قال: هو الظاهر من كلام الشيخ يجوز ما لم يشترط الأمان حتى يعود إلى فئته و فيه أن مقتضى المبارزة المفروض فيها شرط عدم المقاتلة من غير المبارزة ذلك، فيجب الوفاء بها

[الثاني لو شرط أن لا يقابله غير قرنه فاستنجد أصحابه فقد نقض أمانه ]

الثاني لو شرط أن لا يقابله غير قرنه فاستنجد أصحابه فقد نقض أمانه، و إن تبرعوا فمنعهم فهو في عهدة شرطه، و إن لم يمنعهم جاز قتاله معهم كما في القواعد لأن المفروض كون ذلك منهم باستنجاده، أما لو فرض عدمه و كان ذلك من أصحابه لأنفسهم فالمتجه قتالهم دونه، و في التحرير فإن كان قد شرط أن لا يقاتله غير مبارزه وجب، فإن استنجد أصحابه فأعانوه فقد نقض و يقتل معهم، و لو منعهم

فلم يمتنعوا فأمانه باق، و يقاتل أصحابه، و لو سكت عن نهيهم عن المعاونة نقض أمانه، و لو استنجد جاز قتاله مطلقا، و لعله يريد ما ذكرناه، و إلا كان لا يخلو من نظر في الجملة، و المراد بالوفاء بالشرط


1- 1 كنز العمال ج 5 ص 267 الرقم 5333.

ج 21، ص: 92

هنا ما يرجع خلافه إلى القدر المنهي عنه كما هو واضح، و اللَّه العالم.

[الطرف الثالث في الذمام ]
اشاره

الطرف الثالث في الذمام و الأمان، و في الروضة و هو الكلام و في حكمه الدال على سلامة الكافر نفسا و ما لا إجابة لسؤاله ذلك، و فيه أن الظاهر عدم اعتبار السؤال فيه، و لا كونه على النفس و المال بل هو على حسبما يقع فيهما أو في أحدهما أو في غير ذلك، و لعله لا يريد اختصاصه بما ذكره، و على كل حال فلا خلاف في مشروعيته بيننا بل و بين المسلمين كما في المنتهى بل الإجماع بقسميه عليه، قال اللَّه تعالى (1)«وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ»

و قال السكوني (2)«قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام ما معنى قول النبي صلى اللَّه عليه و آله يسعى بذمتهم أدناهم قال: لو أن جيشا من المسلمين حاصروا قوما من المشركين فأشرف رجل فقال: أعطوني حتى ألقى صاحبكم و أناظره فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به»

و خبر حبة العرني (3)قال أمير المؤمنين عليه السلام: «من ائتمن رجلا على دمه ثم خاس به فإني من القاتل بري ء و إن كان المقتول في النار»

خاس أي نكث بالعهد، و في

خبر مسعدة بن صدقة(4)أيضا عنه عليه السلام «أن عليا عليه السلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون، و قال: هو من المؤمنين»

و خبر عبد اللَّه بن سليمان (5)«سمعت أبا جعفر صلوات اللَّه عليه يقول: ما من رجل أمن رجلا على ذمته ثم قتله إلا جاء يوم القيامة يحمل لواء الغدر».


1- 1 سورة التوبة- الآية 6.
2- 2 الوسائل- الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
4- 4 الوسائل- الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
5- 5 الوسائل- الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 93

بل الظاهر لحوق شبهة الأمان به،

قال الصادق عليه السلام في خبر محمد بن الحكم (1)«لو أن قوما حاصروا مدينة فسألوهم الأمان فقالوا: لا فظنوا أنهم قالوا: نعم فنزلوا إليهم كانوا آمنين»

و في

خبر الثمالي (2)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله المتقدم سابقا «أيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام

اللَّه، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، و إن أبى فأبلغوه مأمنه، و استعينوا باللَّه عليه»

و نحوه

خبر محمد بن حمران و جميل بن دراج (3)كليهما عن أبي عبد اللَّه عليه السلام عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، و خبر جميل الآخر(4)عنه عليه السلام أيضا، إلا أنه قال «و أيما رجل من المسلمين نظر إلى رجل من المشركين من أقصى العسكر فأدناه فهو جاره»

و المراد بنظره إليه إجارته إياه، إلى غير ذلك من النصوص المروية عند العامة و الخاصة، لا سيما

النبوي (5)المشهور عند الطرفين «المؤمنون بعضهم أكفاء بعض تتكافأ دماؤهم و يسعى بذمتهم أدناهم»

فما عن أبي الصلاح «لا يجوز لأحد من المسلمين أن يجير كافرا و لا


1- 1 الوسائل- الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
2- 2 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 و الكافي ج 5 ص 27.
3- 3 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 و الكافي ج 5 ص 30.
4- 4 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 و الكافي ج 5 ص 30.
5- 5 الوسائل- الباب 31 من أبواب القصاص في النفس.

ج 21، ص: 94

يؤمن أهل حصن و لا قرية و لا مدينة و لا قبيلة إلا بإذن سلطان الجهاد فإن أجار بغير إذنه أثم و وجب إجارته و جواره و لم تجز ذمته و إن كان عبدا و أمسك عمن أجار من الكفار» واضح الفساد بعد ما عرفت، و لكن في

خبر طلحة بن زيد(1)عن أبي عبد اللَّه عن أبيه عليهما السلام قال: «قرأت في كتاب لعلي عليه السلام أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله كتب كتابا بين المهاجرين و الأنصار و من لحق بهم من أهل يثرب أن كل غازية غزت يعقب بعضها بعضا بالمعروف و القسط بين المسلمين فإنه لا يجاز حرمة إلا بإذن أهلها، و أن الجار كالنفس غير مضار و لا آثم و حرمة الجار على الجار كحرمة أمه و أبيه، و لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللَّه إلا على عدل و سواء»

و في المحكي عن نهاية ابن الأثير و منه كتابه بين قريش و الأنصار(2)«و إن سالم أحد من المؤمنين فلا يسالم مؤمن دون مؤمن» أي لا يصالح واحد دون أصحابه، و إنما يقع الصلح بينهم و بين عدوهم باجتماع ملئهم على ذلك، لكن ذلك كله كما ترى هو في غير ما نحن فيه.

و على كل حال فتمام الكلام فيه يحصل في البحث عن العاقد و العبارة و الوقت،

[أما العاقد]

أما العاقد فلا بد أن يكون بالغا عاقلا لسلب عبارة الصبي و المجنون و من في حكمه كالنائم و السكران و نحوهما في الإنشاء إلا ما خرج من وصية الأول، و لعدم دخول الأول أيضا منهما في لفظ الرجل و المسلم، بل و الثاني في الثاني حقيقة و إن دخلا في حكمه بالنسبة إلى بعض الأحكام مختارا إذ لا عبرة بأمان المكره إجماعا محكيا في المنتهى، بل و محصلا، و لظهور


1- 1 الوسائل- الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.
2- 2 نهاية ابن الأثير مادة« سلم» مع اختلاف في اللفظ.

ج 21، ص: 95

الأدلة في المختار، فالأصل عدم ترتب حكمه عليه مسلما كما هو ظاهر النصوص السابقة، فلا عبرة بأمان غيره و إن كان يقاتل مع المسلمين و في

دعائم الإسلام (1)عن أبي جعفر عليه السلام «و إن أمنهم ذمي أو مشرك كان مع المسلمين في عسكرهم فلا أمان له»

نعم يستوي في ذلك الحر و المملوك المأذون له بالجهاد و غيره و الذكر و الأنثى بلا خلاف كما اعترف به في المنتهى في الأخير، و نسبه فيه أيضا إلى علمائنا و أكثر أهل العلم في العبد، لعموم

قوله (ص)(2)«يسعى بذمتهم أدناهم»

و خصوص خبر مسعدة(3)في العبد عن أمير المؤمنين عليه السلام معللا له بأنه من المؤمنين، فما عن أبي حنيفة و أبي يوسف من اختصاص الأمان بالعبد المأذون في القتال واضح الفساد بعد ما عرفت من أنه لا حجر عليه بالنسبة إلى ذلك، و إلا لم يكن فرق بين المأذون في القتال و غيره، و ل

ما(4)في المنتهى «من أن أم هانئ قالت لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله يا رسول اللَّه إني أجرت أحمائي و أغلقت عليهم و إن ابن أمي أراد قتلهم فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله قد

أجرنا من أجرت يا أم هانئ، إنما يجير على المسلمين أدناهم»

و أجارت زينب بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله العاص بن الربيع فأمضاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله(5)

إلى غير ذلك.


1- 1 المستدرك- الباب 61 من أبواب جهاد العدو الحديث 21.
2- 2 الوسائل- الباب 31 من أبواب القصاص في النفس.
3- 3 الوسائل- الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
4- 4 المنتقى من أخبار المصطفى ج 2 ص 814.
5- 5 سنن البيهقي ج 9 ص 95.

ج 21، ص: 96

و على كل حال فقد ظهر لك مما ذكرناه أنه لو أذم المراهق أو المجنون أو المكره و نحوهم ممن عرفت لم ينعقد أمانه و لكن لو اغتر المشرك فزعم الصحة و جاء معه يعاد إلى مأمنه لما سمعته من فحوى خبر محمد بن حكيم (1)المؤيد بالاعتبار و كذا كل حربي دخل دار الإسلام لشبهة الأمان كأن يسمع لفظا فيعتقده أمانا أو يصحب رفقة فيتوهمها أمانا أو يشتمل عقد الأمان على شرط فاسد و لكن لا يعلم المشرك إفساده أو نحو ذلك بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المنتهى للفحوى المزبورة و غيرها، و لو ادعى الكافر الشبهة لم يقبل إذا لم يثبت ما يقتضيها، لعموم الأمر بالقتل و الأسر و غيره و يجوز أن يذم الواحد من المسلمين و إن كان أدناهم كالعبد و المرأة لآحاد من أهل الحرب عشرة فما دون كما صرح به جماعة لما سمعته سابقا و لا يجوز أن يذم عاما لسائر المشركين و لا لأهل إقليم (11) أو بلدان منه أو نحو ذلك، اقتصارا

فيما خالف عموم الأمر بقتل المشركين كتابا و سنة على المنساق من الأدلة السابقة و هل يذم لقرية أو حصن؟ قيل: نعم كما أجاز علي عليه السلام (2)ذمام الواحد لحصن من الحصون (12) لإطلاق

قوله صلى اللَّه عليه و آله «يسعى بذمتهم أدناهم»

و لخبر السكوني (3)المشتمل على قوم من المشركين و قيل لا (13) يجوز و هو الأشبه (14) عند المصنف، لأصالة عدم ترتب الأثر فيبقى عموم الأمر بقتل المشركين بحاله و فعل علي عليه السلام قضية في واقعة فلا يتعدى (15) منها إلى غيرها، و لكن فيه أن


1- 1 الوسائل- الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
2- 2 الوسائل- الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
3- 3 الوسائل- الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 97

الأصل مقطوع بالإطلاق السابق، بل العموم مخصوص به، و المحكي عن علي عليه السلام ما هو كالتعليل العام، و منه أخذ عمر بن الخطاب فيما رواه

الجمهور(1)عن فضل بن يزيد الرقاشي، قال: «جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيه، فحضرنا موضعا فرأينا أن نستفتحه اليوم و جعلنا نقبل و نروح، فبقي عبد منا فراطنهم و راطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة و شدها على سهم فرمى بها إليهم، فأخذوها و خرجوا فكتب

إلى عمر بن الخطاب بذلك فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم»

فالمتجه إلحاق القرية الصغيرة و القافلة القليلة بالآحاد كما صرح به في المنتهى و حاشية الكركي و غيرهما و الإمام عليه السلام يذم لأهل الحرب عموما و خصوصا على حسب ما يراه من المصلحة بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المنتهى، لأن ولايته عامة، و الأمر موكول إليه في ذلك و نحوه و كذا من نصبه الإمام عليه السلام للنظر في جهة يذم لأهلها عموما و خصوصا على حسب ما يراه من المصلحة أيضا، لأنه فرع من له ذلك، أما في غير ماله الولاية عليه فهو كغيره من المسلمين.

و لا خلاف في أنه يجب الوفاء بالذمام على حسب ما وقع، بل في المنتهى الإجماع عليه، لما سمعته من الأدلة السابقة التي منها أنه غدر مع عدم الوفاء ما لم يكن متضمنا لما يخالف الشرع فإنه لا يلزم عليه الوفاء به بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به الفاضل، بل و لا إشكال، لكن قد عرفت وجوب رده إلى مأمنه إذا كان لم يعرف الفساد، ضرورة كونه حينئذ ممن دخل بشبهة الأمان التي قد عرفت اقتضاءها ذلك، كما هو واضح، و لا فرق في وجوب الوفاء


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 94 و كنز العمال ج 2 ص 299 الرقم 6302 عن فضيل بن زيد.

ج 21، ص: 98

بين المذم و غيره و لو الإمام عليه السلام لما سمعته من إطلاق الأدلة، لكن في النهاية «لا يجوز لأحد أن يذم عليه أي الإمام عليه السلام بدون إذنه» و في نكت المصنف «أن المراد أن يذم الواحد لقومه، فهذا لا يمضي ذمامه على الإمام عليه السلام» و فيه أنه بناء على اعتبار الآحاد في الذمام و فرض خروج القوم عن الآحاد لكثرتهم لم يمض لا على الإمام عليه السلام و لا على غيره، و يمكن أن يكون الشيخ نظر إلى ما في

خبر مسعدة(1)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام عن النبي صلى اللَّه عليه و آله في آداب السرايا إلى أن قال: «و إذا حاصرتم أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم على ذمة اللَّه و ذمة رسوله فلا تنزلهم، و لكن أنزلهم على ذممكم و ذمم آبائكم و إخوانكم، فإنكم إن تخفروا ذممكم و ذمم آبائكم و إخوانكم كان أيسر عليكم يوم القيامة من أن تخفروا ذمة اللَّه و ذمة رسوله»

و لكن فيه أنه يمكن كون المراد عقد الصلح و نحوه مما لا يجوز إلا للإمام عليه السلام أو منصوبه لا ما نحن فيه على أنه قيل: المراد بالذمة هنا العهد، و الخفر النقض على وجه الاحتياط و الإعظام لعهد اللَّه تعالى خوفا من أن يتعرض لنقضه من لا يعرف حقه من جهلة الأعراب و سواد الجيش، فالنهي عنه نهي تنزيه، و على كل حال فالظاهر عدم الفرق في الذمام المزبور بين الإمام عليه السلام و غيره و قد سمعت ما وقع من أمير المؤمنين عليه السلام في إجازة ذم العبد الحصن، مضافا إلى إطلاق النصوص و الفتاوى، هذا.

و قد تقدم أنه لو أكره العاقد على الأمان لأسر و نحوه لم ينعقد لما عرفت من اعتبار الاختيار.

[أما العبارة]

و أما العبارة فهو أن يقول المسلم أمنتك أو أجرتك


1- 1 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 99

أو أنت في ذمة الإسلام قاصدا بذلك الإنشاء و كذا كل لفظ دل على هذا المعنى صريحا و إن كان الأولان هما المستفادان من الآية(1)و

قول النبي صلى اللَّه عليه و آله (2): «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، و من أغلق عليه بابه فهو آمن»

إلا أن الظاهر عدم الفرق بينهما و بين غيرهما مما يدل على ذلك صريحا من غير فرق بين اللفظ العربي و غيره، قال جعفر بن محمد عليهما السلام على

ما رواه في الدعائم (3)«الأمان جائز بأيّ لسان كان»

و في الدعائم (4)أيضا عن علي عليه السلام «إذا آوى أحد من المسلمين أو أشار بالأمان إلى أحد من المشركين فنزل على ذلك فهو أمان»

كل ذلك مضافا إلى عموم

قوله (ص):

«يسعى بذمتهم أدناهم»

و غيره.

بل و كذا يستفاد الحكم مما سمعت في كل كناية علم بها ذلك من قصد العاقد و لو كتابة، و لو قال: لا بأس عليك أو لا تخف أو نحو ذلك لم يكن ذماما ما لم ينضم إليه من قرائن حالية أو مقالية ما يدل على إنشاء قصد الأمان بذلك لكن في القواعد على إشكال، إذ مفهومه ذلك، و فيه منع كون مفهومه الإنشاء المزبور على الوجه المذكور، بل فيها أيضا أنه لا بد من قبول الحربي إما نطقا أو إشارة أو سكوتا، أما لو رد لم ينعقد، و فيه أيضا منع عدم الانعقاد مع القبول بعد الرد إذا كان المؤمن باقيا على أمانه، لإطلاق الأدلة، و كذا الحكم إذا آوى مسلم إلى مشرك بالمجي ء مثلا،


1- 1 سورة التوبة- الآية 6.
2- 2 الوسائل- الباب 5 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
3- 3 المستدرك- الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
4- 4 المستدرك- الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.

ج 21، ص: 100

أو قال: قف أو قم أو ارم سلاحك، نعم لو زعم المشرك ذلك و نحوه أمانا كان ممن دخل بشبهة الأمان الذي قد عرفت حكمه سابقا بلا خلاف فيه بيننا، بل و في جميع ما ذكرناه كما اعترف به في المنتهى بل و لا إشكال، فما عن بعض الجمهور- من كون الأخيرين أمانا و الأوزاعي إن ادعى الكافر أنه أمان أو قال إنما وقفت لندائك فهو آمن، و إن لم يدع ذلك فليس بأمان و لا يقبل- واضح الفساد.

[أما وقته ]

و أما وقته فقبل الأسر بلا خلاف أجده فيه، فلا يجوز لآحاد الناس بعده، بل في المنتهى نسبة ذلك إلى علمائنا و الشافعي و أكثر أهل العلم، للأصل بعد ظهور الأدلة في غير الحال المزبور حتى من الذي أسره، فما عن الأوزاعي من صحة عقده بعد الأسر واضح الفساد، و أمان زينب زوجها أبا العاص بن الربيع بعد الأسر إنما صح لإجازة النبي صلى اللَّه عليه و آله إياه، ضرورة أن له الأمان بعد الأسر، كما أن له إطلاقه، و بذلك يخالف الإمام عليه السلام غيره و لزعم عمر أنه قائم مقام النبي صلى اللَّه عليه و آله في ذلك أمن الهرمزان بعد الأسر، و بالجملة فالأمان للمسلمين ما دام الامتناع و لو لكونه في مضيق أو قرية أو نحوهما.

بل لو أشرف جيش الإسلام على الظهور فاستذم الخصم جاز مع نظر المصلحة المعتبرة في صحة أصل الأمان على ما صرح به بعضهم أو عدم المفسدة كما في القواعد و لعله الأوفق بإطلاق الأدلة الشامل لذلك و للحال المزبور أيضا، فلو أمن جاسوسا أو من فيه مضرة لم ينعقد، للأصل و العموم بعد انسياق الأدلة إلى غيره و أما لو استذموا بعد حصولهم في الأسر فأذم لم يصح لما عرفت.

و لو أقر المسلم أنه أذم لمشرك فإن كان في وقت يصح منه إن شاء

ج 21، ص: 101

الأمان قبل إجماعا كما في المنتهى، لقاعدة من ملك شيئا ملك الإقرار به، و إلا فلا بأن كان إقراره بعد الأسر لم يصح، لأنه لا يملكه حينئذ حتى يملك الإقرار به، بل هو في الحقيقة إقرار في حق الغير، نعم لو قامت للمشرك بينة على ذلك ثبت و جرى عليه حكم الأمان، و كذا لو أقر جماعة كما عن الشيخ و غيره التصريح به، ضرورة أن تعدد المقر لا يقتضي كونه من الشهادة التي موضوعها الإخبار الجازم بحق للغير لا ما يشمل فعل أنفسهم، فما عن بعض الجمهور من القبول لكونهم عدولا غير متهمين واضح الفساد، نعم لو شهد بعض أنه أمنه بعض آخر اتجه القبول حينئذ مع حصول شرائطه من العدالة و نحوها و لو ادعى الحربي على المسلم الأمان فأنكر المسلم و لا بينة فالقول قوله كما في القواعد و غيرها للأصل، بل صرح فيها كما عن جماعة بعدم اليمين عليه للأصل، و لعله لما قيل من أن الأسر و القتل حكمان ثابتان على الحربي، و بمجرد دعواه لا يسقطان، و أن إنكار المسلم لا يأتي على حق يترتب عليه، بل على ما يقتضي سقوط ما قد علم ثبوته من الأسر و القتل، و إن كان لا يخلو من نظر كما اعترف به في المسالك، قال: «لأنه إن كان في حالة يمكن المسلم فيها إنشاء الأمان أو ينفعه إقراره له فيبقى على القاعدة المشهورة: البينة على المدعي و اليمين على من أنكر، و إن كان في وقت لا ينفعه كما لو كان أسيرا لم يثبت عليه يمين، لأن إقراره في تلك الحال لا ينفعه، بل إنشاؤه كذلك» و يمكن الجواب عن الأول بأن الحق في الأمان ليس منحصرا في المسلم، بل يتعلق به و بغيره ممن استحق المال و النفس، فيكون ذلك كالوكيل الذي يقبل إقراره و لا يتوجه عليه يمين، قلت: قد يقال إن دعوى الحربي إن كانت و هو باق على امتناعه لم يتوجه له يمين على

ج 21، ص: 102

المسلم، لأن له الرجوع عن الأمان في تلك الحال، فإنكاره حينئذ بمنزلة رجوعه، و قولهم يجب الوفاء به يراد به بعد غرور الحربي و ركونه إليه و صيرورته في قبضته، لأنه حينئذ يكون غدرا، و ربما كان في قوله تعالى «ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» إشارة إلى إرادة وجوب الوفاء بهذا المعنى و إن كانت منه على من جاء به كما تسمعه من المنتهى فقد يقال بتوجه اليمين كما ستعرف، و إن كانت دعواه على غيره فلا يمين له عليه، لما عرفت، فتأمل.

و لو حيل بينه و بين الجواب بموت أو إغماء لم تسمع دعوى الحربي إلا بالبينة، لعدم ما يدل عليها، فيبقى العموم بحاله و لكن في الحالين يرد إلى مأمنه ثم هو حرب كما في الكتب السابقة معللا له في الأخيرين بالشبهة، و فيه أنه مناف للحكم بتقديم قول المسلم و عدم قبول دعواه، فإن مقتضاهما جريان حكم الأسر و القتل عليه، و ليس في الأدلة درء ذلك عنه بمجرد الشبهة نحو ما جاء في الحد و إنما فيها دخول الحربي بشبهة الأمان، و هو يقتضي تحقق اشتباهه لا الاكتفاء بمجرد دعواه، و الاحتياط في الدماء في غير أهل الحرب، و لكن مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط مع إمكانه، و فرض المسألة في المنتهى «أنه لو جاء المسلم بمشرك فادعى أنه أسره و ادعى الكافر أنه أمنه قال: فالقول قول المسلم، لأنه معتضد بالأصل، و هو إباحة دم الحربي و عدم الأمان، و قيل يقبل قول الأسير لأنه يحتمل صدقه فيكون هذا شبهة يمنع من قتله، و قيل يرجع إلى من يعضده الظاهر فإن كان الكافر ذا قوة و معه سلاحه فالظاهر صدقه، و إن كان ضعيفا مسلوبا سلاحه فالظاهر كذبه، و الوجه الأول، و لو صدقه المسلم قال أصحاب الشافعي لا يقبل، لأنه لا يقدر على أمانه و لا يملكه، فلا يقبل

ج 21، ص: 103

إقراره، و قيل يقبل، لأنه كافر لم يثبت أسره، و لا نازعه فيه منازع فيقبل قوله في الأمان» قلت: لا يبعد القبول مع كونه في يد المسلم و تحت سلطانه، إذ الحق راجع إليه، بل قد يشك في جريان الأصل في أصل المسألة بدعوى اعتبار كون الأسر و هو محارب في ترتب الأحكام و إن كان يمكن دفع ذلك بأصالة صحة فعل المسلم، و أصالة عدم صدور الأمان منه، على أن ذلك يقتضي سد باب التمكن منه، ضرورة إمكان الدعوى على كل حال، و أيضا الأمر غير منحصر في الدم حتى يتجه الاحتياط فيه، لأنه قد يكون الاستيلاء مقتضيا للاسترقاق، كما لو كان الأسير امرأة و ملكية المال و نحو ذلك، و لو كانت الدعوى على غير من جاء به فلا يمين له على المنكر، لأن إقراره في تلك الحال غير مجد نعم له اليمين على من جاء به على نفي العلم بأمان غيره له إذا قلنا إن إقراره يجدي في تلك الحال، و بالجملة فالمسألة غير محررة في كلامهم و في

المروي في دعائم الإسلام (1)عن علي عليه السلام «إذا ظفرتم برجل من أهل الحرب فإن زعم أنه رسول إليكم فإن عرف ذلك و جاء بما يدل عليه فلا سبيل لكم عليه حتى يبلغ رسالته و يرجع إلى أصحابه و إن لم تجدوا على قوله دليلا فلا تقبلوا»

هذا، و في القواعد لا يعقد أكثر من سنة، و لكن لم يحضرني ما يدل عليه، بل قد سمعت إطلاق الأدلة، و في المنتهى إذا انعقد الأمان وجب الوفاء به بحسب ما شرط أو غيره إجماعا ما لم يكن متضمنا لما يخالف الشرع بلا خلاف، و ستسمع الكلام في نحو ذلك في المهادنة إن شاء اللَّه و إن عقد الحربي لنفسه الأمان ليسكن في دار الإسلام دخل ماله تبعا في وجوب الوفاء له، و عدم جواز التعرض له و إن لم يذكره بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به


1- 1 المستدرك- الباب 37 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 104

في المنتهى ضرورة اقتضاء الأمان الكف عنه، و أخذ ماله مناف لذلك و لو ذكر ماله في الأمان كان تأكيدا و لو التحق بدار الحرب فإن كان لتجارة أو رسالة أو تنزه و في نيته العود إلى دار الإسلام فالأمان باق لبقاء نيته على الإقامة، و إن كان للاستيطان بها انتقض أمانه لنفسه بنقض ما هو كالشرط عليه دون ماله الذي ثبت الأمان له، و لم ينتقض بما انتقض

به أمان النفس، فيستصحب، و لا ينافي ذلك تبعية المال للنفس في الأمان، ضرورة اقتضائها ثبوت الأمان له، لا دوران أمانه على أمانها، فيجب حينئذ رده إليه لو طلبه، و صح له بيعه و هبته و غير ذلك من التصرفات، إذ هو بالتبعية المزبورة صار كالمصرح بأمانه مستقلا، نعم لو أخذه إلى دار الحرب انتقض الأمان فيه، بل و كذا لو كان قد اشترط عليه عدم الأمان لما له إذا استوطن دار الحرب، و لعل هو مراد من قيد بقاء الأمان للمال بما إذا كان الأمان مطلقا، فلو كان مقيدا بكونه في دار الإسلام انتقض أمان المال أيضا، فلا يرد عليه بما في المسالك من أن الأمان لا يكون إلا في دار الإسلام، و من ثم يبطل أمانه لو انتقل إلى دار الحرب بنية الإقامة أما لو دخله بنية العود لم ينتقض أمانه في نفسه و لا ماله قطعا، و اللَّه العالم.

و لو مات أو قتل انتقض الأمان في المال أيضا إذا لم يكن له وارث مسلم و صار فيئا، و يختص به الإمام عليه السلام، لأنه لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب فهو من الأنفال التي جعلها اللَّه له عليه السلام كإرث من لا وارث له و كذا الحكم لو مات في دار الإسلام و لم يكن له وارث مسلم، ضرورة كون الوجه فيهما معا بناء على ما

ج 21، ص: 105

صرح به الفاضل و غيره انتقاله إلى وارثه الكافر الذي لم يعقد له الأمان خلافا لابن حنبل و المزني و الشافعي في أحد قوليه، فيبقى الأمان فيه لوارثه باعتبار انتقاله إليه متعلقا به حق الأمان كالرهن و نحوه، و فيه منع كون الأمان حقا كذلك، و إنما هو متعلق بذي المال و قد مات و للشافعي قول آخر يكون غنيمة، و فيه أنه غير مأخوذ بقهر و غلبة، و كذا الكلام في الذمي لو مات في دار الإسلام و له وارث حربي كما هو واضح، كذا قالوا، و لكن الإنصاف عدم خلو ذلك عن بحث و نظر إن لم يكن إجماع، ضرورة ملكيته لمن في يده المال لكونه مال حربي، قد استولى عليه، بناء على انتقاض الأمان فيه بالموت، بل لا يخلو ما سمعته من ابن حنبل من وجه، خصوصا إذا كان وارثه معه و لو متجددا له بولادة و نحوها.

و لو أسره المسلمون لم يزل الأمان على ماله، لكن لا يخلو إما أن يمن عليه الإمام عليه السلام أو يفاديه أو يقتله أو يسترقه، ففي الأولين يرد ماله إليه، و في الثالث يكون ماله للإمام عليه السلام إذا لم يكن له وارث إلا الحربي على حسب ما عرفت، و في الرابع الذي أشار إليه المصنف بقوله فإن استرق ملك ماله تبعا لرقبته كما في القواعد مع زيادة و لا يختص به من خصه الإمام برقبته، بل للإمام عليه السلام و إن أعتق، و في المنتهى «و إن استرقه زال ملكه عنه لأن المملوك لا يملك شيئا و صار فيئا، و إن أعتق بعد ذلك لم يرد إليه، و كذا لو مات لم يرد على ورثته سواء كانوا مسلمين أو كفارا، لأنه لم يترك شيئا» و في المسالك التصريح بكون ماله فيئا للإمام عليه السلام نحو ما سمعته من القواعد، قال: «فقول المصنف ملك ماله تبعا أراد به التبعية في الملك لا في المالك، فلا يستحقه مسترقه، لأنه مال

ج 21، ص: 106

لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، و لو أعتق بعد ذلك لم يعد عليه، أما لو من عليه عاد إليه» قلت: ظاهرهم بناء المسألة على مسألة مالكية العبد و عدمها، و أنه لا فرق في ذلك بين الابتداء و الاستدامة، فيتجه حينئذ بناء على القول بها كما هو ظاهر المصنف فيما يأتي إن شاء اللَّه و لو لاستدامة بقاء المال على ملكيته، و لكن يثبت سلطان المولى عليه بواسطة ثبوت سلطانه على المالك، فيصح له جميع التصرفات فيه، بخلاف العبد فإنه محجور عليه للآية(1)و لثبوت حق المولى في المال و لو على الوجه المزبور، فلا يصح تصرفه في شي ء منه بدون إذنه، و حينئذ فبقاء عبارة المصنف على ظاهرها من التبعية في المالك حينئذ أولى، بل الظاهر ذلك أيضا في غير المال المزبور من أمواله التي في دار الحرب، و لعل هذا من أكبر الشواهد على قابلية العبد للملك و لو الاستدامي باعتبار كونه مالكا قبل العبودية، و أقصى ما يدل على عدم ملكية العبد على القول به عدم ابتداء ملكه و هو عبد لا ما ملكه سابقا، إذ على القول بعدمها يزول ملكه بمجرد استرقاقه، فيبقى بلا مالك، أو يدخل في ملك من استرقه و إن لم يستول على المال،

لكونه في دار الحرب مثلا أو يكون للإمام عليه السلام لأنه من الأنفال التي منها المال الذي لا مالك له، أو لمن هو في يده و لو كافر إن كان في يد، و إلا فهو مباح و الكل لا تساعد عليه الأدلة، بل هو مجرد تهجس، و قولهم «العبد و ماله لمولاه» لا يراد منه ما يشمل ما نحن فيه، بل المراد به بناء على الملكية أن سلطنة التصرف للمولى و إن كانت العين ملكا للعبد، فيصح بهذا الاعتبار نسبته إلى كل منهما، و على عدم الملكية ضرب من التجوز في مالية


1- 1 سورة النحل- الآية 77.

ج 21، ص: 107

العبد كالاختصاص و نحوه، و قد أشبعنا الكلام في المسألة في محله، و الحمد لله، فلاحظ و تأمل، و اللَّه العالم.

و لو دخل المسلم دار الحرب مستأمنا فسرق وجب إعادته أي المسروق كما صرح به الفاضل و غيره سواء كان صاحبه في دار الإسلام أو دار الحرب قيل لظهور أمان المستأمن في عدم خيانته لهم و إن لم يكن مصرحا به، و لكن لا يخلو من نظر إن لم يكن إجماعا فإن الأمان لا يقتضي أزيد من مأمونية المستأمن لا العكس، و لعل الأولى الاستدلال بالنهي عن الغلول و الغدر لهم، ضرورة أولوية هذا الفرد من غيره، و اللَّه العالم.

و لو أسر المسلم الحربيون و أطلقوه بأمان و شرطوا عليه الإقامة في دار الحرب و الأمن منه لم تجب عليه الإقامة بل تحرم مع التمكن من الهجرة على حسب ما عرفت سابقا و حرمت عليه أموالهم بالشرط كما في المنتهى و غيره، و لكن فيه أنه شرط لا يجب الوفاء بالعقد الذي تضمنه، بل هو في الحقيقة ليس عقدا مشروعا و لذا لو أطلقوه على مال لم يجب الوفاء لهم به فالأولى الاستدلال بإطلاق النهي عن الغلول و الغدر، نعم لو هرب منهم كان له الأخذ من مالهم كما في المنتهى لإباحة أنفسهم و أموالهم للمسلمين، فليس غلولا، و لا غدرا في الحقيقة كي يشمله النهي المزبور عنهما.

و لو دخل المسلم دار الحرب بأمان فاقترض مالا من حربي و عاد إلينا و دخل صاحب المال بأمان ففي المنتهى كان عليه رده إليه، لأن مقتضى الأمان الكف عن أموالهم، قلت هو كذلك و إن لم يدخل المقرض إلينا، و كذا قوله أيضا و لو اقترض حربي من حربي مالا ثم دخل المقترض إلينا بأمان فإن عليه رده إليه، لأن الأصل وجوب الرد

ج 21، ص: 108

و لا دليل على براءة الذمة، و اللَّه العالم.

و لو أسلم الحربي و في ذمته مهر لزوجته و كانت قد أسلمت معه أو قبله كان لها المطالبة به إن كان مما يملكه المسلم، و إلا فقيمته و إن كان قد أسلم هو خاصة لم يكن للزوجة مطالبته و لا لوارثها الحربي كما صرح به الفاضل و غيره، لأنهم حربيون، و لا أمان لهم على ذلك، فله منعه عليهم، بل في المسالك «أن مقتضى إطلاق المصنف الوارث عدم الفرق بين المسلم منه و الحربي، و هو متجه من حيث أن إسلام الزوج قبلها أوجب استيلاءه على ما أمكنه من مالها الذي من جملته المهر، و كلما استولى عليه يملكه كغيره من أموال أهل الحرب و كونه في ذمته بمنزلة المقبوض في يده، فينبغي أن يملكه بإسلامه مع بقائها على الحربية، و حينئذ فلا يزيله ما يتجدد من إسلامها و لا موتها مع كون وارثها مسلما، فهذا الإطلاق في محله، و كذلك أطلق العلامة في كثير من كتبه» قلت قد تبعه على ذلك الأردبيلي، و مقتضاه أن الحكم كذلك في سائر الديون و إن كانت ثمن مبيع، و لكن في حاشية الكركي أن الذي صرح به جماعة عدم السقوط، بل حكى في المسالك بعد ذلك عن جماعة من الأصحاب أن الحربي إذا أسلم سقط عنه مال أهل الحرب الذي كان في ذمته إذا كان غصبا أو إتلافا أو غير ذلك مما حصل بغير التراضي و الاستئمان، و أما ما ثبت في ذمته بالاستئمان كالقرض و ثمن المعاوضات فإنه يبقى في ذمته بشبهة الأمان و إن لم يكن وقع صيغة أمان، و يؤيده ما ذكروه من أن المسلم أو الحربي لو دخل إليهم و خرج لهم بمال ليشتري به شيئا لم يجز التعرض له، لأنه أمانة و كذا لو دفعوا إلى أحد شيئا وديعة لم يجز التعرض لها إلحاقا للأمانة بالأمان.

ج 21، ص: 109

و لا يخفى عليك حينئذ الإشكال فيما ذكره مضافا إلى ما صرح به الفاضل في المنتهى و التذكرة و محكي التحرير في مفروض المسألة بأنه ليس لها و لا لورثتها الكفار المطالبة، أما إذا كانوا مسلمين فإن لهم المطالبة، و أولى من ذلك ما لو أسلمت هي بعد إسلام الزوج، ضرورة أن استحقاق الوارث فرع استحقاقها، بل عنه في الإرشاد في باب النكاح التصريح بأن إسلام الزوج الحربي يوجب للحربية عليه نصف المهر إن كان قبل الدخول، و جميعه إن كان بعده، و مقتضى ثبوت ذلك لها في ذمته أن لها المطالبة به لو أسلمت أو ماتت و كان لها وارث مسلم و لو الإمام عليه السلام، بل مقتضى ما ذكره هو من التأييد أن لها المطالبة به و هي كافرة، و لعل التحقيق في المسألة سقوط مطالبتها به و هي حربية و عدم وجوب الأداء لها كذلك، و لكن لا يملكه، لأنه في ذمته، و ليس عينا كي تدخل في ملكه باغتنامها و حيازتها، فإذا أسلمت هي بعده أو ماتت و كان لها وارث مسلم صحت المطالبة به، لكون المال باقيا على ملكها أو ملك وارثها، و إنما امتنع وجوب الأداء باعتبار كونها حربية فلا يجب لها على المسلم شي ء إما لأنه سبيل، أو لأن المراد من جب الإسلام ما قبله ذلك و نحوه مما هو من التكاليف الشرعية، بخلاف ما كان بالمعاملات و التجارة عن تراض و ما أشبه ذلك.

و من هنا أمكن الفرق بين عوض المتلفات و الغصب و نحوهما و بين المعاملات إذا فرض كون الحكم اتفاقيا، فلا يجب الوفاء بالأولى بل تبرأ الذمة بالإسلام، لكونه من قبيل التكاليف مثل قضاء الصلاة و الصوم و إن كان له جهة دينية، إلا أنه ليس من جميع الوجوه، بخلاف ما كان بالمعاملة كالقرض و ثمن المبيع و نحو ذلك مما يقع بين المشركين و المسلمين و يحكم بصحته، بخلاف مثل الإتلاف الذي لو وقع من

ج 21، ص: 110

المسلم لم يطالب به، لأن مال الحربي و نفسه هدر، فيمكن أن يكون ذلك كذلك حتى لو وقع فيما بينهم، و إن كانوا يلزمون بما ألزموا به أنفسهم، فليس في الحقيقة عليه دين، و إنما هو مجرد تكليف بالإسلام يسقط، و ليس كذلك ثمن المبيع و نحوه، و إن كان لا يجب الأداء عليه بعد الإسلام بالمطالبة بعد فرض كون من له المال حربيا، إلا أنه دين ثابت عليه في ذمته، و حينئذ فالمتجه تنزيل عبارة المصنف و غيرها ممن أطلق على ما إذا كان الوارث حربيا، بل لعل الظاهر منها ذلك، و أما احتمال الفرق بين المهر و غيره من ثمن المبيع و نحوه كاحتمال جواز تملك من أسلم ما في ذمته مطلقا فمناف لظاهر كلام الأصحاب بل و للأدلة من الاستصحاب و غيره، فتأمل جيدا، فإن منه يظهر لك وجه النظر فيما أطنب فيه في المسالك بلا حاصل يرجع إليه.

و كيف كان ف لو ماتت الزوجة قبل إسلام الزوج و كان لها وارث مسلم ثم أسلم أو أسلمت هي قبله ثم ماتت طالبه وارثها المسلم دون الحربي بلا خلاف بل و لا إشكال، أما في الأول فلانتقال المهر للوارث المسلم، فلا يسقط بإسلامه، و أما في الثاني فلثبوت الحق للمسلمة و ينتقل منها إلى وارثها، كما هو واضح، و اللَّه العالم

[خاتمة فيها فصلان ]
اشاره

خاتمة فيها فصلان،

[الفصل الأول في التحكيم ]

الأول في التحكيم الذي هو العقد مع الكفار بعد التراضي على أن ينزلوا على حكم حاكم، فيعمل على مقتضى حكمه، و إليه أشار المصنف بقوله. يجوز أن يعقد العهد على حكم الإمام عليه السلام أو غيره ممن نصبه للحكم و إن كان فيه بعض القصور، و على كل حال فلا خلاف في مشروعيته، و قد رواه العامة و الخاصة، ف

في رواية الجمهور(1)«أن النبي صلى اللَّه عليه و آله لما


1- 1 سيرة ابن هشام القسم الثاني ص 340 و تاريخ الطبري ج 2 ص 588.

ج 21، ص: 111

حاصر بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم صلى اللَّه عليه و آله إلى ذلك، فحكم عليهم بقتل رجالهم و سبي ذراريهم، فقال له النبي صلى اللَّه عليه و آله لقد حكمت بما حكم اللَّه تعالى به فوق سبعة أرفعة أي سبع سماوات»

و في

خبر مسعدة بن صدقة(1)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في وصية النبي صلى اللَّه عليه و آله لمن يؤمره على سرية «و إذا حصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم اللَّه تعالى فلا تنزلهم، و لكن أنزلهم على حكمكم، ثم اقض

فيهم بعد بما شئتم، فإنكم إن أنزلتموهم على حكم اللَّه لم تدروا تصيبوا حكم اللَّه فيهم أم لا و إذا حاصرتم أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على ذمة اللَّه و ذمة رسوله فلا تنزلهم و لكن أنزلهم على ذممكم و ذمم آبائكم و إخوانكم فإنكم إن تخفروا ذممكم و ذمم أبنائكم و إخوانكم كان أيسر عليكم يوم القيامة من أن تخفروا ذمة اللَّه و ذمة رسوله»

و نحوه في رواية الجمهور(2)و من هنا كان المحكي عن محمد بن الحسن الشيباني من العامة عدم جواز إنزال الإمام لهم على حكم اللَّه تعالى، بل في المنتهى الذي رواه علماؤنا المنع، و قال أبو يوسف: يجوز ذلك، لأن حكم اللَّه تعالى معلوم، إذ هو في حق الكفرة المقاتلين القتل و الاسترقاق في ذراريهم و الاستغنام لأموالهم، قلت: لا ينبغي التأمل في جواز ذلك للنبي صلى اللَّه عليه و آله و الإمام عليه السلام الذي هو معصوم عن الخطإ، نعم هو غير جائز لأئمتهم، فلا وجه لما يظهر من الفاضل من المنع، خصوصا بعد

قوله صلى اللَّه عليه و آله لمعاذ «قد حكم اللَّه بذلك فوق سبعة أرفعة»


1- 1 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 184 و كنز العمال ج 2 ص 297 الرقم 6280.

ج 21، ص: 112

و ما سمعته من أبي يوسف من الجواز لأن حكم اللَّه معلوم يدفعه أن المراد بالنزول على حكم اللَّه هو تعيين أحد أفراد التخيير المذكورة عند اللَّه تعالى شأنه، و لا ريب في كونه غير معلوم

لغير النبي صلى اللَّه عليه و آله و الإمام عليه السلام عندنا، كما هو واضح.

و كيف كان ف يراعى في الحاكم كمال العقل إذ لا عبرة بحكم الصبي و المجنون و السكران و نحوهم و الإسلام المستغنى عن ذكره بقوله و العدالة لعدم كون الفاسق محل ائتمان لما هو دون ذلك، بل هو ظالم منهي عن الركون إليه، و حكومة أبي موسى الأشعري المعلوم فسقه أو كفره كعمرو بن العاص لم تكن برضا أمير المؤمنين عليه السلام كما هو معلوم من كتب السير و التواريخ و هل تراعى الذكورة و الحرية؟ قيل نعم لقصور الامرأة و العبد عن هذه المرتبة و ظهور

قوله صلى اللَّه عليه و آله «أنزلوهم على حكمكم»

في غيرهما و لكن فيه تردد من ذلك، و من إطلاق الفتاوى، و انجبار القصور باعتبار العدالة و المعرفة بالمصالح الحاضرة و المتأخرة، بل و اعتبار المعرفة في الأحكام الشرعية كي لا يكون حكمه مخالفا للشرع، هذا، و في المنتهى «يشترط في الحاكم شروط سبعة: أن يكون حرا مسلما بالغا عاقلا ذكرا فقيها عدلا» و فيه أن شرط العدالة يغني عن اشتراط البلوغ و الإسلام و أما الذكورة و الحرية فقد عرفت الكلام في اشتراطهما، و لعل الأقوى عدمه لما عرفت.

و الظاهر جواز كونه أعمى أو محدودا في قذف مثلا و تاب أو أسيرا معهم، خلافا لبعض العامة لوجوه اعتبارية مدفوعة باعتبار العدالة و المعرفة و الفقاهة.

ج 21، ص: 113

و لا خلاف في أنه يجوز المهادنة على حكم من يختاره الإمام عليه السلام بل في المنتهى الإجماع عليه، لأنه لا يختار إلا الصالح للحكم دون المهادنة على حكم من يختاره أهل الحرب إلا أن يعينوا رجلا تجتمع فيه شروط الحاكم كما وقع من بني قريظة حيث اختاروا سعد بن معاذ فقبل النبي صلى اللَّه عليه و آله منهم و لكن لا يخفى عليك أن هذا ليس مهادنة على اختيارهم، و قد سمعت الأمر بإنزالهم على حكمكم، و في المنتهى «لو نزلوا على حكم رجل غير معين و أسندوا التعيين إلى ما يختارونه لأنفسهم قبل ذلك منهم ثم ينظر فإن اختاروا من يجوز أن يكون حاكما قبل منهم، و إن اختاروا من لا يجوز تحكيمه كالعبد و الصبي و الفاسق لم يجز اعتبارا للانتهاء بالابتداء و قال الشافعي: لا يجوز إسناد الاختيار إليهم، لأنهم ربما يختارون من لا يصلح لذلك، و الأول مذهب أبي حنيفة، و عندي فيهما تردد» قلت: إن كان الاختيار إليهم في التعيين من العسكر بعد أن كان الحكم للجيش يتجه الجواز، ضرورة كونه من النزول على حكمنا، فيندرج في الخبر المزبور، و لكن لو فرض اختيارهم غير الصالح منهم فلا ريب في عدم قبوله، إلا أنه هل يقتضي بطلان عقد الهدنة المزبور أو يبقى على مقتضاه فيختارون خيرة جديدة للصالح وجهان، أقواهما الثاني، كما أن الأقوى بقاء الحكومة للحاكم لو فرض حكمه بخلاف الشرع خطأ، فينفذ حكمه حينئذ بعد ذلك بالمشروع خلافا لأبي حنيفة و هو واضح.

نعم لو مات الحاكم قبل الحكم بطل الأمان و يردون إلى مأمنهم بلا خلاف أجده فيه بل و لا إشكال، ضرورة عدم ما اتفقوا عليه من الحاكم الشخصي، و الفرض أنهم نزلوا على حكمه، فهم في الأمان حتى

ج 21، ص: 114

يردوا إلى مأمنهم، نعم لو اتفقوا ثانيا على حاكم آخر جامع للشرائط جاز و نفذ حكمه، لعموم الأدلة، و اللَّه العالم.

و يجوز أن يستند الحكم إلى اثنين أو أكثر مع ملاحظة الاجتماع بلا خلاف أجده فيه، بل في المنتهى الإجماع عليه، و هو الحجة بعد إطلاق الخبر المزبور، فيعتبر حينئذ اتفاقهما على الحكم فلو مات مثلا أحدهم أو أحدهما بطل حكم الباقي أو الباقين كالوصيين المراد كون الوصي مجموعهما إلا مع الاتفاق عليه أو يعينوا غيره، و هل يجوز إسناد الحكم إلى اثنين أو أكثر على أن يكون كل واحد مستقلا و لكن التخيير بيد المسلمين مع الاختلاف في المحكوم به أو الكفار؟ وجهان، أقواهما الجواز للإطلاق، و لا يجوز النزول على حكم اثنين أحدهما كافر كما صرح به في المنتهى، بل و كذا غيره ممن فقد شرطا من شرائط الحاكم، ضرورة اقتضاء الدليل عدم الفرق بين الاستقلال و الانضمام، و لو نزلوا على حكم حاكم معين فمات قبل الحكم لم يحكم عليهم غيره إلا إذا اتفقوا، و لو طلبوا غيره ممن لا يصلح للحكم لم يجابوا إليه، و لكن يردون إلى مأمنهم، و كذا لو نزلوا على حكم معين فبان أنه غير صالح للحكم، و الظاهر عدم جواز التراضي بين الجميع بحكم غير الصالح، و اللَّه العالم.

و كيف كان فلا خلاف بل و لا إشكال بعد مشروعية التحكيم في أنه يتبع ما يحكم به الحاكم إلا أن يكون منافيا لوضع الشرع كالحكم بالرد إلى مأمنهم إلا إذا شرطوا في عقد الهدنة بأنهم إن لم يحكم فلان مثلا نرد إلى مأمننا، فإنه يجوز حينئذ، أو يكون منافيا لمصلحة المسلمين، إذ يجب على الحاكم ملاحظة ما فيه الحظ لهم، و حينئذ ينفذ حكمه كما نفذ حكم سعد بن معاذ في بني قريظة بقتل الرجال و سبي

ج 21، ص: 115

الذرية و اغتنام المال حتى

قال النبي صلى اللَّه عليه و آله: «لقد حكم بحكم اللَّه من فوق سبعة أرفعة»

و كذا لو حكم باسترقاق الرجال و سبي النساء و الذرية و أخذ المال، أو حكم بالمن على الرجال و النساء و الذرية و ترك السبي مطلقا، إذ قد تكون المصلحة في ذلك، فكما يجوز للإمام عليه السلام المن كذلك يجوز للحاكم بعد فرض مشروعية حكمه، و ما عن بعض الجمهور من عدم الجواز، لأن الإمام لا يملك ذلك في الذرية مثلا مع السبي يدفعه الفرق بين ما تحقق فيه السبي المقتضي للتملك و بين ما نحن فيه مما لم يتحقق فيه السبي كما هو واضح، و لو حكم بأن يعقدوا عقد الذمة و يؤدوا الجزية جاز أيضا و لزمهم أن ينزلوا على حكمه كما عن الشيخ التصريح به، و ما عن الشافعي- من عدم الجواز في أحد الوجهين، لأن عقد الذمة عقد معاوضة فلا يثبت إلا بالتراضي و لذا لم يجز أن يجبر الأسير على ذلك يدفعه وضوح الفرق بين المقام المسبوق بالرضا بالحكم الذي منه ذلك و بين الأسير الذي لم يسبق منه التراضي المعتبر في العقد، و لو حكم بالفداء مضى حكمه، و بالجملة ينفذ حكمه الموافق لما قرره الشرع فيهم مع ملاحظة مصلحة المسلمين، و لو أريد المن على من حكم عليه بالقتل جاز كما يحكى

عن ثابت بن قيس الأنصاري (1)أنه سأل النبي صلى اللَّه عليه و آله أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي ففعل بعد حكم سعد عليهم بقتل الرجال،

نعم لو حكم على الكافر منهم مثلا بالقتل ثم أراد الاسترقاق ففي المنتهى لم يكن له ذلك، لأنه لم يدخل على هذا الشرط، و لكن لا يخلو من نظر، و على كل حال فالظاهر عدم وجوب الحكم على الحاكم و إن كان قد قبل التحكيم للأصل.


1- 1 البحار ج 20 ص 277 الطبع الحديث.

ج 21، ص: 116

و لو حكم بالقتل و السبي و أخذ المال فأسلموا سقط الحكم في القتل و في بعض النسخ «خاصة» و في أخرى «لا في المال» كما في القواعد و المنتهى و التذكرة، و هي التي

شرحها ثاني الشهيدين، فقال «لأن الإسلام يحقن الدم بخلاف الاسترقاق و المال، فإنهما يجامعان الإسلام، كما لو أسلم المشرك بعد الأخذ» و نحوه في فوائد الشرائع للكركي إلا أن المتن فيها «سقط الحكم إلا في المال» و مقتضاه عدم جواز السبي، لكن لم أجد به قائلا، بل لا أجد خلافا في عدم سقوط السبي و أخذ المال، نعم ليس له استرقاق من حكم عليه بالقتل بعد سقوط القتل عنه بالإسلام، خلافا لبعض العامة فجوزه، كما لو أسلموا بعد الأسر، و فيه أن الأسير قد ثبت للإمام عليه السلام استرقاقه، بخلاف المفروض الذي قد تعين فيه بحكم الحاكم القتل و لكن قد سقط بالإسلام، ل

قوله صلى اللَّه عليه و آله (1)«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم»

نعم لا يسقط سبي الذرية و النساء لثبوت ذلك عليهم بالحكم قبل الإسلام، و لا ينافيه الإسلام بعده أصالة أو تبعا، أما لو أسلموا قبل الحكم عصموا أموالهم و دماءهم و ذراريهم من الاستغنام و القتل، ضرورة أنهم أسلموا و هم أحرار لم يسترقوا و أموالهم لم تغنم، فلا يجوز استرقاقهم و لا اغتنام أموالهم، لاندراجهم حينئذ في قاعدة من أسلم حقن ماله و دمه، و الفرض عدم تعلق حكم الحاكم به كالسابق.

و لو جعل للمشرك فدية عن أسراء المسلمين لم يجب الوفاء، لأنه لا عوض للحر كما صرح بذلك غير واحد من غير فرق بين الشراء و غيره، نعم لو جعل جعلا على رفع الأسر عنه ممن يجوز له


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 182.

ج 21، ص: 117

الجعالة على ذلك على وجه يدخل في الجعالة الشرعية وجب الوفاء، و لو دخل الحربي بأمان فقال له الإمام عليه السلام إن رجعت إلى دار الحرب و إلا حكمت عليك حكم أهل الذمة فأقام سنة ففي المنتهى جاز أن يأخذ منه الجزية، و إن قال له: اخرج إلى دار الحرب فإن أقمت عندنا صيرت نفسك ذميا فأقام سنة ثم قال أقمت لحاجة قبل قوله، و لم يجز أخذ الجزية منه، لأصل البراءة، بل يرد إلى مأمنه، و قال الشيخ: و إن قلنا يصير ذميا كان قويا، لأنه خالف الإمام عليه السلام، و فيه منع المخالفة بعد فرض كون المراد من الإقامة التوطن لا مثل الفرض الذي لم يعلم فيه ذلك بعد قوله: إني أقمت لحاجة، و هو شي ء لا يعلم إلا من قبله.

و يجوز الأمان لمن قال من المشركين: أنا أفتح لكم الحصن مثلا لإطلاق الأدلة، و حينئذ لو فتح ثم اشتبه بين أهل الحصن فلا يقتل أحد منهم للمقدمة بل عن الشافعي و لا يسترق لذلك أيضا و عن بعض الجمهور استخراجه بالقرعة ثم يسترق الباقون، و الاحتياط في الدم لا يأتي مثله في الاسترقاق و لكنه كما ترى، و مقتضى المقدمة عدم جوازهما معا، و كذا لو أسلم واحد منهم قبل الفتح فقال: كل واحد منهم أنا هو، و عن الأوزاعي يسعى كل واحد منهم في قيمة نفسه و يترك له عشر قيمته، و لا دليل عليه، بل مقتضى الدليل خلافه، و اللَّه العالم.

[الفصل الثاني في الجعالة]
اشاره

الفصل الثاني في الجعالة، لا خلاف كما اعترف به الفاضل بل و لا إشكال في أنه يجوز لوالي الجيش إماما أو غيره جعل الجعائل لمن يدله على مصلحة من مصالح المسلمين كالتنبيه على عورة القلعة و طريق البلد الخفي أو نحو ذلك، و يستحق المجعول له

ج 21، ص: 118

الجعل بنفس الفعل كغيره من أفراد الجعالة، سواء كان مسلما أو كافرا لعموم الأدلة، و ليس للجيش الاعتراض و إن كانت الغنيمة لهم، لعموم الولاية، و لفعل النبي صلى اللَّه عليه و آله و قد استوفينا الكلام بحمد اللَّه تعالى في أحكام الجعالة في محلها، فلاحظ و إن قال المصنف و غيره هنا إن كانت الجعالة من ماله دينا اشترط كونها معلومة الوصف و القدر، و إن كانت عينا فلا بد أن تكون مشاهدة أو موصوفة بما يرتفع به الغرر المنهي عنه و إن كانت من مال الغنيمة جاز أن تكون مجهولة كجارية و ثوب للحاجة، و لأن النبي صلى اللَّه عليه و آله (1)قد جعل للسرية من الجيش الثلث أو الربع من الغنيمة المجهولة، بل في المنتهى لا نعلم فيه خلافا، و لكن قد ذكرنا

في كتاب الجعالة ما يعلم منه تحقيق الحال في ذلك و غيره، فلاحظ و تأمل.

ثم العمل المجعول له إن كان مما لا يتوقف تحققه على الفتح كالدلالة على الطريق و نحوه استحق المجعول له الجعل بنفس ذلك و إن لم يحصل الفتح، و إن كان مما يتوقف على الفتح كما لو قال من دلنا على ما نفتح به القلعة فله كذا توقف على الفتح، و لعل منه ما لو قال: من دلنا على طريق القلعة فله الجارية المعينة أو مطلقا منها، لأن جعالة شي ء منها يقتضي اعتبار فتحها حكما و إن لم يذكر لفظا.

[تفريع لو كانت الجعالة عينا و فتح البلد على أمان فكانت في الجملة]

تفريع لو كانت الجعالة عينا كجارية و نحوها و فتح البلد على أمان فكانت في الجملة التي تعلق بها الأمان لم يبطل الأمان لإمكان مضيه، خلافا لأبي إسحاق من الشافعية فأبطله، لاستحقاق المجعول له العين المفروض تعلق الأمان بها، و فيه أن مجرد ذلك لا يقتضي البطلان ف إنه إن اتفق المجعول له و أربابها على بذلها و لو بدفع


1- 1 كنز العمال ج 2 ص 309 الرقم 6423.

ج 21، ص: 119

العوض لهم أو إمساكها بالعوض له جاز الأمان و لا يبطل، نعم إن تعاسرا فسخت الهدنة كما صرح به الشيخ منا في المحكي عنه، و الشافعي من العامة، لتعذر الإمضاء حينئذ، لسبق تعلق حق الدال المفروض تعذر الجمع بينه و بين الأمان المتأخر عنه و لكن يردون إلى مأمنهم تجنبا عن الغدر بعد فرض نزولهم على الأمان بل لهم تحصيل القلعة كما كانت من غير زيادة، و قد يقال بتقديم بقاء الهدنة و استحقاق المجعول له القيمة، كما لو تعذر تسليمها إليه بالإسلام لو كانت جارية، ترجيحا لهذه المصلحة على الفسخ المحتمل عدم التمكن من الفتح، أو توقفه على قتل جملة من المسلمين أو نحو ذلك مما يدخل به تحت قاعدة الضرر، بل عن الفاضل في المختلف اختياره، بل مال إليه بعض من تأخر عنه، لكن لا يخفى عليك صعوبة انطباقه على قواعد الإمامية.

و لو كانت الجعالة جارية فأسلمت قبل الفتح لم تدفع إليه سواء كان مسلما أو كافرا، لخروجها عن قابلية الاسترقاق و لكن دفعت إليه القيمة عوضا عنها كما صرح به غير واحد، و لعله لكونه أقرب من استحقاق أجرة المثل، و ربما استدل عليه بأن النبي صلى اللَّه عليه و آله صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاء منهم رده إليهم، فلما جاء نساء مسلمات منعه اللَّه تعالى من ردهن إلى أزواجهن و أمره برد مهورهن و فسخ ما وقع من الهدنة و إن كان هو كما ترى و كذا (11) الكلام لو أسلمت بعد الفتح و كان المجعول له كافرا (12) لعدم ملك الكافر المسلم ابتداء، و وجوب نقله عنه استدامة، نعم لو كان المجعول له مسلما دفعت إليه، لأن الإسلام لا يرفع الملك الحاصل بالفتح، كما لو أسلم المسبي بعد سبيه و لو ماتت قبل الفتح أو بعده

ج 21، ص: 120

و لا تفريط بالدفع لم يكن له عوض عنها كما صرح به الشيخ فيما حكي عنه و غيره، بل و الشافعي في أحد قوليه، لأن حقه فيها ففات بفواتها، خلافا للشافعي في القول الآخر، فتدفع له القيمة، كما لو تعذر تسليمها بالإسلام، و فيه أن التسليم في المسلمة ممكن، و لكن منع منه الشرع فجبر بالقيمة جمعا بين الحقين بخلاف الفرض الذي تعذر التسليم فيه عقلا من دون تفريط، و لا دليل على استحقاق غيره، بل الأصل ينفيه، و اللَّه العالم.

[الطرف الرابع في الأسارى ]
اشاره

الطرف الرابع في الأسارى و هم ذكور و إناث فالإناث من الكفار الأصليين الحربيين غير معتصمين بذمة أو عهد أو أمان يملكن بالسبي و لو كانت الحرب قائمة، و كذا الذراري أي غير البالغين بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك كما اعترف به في المنتهى بل عن الغنية و التذكرة الإجماع عليه، و هو الحجة مع

ما أرسله في المنتهى (1)من أن النبي صلى اللَّه عليه و آله نهى عن قتل النساء و الولدان، و كان يسترقهم إذا سباهم،

نعم يعتبر في التملك تحقق صدق السبي و القهر، لأصالة عدمه مع عدمهما، فلا يكفي مجرد النظر و لا وضع اليد و لا غير ذلك مما لا يتحقق معه صدقهما، نعم لا يعتبر استمرار القهر، فيبقى على الملك لو هرب كالصيد الذي ما نحن فيه نحوه بعد أن أباح الشارع تملكهم بذلك، بل الظاهر عدم اعتبار نية التملك بعد الاستيلاء على الوجه المزبور كما قلناه في حيازة المباح، بل الظاهر عدم اختصاص التملك بهما بالمسلمين، فلو قهر بعضهم بعضا ملكه كما يملك الصيد باصطياده و قد دلت عليه جملة من النصوص المذكورة في كتاب البيع من الحيوان


1- 1 الوسائل- الباب 65 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 121

بل عن بعض مشايخنا دعوى الإجماع بقسميه عليه، و إن كان لو لا ذلك لم يخل الحكم من نظر، فلاحظ و تأمل.

قيل: و يلحق الخنثى المشكل و الممسوح البالغان بالنساء في الاسترقاق للشبهة الدارئة للقتل، و قد يناقش إن لم يكن إجماعا بأن ذلك لا يقتضي جواز الاسترقاق مطلقا إلا أن يثبت جواز استرقاقهم على وجه يكون ذلك كالأصل.

و على كل حال ف لو اشتبه الطفل بالبالغ اعتبر بالإنبات للشعر الخشن على العانة باللمس أو النظر فمن لم ينبت و جهل سنه و لم يحصل العلم بالبلوغ و لو من أمارات متعددة لم ينص الشارع عليها بالخصوص ألحق بالذراري بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك كما اعترف به بعضهم، بل و لا إشكال، ضرورة ثبوت البلوغ بالعلامة المزبورة التي اقتصر عليها هنا، لغلبة عدم معرفة غيرها من السن و نحوه غالبا، و إلا فلا فرق بينها و بين غيرها من علامات البلوغ، و إن لم يتحقق شي ء منها فالأصل العدم، و في المنتهى و غيره أن سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بهذا و أجازه النبي صلى اللَّه عليه و آله، و في

خبر أبي البختري (1)عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: «قال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله عرضهم يومئذ على العانات، فمن وجده أنبت قتله، و من لم يجده أنبت ألحقه بالذراري».

و لو ادعى الاحتلام و كان ممكنا في حقه قبل كما عن بعضهم التصريح به، لعموم ما دل على قبوله في غيره، و تأمل فيه بعض الناس، لكنه في غير محله، نعم قد يتأمل فيما عن بعضهم من التصريح بالقبول


1- 1 الوسائل- الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 122

لو ادعى استعجال النبات بالدواء للشبهة الدارئة للقتل، و إن نفى عنه البأس بعض الأفاضل، و اللَّه العالم.

و كيف كان ف الذكور البالغون يتعين عليهم القتل إن أسروا و قد كانت الحرب قائمة و لم تضع أوزارها بلا خلاف محقق معتد به أجده فيه و إن حكي عن الإسكافي أنه أطلق التخيير بين الاسترقاق و الفداء بهم و المن عليهم، و مقتضاه عدم القتل، لكنه معلوم البطلان نصا و فتوى، ففي

خبر طلحة بن زيد(1)المنجبر بما عرفت «سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: كان أبي يقول إن للحرب حكمين إذا كانت الحرب قائمة و لم

يثخن أهلها، فكل أسير أخذ في تلك الحال فإن الإمام فيه بالخيار إن شاء ضرب عنقه، و إن شاء قطع يده و رجله من خلاف بغير حسم، ثم يتركه يتشحط في دمه حتى يموت و هو قول اللَّه عز و جل (2)«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» الآية، أ لا ترى أن المخير الذي خير اللَّه تعالى الإمام على شي ء واحد و هو الكفر- كما في الكافي، و في بعض النسخ «القتل» و في التهذيبين «الكل»- و ليس هو على أشياء مختلفة، فقلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: قول اللَّه عز و جل أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ قال ذلك الطلب أن تطلبه الخيل حتى يهرب فإن أخذته الخيل حكم عليه ببعض الأحكام التي وصفت لك، و الحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها و أثخن أهلها، فكل أسير أخذ على تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام عليه السلام فيه بالخيار، إن شاء


1- 1 الوسائل- الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 سورة المائدة- الآية 37.

ج 21، ص: 123

من عليهم فأرسلهم، و إن شاء فاداهم أنفسهم، و إن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا»

و اختلاف النسخ فيما سمعته من الحكم الذي لا مدخلية له فيما نحن فيه مع عدم وضوح معناه لا يقدح في دلالته على المطلوب كما أن الاستشهاد فيه بالآية التي هي في المحارب المسلم المشتملة على غير القتل كذلك أيضا، مع احتمال كون المراد بذكرها التشبيه في

الحكم في الجملة باعتبار كون الفرض من محاربي اللَّه و رسوله و سعاة الفساد في الأرض، و لعدم مشروعية الأسر قبل الإثخان، قال اللَّه تعالى (1)«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» و قال تعالى (2)أيضا «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» و في كنز العرفان المنقول عن أهل البيت عليهم السلام أن الأسير إن أخذ و الحرب قائمة تعين قتله إما بضرب عنقه أو قطع يديه و رجليه و يترك حتى ينزف و يموت، و إن أخذ بعد انقضاء الحرب تخير الإمام عليه السلام بين المن و الفداء و الاسترقاق و لا يجوز القتل، و لو حصل منه الإسلام في الحالين منع القتل خاصة و لعله يرجع إليه ما قيل من أن في الآية تقديما و تأخيرا، تقديره فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها، ثم قال: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً، و هو أولى مما عن الشافعية من أن الإمام مخير مطلقا بين القتل و المن و الفداء و الاسترقاق، بل و ما عن الحنفية


1- 1 سورة الأنفال- الآية 68 و 69 و 70.
2- 2 سورة محمد صلى اللَّه عليه و آله- الآية 4.

ج 21، ص: 124

من تخيير الإمام بين القتل و الاسترقاق، قيل فعلى قولهم الآية منسوخة أو مخصصة بواقعة بدر، و ظاهر الآية قريب من مذهب الشافعية، و

فيه أن الآية ظاهرة في منع القتل بعد الإثخان و الأسر، لقوله تعالى:

«فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً» بل ظاهرها عدم الاسترقاق و لكن ثبت بالسنة و ربما قيل إن الأسر كان محرما بقوله «ما كانَ لِنَبِيٍّ» ثم نسخ بهذه الآية، و لعل تنزيل تلك على الأسر قبل الإثخان أولى من ذلك، كما أن الظاهر توجيه اللوم فيها على من أشار على النبي صلى اللَّه عليه و آله بالفداء في السبعين أسيرا يوم بدر الذين كان أسرهم قبل الإثخان، ثم تاب اللَّه عليهم، و يمكن أن يراد بعدم الإثخان فيها أنه قبل أن يقوى الإسلام لقلة المسلمين يومئذ لا عدم الإثخان في المحاربة المخصوصة التي هي محل البحث، و لكن على كل حال فيها إشعار بعدم جواز الأسر قبل الإثخان، و اللَّه العالم.

و كيف كان فالحكم المزبور مقيد ب ما لم يسلموا بلا خلاف أجده فيه، بل عن التذكرة و المنتهى، الإجماع عليه، بل و لا إشكال، ضرورة حقن الدم بالإسلام الذي أمر النبي صلى اللَّه عليه و آله بالقتال عليه حتى يحصل،

قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله(1): «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم»

و في

خبر الزهري (2)عن علي بن الحسين عليهما السلام «الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه و صار فيئا»

كما لا خلاف أجده في أن له المن عليه حينئذ، بل و لا إشكال، ضرورة أولويته بذلك من الأسر بعد تقضي الحرب و لما يسلم، إنما الكلام في ضم الاسترقاق


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 182.
2- 2 الوسائل- الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 125

و الفداء إليه و عدمه، فعن الشيخ التخيير بين الثلاثة، بل لعله مقتضى إطلاق المصنف الآتي، بل هو خيرة ثاني الشهيدين، و لعله للجمع بين الخبر المزبور المقتضي لتعين الاسترقاق، و لكن لا قائل به، و بين المرسل (1)في المنتهى و غيره من أنه فادى النبي صلى اللَّه عليه و آله أسيرا أسلم برجلين، و ما سمعته من أولوية ما نحن فيه من الكافر الذي أسر بعد تقضي الحرب، بل قيل و إن كنا لم نعرف القائل بعينه. بتعينه، لعدم دليل معتد به على جواز الاسترقاق و الفداء بعد عدم جمع الخبرين المزبورين لشرائط الحجية، و بعد منع أولويته بذلك من الأسر بعد تقضي الحرب و قد أسلم، ضرورة كون إسلامه بعد تعلق حق الاسترقاق به و لو على التخيير، فلا يسقط بالإسلام، بخلاف الفرض الذي لا حكم له إلا القتل و لو لإهانته، و قد سقط بالإسلام الذي هو مانع أيضا عن الاسترقاق ابتداء أيضا كالقتل، مضافا إلى أصالة الحرية، بل و الفداء أيضا كذلك، إذ هو فرع تعلق حق به يؤخذ الفداء عنه، و المرسل السابق مع عدم الجابر له فيه أنه لا وجه ظاهر لرد المسلم للكفار، اللَّهمّ

إلا أن يكون ذا عشيرة تمنعه، أو غير ذلك، نعم لو قلنا بجواز استرقاقه في تلك الحال أو فدائه أو المن عليه أمكن حينئذ استصحابه، و لكن ظاهرهم عدمه، و منه يظهر لك ما في استدلال بعض به، اللَّهمّ إلا أن يقال: إن الأسر مقتض للاسترقاق باعتبار كونهم فيئا للمسلمين و مماليك لهم كما يأتي في بعض (2)النصوص النافية للربا بينهم و بين المسلم و إن تعين قتله شرعا، فيصح حينئذ استصحابه بعد سقوط القتل بالإسلام، و يتبعه الفداء و المن، و لعله لا يخلو من قوة


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 72 و 226 و ج 6 ص 320.
2- 2 الوسائل- الباب 7 من أبواب الربا الحديث 5 من كتاب التجارة.

ج 21، ص: 126

و لكن الاحتياط بالاقتصار على المن أولى، و اللَّه العالم.

و كيف كان ف الإمام عليه السلام مخير في كيفية القتل إن شاء ضرب أعناقهم و إن شاء قطع أيديهم و أرجلهم و تركهم ينزفون حتى يموتوا كما صرح به غير واحد، بل هو المشهور بين الأصحاب بل ربما ظهر من بعض عدم الخلاف فيه، بل من آخر دعوى الإجماع عليه للخبر المزبور(1)الذي قد زيد فيه كون القطع من الخلاف و الاستدلال بالآية المذكور فيها مع ذلك الصلب بل و النفي من الأرض الذي لم أجد به قائلا هنا، و لعله لذا مع ضعف الخبر المزبور و احتمال كون المراد المثال لأفراد القتل كالفتاوى خير القاضي فيما حكي عنه بين أنواع القتل، للإطلاق و معلومية مشروعية

الإجهاز عليه كما صرح به غير واحد مع عدم الموت بالنزف، بل إلى ذلك يرجع أيضا ما عن الحلبي من التخيير بين القتل و الصلب، و إلا فلا دليل عليه، بل ظاهر ما سمعته من الخبر خلافه، فتخرج المسألة حينئذ عن الخلاف، و هو لا يخلو من قوة، خصوصا بعد ما ذكره غير واحد من كون التخيير هنا تخيير شهوة لا اجتهاد في المصلحة، لأن المطلوب قتلهم، بخلاف التخيير الآتي فإنه تخيير اجتهاد فيما يراه من المصلحة باعتبار ولايته العامة، و مع ذلك الأحوط اختيار أحد النوعين المذكورين في النص و الفتوى، و أحوط منه مراعاة المصلحة أيضا فيهما، فإنه ربما يكون القطع أصلح باعتبار الرعب و الرهب المقتضي لاتباع ضعيف العقيدة من الكفار للمسلمين، و ربما يكون ضرب العنق أصلح باعتبار آخر، و اللَّه العالم.

و إن أسروا بعد تقضي الحرب لم يقتلوا، و كان الإمام مخيرا بين المن و الفداء و الاسترقاق كما صرح به غير واحد، بل هو المشهور


1- 1 الوسائل- الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 127

نقلا و تحصيلا، بل في محكي التذكرة و المنتهى نسبته إلى علمائنا أجمع و هو الحجة بعد الخبر المزبور(1)المعتضد بظاهر الآية في المن و الفداء الذي قد يستفاد منه الاسترقاق خصوصا بعد ما سمعته سابقا في خبر الزهري (2)المعتضد بما في غيره من كونهم و ما في أيديهم فيئا للمسلمين و مملوكين لهم، خلافا

للمحكي عن القاضي من زيادة القتل في أفراد التخيير، و لا دليل عليه، بل ظاهر الأدلة خلافه، و به يخرج عن إطلاق الأمر بقتلهم، و عن ابن حمزة من التفصيل بين من يقر على دينه بالجزية كالكتابي فالثلاثة و بين غيره كالوثني الذي لا يقر على دينه فالمن و المفاداة، و يسقط الاسترقاق، بل في المختلف اختياره بعد أن حكاه عن الشيخ أيضا، و فيه أنه غير مناف للاسترقاق كما في النساء منهم التي قد عرفت عدم الخلاف في استرقاقهن، بل الإجماع بقسميه عليه و لذا كان صريح جماعة و ظاهر الباقين عدم الفرق بين الجميع.

ثم إن ظاهر النص و الفتوى إطلاق التخيير، لكن الفاضل في المحكي عن جملة من كتبه و ثاني الشهيدين عينا الأصلح من الثلاثة، لكونه الولي للمسلمين المكلف بمراعاة مصالحهم، و مقتضاه عدم التخيير إلا مع التساوي في المصلحة، فحينئذ يتخير تخيير شهوة، و لا ريب في كونه أحوط، و إن كان اجتهادا في مقابلة إطلاق التخيير من ولي الجميع الذي هو أعلم بالمصالح، و ليس هو من إطلاق تصرف الولي المنوط بالمصلحة كالوكيل، و مع اختيار الاسترقاق أو المال فداء فلا ريب في أنه من الغنيمة التي يتعلق بها حق الغانمين كما صرح به الفاضل و الشهيدان و غيرهم، و لا ينافيه تخيير الإمام عليه السلام بين ما يكون


1- 1 الوسائل- الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 128

غنيمة و غيره بعد أن كانوا هم الذين أسروه و قهروه، و أقصى تخيير الإمام أن له المن عليه باعتبار كونه أولى من المؤمنين بأنفسهم، فمع فرض اختياره المالية بالاسترقاق أو الفداء تعلق به حق الغانمين كأولياء القصاص إذا اختاروا الدية، فإنه يتعلق بها حق الدين و غيره، و اللَّه العالم.

و كيف كان ف لو أسلموا بعد الأسر لم يسقط عنهم هذا الحكم الذي هو التخيير بين الثلاثة بلا خلاف معتد به أجده فيه بل و لا إشكال، للأصل و الإطلاق، نعم في محكي المبسوط قيل إن أسلم سقط عنه الاسترقاق، لأن عقيلا أسلم بعد الأسر ففداه النبي صلى اللَّه عليه و آله و لم يسترقه، و فيه أن ذلك حكاية حال، فلا تعم مع كون المفاداة أحد الأمور المخير فيها فاختارها لذلك لا لأصل عدم جواز الاسترقاق ثم إن ظاهر المتن كون الحكم المزبور للأسير بعد انقضاء الحرب و ربما احتمل عمومه له قبل انقضائها، و قد عرفت البحث فيه مفصلا كالمحكي عن الإسكافي من مضمون الخبر المزبور لو أسلم الأسير حقن دمه و صار فيئا، و إلا فهو على إطلاقه، خصوصا في مفروض المقام الذي لا قتل عليه فيه قبل الإسلام أيضا.

و لو عجز الأسير عن المشي لم يجب قتله، لأنه لا يدري ما حكم الإمام عليه السلام فيه كما في المنتهى و محكي التذكرة و غيرها من كتبه، و لعل المراد عدم جواز القتل كما هو ظاهر النهاية و السرائر و النافع و اللمعة و الدروس و الروضة و غيرها على ما حكي عن بعضها، بل هو صريح بعضهم، بل صرح أيضا بوجوب الإرسال، و الأصل في ذلك

ج 21، ص: 129

قول علي بن الحسين عليهما السلام في خبر الزهري (1)«إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي و لم يكن معك محمل فأرسله و لا تقتله، فإنك لا تدري ما حكم الإمام فيه»

المنجبر بعمل من عرفت، خصوصا ابن إدريس منهم الذي لا يعمل بالمعتبر من أخبار الآحاد فضلا عن غيره لكن في الدروس نسبة الأمر بإطلاقه إلى النهاية بعد أن حكم بعدم حل قتله، و كأنه مشعر بتردده فيه، قيل: و لعله لضعف الخبر، و لأن القتل يتعين عليه فلا يجوز للمسلم أن يتركه و ينصرف لما فيه من الإخلال بالواجب و تقوية الكفار، بل ربما يؤدي ذلك إلى الاحتيال في الخلاص، و رد بأنه اجتهاد في مقابلة النص المعتبر بالعمل ممن عرفت، قلت: إن كان المراد من الأسير في محل البحث الذي أسر بعد انقضاء الحرب فلا إشكال في عدم جواز قتله على كل حال، لما سمعته من النص و الفتوى، و لعله هو الظاهر منهما هنا، ضرورة كونه الذي لا يعلم حكم الإمام فيه المن أو الفداء أو الاسترقاق، و إن كان المراد الذي أسر قبل انقضاء الحرب على معنى عدم العلم بحكم الإمام في كيفية قتله، بل ربما فسر به نحو عبارة المتن فقد يقال: إن عدم جواز قتله لكونه من الحد المختص بالإمام عليه السلام كالزاني المحصن و إن كان لا يخلو من نظر أو منع، لكونه مشركا مأمورا بقتله أينما وجد، و ربما يؤيده في الجملة

خبر علي بن جعفر(2)المروي عن قرب الإسناد عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن رجل اشترى عبدا مشركا و هو في أرض الشرك فقال العبد:

لا أستطيع المشي، و خاف المسلمون أن يلحق العبد بالعدو، أ يحل قتله؟ قال: إذا خافوا فاقتله»

و نحوه

خبره


1- 1 الوسائل- الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 130

الآخر(1)المروي عن كتاب مسائله لأخيه عليه السلام إلا أنه قال:

«إذا خاف أن يلحق القوم يعني العدو حل قتله»

بل لعل المفروض أولى بالقتل، لكونه غير مال، هذا، و لكن ذلك كله لا يكون وجها لما في الدروس من التردد في الأمر بإطلاقه بعد جزمه بحرمة قتله، نعم قد يتردد في عدم جواز قتله مما سمعت، بل ربما كان ذلك وجها لتعبير المصنف بعدم وجوب القتل بناء على كون مراده هذا الفرد من الأسير على معنى أن عدم الوجوب حينئذ للجمع بين ما دل على الأمر بقتل المشركين حيث وجدتموهم و بين ما دل على أن حكم الأسير للإمام عليه السلام، و إن كان التحقيق ما عرفت، بل الظاهر عدم جواز سحب الفرد الأول من الأسير مثلا بعنوان الإتيان به إلى الإمام عليه السلام على وجه يؤدي إلى قتله، أما الثاني فلا يبعد جوازه، لكونه متعين القتل و كيف كان ف لو بدر مسلم أو

كافر فقتله أي الأسير بفرديه كان هدرا بلا خلاف أجده فيه بيننا، لعدم احترامه فلا يترتب عليه دية و لا كفارة، و احتمال استرقاق الإمام عليه السلام الفرد الأول منه أو مفاداته على وجه يكون غنيمة لا يوجب ضمانه قبل ذلك، كما هو واضح.

و يجب أن يطعم الأسير و يسقى و إن أريد قتله في ذلك الوقت الذي يحتاج فيه إلى الإطعام كما صرح به غير واحد، بل نسب إلى ظاهر الأصحاب، بل نفي الخلاف عنه عدا شاذ من المتأخرين، محتجين عليه ب

صحيح أبي بصير(2)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «سألته عن


1- 1 الوسائل- الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
2- 2 الوسائل- الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 131

قول اللَّه عز و جل (1)«وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ» الآية قال: هو الأسير و قال: الأسير يطعم و إن كان يقدم للقتل، و قال: إن عليا عليه السلام كان يطعم من خلد في السجن من بيت مال المسلمين»

و بخبر مسعدة بن زياد(2)المروي عن قرب الإسناد عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «قال علي عليه السلام: إطعام الأسير و الإحسان إليه حق واجب و إن قتله من الغد»

و بحسن زرارة و صحيحه (3)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «إطعام الأسير حق على من أسره و إن كان يراد من الغد قتله، فإنه ينبغي أن يطعم و يسقى و يرفق به كافرا كان أو غيره»

و نحوه أخبار منصور بن حازم (4)و جراح المدائني (5)و سليمان بن خالد(6)عنه عليه السلام أيضا، و لكن الإنصاف انسياق الندب من النصوص المزبورة بملاحظة بعض القرائن فيها، سيما خبر أبي بصير المشتمل على تفسير الآية المساقة للمدح، مضافا إلى معلومية عدم احترام نفس المشرك الذي هو شر الدواب المؤذية، بل طلب إتلافها نعم قد يقال بإطعامه لبقاء حياته حتى يصل إلى الإمام عليه السلام، و اللَّه العالم.

و يكره قتله صبرا كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا، لما في

صحيح الحلبي (7)عن الصادق عليه السلام «لم يقتل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله رجلا صبرا غير عقبة بن أبي معيط و طعن


1- 1 سورة الدهر- الآية 8.
2- 2 الوسائل- الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
3- 3 الوسائل- الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
4- 4 الوسائل- الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
5- 5 الوسائل- الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
6- 6 الوسائل- الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
7- 7 الوسائل- الباب 66 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 132

ابن أبي خلف فمات بعد ذلك»

ضرورة إشعاره بمرجوحيته التي لا ينافيها وقوعه من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله المحتمل

رجحانه لمقارنة أمر آخر، على أن الحكم مما يتسامح فيه.

و المراد بالقتل صبرا أن يقيد يداه و رجلاه مثلا حال قتله، و حينئذ فإذا أريد عدم الكراهة أطلقه و قتله، و لعل هذا هو المراد مما فسره به غير واحد، بل نسبه بعض إلى المشهور من أنه الحبس للقتل، و في القاموس و صبر الإنسان و غيره على القتل أن يحبس و يرمى حتى يموت و قد قتله صبرا و صبره عليه، و أما ما قيل- كما حكاه في المسالك من أنه التعذيب حتى يموت أو القتل جهرا بين الناس أو التهديد بالقتل ثم القتل، و في غيرها القتل و ينظر إليه آخر، أو لا يطعم و لا يسقى حتى يموت بالعطش و الجوع- فلم أجد ما يشهد لها، بل الأخير منها مناف لما سمعته من وجوب الإطعام و السقي و لكن قد نفى بعضهم البأس عن كراهة الكل للتسامح.

و كذا يكره حمل رأسه أي الكافر المقتول من المعركة لكونه تمثيلا أو كالتمثيل، و لا شعار عدم نقل رأس كافر قط إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله بمرجوحيته في الجملة، و للخوف من فعل مثله بالمؤمن، مع أن الحكم مما يتسامح فيه، نعم لو كان في نقله نكبة للكفار و قوة للمسلمين أمكن زوالها، و لعله لذا حمل رأس أبي جهل، بل في بعض الأخبار(1)حمل أمير المؤمنين عليه السلام رأس عمرو بن عبد ود. و اللَّه العالم.

و يجب مواراة الشهيد و غيره من المؤمنين دون الحربي و غيره من الكفار بلا خلاف و لا إشكال، بل قيل لا يجوز دفنه بلا


1- 1 البحار- ج 20 ص 206 الطبع الحديث.

ج 21، ص: 133

إشكال فيه، و إن كان فيه نظر بل منع، للأصل السالم عن معارضة حرمة التشريع بعد أن كان الدفن من المعاملة لا من العبادات، فهو حينئذ في الكافر و غيره من الحيوانات حتى الكلب و الخنزير على مقتضى الأصول، و النهي في الصحيح (1)الآتي إنما يراد به في مقام توهم وجوب مواراة الجميع و لو للمقدمة، فيراد منه حينئذ عدم وجوب ذلك إلا من كان كمشا.

و كيف كان ف إن اشتبه يوارى من كان كميش الذكر منهم كما صرح به جماعة منهم الفاضل و الشهيد، بل هو المحكي عن ظاهر الشيخ أيضا، ل

حسن حماد بن عيسى أو صحيحه (2)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله يوم بدر:

«لا تواروا إلا من كان كميشا يعني من كان ذكره صغيرا، قال:

و لا يكون ذلك إلا في كرام الناس»

المعتضد

بالمرسل عن علي عليه السلام قال: «ينظر موتاهم فمن كان صغير الذكر يدفن»

و المناقشة في الأول بأنه مناف لحرمة النظر إلى العورة و بكونه قضية في واقعة لا عموم فيها يدفعها إمكان النظر بواسطة جسم شفاف ترتسم فيه العورة أو التزام الجواز هنا للضرورة إلى التمييز المرجح على الحرمة بالصحيح أو غير ذلك، و ملاحظة التعليل الظاهر في كون ذلك علامة للمؤمن، و حينئذ يتجه كون الصلاة كذلك كما عن المبسوط التصريح به، فإنه بعد أن ذكر مضمون الخبر المزبور قال: «فعلى هذا يصلى على من هذه صفته، و إن قلنا إنه يصلى على كل واحد منهم منفردا بنية شرط إسلامه


1- 1 الوسائل- الباب 65 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 65 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 134

كان احتياطا، و إن قلنا إنه يصلي عليهم صلاة واحدة و ينوي بالصلاة الصلاة على المؤمنين منهم كان قويا» هذا، و لكن في السرائر بعد نسبة الصحيح المزبور إلى الشذوذ أوجب القرعة في الدفن، لأنها لكل أمر مشكل، قال: «و أما الصلاة عليهم فالأظهر من أقوال أصحابنا أن يصلى عليهم بنية الصلاة على المسلمين دون الكفار» و لعله بناء على أصله من عدم العمل بخبر الواحد و إن كان معتبر السند، إلا أن المتجه مع الإعراض عنه دفن الجميع للمقدمة التي بها يرتفع الإشكال، فينتفي موضوع القرعة، و دعوى تعارض مقدمة الحرام بمقدمة الواجب باعتبار حرمة دفن الكافر يدفعها ما عرفت من عدم دليل على حرمته، و من هنا قال في التنقيح بعد ذكر الخبر المزبور دليلا لما في النافع: و لو قيل بدفن الكل احتياطا كان حسنا، أما مع التأذي بهم فيدفنون جميعا كل ذلك مضافا إلى الإغضاء عما ذكره من الفرق بين الدفن و الصلاة مع أن القرعة كما يكشف بها موضوع الأول يكشف بها موضوع الثاني و الصلاة على كل واحد بنية أنها على المسلم يأتي مثلها في الدفن، و احتمال إرادة التعليق في نية الصلاة على الإسلام مناف للجزم في النية نعم لو جمع الجميع و صلى على المسلمين منهم بنية واحدة و كان على وجه لا فساد فيه من حيث البعد مثلا اتجه الصحة حينئذ، و بذلك كله ظهر لك ما في المحكي عن المختلف من العمل بالنص في الدفن بخلاف الصلاة فاختبار ما سمعته من السرائر، و كيف كان فالأقوى العمل بالخبر المزبور بعد جمعه لشرائط الحجية، و لكن مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط و اللَّه العالم.

و حكم الطفل ذكر أو أنثى تابع لأبويه في الإسلام و الكفر و ما يتبعهما من الأحكام كالطهارة و النجاسة و غيرهما بلا خلاف أجده

ج 21، ص: 135

فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى إمكان القطع به من السنة ف

في الصحيح (1)«عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث قال كفار»

و في الخبر(2)«أولاد المشركين مع آبائهم في النار، و أولاد المسلمين مع آبائهم في الجنة»

و في المرسل (3)«أطفال المؤمنين يلحقون بآبائهم، و أولاد المشركين يلحقون بآبائهم»

مضافا إلى قول اللَّه تعالى (4)«أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» و إلى خصوص ما ورد في المواضع المتفرقة كجواز إعطاء أطفال المؤمنين من الزكاة و الكفارات (5)و جواز العقد عليهم مطلقا(6)مع اشتراط الإسلام في جميع ذلك، و إلى تغسيلهم و الصلاة عليهم و غيرهما مما لا يحتاج إلى بيان.

و حينئذ فالطفل المسبي حكمه حكم أبويه المسبيين معه فإن أسلما أو أسلم أحدهما تبعه الولد بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به بعضهم كحالهم قبل السبي،

قال حفص بن غياث (7)«سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك فقال إسلامه إسلام لنفسه و لولده الصغار، و هم أحرار، و ولده و متاعه و رفيقه له، فأما


1- 1 البحار- ج 5 ص 295- 294- 292 الطبع الحديث.
2- 2 البحار- ج 5 ص 295- 294- 292 الطبع الحديث.
3- 3 البحار- ج 5 ص 295- 294- 292 الطبع الحديث.
4- 4 سورة الطور- الآية 21.
5- 5 الوسائل- الباب 6 من أبواب المستحقين للزكاة و الباب 17 من أبواب الكفارات من كتاب الإيلاء و الكفارات.
6- 6 الوسائل- الباب 11 و 12 من أبواب عقد النكاح من كتاب النكاح.
7- 7 الوسائل- الباب 43 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 136

الولد الكبار فهم في ء للمسلمين إلا أن يكونوا أسلموا قبل ذلك، فأما الدور و الأرضون فهي في ء فلا يكون له، لأن الأرض هي أرض جزية لم يجر فيها حكم الإسلام، و ليس بمنزلة ما ذكرناه، لأن ذلك يمكن احتيازه و إخراجه إلى دار الإسلام»

مضافا إلى قاعدة

(1)«أن الإسلام يعلو و لا يعلى عليه»

و إلى لحوق الولد بأشرف أبويه في الحرية، ففي الإسلام أولى، و حينئذ فهو مسلم و إن سبي مع الكافر منهما مع فرض إسلام الآخر من أبويه و لو في دار الحرب.

و أما إن سبي الطفل منفردا عن أبويه الكافرين قيل و القائل الإسكافي و الشيخ و القاضي فيما حكي عنهم و اختاره الشهيد يتبع السابي في الإسلام كما هو المحكي عن المخالفين أجمع لأن الدين في الأطفال يثبت تبعا، و قد انقطعت تبعيته لأبويه بانقطاعه عنهما و إخراجه عن دارهما، و مصيره إلى دار الإسلام تبعا لسابيه المسلم، فكان تبعا له في الدين، و ل

قوله عليه السلام (2)«كل مولود يولد على الفطرة، و إنما أبواه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه»

أي و هما معه، فإذا انقطع عنهما و زالت المعية انتفى المقتضي لكفره فيرجع إلى

الفطرة، معتضدا ذلك بنفي الحرج و نحوه، و لكنهما معا كما ترى، و لذا كان ظاهر المصنف و غيره التوقف، بل صرح غير واحد بعدم التبعية في الإسلام، للأصل و إطلاق ما سمعته من التبعية التي لا


1- 1 كنز العمال- ج 1 ص 17 الرقم 246 و جامع الصغير ج 1 ص 123.
2- 2 الوسائل- الباب 48 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 و صحيح مسلم ج 8 ص 52 المطبوع عام 1334.

ج 21، ص: 137

دليل على انقطاعها بانقطاعه عنهما، و إخراجه عن دارهما و مصيره إلى دار الإسلام، على أن القائل بالتبعية للسابي لا يعتبر فيها كونه في دار الإسلام، بل لو سباه و بقي معه في دار الكفر لتجارة و نحوها تبعه فيه أيضا، كما أنه لو انفرد ولد الذميين عنهما تبعا لمسلم في دار الإسلام لا يرتفع عنه الكفر إجماعا مع تحقق المفارقة، و دعوى أن العلة مركبة من المفارقة و ملك المسلم و دار الإسلام لا دليل عليها، و الخبر المزبور ظاهر في إرادة أن المولود لو خلي و نفسه لاختار الإسلام عند بلوغه، و لكن أبواه يهودانه و ينصرانه بتلقينهما ذلك إياه على وجه يختارهما عند البلوغ، لمكان تعليمهما، و إلا لو كان المراد أن المولود ولادته على الإسلام بمعنى أنه محكوم بإسلامه لو لا تبعيته لأبويه لانحصر المرتد في الفطري، و لم يكن مرتد عن ملة، اللَّهمّ إلا أن يكون الفرق بينهما بالتبعية المزبورة و عدمها.

و على كل حال فلا ظهور فيه، بل ربما كان ظاهرا في العكس باعتبار دلالته على التبعية بمجرد الولادة التي مقتضى الأصل بقاؤها حتى لو انفرد عنهما، و دعوى اشتراطها بكونه معهما لا دليل عليها، بل مقتضى الإطلاق خلافها، كما أن مقتضى استصحاب التبعية المزبورة انقطاع أصل الطهارة به، و نفي الحرج في الدين يمكن منع تحقق موضوعه كما في سبي النساء، و استئجار الكافرين و نحو ذلك مما يمكن الانتفاع به و هو على نجاسته.

و من ذلك يظهر لك ما في القول بتبعيته للسابي في الطهارة خاصة دون باقي أحكام الإسلام كما قربه الفاضل في القواعد و تبعه ولده في الشرح و الكركي في حاشيته على الكتاب، و هو المحكي عن ابن إدريس لأصالة الطهارة السالمة عن معارضة يقين النجاسة، و للحرج و للاقتصار

ج 21، ص: 138

في الرخصة على موضع اليقين، إذ لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه ما في الأولين، و أما الأخير فإن ثبت إجماع عليه فذاك، و إلا كان محلا للمنع، و دعوى منع شمول إطلاق دليل التبعية للفرض، و الاستصحاب إنما يكون حجة حيث يسلم عن المعارض، و في محل البحث ليس بسالم، لمعارضته باستصحاب طهارة الملاقي، يدفعها مضافا إلى ما سمعت أن التحقيق عندنا تحكيم استصحاب النجاسة على استصحاب طهارة الملاقي كما ذكرناه في محله، و مع التسليم فهو لا يقتضي الطهارة ضرورة كون المتجه حينئذ العمل بهما معا بتحكيم نجاسة المسبي و طهارة ملاقيه كما التزمه القائل في مواضع كثيرة، و هو غير المدعى من طهارة المسبي، و من الغريب ما ذكره هذا القائل بعد اعترافه بأن المتجه ما ذكرناه بناء على تعارض الاستصحابين، لكن قال: «حيث أن المهم هنا هو طهارة الملاقي أو نجاسته مع عدم وجود الإجماع المركب المقطوع به على تعارض الاستصحابين تعين القول بطهارته في هذا الفرع» إذ هو كما ترى لا حاصل له، فالعمدة حينئذ الإجماع إن تم كما عرفت.

هذا كله مع سبيه منفردا عنهما، أما إذا سبي مع أحدهما فلا خلاف في بقائه على الكفر، بل في الرياض هو بحكم الكافر قولا واحدا منا لكن في المسالك بعد أن نسب البقاء على حكم الكفر إلى صريح الشيخ قال: مع احتمال العدم على مذهبه، لما تقدم من أن الحكم بكفره في الخبر أي خبر الفطرة معلق على الأبوين، فلا يثبت مع أحدهما إلا أن دلالة المفهوم ضعيفة، قلت: مع احتمال أو ظهور كون المراد كل منهما لا مجموعهما.

و لو مات الأبوان بعد سبيهما معا فمقتضى دليل الشيخ تبعيته الآن للسابي، لكنه وافق هنا على عدم الحكم بإسلامه محتجا بأنه مولود

ج 21، ص: 139

من كافرين، فإذا ماتا أو مات أحدهما لم يحكم بإسلامه كما لو كانا في دار الحرب، و بأنه كافر أصلي فلا يحكم بإسلامه بموت أبويه كالبالغ و لا يخفى عليك جريان هذا بعينه فيما لو انفرد عنهما، و لا فرق في شمول الخبر المزبور لهما.

كما أنه لا يخفى عليك ما يتفرع على القولين في التغسيل و التكفين و الصلاة عليه إن بلغ الست، ضرورة جريان حكم المسلم عليه على القول بالتبعية بخلافه على القول الآخر و إن قلنا بطهارة ملاقيه، و كذا لو بلغ، فإنه على الأول يحكم بإسلامه و إن لم يسمع منه و الاعتراف به كولد المسلم، بخلافه على القول الآخر، بل الظاهر عدم الحكم بطهارته حتى يصف الإسلام بعد بلوغه و إن قلنا بها قبل البلوغ، مع احتمال استصحابها ما لم يعلم عدم الإسلام منه، لكن في المسالك الجزم بعدم الحكم بطهارته بعد البلوغ، إلا أن يظهر الإسلام كغيره من أولاد الكفار، قال: «ينبغي لمن ابتلي بذلك أن يعلمه ما يتحقق معه الإسلام قبل البلوغ، و يستنطقه به عند البلوغ ليتحصل الحكم بالطهارة- ثم قال-: و لو اشتبه سنه و بلوغه بني على أصالة العدم، فيستصحب الطهارة على القول الثاني، إلا أن يعلم، و ينبغي مراعاته عند ظهور الأمارات المفيدة للظن بالاختبار لعانته و تكرار الإقرار بالشهادتين في مختلف الأوقات» قلت لعل المتجه بناء على ما ذكرناه من الاحتمال عدم تكلف ذلك و إن كان لا يحكم بإسلامه حتى يسمع منه الاعتراف، إلا أنه مستصحب الطهارة حتى يتحقق منه عدم الإسلام، و احتمال الاكتفاء بأصالة عدم وصفه الإسلام محل بحث أو منع.

و لا يجوز تبعيته لغير المسلم بناء على القول الأول بخلافه على الآخر، و ربما احتمل العدم أيضا لتشبثه بالإسلام و اتصافه منه ببعض

ج 21، ص: 140

الأحكام بخلاف الكافر المحض و من هو بحكمه، و بهذا يظهر أن القول بتبعيته في الطهارة خاصة ليس هو أحوط القولين، بل الحكم بإسلامه أحوط في الأمر الأول و الأخير، قلت لكن لا يخفى عليك ضعف الاحتمال المزبور.

و لو مات قرينه المسلم و له وارث مسلم فعلى الأول يشاركه إن كان في درجته، و يختص إن كان أقرب، و على الثاني الإرث للآخر خاصة، و لو فرض أنه بلغ قبل القسمة مع تعدد الوارث و أسلم شارك أو اختص على الثاني، و لو لم يكن لقريبه الميّت وارث سواه اشتري من التركة و ورث على الأول، و كان الميراث للإمام على الثاني إلى غير ذلك من الأحكام التي لا يخفى عليك جريانها بأدنى التفات، و اللَّه العالم.

[تفريع إذا أسر الزوج البالغ لم ينفسخ النكاح ]

تفريع إذا أسر الزوج البالغ لم ينفسخ النكاح للأصل و غيره بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل عن ظاهر المنتهى، الإجماع عليه، بل في المسالك هو موضع وفاق عندنا، نعم عن أبي حنيفة الانفساخ بناء منه على ملك البالغ بالأسر الذي قد عرفت بطلانه عندنا، و أن الإمام عليه السلام مخير فيه بين المن و الفداء و الاسترقاق إذا كان قد أسر بعد تقضي الحرب و حينئذ ف لو استرق باختيار من الإمام عليه السلام انفسخ النكاح لتجدد الملك الموجب لانفساخ نكاحه بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل لعله إجماع، فيكون هو الحجة و إلا فلا تنافي بين تجدد الملك و بقاء النكاح كما لا ينافيه بعد الملك و كذا لو كان الزوج الأسير طفلا أو امرأة انفسخ النكاح لتحقق الرق ب مجرد السبي فيهما، و قد عرفت اقتضاءه انفساخ النكاح، بل في ظاهر المنتهى و محكي التذكرة الإجماع عليه في الثانية، بل في الأول منهما دعواه صريحا فيها لو سبيت وحدها، بل

ج 21، ص: 141

قال: و لا نعلم فيه خلافا، و ظاهره بين المسلمين، و هو الحجة بعد قوله تعالى (1)«وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» بناء على كون المراد منها إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من ذوات الأزواج كما عن ابن عباس، بل

عن أبي سعيد الخدري (2)«أنه أصبنا سبايا يوم أوطاس و لهن أزواج في قومهن فذكروا ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله فنزلت»

و عن النبي صلى اللَّه عليه و آله (3)أنه قال: في سبي أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، و لا حائل حتى تحيض»

و هو ظاهر في انفساخ النكاح، مؤيدا ذلك كله بأن ملك الرقبة أقوى من ملك النكاح، فإذا طرأ عليه أزاله و غيره، و لا فرق عندنا في انفساخ نكاح المرأة لو سبيت وحدها بين أن يسبى زوجها بعدها بيوم أو بأزيد أو بأنقص، لما سمعته من إطلاق الدليل، خلافا لأبي حنيفة

فلا ينفسخ إن سبي زوجها بعدها بيوم، و هو واضح الضعف.

و كذا ينفسخ النكاح عندنا كما في المنتهى و محكي التذكرة لو أسر الزوجان معا لحدوث الملك للزوجة بمجرد السبي، و هو مقتض لانفساخ النكاح كما عرفت و إن لم يحصل الملك للزوج إذا فرض كونه كبيرا و لم يكن قد اختار الإمام عليه السلام استرقاقه، خلافا لأبي حنيفة و ابن حنبل فلا ينفسخ، لأن الرق لا يمنع ابتداء فلا يقطع استدامة كالعتق، و هو مصادرة بعد ما عرفت من الآية و الرواية و غيرهما و لا فرق في ذلك بين أن يسبيهما رجل أو رجلان للإطلاق، لكن في المنتهى و الوجه أنه إذا سباهما رجل واحد و ملكهما معا أن النكاح باق، و له فسخه، و كذا لو بيعا من واحد، و فيه أنه مناف لما هو


1- 1 سورة النساء- الآية 28.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 124.
3- 3 سنن البيهقي ج 9 ص 124.

ج 21، ص: 142

كالمجمع عليه باعترافه و اعتراف غيره من انفساخ النكاح بتجدد الملك كما عرفته سابقا في أفراد المسألة، و كون المالك واحدا لا يقتضي عدمه و هو واضح.

نعم لو كان الزوجان مملوكين لم ينفسخ لأنه لم يحدث رق يقتضي انفساخ النكاح، و إنما هو تبديل مالك بمالك آخر كالبيع و نحوه لكن لو قيل بتخير الغانم في الفسخ و عدمه كان حسنا كما يتخير لو ملكهما بالبيع و نحوه، بل جزم به غير واحد ممن تأخر عن المصنف لعموم ولاية السيد على مملوكه الذي هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ و لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ، خلافا للمحكي عن المبسوط و السرائر لما سمعته من التعليل في المتن، و يمكن أن يريدا عدم الانفساخ قهرا كما عرفته في أقسام المسألة، اللَّهمّ إلا أن يكونا قد صرحا بعدم التخيير و لم يحضرنا عبارتاهما، هذا، و في المسالك بعد أن ذكر أن ما حسنه المصنف حسن قال: و ألحق به في التذكرة ما لو سباهما واحد و ملكهما، فلا ينفسخ النكاح إلا بفسخه، و كأنه أراد به ما لو سباهما في حال الغيبة فيمن يدخل في إذن الإمام عليه السلام، فإنه يملكهما دفعة و يتخير في نكاحهما و إلا كانت هي الأولى، لأن مجرد السبي لا مدخل له في الحكم بالنسبة إلى الغانمين» قلت: الموجود في التذكرة ما سمعته سابقا من المنتهى في غير المملوكين، و فيه ما عرفت.

و لو سبيت امرأة مثلا فصولح أهلها على إطلاق أسير في يد أهل الشرك فأطلق لم يجب إعادة المرأة كما في القواعد و الإرشاد و غيرهما، بل لا أجد فيه خلافا، لفساد الصلح بحرمة أحد العوضين الذي لا يستحقون أسره و لكن لو اعتقت أي أطلقت بعوض مالي بأن صولح أهلها بمال جاز (11) لعموم أدلة الصلح ما لم يكن

ج 21، ص: 143

قد استولدها مسلم فلا يجوز له حينئذ نقلها بالصلح، و لعل التعبير في المتن عن الإطلاق بالعتق باعتبار أن ردها إلى الكفار إطلاق لها من الملك فكان كالعتق، ثم إن ظاهر المصنف عدم جواز الصلح على ردها متى استولدها مسلم مطلقا و إن لم يكن المالك لها، بل في حاشية الكركي على الإرشاد «متى استولدها مسلم بحال من الأحوال لم ترد» و وجهه حيث تكون أم ولد له ما دل على عدم جواز نقل أمهات الأولاد أما غيرها فلا يخلو من إشكال أو منع ما لم يكن إجماع أو نحوه، خصوصا بعد ما ستعرف من استرقاق الحربية الحاملة من مسلم، لعموم الأدلة التي لا يكفي في تخصيصها مجرد احترامها من حيث كونها أم ولد مسلم، و اللَّه العالم.

[و يلحق بهذا الطرف مسألتان ]
اشاره

و يلحق بهذا الطرف مسألتان:

[المسألة الأولى إذا أسلم الحربي في دار الحرب حقن دمه و عصم ماله ]

الأولى إذا أسلم الحربي في دار الحرب حقن دمه و عصم ماله مما ينقل كالذهب و الفضة و الأمتعة دون ما لا ينقل كالأرضين و العقار فإنها في ء للمسلمين، و لحق به ولده الأصاغر و لو كان فيهم حمل بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك كما اعترف به غير واحد، بل و لا إشكال بعد الأصل و العمومات و خصوص

خبر حفص بن غياث (1)المنجبر بما عرفت، قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك فقال إسلامه إسلام لولده الصغار و هم أحرار، و ولده و متاعه و رقيقه له، فأما الولد الكبار فهم في ء للمسلمين إلا أن يكونوا أسلموا قبل ذلك، فأما الدور و الأرضون فهي في ء و لا يكون له، لأن الأرض هي أرض جزية لم يجر فيها حكم الإسلام، و ليس

بمنزلة ما ذكرناه لأن ذلك يمكن احتيازه و إخراجه


1- 1 الوسائل- الباب 43 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 144

إلى دار الإسلام»

بل منه يستفاد تبعية الولد للوالد في الإسلام و الكفر كما أن منه يستفاد حكم الحمل، ضرورة عدم اعتبار التولد في التبعية للوالد، بل لعله أولى.

و حينئذ ف لو سبيت أم الحمل كانت رقا دون ولدها منه لما عرفته من تبعيته لوالده دونها، فإنها باقية على الكفر الأصلي و مندرجة في عموم الأدلة و إطلاقها.

و كذا لو كانت الحربية حاملا من مسلم بوطء مباح كوطء الشبهة و نحوها.

و لو أعتق مسلم عبدا ذميا بالنذر بناء على اعتبار النذر في جواز عتق العبد الكافر كما عن الشيخ في النهاية في مقابل القول بالجواز مطلقا و عدمه كذلك، كما أشبعنا الكلام فيه في كتاب العتق.

و على كل حال ف لو لحق بدار الحرب فأسره المسلمون جاز استرقاقه لعموم الأدلة، و قيل و القائل الشيخ في محكي المبسوط لا يجوز استرقاقه لتعلق ولاء المسلم به ثم قال: «و لو قلنا يصح و يبطل ولاء المسلم كان قويا» لكن لم يفرضه كما فرضه المصنف من كونه معتقا بالنذر، و لعله أولى، لعدم ولاء للمعتق بغير التبرع، و من هنا قال في المسالك: «يمكن حمله على ولاء ضمان الجريرة بأن يتعاقد المولى و المعتق بعد العتق على ضمانها، فيثبت ولاؤهما» و إن كان هو كما ترى، كتعليل عدم الجواز بالولاء الذي هو غير صالح لتخصيص العموم، ضرورة عدم منافاته له على معنى أنه إن مات سائبة يثبت الولاء، و إلا فلا، أو يقال ببطلان الولاء في الفرض المزبور كما سمعته في احتمال المبسوط.

ج 21، ص: 145

هذا كله لو أعتقه المسلم و أما لو كان المعتق ذميا استرق إجماعا كما في محكي التذكرة و المنتهى، و هو الحجة بعد العموم خلافا للشافعي في أحد وجهيه، فلا يجوز، لتعلق ولاء الذمي به، ورد بأن سيده إذا التحق بدار الحرب جاز استرقاقه، فعقده أولى، و فيه نظر، و العمدة الأول.

[المسألة الثانية إذا أسلم عبد الحربي في دار الحرب قبل مولاه ملك نفسه ]

المسألة الثانية إذا أسلم عبد الحربي في دار الحرب قبل مولاه ملك نفسه بشرط أن يخرج قبل مولا ه و لو خرج بعده كان على رقه، و منهم من لم يشترط خروجه، و الأول أصح و أشهر، بل المشهور إذ هو فتوى الشيخ في النهاية و الإسكافي و ابن إدريس و الفاضل و الشهيدين و الكركي و غيرهم على ما حكي عن بعضهم، بل لم نجد فيه خلافا صريحا نعم قال في محكي المبسوط بعد أن أفتى بما عليه المشهور: «و إن قلنا إنه يصير حرا على كل حال كان قويا، و لعله لعموم نفي السبيل (1)و لأن

الإسلام يعلو و لا يعلى عليه (2)

و كان قول المصنف في النافع:

«و في اشتراط خروجه تردد» من ذلك، و من ظاهر

قوي السكوني (3)عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام «أن النبي صلى اللَّه عليه و آله حين حاصر أهل الطائف قال: أيما عبد خرج إلينا قبل مولاه فهو حر و أيما عبد خرج إلينا بعد مولاه فهو عبد»

المنجبر بما عرفت و المعتضد

بالمروي من طرق العامة(4)قضى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله في العبد


1- 1 سورة النساء- الآية 140.
2- 2 كنز العمال- ج 1 ص 17 الرقم 246 و جامع الصغير ج 1 ص 123.
3- 3 الوسائل- الباب 44 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
4- 4 المنتقى من أخبار المصطفى ج 2 ص 809 الرقم 4403.

ج 21، ص: 146

و سيده بقضيتين، قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر، فإن خرج سيده بعده لم يرد عليه، و قضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رد على سيده»

و في

آخر(1)«كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله يعتق العبيد إذا جاءوا قبل مواليهم»

و بالأصل و قاعدة الاقتصار على المتيقن، و ليس هو إلا بعد الخروج، و غير ذلك مما لا يخفى معه قوة القول بالاشتراط الذي لا ينافيه نفي السبيل بعد الإجبار على البيع أو الاغتنام من سيده بالقهر و الغلبة و غير ذلك مما مر سابقا في البحث عما لو أسلم العبد في يد الكافر.

و على كل حال فقد ظهر لك من ذلك كله المفروغية من حريته مع فرض خروجه قبل سيده نصا و فتوى، بل عن المختلف الإجماع عليه، و حينئذ فله أن يملك سيده لو كان صبيا أو امرأة و يغنم أموالهم هذا، و في المسالك بعد أن وافق المشهور قال: «للخبر و لأن إسلام العبد لا ينافي ملك الكافر له، غايته أنه يجبر على بيعه، و إنما يملك نفسه بالقهر لسيده، و لا يتحقق إلا بالخروج إلينا قبله، و لو أسلم بعده لم يملك نفسه و إن خرج إلينا قبله، مع احتماله لإطلاق الخبر» قلت لا يخفى عليك كون المراد من الخروج إلينا في الخبر أنه أسلم خارجا إلينا، و لذا قال المصنف: و لو أسلم في دار الحرب» على أن الحكم مخالف لأصالة بقاء الملك و السلطنة، فالمتجه الاقتصار فيه على المتيقن و ليس هو إلا من أسلم و خرج إلى المسلمين قبل مولاه، أما غيره فيبقى على مقتضى الأصل المزبور، نعم صرح بعضهم بعدم الفرق في الحكم المزبور بين الأمة و العبد، مع أن ظاهر العبارة و غيرها الاقتصار على العبد، و بالجملة فالمدار في الخروج عن الأصل المزبور على الدليل المعتبر


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 229.

ج 21، ص: 147

و اللَّه العالم.

[الطرف الخامس في أحكام الغنيمة]
اشاره

الطرف الخامس في أحكام الغنيمة و تمام الكلام يحصل ب النظر في الأقسام و أحكام الأرض المفتوحة و كيفية القسمة،

[الأول في أقسام الغنيمة]
اشاره

أما الأول فالغنيمة هي الفائدة المكتسبة سواء اكتسبت برأس مال كأرباح التجارات أو بغيره كما يستفاد من دار الحرب أو ما يحصل من حيازة المباحات أو نحو ذلك مما تقدم في كتاب الخمس الذي يشهد له مضافا إلى اللغة النصوص (1)المفسرة لها في الآية(2)بالفائدة، و لذا وجب الخمس عندنا في غير غنائم دار الحرب، خلافا للعامة فخصوه بها بدعوى انسياق ذلك من قوله تعالى «غَنِمْتُمْ» أو نقلها إليه المردودة على مدعيها خصوصا بعد النص و الفتوى على أنها مطلق الاستفادة بالتكسب و لو بالأعمال.

نعم النظر هنا يتعلق بالقسم الأخير الذي هو ما أخذته الفئة المجاهدة بالقهر و الغلبة و الحرب و إيجاف الخيل و الركاب و هي أقسام ثلاثة: ما ينقل كالذهب و الفضة و الأمتعة، و ما لا ينقل كالأرض و العقار، و ما هو سبي كالنساء و الأطفال،

[أما ما ينقل ]
اشاره

و الأول ينقسم إلى ما يصح تملكه للمسلم، و ذلك يدخل في الغنيمة، و هذا القسم مختص به الغانمون بعد الخمس و الجعائل التي يجعلها الإمام عليه السلام أو نائبه للمصالح كالدليل على عورة أو طريق أو غير ذلك مما قرره الإمام عليه السلام أو نائبه من أجرة حافظ أو راع أو نحو ذلك فيبدأ بأخذ ذلك منها ثم يقسم الباقي بين الغانمين كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا بل عن الغنية و المنتهى الإجماع عليه، بل لعله محصل، مضافا إلى ما تقدم


1- 1 الوسائل- الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس.
2- 2 سورة الأنفال- الآية 42.

ج 21، ص: 148

في الخمس من النصوص(1).

و حينئذ ف لا يجوز لهم التصرف في شي ء منه إلا بعد القسمة و الاختصاص كما عن الشيخ في النهاية و الحلبي و القاضي و الحلي منا، و الزهري عن العامة، كغيره من الأموال المشتركة أو الإذن من ذوي الحق، و في

النبوي (2)«من كان يؤمن باللَّه و اليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من في ء المسلمين حتى إذا خلقه رده فيه»

و نزع أمير المؤمنين عليه السلام إياهم حلل اليمن (3)معلوم و قيل و القائل الشيخ في المبسوط و الإسكافي و الفاضل و ثاني الشهيدين و غيرهم على ما حكي عن بعضهم يجوز لهم تناول ما لا بد منه كعليق الدابة و أكل

الطعام من غير ضمان و لو كان غنيا، و المتناول حيوانا للأكل للأصل و ظاهر ما تسمعه من الأدلة، و إن احتمله في المنتهى في الحيوان، و لكن لا يخفى ضعفه، بل لعله المشهور، بل ربما ظهر من عبارة الإسكافي عدم الخلاف فيه، بل في المنتهى قد أجمع أهل العلم على جواز التصرف في الطعام و علف الدواب إلا من شذ» و نحوه في التذكرة، ل

خبر مسعدة بن صدقة(4)عن الصادق عليه السلام المتقدم سابقا المشتمل على وصية النبي صلى اللَّه عليه و آله «لا تقطعوا شجرة مثمرة، و لا تحرقوا زرعا لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه، و لا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلا ما لا بد لكم من أكله»

و غيره (5)من النصوص المعتضدة


1- 1 الوسائل- الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس و الباب 1 من أبواب قسمة الخمس.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 62.
3- 3 سيرة ابن هشام- القسم الثاني ص 603.
4- 4 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
5- 5 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 20.

ج 21، ص: 149

بقاعدة العسر و الحرج، خصوصا العلف و نحوه مما لا يمكن نقله إلى دار الحرب و لا شراؤه و لو لعدم الثمن، و بالمروي في طرق

العامة عن ابن عمر(1)كنا نصيب العسل و الفواكه في مغازينا فنأكله و لا نرفعه»

و عن عبد اللَّه بن أبي أوفى (2)«أصبنا طعاما يوم خيبر و كان الرجل يأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف»

بل قيل و بقوله تعالى (3)«فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً» و إن كان فيه ما لا يخفى.

نعم ينبغي الاقتصار فيما خالف قاعدة الشركة على المتيقن، فلا يجوز مع عدم الحاجة كما صرح به الفاضل و غيره، مضافا إلى

قوله عليه السلام في خبر مسعدة «لا تعقروا»

إلى آخره، خلافا لبعض العامة، بل ينبغي الاقتصار على ما جرت العادة بتناوله لا ما اتفق احتياجه لبعض الأفراد منهم، كل ذلك لقاعدة الاقتصار فيما خالف الأصل على ما اقتضاه الدليل الشرعي، و لذا قال في المسالك: «يجب الاقتصار على الأكل في دار الحرب و المفازة التي في الطريق، أما عمران دار الإسلام التي يمكن الشراء فيها فيجب الإمساك فيها» لكن قال فيها أيضا و تناول الأدوية و نحوها في حكم الطعام دون غسل الثوب بالصابون و إن احتيج إليه، و قد عرفت الإشكال في الأدوية و نحوها مما لم يكن معتادا تناوله، و يؤيده ما في المنتهى قال: «الدهن المأكول يجوز استعماله في الطعام عند الحاجة، لأنه طعام فأشبه الحنطة و الشعير و لو كان غير مأكول فاحتاج إلى أن يدهن به أو يدهن به دابته لم يكن له ذلك إلا بالقيمة، قاله الشافعي، لأنه مما لا تعم الحاجة إليه و لا


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 59.
2- 2 تيسير الوصول ج 1 ص 249.
3- 3 سورة الأنفال- الآية 70.

ج 21، ص: 150

هو طعام و لا علف، و قال بعض الجمهور: يجوز استعماله، لأن الحاجة إلى ذلك كالحاجة إلى

الطعام» و لكن فيه أيضا: «يجوز أن يأكل ما يتداوى به أو يشربه كالجلاب و السكنجبين و غيرهما عند الحاجة، لأنه من الطعام، و لأنه محتاج إليه فأشبه الفواكه» و إن كان هو كما ترى و التحقيق ما عرفت، فلا يجوز استعمال جلد الحيوان الذي ذبحه للأكل بجعله سقاء أو نعلا، فلو فعل وجب عليه رده إلى المغنم، و عليه أجرة المثل و أرش ما نقص باستعماله، و ليس له ما زاد بفعله، لأنه متعد هذا، و في المنتهى «لا يجوز الانتفاع بجلودهم و لا اتخاذ النعال منها و لا الجورب و لا الخيوط و لا الحبال، و به قال الشافعي، و رخص مالك في الحبل يتخذ من الشعر، و النعل و الخف يتخذ من جلود البقر، لنا أنه مال مغنوم، فلا يختص به بعض الغانمين كغير الطعام، و لأنه

روي «أن قيس بن أبي حازم، قال: إن رجلا أتى رسول اللَّه صلى اللَّه بكبة من شعر المغنم فقال يا رسول اللَّه: إنا نعمل الشعر فهبها لي قال: نصيبي منها لك»

و الظاهر أنه لو كان سائغا لما خص النبي صلى اللَّه عليه و آله العطية بنصيبه، و لأنه مال مغنوم لا تدعو الحاجة العامة إلى أخذه، فلم يجز كالثياب و غيرها» قلت: قد يناقش في أصل الموضوع بعد الإغضاء عن كثير مما فيه بأن الجلود التي توجد عندهم محكوم بكونها ميتة، فلا تدخل في الغنيمة، و اللَّه العالم.

و ينقسم أيضا إلى ما لا يصح تملكه كالخمر و الخنزير و نحوهما من كتب الضلال حتى التوراة و الإنجيل المحرفين و هذا لا يدخل في الغنيمة قطعا بل ينبغي إتلافه كالخنزير أو يجوز إتلافه و يؤخذ طرفه غنيمة أو إبقاؤه للتخليل كالخمر لأنه

ج 21، ص: 151

ليس مالا بالفعل، و كتب الضلال إن أمكن الانتفاع بجلودها بل و بورقها بعد الغسل كانت غنيمة، و إلا فلا، و جوارح الصيد كالفهود و البزاة و الكلاب غنيمة، و في المنتهى «و لو لم يرغب فيها أحد من الغانمين جاز إرسالها و إعطاؤها غير الغانمين، و لو رغب فيها بعض الغانمين دفعت إليه، و لا تحتسب عليه من نصيبه، لأنه لا قيمة لها و إن رغب فيها الجميع قسمت، و لو تعذرت القسمة أو تنازعوا في الجيد منها أقرع بينهم» و لا يخفى عليك ما فيه من الإشكال، ضرورة كونها أموالا مقومة فحالها كحال باقي الغنيمة، هذا، و ربما يستفاد من التخيير المزبور أن النجاسة لا تثبت بالقرائن الحالية ما لم يحصل العلم بها، و إلا لم يطهر خمرهم بالتحليل، لاحتمال نجاسته في أيديهم بغير الخمرية، و اللَّه العالم.

[فروع ]
[الأول إذا باع أحد الغانمين غانما شيئا أو وهبه لم يصح ]

الأول إذا باع أحد الغانمين غانما شيئا مما اغتنمه أو وهبه لم يصح سواء قلنا بملك الغانم حصته بمجرد الاغتنام و الاستيلاء جمعوها في دار الحرب أو الإسلام كما صرح به غير واحد منا، بل هو ظاهر الجميع كما أنه ظاهر الأدلة التي منها ما دل (1)على أن الخمس للإمام عليه السلام الظاهر في ملك غيره الباقي خصوصا بعد مقابلته بملك الإمام عليه السلام الجميع إن لم تكن الغنيمة بإذنه و لأنه كحيازة المباح، و إلا بقي مالا بلا مالك بعد زوال ملك الكافر عنه، أو قلنا بملكه مع الجمع في دار الإسلام كما عن أبي حنيفة، أو باختيار التملك كما عن أبي إسحاق الشيرازي، أو بالغنيمة بمعنى كونها موجبة له أو كاشفة عن حصوله بالاستيلاء، و إن كان ما عدا الأول منها واضح الضعف، و لا ينافيه خروجه عن الملك بالإعراض عنه


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب قسمة الخمس.

ج 21، ص: 152

قبل القسمة بناء على زواله به في غير المقام من الأموال المملوكة، و لا جواز تخصيص الإمام (ع) كل شخص أو طائفة بنوع من الأموال إجماعا كما عن المختلف، ضرورة كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم على أن له الولاية هنا على هذا الوجه، فيقسم بينهم حينئذ قسمة إجبار لا اختيار و لا عدم وجوب حق على أحد منهم قبل القسمة، لعدم تمامية الملك التي هي شرط في وجوب الزكاة مثلا كما تقدم الكلام فيه في محله، و لا دخول المدد و المولود بعد الحيازة معهم، ضرورة كونه كملك الوقف الذي

يتساوى فيه المتجدد و السابق مع فرض الجميع موقوفا عليهم، و على كل حال فلا يصح البيع و لا الهبة، أما على القول بعدم الملك فظاهر لاعتباره فيهما، و أما عليه فللجهل بمقداره بل و بعينه، لجواز تخصيص الإمام عليه السلام كلا منهم بعين.

و لكن يمكن أن يقال يصح في قدر حصته بل في المنتهى نسبته إلى القيل، بل لا يخلو من قوة، و إن نوقش بالجهل بقدرها و عدم العلم بالعين، إذ يمكن تخصيص الإمام عليه السلام غيره بها، إلا أنه قد يدفع بعدم اعتبار العلم بالقدر بعد أن كان البيع واقعا على العين المعينة التي يكفي العلم بها، و جواز التخصيص لا ينافي صحة البيع حال البيع، إذ أقصاه كون المشتري كالبائع في الاستحقاق و إن جاز للإمام عليه السلام التخصيص، و بذلك يظهر لك حال ما في المنتهى و حاشية الكركي و المسالك و غيرها.

و كيف كان ف يكون الثاني أحق باليد على ما استولى عليه من المبيع أو الموهوب في قول صرح به الفاضل و ثاني الشهيدين و غيرهما، فلا يجب على المشتري رده على البائع أو الواهب و لا لهما

ج 21، ص: 153

قهره عليه، ضرورة تساويهما في الاستحقاق من حيث الاغتنام و يزداد ذو اليد بها كالبائع قبل البيع، و فيه أنه مناف لاستصحاب أحقية الأول بعد فساد المعاملة التي كان الدفع من البائع بعنوان الصحة المفروض عدمها، هذا، و في المسالك و قول المصنف «و يكون» إلى آخره معطوف على قوله: «لم يصح» لا على الاحتمال، و المعنى أن البيع و نحوه و إن لم يصح لكن يكون المدفوع إليه أحق بما وصل إليه من الدافع» و فيه أن رجوعه إليهما كما أشرنا إليه في شرح العبارة أولى، ضرورة ثبوت الأولوية المزبورة له على التقديرين بناء على ما سمعته من كلامهم و إن كان فيه ما عرفت، بل لعل الأحقية على الثاني أولى، و اللَّه العالم.

و على كل حال ف لو خرج هذا القابض إلى دار الحرب أعاده إلى المغنم لا إلى دافعه الذي قد عرفت ترجيح القابض عليه، فهو حينئذ كالأمانة عنده لجميع المسلمين، نعم لو دفعه إليه بهذا الاعتبار بعد فرض كونه مأمونا جاز، إذ المراد أنه لا يستحق عليه الدفع إليه باعتبار اليد الأولى التي فرض زوالها باستيلاء الثاني، ثم على القول بعدم جواز البيع لا فرق في الغنيمة بين ما جاز للغانم تناوله للحاجة و غيره، إذ جواز التناول لها لا يجوز له البيع و نحوه مما يعتبر فيه الملك المفروض عدمه، بل هو كتناول الضيف الطعام المباح له أكله الذي من المعلوم عدم جواز البيع له، و من هنا يتجه جواز مبايعة صاع بصاعين، لعدم كونها مبايعة حقيقة، بل هي مجرد مبادلة و انتقال من يد إلى يد، و لو أقرض غانم غيره من الغانمين طعاما أو علفا من الغنيمة حيث يجوز له التناول لم يكن قرضا حقيقة، لعدم ملكه إياه، و إنما هو مباح له، فإذا جعله في يد الغير كان حقه ثابتا عليه كالأول و لو فرض رده عليه كان المردود عليه أحق به، لثبوت يده عليه، لا

ج 21، ص: 154

لأنه وفاء قرض، إلى غير ذلك من الفروع التي أطنب فيها العامة مع اختلاف فيها بينهم، إلا أنها واضحة الحكم على أصولنا.

هذا كله إذا كان القابض غانما و أما لو كان القابض من غير الغانمين لم تقر يده عليه بلا خلاف و لا إشكال على تقدير فساد البيع و الهبة مثلا، ضرورة عدم حق له في الغنيمة بخلاف الغانم، كما هو واضح.

[الثاني الأشياء المباحة في الأصل كالصيود و الأشجار لا يختص بها أحد]

الثاني لا خلاف أجده بيننا في أن الأشياء المباحة في الأصل كالصيود و الأشجار و نحوها في دار الحرب لا يختص بها أحد، و يجوز تملكها لكل مسلم بل و لا إشكال، ضرورة بقائها على الإباحة الأصلية، و ليست من الغنيمة في شي ء بعد أن لم تكن مملوكة لأهل الحرب، خلافا لبعض العامة فجعلها منها و هو واضح الفساد، نعم لو كان عليه أثر ملك و هو في دار الحرب كان غنيمة بناء على الظاهر من كونه ملكا لأهل الحرب نحو ما كان مثله في بلاد الإسلام كالطير المقصوص و الأشجار المقطوعة و الأخشاب المنجورة و الأحجار المنحوتة بلا خلاف أجده فيه بل و لا إشكال، و اللَّه العالم.

[الثالث لو وجد شي ء في دار الحرب يحتمل أن يكون للمسلمين و لأهل الحرب كالخيمة و السلاح فحكمه حكم اللقطة]

الثالث لو وجد شي ء في دار الحرب يحتمل أن يكون للمسلمين و لأهل الحرب كالخيمة و السلاح و نحوهما فحكمه حكم اللقطة كما صرح به الفاضل و ثاني الشهيدين و غيرهما، لصدق تعريفها بأنها مال ضائع عليه، فيعرف حينئذ سنة، و يتخير الملتقط بين التملك و غيره نحو باقي أفراد اللقطة و (11) لكن قيل (12) و القائل الشيخ فيما حكي عنه يعرف سنة (13) لصدق اللقطة ثم يلحق بالغنيمة (14) لأنه لو كان له مالك مسلم لظهر و هو (15) كما ترى تحكم (16) بارد فإن التعريف سنة يقتضي اندراجها في موضوع اللقطة التي حكمها ما

ج 21، ص: 155

عرفت نصا و فتوى، و عدم ظهور المالك المسلم لا يقتضي كونها للحربي و دعوى ظهور وجدانها في ذلك تقتضي عدم وجوب التعريف سنة الذي هو حكم اللقطة، بل تكون غنيمة كما هو واضح.

[الرابع إذا كان في الغنيمة من ينعتق على بعض الغانمين قيل ينعتق نصيبه ]

الرابع إذا كان في الغنيمة من ينعتق على بعض الغانمين قيل و القائل الشيخ و الفاضل و غيرهما فيما حكي ينعتق نصيبه بل لعله لازم القول بالملك بالاستيلاء و الاغتنام الذي قد عرفت أنه قول أصحابنا ضرورة اندراجه فيما دل على الانعتاق و دعوى عدم شموله لمثل هذا الملك لضعفه و إمكان زواله واضحة المنع بعد ترتب الانعتاق بملك العامل نصيبه من الربح الذي يمكن زواله أيضا، نعم لا يجب عليه أن يشتري حصص الباقين كما عن غير واحد التصريح به، لأن الملك فيه قهري إذا كان السابي غيره، أما إذا كان هو فالمتجه الانعتاق لكونه مختارا في سببه كما لو اشتراه، إلا أن القائل أطلق، و يمكن تنزيله على الأول و قيل و لكن لا نعرف القائل بعينه لا ينعتق إلا أن يجعله الإمام عليه السلام في حصته أو في حصة جماعة هو أحدهم ثم يرضى هو فيلزمه شراء حصص الباقين إن كان موسرا لعدم الملك قبل ذلك، أو عدم اعتباره على وجه يترتب عليه الانعتاق، لعدم تماميته إلا به، و إن كان فيه منع واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه، و لعل اعتبار الرضا ليترتب عليه وجوب شراء حصص الباقين باعتبار كون الملك حينئذ فيه اختياريا، أما مع عدم رضاه فلا يجب، لكون الملك فيه حينئذ قهريا، لما عرفت من أن الإمام عليه السلام يقسم الغنيمة بينهم قسمة إجبار لا تشهي و اختيار، فالمراد أنه حينئذ إن اتفق كون القسمة برضاه وجب عليه شراء حصص الباقين، و إلا لم يجب، لا أن رضاه معتبر في أصل القسمة.

ج 21، ص: 156

[أما ما لا ينقل ]

هذا كله فيما ينقل من الغنيمة، و أما ما لا ينقل كالأراضي فهو للمسلمين قاطبة بلا خلاف و لا إشكال فيه نصا و فتوى، بل الإجماع

بقسميه عليه، مضافا إلى النصوص (1)و فيه الخمس باعتبار كونه من الغنيمة و لكن الإمام عليه السلام مخير بين إفراز خمسه لأربابه و بين إبقائه و إخراج الخمس من ارتفاعه و حينئذ فمقتضى ذلك ثبوت الخمس في الأراضي المفتوحة عنوة الآن كما عن الشيخ و غيره التصريح به، لكن قد ذكرنا في كتاب الخمس أن السيرة المستمرة في هذا الزمان على عدم إخراج من تمكن من شي ء منها ذلك بل النصوص (2)التي تعرضت للخراج و الإذن فيها للشيعة خالية أيضا عن ذلك، بل في بعضها(3)التصريح بكون الأرض و خراجها للمسلمين فيمكن أن يكون حين القسمة جعل الخمس في غيرها، أو أنه مندرج في نصوص التحليل (4)أو غير ذلك، و عن بعض حواشي القواعد تقييد خروج الخمس منها بحال ظهور الإمام عليه السلام، أما حال الغيبة ففي الأخبار أنه لا خمس فيها، و لعله يريد ما ذكرنا من النصوص، و لكن مع ذلك كله لا ريب في أن احتياط خروجه من ارتفاعها، و تمام الكلام قد تقدم في كتاب الخمس.

[أما النساء و الذراري ]

و أما السبي ك النساء و الذراري ف لا خلاف و لا إشكال نصا و فتوى في أنه من جملة الغنائم و لكن يختص بهم


1- 1 الوسائل- الباب 71- 72 من أبواب جهاد العدو و الباب 21 من أبواب عقد البيع من كتاب التجارة.
2- 2 الوسائل- الباب 71- 72 من أبواب جهاد العدو و الباب 21 من أبواب عقد البيع من كتاب التجارة.
3- 3 الوسائل- الباب 71 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
4- 4 الوسائل- الباب 4 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.

ج 21، ص: 157

الغانمون و فيهم الخمس لمستحقه كغيرهم من غنائم دار الحرب المنقولة و اللَّه العالم.

[الثاني في أحكام الأرضين ]
اشاره

الثاني في أحكام الأرضين، كل أرض فتحت عنوة بفتح العين و سكون النون الخضوع، و منه قوله تعالى (1)«وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ» و المراد هنا القهر و الغلبة بالسيف و كانت محياة حال الفتح فهي للمسلمين قاطبة الحاضرين و الغائبين و المتجددين بولادة و غيرها و الغانمون في الجملة لا اختصاص لأحد منهم بشي ء منها بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك بيننا، و إن توهم من عبارة الكافي في تفسير الفي ء و الأنفال و لعله لذا نسب الحكم إلى المشهور في الكفاية، لكنه في غير محله كما لا يخفى على من لاحظها، بل في الغنية و المنتهى و قاطعة اللجاج للكركي و الرياض و موضعين من الخلاف بل و التذكرة على ما حكي عن بعضها الإجماع عليه، بل هو محصل، نعم عن بعض العامة اختصاص الغانمين بها كغيرها من الغنائم، مضافا إلى

صحيح الحلبي (2)«سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام السواد ما منزلته؟ قال: هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم و من لم يخلق بعد، فقلت:

الشراء من الدهاقين قال: لا يصلح إلا أن تشتري منهم على أن تصيرها للمسلمين، فإن

شاء ولي الأمر أن يأخذه فله، قلت: فإن أخذها منه قال: رد إليه رأس ماله، و له ما أكل من غلتها بما عمل»

و صحيح أبي الربيع الشامي (3)عنه (ع) أيضا «لا تشتر من أرض السواد


1- 1 سورة طه- الآية 110.
2- 2 الوسائل- الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 4 من كتاب التجارة.
3- 3 الوسائل- الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 5 من كتاب التجارة.

ج 21، ص: 158

شيئا إلا من كان له ذمة، فإنما هي في ء للمسلمين»

و صحيح صفوان (1)قال: «حدثني أبو بردة بن رجاء قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام كيف ترى في شراء أرض الخراج قال: و من يبيع ذلك و هي أرض المسلمين، قال: قلت: يبيعها الذي هو في يده قال: و يصنع بخراج المسلمين ما ذا؟ ثم قال: لا بأس اشترى حقه منها و تحول حق المسلمين عليه و لعله يكون أقوى عليها و أملى بخراجهم»

و خبر محمد بن شريح (2)«سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن شراء الأرض من أرض الخراج فكرهه، و قال: إنما أرض الخراج للمسلمين»

و مرسل حماد(3)عن أبي الحسن الأول عليه السلام «الأرض التي أخذت عنوة بخيل و ركاب فهي موقوفة بيدي من يعمرها و يحييها، و يقوم عليها على صلح ما يصالحهم الإمام عليه السلام على قدر طاقتهم من الخراج النصف أو

الثلث أو الثلثان على قدر ما يكون لهم صلحا و لا يضر بهم، فإذا خرج منها نماها فأخرج منه العشر من الجميع مما سقت السماء أو سقي سيحا، و نصف العشر مما سقي بالدوالي و النواضح فأخذه الوالي فوجهه في الوجه الذي وجهه اللَّه له على ثمانية أسهم لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ و فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ثمانية أسهم يقسمها بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا ضيق و لا تقتير، فإن فضل من ذلك شي ء رد إلى الوالي، و إن نقص من ذلك شي ء و لم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا، و يؤخذ بعد ما يبقى من العشر فيقسمه بين الموالي و بين شركائه الذين هم عمال الأرض و أكرتها، فيدفع إليهم أنصباءهم على


1- 1 الوسائل- الباب 71 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 9 من كتاب التجارة.
3- 3 أصول الكافي ج 1 ص 541.

ج 21، ص: 159

ما صالحهم عليه، و يأخذ الباقي، فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين اللَّه و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين و في وجوه الجهاد و غير ذلك مما فيه مصلحة العامة، و ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير»

إلى غير ذلك من النصوص.

و المراد بأرض السواد كما في المنتهى «الأرض المغنومة من الفرس التي فتحت في زمن عمر بن الخطاب، و هي سواد العراق، و حده في العرض من منقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية المتصل بعذيب من أرض العرب، و من تخوم موصل طولا إلى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة، فأما الغربي الذي يليه البصرة فإنما هو إسلامي قبل شط عثمان بن أبي العاص، و ما والاها كانت سباخا مواتا فأحياها عمر بن العاص، و سميت هذه الأرض سوادا لأن الجيش لما خرجوا من البادية رأوا هذه الأرض و التفاف شجرها سموها السواد لذلك، و هذه الأرض لما فتحت أرسل إليها عمر بن الخطاب ثلاثة أنفس: عمار بن ياسر على صلاتهم أميرا، و ابن مسعود قاضيا و واليا على بيت المال، و عثمان بن حنيف على مساحة الأرض، و فرض لهم في كل يوم شاة شطرها مع السواقط لعمار، و شطرها للآخرين، و قال: ما أرى قرية يؤخذ منها كل يوم شاة إلا سريع خرابها، و مسح عثمان بن حنيف أرض الخراج فقيل اثنان و ثلاثون ألف ألف جريب، و قيل ستة و ثلاثون ألف ألف جريب ثم ضرب على كل جريب نخل عشرة دراهم، و على الكرم ثمانية دراهم، و على جريب الشجر و الرطبة ستة دراهم، و على الحنطة أربعة دراهم، و على الشعير درهمين، ثم كتب بذلك إلى عمر فأمضاه» و روي أن ارتفاعها كان في عهد عمر مائة و ستين ألف ألف درهم، و لما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام أمضى ذلك، لأنه لم يمكنه المخالفة و الحكم بما

ج 21، ص: 160

عنده، فلما كان زمن الحجاج رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف درهم فلما ولى عمر بن عبد العزيز رجع إلى ثلاثين ألف ألف درهم في أول سنة، و في الثانية إلى ستين ألف ألف درهم، و قال: لو عشت سنة أخرى لرددتها إلى ما كان في أيام عمر، فمات تلك السنة.

و ربما أشكل الاستدلال بخبري السواد بأنه لم يفتح بإذن الإمام عليه السلام فهو من الأنفال لا للمسلمين، فيكون ما فيهما من الحكم بأنها لهم للتقية، قال الشيخ بعد أن ذكر حكم هذه الأراضي المفتوحة عنوة: و على

الرواية(1)التي رواها أصحابنا «أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير أمر الإمام عليه السلام فغنمت تكون الغنيمة للإمام عليه السلام خاصة»

تكون هذه الأرضون و غيرها مما فتحت عنوة بعد الرسول صلى اللَّه عليه و آله إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين عليه السلام إن صح شي ء من ذلك يكون للإمام عليه السلام خاصة، و يكون من جملة الأنفال التي له عليه السلام خاصة لا يشركه فيها غيره، و ربما يؤيد ذلك تعليلهم عليهم السلام لشيعتهم خاصة التصرف في نحو ذلك لتطيب مواليدهم و ربما دفع بمنع اعتبار إذن الإمام عليه السلام في خصوص الأراضي ناسبا له إلى الشيخ في ظاهر المبسوط مستدلا له بإطلاق بعض الأصحاب أن الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين، و عدهم أرض العراق و الشام منها مع أنها لم تكن بإذن الإمام كإطلاق بعض النصوص، و لكنه و هم واضح و كأنه لم يلحظ آخر عبارة الشيخ التي حكيناها عنه، بل يمكن دعوى القطع باعتبار إذن الإمام عليه السلام في ذلك من غير فرق بين الأرض


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأنفال الحديث 16 من كتاب الخمس.

ج 21، ص: 161

و غيرها، و إطلاقهم مبني على ما صرحوا به في المقام و غيره.

نعم قد يقال بصدور الإذن منهم عليهم السلام في ذلك، ففي قاطعة اللجاج قد سمعنا أن عمر استشار أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك، و مما يدل عليه فعل عمار فإنه من خلفاء أمير المؤمنين عليه السلام و لو لا أمره لما ساغ له الدخول في أمرها، و في الكفاية الظاهر أن الفتوح التي وقعت في زمن عمر كانت بإذن أمير المؤمنين عليه السلام لأن عمر كان يشاور الصحابة خصوصا أمير المؤمنين عليه السلام في تدبير الحروب و غيرها، و كان لا يصدر إلا عن رأي علي عليه السلام، و كان النبي صلى اللَّه عليه و آله قد أخبر بالفتوح و غلبة المسلمين على الفرس و الروم، و قبول سلمان تولية المدائن و عمار إمارة العساكر مع ما روي فيهما قرينة على ذلك، و

عن الصدوق أنه روي مرسلا(1)استشارة عمر عليا عليه السلام في هذه الأراضي فقال: دعها عدة للمسلمين،

و عن بعض التواريخ أن عمر لما رأى المغلوبية في عسكر الإسلام في غالب الأسفار و الأوقات استدعى من أمير المؤمنين عليه السلام أن يرسل الحسن عليه السلام إلى محاربة يزدجرد فأجابه و أرسله،

و حكي أنه ورد ري و شهريار، و في المراجعة ورد قم و ارتحل منها إلى كهنك، و منها إلى

أردستان، و منها إلى قهبان، و منها إلى أصفهان، و صلى في المسجد الجامع العتيق، و اغتسل في الحمام الذي كان متصلا بالمسجد، ثم نزل لنبال و صلى في مسجده،

إلا أن ذلك كما ترى لا يعول عليه بعد عدم كونه بسند معتبر، و يحتمل بعضه أو جميعه غير صدور الإذن، لكن قد يقال بأن الحكم في النصوص المعتبرة السابقة بكون هذه الأراضي للمسلمين .


1- 1 الموجود في كتاب الخراج للقرشي ص 42 و كتاب الخراج لأبي يوسف ص 36 و كتاب الأموال لأبي عبيد ص 59 أن استشار أصحاب النبي ص في الفلاحين من أرض السواد فقال علي ع:« دعهم يكونوا مادة للمسلمين».

ج 21، ص: 162

بعد معلومية اعتبار الإذن فيها شاهد على صدورها منهم عليهم السلام، و لعله أولى من الحمل على التقية، خصوصا بعد عدم معروفيته بين العامة و إنما يحكى عن مالك منهم و لم يكن مذهبه معروفا كي يتقى منه، خصوصا بعد مخالفة الشافعي و أبي حنيفة له.

و على كل حال فظاهر النصوص و الفتاوى بل صريح بعضها أنها ملك المسلمين برقبتها، و يتبعه ارتفاعها، و ربما ظهر من ثاني الشهيدين سيما في الروضة عدم كون المراد ملك الرقبة، بل المراد صرف حاصلها في مصالح المسلمين، بل في الكفاية أن المراد بكونها للمسلمين أن الإمام يأخذ ارتفاعها و يصرفه في مصالح المسلمين على حسب ما يراه، لا أن من شاء من المسلمين له التسلط عليها أو على بعضها بلا خلاف في ذلك بل عن مجمع البرهان معنى كون هذه الأرض للمسلمين كونها معدة لمصالحهم العامة مثل بناء القناطر، ثم قال: «لأنهم ليسوا بمالكين في الحقيقة، بل هي أرض جعلها اللَّه تعالى كالوقف على مصالح المستأجر و غيره من المسلمين، لا أنها ملك للمسلمين على الشركة» و من هنا جعل بعض الناس المسألة خلافية، و ذكر فيها قولين، لكن يمكن إرادة الجميع معنى واحدا، و هو عدم الملك على كيفية ملك الشركاء المتعددين و إنما المراد ملك الجنس نحو ملك الزكاة و غيرها من الوجوه العامة و ملك الأرض الموقوفة على المسلمين إلى يوم القيامة، بناء على أن الموقوف ملك الموقوف عليه، فلا يقدح تخلف بعض أحكام ملك المشخصين.

نعم قد يستفاد من بعض النصوص (1)بل و الفتاوى عدم جواز بيع شي ء منها حتى لولي المسلمين لمصلحتهم و إن كان محتملا كما ذكرناه في غير المقام، إلا أن الظاهر المزبور يقضي بكون ملكيتها على وجه تبقى عينها كالعين الموصى بها و الموقوفة على هذا الوجه، و هو غير بعيد، ثم


1- 1 الوسائل- الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 6.

ج 21، ص: 163

إن مقتضى السيرة بين الأعوام و العلماء عدم وجوب صرف ما يتفق حصوله من حاصلها في يد أحد من الشيعة من جائر أو غيره في زمان في المصالح العامة، بل له التصرف فيه بمصالحه الخاصة، بل قد يقال بحصول الإذن منهم في ذلك للشيعة من غير حاجة إلى رجوع إلى نائب الغيبة، و إن كان الأحوط إن لم يكن الأقوى

استئذانه، و الظاهر أن له الإذن مجانا مع حاجة المستأذن، كما أن الظاهر حل تناوله من الجائر بشراء أو اتهاب أو غيرهما، و قد أشبعنا الكلام في ذلك و غيره في كتاب المكاسب من الكتاب.

و كيف كان فلا خلاف و لا إشكال في أن النظر فيها إلى الإمام عليه السلام حال بسط اليد، لأنه هو المتولي لأمور المسلمين، قال

الرضا عليه السلام في صحيح ابن أبي نصر(1): «و ما أخذ بالسيف فذلك للإمام عليه السلام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله بخيبر قبل أرضها و نخلها، و الناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض و النخل إذا كان البياض أكثر من السواد، و قد قبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله خيبر عليهم في حصصهم العشر و نصف العشر»

و نحوه مضمره(2).

و أما حال الغيبة و نحوها فلا خلاف معتد به بل و لا إشكال في جريان حكم يده بالنسبة إلى براءة ذمة من عليه الخراج، و حل المال بالمقاسمة، و إلى جواز الأخذ بشراء و نحوه على ما كان منها في يد الجائر المتسلط للتقية، و أما غيره فالمرجع فيه إلى نائب الغيبة كما صرح بذلك جماعة منهم الكركي و ثاني الشهيدين و غيرهما، و هو الذي تقتضيه


1- 1 الوسائل- الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
2- 2 الوسائل- الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 164

قواعد الشرع، لكن في فوائد الكتاب للأول منهم هنا هذا مع ظهوره و في حال الغيبة يختص بها من كانت في يده بسبب شرعي كالشراء و الإرث و نحوهما، لأنها و إن لم تملك رقبتها لكونها لجميع المسلمين إلا أنها تملك تبعا لآثار التصرف، و يجب عليه الخراج و المقاسمة، و يتولاهما الجائر، و لا يجوز جحدهما و لا منعهما و لا التصرف فيهما إلا بإذنه باتفاق الأصحاب، و لو لم يكن عليها يد لأحد فقضية كلام الأصحاب توقف جواز التصرف فيهما على إذنه حيث حكموا بأن المقاسمة أو الخراج منوط برأيه، و هما كالعوض عن التصرف و إذا كان العوض منوطا برأيه كان المعوض كذلك، و فيه أنه لم نعرف للأصحاب كلا ما في توقف حلهما على إذن الجائر مع عدم كون الأرض في يده، و إنما ذكروا حكم ما يأخذه الجائر باسم الخراج و المقاسمة و الزكاة، و هو كالصريح في كون ذلك لما في يده من الأراضي لا غيرها مما يمكن دعوى الضرورة على عدم ولاية له عليه و عدم قابليته لذلك، و إنما أجرينا الحكم المزبور على ما في يده للتقية و تسهيلا للشيعة في زمن الغيبة، و دعوى أن الزمان زمان تقية فالأمر إليه فيها حتى على ما لم يكن في يده منها واضحة الفساد، لعدم شاهد عليها، بل ظاهر الأدلة خلافها، فالتحقيق الرجوع في كل ما لم يكن في يده إلى نائب الغيبة يصرفه على ما يظهر له من الأدلة كغيره مما له ولاية عليه، و اللَّه العالم.

و كيف كان فلا خلاف و لا إشكال في أنه لا يملكها المتصرف بها على الخصوص، و لا يصح له بيعها و لا هبتها و لا وقفها و لا غير ذلك من التصرفات الموقوفة على الملك، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى النصوص (1)بل عن مبسوط الشيخ عدم جواز


1- 1 الوسائل- الباب 71 و 72 من أبواب جهاد العدو و الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 4 و 5.

ج 21، ص: 165

مطلق التصرف فيها و لو بنحو من البناء، نعم قد ذكر غير واحد من الأصحاب أنها تباع مثلا تبعا لآثار التصرف فيها و قد أشبعنا الكلام في المراد منه و في غير ذلك من الأحكام في محله في كتاب البيع، فلاحظ و تأمل، كما أن المحكي عن تهذيب الشيخ من جواز شرائها محمول على ما لا ينافي ذلك، و من الغريب ما عن الكفاية من أن الأقرب القول بالجواز للعمل المستمر و للنصوص (1)الكثيرة إذ لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بفتاوى الأصحاب و نصوص الباب، و العمل المستمر على الوقف مساجد و مدارس و نحوهما محمول على الأرض التي لا يعلم حالها بيد من يجري عليها حكم الأملاك و له وجوه من الصحة يحمل عليها حتى في المعلوم كونها معمورة حال الفتح، إذ يمكن كونها من الخمس و قد باعها الإمام عليه السلام و غير ذلك، و ما ادعاه من النصوص بين ما هو غير صريح في أرض الخراج، و بين ما يراد منه آثار التصرف أو الشراء استنقاذا

للمسلمين، و بين ما هو معارض بأقوى منه من وجوه نعم قد يقال بأحقية المحيي بها بعد موتها من غيره على وجه يترتب عليها الإرث و الصلح و غير ذلك، و أن عليه الخراج و المقاسمة، و قد ذكرنا هناك من النصوص (2)ما يدل عليه، و ربما كان ظاهر الكركي هنا قال: ما يوجد من هذه الأرض مواتا في هذه الأزمنة إن دلت القرائن على أنه كان معمورا من القديم و مضروبا عليه الخراج ككثير من أرض العراق يلحق بالمعمور وقت الفتح، و حيث أنه لا أولوية لأحد عليه فمن أحياه كان أحق به، و عليه الخراج و المقاسمة، بل ظاهره المفروغية من ذلك.


1- 1 الوسائل- الباب 71 و 72 من أبواب جهاد العدو و الباب 21 من أبواب عقد البيع.
2- 2 الوسائل- الباب 71 و 72 من أبواب جهاد العدو و الباب 21 من أبواب عقد البيع.

ج 21، ص: 166

و كذا لا إشكال و لا خلاف في أنه يصرف الإمام عليه السلام حال بسط اليد حاصلها في المصالح العامة مثل سد الثغور و معونة الغزاة و بناء القناطر و نحو ذلك مما يرجع نفعه إلى عامة المسلمين، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى بعض النصوص (1)و هل تجب مراعاة ذلك لمن يحصل منها في يده في زمن الغيبة و لو بإذن نائبها؟ وجهان أحوطهما ذلك و أقواهما العدم لظاهر نصوص الإباحة(2)و للسيرة المستمرة في سائر الأعصار و الأمصار بين العلماء و الأعوام، بل قد تمكن جملة من

علمائنا كالمرتضى و الرضي و العلامة و غيرهم من جملة منها و لم يحك عن أحد منهم التزام الصرف في نحو ذلك، بل لعل المعلوم خلافه من المعاملة معاملة غيرها من الأملاك، هذا.

و لكن الكلام في المفتوح عنوة، و المعروف بين الأصحاب أن مكة منه، بل نسبه غير واحد إليهم، بل في المبسوط و المنتهى و التذكرة أنه الظاهر من المذهب، و في

خبر صفوان و محمد بن أحمد(3)«أن أهل الطائف أسلموا و جعلوا عليهم العشر و نصف العشر، و أن مكة دخلها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله عنوة و كان أهلها أسراء في يده فأعتقهم و قال: اذهبوا أنتم الطلقاء»

و في بعض أخبار الجمهور(4)أنه صلى اللَّه عليه و آله قال: لأهل مكة: «ما تروني صانعا بكم؟ قالوا: أخ كريم و ابن أخ كريم، فقال صلى اللَّه عليه و آله: أقول كما قال أخي


1- 1 الوسائل- الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
2- 2 الوسائل- الباب 4 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.
3- 3 الوسائل- الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 عن صفوان و أحمد بن محمد.
4- 4 سنن البيهقي ج 9 ص 118.

ج 21، ص: 167

يوسف (1)«لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» اذهبوا أنتم الطلقاء»

فما عن الشافعي من أنها فتحت صلحا واضح الفساد، و منه الشام على ما ذكره الكركي ناسبا له إلى الأصحاب و إن كنت لم أتحققه،

نعم عن العلامة في التذكرة ذلك في كتاب إحياء الموات، و لكن لم يذكر أحد حدودها، بل في الكفاية عن بعض المتأخرين و أما بلاد الشام و نواحيه فحكي أن حلب و حمى و حمص و طرابلس فتحت صلحا، و أن دمشق فتحت بالدخول من بعض غفلة بعد أن كانوا طلبوا الصلح من غيره، و منه خراسان، بل ربما نسب إلى الأصحاب و أنه من أقصاها إلى كرمان، و إن كنت لم أتحققه، بل عن بعض المتأخرين أن نيشابور من بلاد خراسان فتحت صلحا، و بلخ منها أيضا و هراة و قوسيخ و التوابع فتحت صلحا، و منه العراق كما صرح به في النصوص و الفتاوى، و منه خيبر كما صرح به بعضهم، و دل عليه أيضا بعض النصوص بل قيل إن منه غالب بلاد الإسلام، و عن بعض المتأخرين أن أهل طبرستان صالحوا و أن أذربيجان فتحت صلحا، و أن أهل أصفهان عقدوا أمانا، و عن ثاني الشهيدين أنه يكفي في ثبوته الاشتهار بين المؤرخين المفيد للظن، و تبعه عليه بعض من تأخر عنه، و لكنه لا يخلو من نظر، كما أن ما صرح به الكركي من ثبوته أيضا بضرب الخراج و المقاسمة و لو من الجائر حملا لفعل المسلم على الصحة حتى يعلم خلافها كذلك أيضا، خصوصا بعد معلومية كون الجائر آثما في أخذه الخراج من الخراجية، و بعد تعارف ضرب الخراج على كل أرض معمورة و لو بإحياء جديد.

بل صرح بعض مشايخنا بجريان حكم الخراج على ما يضربه على


1- 1 سورة يوسف- الآية 92.

ج 21، ص: 168

الموات إذا أحياه المحيي، و إن كان هو كما ترى، و كأنه أخذه من الكركي، قال: «الموات المتعلق بالإمام عليه السلام إذا أحياه محيي في حال الغيبة هل يجب فيه حق الخراج و المقاسمة؟ يحتمل العدم، لظاهر

قوله صلى الله عليه و آله (1)«من أحيا أرضا ميتة فهي له»

و اللام تفيد الملك و هو يقتضي عدم الثبوت، و يحتمل الثبوت لأنها ملك الإمام عليه السلام و ملك الغير لا يباح مجانا، و يؤمي إلى هذا قول الأصحاب في باب الخمس:

و أحل لنا خاصة المساكن و المتاجر و المناكح، فإن أحد التفسيرات للمساكن هو كون المساكن المستثنيات هي المتخذة في أرض الأنفال، و يحتمل بناء ذلك على أن المحيي لهذه الأراضي يملكها ملكا ضعيفا، أو يختص بها مجرد اختصاص، فإن قلنا بالأول لم يجب عليه أحد الأمرين، لأنه لا يجب عليه في ملكه عوض التصرف، و على الثاني يجب، و لا أعلم في ذلك كلاما للأصحاب» قلت: لا يخفى عليك أن ظاهر النص و الفتوى الملك الحقيقي، كما أنه لا يخفى عليك ما في قوله «و ملك الغير لا يباح مجانا» بعد معلومية تسلط الناس على أموالهم، و الفرض ظهور ما ورد عنهم في ذلك، و ما ذكروه في كتاب الخمس لا يصلح دليلا بعد تعدد احتمال المراد منه، كما أشبعنا الكلام فيه في كتاب الخمس، و كذا ما عن بعضهم أيضا من الاكتفاء بالظن في خصوص كل قطعة من الأرض المفتوحة عنوة أنها عامرة وقت الفتح فيجب حينئذ الخراج على زارعها و غارسها، ضرورة

عدم دليل على الاكتفاء بمطلق الظن في مثل ذلك، مع أن الأصل يقتضي عدمه في جملة من أفراده، و من ذلك يحصل الشك في جريان حكم المفتوحة


1- 1 الوسائل- الباب 1 من كتاب إحياء الموات الحديث 5.

ج 21، ص: 169

عنوة العامرة وقت الفتح في كثير من الأراضي في هذا الزمان، مضافا إلى الشك في أن فتحها لم يتحقق كونه بإذن الإمام عليه السلام على وجه تكون به للمسلمين لا للإمام عليه السلام، إلا أن الاحتياط لا ينبغي تركه حتى فيما كان منها في يدي من يجري عليه حكم الملك و لم يعلم فساده، فإن أصول المذهب تقضي بالحكم بملكيته كما صرح به غير واحد ما لم يعلم الخلاف.

هذا كله في العامر من المفتوحة عنوة و أما ما كان مواتا منها وقت الفتح فهو للإمام عليه السلام خاصة بلا خلاف أجده، بل الإجماع بقسميه عليه مضافا إلى المعتبرة المستفيضة الدالة على أن موات الأرض مطلقا من الأنفال للإمام عليه السلام بل في

صحيح الكابلي (1)عن الباقر عليه السلام «وجدنا في كتاب علي عليه السلام إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، أنا و أهل بيتي الذين أورثنا اللَّه الأرض و نحن المتقون الأرض كلها لنا، فمن أحيا أرضا من المسلمين فليعمرها و ليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، و له ما أكل

حتى يظهر القائم عليه السلام من أهل بيتي بالسيف فيحويها كما حواها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، و منعها إلا ما كان في أيدي شيعتنا، فيقاطعهم على ما في أيديهم، و يترك الأرض في أيديهم»

و دعوى أن التعارض بين النصوص من وجه فإن ما دل على أن المفتوحة عنوة للمسلمين شامل للموات منها و العامر، و ما دل على أن الموات للإمام عليه السلام شامل للمفتوحة عنوة و غيرها، يدفعها معلومية رجحان التخصيص بالأخير و لو للإجماع بقسميه.


1- 1 الوسائل- الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 2 مع سقط في الجواهر.

ج 21، ص: 170

و حينئذ ف لا يجوز إحياؤه إلا بإذنه إن كان موجودا ظاهرا مبسوط اليد بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه مضافا إلى عموم قاعدة قبح التصرف في مال الغير بغير إذنه، و خصوص بعض النصوص (1)هذا، و في المسالك «و يعلم الموات بوجوده الآن مواتا مع عدم سبق أثر العمارة القديمة عليه، و عدم القرائن الدالة على كونه عامرا قبل ذلك كسواد العراق فإن أكثره كان معمورا وقت الفتح، و بسببه سميت أرض السواد، و ما يوجد منها عامرا الآن يرجع فيه إلى قرائن الأحوال كما مر، قيل و منها ضرب الخراج و أخذ المقاسمة من ارتفاعه، فإن انتفى الجميع فالأصل يقتضي عدم تقدم العمارة، فيكون ملكا لمن في يده» قلت. أشار بالقيل إلى ما سمعته من الكركي و

سمعت ما فيه، و أما الأول ففيه أولا أن أثر العمارة القديمة لا يجدي حتى يعلم كونه وقت الفتح، مع أن الأصل تأخره، على أن القرائن المزبورة إن كان لم تفد إلا الظن ففي قطع الأصل بها إشكال، مضافا إلى ما سمعته سابقا من الإشكال في جريان حكم المفتوح عنوة بغير ذلك و اللَّه العالم.

و على كل حال ف لو تصرف فيها أحد من غير إذنه كان غاصبا و عليه أي المتصرف طسقها و أجرتها للإمام عليه السلام بلا خلاف و لا إشكال على حسب غيرها من الأراضي المغصوبة، نعم يملكها المحيي من الشيعة عند عدم ظهوره عليه السلام و عدم بسط يده من غير إذن خاصة بلا خلاف و لا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى المعتبرة المستفيضة


1- 1 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.

ج 21، ص: 171

الدالة على الإذن عموما كالصحيح السابق(1)

و صحيح الفضلاء(2)عن الباقر و الصادق عليهما السلام قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله: «من أحيا مواتا فهو له»

و غيرهما(3)بل مقتضاها حصول الإذن حال الظهور، ضرورة صدورها من النبي صلى اللَّه عليه و آله إلا أن الأصحاب خصوها بحال الغيبة، و قد أوضحنا ذلك في إحياء الموات، بل و غيره من المسائل التي منها عدم إلحاق الموت الحادث بعد العمارة وقت الفتح بموت الأصل، و

منها البحث عن الأرض الموات إذا ملكت بالإحياء ثم ماتت هل تعود على الإباحة الأصلية أو لا، فلاحظ و تأمل.

ثم إن ظاهر إطلاق النص و الفتوى عدم الفرق في المحيي بين المؤمن و المخالف بل و الكافر، بل ربما كان في صحيح الكابلي ظهور في التعميم، بل عن الشهيد التصريح به أيضا، لكن في المسالك احتمال كون الحكم مختصا بالشيعة عملا بظاهر الإذن، و فيه ما لا يخفى، خصوصا مع ملاحظة الإذن من النبي صلى اللَّه عليه و آله و ملاحظة ما سمعته في صحيح الكابلي، و اللَّه العالم.

و كل أرض فتحت صلحا فهي لأربابها حتى الموات في احتمال و في آخر أنه للإمام عليه السلام، و لعله الأقوى إذا لم يكن قد دخل في عقد الصلح صريحا أو ظاهرا و على كل حال فليس عليهم إلا ما صالحهم عليه الإمام عليه السلام أو نائبه به من نصف الحاصل أو ثلثه أو غير ذلك، و ليس عليهم غيره حتى الزكاة بناء على أن الصلح مقتض لإقرارهم على دينهم، و هي غير واجبة عندهم بلا


1- 1 الوسائل- الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 2 مع سقط في الجواهر.
2- 2 الوسائل- الباب 1 من كتاب إحياء الموات الحديث 5.
3- 3 الوسائل- الباب 1 من كتاب إحياء الموات.

ج 21، ص: 172

خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم، بل في ظاهر الغنية الإجماع عليه، لعموم ما دل (1)على مشروعية الصلح، و خصوص بعض النصوص (2)التي تسمعها إن شاء اللَّه في أحكام الجزية، بل في النهاية و الغنية و الوسيلة و المنتهى و

التحرير و التذكرة و قاطعة اللجاج و الرياض و غيرها تسمية هذه الأرض بأرض الجزية، بل في الغنية و الروضة و موضع من النهاية أن أرض الصلح هي أرض أهل الذمة، و لعل المراد أنه الذي وقع من النبي صلى اللَّه عليه و آله و إلا فالظاهر من المصنف و غيره عدم الفرق بينهم و بين غيرهم، لعموم أدلة الصلح، و ليس ذلك من الجزية المختصة بأهل الكتاب، اللَّهمّ إلا أن يدعى اختصاص مشروعية الصلح بهم كالجزية.

و على كل حال فلا خلاف و لا إشكال في أن هذه الأرض تملك على الخصوص و حينئذ ف يصح بيعها و غيره من التصرف فيها بجميع أنواع التصرف لعموم تسلط الناس على أموالها الذي هو مقتضى الصلح أيضا و حينئذ ف لو باعها المالك من مسلم صح و انتقل ما عليها إلى ذمة البائع الكافر كما في النهاية و الغنية و الجامع و النافع و كتب الفاضل و الدروس و غيرها بل هو المشهور، بل في ظاهر الغنية الإجماع عليه، بل لم يحك الخلاف فيه إلا من الحلبي، فجعله على المشتري لكونه حقا على الأرض، فيجب على من انتقلت إليه و ل

صحيح ابن مسلم (3)عن أبي جعفر عليه السلام «عن شراء أرض أهل الذمة فقال: لا بأس، فتكون إذا كان


1- 1 الوسائل- الباب 3 من كتاب الصلح.
2- 2 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو.
3- 3 الوسائل- الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 8.

ج 21، ص: 173

ذلك بمنزلتهم»

و نحوه

آخر(1)مضمر «يؤدي كما يؤدون»

و خبر محمد بن شريح (2)«سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن شراء أرض الخراج فكرهه و قال عليه السلام: إنما أرض الخراج للمسلمين، فقال إنه يشتريها الرجل و عليه خراجها، قال: لا بأس إلا أن يستحيي من عيب ذلك»

بناء على أن المراد من أرض الخراج فيه أرض الصلح و لو بقرينة قوله عليه السلام: «إلا أن» إلى آخره باعتبار كون ذلك جزية عليهم و إن سمي بالخراج، و لكن قد يناقش بظهوره في خصوص ما إذا اشترى على هذا الوجه، و لعلنا نلتزمه للعمومات، و ليس هو من الجزية على المسلم، بل يمكن تنزيل الصحيحين الأولين عليه إذا أريد الجزية من الخراج فيهما، كما أنه يمكن منع تعلق الحق بالأرض على وجه يلحقها حتى لو انتقلت منه إلى غيره.

و بذلك يظهر لك أن الوجه عدم الفرق بين المسلم و الكافر إذا اشتراها كما هو مقتضى إطلاق النهاية و النافع و التبصرة، و إن كان قد يشعر ما في المتن و غيره من التقييد بالمسلم بخلافه، بل أوضح من ذلك تعليل الحكم بأن المسلم لا جزية عليه، لكن قد عرفت أن المتجه عدم الفرق لما سمعت، بل منه ينقدح أنه لا وجه للإشكال في الحكم لو فرض كون عوض الصلح في الذمة و إن قدر بالثلث و الربع، لكن على معنى تقدير أداء هذا المقدار و لو من غيرها، أما لو فرض كون عوض الصلح شيئا متعلقا بمنفعة العين فلا ريب في تبعيته

حينئذ لها و إن انتقلت إلى غيره، و لعله بذلك يكون النزاع لفظيا، إذ احتمال كون عوض الصلح على البائع مطلقا حتى في الأخير محتاج إلى دليل، و ليس


1- 1 الوسائل- الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 7.
2- 2 الوسائل- الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 9.

ج 21، ص: 174

إلا ما تسمعه من نصوص (1)الجزية التي هي إن كانت على المال سقطت عن الرءوس، و إن كانت على الرءوس سقطت عن المال، ففي الفرض بناء على أنه من الجزية بعد انتقال المال منه إلى غيره تكون الجزية على رأسه كما لو تلف، بل ينبغي ذلك أيضا حتى لو كان المشتري من أهل الذمة أيضا، إذ كونه ممن يؤدي الجزية لا يقتضي الالتزام بجزية غيره التي كانت على المال دون رأسه، و الفرض انتقاله عنه و على كل حال فالتحقيق ما عليه المشهور، خصوصا بعد ملاحظة الأصل و الإجماع المحكي المعتضد بالشهرة العظيمة، مضافا إلى ما ذكرناه الذي يشهد له أيضا ما ذكره المصنف و غيره من كون هذا كله أي بيع الأرض و غيره من تصرف الملاك إذا صولحوا على أن الأرض لهم و في ملكهم يتصرفون بها تصرف الملاك في أملاكهم إذ هو كالصريح في عدم تعلق حق للمسلمين فيها لا في العين و لا في المنفعة، و حينئذ يتجه اشتغال ذمة البائع بعوض الصلح، و أولى بذلك ما لو آجرها من في يده فإن الأجرة له و عوض الصلح عليه، لكن في التذكرة و التحرير أنه على المستأجر كما عن الحلي و فيه بعد إلا مع

الشرط كما في الدروس، بل فيه منع واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه أما لو صولحوا على أن الأرض للمسلمين و لهم السكنى و على أعناقهم الجزية كان حكمها حكم الأرض المفتوحة عنوة عامرها للمسلمين و مواتها للإمام عليه السلام بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم بل و لا إشكال، لعموم أدلة الصلح و خصوص النصوص (2)الواردة في خيبر بناء على أنها منه، مضافا إلى كون هذا الصلح من الفتح عنوة و بالسيف و قهرا، ضرورة تعدد أفراده، و ما في بعض


1- 1 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو.
2- 2 الوسائل- الباب 71 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 و الباب 72 منها الحديث 1 و 2.

ج 21، ص: 175

النصوص (1)من عد ما صولحوا عليه من الأنفال محمول على غير الفرض و كيف كان فلا خلاف و لا إشكال في أن للإمام عليه السلام أن ينقص و يزيد في الصلح بعد انتهاء مدته على حسب ما يراه من المصلحة بل الظاهر أن ذلك لنائبه أيضا، و اللَّه العالم.

و لو أسلم الذمي الذي صولح على أن الأرض له و عليها كذا و كذا سقط ما ضرب على أرضه و ملكها على الخصوص كما في الغنية و القواعد و التبصرة و الإرشاد و المنتهى و التحرير و التذكرة و غيرها بل لا أجد فيه خلافا، بل هو من معقد إجماع الأول، لأنه كالجزية أو جزية و لا شي ء منهما على المسلم اتفاقا نصا و فتوى و لأنه كمن أسلم طوعا و رغبة من غير قتال فإن كل أرض أسلم أهلها عليها طوعا و رغبة

كالمدينة و البحرين و بعض أطراف اليمن على ما قيل فهي لهم على الخصوص، و ليس عليهم فيها سوى الزكاة إذا حصلت شرائطها كما صرح به في النهاية و السرائر و الجامع و النافع و الإرشاد و التبصرة و القواعد و التحرير و التذكرة و المختلف و اللمعة و الروضة و المسالك و غيرها، بل لا أجد فيه خلافا و لا إشكالا بعد معلومية حقن الإسلام الدم و المال،

و في الصحيح (2)«ذكرت لأبي الحسن الرضا عليه السلام الخراج و ما سار به أهل بيته فقال: العشر و نصف العشر على من أسلم طوعا، يترك أرضه في يده و أخذ منه العشر و نصف العشر مما عمر منها، و ما لم يعمر منها أخذه الوالي يقبله ممن يعمره، و كان للمسلمين، و ليس فيما كان أقل من خمسة أوسق شي ء»

و نحوه المضمر الآخر(3)و لعله لذا


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.
2- 2 الوسائل- الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
3- 3 الوسائل- الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 176

اشترط في المنتهى و التحرير و التذكرة هنا القيام بعمارتها، بل هو مقتضى ما في النهاية و الغنية و الجامع و المختلف و الدروس و المسالك و الروضة و غيرها بل في الدروس نسبته إلى الشهرة في الرواية، بل هو من معقد إجماع الغنية، بل في النهاية و التحرير و المسالك أنها حينئذ للمسلمين كالمحكي عن ابني حمزة و البراج، و عن الشيخ و أبي الصلاح صرف حاصلها في مصالح المسلمين بعد إعطاء صاحب الأرض طسقها، بل في قاطعة

اللجاج نسبة ذلك إلى الشهرة، و مقتضاه بقاؤها على ملك الأول الذي يعطي الأجرة.

و لعله هو الذي أشار إليه المصنف بقوله

[خاتمة كل أرض ترك أهلها عمارتها كان للإمام عليه السلام تقبيلها ممن يقوم بها]

خاتمة كل أرض ترك أهلها عمارتها كان للإمام عليه السلام تقبيلها ممن يقوم بها، و عليه طسقها لأربابها كما في النافع و الإرشاد و التبصرة و القواعد و موضع من التذكرة و إن كان عنوان الكلية فيه أعمّ من خصوص الأرض التي أسلم عليها أهلها كما هو مقتضى كلام السابقين، و حينئذ فموضع الاختلاف في كلامهم مقامان: أحدهما دفع الطسق لأهلها و عدمه، و الآخر عموم الحكم لكل أرض ترك أهلها عمارتها، أو اختصاص ذلك بأرض من أسلم أهلها عليها طوعا، و ليس في الصحيح المزبور و المرسل ذكر للطسق، بل لا صراحة فيهما في خصوص العامرة التي أعرض أهلها عن الاستدامة على تعميرها، فإن قوله عليه السلام: ما لم يعمر منها أخذه الوالي» إلى آخره ظاهر في فاقد التعمير من أصله، و إن كان قد يشكل ذلك بكونه للإمام عليه السلام لا للمسلمين، ضرورة اتفاق النص و الفتوى على أن الموات من الأنفال، و يمكن إرادة خصوص المتروكة منه و لو بمعونة كلام الأصحاب، و في المسالك في تفسير عبارة المتن «و ذلك كالأرض المتقدمة التي أسلم أهلها عليها، و أرض الجزية

ج 21، ص: 177

و غيرها من المملوكات، و لا تنحصر أجرتها فيما قبل به الإمام عليه السلام بل لهم الأجرة و ما زاد من مال التقبيل لبيت المال، لما تقدم من أن حاصلها يصير للمسلمين» و فيه مواضع للنظر تظهر لك إن شاء اللَّه مما يأتي و في محكي السرائر «فإن تركوا خرابا أخذها إمام المسلمين و قبلها من يعمرها، و أعطى أصحابها طسقها، و أعطى المتقبل حصته، و ما يبقى فهو متروك لمصالح المسلمين في بيت ما لهم على ما روي في الأخبار أورد ذلك شيخنا أبو جعفر رحمه اللَّه، و الأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية فإنها تخالف الأصول و الأدلة السمعية، فإن ملك الإنسان لا يجوز لأحد أخذه و التصرف فيه بغير إذنه و اختياره، فلا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد» و هو صريح في تضمن النصوص الأجرة و إن كنا لم نعثر عليها و في الدروس «لو أسلم قوم على أرضهم طوعا ملكوها، و ليس عليهم فيها سوى الزكاة مع اجتماع الشرائط، و لو تركوا عمارتها فالمشهور في الرواية أن للإمام عليه السلام تقبيلها بما يراه و يصرف في مصالح المسلمين» و في النهاية «يدفع من حاصلها طسقها لأربابها و الباقي للمسلمين» و ابن إدريس منع من التصرف بغير إذن أربابها، و هو متروك.

و في الروضة كل أرض أسلم عليها أهلها طوعا كالمدينة المشرفة و البحرين و أطراف اليمن فهي لهم على الخصوص يتصرفون فيها كيف شاءوا، و ليس عليهم فيها سوى الزكاة مع اجتماع الشرائط المعتبرة فيها، هذا إذا قاموا بعمارتها، أما لو تركوها فخربت فإنها تدخل في عموم قوله: و كل أرض ترك أهلها عمارتها فالمحيي أحق بها منهم لا بمعنى ملكه لها بالإحياء لما سبق من أن ما جرى عليه ملك مسلم لا ينتقل عنه بالموت، فترك العمارة التي هي أعمّ من الموت أولى، بل بمعنى استحقاقه التصرف فيها ما دام قائما بعمارتها و عليه طسقها أي أجرتها لأربابها الذين تركوا عمارتها، أما عدم خروجها عن ملكهم فقد تقدم، و أما

ج 21، ص: 178

جواز إحيائها مع القيام بالأجرة فلرواية سليمان بن خالد(1)و هي دالة على عدم خروج الموات به عن الملك أيضا، لأن نفس الأرض حق صاحبها، إلا أنها مقطوعة السند ضعيفة فلا تصلح للحجية، و شرط في الدروس إذن المالك في الإحياء، فإن تعذر فالحاكم، فإن تعذر جاز الإحياء بغير إذن، و للمالك حينئذ طسقها، و دليله غير واضح، و الأقوى أنها إن خرجت عن ملكه جاز إحياؤها بغير أجرة، و إلا امتنع التصرف فيها بغير إذنه و قد تقدم ما يعلم منه خروجها عن ملكه و عدمه، نعم للإمام عليه السلام تقبيل المملوكة الممتنع أهلها من عمارتها بما شاء، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

و في قاطعة اللجاج «و ثانيها أرض من أسلم أهلها عليها طوعا من غير قتال، و حكمها أن تترك في أيديهم ملكا لهم يتصرفون فيها بالبيع و الشراء و الوقف و سائر أنواع التصرف إذا قاموا بعمارتها، و يؤخذ منهم العشر أو نصفه زكاة بالشرائط، فإن تركوا عمارتها و تركوها خرابا كانت للمسلمين قاطبة، و جاز للإمام عليه السلام أن يقبلها ممن يعمرها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع أو نحو ذلك، و على المتقبل بعد إخراج حق القبالة و مئونة الأرض مع وجود النصاب العشر أو نصفه، و على الإمام عليه السلام أن يعطي أربابها حق الرقبة من القبالة على المشهور أفتى به الشيخ في المبسوط و النهاية و أبو الصلاح، و هو الظاهر من عبارة المحقق نجم الدين في الشرائع و اختاره العلامة في المنتهى و التحرير و التذكرة و المختلف، و ابن حمزة و ابن البراج ذهبا إلى أنها تصير للمسلمين قاطبة، و أمرها إلى الإمام عليه السلام و كلام شيخنا رحمه اللَّه قريب من كلامهما، و ابن إدريس منع من ذلك كله، و قال


1- 1 الوسائل- الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 3.

ج 21، ص: 179

إنها باقية على ملك الأول، و لا يجوز التصرف فيها إلا بإذنه، و هو متروك».

و في الرياض بعد ذكر حكم الأرض التي أسلم أهلها عليها طوعا و أنها لهم قال: «و لا خلاف فيه إذا قاموا بعمارتها، أما لو تركوها فخربت فإنها تدخل في عموم قوله أي في النافع: و كل أرض مملوكة ترك أهلها و ملاكها عمارتها فللإمام عليه السلام أو نائبه تسليمها إلى من يعمرها بعد تقبيلها منه بحسب ما يراه من نصف أو ثلث أو ربع و عليه أي على الإمام طسقها أي أجرتها لأربابها الذين تركوا عمارتها على المشهور على الظاهر المصرح به في الدروس و غيره، بل لا خلاف فيه إلا من الحلي فمنع من التصرف فيها بغير إذن أربابها مطلقا، و هو كما في الدروس متروك، و بالخبرين المتقدمين محجوج، و عن ابن حمزة و القاضي فلم يذكرا الأجرة بل قالا كالباقين إنه يصرف حاصلها في مصالح المسلمين، كما هو ظاهر الخبرين، لكنهما ليسا نصين في عدم وجوبها، فلا يخرج بهما عن الأصل المقتضي للزومها، و به تتم الحكمة في جواز تصرف الإمام عليه السلام فيها بغير إذنهم، نظرا إلى أنه إحسان محض، و ما على المحسنين من سبيل، و به يضعف مستند الحلي من قبح التصرف في ملك الغير بغير إذنه، لاختصاص ما دل عليه من العقل و النقل بغير محل الفرض» قلت قد سمعت الصحيح (1)و المضمر(2)الواردين في أرض من أسلم عليها أهلها، و قد سمعت سابقا صحيح الكابلي (3)المتقدم في شرح


1- 1 الوسائل- الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
2- 2 الوسائل- الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 2.

ج 21، ص: 180

قول المصنف «و ما كان مواتا وقت الفتح فهو للإمام خاصة» و في

خبر معاوية بن وهب (1)«سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول أيما رجل أتى خربة بائرة فاستخرجها و كرى أنهارها و عمرها فإن عليه فيها الصدقة، فإن كانت أرضا لرجل قبله فغاب عنها و تركها فأخربها ثم جاء بعد يطلبها فإن الأرض لله و لمن عمرها»

و في

خبر سليمان بن خالد(2)«سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها و يجري أنهارها و يعمرها و يزرعها ما ذا عليه؟ قال الصدقة قلت فإن كان يعرف صاحبها قال: فليؤد إليه حقه»

و نحوه صحيح الحلبي (3)عنه عليه السلام أيضا، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على الإذن في تعمير الأراضي، و خصوصا إذا بلغت حد الموات، و أنه حينئذ يكون أحق بها من غيره، مضافا إلى قاعدة الإحسان و إلى أولوية الإمام عليه السلام بالمؤمنين من أنفسهم.

و أما إعطاء الطسق الذي صرح به الفاضلان و ثاني الشهيدين و غيرهم فلعله للجمع بين الحقين، و لخبري الحلبي و سليمان بن خالد اللذين قد يظهر منهما بقاؤها على ملك الأول كما صرح به في الروضة، بل قد يستفاد منهما و من غيرهما الإذن منهم عليهم السلام في ذلك لكل أحد و أنه ليس عليه إلا الطسق و الصدقة، و الباقي له، و لعل هذا في غير الأرض التي أسلم عليها أهلها التي قد سمعت التصريح نصا و فتوى بأن ما زاد على مال القبالة أو مع الطسق للمسلمين يصرف في مصالحهم، بل قد

سمعت ما في قاطعة اللجاج من كون نفس الأرض للمسلمين بل هو المحكي عن نهاية الشيخ و ابني حمزة و البراج و الفاضل في التحرير


1- 1 الوسائل- الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 3.
3- 3 الوسائل- الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 3.

ج 21، ص: 181

و التذكرة و المنتهى، بل هو ظاهر الخبرين، و إن كان قد يشكل بمنافاته للحكم بدفع الأجرة الظاهرة في بقاء الملك لصاحبه كما سمعته من ثاني الشهيدين، و لا ريب في أنه أوفق بالقواعد الشرعية، كما أنه قد يشكل الجمع بين دفع الأجرة للمالك و دفع حق القبالة للمتقبل و ما زاد للمسلمين بأن المتجه استحقاق المالك ما زاد على حق المتقبل المقابل لعمله، إذ هو عوض الأرض المفروض استحقاق المالك طسقها اللَّهمّ إلا أن يقال إن الذي يستحقه ما قابل خصوص الرقبة، و أما ما يحصل بنماء التعمير فهو بين المسلمين و المتقبل.

ثم إنه ربما قيل باعتبار عدم كون الترك غفلة أو نسيانا أو خوفا من ظالم أو عجزا عن التعمير نظرا إلى كون المتبادر غير ذلك، و لكن فيه منع واضح، خصوصا الأخير للإطلاق نصا و فتوى، نعم ينبغي أن لا يكون الترك لصلاح الأرض كما عن الجامع التصريح به، و لعله مراد الباقين، و إن توهم من الإطلاق خلافه، كما أن الظاهر عدم اعتبار نهي المالك للإطلاق، و إن احتمله بعض الناس قويا، بل الظاهر من الخبرين و بعض العبارات وجوب التقبيل على الإمام (ع) و لو باعتبار ولايته على المسلمين المقتضية لمراعاة مصلحتهم، بل لعله مراد من عبر بالجواز كابن زهرة و الفاضلين و الشهيدين و غيرهما و لو باعتبار أنه متى جاز وجب سياسة و مراعاة لمصلحة المسلمين، و الظاهر أيضا قيام نائب الغيبة مقام الإمام عليه السلام في ذلك بناء على اختصاص الحكم به لعمومها.

هذا كله في الأرض المملوكة التي ترك أهلها عمارتها فخربت و لم تصل إلى حد الموات، أما إذا وصلت فقد اندرجت في الكلية الثانية المذكورة في النافع و غيره و هي كل أرض موات سبق إليها سابق فأحياها كان أحق بها، فإن كان لها مالك معروف فعليه طسقها بلا خلاف

ج 21، ص: 182

أجده في جواز الإحياء في موات الأصل في زمن الغيبة الذي قد عرفت أنه للإمام عليه السلام من الأنفال، و قد صدر الإذن منه في الإحياء بل ظاهرها تملك المحيي لها مجانا، و إن كان ظاهر صحيح الكابلي عن الباقر عليه السلام المتقدم سابقا وجوب الخراج عليه حتى يظهر القائم عليه السلام، و احتمله الكركي في فوائد الشرائع معللا له بأنها ملك الغير، و ملك الغير لا يباح مجانا، قال و يؤمي إلى هذا قول الأصحاب في باب الخمس: و أحل لنا خاصة المساكن و المتاجر و المناكح، فإن أحد التفسيرات للمساكن هو كون المساكن المستثنيات هي المتخذة في أرض الأنفال، و فيه أنه لا بأس بإباحة الغير ملكه مجانا، كما هو ظاهر

قوله صلى اللَّه عليه و آله (1)«من أحيا أرضا»

إلى آخره و نحوه، و حينئذ يحمل ما دل على الأجرة في أرض الغير على غير أرض الإمام عليه السلام في زمن الغيبة و خصوصا بالنسبة إلى الشيعة، ثم قال في الفوائد المزبورة. «و يحتمل بناء ذلك على أن المحيي لهذه الأرض يملكها ملكا حقيقيا، أو يختص بها مجرد اختصاص، فإن قلنا بالأول لم يجب عليه أحد الأمرين، لأنه لا يجب عليه في ملكه عوض التصرف و على الثاني يجب، و لا أعلم في ذلك كلاما للأصحاب» قلت: العمدة في ذلك الأدلة، و لا تنافي معها بين الملك و استحقاق الأجرة، و لا بين عدم الملك و عدمها أيضا، و لا ريب في ظهور النصوص و الفتاوى في عدم وجوب شي ء على المحيي في زمن الغيبة، و خصوصا الشيعة، و لو ل

قولهم عليهم السلام (2): «ما كان لنا فقد أبحناه لشيعتنا»

و نحوه بل الظاهر ذلك أيضا في المعمورة من الأنفال كالأرض التي انجلى عنها


1- 1 الوسائل- الباب 1 من كتاب إحياء الموات الحديث 5.
2- 2 الوسائل- الباب 4 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.

ج 21، ص: 183

أهلها الكفار، لكن في فوائد الشرائع للكركي هل يحل لكل أحد التصرف فيها أم يتوقف على إذن الحاكم أو على إذن سلطان الجور؟

و على كل تقدير فهل يجب فيها عوض التصرف؟ لا أعلم في ذلك كلاما للأصحاب، و إطلاق النصوص و

كلام الأصحاب ربما اقتضى كونها كالأرض الخراجية أعني المفتوحة عنوة، إلا أنه لا يخفى عليك ما فيه من عدم اقتضاء إطلاق النص و الفتوى ذلك، بل ظاهر نصوص التحليل عدمه، و أما الموات المسبوق بالإحياء ففي الرياض لا خلاف في أنه للمحيي إحياؤه مع عدم مالك معروف له، قلت: قد يستفاد أيضا من بعض النصوص السابقة، بل لعلها من الأنفال المباحة للشيعة أيضا و لكن مع ذلك الأحوط استئذان الحاكم مع الإمكان، و أحوط منه دفع الأجرة إذا كانت الأرض مما لا يزول ملكها بالموات أو لم يعلم حالها بل للحاكم التصدق بعين الأرض كغيرها من مجهول المالك إن لم نقل إنها من الأنفال، و كذا في الرياض أيضا «لا خلاف في أن للمالك الأجرة مع كونه معلوما بعينه، و كان مالكا لها بغير الإحياء» قلت:

لعله للجمع بين الحقين و لما سمعته من خبر سليمان بن خالد و غير ذلك و في فوائد الكتاب للكركي و لقائل أن يقول: كيف جاز التصرف في مال الغير بغير إذنه قلنا في حكم الأرض إذا خربت للأصحاب اختلاف ففي قول أنها و إن بقيت على ملك مالكها إلا أنه يجوز إحياؤها لغيره و يستحق مالكها على المحيي طسقها، و هو قول للشيخ، و شرط في الدروس إذن المالك، فإن تعذر فإذن الحاكم، فإن تعذر جاز الإحياء بغير إذن و في قول إنها تخرج عن ملك الأول، فيسوغ إحياؤها لغيره، و يملكها المحيي، و فصل العلامة في التذكرة فقال: إن الأرض إن ملكت بغير الإحياء كالشراء و الإرث لم تخرج عن ملك المالك بموتها إجماعا، و إن

ج 21، ص: 184

ملكت بالإحياء فعرض لها الموات خرجت عن ملكه، و جاز إحياؤها مطلقا، و في قول إنها على ملك الأول، و لا يجوز لأحد إحياؤها بغير إذنه إلا أن تشهد القرائن بأنه قد أعرض عنها و تركها أصلا و رأسا فإنه حينئذ يباح لمحييها كما يباح التقاط السنبل المتناثرة حيث يعلم إعراض المالك عنها، و هذا القول هو الأصح، و اختاره ابن إدريس، و قد كتبنا في تحقيق ذلك مسألة مفردة، و بينا الدلائل من كل جانب و المذكور هاهنا يتخرج على الأقوال الثلاثة فعلى ما اخترناه ينزل إطلاق الحكم في المسألة المذكورة على إذن المالك في الإحياء مع طلب عوض التصرف، و مثله ما لو تجدد العلم بالمالك بعد الإحياء و رضي بالأجرة و قال في المسالك: الأرض الموات لا تخلو إما أن تكون مواتا من الأصل بحيث لم يجر عليها يد مالك أو لا، و الأولى للإمام عليه السلام لا يجوز لأحد إحياؤها إلا بإذنه في حال حضوره، و في حال غيبته يملكها المحيي، و إن جرى عليها يد مالك ثم خربت فلا يخلو إما أن تكون قد انتقلت إليه بالشراء و نحوه أو بالإحياء، و الأولى لا يزول ملكه عنها بالخراب إجماعا، نقله العلامة في التذكرة عن جميع أهل العلم، و الثانية و هي التي ملكت بالإحياء لا تخلو إما أن يكون مالكها معينا أو غير معين، و الثانية تكون للإمام عليه السلام من جملة الأنفال يملكها المحيي لها في حال الغيبة أيضا، فإن تركها حتى خربت زال ملكه عنها و جاز لغيره تملكها، و هكذا، و الأولى و هي التي قد خرجت و لها مالك معروف فقد اختلف الأصحاب في حكمها، فذهب الشيخ إلى أنها تبقى على ملك مالكها، لكن يجوز إحياؤها لغيره، و يكون أحق بها، لكن عليه طسقها لمالكها، و اختاره المصنف، و ذهب آخرون إلى

ج 21، ص: 185

أنها تخرج عن ملك الأول، و يسوغ إحياؤها لغيره، و يملكها المحيي، و اختاره العلامة، و هو الأقوى، و الأخبار الصحيحة دالة عليه، و شرط في الدروس إذن المالك، فإن تعذر فالحاكم، فإن تعذر جاز الإحياء بغير إذن، و دليله غير واضح، و في المسألة قول آخر، و هو عدم جواز إحيائها مطلقا بدون إذن مالكها، و لا تملك بالإحياء كالمنتقلة بالشراء و شبهه، و اختاره المحقق الشيخ علي، و له شواهد من الأخبار، إلا أن الأول أقوى و أصح سندا و أوضح دلالة، و باقي الأقوال مخرجة».

قلت: قد ذكرنا تحقيق الحال في ذلك في كتاب إحياء الموات، و لكن لا يبعد القول بصحة الكلية المزبورة بملاحظة ما سمعته من النصوص السابقة و غيرها، ك

قول الباقر عليه السلام في صحيح ابن مسلم (1)«أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض و عمروها فهم أحق بها»

و غيره، بل ظاهر بعضها عدم الفرق بين موات المفتوحة عنوة و غيره، و بين معلومة المالك و غيره، نعم تترتب عليه الأجرة في معروفة المالك و لو المسلمين و لعل هذا حكم خاص بالأرضين بخلاف غيرها من الأموال، بل هذه الكلية أولى بالصحة من الكلية السابقة التي هي أيضا من خواص الأراضي و إن لم تصل إلى حد الموات من غير فرق بين أرض من أسلم عليها أهلها و غيرها، و لعله لما سمعته في صحيح ابن وهب (2)و غيره من أن الأرض لله و من عمرها، فعليك بملاحظة جميع ما جاء في النصوص عنهم عليهم السلام في ذلك كي يظهر لك وجه صحة الكليتين، و وجه النظر في كلام ابن إدريس و الكركي و الشهيد في الدروس و غيرهم، و قد ذكرنا جملة منها في المقام، و أخرى في البيع عند البحث في بيع الأرض


1- 1 الوسائل- الباب 1 من كتاب إحياء الموات الحديث 3.
2- 2 الوسائل- الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 1.

ج 21، ص: 186

المفتوحة عنوة، و جملة في إحياء الموات، و جملة في كتاب الخمس، و اللَّه العالم بحقيقة الحال.

و إذا استأجر مسلم دارا من حربي ثم فتحت تلك الأرض لم تبطل الإجارة و إن ملكها المسلمون بلا خلاف أجده بين من تعرض له كالشيخ و الفاضل و غيرهما، لأصالة بقاء ملك المسلم التي لا ينافيها ملك الرقبة

بالاستغنام نحو شراء الأرض المستأجرة، و اللَّه العالم.

[الثالث في قسمة الغنيمة]
اشاره

الثالث في قسمة الغنيمة، يجب أن يبدأ بما شرطه الإمام (ع) منها كالجعائل التي يجعلها منها لمن يد له على مصلحة كالتنبيه على عورة القلعة و الطريق الخفي لها و نحو ذلك مما تقدم و السلب بفتح اللام إذا شرطه الإمام للقاتل، و لو لم يشترطه لم يختص به بل يكون كباقي مال الغنيمة بلا خلاف أجده في الأول، لعموم

(1)«المؤمنون»

و لقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله (2)يوم خيبر: «من قتل قتيلا فله سلبه»

فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا فأخذ أسلابهم و لاقتضاء صحة الشرط التي لا خلاف فيها ذلك بل و لا إشكال للأصل، و كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، و لما فيه من المصلحة الراجعة للإسلام و المسلمين من الرغبة في القتال و التحريض عليه، و لغير ذلك، فيأخذه حينئذ من دون استئذان جديد من الإمام عليه السلام لكونه مستحقا له بالجعالة، و إن استحب له ذلك على ما في المنتهى، و على المشهور في الثاني، بل لا أجد فيه خلافا إلا من الإسكافي، لعموم ما دل(3)


1- 1 الوسائل- الباب 20 من أبواب المهور الحديث 4 من كتاب النكاح.
2- 2 سنن البيهقي ج 6 ص 307 و 309 و أما قضية أبو طلحة فهو في غزوة حنين كما ذكره البيهقي في سننه ج 6 ص 306.
3- 3 الوسائل- الباب 41 من أبواب جهاد العدو.

ج 21، ص: 187

على قسمة الغنيمة بين المقاتلين الذي لا يخصصه ما يظهر من بعض نصوص الجمهور(1)من كون ذلك جعلا من النبي صلى اللَّه عليه و آله لكل قاتل في كل غزوة بعد عدم ثبوت حجيته، بل إعراض المشهور بل الجميع عداه عنه.

و يشترط في استحقاق الأول السلب الذي جعل له إذا قتل قتيلا أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتلهم، فلو قتل صبيا أو امرأة أو شيخا فانيا غير مقاتلين لم يستحق سلبه للنهي (2)عن قتله، فلا يندرج في الجعالة، نعم لو قتل أحدهم و كان مقاتلا استحقه، و كذا يعتبر كونه ممتنعا، فلو قتل أسيرا له أو لغيره أو من أثخن بالجراح أو عجز عن المقاومة أو نحو ذلك مما لا يندرج في ظاهر عبارة الجعل لم يستحق سلبه، و في

المروي من طرق الجمهور «أن ابني عفراء أثخنا أبا جهل يوم بدر، فأجهز عليه عبد اللَّه بن مسعود، فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله سلبه لابني عفراء و لم يعط ابن مسعود شيئا»

و لكنه غير ثابت من طرقنا، بل قد يشكل بعدم استحقاق ابني عفراء أيضا، لعدم صدق القتل بالإثخان، اللَّهمّ إلا أن يكون على وجه يصدق معه القتل عرفا.

و لو قطع يدي رجل و رجليه و قتله آخر ففي المنتهى السلب للقاطع دون القاتل، لأنه هو الذي منع عن المسلمين شره، و فيه أنه غير

مندرج في عبارة الجعالة إلا أن يفرض معها قرائن حال تقتضي بإرادة نحو ذلك، و لو قطع يديه أو رجليه ثم قتله آخر فعن الشيخ السلب للقاتل


1- 1 سنن البيهقي ج 9 من ص 305 إلى 309 و ص 315 و 316.
2- 2 الوسائل- الباب 18 من أبواب جهاد العدو.

ج 21، ص: 188

دون القاطع، لأنه لم يصر ممتنعا بالقطع، لإمكان عدوه بالرجلين و مقاتلته باليدين، فيندرج في عبارة الجعالة، و عن بعض الجمهور اختصاص القاطع به، و هو واضح الضعف كوضوح ضعف ما عن آخر منهم من كونه غنيمة، و لو قطع يده و رجله من خلاف ثم قتله آخر ففي المنتهى الوجه التفصيل إن امتنع و اكتفى شره أجمع بقطع العضوين كان السلب للقاطع، و إلا كان للقاتل، و فيه الإشكال السابق، و لو عانق رجل رجلا فقتله آخر فالسلب للقاتل، خلافا للأوزاعي، و لو أقبل الكافر على رجل من المسلمين يقاتله فجاءه آخر من ورائه فضربه فقتله فسلبه لقاتله، للصدق و ل

ما رواه الجمهور(1)عن أبي قتادة «خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله عام خيبر فلما التقينا كان للمسلمين جولة فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت حتى أتيت من ورائه فضربته على حبل عاتقه ضربة فأقبل علي فضمني ضمة وجدت فيها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني فرجع الناس فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، فقلت: من يشهد لي ثم جلست، ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله

ذلك فقمت و قلت من يشهد لي، ثم جلست، ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله ثالثا فقال: ما لك يا أبا قتادة؟ فقصصت عليه القصة فقال: رجل من القوم صدق يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، و سلب ذلك القتيل عندي فأرضه منه، فقال أبو بكر لا ها اللَّه إذن لا تعمد إلى أسد من أسد اللَّه يقاتل عن اللَّه و عن رسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله صدق، فأعطاه إياه».

و لا يلحق بالقتل الأسر و إن قتله الإمام عليه السلام خلافا لمكحول


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 306 و هو في عام حنين.

ج 21، ص: 189

فقال: من أسر مشركا فله سلبه، و لآخر من العامة إن استبقاه الإمام عليه السلام كان له فداؤه أو رقبته و سلبه، لأنه كفى المسلمين شره و هما معا كما ترى، نعم للإمام عليه أن ينفل شيئا من فعل مصلحة من المصالح فله أن يجعل السلب لمن أسر مشركا، و في

خبر عبد اللَّه بن ميمون (1)«أتي علي عليه السلام بأسير يوم صفين فبايعه على أن لا أقتلك إني أخاف اللَّه رب العالمين فخلى سبيله و أعطى سلبه الذي جاء به»

هذا، و في المنتهى يشترط في استحقاق السلب أن يغرر القاتل بنفسه في قتله بأن يبارزه إلى صف المشركين أو إلى مبارزة من يبارزهم، فيكون له السلب، فلو لم يغرر بنفسه مثل أن يرمي سهما في صف المشركين من صف المسلمين

فيقتل مشركا لم يكن له سلبه، لأن القصد منه التحريض على القتال و مبارزة الرجال، و لا يحصل إلا بالتغرير.

و لو حمل جماعة من المسلمين على مشرك فقتلوه فالسلب في الغنيمة لأنهم باجتماعهم لم يغرروا الرجال، و لا يحصل إلا بالتغرير، و فيه ما لا يخفى مع فرض عدم قرائن تقضي بإرادة ذلك من عبارة الجعالة و لو قتله اثنان كان السلب لهما كما عن الشيخ التصريح، به، لتناول العبارة الواحد و الزائد، خلافا لأحمد في إحدى الروايتين، لعدم التغرير و عدم تشريك النبي صلى اللَّه عليه و آله، و هما معا كما ترى، خصوصا الأخير، إذ لعله لعدم التشريك، و قال في المنتهى أيضا إنما يستحق السلب بشرط القتل و الحرب قائمة سواء كان مقبلا أو مدبرا، إذ الحرب فر و كر، أما لو انهزم المشركون فقتله لم يستحق السلب بل كان غنيمة، لعدم التغرير، و لأنه بالهزيمة قد كفى المسلمين شره، و فيه ما لا يخفى بعد الإحاطة بما ذكرناه.


1- 1 الوسائل- الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 190

ثم إن الظاهر استحقاق السلب كل من جاء بالعمل و إن لم يكن من ذوي السهم في الغنيمة، و إنما يرضخ له كالمرأة و العبد و الكافر، أما من لم يكن له حق فيها لا سهما و لا رضخا لعصيانه في القتال لنهي الإمام عليه السلام إياه أو لمنع أبويه و عدم تعينه عليه أو نهي سيده عنه أو غير ذلك فلا يستحق السلب، لظهور عبارة الجعل فيمن ساغ له القتال، لكن في المنتهى الوجه استحقاق مولى العبد السلب و إن خرج العبد من غير إذنه، لأن كل ما للعبد فهو لمولاه، ففي حرمانه السلب حرمان سيده، و لم يصدر عنه معصية، و فيه أنه لا حق للعبد المزبور بعد فرض عدم تناول العبارة له.

ثم لا خلاف بل و لا إشكال في اندراج الثياب و العمامة و القلنسوة و الدرع و المغفرة و البيضة و الجوشن و السلاح كالسيف و الرمح و السكين و نحو ذلك مما يكون معه و له مدخل في القتال في السلب، بل في المنتهى الإجماع عليه، بل لعل الأقوى اندراج ما كان معه من التاج و السوار و الطوق و الخاتم و نحوها مما يتخذها للزينة، و الهميان و نحوه مما يتخذه للنفقة فيه أيضا، وفاقا للفاضل، بل عن الشيخ أنه قواه أيضا للصدق عرفا، خلافا للشافعي.

نعم لا يندرج فيه ما كان منفصلا عنه كالرجل و العبد و الدواب التي عليها أحماله، و السلاح الذي ليس معه، فيبقى حينئذ غنيمة، أما الدابة التي يركبها فهي منه سواء كان راكبا لها أو نازلا عنها و هي بيده للصدق عرفا، خلافا لأحمد في الثاني، بل يتبعها السرج و اللجام و جميع آلاتها و الحلية و نحو ذلك، نعم لو لم تكن الدابة أو شي ء من آلاتها معه لم تدخل في السلب، و كذا الجنب الذي يساق خلفه، لاحتمال الحاجة إليه على ما ذكره غير واحد، و لو كان في يده فالمحكي عن ابن

ج 21، ص: 191

الجنيد أنه من السلب، و لا يخلو من وجه، بل لعل العرف الآن يقتضي اندراجه فيه و إن لم يكن في يده، بل كان معه معدا لحاجته فيه إن حصلت، و لعله لذا عده في المسالك مع الأمور المزبورة، ثم قال:

و في اشتراط كونه مع ذلك محتاجا إليه في القتال نظر، و عدم الاشتراط لا يخلو من قوة، و هو اختيار الشيخ، و تظهر الفائدة في مثل الهميان الذي للنفقة و المنطقة و الطوق المتخذ للزينة، فتأمل، و السلب يأخذه القاتل و إن أدى إلى كشف العورة، و عن ابن الجنيد عدم اختياره، كما أنه

روي (1)عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه لم يأخذ سلبا عند مباشرته للحرب،

و اللَّه العالم.

ثم يبدأ ب ما تحتاج إليه الغنيمة من النفقة مدة بقائها حتى تقسم كأجرة الحافظ و الراعي و الناقل و نحوهم بلا خلاف بل و لا إشكال، ضرورة كونها من مؤنها التي تؤخذ من أصلها و كذا يبدأ أيضا بما يرضخه للنساء و العبيد و الكفار إن قاتلوا بإذن الإمام عليه السلام لأنه لا سهم للثلاثة بلا خلاف أجده فيه، بل في المنتهى الإجماع عليه في الأول صريحا، و في الثالث ظاهرا، بل في محكي التذكرة الإجماع عليهما أيضا، مضافا إلى

خبر سماعة(2)عن أحدهما عليهما السلام «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله خرج بالنساء في

الحرب يداوين الجرحى و لم يسهم لهن من الفي ء شيئا، و لكن نفلهن»

مؤيدا بالمروي (3)من طرق العامة عن ابن عباس من نحو ذلك، و بأن المرأة ضعيفة عن القتال، و لذا لم تخاطب به و بغير ذلك، فما عن الأوزاعي


1- 1 المستدرك- الباب 61 من أبواب جهاد العدو الحديث 13.
2- 2 الوسائل- الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
3- 3 سنن البيهقي ج 6 ص 332.

ج 21، ص: 192

من السهم لهن كالرجال لما رواه من بعض الأخبار الذي لا وثوق بسنده بل و لا دلالته واضح الضعف بين قومه فضلا عن الإمامية، و أما العبيد فالمعروف بين العامة و الخاصة عدم السهم لهم، بل لم أجد فيه خلافا بيننا إلا من الإسكافي، فجعلهم كالأحرار، ل

خبر محمد بن مسلم (1)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «لما ولي علي عليه السلام صعد المنبر فحمد اللَّه و أثنى عليه ثم قال: أما إني و اللَّه ما أرزؤكم من فيئكم هذا درهما ما قام لي عذق بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم، أ فتروني مانع نفسي و معطيكم قال: فقام إليه عقيل كرم اللَّه وجهه فقال: فتجعلني و أسود في المدينة سواء، فقال: اجلس ما كان هاهنا أحد يتكلم غيرك، و ما فضلك عليه إلا بسابقة أو تقوى»

و خبر حفص (2)«سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: و سئل عن بيت المال فقال: أهل الإسلام هم أبناء الإسلام، أسوي بينهم في العطاء و

فضائلهم بينهم و بين اللَّه، أجعلهم كبني رجل واحد لا يفضل أحد منهم لفضله و صلاحه في الميراث على آخر ضعيف منقوص، و قال: هذا هو فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله»

و للمروي من طرق العامة عن الأسود بن يزيد «أنه شهد فتح القادسية عبيد فضرب لهم سهامهم»

و هما غير صريحين، بل و لا ظاهرين في قسمة الغنيمة، فلا حجة فيهما خصوصا بعد الإعراض عنهما، و الثالث غير ثابت، و محتمل لإرادة الرضخ من سهامهم، كل ذلك مع المعارضة


1- 1 الوسائل- الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 193

بالمروي (1)من طرق العامة عن عمر مولى أبي اللحم قال: «شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و أخبروه أني مملوك فأمر لي بشي ء من حرفي المتاع»

و في الدعائم (2)«و عن علي عليه السلام أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله قال: ليس للعبد من الغنيمة شي ء و إن حضر و قاتل عليها، فإن رأى الإمام عليه السلام أو من أقامه الإمام عليه السلام أن يعطيه على بلاء إن كان منه أعطاه من حرفي المتاع ما رآه»

مؤيدا بأنه ليس من أهل القتال و ممن يجب عليه الجهاد.

هذا كله في العبد المأذون، أما غير المأذون فلا سهم له إجماعا محكيا في المنتهى إن لم

يكن محصلا، بل لا رضخ له مع عصيانه في سفره، و لا فرق في العبد بين القن و المدبر و المكاتب، نعم لو أعتق قبل تقضي الحرب أسهم له، بل لو قتل مولى المدبر قبل تقضي الحرب و أخرج من الثلث أسهم له أيضا، و المبعض يسهم له بقدر ما فيه من الحرية، و يرضخ له بقدر ما فيه من الرق.

و أما الكافر فإنما يستحق من سهم المؤلفة و الرضخ إذا خرج بإذن الإمام، فلو خرج بغير إذنه لم يسهم له و لا يرضخ له بلا خلاف كما اعترف به في المنتهى، ضرورة كونه حينئذ غير مأمون فهو كالمرجف و لو غزا جماعة من الكفار بانفرادهم من غير إذن الإمام عليه السلام كانت الغنيمة للإمام من الأنفال، لعموم النص الدال على ذلك، خلافا لبعض العامة فجعلها لهم، و لا خمس فيها، و لآخر فأوجب الخمس فيها و ظاهر المصنف و غيره بل هو صريح بعض المفروغية من جواز الاستعانة


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 53 عن عمير مولى أبي اللحم.
2- 2 المستدرك- الباب 36 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.

ج 21، ص: 194

بالكفار المأمونين مع المصلحة، أما غير المأمون فلا يجوز الاستعانة به إجماعا محكيا في المنتهى إن لم يكن محصلا، مضافا إلى قوله تعالى (1)«وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» و إلى أولويته من المسلم المرجف و المخذل، بل عن أحمد في إحدى الروايتين عدم جواز الاستعانة بهم مطلقا لبعض نصوص (2)مروية من طرق العامة غير ثابتة عندنا و لا واضحة الدلالة، هذا، و في المنتهى إذا استأجر

الإمام عليه السلام أهل الذمة للقتال جاز و لا تبين المدة لأن ذكر المدة غرر، فربما زادت مدة الحرب أو نقصت، و عفي عن الجهالة هنا لموضع الحاجة، فإن لم يكن قتال لم يستحقوا شيئا، و إن كان و قاتلوا استحقوا، و إن لم يقاتلوا ففي الاستحقاق تردد ينشأ من أنه منوط بالعمل و لم يوجد، فلا استحقاق و من أنه يستحق بالحضور فإنه بمنزلة القتال، و لذا يستحق المسلم به السهم، و الأول أقوى، قلت ينبغي الجزم به، كما أنه ينبغي الجزم بعدم جواز عقد الإجارة المعتبر فيه المعلومية، إذ دعوى الاغتفار هنا للحاجة لا شاهد لها، بل يمكن جعله من باب الجعالة التي هي أوسع من الإجارة أو من باب الأعمال بالأعواض من دون عقد إجارة، و لو زادت الأجرة على سهم الراجل أو الفارس أعطيت لاستحقاقها حينئذ بالعقد لا بالاغتنام، و احتمال العود إلى الرضخ في غاية الضعف، بل هو واضح الفساد.

ثم إن ظاهر المصنف و غيره بل هو صريح بعض اختصاص الرضخ بالمذكورين، لكن عن الشيخ في المبسوط و النهاية إلحاق الأعراب بهم، و تسمع الكلام فيه إن شاء اللَّه عند تعرض المصنف له.


1- 1 سورة الكهف- الآية 49.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 37.

ج 21، ص: 195

و كذا يبدأ بصفو المال، فإن للإمام عليه السلام أن يصطفي من الغنيمة لنفسه قبل كمال القسمة من فرس جواد و ثوب مرتفع و جارية حسناء و سيف قاطع و غير ذلك مما هو صفو المال و لم يضر بالجيش بلا خلاف أجده فيه بيننا، من غير فرق بين النبي صلى اللَّه عليه و آله و الإمام عليه السلام عندنا خلافا للعامة، فخصوه بالنبي صلى اللَّه عليه و آله، و لعله لعدم إمام معصوم عندهم، بل في المنتهى و عن الغنية و التذكرة و غيرهما الإجماع عليه،

و في الدعائم (1)«روينا عن جعفر بن محمد عليهما السلام أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله أرسل بعثين إلى اليمن على أحدهما علي عليه السلام و على الآخر خالد بن الوليد، و قال:

إذا اجتمعتم فعلي عليه السلام أميركم، و إذا افترقتم فكل واحد على أصحابه، فأصاب القوم سبايا فاصطفى علي عليه السلام جارية لنفسه، فكتب بذلك خالد بن الوليد إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، و أرسل الكتاب مع بريدة، و أمره أن يخبر النبي صلى اللَّه عليه و آله ففعل، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله: إن عليا مني و أنا منه، و له ما اصطفى، و تبين الغضب في وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، فقال بريدة: هذا مقام العائذ بك يا رسول اللَّه، بعثتني مع رجل و أمرتني بطاعته، فبلغت ما أرسلني به، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله:

إن عليا عليه السلام ليس بظلام، و لم يخلق للظلم، و هو أخي و وصيي و ولي أمركم بعدي»

و في مرسل حماد(2)عن العبد الصالح عليه السلام «للإمام صفو المال أن يأخذ من هذه الأموال، صفوها الجارية الفارهة


1- 1 دعائم الإسلام ج 1 ص 382 المطبوع عام 1383.
2- 2 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأنفال الحديث 4 من كتاب الخمس.

ج 21، ص: 196

و الدابة الفارهة و الثوب و المتاع مما يحب و يشتهي، و ذلك له قبل القسمة و قبل إخراج الخمس، و له أن يسد بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة و غير ذلك من أصناف ما ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شي ء أخرج الخمس منه و قسمه بين أهله، و قسم الباقي على من ولي ذلك، فإن لم يبق بعد سد النوائب شي ء فلا شي ء لهم»

و الضعف في الإرسال مجبور بما عرفت، على أن حماد من أصحاب الإجماع، نعم لم أجد من أفتى بما في ذيله من أن له سد ما ينوبه بجميع المال إلى آخره بالنسبة إلى الغنيمة إلا أبا الصلاح، فإنه قال على ما حكاه عنه في المختلف له أن يصطفي لنفسه قبل القسمة الفرس و السيف و الدرع و الجارية و أن يبدأ بسد ما ينوبه من خلل في الإسلام و تقوية مصالح أهله، و لا يجوز أن يعترض عليه إن استغرق جميع المغانم، و فيه أنه كذلك لو فرض وقوعه منه، لعدم جواز الاعتراض عليه لعصمته عليه السلام، و لقوله تعالى (1)«ما آتاكُمُ» و قوله تعالى (2)«النَّبِيُّ أَوْلى

بِالْمُؤْمِنِينَ» و غير ذلك مما دل على ولايته، إنما الكلام في أن مقتضى ما وصل إلينا من الأدلة ذلك أولا، و لا ريب في ظهور الخبر المزبور فيه، إلا أنه مناف لظاهر غيره منها كتابا و سنة، بل لعل الاصطفاء ظاهر في التخصيص ببعض، و على كل حال فقد تقدم في كتاب الخمس أن ذلك من جملة الأنفال.

ثم إن ظاهر النص و الفتوى أن للإمام عليه السلام صفو المال قبل الخمس، لكن في المنتهى أن البحث فيه بالنسبة إلى تقدمه على الخمس و تأخره كالبحث في الرضخ إلى آخره، و لا يخلو من نظر، و على


1- 1 سورة الحشر- الآية 7.
2- 2 سورة الأحزاب- الآية 6.

ج 21، ص: 197

كل حال فلا خمس فيه عليه قطعا، و إنما الكلام في الجعائل و السلب و الرضخ و المؤن، فلا يخرج الخمس منها كما أشار إليه المصنف بعد أن ذكر البدأة بها بقوله ثم يخرج الخمس كما عن الشيخ في المبسوط و لكن قيل و القائل الشيخ أيضا في محكي الخلاف بل يخرج الخمس مقدما عليها عملا بالآية و اختاره الشهيدان و غيرهما لصدق الغنيمة و ظاهر المرسل السابق و غير ذلك و لكن الأول أشبه بأصول المذهب و قواعده في مثل الجعائل إذا كان قد جعلها مقدمة على الخمس صريحا أو ظاهرا، بل و كذا المؤن الذي يمكن استفادتها أيضا من المرسل السابق، و من معقد محكي إجماع الغنية، و من كونها مئونة و مصلحة راجعة لأرباب الخمس و غيرهم نحو مؤن الزكاة، أما الرضخ فقد يقوى القول بتقديم الخمس عليه باعتبار كونه كالسهم من الغنيمة و إن كان ناقصا، فإن نقصانه لا يخرجه عن اسم الغنيمة التي يخرج خمسها لأربابه، ثم تقسم الأربعة بين أهلها، و منهم من يرضخ لهم منها، و لعله لذا كان المحكي عن الإسكافي و ابن حمزة و غيرهما تقديم الخمس على النفل المراد به هنا زيادة الإمام عليه السلام نصيب بعض الغانمين لمصلحة صادرة منه لدلالة و إمارة و هجوم على حصن و تجسس و نحو ذلك مما فيه نكاية للكفار و نحو ذلك، و في

النبوي (1)«لا نفل إلا بعد الخمس»

بل لعل المرسل السابق مشعر بذلك أيضا، نعم قد يقال بوجوب الخمس عليهم من حيث أنه نوع تكسب، فيجب حينئذ عليهم من هذه الجهة بشرائط وجوبه في أرباح التجارة المراد بها كلما يستفيده الإنسان بتكسب بعد إخراج مئونة سنته.


1- 1 سنن البيهقي- ج 6 ص 614 و كنز العمال- ج 2 ص 272 الرقم 5825.

ج 21، ص: 198

و على كل حال فالرضخ على ما ذكره غير واحد من الأصحاب العطاء اليسير، و المراد به هنا العطاء الذي لا يبلغ سهم الفارس إن كان المرضوخ له فارسا، و لا الراجل إن كان راجلا، قال في المنتهى «و معنى الرضخ أنه يعطى المرضوخ له شيئا من الغنيمة، و لا يسهم له سهم كامل، و لا تقدير للرضخ، بل هو موكول

إلى نظر الإمام عليه السلام، فإن رأى التسوية بينهم سوى، و إن رأى التفضيل فضل، و هذا مذهب علمائنا أجمع و أكثر أهل العلم» إلى آخره، ثم قال أيضا:

«و ليس له قدر معين، بل هو موكول إلى نظر الإمام عليه السلام، لكن لا يبلغ للفارس سهم فارس، و لا للراجل سهم راجل، كما لا يبلغ بالحد التعزير، و ينبغي أن يفضل بعضهم على بعض بحسب مراتبهم و كثرة النفع بهم، فيفضل العبد المقاتل الشديد على من ليس كذلك، و تفضل المرأة المقاتلة التي تسقي الماء و تداوي الجرحى و تعتني بالمجاهدين على من ليست كذلك، و بالجملة يفاوت بينهم بالعطاء بحسب تفاوت النفع بهم و لا يسوى بينهم كما يسوى في السهام، لأن السهم منصوص غير موكول إلى الاجتهاد فلم يختلف كالحد و الدية، و أما الرضخ فإنه غير مقدر بل مجتهد فيه مردود إلى اجتهاده كالتعزير و قيمة العبد و غير ذلك» و لعل المتجه الجمع بين كلاميه بإرادة رجحان التفاوت بينهم على حسب تفاوت النفع لا وجوبه كي ينافي ما تقدم، و الخنثى المشكل في حكم المرأة في عدم السهم لعدم العلم بالذكورة التي هي شرط وجوب الجهاد المقتضي للسهم، و في المسالك عن بعض له نصف سهم و نصف رضخ كالميراث، و هو كما ترى ثم بعد أن يخرج الخمس يقسم الأربعة أخماس بين المقاتلة و من حضر القتال و لو لم يقاتل حتى الطفل و لو ولد بعد الحيازة و قبل القسمة بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، بل عن الغنية

ج 21، ص: 199

و المنتهى و التذكرة الإجماع عليه، مضافا إلى

خبر مسعدة بن صدقة(1)عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام «أن عليا عليه السلام قال:

إذا ولد المولود في أرض الحرب قسم له مما أفاء اللَّه عليهم»

و في آخر(2)«أسهم له»

و إلى

المروي (3)من طرق العامة عن النبي صلى اللَّه عليه و آله «أنه أسهم للصبيان بخيبر»

نعم الظاهر إرادة المصنف و غيره من حضر القتال لأن يقاتل و الطفل الذكر منهم أو من غيرهم من المقاتلين كما عن جماعة التصريح به، فلا سهم لمن حضر لصنعة خاصة أو حرفة كذلك أو نحو ذلك و لم يجاهدوا فضلا عن الطفل منهم، و في المسالك و إطلاق الفتاوى يقتضي عدم الفرق بين كونه من أولاد المقاتلة و غيرهم و بين حضور أبويه و أحدهما و عدمه، و لعله يريد من حضر للقتال من غير المقاتلة لا مطلقا، و لو اشتبه الحال في الحضور للقتال و عدمه فعن الشيخ استحقاق الإسهام لأنه يستحق بالحضور، و فيه أنه لم يثبت كون العنوان ذلك، اللَّهمّ إلا أن يكون معقد الإجماع، لكن قد عرفت انسياق من حضر للقتال منه، بل قد سمعت ما في مرسل حماد من القسمة بين من ولي ذلك.

و كذا يشارك أيضا من اتصل بالمقاتلة من المدد و لو بعد الحيازة بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل في المنتهى و عن التذكرة و التحرير الإجماع على ذلك إذا لحقوا قبل تقضي الحرب، بل ظاهر الأول و محكي الأخيرين و الغنية ذلك أيضا بعد تقضي الحرب قبل


1- 1 الوسائل- الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 8.
2- 2 الوسائل- الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 9.
3- 3 المنتقى من أخبار المصطفى ج 2 ص 789 الرقم 4335.

ج 21، ص: 200

القسمة و في

خبر حفص بن غياث (1)«كتب إلي بعض إخواني أن أسأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن مسائل من السير فسألته و كتبت بها إليه فكان فيما سألت أخبرني عن الجيش إذا غزوا أرض الحرب فغنموا غنيمة، ثم لحقهم جيش آخر قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام و لم يلقوا عدوا حتى يخرجوا إلى دار الإسلام فهل يشاركونهم فيها قال: نعم»

و في

خبر طلحة بن زيد(2)عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام «في الرجل يأتي القوم و قد غنموا و لم يكن ممن شهد القتال قال: فقال:

هؤلاء المحرومون، فأمر أن يقسم لهم»

و لعل المراد المحرومون من ثواب القتال، و عن الشيخ احتمال الحمل على ما لو لحقوهم بعد الخروج إلى دار الإسلام، و الأول يحتمل

التخصيص بحضور القتال، قلت لا داعي إلى ذلك بعد إطلاق الفتاوى، نعم لا خلاف في عدم المشاركة مع اللحوق بعد القسمة، بل في حاشية الكركي و عن الكتب الثلاثة الإجماع على ذلك، فينبغي تقييد الخبرين بغيره.

و لو تخلص الأسير المسلم من يد المشركين و لحق بالمسلمين بعد تقضي الحرب و القسمة لم يسهم له إجماعا محكيا إن لم يكن محصلا إذ لا يزيد على المدد، نعم لو لحق قبل انقضائها و قاتل مع المسلمين استحق عندنا كما في المنتهى لأنه مسلم حضر و قاتل فاستحق السهم كغيره من المجاهدين، بل الظاهر ذلك لو حضر للقتال و لم يقاتل كما عن الشيخ التصريح به، لكونه كغيره ممن عرفت، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة و الشافعي في أحد قوليه.


1- 1 الوسائل- الباب 37 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 37 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 201

و لو بعث الأمير لمصلحة الجيش رسولا أو دليلا أو طليعة أو جاسوسا لينظر عددهم و ينقل أخبارهم فغنم الجيش قبل رجوعه ففي المنتهى الذي يقتضيه مذهبنا أنه يسهم له لأن القتال عندنا ليس شرطا في استحقاق الغنيمة، بل تقسم على كل من حضر القتال، قلت: لعل الوجه أنهم من الجيش فيشاركون لذلك، و إلا يمكن فرض عدم حضورهم القتال.

و كيف كان يخرج الأربعة أخماس ثم يعطى الراجل سهما بلا خلاف بين العامة و الخاصة، و هو من لم يكن راكبا فرسا و إن ركب بغلا أو حمارا أو غيرهما كما ستعرف و الفارس أي راكب الفرس أو مستصحبها سهمين، و قيل و القائل الإسكافي منا و الأكثر من الجمهور ثلاثة أسهم و الأول أظهر و أشهر، بل المشهور شهرة عظيمة، بل عن الغنية الإجماع عليه، و هو الحجة بعد

خبر حفص بن غياث (1)المنجبر بما عرفت «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن مسائل من السير، و فيها كيف تقسم الغنيمة بينهم؟ فقال: للفارس سهمان و للراجل سهم»

المؤيد بخبره الآتي (2)أيضا و

بالمروي (3)من طرق الجمهور عن المقداد رضي اللَّه عنه قال: «أعطاني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله سهمين سهما لي و سهما لفرسي»

و عن مجمع بن جارية(4)«أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله قسم خيبر على أهل الحديبية فأعطى


1- 1 الوسائل- الباب 38 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 38 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
3- 3 كتاب نصب الراية ج 3 ص 417.
4- 4 سنن البيهقي ج 6 ص 325.

ج 21، ص: 202

الفارس سهمين، و الراجل سهما»

فما في

خبر إسحاق بن عمار(1)عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «أن عليا عليه السلام كان يجعل للفارس ثلاثة أسهم و للراجل سهما»

المؤيد ببعض (2)نصوص الجمهور القاصر عن معارضة ما سمعت من وجوه مطرح أو محمول على التقية كما يرشد إليه النسبة إلى علي عليه السلام و خصوص الراوي، أو على ذي الفرسين فصاعدا.

و ذلك لأن من كان له فرسان فصاعدا أسهم لفرسين دون ما زاد بلا خلاف أجده فيه، بل في ظاهر الرياض و محكي الغنية و التذكرة و صريح المنتهى الإجماع عليه، و هو الحجة بعد

خبر الحسين بن عبد اللَّه (3)عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين عليه السلام «إذا كان مع الرجل أفراس في غزو لم يسهم إلا لفرسين منها»

المنجبر بما عرفت، و المؤيد

بالمروي (4)من طرق العامة عن النبي صلى اللَّه عليه و آله «كان يسهم للخيل، و كان لا يسهم للرجل فوق فرسين و إن كان معه عشرة أفراس».

و لو غزا العبد بإذن مولاه على فرس لسيده رضخ للعبد و أعطي سهم للفرس، فإن كان معه فرسان أعطي لهما سهمان مع الرضخ له، و الكل للسيد، خلافا للشافعي و أبي حنيفة فلا سهم للفرس، لأنها تحت من لا سهم له، و فيه أن الرضخ قسم من السهم، نعم لو كانت تحت المخذل الذي لا يستحق شيئا بالحضور فضلا عن فرسه اتجه ذلك، كما


1- 1 الوسائل- الباب 42 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
2- 2 سنن البيهقي ج 6 ص 327.
3- 3 الوسائل- الباب 42 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
4- 4 سنن البيهقي ج 6 ص 328 و كتاب نصب الراية ج 3 ص 418.

ج 21، ص: 203

أنه يمكن أن يقال إن المتجه أن يرضخ له دون سهم الفارس، مثل ما إذا غزت المرأة و الكافر على فرس لهما، اللَّهمّ إلا أن يفرق بأن الفرس لهما، و هما لم يستحقا سهما، ففرساهما أولى فليس إلا الرضخ دون سهم الفارس، بخلاف العبد فإن الفرس لسيده، و لكن الإنصاف عدم خلوه من النظر، و اللَّه العالم.

و كذا الحكم في كيفية القسمة لو قاتلوا في السفن و إن استغنوا عن الخيل فللفارس سهمان و للراجل سهم و لذي الفرسين فصاعدا ثلاثة أسهم بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به الفاضل في المنتهى بل عن الغنية الإجماع عليه، و هو الحجة بعد

خبر حفص (1)المنجبر بما سمعت، قال: «كتب إلي بعض إخواني أن أسأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن مسائل من السير، فسألته و كتبت بها إليه، فكان فيما سألت عن سرية كانوا في سفينة فقاتلوا و غنموا و فيهم من معه الفرس و إنما قاتلوهم في السفينة و لم يركب صاحب الفرس فرسه كيف تقسم الغنيمة بينهم، قال: للفارس سهمان، و للراجل سهم، فقلت: لم يركبوا و لم يقاتلوا على أفراسهم فقال: أ رأيت لو كانوا في عسكر فتقدم الرجالة فقاتلوا فغنموا كيف أقسم بينهم، أ لم أجعل للفارس سهمين و للراجل سهما، و هم الذين غنموا دون الفرسان فقلت: فهل يجوز للإمام عليه السلام أن ينفل؟ فقال: له أن ينفل قبل القتال، فأما بعد القتال و الغنيمة فلا يجوز ذلك، لأن الغنيمة قد أحرزت».

و منه يعلم أنه يسهم للخيل مع حضورها الوقعة و إن لم يقاتل عليها و لا احتيج إليها كما يسهم لها مع الغزو عليها، بل في المنتهى لا


1- 1 ذكر صدره في الوسائل في الباب 37 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 و ذيله في الباب 38 منها الحديث 1.

ج 21، ص: 204

نعلم فيه خلافا يعتد به، لأنه أحضرها للقتال، و قد يحتاج إليها، و قد لزمه المئونة لها فكان السهم مستحقا كالمقاتل عليها، و لأنها حيوان ذو سهم حضر الوقعة فاستحق السهم بمجرد حضوره كالآدمي، بل الظاهر أن القسمة كذلك لو كانت الغنيمة من فتح مدينة أو حصن، لأن النبي صلى اللَّه عليه و آله قسم غنائم خيبر كذلك، و هي حصون، و للإطلاق و من ذلك يعلم خطأ الولاة قبل عمر بن عبد العزيز، فإنهم على ما يحكى كانوا يجعلون الناس في فتحها كلهم رجالة حتى ولي عمر بن عبد العزيز فأنكر ذلك، و أمر بإسهامها من فتح الحصون و المدن.

و لو غزا جماعة على فرس واحدة على التبادل فالمحكي عن الإسكافي أنه يعطى لكل واحد سهم راجل، ثم يفرق بينهم سهم فرس واحدة و استحسنه الفاضل، و قد يقال باختصاص السهم بمن كان راكبا لها عند حيازة الغنيمة بناء على كون المدار في الفارس على ذلك، كما ستسمعه إن شاء اللَّه، و اللَّه العالم.

و لا يسهم للإبل و البغال و الحمير و البقر و الفيلة و نحوها و إن قامت مقام الخيل في النفع أو زادت بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل في المنتهى قاله العلماء، و هو قول عامة أهل العلم، و مذهب الفقهاء في القديم و الحديث، و حكي عن البصري أنه قال: يسهم للإبل خاصة و عن أحمد روايتان إحداهما أنه يسهم للبعير سهم واحد، و لصاحبه سهم آخر، الثانية إن عجز عن ركوب الخيل فركب البعير أسهم له ثلاثة أسهم، سهمان لبعيره، و سهم له، و إن أمكنه الغزو على الفرس لم يسهم لبعيره، قلت كأنه لم يحتفل بهما فلم يستثنهما من العلماء و لا من عامة أهل العلم، و لعله كذلك، ضرورة أنه لم ينقل عن النبي صلى اللَّه عليه و آله إسهام غير الخيل، مع أنه كان معه يوم بدر سبعون بعيرا

ج 21، ص: 205

بل لم تنفك غزواته من استصحاب النجب، بل كانت هي الغالب في دوابهم، بل لم ينقل من أحد بعده ذلك أيضا، و لا دلالة في قوله تعالى (1)«فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ» على شي ء من ذلك و هو واضح.

نعم إنما يسهم للخيل و إن لم تكن عرابا بلا خلاف أجده فيه بيننا، فلا فرق بين العتيق الذي أبواه عربيان عريقان كريمان و البرذون الذي أبوه و أمه عجميان و المقرف الذي أبوه برذون و أمه عتيقة و الهجين الذي أبوه عتيق و أمه عجمية، لصدق الفرس و الفارس على ذلك كله و قال ابن الجنيد منا لا يسهم من الخيل القحم بفتح القاف و سكون الحاء المهملة و هو الكبير المسن الهرم الفاني و الرازح بالراء المهملة ثم الزاء بعد الألف ثم الحاء

المهملة، و هو الذي لا حراك به من الهزال كما في المنتهى و عن المبسوط و عن الجوهري الهالك هزالا و الضرع بفتح الضاد المعجمة و الراء المهملة و هو الصغير الذي لا يركب كما عن المبسوط، بل في المسالك نسبته إلى تفسير الفقهاء، و في الصحاح الضرع بالتحريك الضعيف، و في المنتهى الصغير الضعيف الذي لا يمكن القتال عليه، و الحطم و هو الذي ينكسر من الهزال، و الأعجف و هو المهزول لعدم الانتفاع بها في الحرب، و قيل و القائل الشيخ في المبسوط و الخلاف و الحلي فيما حكي عنهما يسهم مراعاة للاسم، و هو حسن عند المصنف و الفاضل في بعض كتبه و ثاني الشهيدين و غيرهم للصدق، و لكن عن المبسوط و الخلاف أن على الإمام عليه السلام أن يتعاهد خيل المجاهدين، و لا يترك أن يدخل دار الحرب نحو هذه الأفراس قال: لأن هذه الأفراس لا يمكن القتال عليها بلا خلاف، و هو مشعر


1- 1 سورة الحشر- الآية 6.

ج 21، ص: 206

بعدم الإسهام لها مع إرادة الوجوب، و لعله يريد الندب الذي يشعر به التعبير بلفظ «لا ينبغي» في المنتهى و محكي التذكرة، و لكن الإنصاف الشك في اندراج اسم الفارس على راكب هذه الأفراس، خصوصا إذا كان للغزو و للقتال اللذين معظم ما يراد من الفرس فيهما الكر و الفر و دعوى استحقاقهم السهم كالطفل و المدد الذين لم يقاتلوا قياس مستقبح و التحقيق الاندراج في العنوان و عدمه، و لعل أفراده مختلفة، و مع الشك لا سهم، و اللَّه العالم.

و لا يسهم لل فرس ال مغصوب إذا كان صاحبه غائبا لا لمالكه و لا لراكبه و إن استحق هو سهمه بلا خلاف أجده فيه بيننا للأصل السالم عن معارضة ما تقدم المنساق منه غير الفرض و إن استحق المالك على الغاصب أجرة المثل، و لكن إن لم يكن إجماع أمكن المناقشة باستحقاق الراكب سهم الفارس، للصدق مع منع انسياق سهم غيره منه، و لعله لذا كان المحكي عن بعض العامة ذلك و لو كان صاحبه حاضرا في الحرب كان لصاحبه سهمه كما صرح به الفاضل و غيره بل لا أجد فيه خلافا بين من تعرض له إلا ما يحكى عن المبسوط و الخلاف و الوسيلة و عن بعض العامة من إطلاق عدم السهم للفرس، كما عن مالك إطلاق السهم للمالك، و هما معا كما ترى، و في المنتهى الاستدلال على التفصيل المزبور بأنه مع الحضور قاتل على فرسه من يستحق السهم فاستحق السهم كما لو كان مع صاحبه، و إذا ثبت أن للفرس سهما ثبت لمالكه، لأن النبي صلى اللَّه عليه و آله جعل للفرس سهما و لصاحبه سهما، و ما كان للفرس كان لمالكه، أما مع الغيبة فإن الغاصب لا يملك منفعة الفرس، و المالك لم يحضر، فلم يستحق سهما و لا فرسه سهما، و فيه أن الموجود في النصوص السابقة سهمان للفارس

ج 21، ص: 207

و ليس في شي ء سهم منهما للفرس، نعم في

المروي (1)عن أمير المؤمنين عليه السلام المتقدم سابقا «إذا كان مع الرجل أفراس في غزو لم يسهم إلا لفرسين منها»

و المراد السهم للرجل باعتبارها، و إلا لو كان المراد السهم لها على معنى استحقاقها ذلك على وجه يكون لمالكها لم يفرق بين حضوره و غيبته، مع أنه لا يصدق على صاحبها أنه فارس بعد أن غصب منه، بل الصدق متحقق على الغاصب، و من هنا كان المتجه ما سمعته سابقا من استحقاق الغاصب سهمين، و يستحق عليه الأجرة، و أما دعوى أنه ليس له إلا سهم الراجل سواء كان المالك حاضرا أو غائبا فلا تقوم به الأدلة، خصوصا بعد معلومية أن السهم المجعول للفرس ليس من منافعها التي تكون للمالك، و لا من النماء، و إنما هو تبعي للفارس، اللَّهمّ إلا أن يكون إجماعا، فيكون هو الحجة، و ربما ظهر من بعض عبارات المنتهى، قال فيه: لو كان الغاصب ممن لا سهم له كالمرجف و المخذل فعندنا أن سهم الفرس للمالك إن كان حاضرا، و إلا فلا شي ء له، و قال بعض الجمهور: إن حكم المغصوب حكم فرسه، لأن الفرس يتبع الفارس في حكمه، فيتبعه إذا كان مغصوبا قياسا على فرسه، و ليس بمعتمد، لأن النقص في الراكب و الجناية منه، فاختص المنع به و بتوابعه كفرسه التابعة له، بخلاف المغصوب فإنه لغيره، فلا ينقص سهمه، و كذا البحث لو غزا العبد بغير إذن مولاه على فرس مولاه، و لا يخفى عليك قوة ما حكاه عن بعض الجمهور بعد الإحاطة بما ذكرناه إن لم يكن مراده من قوله «عندنا» الإجماع، و إلا فهذه الاعتبارات لا تصلح مدركا لحكم شرعي، بل المتجه في العبد أيضا ما أشرنا إليه سابقا من أنه يرضخ له دون سهم الفارس لا دون سهم الراجل، ثم


1- 1 الوسائل- الباب 42 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 208

من المعلوم عدم سقوط الأجرة عن الغاصب و إن أخذ المالك السهم بناء عليه كما صرح به غير واحد، و هو واضح، و اللَّه العالم.

و يسهم للمستأجر بالفتح للغزو أو ما يشمله و المستعار كذلك و يكون السهم للمقاتل دون المعير و المستأجر كما صرح به غير واحد، بل في المنتهى و محكي التذكرة نفي الخلاف في الأول، بل ظاهرهما ذلك أيضا في الثاني، بل هو صريح المحكي عن المبسوط، بل لعله لا إشكال فيه بناء على ما ذكرناه من صدق اسم الفارس على كل منهما، بل لعل الحكم به هنا في المستعار مؤيد لما قلناه، ضرورة عدم ملك المستعير المنفعة كالمستأجر، فليس حينئذ إلا الصدق، و من ذلك يعرف ما في استدلال المنتهى له بأنه فرس قاتل عليه من يستحق سهما و هو مالك لنفعه، فاستحق سهم الفرس كالمستأجر، إذ هو كما ترى و لو استأجر أو استعار لغير الغزو فغزا كان بحكم المغصوب الذي قد سمعت الكلام فيه، هذا، و عن ابن الجنيد الأجير الذي لم يمكنه الغزو إلا بإجارة نفسه بمأكله و محمله له سهم، فإن كان مستأجرا بعوض يأخذه و شرط على من استأجره أن له سهما كان ذلك له، و إلا فهو للمستأجر، و فيه أن السهم يستحقه الحاضر بحضوره، فليس للمستأجر فيه حق، لانتفاء المقتضي، و العوض دفعه المستأجر عن الجهاد لا عن الغنيمة، و لعله لذا قال في المحكي عنه. إذا استأجر رجل أجيرا و دخلا معا دار الحرب فإنه يسهم للمستأجر و الأجير، سواء كانت الإجارة في الذمة أو معينة، و يستحق مع ذلك الأجرة، نعم قد يقال إذا كانت الأجرة على وجه تكون منافعه أجمع للمستأجر حتى لو حاز مباحا اتجه حينئذ كونه للمستأجر، و اللَّه العالم.

ج 21، ص: 209

و كيف كان ف الاعتبار بكونه فارسا يستحق سهمه عند حيازة الغنيمة لا بدخوله المعركة فلو دخلها فارسا فذهب فرسه و تقضى الحرب و هو راجل لم يستحق إلا سهم راجل كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به بعض الأفاضل، بل و لا إشكالا كما في المسالك، و لعله لانسياق غيره من

قوله عليه السلام (1)«للفارس سهمان»

إنما الكلام في اشتراط كونه على الوصف عند الحيازة كما هو مختار المصنف و الأكثر كما في المسالك و الرياض، أو يعتبر كونه كذلك عند القسمة كما هو خيرة الكركي و ثاني الشهيدين، لأنه محل اعتبار الفارس و الراجل ليدفع إليهما حقهما، مؤيدا بفحوى استحقاق المولود و المدد اللاحق بعد الغنيمة قبل القسمة، فتأمل، أو يكفي أحدهما كما هو محتمل بعض نسخ القواعد، أو يعتبر كونه كذلك من حين الحيازة إلى القسمة كما عن بعض نسخ القواعد أيضا، و ربما بني الخلاف هنا على الخلاف في أن الملك بالحيازة أو القسمة، و حينئذ يتجه الأول لظهور الأدلة في الملك بها، خصوصا التعليل في خبر حفص (2)السابق لعدم النفل بعد انقضاء القتال بأن الغنيمة قد أحرزت، و أظهر منه ما في

الدعائم (3)عن علي عليه سلام اللَّه أنه قال: «من مات في دار الحرب من المسلمين قبل أن تحرز

الغنيمة فلا سهم له فيها، و إن مات بعد أن أحرزت فسهمه ميراث لورثته، و لا قوة إلا باللَّه»

كل ذلك مع ملاحظة انجباره بالعمل، فإن الأكثر كما عرفت على ذلك بل لم يخالف إلا الكركي و ثاني الشهيدين، و إلحاقه بالمدد و المولود لا


1- 1 الوسائل- الباب 38 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 38 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
3- 3 المستدرك- الباب 36 من أبواب جهاد العدو الحديث 7.

ج 21، ص: 210

يخرج عن القياس، و دعوى صدق اسم الفارس عندها فيشمله الإطلاق يدفعها انسياق غير ذلك منه، فالأصل عدم استحقاقه السهمين حينئذ، فتأمل.

و كيف كان ف الجيش يشارك السرية في غنيمتها إذا صدرت عنه و بالعكس بلا خلاف أجده فيهما، بل في المسالك هو أي الأخير موضع وفاق، و في المنتهى هو أي الأول قول العلماء كافة إلا الحسن البصري، فإنه قال: تنفرد السرية، و لا ريب في ضعفه، بل هو مخالف

للمروي من طرقهم عن النبي صلى اللَّه عليه و آله «لما غزا هوازن و بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت السرية فأشرك بينهما و بين الجيش»

و بالمروي (1)عنه صلى اللَّه عليه و آله أيضا من طرقهم «أنه صلى اللَّه عليه و آله كان ينفل أي للسرية في البدأة الربع، و في الرجعة الثلث»

و هو دليل على الاشتراك فيما سوى ذلك، على أنهم جيش واحد، و كل منهم ردأ لصاحبه، فاشتركوا كما لو غنم أحد جانبي الجيش، و كذا الرسول المنفذ من الجيش لمصلحة و الدليل و الطليع و الجاسوس و نحوهم في الاشتراك.

و كذا لو خرج منه سريتان إلى جهة واحدة فغنمتا اشترك الجيش و السريتان بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المنتهى، بل و لا إشكال بعد ما سمعته في الواحدة، بل عن الشيخ الاشتراك أيضا لو بعثهما إلى جهتين، و لعله لما عرفت، و لكن لا يخلو من نظر.

أما لو خرج جيشان من البلد إلى جهتين لم يشرك أحدهما الآخر في غنيمته بلا خلاف أجده فيه و لا إشكال، نعم لو اجتمعا


1- 1 كنز العمال ج 2 ص 309 الرقم 6423.

ج 21، ص: 211

كانا جيشا واحدا و كذا لو خرجت السرية من جملة عسكر البلد لم يشركها العسكر بلا خلاف و لا إشكال لأنه ليس بمجاهد و لمعلومية اختصاص السرايا بما يغنمونه في زمن النبي صلى اللَّه عليه و آله حيث يكون مقيما في المدينة، بل في المنتهى لو بعث الإمام سرية و هو مقيم في بلد الإسلام فغنمت السرية اختصت بالغنيمة، و لا يشاركهم أهل البلد فيها بلا خلاف، و لا الإمام عليه السلام و لا جيشه، لأنها للمجاهدين و المقيم ببلد الإسلام غير مجاهد، و لكن قد يشكل بأن المتجه مشاركة الجيش لها إذا كانت قد صدرت منه و كان ردءا لها و إن بقي في بلد من بلاد الإسلام، اللَّهمّ إلا أن يقال إن الأصل عدم الاشتراك، بل ظاهر الأدلة الاختصاص بالمقاتلة و من في حكمهم من المدد، فلا يدخل فيهم العسكر و غيره، بل ربما قيل لو لا عدم الخلاف في المسألة السابقة لكان اختصاص السرية بما غنمته دون جيشها مطلقا في غاية القوة إذا لم يلحقها، كما هو فرض المسألة، و إلا فمع فرض اللحوق تكون مسألة أخرى تقدمت إليها الإشارة، و لا إشكال في حكمها بعد ما سمعته من النص و الفتوى فيها، و لولاهما لكانت محل إشكال أيضا، هذا، و عن الإسكافي إذا دهم المدينة عدو فخرج أهلها يتناصرون فانهزم العدو و غنم أوائل المسلمين كان كل من خرج أو تهيأ للخروج أو أقام بالمدينة لحراستها شركاء في الغنيمة، و كذلك لو جاهدهم العدو فباشر حربه بعض أهل المدينة إلى أن ظفروا و غنموه إذا كانوا مشتركين في المعونة لهم و الحفظ للمدينة و أهلها، فإن كان الذين هزموا العدو و لقوه على ثماني فراسخ من المدينة فقاتلوه و غنموه كانت الغنيمة لهم دون من كان في المدينة الذين لم يعاونوهم خارجها، و كأنه لاحظ مسافة القصر و عدمها كما أنه لاحظ في الشركة أولا كونهم جميعا بعضهم ردءا للآخر، فيصدق

ج 21، ص: 212

على الجميع أنهم الغانمون كالجيش الواحد، و اللَّه العالم.

و يكره تأخير قسمة الغنيمة في دار الحرب إلا لعذر كخوف المشركين و نحوه على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، بل لم يحك الخلاف في ذلك إلا من الإسكافي، فجعل الأولى القسمة في دار الإسلام و إن جازت في دار الحرب محتجا بأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله قسم غنائم خيبر و الطائف بعد خروجه من ديارهم إلى الجعرانة(1)و هو لا يدل على ما ذكره من الأولوية، ضرورة كونه حكاية حال، فيمكن أن يكون ذلك منه لعذر، على أنه معارض ب

ما رواه الشيخ (2)في محكي المبسوط من أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله قسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء قريب من بدر، و كان ذلك دار حرب،

بل

روى الجمهور(3)عن أبي إسحاق الفزاري قال: «قلت للأوزاعي: هل قسم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله شيئا من الغنائم بالمدينة؟ قال: لا أعلمه إنما كان الناس يبتغون غنائمهم و يقسمونها في أرض عدوهم، و لم ينقل عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله في غزاة قط أصاب فيها غنيمة إلا خمسه و قسمه قبل أن يتنفل، و من ذلك غزاة بني المصطلق و هوازن و خيبر»

و لعله لذلك أو غيره قال في المسالك: و المختار الأول، و مستنده فعل النبي صلى اللَّه عليه و آله فإنه كذلك كان يفعله، رواه عنه العامة و الخاصة إلا أنه كما ترى لا دلالة فيه على الكراهة، بل أقصى ما يقضي به استمرار

فعله الرجحان دونها بعد معلومية الجواز عندنا بلا خلاف أجده فيه بيننا، للأصل و غيره، بل لعله مقتضى الجمع بين ما سمعته من


1- 1 الصحيح هو غنائم حنين و الطائف كما ذكره ابن خلدون في تاريخه ج 2 ص 777 طبعة بيروت عام 1966 و كذلك غيره.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 56.
3- 3 سنن البيهقي ج 9 ص 56 و 57.

ج 21، ص: 213

حكاية فعله، خلافا للحنفية فلا يجوز إلا في دار الإسلام، لعدم تمامية الملك لهم إلا بالدخول فيها معها، و لأن لكل واحد من الغانمين أن يستبد بالطعام و العلف في دار الحرب، فلا تجوز القسمة كحالة بقاء الحرب، و هما معا ضعيفان، ضرورة تمامية الملك بالحيازة و القهر كضرورة الفرق بين حالي الحرب التي لم يثبت للغانمين فيها حق التملك و غيرها مما ثبت فيه الملك بالحيازة و قهر العدو و انقضاء الحرب، بل لعل احتمال عدم جواز التأخير عن دار الحرب مع إرادة الغانمين حقوقهم أقوى من ذلك، بل ربما كان ذلك هو السبب في حكم الأصحاب بالكراهة بل لعله المستفاد مما سمعته من الأوزاعي «إنما كان الناس يبتغون غنائمهم» و لو غزا المشركون المسلمين فهزمهم المسلمون قسموا غنائمهم مكانهم إن اختاروا ذلك قبل إدخالها المدن، و لو كان المشركون أهل بادية مثلا و لا دار لهم فغنمهم المسلمون كان قسمتها إلى الوالي إن شاء قسمها مكانه، و إن شاء قسم بعضها و أخر بعضها كما قسم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله المغنم بخيبر، و لعله لذا حكي الأمران من فعله كما سمعته سابقا، و الأمر سهل و كذا يكره إقامة الحدود فيها كما ذكره الفاضل و غيره، بل في محكي المبسوط في دار الحرب، و آخر حتى يعود إلى دار الإسلام و إن رأى الإمام عليه السلام المصلحة في التقديم جاز، و ظاهره عدم الجواز في الأول، و لكنه واضح الضعف، ضرورة عدم دليل يصلح معارضا لما دل على إقامتها، بل لا دليل واضح على الكراهة و إن عللوها بمخافة لحوق المحدود الغيرة فيدخل في دار الحرب، إلا أنه كما ترى سيما مع ملاحظة ما دل (1)على عدم جواز التأخير في الحدود، بل لعل التسامح في الكراهة هنا لا يخلو من إشكال باعتبار المعارضة لدليل


1- 1 الوسائل- الباب 25 من أبواب مقدمات الحدود.

ج 21، ص: 214

الحرمة، و على كل حال فقد استثنوا من ذلك حق القصاص معللين له أيضا بانتفاء المانع من التقديم، و هو خوف اللحاق بدار الحرب، و هو مع اختصاصه بقصاص النفس يقتضي استثناء جميع الحدود الموجبة للقتل كالرجم و نحوه، و اللَّه العالم.

[مسائل أربع ]
اشاره

مسائل أربع:

[المسألة الأولى المرصد للجهاد لا يملك رزقه من بيت المال ]

الأولى المرصد للجهاد أي الموقوف له لا يملك رزقه من بيت المال إلا أن يقبضه كما عن

المبسوط و غيره، بل لا أجد فيه خلافا للأصل، و في المنتهى و محكي المبسوط و التذكرة «أن الغزاة على ضربين: المطوعة، و هم الذين إذا نشطوا غزوا، و إذا لم ينشطوا اشتغلوا بمعايشهم و اكتسابهم، فهؤلاء لهم سهم من الصدقات، و إذا غنموا في بلاد الحرب شاركوا، و الثاني هم الذين أرصدوا أنفسهم للجهاد، فهؤلاء لهم من الغنيمة الأربعة أخماس، و يجوز عندنا أن يعطوا أيضا من الصدقة من سهم ابن السبيل، لدخولهم تحته، و التخصيص يحتاج إلى دليل» و فيه منع صدق ابن السبيل عليهم، بل الأولى إعطاؤهم من سهم سبيل اللَّه أو من سهم الفقراء أو غير ذلك مما يوجد في بيت المال مما يصلح مصرفا لهم.

و كيف كان فإن حل وقت العطاء ثم مات قال الشيخ فيما حكي عنه كان لوارثه المطالبة، و فيه تردد ينشأ من أن له المطالبة به فيكون لوارثه ذلك كحق الشفعة و الخيار، و من أنه يملكه بقبضه، فإذا مات قبله امتنع الملك في حقه، و لعل الأقوى عدم المطالبة وفاقا للكركي و ثاني الشهيدين، إذ الظاهر أن له الارتزاق من بيت المال كغيره ممن يرتزق، فلا يزيد عن كونه مصرفا من مصارفه، و كان كالفقير بالنسبة إلى الزكاة، و لذا كان لا منافاة بين استحقاق المطالبة و عدم الملك، بل عدم استحقاق الوارث حتى لو مات بعد المطالبة،

ج 21، ص: 215

و دعوى الفرق بينه و بين مستحقي الزكاة و نحوها من الحقوق لا دليل عليها، و كون المرصد شخصا أو جماعة معينة لا يقتضي كون الاستحقاق على نحو استحقاق الشفعة و الخيار.

و ينبغي للإمام عليه السلام اتخاذ ديوان فيه أسماء المرصدين و أسماء القبائل، و يكتب عطاياهم، و يجعل لكل قبيلة عريفا، و يجعل لهم علامة بينهم، و يعقد لهم الألوية، بل

روى الزهري عن النبي صلى اللَّه عليه و آله «أنه عرف عام خيبر على كل عشرة عريفا، و جعل يوم فتح مكة للمهاجرين شعارا، و للأوس شعارا، و للخزرج شعارا، عملا بقوله تعالى (1)«وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا» ثم إذا أرادوا القسمة قدم الأقرب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله فالأقرب، فيقدم بني هاشم على بني المطلب، ثم يقدم بني عبد شمس أخي هاشم من الأبوين على بني نوفل أخيه من الأب، ثم يسوي بين عبد العزى و عبد الدار، لأنهما أخوا عبد مناف، فإن استووا في القرب قدم أقدمهم هجرة، فإن تساووا قدم الأسن، فإذا فرغ من عطايا قرابة النبي صلى اللَّه عليه و آله بدأ بالأنصار، و قدمهم على جميع العرب، فإذا فرغ من الأنصار بدأ بالعرب، فإذا فرغ من العرب قسم على العجم»

كذا ذكره في المنتهى، ثم قال: و هذا على الاستحباب دون الوجوب، قلت و لكن لم أجد له أثرا مخصوصا، بل ربما كان في المحكي من فعل أمير المؤمنين عليه السلام ما يخالفه، و قد تقدم سابقا، و في

خبر إسحاق الهمداني المروي (2)عن كتاب الغارات «أن امرأتين أتتا عليا عليه


1- 1 سورة الحجرات- الآية 13.
2- 2 الوسائل- الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 عن أبي إسحاق الهمداني.

ج 21، ص: 216

السلام عند القسمة إحداهما من العرب و الأخرى من الموالي فأعطى كل واحدة خمسة و عشرين درهما و كرا من طعام، فقالت العربية يا أمير المؤمنين إني امرأة من العرب و هذه امرأة من العجم، فقال علي عليه السلام و اللَّه لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفي ء فضلا على بني إسحاق»

و قد تظافرت النصوص (1)أنه عليه السلام كان يقسم بين الناس بالسوية حتى صار من أوصافه العدل بالرعية و القسمة بالسوية، إلا أن المراد على الظاهر عدم زيادة أحدهم على الآخر بدينه أو سبق في الإسلام أو نحو ذلك، لا أن المراد التساوي بين قليل العيال و كثيرهم ممن لا عمل له إلا الجهاد و بين من نفقته المعتادة له مائة مثلا منهم و من نفقته المعتادة له ألف،

قال حفص بن غياث (2)«سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول و قد سئل عن بيت المال فقال: أهل الإسلام أبناء الإسلام، أسوي بينهم في العطاء، و فضائلهم بينهم و بين اللَّه، أجعلهم كبني رجل واحد لا يفضل أحد منهم لفضله و

صلاحه في الميراث على آخر ضعيف منقوص و قال: هذا هو فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله في بدو أمره و قال غيره: أقدمهم في العطاء بما قد فضلهم اللَّه بسوابقهم في الإسلام إذا كان بالإسلام قد أصابوا ذلك، فأنزلهم على مواريث ذوي الأرحام بعضهم أقرب من بعض و أوفر نصيبا لقرابة الميّت، و إنما ورثوا برحمهم و كذلك كان عمر يفعله»

و قال عمارة(3)في المروي عنه عن المجالس


1- 1 الوسائل- الباب 39 من أبواب جهاد العدو و المستدرك- الباب 35 منها.
2- 2 الوسائل- الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
3- 3 الوسائل- الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.

ج 21، ص: 217

«إن طائفة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام مشوا إليه عند تفرق الناس عنه و فرار كثير منهم إلى معاوية فقالوا: يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال، و فضل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش على الموالي و العجم و من يخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: أ تأمروني أن أطلب النصر بالجور، لا و اللَّه ما أفعل ما طلعت شمس و لاح في السماء نجم، و اللَّه لو كان ما لهم لي لواسيت بينهم، فكيف و إنما هو أموالهم»

، و نحوه خبر أبي مخنف (1)المروي في الكافي إلى غير ذلك مما يدل على إرادة عدم التفاضل من الجهاد التي كان يلحظها غيره التي كان فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله على خلافها، و

كذا تظافر عنه التعجيل في قسمة ما في بيت المال في كل أسبوع كالمحكي من فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله خلافا لعمر، فإنه كان يؤخره إلى سنة، و هو كما ترى مع عدم مصلحة تقتضيه، إذ هو حبس لحق الفقير مع حاجته إليه.

و كذا ينبغي للإمام عليه السلام أن يلحظ ذرية المجاهدين و يدر عليهم النفقة بعد موت آبائهم إلى أن يبلغوا فيكونوا من المرصدين للجهاد أو من غيرهم، فيجري على كل حكمه.

و لو مرض المرصد للجهاد مرضا يرجى زواله كالحمى و الصداع لم يخرج به عن أهل الجهاد و لا يسقط به عطاؤه، و إن كان مرضا لا يرجى زواله كالفالج و نحوه خرج عن المقاتلة، و هل يسقط عطاؤه؟ الأقوى عدم السقوط، و اللَّه العالم.

[المسألة الثانية قيل ليس للأعراب شي ء من الغنيمة]

المسألة الثانية قيل و القائل الشيخ في محكي المبسوط و النهاية ليس للأعراب شي ء من الغنيمة و إن قاتلوا مع المهاجرين، بل يرضخ


1- 1 الوسائل- الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 218

لهم، و نعني بهم من أظهر الإسلام و لم يصفه، و صولح على إعفائه عن المهاجرة بترك النصيب و تبعه المصنف في النافع و الفاضل في المختلف و الشهيدان في الدروس و المسالك و غيرهم من المتأخرين، بل في الأخير أنه المشهور، بل في الرياض لم ينقل فيه خلاف إلا عن الحلي في السرائر حيث شرك بينهم و بين المقاتلة مدعيا شذوذ الرواية و مخالفتها لأصول المذهب و الإجماع على أن من قاتل من المسلمين فهو من جملة المقاتلة و أن الغنيمة للمقاتلة، و رده في التنقيح بأنه مع الصلح على ذلك يسقط الاستحقاق، و فيه أنه كذلك لو ثبت، و لعله لذا كان ظاهر المصنف هنا كالفاضل في المنتهى التردد في المسألة، و كأنه من الإطلاق نصا و فتوى و من

الحسن بل الصحيح (1)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في حديث طويل أنه قال لعمر بن عبيد: «أ رأيت إن هم أبو الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة قال: أخرج الخمس و أقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه- إلى أن قال له- الأربعة أخماس تقسمها بين جميع من قاتل عليها قال: نعم، قال: قد خالفت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله في سيرته، بيني و بينك فقهاء المدينة و مشيختهم فاسألهم فإنهم لم يختلفوا أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم و لا يهاجروا على أنه إن دهم عدوه أن يستفزهم فيقاتل بهم و ليس لهم في الغنيمة نصيب، و أنت تقول بين جميعهم فقد خالفت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله في سيرته في المشركين»

و نحوه المرسل (2)كالصحيح، و لا ريب في رجحان العمل بهما في تخصيص العام و تقييد


1- 1 الوسائل- الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 و فيه« أنه قال لعمرو بن عبيد».
2- 2 الوسائل- الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 219

المطلق بعد جمعهما شرائط الحجية، و تأيدهما بالمروي (1)من طرق العامة بهذا المضمون، و وضوح دلالتهما على المطلوب، و العمل بهما ممن عرفت، بل قد سمعت نسبته إلى الشهرة.

و منه يعلم ما في دعوى الحلي شذوذ الرواية و مخالفتها لأصول المذهب و الإجماع على اشتراك المقاتلة، ضرورة عدم الشذوذ كما سمعت، و عدم المخالفة إلا على وجه التخصيص الذي يكفي فيه أقل من ذلك، و دعوى ضعف الدلالة باعتبار عدم معلومية المراد من الأعراب المسلمين أو الكفار الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ - و الثاني ليس محلا للنزاع كما عن جماعة التصريح به مضافا إلى ما فيهما من المصالحة على ترك المهاجرة المعلوم وجوبها، فيكون من الصلح الباطل، و يمكن خروجهما مخرج التقية كما هو مقتضى الرواية المروية عنهم، بل قد سمعت ما فيها من عدم اختلاف فقهاء أهل المدينة في ذلك- يدفعها ظهور الخبرين في كون المراد الأعراب المسلمين، و أن سقوط نصيبهم للصلح الذي لا يحتاج إليه في سقوط السهم للكفار الذين قد عرفت الرضخ لهم، و احتمال كون المراد هنا سقوط الرضخ من النصيب فيهما لخصوص هؤلاء الكفار واضح الفساد، و لعله لذا لم يتوقف في المنتهى فيهما إلا من جهة السند الذي قد عرفت اعتباره في نفسه، مضافا إلى انجباره بما سمعت، فلا محيص عن القول بهما، و المناقشة في صحة الصلح المزبور أشبه شي ء بالاجتهاد في مقابلة النص الذي صاحبه أعلم من غيره

بالحكم الشرعي و السياسي، نعم قد يقال إن المراد من الأعراب الذين لم يعضوا على الإسلام بضرس قاطع المشار إليهم بأن يقولوا أسلمنا و لا يقولوا آمنا، و بأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللَّه تعالى، و بغير ذلك من الآيات، بل هم إلى الآن على مثل ذلك


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 53.

ج 21، ص: 220

لا الأعراب الذين أحكموا إسلامهم و آمنوا بقلوبهم و لم يكن لهم هم إلا الدين دون الطمع في الغنيمة و نحوها، و اللَّه العالم.

[المسألة الثالثة لا يستحق أحد سلبا و لا نفلا في بدأة و لا رجعة إلا أن يشترطه الإمام عليه السلام ]

المسألة الثالثة لا يستحق أحد سلبا و لا نفلا في بدأة و لا رجعة إلا أن يشترطه الإمام عليه السلام بلا خلاف أجده فيه إلا ما سمعته من الإسكافي في السلب الذي تقدم الكلام معه فيه، للأصل و عموم الأدلة كتابا و سنة، و النفل الجعل الذي يجعله الإمام عليه السلام من الغنيمة مشاعا أو معينا في مقابل عمل، و البدأة بفتح الباء و سكون الدال ثم الهمزة المفتوحة على ما عن المبسوط السرية الأولى التي يبعثها إلى دار الحرب إذا أراد الخروج إليهم، و الرجعة هي السرية التي يبعثها بعد رجوع الأولى، و قيل إن الرجعة هي السرية التي يبعثها بعد رجوع الإمام عليه السلام إلى دار الحرب، و البدأة لا خلاف فيها، و مقتضاه الاتفاق على معنى البدأة، لكن في المنتهى و محكي التذكرة «قد قيل في البدأة و الرجعة تأويلان: أحدهما أن البدأة أول سرية، و الرجعة الثانية، و الثاني أن البدأة سرية عند دخول الجيش إلى دار الحرب، و الرجعة عند قفول الجيش، و هو أظهر الوجهين» و في المنتهى أيضا و محكي المبسوط و التذكرة عن حبيب بن مسلمة الفهري شهدت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله نفل الربع في البدأة و الثلث في الرجعة، و لعل الزيادة للمشقة، فإن الجيش في البدأة ردأ للسرية تابع لها، و الجيش مستريح و العدو خائف، و ربما كان غافلا، و في الرجعة لا ردأ للسرية لانصراف الجيش و العدو مستيقظ على حذر، و الظاهر عدم اختصاص النفل بالسرية، بل يجوز النفل لبعض الجيش لبلائه أو لمكروه يتحمله دون سائر الجيش كما يجوز أيضا بعد الخمس و قبله، و لا فرق بين النبي صلى اللَّه عليه و آله و الإمام عليه السلام في ذلك، فإن جميع ما كان للنبي صلى اللَّه

ج 21، ص: 221

عليه و آله فهو للإمام عليه السلام لاشتراكهما في العصمة عندنا، بل لا يبعد جوازه أيضا لوالي الجيش من قبلهما إذا كانت ولايته على وجه تشمل ذلك، و الظاهر جوازه أزيد من الثلث، و إن كان الذي وقع الثلث فما دون في المروي (1)من طرق العامة، إلا أنه يمكن أن يكون لعدم اقتضاء المصلحة أزيد من ذلك، فإن المدار عليها و لا يخص نوعا من المال، فيجوز في الدراهم و الدنانير و غيرهما، كما يجوز بالمعين و المشاع و في المعلوم و المجهول كالسهم و اليسير و القليل و الشي ء و نحو

ذلك مما يجعله الإمام عليه السلام و للسرية و السريتين و غيرهما، و قبل الغنيمة و بعدها و للعامة خلاف في جملة مما ذكرنا، و لكنه واضح الضعف.

كما أن كثيرا من الفروع المذكورة هنا تعرف مما ذكروه في الجعالة إذ معظم أفراد المقام منها و إن كان هو أوسع منها في المشروعية، فلو قال: من دخل من باب المدينة فله درهم فاقتحم قوم من المسلمين فدخلوها استحق كل واحد منهم الدرهم، لأنه شرط لكل داخل، بخلاف ما لو قال من دخله فله الربع فدخله عشرة مثلا، فإنهم يشتركون فيه، لعدم قابليته للتعدد، و لو دخل واحد ثم واحد حال قيام الحرب اشتركوا أيضا في النفل، و كذا لو قال: من دخله فله جارية من المغنم فدخلوا و لم يكن فيه إلا جارية واحدة، بخلاف ما لو قال: جارية مطلقة كان لكل واحد جارية، فإن لم توجد فقيمتها و لو قال من دخل أولا فله ثلاثة، و من دخل ثانيا فله اثنان، و من دخل ثالثا فله واحد فدخلوا على التعاقب كان لكل مسماه، لجواز التفاوت في النفل مع التفاوت في الخوف، و لو دخلوا دفعة واحدة ففي المنتهى بطل نفل الأول و الثاني، و كان لهم جميعا نفل الثالث، لأن الأول


1- 1 كنز العمال ج 2 ص 309 الرقم 1423.

ج 21، ص: 222

هو المتقدم، و الثاني هو من تقدمه واحد و لم يوجد، فيبطل نفلهما، لانعدام الشرط، و هو التفرد و المسابقة في الدخول، و الثالث إذا سبقه اثنان كان ثالثا، و إذا قارنه اثنان كان ثالثا أيضا، لأن خوف الثالث فيما إذا قارنه اثنان فوق خوفه إذا تقدمه اثنان، فيكون فعله أشق، فاستحقاقه أولى، و فيه نظر، و كذا قوله أيضا و لو دخل اثنان أول مرة بطل نفل الأول، و نفل الثاني يكون لهما، لأن صفة الأولية انعدمت بالمقارنة، بخلاف الثاني، فإنه يصدق بالمسبوقية و المقارنة، بل و قوله أيضا و لو قال: من دخل هذا الحصن أولا من المسلمين فله كذا فدخل ذمي ثم مسلم استحق النفل، لأنه جعل النفل موصوفا بهذه الصفة، فلا تمنع أولية الذمي كالبهيمة لو دخلت، أما لو قال من دخل هذا الحصن من المسلمين أولا من الناس فدخل ذمي ثم مسلم لم يستحق النفل، لأنه ليس أولا من الناس، بل ثانيا من الدخول منهم، و لو قال: من دخل منكم خامسا فله درهم، فدخل خمسة معا استحق كل واحد النفل، لأنه أوجب النفل للخامس، و لكل واحد يصدق عليه أنه خامس، و لو دخلوا على التعاقب فالخامس آخرهم، فاستحق النفل خاصة، و اللَّه العالم.

[المسألة الرابعة الحربي لا يملك مال المسلم بالاستغنام ]

المسألة الرابعة الحربي لا يملك مال المسلم بالاستغنام كما يملك هو ماله بلا خلاف فيه بين المسلمين، بل لعله من ضروريات الدين و حينئذ ف لو غنم المشركون أموال المسلمين و ذراريهم ثم رجعت أو ارتجعوها أي ارتجعها المسلمون فالأحرار لا سبيل لأحد عليهم بلا خلاف أجده فيه بل و لا إشكال،

قال هشام بن سالم (1)«سأل الصادق عليه السلام رجل عن الترك يغيرون على


1- 1 الوسائل- الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 223

المسلمين فيأخذون أولادهم فيسرقون منهم أ يرد عليهم؟ قال: نعم، و المسلم أخو المسلم، و المسلم أحق بماله أينما وجده»

و قال أيضا في مرسله (1)عنه عليه السلام أيضا: «في السبي يأخذه العدو من المسلمين في القتال من أولاد المسلمين أو من مماليكهم فيحوزونه، ثم إن المسلمين بعد قاتلوهم فظفروا بهم و سبوهم و أخذوا منهم ما أخذوا من مماليك المسلمين و أولادهم الذين كانوا أخذوهم من المسلمين كيف يصنع بما أخذوه من أولاد المسلمين و مماليكهم؟ فقال: أما أولاد المسلمين فلا يقامون في سهام المسلمين، و لكن يردون إلى أبيهم و أخيهم أو إلى وليهم بشهود، و أما المماليك فإنهم يقامون في سهام المسلمين فيباعون و تعطى مواليهم قيمة أثمانهم من بيت مال المسلمين»

كل ذلك مضافا إلى معلومية عدم صيرورة المسلم الحر رقا، بل لعله من ضروريات الدين.

و أما الأموال و العبيد فلأربابها قبل القسمة عند عامة العلماء كما في المنتهى و محكي

التذكرة بدون غرامة شي ء للمقاتلة، للأصل، و ما تقدم في

خبر هشام «من أن المسلم أحق بماله أينما وجده»

و مرسل جميل (2)عن الصادق عليه السلام «في رجل كان له عبد فأدخل دار الشرك ثم أخذ سبيا إلى دار الإسلام، فقال: إن وقع عليه قبل القسمة فهو له، و إن جرت عليه القسمة فهو أحق به بالثمن»

و خبر طربال (3)عن أبي جعفر عليه السلام المروي عن كتاب المشيخة قال: «سئل عن رجل كان له جارية فأغار عليه المشركون فأخذوها منه ثم إن المسلمين بعد غزوهم فأخذوها فيما غنموا منهم، فقال: إن كانت في الغنائم و أقام البينة أن المشركين أغاروا عليهم فأخذوها منه


1- 1 الوسائل- الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
3- 3 الوسائل- الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.

ج 21، ص: 224

ردت عليه، و إن كانت قد اشتريت و خرجت من المغنم فأصابها ردت رقبتها و أعطي الذي اشتراها الثمن من المغنم من جميعه، قيل له فإن لم يصبها حتى تفرق الناس و قسموا جميع الغنائم فأصابها بعد قال:

يأخذها من الذي في يده إذا أقام البينة، و يرجع الذي هي في يده إذا أقام البينة على أمير الجيش بالثمن»

و غير ذلك، لكن عن الشيخ في النهاية إطلاق كونها للمقاتلة مع غرامة الإمام عليه السلام لأربابها الأثمان من بيت المال، بل عن القاضي نفي البأس عنه، إلا أنه أفتى أولا بأن غير الأولاد مع بقاء عينه و ثبوته بنحو البينة لمدعيه من المسلمين رد إليه، و على كل حال فلا أعرف له دليلا إلا إطلاق مرسل هشام الذي هو مع أنه مختص بالمماليك و لا جابر له بالنسبة إلى ذلك معارض ب

ما في خبره من «أن المسلم أحق بماله أينما وجده»

و بغيره مما سمعت، و إلا

صحيح الحلبي (1)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «سألته عن رجل لقيه العدو و أصاب منه مالا أو متاعا ثم إن المسلمين أصابوا ذلك كيف يصنع بمتاع الرجل؟ فقال: إذا كانوا أصابوه قبل أن يحوزوا متاع الرجل رد عليه، و إن كانوا أصابوه بعد ما حازوه فهو في ء للمسلمين، فهو أحق بالشفعة»

الموافق لما عن الزهري و عمر بن دينار من العامة المعارض بما سمعت المحتمل مع ذلك إرادة القسمة من الحيازة بناء على أن الحكم كذلك معها، فلا ريب في قصوره عن المعارضة بما سمعت من وجوه، و من ذلك يعلم ضعف ما عن الإسكافي من إطلاق كون المماليك للمقاتلة من

غير تعرض لغيرهم، بل و ما عن الحلبي من عكس ذلك.


1- 1 الوسائل- الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 225

هذا كله قبل القسمة و أما لو عرفت بالبينة و نحوها بعد القسمة ف عن النهاية أنها للمقاتلة أيضا نحو ما سبق و لأربابها القيمة من بيت المال و لم أجد له موافقا على ذلك منا، نعم هو محكي عن أبي حنيفة و الثوري و الأوزاعي و مالك و أحمد في إحدى الروايتين بل نقله الجمهور عن عمرو الليث و عطاء و النخعي و إسحاق، كما أني لم أجد له دليلا أيضا إلا ما سبق، و قد عرفت الكلام فيه، مضافا إلى قوة احتمال التقية هنا ممن سمعت و إلى خلو الصحيح عن الغرامة من بيت المال، بل ظاهره ما في رواية جميل المرسلة من أنها تعاد على أربابها بالقيمة الموافقة ل

ما رواه الجمهور(1)عن ابن عباس «من أن رجلا وجد بعيرا له كان المشركون أصابوه فقال له النبي صلى اللَّه عليه و آله إن أصبته قبل أن يقسمه فهو لك، و إن أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة»

إلا أني لم أجد عاملا بهما منا، و إن أيد بأنه إنما امتنع أخذه له بغير شي ء لئلا يفضي إلى حرمان أخذه من الغنيمة أو تضييع الثمن على المشتري، و حقهما ينجبر بالثمن، فيرجع صاحب المال في عين ماله بمنزلة مشتري الشقص المشفوع، إلا أنه كما ترى.

و من ذلك كله ظهر لك أن الوجه و التحقيق إعادتها على المالك الذي هو أحق بماله أينما وجده وفاقا للمحكي عن الشيخ في المبسوط و ابني زهرة و إدريس و الفاضل و الشهيدين و الكركي و المقداد و غيرهم، بل عن الغنية الإجماع عليه و (11) لكن يرجع الغانم بقيمتها على الإمام عليه السلام (12) كما صرح به غير واحد مطلقين ذلك لخبر طربال (2)المنجبر سنده بفتوى من عرفت، بل نسبه بعضهم إلى الشهرة


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 111.
2- 2 الوسائل- الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.

ج 21، ص: 226

العظيمة، فما عساه يظهر من بعض من عدم رجوعه على أحد في غير محله، خصوصا مع ملاحظة كونه شريكا، نعم قيده المصنف و جماعة ممن تأخر عنه بأنه كذلك مع تفرق الغانمين و إلا أعاد الإمام (ع) القسمة أو رجع على كل واحد منهم بما يخصه، و لا بأس به، ضرورة اقتضاء القواعد ذلك كما في غير الفرض مما بان في قسمته مال الغير و لا ينافيه الخبر بعد انسياق غير ذلك منه، على أن الرجوع على الإمام عليه السلام إنما هو على بيت المال المعد لمصالحهم العامة لا خصوص المقاتلة، فيقتصر في الرجوع عليه على محل اليقين الذي هو غير المفروض ثم لا يخفى عليك أن ذلك كله لو أخذ مال المسلم من الكافر على وجه الاغتنام بالجهاد، أما إذا أخذ سرقة أو هبة أو شراء أو نحو ذلك فلا إشكال في عوده إلى

مالكه من دون غرامة شي ء و إن كان الآخذ جاهلا، لعموم

قوله عليه السلام (1)«المسلم أحق بماله أينما وجده»

و غيره، و لو علم أمير الجيش بمال المسلم قبل القسمة فقسمه وجب رده و كان صاحبه أحق به بغير شي ء، ضرورة بطلان القسمة من أصلها، و لو أسلم المشرك الذي في يده مال المسلم أخذ منه بغير قيمة، و لو دخل مسلم دار الحرب فسرقه أو نهيه أو اشتراه ثم أخرجه إلى دار الإسلام فصاحبه أحق به، و لا يلزمه قيمته، و كل تصرف فيه ببيع أو عتق أو نحوهما باطل مع عدم الإجازة، و لو غنم المسلمون من المشركين شيئا عليه علامة الإسلام فلم يعلم صاحبه فهو غنيمة، لظاهر اليد مع احتمال صحتها، و لا عبرة برسم الكتابة عليه، و لو أقر الغلام أنه غلام مسلم ففي قبوله تردد أو منع بعد أن أخذه من بلاد الشرك و خصوصا إذا كان من يد مشرك، و لا فرق في مطالبة المسلم بماله المأخوذ


1- 1 الوسائل- الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 227

من يد المشرك بين كونه مستأجرا لمسلم فغنمه المشرك أو مستعارا أو لم يكن، و لو دخل حربي دار الإسلام بأمان فاشترى عبدا مسلما ثم لحق بدار الحرب فغنمه المسلمون كان باقيا على ملك البائع لفساد الشراء نعم الظاهر وجوب رد الثمن على الكافر، لأنه قد أخذ منه حال الأمان، و لو تلف العبد في يد الكافر

كان للسيد القيمة، و عليه رد ثمنه، و يترادان الفضل، و لو أبق عبد المسلم إلى دار الحرب فأخذوه لم يملكوه بذلك، لما عرفت، خلافا لمالك و أحمد و أبي يوسف و محمد و اللَّه العالم.

[الركن الثالث في أحكام أهل الذمة]

اشاره

(الركن الثالث في أحكام أهل الذمة) و النظر في أمور:

[الأمر الأول من تؤخذ منه الجزية]

الأول من تؤخذ منه الجزية و هي الوظيفة المأخوذة من أهل الكتاب لإقامتهم بدار الإسلام و كف القتال عنهم، و هي فعلة من جزى يجزي، يقال: جزيت ديني إذا قضيته، بل لعل منه قوله تعالى (1)«وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً»* و لا خلاف بين المسلمين فضلا عن المؤمنين في أنها تؤخذ ممن يقر على دينه، و هم اليهود بأقسامهم و النصارى كذلك، بل لعله من ضروريات المذهب أو الدين، قال اللَّه تعالى (2)«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ، وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ»


1- 1 سورة البقرة- الآية 45.
2- 2 سورة التوبة- الآية 29.

ج 21، ص: 228

و قد

روت الخاصة و العامة(1)أن النبي صلى اللَّه عليه و آله كان يوصي أمراء السرايا بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال، فإن أبوا فإلى الجزية، فإن أبوا قوتلوا

بل و كذا من له شبهة كتاب و هم المجوس بلا خلاف أجده فيه إلا من ظاهر المحكي عن العماني فألحقهم بعباد الأوثان و غيرهم ممن لا يقبل منهم إلا الإسلام، و لكن قد سبقه الإجماع بقسميه و لحقه، و تظافرت النصوص (2)بخلافه، و في المنتهى «و تعقد الجزية لكل كتابي بالغ عاقل، و نعني بالكتاب من له كتاب حقيقة، و هم اليهود و النصارى و من له شبهة كتاب، و هم المجوس فتؤخذ الجزية من هؤلاء الأصناف الثلاثة بلا خلاف بين علماء الإسلام في ذلك في قديم الوقت و حديثه، فإن الصحابة أجمعوا على ذلك، و عمل به الفقهاء القدماء و من بعدهم إلى زمننا هذا من أهل الحجاز و العراق و الشام و مصر و غيرهم من أهل الأصقاع في جميع الأزمان» إلى آخره، و في

مرسل الواسطي (3)«سئل أبو عبد اللَّه عليه السلام عن المجوس أ كان لهم نبي؟ فقال: نعم، أ ما بلغك كتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إلى أهل مكة أسلموا و إلا نابذتكم بحرب، فكتبوا إليه أن خذ منا الجزية و دعنا على عبادة الأوثان، فكتب إليهم النبي صلى اللَّه عليه و آله أني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، فكتبوا إليه يريدون بذلك تكذيبه زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، ثم أخذت الجزية من مجوس

هجر، فكتب إليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله أن


1- 1 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 و سنن البيهقي ج 9 ص 184.
2- 2 الوسائل- الباب 49 من أبواب جهاد العدو.
3- 3 الوسائل- الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 229

المجوس كان لهم نبي فقتلوه، و كتاب أحرقوه، أتاهم نبيهم بكتابهم في اثنا عشر ألف جلد ثور»

و خبره المروي (1)في التهذيب قال: «سئل أبو عبد اللَّه عليه السلام عن المجوس فقال: كان لهم نبي فقتلوه، و كتاب أحرقوه، أتاهم نبيهم به في اثنا عشر ألف جلد ثور، و كان يقال له جاماست» و في الفقيه «المجوس يؤخذ منهم الجزية، لأن النبي صلى اللَّه عليه و آله قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب، و كان لهم نبي اسمه داماست و كتاب اسمه جاماست، كان يقع في اثنا عشر ألف جلد ثور، فحرقوه»

و في المحكي عن

المحاسن بسنده عن الأصبغ بن نباتة(2)«أن عليا عليه السلام قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني فقام إليه الأشعث فقال يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ الجزية من المجوس و لم ينزل عليهم كتاب فقال: بلى يا أشعث قد أنزل اللَّه إليهم كتابا و بعث إليهم نبيا»

و في

المقنعة(3)عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضا «المجوس إنما ألحقوا باليهود و النصارى في الجزية و الديات، لأنه قد كان لهم فيما مضى كتاب»

و في

خبر علي بن دعبل (4)المروي عن المجالس أيضا عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن علي بن الحسين عليهم السلام «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب يعني المجوس»

إلى غير ذلك من النصوص المنجبرة بما عرفت المروية من طرق العامة فضلا عن الخاصة، منها

ما رواه الشافعي (5)بإسناده «أن فروة بن نوفل الأسجعي قال: على ما تؤخذ الجزية من المجوس و ليسوا بأهل كتاب، فقام إليه المستورد فأخذ بتلبيبه فقال عدو اللَّه: أ تطعن على أبي بكر


1- 1 الوسائل- الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
2- 2 الوسائل- الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 7.
3- 3 الوسائل- الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 8.
4- 4 الوسائل- الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 9.
5- 5 سنن البيهقي ج 9 ص 188.

ج 21، ص: 230

و عمر و علي أمير المؤمنين عليه السلام و قد أخذوا منهم الجزية، فذهب به إلى القصر فخرج علي عليه السلام فجلسوا في ظل القصر فقال: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه، و كتاب يدرسونه، و إن ملكهم سكر فوقع على بنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل

مملكته فلما أضحى جاءوا يقيمون عليه الحد، فامتنع منهم و دعا أهل مملكته، و قال:

تعلمون دينا خيرا من دين أبيكم آدم عليه السلام، و قد ذكر أنه أنكح بنيه بناته و أنا على دين آدم، قال: فتابعه قوم، و قاتلوا الذين يخالفونه حتى قتلوهم، فأصبحوا و قد أسري بكتابهم و رفع من بين أظهرهم، و ذهب العلم الذي في صدورهم، فهم أهل الكتاب، و قد أخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و أبو بكر و أراه قال و رفع عمر منهم الجزية»

و لعل التعبير بشبهة الكتاب لعدم تحقق ما في أيديهم الآن من الكتاب بعد ما سمعت من النصوص أنهم أحرقوه أو رفع من بين أظهرهم، كالعلم الذي كان عندهم، و ربما كان في

قوله صلى اللَّه عليه و آله «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»

إشعار بذلك.

و أما الصابئون فعن ابن الجنيد التصريح بأخذ الجزية منهم، و الإقرار على دينهم، و لا بأس به إن كانوا من إحدى الفرق الثلاثة، فعن أحد قولي الشافعي «أنهم من أهل الكتاب و إنما يخالفونهم في فروع المسائل لا في أصولهم» و عن ابن حنبل و جماعة من أهل العراق «أنهم جنس من النصارى» و عنه أيضا «أنهم يسبتون فهم من اليهود» و عن مجاهد «هم من اليهود أو النصارى» و قال السدي: «هم من أهل الكتاب، و كذا السامرة» و عن الأوزاعي و مالك «أن كل دين بعد دين الإسلام سوى اليهودية و النصرانية مجوسية، و حكمهم حكم المجوس» و عن عمر بن عبد العزيز «هم مجوس» و عن الشافعي أيضا

ج 21، ص: 231

و جماعة من أهل العراق «حكمهم حكم المجوس» و حينئذ يتجه قبول الجزية منهم، و لكن قيل عنهم أنهم يقولون إن الفلك حي ناطق، و إن الكواكب السبعة السيارة آلهة، و عن تفسير القمي و غيرهم أنهم ليسوا أهل كتاب، و إنما هم قوم يعبدون النجوم، و عليه يتجه عدم قبولها منهم، و لعله لذا صرح الفاضل في المختلف بعدم قبول الجزية منهم حاكيا له عن الشيخين، اللَّهمّ إلا أن يكون قسم من النصارى يقولون بهذه المقالة، و إن زعموا أنهم على دين المسيح، إذ الجزية مقبولة من جميعهم اليعقوبية و القسطوية و الملكية و الفرنج و الروم و الأرمن و غيرهم ممن يدين بالإنجيل و ينتسب إلى عيسى عليه السلام، و إن اختلفوا في الأصول و الفروع، و كذلك اليهود و المجوس، نعم من شك فيه أنه كتابي يتجه عدم قبولها منه، للعمومات الآمرة بقتل المشركين المقتصر في الخروج منها على الكتابية التي هي شرط قبول الجزية، و عن صريح الغنية و ظاهر المحكي عن المفيد الإجماع على عدم كونهم من أهل الكتاب، لكن الموجود في زماننا منهم في دار الإسلام يعاملون معاملة أهل الكتاب، و إن كان هو من حكام الجور فلا يعتمد عليه في كشف الأمر الشرعي، و في المنتهى قد كانت النصرانية في الجاهلية في ربيعة و غسان و بعض قضاعة و اليهودية في حمير و بني كنانة و بني الحرث بن كعب و كندة، و المجوسية في بني تميم، و عبادة الأوثان و الزندقة في قريش و بني حنيفة.

و كيف كان ف لا يقبل من غيرهم أي اليهود و النصارى و المجوس إلا الإسلام بلا خلاف أجده فيه، بل عن الغنية و غيرها الإجماع عليه، بل و لا إشكال بعد قوله تعالى (1)«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ»


1- 1 سورة التوبة- الآية 5.

ج 21، ص: 232

و قوله تعالى (1)«فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ» و غير ذلك من الكتاب و السنة، من غير فرق بين من كان منهم له أحد كتب إبراهيم و آدم و إدريس و داود، و من لم يكن له، ضرورة أن المنساق من الكتاب في القرآن العظيم التوراة و الإنجيل، بل عن المنتهى الإجماع على أن اللام للعهد إليهما في قوله تعالى (2)«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ - إلى قوله- مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ» نعم قد يظهر من النصوص السابقة إلحاق كتاب المجوس بهما، أما غيرهم فلا إشكال في عدم كونهم من ذوي الكتاب، بل الظاهر عدم إلحاق حكم اليهود و النصارى لمن تهود أو تنصر بعد النسخ، بل عن ظاهر التذكرة و المنتهى الإجماع عليه، و لعل

بني تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار ممن انتقل في الجاهلية إلى النصرانية كما صرح به بعض أصحابنا، بل قال أيضا انتقل أيضا من العرب إلى ذلك قبيلتان أخريان، و هم تنوخ و بهرا، فيتجه حينئذ أخذ الجزية منهم كما هو المحكي عن أمير المؤمنين عليه السلام، لكن المحكي (3)من فعل عمر عدمها لرأي رآه أو أشير به عليه، و ذلك لما قيل من أنه دعاهم إلى إعطاء الجزية فأبوا و امتنعوا، و قالوا نحن أعراب لا نؤدي الجزية فخذ منا الصدقة كما تأخذ من المسلمين، فامتنع عمر من


1- 1 سورة محمد صلى اللَّه عليه و آله- الآية 4.
2- 2 سورة التوبة- الآية 29.
3- 3 كنز العمال ج 2 ص 304 الرقم 6356.

ج 21، ص: 233

ذلك فلحق بعضهم بالروم، فقال له النعمان بن عروة إن القوم لهم بأس و شدة، فلا تعن عدوك بهم، و خذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر في طلبهم و ردهم و ضعف عليهم الصدقة، و أخذ منهم في كل خمس من الإبل شاتين، و أخذ مكان العشر الخمس، و مكان نصف العشر العشر إلا أنه لا يخفى عليك عدم الحجة في فعل عمر، مع أنه لا ينطبق على الجزية الشرعية بالنسبة إلى من لا صدقة عليه، بل و من عليه الصدقة إذا كان لا تبلغها، و لعله لذا روى الجمهور عن عمر بن عبد العزيز أنه لم يقبل من نصارى تغلب إلا الجزية، و قال: لا و اللَّه إلا الجزية و إلا فقد آذنتكم بحرب، نعم عن الإسكافي أنه

قال: لو وجد المسلمون قوة و اجتمعوا على القيام بالحق في بني تغلب لم يقروا على النصرانية، لما روي (1)من تركهم الشرط الذي شرط رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله عليهم أن لا ينصروا أولادهم، و لما

روي (2)عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال «لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة و لأسبين الذرية، فإني أنا كتبت الكتاب بين النبي صلى اللَّه عليه و آله و بينهم على أن لا ينصروا أبناءهم، فليست لهم ذمة، و لأنهم قد صبغوا أولادهم و نصروهم»

و رواه في المنتهى، و

أرسل الصدوق (3)عن الرضا عليه السلام «أن بني تغلب أنفوا من الجزية و سألوا عمر أن يعفيهم فخشي عمر أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن يصرف ذلك عن رءوسهم و يضاعف عليهم الصدقة، فعليهم ما صولحوا عليه و رضوا به إلى أن يظهر الحق»


1- 1 كنز العمال ج 2 ص 304 الرقم 6357.
2- 2 كنز العمال ج 2 ص 327 الرقم 6624 إلا أنه سقط ذيله.
3- 3 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.

ج 21، ص: 234

و عن علي عليه السلام (1)أنه قال: «لئن تفرغت لبني تغلب ليكون لي فيهم رأي لأقتلن مقاتليهم و لأسبين ذراريهم، فقد نقضوا العهد و برئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم».

و على كل حال فهو أمر آخر غير ما نحن فيه من عدم الجزية عليهم باعتبار كون تنصرهم بعد النسخ، و إن استدل له في المختلف بذلك بعد أن اختار ما حكاه عن ابن الجنيد، إلا أنه لم يثبت عندنا مع أنه حكى بعد ذلك عن ابن الجنيد و الشيخ في الخلاف جواز إقرار من بدل دينه بدين يقر أهله عليه كاليهودية و النصرانية، بل عن الخلاف الإجماع على ذلك، بل عن المبسوط نسبته إلى ظاهر المذهب، بل هو اختاره أيضا، و تسمع إن شاء اللَّه تمام الكلام فيه، و على كل حال فما عن أبي حنيفة و الشافعي و ابن حنبل من اتباع عمر على فعله في غير محله بعد مخالفة الكتاب و السنة، كالمحكي عن أبي حنيفة منهم أيضا من قبول الجزية من جميع الكفار إلا العرب، و أحمد بن حنبل من قبولها كذلك إلا عبدة الأوثان من العرب، و مالك من قبولها كذلك إلا من مشركي قريش، ضرورة مخالفة ذلك كله للكتاب و السنة نعم الفرق الثلاث خاصة إذا التزموا بشرائط الذمة الآتية أقروا سواء كانوا عربا أو عجما بلا خلاف أجده فيه بيننا بل في المنتهى و المسالك و محكي التذكرة الإجماع عليه، و هو الحجة بعد إطلاق الكتاب و السنة، و أخذ النبي صلى اللَّه عليه و آله من نصارى نجران و قد كانوا عربا، فما عن أبي يوسف من عدم أخذها من العرب واضح الفساد، بل رده غير واحد بالإجماع حتى من فريقه على خلافه، نعم


1- 1 كنز العمال ج 2 ص 304 الرقم 1356.

ج 21، ص: 235

في الدعائم (1)عن علي عليه السلام «لا تقبل من عربي جزية، و إن لم يسلموا قوتلوا»

إلا أنه مرسل و محتمل إرادة من تنصر من العرب جديدا و غير ذلك، و أما خصوص نصارى تغلب فقد عرفت الكلام فيهم، و دعوى بعض أهل الذمة و هم أهل خيبر سقوط الجزية عنهم بكتاب من النبي صلى اللَّه عليه و آله لم يثبت، بل الثابت خلافها، بل عن أبي العباس بن شريح أنهم طولبوا بذلك فأخرجوا كتابا ذكروا أنه خط معاذ كتبه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، و فيه شهادة سعد و معاوية و كان تاريخه بعد موت معاذ و قبل إسلام معاوية فعلم بطلانه.

و لو ادعى أهل حرب أنهم منهم أي الفرق الثلاثة و بذلوا الجزية لم يكلفوا البينة و أقروا على ذلك كما صرح به الفاضل و غيره بل لا أجد فيه خلافا، و لعله لكون الدين أمرا قلبيا لا يعرف إلا من قبل صاحبه، و شعاراته الظاهرة ليست جزءا منه، بل قد تتعذر إقامة البينة عليه، بل قيل إنه قد يشعر به أيضا أمر النبي صلى اللَّه عليه و آله (2)لأمراء السرايا بقبول الجزية ممن يبذلها مع أنه لا بينة عادلة منهم تشهد على أنهم من أهلها، فليس إلا دعواهم، بل الظاهر أن فعل النبي صلى اللَّه عليه و آله كان كذلك، و إن كان ذلك لا يخلو من مناقشة و العمدة ما عرفته أولا مؤيدا بعدم الخلاف في ذلك، و بمعلومية جريان حكم كل دين على من أقر بأنه من أهله و غير ذلك.

نعم لو ثبت خلافها بشهادة عدلين و لو منهم بعد الإسلام أو بالإقرار منهم أجمع أو بغير

ذلك انتقض العهد الذي كان بعنوان أنهم من أهله، بل الظاهر عدم احتياج جريان حكم المشركين عليهم


1- 1 المستدرك- الباب 42 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 236

إلى ردهم إلى مأمنهم، ضرورة عدم الشبهة في حقهم، لعلمهم بالحال، فلا بأس حينئذ باغتيالهم، و لو أقر البعض دون البعض جرى الحكم على المقر دون غيره، و لا تقبل شهادته بعد أن كان كافرا.

ثم إن إطلاق المصنف و غيره يقتضي قبول دعواهم و إن ظهر من حالهم عدم كونهم منهم و لو باتخاذ شعار غير شعارهم، و لعله لكونه أقوى من ظاهر الحال في الدلالة على ذلك، إلا أنه كما ترى لا يخلو من إشكال أو منع، خصوصا بعد تجاهرهم بعبادة النار مثلا، و عدم استعمال شعار إحدى الفرق المزبورة، فيمكن كون الدعوى منهم تخلصا من القتل و غيره مما يجري على غيرهم من الكفار.

و كيف كان ف لا تؤخذ الجزية من الصبيان و المجانين مطلقا و النساء كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا، بل في المنتهى و محكي الغنية و التذكرة الإجماع عليه، و هو الحجة بعد

خبر حفص (1)الذي رواه المشايخ الثلاثة المنجبر بما سمعت، سئل أبا عبد اللَّه عليه السلام «عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن و رفعت عنهن، فقال: لأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و

آله نهى عن قتل النساء و الولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن، فإن قاتلن أيضا فأمسك عنهن ما أمكنك، و لم تخف خللا، فلما نهى عن قتلهن في دار الحرب كان ذلك في دار الإسلام أولى، و لو امتنعت أن تؤدي الجزية لم يمكن قتلها فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنهن، و لو امتنع الرجال أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد و حلت دماؤهم و قتلهم، لأن قتل الرجال مباح في دار الشرك، و كذلك المقعد و الأعمى و الشيخ الفاني و المرأة و الولدان في أرض الحرب، فمن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية»

مضافا إلى رفع


1- 1 الوسائل- الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 237

القلم و

قول الصادق عليه السلام في خبر طلحة(1)«جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه، و لا من المغلوب على عقله»

و لعل المراد من المعتوه فيه ما عن المبسوط و النهاية و الوسيلة و السرائر من زيادة الأبله، و إن كان قد فسر هنا بمن لا عقل له، إلا أن المراد به كما صرح به آخر ضعيف العقل، بل هو المراد مما في محكي الوسيلة من التعبير بالسفيه الذي هو في العرف عبارة عن الأحمق، لا السفه الشرعي الذي لا أجد خلافا في عدم سقوط الجزية عنه لعموم الأدلة، أما الأول فلا يبعد سقوطها عنه باعتبار كونه في الحقيقة قسما من الجنون الذي هو فنون، لعدم

جواز قتله بسبب ضعف عقله، فتسقط عنه الجزية لما سمعته من التعليل، و قد ذكرنا في كتاب الطلاق ما يؤكد ذلك، فلاحظ و تأمل.

و هل تسقط أيضا عن الهم أي الشيخ الفاني؟

قيل : و القائل الإسكافي نعم بل زاد المقعد و الأعمى، و تبعه المصنف في النافع و الفاضل في القواعد في الأول دون الأخيرين اللذين لم أجد موافقا له فيهما، بل صرح الشيخ و القاضي و ابن حمزة و الفاضلان و غيرهم بعدم السقوط عنهما، و هو كذلك، لعموم الأدلة الذي لا يخصصه ما في الخبر المزبور بعد عدم الجابر له في ذلك، و بعد تأييده بأنها وضعت للصغار و الإهانة المناسبين للكفر فيهما و أما الأول ف هو و إن كان المروي في خبر حفص (2)السابق الذي عمل به من عرفت و مقتضى الأصل أيضا لكنه لم يصل إلى حد الانجبار، و الأصل لا يعارض العموم، و فتوى الأصحاب به في غير المقام لا يصلح جابرا


1- 1 الوسائل- الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
2- 2 الوسائل- الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 238

و لعله لذا قيل لا تسقط عنه، كما أنه منهما كان ظاهر المصنف و الشهيد في الدروس و غيرهما التوقف، و ربما فصل بعضهم بأنه إن كان ذا رأي و قتال أخذت منه، و إلا فلا، و لعله لما تقدم سابقا من عدم قتله إذا لم يكن كذلك، و قتله إذا كان، و هو معيار الجزية في الخبر المزبور و في المحكي من كلام الإسكافي، إلا أنه لا جابر للخبر على العموم، فالأقوى عدم السقوط، و اللَّه العالم.

و قيل و القائل الشيخ بل المشهور كما في المنتهى و المختلف تسقط أيضا عن المملوك كما صرح به الفاضل و غيره، للأصل و

النبوي «لا جزية على العبد»

و لأنه مال فلا يستحق عليه مال، و لأنه كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ، و لأنه لا يقتل فلا جزية عليه على ما سمعته في الخبر السابق، و لعله الأقوى و لكن قيل و القائل الصدوق في المحكي عن مقنعه و ظاهر فقيهه لا تسقط، و تبعه الفاضل في محكي التحرير للعموم المخصوص بما عرفت، و ل

خبر أبي الدرداء(1)عن الباقر عليه السلام الذي لا جابر له، قال «سألته عن مملوك نصراني لرجل مسلم عليه جزية قال: نعم، قلت: فيؤدي عنه مولاه المسلم الجزية قال: نعم، إنما هو ماله يفتديه، إذا أخذ يؤدي عنه»

المعتضد بالمروي

من طرق الجمهور عن علي عليه السلام أنه قال:

«لا تشتروا رقيق أهل الذمة و لا مما في أيديهم، لأنهم أهل خراج، فيبيع بعضهم بعضا، و لا يقرن أحدكم بالصغار بعد أن أنقذه اللَّه منه»

الظاهر في ثبوت الجزية التي يؤديها سيده عنه، و يلحقه بذلك الصغار،


1- 1 الوسائل- الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.

ج 21، ص: 239

و بأنه مشرك فلا يستوطن دار الإسلام بغير عوض كالحر، و بأولويته بذلك من سيده، و بأنه من أهل الجهاد فلا تسقط عنه، لأنها عوض حقن الدم، إلا أن الجميع كما ترى بعد ضعف أصل الدليل، لكن مقتضى ذلك عدم الفرق بين كونه لمسلم أو ذمي، خلافا لبعض الجمهور ففرق بينهما محتجا بأخذها حينئذ من المسلم الذي هو مولاه، و فيه أنه لا بأس بها إذا كانت عن حقن دم العبد، مضافا إلى ما سمعته من الباقر عليه السلام و إلى ما تقدم في أرض الذمي الذي تكون الجزية عليه على أرضه لا على رأسه إذا اشتراها المسلم منه يؤدي ذلك، و إن كان فيه عليه عيب كما أشارت إليه النصوص السابقة، بل مقتضى ما سمعت عدم الفرق بين أفراد العبيد حتى المبعض منهم، فيؤدي هو قدر ما فيه من الجزية، و مولاه قدر ما فيه من الرقية، و اللَّه العالم.

و كيف كان فهي تؤخذ ممن عدا هؤلاء و لو كانوا رهبانا أو مقعدين بلا خلاف أجده فيه بيننا إلا ما سمعته من الإسكافي، بل و لا إشكال بعد عموم الأدلة كتابا و سنة حتى

قول النبي صلى اللَّه عليه و آله المروي (1)من طرق الجمهور لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا»

التي مقتضاها أنها تجب على الفقير كما هو صريح الشيخ و الفاضل و غيرهما، و ظاهر ابني حمزة و زهرة و الديلمي و الحلي على ما حكي عن بعضهم، بل هو المشهور كما اعترف به في المنتهى و غيره، بل هو المحكي عن فعل علي

عليه السلام أنه وظف على الفقير دينارا، لكن عن الإسكافي و المفيد و الشيخ في الخلاف عدمها، بل في الأخير الإجماع عليه، للأصل المقطوع بما عرفت، و عدم التكليف بغير الوسع


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 193.

ج 21، ص: 240

الذي هو لا ينافي خطاب الوضع و الإجماع الموهون بما عرفت، بل و بمصير حاكيه إلى خلافه، فالتحقيق حينئذ وجوبها عليه من غير فرق بين ذي العاهة و غيره، خلافا لأبي الصلاح فأسقطها عن الفقير ذي العاهة و العموم حجة عليه.

و لكن ينتظر بها حتى يؤسر كما صرح به غير واحد مشعرا بكونها كغيرها من الديون، لكن إن لم يكن إجماع يتجه، لعموم الأدلة، و إرادة الهوان به وجوبها عليه مع إمكان الأداء على كل حال و لو بالقرض أو بيع شي ء من المستثنيات أو غير ذلك، نعم ينتظر بها مع عدم الإمكان أصلا، و لم يثبت عندنا

ما يروى (1)عن علي عليه السلام أنه استعمل رجلا على عكبرا فقال له: على رءوس الناس لا تدعن لهم درهما من الخراج، و شدد عليه القول، ثم قال له: القني عند انتصاف النهار، فأتاه فقال: إني كنت قد أمرتك بأمر و إني أتقدم إليك الآن فإن عصيتني نزعتك، لا تبعن لهم في خراجهم حمارا و لا بقرة و لا كسوة شتاء و لا صيف، ارفق بهم»

على أنه يمكن أن يكون في غير الجزية التي ستعرف إرادة التشديد بها حتى يتحقق الصغار الذي قد يدعوهم إلى الإسلام.

و لو ضرب عليهم جزية فاشترطوها على النساء مثلا لم يصح الصلح على ذلك كما صرح به غير واحد، لأنه من المحلل للحرام بعد إسقاط الشارع الجزية عنهن مطلقا، و لعل فساد الصلح أجمع لاشتماله على الشرط الفاسد بناء على اقتضائه فساد العقد، أو أن المراد فساده بالنسبة إليهن و إن بقي صحيحا بالنسبة إلى الرجال بعد علمهم


1- 1 كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 44 الرقم 116.

ج 21، ص: 241

بالحال على وجه يخرج به عن الاغتيال المنهي عنه، فمع الرضا به يصح و لا يحتاج إلى تجديد، نعم لو أردن النساء الصلح على تأدية الجزية منهن دون الرجال بطل الصلح من أصله، و هو واضح.

و لو حاصر المسلمون حصنا من حصون أهل الكتاب ف قتل الرجال قبل عقد الجزية فسأل النساء إقرارهن ببذل الجزية قيل و القائل الشيخ فيما حكي عنه يصح عقد الذمة لهن على أن يجري عليهن حكم الإسلام، و لا يأخذ منهن شيئا، فإن أخذ منهن شيئا رده عليهن لكنه كما ترى ليس قولا بالصحة على وجه تثبت به الجزية كما هو ظاهر العبارة، نعم حكاه في المبسوط قولا لبعض أصحابنا و لم نعرفه.

و قيل لا يصح و هو الأصح كما صرح به الفاضل و غيره لأنه من المحلل للحرام كما عرفت، فيتوصل حينئذ إلى فتح الحصن بما يتمكن، و هل يجوز اغتيالهن بإظهار صورة الصلح لأجل فتح الحصن ثم يسبين باعتبار كونهن أموالا؟ وجهان، و في المختلف عن المبسوط نسبة أولهما إلى القيل، و أنه لا يعقد لهن الأمان، لكن في حاشية الكركي و المسالك «و لو كن في حصن و لم يمكن فتحه جاز عقد الأمان لهن كما لو طلبن ذلك في دار الحرب، و لا جزية في الموضعين» و مقتضاه صحة عقد الأمان لهن على وجه لا يجوز سبيهن، لعموم الوفاء بالعهد و العقد(1)و مشروعية الصلح (2)و النهي عن الاغتيال (3)، و اللَّه العالم.

و لو كان بعد عقد الجزية كان الاستصحاب حسنا قال في حاشية الكركي: «المراد بالاستصحاب هنا استصحاب العقد الذي وقع


1- 1 سورة البقرة- الآية 172 و سورة المائدة- الآية 1.
2- 2 الوسائل- الباب 3 من كتاب الصلح.
3- 3 الوسائل- الباب 21 من أبواب جهاد العدو.

ج 21، ص: 242

مع الرجال، و القول به ضعيف، فالأصح بطلانه» و تبعه في المسالك قال: «المراد بالاستصحاب هنا استصحاب العقد الذي وقع مع الرجال و إثبات الجزية على النساء، و ما حسنه المصنف غير واضح، فإنه كما يمتنع إقرارهن بالجزية ابتداء فكذا استدامة للعقد السابق، فالمنع في الموضعين أقوى» قلت: لا ينبغي التأمل في فساد ذلك على هذا التقدير بل المصنف أجل من أن ينسب إليه ما لا ينسب إلى أصاغر الطلبة، و لعله لذا قال شارح الترددات: «إن معنى الاستصحاب استدامة الأمان للنساء من غير ضرب جزية عليهن حيث قد ثبت لهن الأمان مع الرجال

ضمنا، فيجب الوفاء» و إن قال في المسالك: هذا التوجيه غريب، فإن السياق إنما هو في بذل الجزية لا في الأمان خاصة، إذ أقصاه قصور العبارة في الجملة عن ذلك، و اللَّه العالم.

و لو أعتق العبد الذمي منع من الإقامة في دار الإسلام إلا بقبول الجزية كما صرح به غير واحد، بل عن التذكرة نفي الخلاف فيه، بل في المنتهى هو مذهب عامة العلماء إلا ما روي عن أحمد بن حنبل من الإقرار بغير جزية، و لا ريب في ضعفه بعد عموم الأدلة الذي مقتضاه أيضا عدم الفرق في المعتق بين كونه مسلما أو كافرا، خلافا لمالك فلا جزية على الأول، لأن الولاء شعبة من الرق، و هو كما ترى فيلزم حينئذ بالإسلام أو بأداء الجزية، فإن أبى ألحق بمأمنه، لأنه قد دخل بشبهة الأمان و لو مع سيده، خلافا للإسكافي فيحبس، لما في إلحاقه من الإعانة على المسلمين و الدلالة على عوراتهم، و هو اجتهاد، و كذا الكلام لو كان من أهل دين لا تقبل منهم الجزية، خلافا له أيضا لما عرفت، و اللَّه العالم.

و المجنون المطبق لا جزية عليه بلا خلاف و لا إشكال كما

ج 21، ص: 243

عرفته سابقا و إن كان يفيق وقتا و يجن آخر قيل و القائل الشيخ في محكي المبسوط و الخلاف يعمل بالأغلب فتؤخذ الجزية منه إن كانت الإفاقة أغلب، بأن يجن يوما و يفيق يومين مثلا، و تسقط عنه مع العكس، و هو مع عدم نقل الحكم عنه حال التساوي لم نعرف له مستندا ينطبق على مذهب الإمامية، و إن وافقه عليه في المنتهى و محكي التذكرة و التحرير إذا كان جنونه غير مضبوط، و أما المضبوط مثل أن يجن يوما و يفيق يومين أو أقل من ذلك أو أكثر إلا أنه مضبوط ففي المنتهى فيه احتمالان: أحدهما الاعتبار بالأغلب أيضا، و الثاني تلفيق أيام إفاقته، و فيه احتمالان أيضا: أحدهما تلفيقها حولا و تؤخذ منه لأن أخذها منه قبل أخذ لها قبل الحول، فلم يجز كالصحيح، و الثاني أخذها منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق، قال: و كذا الاحتمالان لو كان يجن ثلث الحول و يفيق ثلثه أو بالعكس، أما لو استوت إفاقته و جنونه مثل أن يجن يوما و يفيق آخر أو يجن نصف حول و يفيق في الآخر فإن إفاقته تلفق، لتعذر اعتبار الأغلب هنا لعدمه، فيتعين الاحتمال الآخر، ثم قال: و لو جن نصف الحول ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم يجن جنونا مستمرا فعليه في الأول من الجزية بقدر ما أفاق من الحول إذا استمرت الإفاقة بعد الحول، و في الثاني لا جزية عليه، لأنه لم يتم الحول مفيقا، و جميعه كما ترى لا يرجع إلى محصل و لا إلى قاعدة يركن إليها، على أن الحولية لم تذكر هنا شرطا على حسب الحول في الزكاة، و لعله لذا قال في المسالك الأقوى أن المجنون لا جزية عليه مطلقا إلا أن يتحقق له إفاقة سنة متوالية، لإطلاق النص، و لعل إليه يرجع ما في فوائد الشرائع من أن الأصح عدم الجزية عليه، و إن كان فيه أنه ليس في النص إلا سقوطها عن المغلوب على عقله، فمع

ج 21، ص: 244

فرض انسياق المطبق منه يتجه عدم السقوط في غيره للعموم، بل و كذا مع الشك، و رفع القلم لا ينافي ثبوت خطاب الوضع، و إلا اتجه السقوط مطلقا، و أما اعتبار الإفاقة سنة متوالية فليس في النصوص ما يشهد له خصوصا بعد عدم تضمنها لاعتبار الحول في الإفاقة، و كان اعتبار الأغلب الذي سمعته من الشيخ ترجيحا لإلحاقه بدليل السقوط و عدمه بعد أن كان الحكم ثبوتها على العاقل و سقوطها عن المجنون، فمع الغلبة يترجح اللحوق بأحدهما، و مقتضاه الحكم بالبراءة مع عدم الغلبة، و لكن فيه أنه ليس في الأدلة اعتبار العقل، اللَّهمّ إلا أن يدعى اقتضاء سقوطها عن المغلوب عليه ذلك، و لكنه شك في شك، ضرورة ظهور الأدلة في وجوبها على الذمي، و أقصى ما سقطت عن المغلوب عليه، فمع فرض الشك يتحقق مقتضى الثبوت، و هو الذمية، و لم يتحقق مقتضى السقوط و هو صدق المغلوب على عقله، و لعله الأقوى.

و كيف كان ف لو أفاق حولا وجبت عليه و لو جن بعد ذلك كما صرح به غير واحد، بل لعله لا خلاف فيه بل و لا إشكال لما عرفته من عموم الأدلة الذي مقتضاه أزيد من ذلك كما سمعت.

و كل من بلغ من صبيانهم يؤمر بالإسلام أو بذل الجزية، فإن امتنع صار حربيا بلا خلاف بل و لا إشكال، لعموم الأدلة، و لحوق أولاده به في الأمان إنما هو ما دام الصغر، فإذا بلغوا احتاجوا إلى عقد جديد، خلافا لأحمد بن حنبل فيدخلون فيه و لا يحتاجون إلى تجديد، و فيه منع واضح، و حينئذ فإن اختار الجزية عقد معه الإمام عليه السلام على حسب ما يراه، و لا اعتبار بجزية أبيه، فإذا حال الحول من وقت العقد أخذ منه ما شرط عليه، و لا يدخل حوله في حول أبيه فضلا عن غيره، و لو بلغ سفيها على وجه يحجر عليه في المال

ج 21، ص: 245

و اختار عقد الجزية ففي المنتهى «كان له ذلك، و ليس للولي المنع، لأن الحجر لا يتعلق بحقن دمه و إباحته- إلى أن قال-: و لو أراد عقد الأمان ببذل جزية كثيرة فالوجه عندي أن للولي المنع، لأنه يمكن حقن دمه بالأقلّ» قلت: بل مقتضى القواعد عدم نفوذ العقد الأول أيضا إلا بإذن الولي، ضرورة كونه عقدا بمال، و الفرض الحجر عليه فيه، نعم قد يقال بإلزام الولي لو امتنع باعتبار كون صلاحه بلاد الإسلام، و لو صالح الإمام عليه السلام قوما على أن يؤدوا الجزية عن أولادهم فإن كان المراد الزيادة في جزيتهم على وجه تكون في أموالهم صح، و إلا كان الصلح باطلا على نحو ما سمعته في النساء، و على كل حال فإذا اختار الحرب رد إلى مأمنه و لا يجوز اغتياله، لأنه كان داخلا في أمان أبيه.

[الأمر الثاني في كمية الجزية]

الأمر الثاني في كمية الجزية و المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة أنه لا حد لها، بل تقديرها إلى الإمام عليه السلام بحسب الأصلح بل عن الغنية الإجماع كما عن السرائر نسبته إلى أهل البيت عليهم السلام، بل لم نعرف القائل منا بتقديرها في جانب القلة و الكثرة و إن أرسله الفاضل و غيره، نعم عن الإسكافي تقديرها في جانب القلة بالدينار على معنى أن لا تكون أقل من ذلك، أما جانب الكثرة فأمره إلى الإمام عليه السلام، و لم نجد ما يشهد له إلا ما

روي (1)عن النبي صلى اللَّه عليه و آله أنه قال له: «خذ من كل حالم دينارا»

و هو- مع أنه قضية في واقعة، و لا دلالة فيه على كون الأقل ذلك- لا يصلح معارضا لما سمعته و تسمعه من الأدلة، كما أن ما قرره علي


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 193.

ج 21، ص: 246

عليه السلام على ما أرسله (1)غير واحد منهم المفيد في المقنعة و الفاضل و غيرهما من وضع ثمانية و أربعين درهما على الغني، و أربعة و عشرين درهما على المتوسط و اثنا عشر درهما على الفقير، على فرض ثبوته محمول على اقتضاء المصلحة في تلك الحال إذ هو قضية في واقعة، ففي

خبر مصعب (2)المروي في التهذيب قال: «استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على أربعة رساتيق المدائن- إلى أن قال-: و أمرني أن أضع على كل جريب ذرع غليظ درهما و نصفا، و على كل جريب وسط درهما، و على كل جريب ذرع رقيق ثلثي درهم، و على كل جريب كرم عشرة دراهم، و على كل جريب نخل عشرة دراهم، و على كل جريب البستان التي تجمع النخل و الشجر عشرة دراهم، و أمرني أن ألقي كل نخل شاذ عن القرى لمارة الطريق و ابن السبيل و لا آخذ منه شيئا، و أمرني أن أضع على الدهاقين الذين يركبون البراذين و يتختمون بالذهب على كل رجل منهم ثمانية و أربعين درهما، و على أوساطهم و التجار منهم على كل رجل منهم أربعة و عشرين درهما، و على سفلتهم و فقرائهم اثنا عشر درهما على كل إنسان منهم قال: فجبيتها ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة»

و على كل حال فلا يصلح معارضا لإطلاق الأدلة فضلا عن ما سمعته من الإجماع المحكي المعتضد بالنسبة إلى أهل البيت عليهم السلام في محكي السرائر و بالشهرة العظيمة، و ب

صحيح (3)زرارة «قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام ما حد الجزية على أهل الكتاب؟ و هل عليهم في ذلك شي ء موظف لا ينبغي أن يجوز إلى غيره؟ فقال: ذلك إلى الإمام (ع)


1- 1 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 7.
2- 2 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.
3- 3 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 247

يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ما يطيق، إنما هم قوم فدوا أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا، فالجزية تؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن يأخذهم به حتى يسلموا، فإن اللَّه عز و جل (1)قال:

«حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ» و كيف يكون صاغرا و لا يكترث بما يؤخذ منه حتى يجد ذلا لما أخذ منه، فيألم لذلك فيسلم»

بل منه يستفاد أن ما وقع (2)من النبي صلى اللَّه عليه و آله في الدينار و ألفي حلة في صلح نصارى نجران و من أمير المؤمنين عليه السلام قد كان لما يراه من المصلحة، بل منه يستفاد أنها عوض، فلا يتقدر بقدر كالأجرة، بل منه يستفاد أيضا أن ذلك هو المناسب للصغار المصرح به في القرآن الكريم كما أومأ إليه ابن إدريس في المحكي عنه تبعا للشيخ في محكي الخلاف، قال: اختلف المفسرون في الصغار، و الأظهر أنه التزام أحكامنا عليهم، و أن لا تقدر الجزية فيوطن نفسه عليها، بل تكون بحسب ما يراه الإمام عليه السلام بما يكون معه ذليلا صاغرا خائفا، فلا يزال كذلك غير موطن نفسه على شي ء، فحينئذ يتحقق الصغار الذي هو الذل، و لعله لذا قال

المفيد في المحكي عنه: الصغار أن يأخذهم بما لا يطيقون حتى يسلموا، و إلا فكيف يكون صاغرا و هو لا يكترث بما يؤخذ منه فيسلم، بل ذكر غير واحد أن المشهور في تعريفه التزام الجزية بما يراه الإمام عليه السلام من غير أن تكون مقدرة، و التزام أحكامنا عليهم، لكن عن الإسكافي الصغار هو أن يشترط عليهم وقت العقد جريان أحكام المسلمين عليهم في الخصومات بينهم إذا تحاكموا إلينا، و في الخصومات بينهم و بين المسلمين، و أن تؤخذ منهم و هم قيام


1- 1 سورة التوبة- الآية 29.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 194 و 195.

ج 21، ص: 248

و عن الشيخ في المبسوط هو التزام أحكامنا و جريانها عليهم، و عن الشافعي هو تطأطؤ الرأس عند التسليم، فيأخذ المستوفي بلحيته و يضرب في لهازمه، و لعل الأولى الجميع، بل و غيره مما يتحقق به، إذ المراد إهانتهم و إذلالهم الذي هو أشد من القتل عند ذوي النفوس العالية، و لعله لذا كان المحكي عن التذكرة في تفسيره أن تؤخذ منه قائما و المسلم جالس، و أن يخرج الذمي يده من جيبه و يحني ظهره و يطأطئ رأسه، و يصب ما معه في كفة الميزان، و يأخذ المستوفي بلحيته و يضرب في لهزمته، و اللهزمتان في اللحيين مجمع اللحم بين الماضغ و الأذن، و في كنز العرفان «قيل هو أي الصغار أن يدفع و يقهر بحيث تظهر ذلته، و قيل أن يجي ء ماشيا و يسلمها و هو قائم و الآخذ جالس، و يقال له أد الجزية و أنت صاغر، و يصفع على قفاه صفعة، و قال فقهاؤنا إنه التزام أحكام الإسلام أن تجرى عليهم، و أن لا يقدر الجزية عليهم فيوطنوا أنفسهم على حال، و قيل أن يأخذهم بما لا يطيقونه حتى يسلموا ثم ذكر الخبر ثم فيه أيضا «اختلف في معنى عن يد فقيل أن يعطوها نقدا لا نسية و قيل أن يعطوها بأيديهم لا بنائب، فإنه أنسب بذلتهم، و هو أقرب و قيل عن قدرة و قهر لكم عليهم، و قيل اليد هنا النعمة أي عن إنعام لكم عليهم بقبول الجزية منهم و إقرارهم على دينهم» قلت: لعل المنساق الثاني، و اللَّه العالم.

و كيف كان ف مع ما ظهر لك و تبين من انتفاء ما يقتضي التقدير يكون الأولى إطراحه أي التقدير تحقيقا للصغار الذي قد عرفت تحققه بالتزام الذمي ما يقترح عليه، فلا يعلم ما يكون عليه في كل سنة، بخلاف ما إذا كان أمرا يقدر عليه، فإنه ربما

ج 21، ص: 249

يكون فيهم من لا يكترث به فلا يصيبه صغار، اللَّهمّ إلا أن تقتضي المصلحة ذلك، و اللَّه العالم.

و يجوز وضعها على الرءوس أو على الأرض بلا خلاف أجده فيه، بل و لا إشكال بعد الأصل و العمومات كتابا و سنة، و خصوص النصوص (1)المتضمنة لإثبات كل منهما التي مر جملة منها و غيرها، نعم في محكي الوسيلة و يضع الجزية

على الرءوس أو على الأرض و لا يجمع بينهما و في محكي النهاية الإمام (ع) مخير بين أن يضعها على رءوسهم أو على أرضهم، فليس له أن يأخذ من رءوسهم شيئا، و نحوه عن السرائر، و ظاهرها عدم جواز الجمع، بل هو ظاهر محكي الغنية، بل حكاه في المختلف عن القاضي أيضا و اختاره و لكن قيل و القائل الإسكافي و التقي على ما حكي عنهما بجوازه ابتداء و تبعهما أكثر المتأخرين، بل هو الأشبه بأصول المذهب و قواعده التي منها ما سمعته من عدم موظف للجزية، و أن تقديرها إلى الإمام عليه السلام كما و كيفا كما هو مقتضى الأصل و غيره، بل هو المناسب للصغار، و لما دل على مشروعية العقود بالتراضي و لغير ذلك، و لا ينافيه

صحيح ابن مسلم (2)عن الصادق عليه السلام «قلت له أ رأيت ما يأخذ هؤلاء من الخمس من أرض الجزية و يأخذون من الدهاقين جزية رءوسهم أ ما عليهم في ذلك شي ء موظف، قال: كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم، و ليس للإمام عليه السلام أكثر من الجزية، إن شاء وضع الإمام عليه السلام على رءوسهم، و ليس على أموالهم شي ء، و إن شاء فعلى أموالهم، و ليس على رءوسهم شي ء، فقلت: هذا الخمس فقال: إنما


1- 1 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو.
2- 2 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 250

كان هذا شي ء صالحهم عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله»

بعد ظهوره في كون المراد عدم جواز أخذ الإمام عليه السلام من الرءوس أو الأرض بعد العقد منهم على أحدهما المجمع عليه نقلا و تحصيلا، بل هو مقتضى الوفاء بالعقد و الشرط، ك

خبر محمد بن مسلم (1)الآخر «سألته عن أهل الذمة ما ذا عليهم فيما يحقنون به دماءهم و أموالهم؟ قال: فإن أخذ من رءوسهم الجزية فلا سبيل له على أرضهم، و إن أخذ من أرضهم فلا سبيل على رءوسهم»

بل مقتضى

قوله عليه السلام في الأول «عليهم ما أجازوا على أنفسهم»

صحة العقد معهم عليهما، مضافا إلى العمومات، بل و

قوله عليه السلام فيه أيضا: «هذا شي ء صالحهم عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله»

بل و خبر مصعب (2)المتقدم سابقا بناء على إرادة الجزية منه في الأراضي و الرءوس.

و من ذلك يظهر لك ضعف الاستدلال بهما للأول الذي لم يظهر المراد منه، ففي المختلف بعد أن اختاره و استدل للقول الآخر بأن الجزية لا حد لها، فجاز أن يضع قسطا على أرضهم، قال: و الجواب ليس النزاع في تقسيط جزية على الرءوس و الأرض، بل في وضع جزيتين عليهما، و ظاهره المفروغية من جواز تقسيط الجزية عليهما، و أن النزاع في الجزيتين، و لكنه

كلام مجمل أيضا إذ من المعلوم عدم مدخلية النية في ذلك، كما أن من المعلوم عدم مشروعية جزية أخرى بعد عقدها على أحدهما، فإن التعدي عما اقتضاه العقد أولا غير جائز إجماعا، و من هنا كان ظاهر المنتهى أن النزاع في جواز توزيع الجزية على الرءوس و الأرض، قال: «و يتخير الإمام عليه السلام في وضع الجزية إن شاء


1- 1 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
2- 2 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.

ج 21، ص: 251

على رءوسهم، و إن شاء على أرضهم، و هل يجوز أن يجمع بينهما فيأخذ منهم عن رءوسهم شيئا و عن أرضهم شيئا؟ قال الشيخان و ابن إدريس لا يجوز ذلك، و قال أبو الصلاح: يجوز الجمع بينهما، و هو الأقوى عندي» إلى آخره، و هو كالصريح في كون النزاع في توزيع الجزية على الأرض و الرءوس، و إن شئت سميتها جزيتين، لكن على معنى إيقاع العقد عليهما ابتداء بالرضا من الإمام عليه السلام و منهم، لا على وجه التعدي عليهم، و لعل هذا هو المراد من الابتداء في عبارة المتن، و كأنه لذا قال ابن فهد في المحكي عن مهذبه: و يظهر لي أن النزاع لفظي، لأن عقد الجزية إن تضمن تعيين أحدهما لم يجز تعديته إلى غيره إجماعا و إن لم يتضمن التعيين جاز للإمام عليه السلام أن يأخذ منهما و من أحدهما، لعدم المانع، و لأن الجزية إذا لم تكن مقدرة لم يكن لقصرها على أحد المذكورين معنى لأنه جاز أن يأخذ من الرءوس بقدر ما يمكن أن يأخذ منهما و يزيد عليه، إذ ليس لها قدر معين لا يجوز تخطيه، و إن كانت عبارته لا تخلو من شي ء، ضرورة كون المراد بلفظية النزاع هو أن المانع لم يجوز الأخذ من الآخر بعد تعيينها في غيره، و المجوز يريد الجواز ابتداء في عقد الذمة بأن يجعلها على الرءوس و الأراضي، و لا ينبغي التوقف في جوازه، بل إن شاء جعلها مع ذلك في المواشي و في الأشجار و غيرها مما لهم، ضرورة كونها على حسب ما يراه الوالي الذي قد عرفت أن له تضعيفها عليهم، بل هو أنسب بالصغار كما عرفته مفصلا.

و على كل حال فإن أراد المانع عدم الجواز تعبدا، و أن مشروعيتها و لو ابتداء إما على الرءوس أو على الأراضي كان محجوجا بالأصول

ج 21، ص: 252

و العمومات و غيرها حتى ما تسمعه من بعض النصوص (1)في بحث ضم الضيافة، مع عدم دليل له على ذلك إلا ما زعمه من دلالة الخبرين التي قد عرفت الحال فيها، و إن أراد عدم الجواز بعد أن كان عقد الذمة على أحدهما كان صحيحا، ضرورة كونه مخالفا لمقتضى العقد و أكل مال بالباطل، بل لا يبعد فيما لو فرض عقدها دراهم على الرءوس مثلا عدم جواز أخذ مقدار الدراهم من الأراضي بدون رضاهم و بالعكس إذ هو خلاف مقتضى العقد، بل لو اقترح عليهم الدراهم من الأرض لم يكن له ذلك إلا

برضاهم، لوجوب الوفاء بالعقد على حسب ما وقع و التخيير في الوفاء لهم كما هو واضح.

و من ذلك يعلم النظر فيما عن التنقيح حيث أنه بعد نقل القولين مع الدليل من الطرفين قال: «و الأقوى أن نقول إذا اتفقوا هم و الإمام على قدر معين فأراد الإمام بعد ذلك تقسيطه على الرءوس و الأموال جاز و أما إذا أراد جعل جزية أخرى على الأراضي فلا يجوز للرواية» قلت لعل تحقيق الحال أن يقال إن عقد الذمة شي ء و تقدير الجزية أمر آخر ضرورة أن عقد الذمة عبارة عن العهد لهم بالأمان و سكنى أراضي المسلمين بالجزية التي يبقى تقديرها إلى الإمام عليه السلام في كل سنة على حسب ما يراه من المصلحة، و قد سمعت أن قبول الذمي على الإجمال هو الصغار أو من الصغار، و حينئذ فله تقديرها على رءوسهم و على أراضيهم و على غير ذلك، نعم لو فرض تعيين الجزية في الأراضي خاصة أو على الرءوس خاصة في ابتداء عقد الذمة معهم اتجه حينئذ عدم جواز تغييره و تبديله، لعموم الوفاء بالعقد و بالشرط، و أما في الأول فللإمام عليه السلام التصرف في تعيينها إلى حين استيفائها منهم، إن شاء من


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 195 و 196.

ج 21، ص: 253

الأراضي، و إن شاء من الرءوس، و إن شاء من غيرهما، و إن شاء من الجميع، لأن الفرض وقوع عقد الذمة على إعطاء الجزية في كل سنة على حسبما يراه الوالي كما و كيفا، بل يكفي في ذلك إطلاق عقد الذمة بالجزية من دون تصريح، ضرورة بقاء تقديرها و كيفية أخذها موكولا إليه، هذا، و في المسالك تبعا لحاشية الكركي احترز بقوله «ابتداء» عما لو وضعها على رأس بعض منهم و على أرض بعض آخر فانتقلت الأرض التي وضعت عليها إلى من وضعت على رأسه، فإنه يجتمع عليه الأمران، لكن ذلك ليس ابتداء، بل بسبب انتقال الأرض إليه» و فيه- مع أنه مبني على كون الجزية على من انتقلت إليه الأرض و قد عرفت الكلام فيه سابقا- أن الاحتراز به عن ذلك إنما يتم لو قيد المنع به و ليس كذلك، فإنه قد أطلق المنع أولا ثم نقل قولا بالجواز بهذا القيد فيفيد المنع في غيره قولا واحدا لا الجواز، كما لا يخفى، و من هنا كان ما ذكرناه أولا أولى، و اللَّه العالم.

و يجوز أن يشترط عليهم مضافا إلى الجزية ضيافة مارة العساكر بل المسلمين مجاهدين أولا كما صرح به غير واحد، بل في المسالك هذا هو المشهور في الأخبار(1)و الفتاوى، و هو الذي شرطه النبي صلى اللَّه عليه و آله (2)بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به في المنتهى، بل عن التذكرة الإجماع عليه، و هو الحجة بعد الأصل و العمومات، و المحكي من (3)فعل النبي صلى اللَّه عليه و آله في المنتهى أنه ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار، و كانوا ثلاثمائة نفر في كل سنة، و أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام، و شرط على نصارى نجران إقراء


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 196.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 196.
3- 3 سنن البيهقي ج 9 ص 195.

ج 21، ص: 254

رسله عشرين ليلة فما دونها، و عارية ثلاثين فرسا، و ثلاثين بعيرا، و ثلاثين درعا مضمونة إلى آخره، و غير ذلك.

و لكن يحتاج مع ذلك أن تكون الضيافة معلومة بأن يقدر القوت و الإدام و علف الدواب و جنس كل واحد منهما و وصفه بما يرفع الجهالة و عدد أيام الضيافة كما صرح به غير واحد، بل في المنتهى إذا شرط الضيافة وجب أن تكون معلومة بأن يكون عدد من يطعمونه من المسلمين في كل سنة معلوما، و يكون أكثر الضيافة لكل أحد ثلاثة أيام، لأن

النبي صلى اللَّه عليه و آله (1)قال: «الضيافة ثلاث، و ما زاد صدقة»

و الأقرب عندي جواز الزيادة على ذلك مع الشرط و التراضي، فيقال: يضيفون في كل سنة خمسين يوما أو أقل أو أكثر في كل يوم عشرة من المسلمين أو أكثر، و يعين القوت قدرا و جنسا فيقول لكل رجل كذا و كذا رطلا من الخبز، و يعين الإدام من لحم و سمن و زيت و شيرج، و يكون قدره معلوما، و يعين علف الدواب من الشعير و التبن و القت، لكل دابة شي ء معلوم، فإن شرط الشعير قدره بمقدار معين، و إن لم يشترط الشعير بل اشترط العلف فالوجه أنه لا يدخل فيه الشعير، بل التبين و الحشيش، و لا يكلفوا الذبيحة و لا ضيافتهم بأرفع من طعامهم إلا مع الشرط معللين له بما عن المبسوط من عدم صحة العقد على المجهول،

نظرا إلى عموم الأدلة على اشتراط التعيين في العقود، و هو كما ترى، ضرورة عدم دليل على اعتبار المعلومية في كل عقد حتى عقد الذمة، بل المحكي من فعل النبي صلى اللَّه عليه و آله خلاف ذلك، بل لا يبعد الاكتفاء بما تقتضيه العادة في المقدار و الجنس و الوصف و غيرهما كما أن الظاهر ابتناء ذلك على طهارتهم، أو قبل


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 197.

ج 21، ص: 255

الحكم بنجاستهم، ضرورة صعوبة التحرز عنهم مع الضيافة عندهم و الاقتصار على الجامد و المائع الذي لم يعلم مباشرتهم له بما ينجسه، فالمتجه حينئذ مع الحكم بنجاستهم اشتراط الضيافة عليهم بما لا يتجنبه المسلمون من حبوبهم و نحوها.

و كيف كان فقد ذكر المصنف أنه لو اقتصر على الشرط و لم يذكر إضافته إلى الجزية وجب أن يكون زائدا على أقل مراتب الجزية مع فرض كونها مقدرة، و إلا وجب أن يكون أزيد من أقل ما تقتضي المصلحة وضعه عليهم من الجزية، و لا يقتضي الإطلاق كون الضيافة من الجزية، للتأسي بالنبي صلى اللَّه عليه و آله (1)فإنه شرط الضيافة زيادة على الدينار على كل نفس على نصارى أيلة، و لأنه لو شرط الضيافة من الجزية أو كان الإطلاق يقتضيه و لم يمر بهم أحد خرج الحول بغير جزية، و لأن مصرف الجزية مصرف الغنيمة، بخلاف الضيافة فإنها لا تختص بذلك، بل يجوز اشتراطها لسائر المسلمين، فلا بد معها من جزية، و في المسالك قد صرح بهذا

التفسير العلامة في التذكرة و غيره قلت: قال في المنتهى أيضا: «يجب أن تكون الضيافة زائدة على أقل ما يجب عليهم من الجزية، و هو أحد قولي الشافعي، و في القول الثاني أنها تحتسب من الدينار الذي هو قدر الجزية عنده، لنا أن النبي صلى اللَّه عليه و آله شرط على نصارى أيلة الضيافة زائدة على الدينار، و الدينار عنده مقدار الجزية لا تجوز الزيادة عليه و لا النقصان منه، و لأنه لو شرط الضيافة عليهم من الجزية و لم يمر بهم أحد من المسلمين خرج الحول بغير جزية، و هو باطل، و في حاشية الكركي «إنما اشترطت الزيادة ليتحقق الأمران أي الجزية و الضيافة معا التي هي


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 195.

ج 21، ص: 256

مشروطة زائدا على الجزية، و بهذا صرح الشيخ في المبسوط و المتأخرون لأن مصرفها مختلف» هذا، و في المسالك «و ربما احتمل في العبارة و نظائرها معنى آخر، و هو أن يكون المراد أنه مع الاقتصار على شرط الضيافة عليهم من غير أن يذكر الجزية تكون الضيافة قائمة مقام الجزية و يجب حينئذ كونها زائدة عن أقل ما يجب في الجزية لتحقيق الجزية و يجب حينئذ كونها زائدة عن أقل ما يجب في الجزية لتحقيق الجزية في ضمنها، و يكون في قوة جزية و ضيافة، و على هذا الاحتمال ينبغي اختصاص ما قابل الجزية من الضيافة بأهل الفي ء، و نظير هذه العبارة في مقام الاحتمال عبارة القواعد، و الحق أن المراد هو المعنى الأول، و به صرح في التذكرة محتجا عليه بفعل النبي صلى اللَّه عليه و آله، و استلزام شرط الضيافة من الجزية سقوطها لو لم يمر بهم أحد».

قلت: لا يخفى عليك ما في الكلام في جميع المسألة من الغبار ضرورة أنه على المعنى الأول لا يتجه الاقتصار على الشرط من دون عقد الذمة إذ هو شرط فيه، فلا يتصور الاجتزاء بإطلاقه عنه، و مع فرضه فلا بد من الجزية، لما ستعرفه إن شاء اللَّه أنها من أركان عقد الذمة، و حينئذ يسقط اعتبار كونها زائدة عن أقل مراتب الجزية، ضرورة عدم ارتباط مقتضى كل منهما بالآخر، كما أن المتجه على تقدير احتسابها من الجزية وجوب أدائها لو لم يمر بهم أحد لا سقوطها في الحول، بل لم يظهر وجه لاعتبار زيادتها على الأقل على الاحتمال، و يكفي مساواتها لها، و التعليل بأن ذلك لتكون الجزية في ضمنها و تكون في قوة جزية و ضيافة لا محصل له على تقدير جواز قيامها مقام الجزية، كما هو واضح كوضوح عدم دلالة ما وقع من النبي صلى اللَّه عليه و آله على اعتبار زيادة الضيافة على الجزية، إذ لا إشكال في جواز اشتراط الضيافة

ج 21، ص: 257

زيادة على قدر الجزية مع التراضي، بل الظاهر جواز جعلها جزية مع المصلحة، و دعوى اختصاص مصرفها مطلقا بأهل الفي ء ممنوع و إن كان قد يشهد له

خبر ابن أبي يعفور(1)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «أن أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية، و إنما الجزية عطاء المهاجرين، و الصدقة لأهلها الذين سمى اللَّه في كتابه، فليس لهم من الجزية شي ء، ثم قال: ما أوسع العدل إن الناس يستغنون إذا عدل بينهم، و تنزل السماء رزقها، و تخرج الأرض بركتها بإذن اللَّه تعالى»

و نحوه خبر محمد بن مسلم (2)عن أبي جعفر عليه السلام، لكن لعل المراد خصوص ما يجمع من الجزية، لا أن المراد ما يشمل ما نحن فيه من جواز جعل الجزية ذلك مع اقتضاء المصلحة، و تسمع إن شاء اللَّه تمام الكلام في مصرفها، و كان المراد لمن تعرض لذلك الرد على الشافعي القائل بوجوب اعتبار الضيافة منها بناء منه على تقديرها بالدينار من دون زيادة و لا نقصان، فلم يحسنوا التأدية عن ذلك، فوقع في العبارات و في تفسيرها تشويش.

ثم إن ظاهر النصوص و الفتاوى تكرار الجزية في كل حول، و أن حالها حال الزكاة و الخراج الذي على الأرض، بل هو في أرضهم ضرب منها، بل لعل المنساق منها أنها تجب في آخر الحول كما صرح به الفاضل في المنتهى حاكيا له عن الشافعي أيضا خلافا لأبي حنيفة فتجب في كل حول في أوله، و هو مخالف لما يستفاد من النصوص (3)من كونها تجبى


1- 1 الوسائل- الباب 69 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 69 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
3- 3 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو.

ج 21، ص: 258

كجباية الخراج، و قد سمعت خبر مصعب (1)بل النصوص (2)الواردة في الخراج كالصريحة في كون جزية الرءوس على نحو ذلك، بل المفهوم من سيرة العمال و قوله تعالى (3)«حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ» لا يقتضي أزيد من استحقاق إعطائها و لو في آخر الحول.

و حينئذ ف إذا أسلم الذمي قبل الحول أو بعده قبل الأداء سقطت الجزية على الأظهر بل لا أجد فيه خلافا في الأول بل في المنتهى و محكي التذكرة الإجماع عليه، و هو الحجة، مضافا إلى ما تسمعه في الثاني الذي هو المشهور شهرة عظيمة، بل عن الغنية الإجماع عليه، و لعله كذلك، إذ لا أجد فيه خلافا إلا ما عساه يظهر من مفهوم عبارة الحلبي المحكية في المختلف، قال: لو أسلم قبل حلول الحول سقطت عنه نفسه الجزية، و لعله غير مراد له، و إلا كان مخالفا في الأول بالنسبة إلى ما مضى منها، و لم يحكه أحد عنه، نعم هو أحد قولي الشافعي، و على تقديره فهو محجوج بما سمعت من الإجماع و غيره، و إلا ما حكاه الفاضل عن الشيخ في الخلاف، و لم نتحققه، خصوصا بعد أن حكى هو عنه السقوط، و إن كان يحتمل كونه في غير الخلاف، و على تقديره فلا ريب في ضعفه بعد النبويين المستغنيين بشهرتهما نقلا و عملا عن البحث في سنديهما،

أحدهما(4)«الإسلام يجب ما قبله»

و الآخر(5)«ليس


1- 1 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.
2- 2 الوسائل- الباب 72 من أبواب جهاد العدو.
3- 3 سورة التوبة- الآية 29.
4- 4 المستدرك- الباب 15 من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث 2 و الخصائص الكبرى ج 1 ص 249 و كنز العمال ج 1 ص 17 الرقم 243 و جامع الصغير ج 1 ص 123.
5- 5 المستدرك- الباب 61 من أبواب جهاد العدو الحديث 34.

ج 21، ص: 259

على المسلم جزية»

المعتضدين بما سمعت من الإجماع

و بالنبوي الثالث (1)«لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الخراج يعني الجزية»

و بقوله تعالى (2)«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» و بأن وضعها للصغار و الإهانة للرغبة في الإسلام المنزه عنهما المسلم، و بظهور دليل وجوبها في الإعطاء صاغرا، و من المعلوم عدمه في المسلم، و بفحوى سقوطها في الأول الذي قد عرفت الإجماع عليه الصادق على ما قبل الحول و لو بساعة و أقل، و منه يعلم ضعف التمسك بالاستصحاب الذي هو موجود فيهما، فعدم مراعاته في الأول المجمع عليه يمكن أن يكون لكونه مشروطا بعدم الإسلام قبل حول الحول، لظهور أدلة أخذها منه صاغرا في كونه باقيا على اليهودية، و هو بعينه آت في الثاني، ضرورة ظهوره في كونه وقت الأداء الذي هو الإعطاء كذلك أيضا، بل منه يعلم كون المراد عدمها على المسلم الشامل لمحل الفرض، كما أن منه يعلم إرادة ما يشمل المقام من خبر الجب، و دعوى أنها من الديون التي لا يجبها الإسلام يدفعها ظهوره في جب الإسلام ما كان يقتضيه الكفر، و الجزية و إن كانت كالدين إلا أنها من مقتضيات الكفر الذي جبه الإسلام و لو

أغضينا عن ذلك كله و قلنا بحصول الشك من تصادم الاستصحاب و الإجماع المحكي و غير ذلك مما عرفت كان المتجه البراءة لأصالتها و لا يقطعها الاستصحاب الذي فرضناه من أسباب الشك.

نعم لو مات الذمي بعد الحول و هو ذمي لم تسقط و أخذت من تركته كالدين بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به غير واحد بل و لا إشكال، خلافا لأبي حنيفة فتسقط، لأنها عقوبة كالحد


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 193.
2- 2 سورة الأنفال- الآية 39.

ج 21، ص: 260

و هو كما ترى قياس فاسد، بل لو مات في أثناء الحول أخذ القسط من تركته كما صرح به الفاضل و الإسكافي فيما حكي عنه، و إن كان لو لم يمت لم يطالب بها في الأثناء على ما صرح به في المنتهى قال: «و لو لم يمت لم يطالب في أثناء السنة مع عقد العهد على أخذها في آخر السنة لأن الالتزام بالشرط واجب» و ظاهره الفرق مع الشرط المزبور بين حالي الموت في الأثناء و الحياة، و إن كان قد يناقش بأن حق الشرط لا يسقط بالموت، اللَّهمّ إلا أن يكون هذا من قبيل الأجل الذي يحل بالموت، و لكن يتجه عليه أخذها جميعا حينئذ منه، ضرورة كونها دينا قد حل أجله لا القسط، و دعوى أنها معاوضة على المكث في أرض المسلمين فهي كالإجارة في التقسيط تهجس، إذ يمكن كونها عوضا عن حقن الدم و نحوه مما يقتضيه الكفر، فتكون حينئذ كغيرها من الديون، و لذا صرح في المنتهى بضرب الإمام بقدرها كسائر الغرماء لو أفلس أو مات و كانت تركته قاصرة.

و لو لم يخلف شيئا لم يطالب وارثه، كما أنه لو مات قبل الدخول في الحول لم يؤخذ من تركته شي ء بل لو كان قد استسلفها الإمام عليه السلام منه ردها على وارثه، و المراد باستسلافها أخذ الإمام عليه السلام لها قبل زمان حلولها، و قد صرح غير واحد بجواز ذلك، و لكن الظاهر كون المراد مع التراضي، و إلا فللذمي الامتناع عن ذلك، إذ ليس عليه مع أداء الجزية شي ء كما صرح به غير واحد، بل هو ظاهر الكتاب و السنة، و لو استسلف الإمام (ع) ثم أسلم في أثناء الحول ففي المنتهى رد عليه قسط باقي الحول، قال: «و هل يرد لما مضى؟ الأقرب عدمه، و الفرق بين أن يؤخذ منه و أن لا يؤخذ منه ظاهر لتحقق الصغار للمسلم في الثاني دون الأول» و فيه أن المتجه الرد إن كان المراد

ج 21، ص: 261

بالاستسلاف الاستقراض إلى وقت استحقاقها، لسقوطها حينئذ بالإسلام فيبقى القرض على حاله، نعم لو أخذت جزية أمكن القول بعدم الرد مع أنه لا يخلو من نظر أو منع بعد ظهور عدم استحقاقها بالإسلام في الأثناء، فتأمل جيدا.

ثم لا فرق فيما ذكرناه من سقوطها بالإسلام بين أن يكون الداعي في إسلامه ذلك أولا، لإطلاق الأدلة المعتضد بحكمة وضعها، خلافا للشيخ في المحكي من تهذيبه فلم يسقطها في الأول، و لا ريب في ضعفه، و فرق واضح بين الفرض و بين إسلام الذمي الزاني بمسلمة، لإسقاط القتل عنه و يجوز أخذ الجزية من أثمان المحرمات كالخمر و الخنزير و غيرهما بلا خلاف معتد به أجده فيه، كما عن الحلي الاعتراف به، بل في المختلف نسبته إلى علمائنا مؤذنا بالإجماع عليه، و إن كان قد حكي فيه و في الدروس عن الإسكافي عدم الجواز في خصوص صورة الإحالة على مشتريها منهم، و لعله لعدم اعتنائه به بعد ظهور ضعفه بإطلاق الأدلة المقتضية إقرارهم على ما هم عليه، و منه الاستيفاء منهم من هذه الأمور كالبيع و الشراء معهم بأثمانها، فعليهم وزره و لنا حلال كما ذكره

الصادق عليه السلام في صحيح ابن مسلم (1)الذي رواه المشايخ الثلاثة «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن صدقات أهل الذمة و ما يؤخذ من جزيتهم من ثمن خمورهم و خنازيرهم و ميتتهم، قال: عليهم الجزية في أموالهم يؤخذ من ثمن لحم الخنزير أو خمر، فكل ما أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم، و ثمنه للمسلمين حلال يأخذونه في جزيتهم»

و في المقنعة

روى محمد بن مسلم (2)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنه


1- 1 الوسائل- الباب 70 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 70 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 262

سأله «عن خراج أهل الذمة و جزيتهم إذا أدوها من ثمن خمورهم و خنازيرهم و ميتتهم أ يحل للإمام عليه السلام أن يأخذها و يطيب ذلك للمسلمين؟ فقال: ذاك للإمام عليه السلام و للمسلمين حلال، و هي على أهل الذمة حرام، و هم المحتملون لوزره»

و في الدعائم (1)عن جعفر بن محمد عليهما السلام «أنه رخص في أخذ الجزية من أهل الذمة من ثمن الخمر و الخنازير، لأن أموالهم كذلك أكثرها من الحرام و الربا»

بل من التعليل يستفاد الاستدلال بإطلاق ما دل على أخذها من أموالهم التي هي غالبا كذلك، و لا فرق بين الحوالة به و غيره بعد الإطلاق، نعم لا يجوز أخذ أعيان المحرمات منهم في الجزية و لا في غيرها مما تكون المعاملة فيه معهم، لإطلاق ما دل على حرمتها على المسلم، كما هو واضح، هذا و قد صرح الفاضل و غيره بأنه يستحق الجزية من يستحق الغنيمة سواء، فهي للمجاهدين، بل في الدروس أن مصرفها عسكر المجاهدين و قد سمعت صحيح ابن أبي يعفور(2)و غيره، لكن الظاهر أن ذلك عند بسط اليد، أما اليوم فعن النهاية و السرائر لمن قام مقام المهاجرين في الدفع عن الإسلام، بل زاد في محكي السرائر و لمن يراه الإمام عليه السلام من الفقراء و المساكين من سائر المسلمين، و في القواعد هي للمجاهدين، و مع عدمهم لفقراء المسلمين، و نحوه عن أجوبة المهنا بن سنان له أيضا، و لعله لظهور الأدلة في أن مصرفها الآن مصرف خراج الأرض، بل الظاهر جواز أخذها لنا من يد الجائر على

نحو الخراج كما هو مقتضى السيرة المستمرة من الأعوام و العلماء، بل هو صريح


1- 1 المستدرك- الباب 58 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 69 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 263

النصوص (1)الواردة في ضيافة الرءوس و الأراضي، بل منها يستفاد جريان حكم الجزية على المأخوذ من يده بعنوانها كالمأخوذ بعنوان الخراج و الزكاة، و حينئذ يكون تقرير الجزية منه. كتقرير الإمام عليه السلام بالنسبة إلى ذلك نحو ضرب الخراج الصادر منه، بل قد سمعت قول الرضا عليه السلام (2)فيما وقع من صلح عمر لبني تغلب و أنه يجري عليه الحكم حتى يظهر الحق، بل يظهر منه بناء على أنه قد كان ذلك من عمر ابتداء أن عقد الذمة من الجائر كعقدها من الإمام عليه السلام و نائبه فضلا عن الجزية الموكولة في عقد الذمة إلى نظر الوالي في كل سنة على حسبما يراه من المصلحة كي يتحقق بذلك الصغار، كما سمعت الكلام فيه، و ما في بعض العبارات- من أن عقد الذمة للإمام عليه السلام و نائبه، لأنه مؤبد، فكان النظر إليه فيه، بل في المنتهى نفي الخلاف فيه- يراد منه عند بسط اليد لا مطلقا حتى يقتضي بطلان العقد معهم من الجائر و اتباعه، و حرمة أكل الجزية الحاصلة من عقده، فالتحقيق إجراء حكم عقد العادل على عقده، و حل الجزية المضروبة منه في كل سنة كالخراج، و إن كنت

لم أجد ذلك محررا في كلامهم نعم عن المجلسي «أن المشهور عدم تقدير جزية أهل الكتاب، بل ما يراه الإمام عليه السلام أو حاكم المسلمين صلاحا يقرره» و تسمع إن شاء اللَّه فيما يأتي عبارة الدروس.

و على كل حال فلو تمكن نائب الغيبة من عقده و من تقرير الجزية صح و جرى عليه حكم عقد الإمام عليه السلام، بل هو أولى من الجائر


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 196 و الوسائل- الباب 72 من أبواب جهاد العدو و الباب 54 من أبواب ما يكتسب به.
2- 2 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.

ج 21، ص: 264

بل لعل المراد بالنائب في كلامهم ما يشمله، و ربما تسمع لذلك تتمة إن شاء اللَّه، فمن الغريب بعد ذلك كله توقف الأردبيلي في حل الجزية من الجائر، و أغرب منه احتماله سقوطها عنهم في زمن الغيبة.

و لا تتداخل الجزية، فإذا اجتمعت عليه جزية سنتين مثلا استوفيت منه أجمع للأصل و غيره، خلافا لأبي حنيفة فتتداخل كالحدود و هو كما ترى، و أما المال الذي يقع عليه عقد الجزية فهو على حسب ما يراه الإمام عليه السلام من نقد أو عروض، فقد قبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله (1)من نصارى نجران الحلل، و أمر معاذ(2)أن يأخذ من كل حالم دينارا، و

عن علي عليه السلام (3)«أنه كان يأخذ الجزية من كل ذي صنعة من متاعه، فيأخذ من صاحب الإبر إبرا، و من صاحب المسال مسالا، و من

صاحب الحبال حبالا، ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب و الفضة فيقتسمونه، ثم يقول: خذوا فاقتسموا، فيقولون لا حاجة لنا فيه فيقول: أخذتم خياره و تركتم شراره لتحملنه»

و في الدعائم (4)عن علي عليه السلام «أنه رخص في أخذ العروض مكان الجزية بقيمة ذلك»

و فيها أيضا(5)عنه عليه السلام «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله قال: من وضع عن ذمي جزية أو شفع له في وضعها عنه فقد خان اللَّه و رسوله و جميع المؤمنين»

و اللَّه العالم.


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 187 و 195.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 193.
3- 3 كنز العمال ج 2 ص 302 الرقم 1337.
4- 4 المستدرك- الباب 56 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
5- 5 المستدرك- الباب 56 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 265

[الأمر الثالث في شرائط الذمة]
اشاره

الأمر الثالث في شرائط الذمة، و هي ستة على ما ذكرها المصنف هنا، و في النافع خمسة بترك الثاني، بل عن كثير تركه، و لكن لعله لأنه من مقتضيات العقد، و لذا لم يجب اشتراطه، و الأول فيه كما صرح به في المنتهى و غيره، و في الدروس «شرائط الذمة قبول الجزية بحسب ما يراه الإمام عليه السلام على الرءوس أو الأرضين أو عليهما على الأقوى، و التزام أحكام الإسلام، و أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان كمعاونة الكفار و إيواء عينهم، و أن لا يتجاهروا بالمحرمات في شريعة الإسلام كأكل لحم الخنزير و شرب الخمر و أكل الربا و نكاح المحارم، فيخرجون عن الذمة بترك هذه أو بعضها، و أن يعطوا الجزية عن يد و هم

صاغرون- إلى أن قال-: و يمنعون من أن يحدثوا كنيسة أو بيعة أو يضربوا ناقوسا أو يطيلوا بناء على جارهم المسلم أو يساووه، بل ينخفضون عنه، فرع لو كانت دار جاره سردابا لم يلزم بمثله، و لو كانت داره على نشر لا يمكن الانتفاع بها إلا بالعلو على المسلم فالأقرب جوازه، و يقتصر على أقل من بنيان المسلم، و لو انعكس جاز له أن يقارب دار المسلم في العلو و إن أدى إلى الإفراط في الارتفاع» و نحوه في الشرائط في اللمعة، و ظاهره أنها أجمع شرائط في صحة عقد الذمة على معنى عدم جواز عقدها بدون ذلك، و سيظهر لك ما فيه كغيره ممن ذكر نحوه و في المنتهى «لا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين أحدهما أن يلتزموا إعطاء الجزية، و الثاني التزام أحكام الإسلام على معنى وجوب القبول لما يحكم به المسلمون من أداء حق أو ترك محرم- إلى أن قال- و لا نعلم في ذلك خلافا- ثم قال أيضا-: جملة ما يشترط على أهل الذمة ينقسم ستة أقسام أحدها ما يجب شرطه و لا يجوز تركه، و هو أمران: أحدهما ثبوت الجزية عليهم، و الثاني التزام أحكام الإسلام

ج 21، ص: 266

و لا بد من ذكر هذين الأمرين معا لفظا و نطقا، و لا يجوز الإخلال بهما و لا بأحدهما، فإن أغفل أحدهما لم تنعقد الجزية، و لا نعلم فيه خلافا- إلى أن قال-: الثاني ما لا يجب شرطه؛ لكن الإطلاق يقتضيه، و هو أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان من العزم على حرب المسلمين و إمداد المشركين بالمعاونة لهم على حرب المسلمين، لأن إطلاق الأمان يقتضي ذلك، فإذا فعلوه نقضوا الأمان، لأنهم إذا قاتلونا وجب علينا قتالهم و هو ضد الأمان، و هذان القسمان ينتقض العهد بمخالفتهما سواء شرط ذلك في العقد أو لم يشترط، الثالث ما ينبغي اشتراطه مما يجب عليهم الكف عنه، و هو سبعة أشياء: ترك الزنا بالمسلمة و عدم إصابتها باسم النكاح، و أن لا يفتنوا مسلما عن دينه، و لا يقطع عليه الطريق، و لا يؤوي للمشركين عينا، و لا يعين على المسلم بدلالة أو بكتبة كتاب إلى أهل الحرب بأخبار المسلمين و يطلعهم على عوراتهم، و لا يقتلوا مسلما و لا مسلمة، فإن فعلوا شيئا من ذلك و كان تركه مشروطا في العقد نقضوا العهد، و إلا فلا- إلى أن قال- الرابع ما فيه غضاضة على المسلمين، و هو ذكر ربهم أو كتابهم أو نبيهم أو دينهم بسوء، فلا يخلو إما أن ينالوا بالسب أو بدونه، فإن سبوا اللَّه تعالى أو رسوله صلى اللَّه عليه و آله وجب قتلهم، و كان ذلك نقضا للعهد، قاله الشيخ رحمه اللَّه و إن ذكروهما بما دون أو ذكروا دين الإسلام أو كتاب اللَّه بما لا ينبغي فإن كان قد شرط عليهم الكف عن ذلك كان ذلك نقضا للعهد، و إلا فلا- إلى أن قال-: الخامس ما يتضمن المنكر و لا ضرر على المشركين فيه، و هو أن لا يحدثوا كنيسة و لا بيعة في دار الإسلام، و لا يرفعوا أصواتهم بكتبهم، و لا يضربوا الناقوس، و لا يطيلوا أبنيتهم على بناء المسلمين، و أن لا يظهروا الخمر و الخنزير في دار الإسلام، فهذا كله

ج 21، ص: 267

يجب عليهم الكف عنه سواء شرط عليهم أو لم يشترط، فإن عقد الذمة يقتضيه، فإن خالفوا ذلك لم يخل إما أن يكون مشروطا عليهم أو لم يكن، فإن كان مشروطا عليهم انتقض ذمامهم، و إن لم يكن مشروطا عليهم لم ينتقض ذمامهم، بل يجب عليهم بما يقابل جنايتهم من حد أو تعزير، و قال الشيخ رحمه اللَّه لا يكون نقضا للعهد سواء شرط عليهم أو لم يكن، و به قال الشافعي- إلى أن قال-: السادس التميز عن المسلمين و ينبغي للإمام عليه السلام أن يشترط عليهم في عقد الذمة التميز عن المسلمين في أربعة أشياء: في لباسهم و شعورهم و ركوبهم و كناهم» إلى آخره.

و أما المصنف فبعد أن ذكر أنها ستة و في بعض النسخ سبعة قال:

[الأول قبول الجزية]

الأول قبول الجزية،

[الثاني أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان ]

الثاني أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين و إمداد المشركين، و يخرجون عن الذمة بمخالفة هذين الشرطين بلا خلاف أجده فيهما كما سمعت الاعتراف به في أولهما الذي هو مقتضى قوله تعالى (1)«حَتَّى

يُعْطُوا الْجِزْيَةَ» و وصية النبي صلى اللَّه عليه و آله (2)لأمراء السرايا بطلب الجزية منهم، فإن أجابوا و إلا فنابذوهم، و

قول الصادق عليه السلام في خبر غياث (3)المنجبر بما عرفت «و لو منع الرجال فأبوا أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد و حلت دماؤهم و قتلهم»

و أما الثاني فقد سمعت ما في المنتهى من الاستدلال عليه و أنه مقتضى الأمان، و لعله لذا لم يذكره كثير منهم


1- 1 سورة التوبة- الآية 29.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 184.
3- 3 الوسائل- الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 عن حفص بن غياث.

ج 21، ص: 268

المصنف في النافع كما سمعت الكلام فيه.

[الثالث أن لا يؤذوا المسلمين ]

الثالث أن لا يؤذوا المسلمين كالزنا بنسائهم و اللواط بصبيانهم و السرقة لأموالهم و إيواء عين المشركين و التجسس لهم، فإن فعلوا شيئا و كان تركه مشترطا في الهدنة كان نقضا، و إن لم يكن مشترطا كانوا على عهدهم، و فعل بهم ما تقتضيه جنايتهم من حد أو تعزير كما صرح بذلك غير واحد، بل صرح بعضهم بعدم لزوم ذكر هذا الشرط في عقد الذمة، و أنه مما ينبغي للإمام عليه السلام اشتراطه، بل قد سمعت تصريح الدروس بانتقاض العهد به و إن لم يشترط كما هو ظاهر اللمعة، بل هو ظاهر النافع أيضا، و فيه أنه ليس في شي ء من الأدلة اعتبار ذلك في عقد الذمة، بل مقتضى الإطلاق خلافه، نعم لو اشترط

فيه نقض بلا خلاف، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، بل في بعض الكتب دعواه، و هو إن تم الحجة لا ما قيل من كونه مقتضى الشرطية التي لم يقع التراضي إلا عليها، إذ قد يقال إن مقتضى الشرطية إلزامهم به إن لم يفوا به كما في غيره من العقود لا انتقاض العهد به، إلا أن الظاهر كون عقد الذمة ليس كغيره من العقود التي لا تقبل التعليق، بل هو ضرب من العهد، فيجوز حينئذ تعليق الأمان و الذمة على ذلك كالوصية العهدية و الأمارة و نحوهما، و حينئذ يتجه الحكم بالنقض مع فرض وقوع العقد على هذا الوجه، و على كل حال لا وجه لذكر ذلك شرطا من شرائط الذمة، إذ هو حينئذ على ما عرفت مما يصح اشتراطه في عقدها كغيره من الشرائط، لا أنه من شرائط صحة عقدها على معنى عدم جواز عقدها بدونه، و اللَّه العالم.

و لو سبوا النبي صلى اللَّه عليه و آله قتل الساب كغيرهم من الناس بلا خلاف، بل الإجماع بقسميه عليه، بل عن الغنية دعواه

ج 21، ص: 269

عليه لكل من سمعه من غير توقف على إذن الإمام عليه السلام، و يشهد له بعض النصوص (1)كما أشبعنا الكلام فيه و في سب باقي الأنبياء و الملائكة و الأئمّة عليهم السلام و فاطمة عليها السلام في كتاب الحدود، فلاحظ، إنما الكلام في نقض العهد به هنا، فعن المبسوط و غيره النقض و إن لم يشترط في عقد الذمة، بل

في محكي الغنية الإجماع عليه، و هو حسن إن كان المراد به بالنسبة إلى قتله الذي كان مقتضى عقد الذمة خلافه، أما جريان باقي أحكام النقض عليه بالنسبة إلى ماله و ولده مع عدم اشتراطه فهو مشكل إن لم يكن إجماع لعدم الدليل، بل الأصل و الإطلاق يدلان على عدمه، و لعله لذا نسبه في المنتهى إلى قول الشيخ مشعرا بنوع توقف فيه، و اللَّه العالم.

و لو نالوه بما دونه أي السب عزروا إذا لم يكن شرط عليهم الكف عنه و إلا انتقض عهدهم كما عن صريح المبسوط عملا بمقتضى الشرط، أما مع عدم الشرط فربما ظهر من بعض الانتقاض أيضا، و فيه الإشكال السابق إن لم يكن إجماع، و كذا الكلام في غيره مما فيه غضاضة على المسلمين على حسبما سمعته من المنتهى، و على كل حال فظاهرهم أيضا عدم وجوب ذكر هذا الشرط في عقد الذمة، فلا يبطل حينئذ بعدمه، للأصل و الإطلاق و غيرهما، و منه ينقدح الإشكال على من ذكره في جملة الشرائط، و اللَّه العالم.

[الرابع أن لا يتظاهروا بالمناكير]

الرابع أن لا يتظاهروا بالمناكير عندنا كشرب الخمر و الزنا و أكل لحم الخنزير و نكاح المحرمات و نحوها و إن كانت جائزة في شرعهم و لو تظاهروا بذلك نقض العهد و إن لم يذكر اشتراطه في


1- 1 الوسائل- الباب 3 من أبواب حد المرتد- الحديث 1 من كتاب الحدود.

ج 21، ص: 270

عقد الذمة كما هو ظاهر النافع و اللمعة و النهاية و السرائر على ما حكي عن بعضها، بل عن الأخير دعوى الإجماع عليه، بل هو صريح المحكي عن الغنية، و لعله ل

صحيح زرارة(1)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله قبل الجزية من أهل الجزية على أن لا يأكلوا الربا و لا يأكلوا لحم الخنزير و لا ينكحوا الأخوات و لا بنات الأخ، فمن فعل ذلك منهم برئت ذمة اللَّه تعالى و رسوله صلى اللَّه عليه و آله منه، و قال أيضا ليست لهم اليوم ذمة»

الظاهر في اعتبار ذلك في أصل عقد الذمة، و لذا قال في محكي الغنية و السرائر: روى أصحابنا أنهم متى تظاهروا في شرب الخمر و أكل لحم الخنزير و نكاح المحرمات في شرعنا و الربا نقضوا بذلك العهد.

و لكن مع ذلك قيل و القائل الشيخ في محكي المبسوط و ظاهر الخلاف لا ينقض و إن اشترط عليهم بل عقد الذمة يقتضيه، و لكن يفعل معهم ما يوجبه شرع الإسلام من حد أو تعزير و لا يخفى عليك ضعفه بعد ما عرفت، كضعف ما سمعته من المنتهى من التفصيل بين الاشتراط فينتقض، و عدمه فلا ينتقض، كالمحكي عن التحرير و التذكرة ضرورة أنه لو سلم عدم ظهور الصحيح في غير صورة الشرط كما زعمه بعض الناس فالإجماع المحكي المعتضد بفتوى من عرفت كاف، كما هو واضح.

[الخامس أن لا يحدثوا كنيسة و لا يضربوا ناقوسا و لا يطيلوا بناء و يعزرون لو خالفوا]

الخامس أن لا يحدثوا كنيسة و لا يضربوا ناقوسا و لا يطيلوا بناء و يعزرون لو خالفوا كما صرح بذلك غير واحد، بل يظهر من بعضهم المفروغية منه، بل عن الغنية الإجماع على النقض به و إن لم يشترط، فإن تم ذلك كان هو الحجة، و إلا كان مقتضى الأصل و الإطلاق


1- 1 الوسائل- الباب 48 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 271

جواز ما كان جائزا في شرعهم الذي أمرنا بإقرارهم عليه بل عقد الذمة يقتضيه و على كل حال فقد صرح غير واحد بأنه لو كان تركه مشترطا في العهد انتقض و إلا لم ينتقض، و لكن قد سمعت ما عن الغنية من الإجماع على النقض مطلقا إلا أن قطع الأصل و الإطلاق بمثله- بعد إعراض الأكثر عنه، بل لم نجد من وافقه عليه- مشكل أو ممنوع، نعم يمكن تحصيل الإجماع على النقض في صورة الشرط و إلا كان فيه الإشكال السابق إلا على الوجه الذي ذكرناه، و اللَّه العالم

[السادس أن تجرى عليهم أحكام المسلمين ]

السادس أن تجرى عليهم أحكام المسلمين على معنى وجوب قبولهم لما يحكم به المسلمون عليهم من أداء حق أو ترك محرم بلا خلاف أجده كما سمعته من المنتهى، ضرورة كونه الصغار أو منه الذي لا إشكال و لا خلاف في اعتباره في الذمة بنص الكتاب (1)و لذا صرح غير واحد بالانتقاض بالمخالفة و إن لم يشترط، بل لا أجد فيه خلافا بينهم، و بذلك كله ظهر لك الحال فيما ينبغي اشتراطه في الذمة، و هو ما استفيد من الآية من إعطاء الجزية صاغرا، بل ينبغي اعتبار كونها عن يد و إن لم أجد من صرح به، و ما استفيد من صحيح زرارة(2)و ما يقتضيه إطلاق الأمان، و أما غير ذلك فمدار وجوبها و النقض بها على الاشتراط في عقد الذمة على وجه يحصل النقض بعدمه كما قدمنا الكلام فيه، و إلى ذلك يرجع ما في المسالك و حاشية الكركي و إن كان لا يخلو أيضا من شي ء، و حينئذ فالأولان و الرابع و السادس شرائط الذمة، و أما الشرائط فيها فهي على حسب ما يقع من العاقد، و من هنا يشكل الحكم بانتقاض العهد في أهل الذمة الآن بمخالفة بعض الأمور


1- 1 سورة التوبة- الآية 29.
2- 2 الوسائل- الباب 48 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 272

التي لم يعلم اشتراطها عليهم حين العقد معهم على وجه يقتضي النقض اللَّهمّ إلا أن يكون ذلك محفوظا للمسلمين، و لم نتحققه، بل لعل السيرة على خلافه، و إن كان يمكن كون ذلك لتقويهم بحكام الجور، إلا أن الإنصاف عدم العلم بكيفية وقوع العقد معهم، و أنه كان على وجه تبرأ الذمة منهم لو خالفوا شيئا منها أو كان على إرادة الإلزام لهم بهذه الأمور و إن لم ينتقض العهد بالمخالفة، فلا يجوز حينئذ التعرض بإجراء حكم الحرب عليهم

بمجرد الاحتمال بعد معلومية حصول الذمة، مع أن الأصل عدم الشرط على هذا الوجه، نعم يخرجون عن الذمة بمخالفة تلك الشرائط التي قد عرفت اعتبارها في الذمة دون غيرها، و دعوى استفادة ذلك مما عرفت من أن الأولى للإمام عليه السلام ذكر الشرائط المزبورة بضميمة أن النبي صلى اللَّه عليه و آله و الإمام من بعده لا يتركون الأولى يدفعها أن المصلحة في ذلك الوقت غير معلومة لدينا، فربما تكون تقتضي ذلك، و ربما لا تكون، و ربما كانت في بعضهم كذلك و لكن لم يعرفوا، و منه يعلم الحال فيما في جملة من العبارات من الإجمال حتى المتن.

نعم ينبغي أن يشترط عليهم في عقد الذمة كلما فيه نفع و رفعة للمسلمين وضعة لهم و ما يقتضي دخولهم في الإسلام من جهته رغبة أو رهبة، بل ينبغي للإمام عليه السلام كما سمعته من المنتهى اشتراط التميز عن المسلمين في اللباس و الشعور و الركوب و الكنى، أما اللباس بأن يلبسوا ما يخالف لونه سائر الثياب كالعسلي لليهود و الدكني للنصارى و لكن يكفي في ذلك ثوب واحد، و بشد الزنار للنصارى، و بخرقة فوق العمامة أو نحوها لغيرهم، و يجوز أن يلبسوا العمامة و الطيلسان، و إن

ج 21، ص: 273

لبسوا قلانس شدوا في رأسها علما لتخالف قلانس القضاة، و ينبغي أن يختم في رقبته خاتم رصاص أو نحاس أو حديد أو يضع فيه جلجلا أو جرسا ليمتاز به عن المسلمين في الحمام، و كذلك يأمرون نساءهم بلبس شي ء يفرق بينهن و بين المسلمات من شد الزنار تحت الأزرار و يختم في رقابهن، و تغيير أحد الخفين بأن يكون أحدهما أحمر و الآخر أبيض و لا يمنعون من لبس فاخر الثياب بعد حصول التمييز، و أما الشعور فلا يفرقونها، فإن النبي صلى اللَّه عليه و آله (1)فرق شعره، و يحذفون مقاديم الرءوس، و يجزون شعورهم، و أما الركوب فلا يركبون الخيل لأنها عز، و يركبون ما سواها بغير سرج، و يركبون عرضا رجلاه إلى جانب و ظهره إلى جانب و يمنعون تقليد السيوف و حمل السلاح و اتخاذه و أما الكنى فلا يتكنوا بكنى المسلمين كأبي محمد و أبي عبد اللَّه و أبي القاسم و أبي الحسن و أشباهها، بل ينبغي للإمام عليه السلام أيضا اشتراط عدم علو دورهم على دور المسلمين بل عدم مساواتها.

بل ينبغي له إلزامهم بما ألزم به بعضهم أنفسهم، فقد

روي «أنه كتب أهل الجزيرة من أهل الكتاب في زمن عمر إلى عبد الرحمن بن عتم أنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا و أهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة و لا فيما حولها ديرا و لا قلابة و لا صومعة راهب، و لا نجدد ما خرب من كنائسنا، و لا ما كان منها في خطط المسلمين، و لا نمنع كنائسنا من المسلمين أن

ينزلوها في الليل و النهار، و أن توسع أبوابها للمارة و ابن السبيل، و لا نؤوي فيها و لا في منازلنا جاسوسا، و أن لا


1- 1 الوسائل- الباب 62 من أبواب آداب الحمام الحديث 5.

ج 21، ص: 274

نكتم أمر من غشي المسلمين، و أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا، و لا نظهر عليها صليبا، و لا نرفع أصواتنا في الصلاة و لا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، و لا نخرج صليبنا و لا كتبنا في سوق المسلمين، و لا نخرج بأعيادنا و لا سعانينا، و لا نرفع أصواتنا مع أمواتنا، و لا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، و أن لا نجاورهم بالخنازير، و لا نبيع الخمور، و لا نظهر شركا و لا ترغيبا في ديننا، و لا ندعو إليه أحدا، و لا نتخذ شيئا من الرقيق الذي ضربت عليهم سهام المسلمين، و أن لا نمنع أحدا من أقربائنا إذا أراد الدخول في الإسلام، و أن نلزم زينا حيثما كنا، و أن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة و لا عمامة و لا نعلين و لا فرق شعر و لا في مراكبهم، و لا نتكلم بكلامهم، و أن لا نتكنى بكناهم، و أن نجز مقاديم رءوسنا، و لا نفرق نواصينا، و نشد الزنانير على أوساطنا، و لا ننقش خواتيمنا بالعربية، و لا نترك الروح، و لا نتخذ شيئا من السلاح و لا نحمله و لا نتقلد السيوف، و أن نوقر المسلمين في مجالسهم، و نرشد الطريق، و نقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس، و لا نطلع عليهم في منازلهم، و لا نعلم أولادنا القرآن، و لا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة، و أن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام و أن نطعمه من أوسط ما نجد ضمنا ذلك على أنفسنا و ذرارينا و أزواجنا و مساكننا، و إن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا و قبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، و قد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة و الشقاق، فكتب بذلك عبد الرحمن بن عتم إلى عمر بن الخطاب، فكتب له عمر أن أمض لهم ما سألوا و ألحق فيه حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم: أن لا يشتروا من سبايانا شيئا، و من

ج 21، ص: 275

حارب مسلما عمدا فقد خلع عهده، فأنفذ عبد الرحمن بن عتم ذلك و أقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط».

و عن ابن الجنيد و أختار أن يشترط عليهم عند عقد الذمة لهم أن لا يظهروا سبا لسيدنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و لا أحد من أنبياء اللَّه و ملائكته و لا سب أحد من المسلمين، و لا يطعنوا في شي ء من الشرائع التي رسمها أحد من الأنبياء، و لا يظهروا شركهم في عيسى و العزير، و لا يرعون خنزيرا في شي ء من أمصار المسلمين، و لا يمثلوا ببهيمة و لا يذبحوها إلا من حيث نص لهم في كتبهم على مذبحها، و لا يقربوها لصنم و لا لشي ء من المخلوقات، و لا يربوا مسلما و لا يعاملوه في بيع و لا إجارة و لا مساقاة و لا مزارعة معاملة لا تجوز للمسلمين، و لا يسقوا مسلما خمرا، و لا يطعموه محرما، و لا يقاتلوا مسلما، و لا يعاونوا باغيا و لا ينقلوا أخبار المسلمين إلى أعدائهم، و لا يدلوا على عوراتهم، و لا يحيوا من بلاد المسلمين شيئا إلا بإذن واليهم، فإن فعلوا كان للوالي إخراجه من أيديهم، و لا ينكحوا مسلمة بعقد و لا غيره، و يشترط عليهم أيضا كل ما قلنا إنه ليس بجائز لهم فعله، كدخول الحرم و سكنى الحجاز و غيره، ثم يقال فمن فعل شيئا من ذلك فقد نقض عهده و أحل دمه و ماله و برئت منه ذمة اللَّه و رسوله صلى اللَّه عليه و آله و المؤمنين، و قد سمعت ما عن (1)أمير المؤمنين عليه السلام في بني تغلب.

و أنه من جملة الشرائط عليهم أن لا يهودوا أولادهم،

و قال الصادق عليه السلام في خبر فضل بن عثمان الأعور(2)«ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه اللذان يهودانه و ينصرانه و يمجسانه،


1- 1 كنز العمال ج 2 ص 304 الرقم 6356.
2- 2 الوسائل- الباب 48 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 276

و إنما أعطى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله الذمة و قبل الجزية عن رءوس أولئك بأعيانهم على

أن لا يهودوا أولادهم و لا ينصروا، و أما أولاد أهل الذمة اليوم فلا ذمة لهم»

و عن العلل (1)روايته أيضا إلا أنه قال:

«فأما الأولاد و أهل الذمة اليوم فلا ذمة لهم»

و لكن لم أجد عاملا بما في ذيله، بل لعل ظاهر نصوص (2)ضمان الرءوس و السيرة على خلافه، هذا، و قد ذكرنا سابقا الكلام في العاقد للذمة، و قد عرفت أنه في زمان بسط اليد للإمام عليه السلام و نائبه الخاص، أما في زمان قصورها فنائب الغيبة، بل و الجائر للسيرة، و ما تقدم (3)عن الرضا عليه السلام من إمضاء صلح عمر لبني تغلب إلى أن يظهر الحق، و لعله لذا قال في الدروس و في زمن الغيبة يجب إقرارهم على ما أقرهم عليه ذو الشوكة من المسلمين كغيرهم، بل مقتضاه صحة ذلك و إن أخل بما هو كالركن لعقد الذمة، و هو الجزية و الصغار و نحوهما مما عرفت، إلا أن الذي يظهر من الأصحاب فساد عقد الذمة بما سمعت لو وقع من أحد من غير فرق بين هذا الزمان و غيره، اللَّهمّ إلا أن يكون من الجائر و قلنا باعتبار ما يقع منه و إن خالف الحق كما عساه يظهر مما سمعته من الدروس، إلا أنه كما ترى، نعم هو كذلك من حيث التقية الضررية لا الدينية، فتأمل جيدا، و اللَّه العالم.

[هاهنا مسائل ]
اشاره

و كيف كان ف هاهنا مسائل:

[المسألة الأولى إذا خرقوا الذمة في دار الإسلام كان للإمام عليه السلام ردهم إلى مأمنهم ]

الأولى إذا خرقوا الذمة في دار الإسلام ففي القواعد و محكي المبسوط كان للإمام عليه السلام ردهم إلى مأمنهم بل عن الإيضاح عدم الخلاف فيه و هل له قتلهم


1- 1 الوسائل- الباب 48 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
2- 2 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو.
3- 3 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.

ج 21، ص: 277

و استرقاقهم و مفاداتهم؟ قيل و القائل الشيخ في محكي المبسوط نعم هو مخير بين ذلك و بين الرد و لكن فيه تردد من الدخول بالأمان المانع من الاغتيال كما سمعته في كل حربي دخل دار الإسلام بأمان فضلا عن الذمة، و من كون ذلك قد نشأ منهم و الفرض أنه قد تقدم إليهم بذلك متى نقضوا فليس فيه اغتيال و لا خيانة، فيجري عليهم حينئذ حكم أهل الحرب، و لعله الأقوى كما في المنتهى و المسالك و حاشية الكركي و محكي التذكرة، بل عن الغنية الإجماع عليه، قال:

و متى أخلوا بشي ء منها أي الشرائط صارت دماؤهم هدرا و أموالهم و أهاليهم فيئا للمسلمين بدليل الإجماع المشار إليه، و منه حينئذ يشكل الحكم بجواز الرد إلى المأمن الذي قد عرفت دعوى الفخر نفي الخلاف فيه، ضرورة اندراجهم في أهل الحرب المأمورين بقتلهم و سبيهم و نهبهم كتابا و سنة و إجماعا بقسميه، نعم الظاهر اختصاص ذلك بخصوص الخارق دون غيره، بل قد يشكل جريان الحكم على ماله و أهله بناء على ما سمعته سابقا باحترام مال المستأمن و إن لحق بدار الحرب، اللَّهمّ إلا أن يقال إن أمان أهله و ذريته و ماله تبع لأمانه، و الفرض انتقاضه على وجه لا يجب معه علينا الرد إلى المأمن، لكون النقض من قبله، و خصوصا إذا كان قد اشترط عليه مع ذلك، فلعل الأقوى حينئذ انتقاض الأمان في توابعه، فتسبى نساؤه، و تسترق ذريته، و يتخير فيه الإمام عليه السلام بين القتل و المن و الاسترقاق و الفداء على حسبما سمعته في الأسير بعد وضع الْحَرْبُ أَوْزارَها، و اللَّه العالم.

[المسألة الثانية إذا أسلم الذمي بعد خرق الذمة قبل الحكم فيه سقط الجميع ]

المسألة الثانية إذا أسلم الذمي بعد خرق الذمة قبل الحكم فيه سقط الجميع أي القتل و الاسترقاق و المفاداة و غيرها أيضا مما كان عليه حال الكفر عدا القود و الحد مع فعل موجبهما

ج 21، ص: 278

و استعادة ما أخذه من المال كما في المنتهى و محكي التذكرة، بل عن المبسوط سقوط الأخير من المستثنى، لكن قال: إن أصحابنا رووا أن إسلامه لا يسقط عنه الحد، و ظاهره شهرة الرواية أو الإجماع عليها فلا تحتاج حينئذ إلى جابر في إثبات الحد الذي من فحواه يستفاد حكم الأخيرين أيضا، أو من عدم القول بالفصل، مضافا إلى الأصل المقتضي كونها كالدين الذين لا يسقط بالإسلام، و حينئذ فخبر الجب (1)مخصوص بذلك بناء على شموله لها، فتأمل.

و لو أسلم بعد الاسترقاق أو المفاداة لم يرتفع ذلك عنه بلا خلاف أجده فيه، بل و لا إشكال، للأصل، و اللَّه العالم.

[المسألة الثالثة إذا مات الإمام عليه السلام و قد ضرب لما قدره من الجزية أمدا معينا أو اشترط الدوام وجب على القائم بعده إمضاء ذلك ]

المسألة الثالثة إذا مات الإمام عليه السلام و قد ضرب لما قدره من الجزية أمدا معينا أو اشترط الدوام وجب على الإمام عليه السلام القائم بعده إمضاء ذلك كما صرح به غير واحد، بل في المنتهى نفى الخلاف فيه عنه، بل في محكي التذكرة الإجماع عليه، و هو كذلك ضرورة كون ذلك مقتضى وجوب الطاعة و الامتثال لمن عصمه اللَّه تعالى من الزلل و آمنه من الخطأ و من النطق عن الهوى و جعل أمره أمره و حكمه حكمه و إن أطلق الأول كان للثاني تغييره على حسبما يراه صلاحا بلا خلاف أيضا بل و لا إشكال، ضرورة عدم كونه مخالفة للأول، فيبقى حينئذ ما دل على وجوب مراعاته المصلحة على حاله، و لعله لذا ضرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله الجزية دينارا(2)


1- 1 المستدرك- الباب 15 من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث 2 و الخصائص الكبرى- ج 1 ص 249 و كنز العمال ج 1 ص 17 الرقم 243 و جامع الصغير ج 1 ص 123.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 193.

ج 21، ص: 279

و أمير المؤمنين عليه السلام خمسة و أربعين و أربعة و عشرين و اثنا عشر(1)كما عرفته سابقا، و اللَّه العالم.

و يكره أن يبدأ الذمي بالسلام على المشهور كما في المسالك للنهي عنه في

النبوي (2)المحمول عليها «لا تبدءوا اليهود و النصارى بالسلام و إذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها»

و في آخر «إنا غادون غدا فلا تبدءوهم بالسلام، و إن سلموا عليكم فقولوا و عليكم»

و في الدعائم (3)عن علي عليه السلام «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله نهى أن يبدءوهم بالسلام، فإن بدءوا قيل لهم و عليكم»

لكن عن ظاهر التذكرة التحريم، بل في المسالك النهي المطلق (4)في الأخبار يدل عليه، و هو كذلك لو كان بسند معتبر، و لم تكن شهرة على إرادة الكراهة منه، و لو بدأ الذمي به اقتصر في الجواب على قول و عليكم كما سمعت من النبي صلى اللَّه عليه و آله، و في محكي التذكرة يرد بغير السلام بأن يقول: هداك اللَّه أو أنعم اللَّه صباحك أو أطال اللَّه بقاك و لو رد بالسلام اقتصر على قول و عليك، و فيه بحث يعرف من الكلام في التحية في كتاب الصلاة، فلاحظ، و منه يعلم الحال فيما لو أكمل الجواب بالسلام الذي استظهر هنا كراهته في المسالك بناء


1- 1 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 5 و 8 و فيه أنه عليه السلام جعل على المرتبة الأولى ثمانية و أربعين.
2- 2 كنز العمال- ج 5 ص 30 الرقم 702.
3- 3 المستدرك- الباب 43 من أبواب أحكام العشرة الحديث 4 من كتاب الحج.
4- 4 الوسائل- الباب 49 من أبواب أحكام العشرة.

ج 21، ص: 280

على عدم القول بتحريمه ابتداء، و كذا ما فيها أيضا من أنه لو اضطر المسلم إليه لكونه طبيبا يحتاج إليه و نحو ذلك لم يكره له السلام عليه و لا الدعاء له، ل

صحيح عبد الرحمن (1)عن الكاظم عليه السلام، و فيه «أنه لا ينفعه دعاؤك»

ثم قال: و أما السلام على باقي الملل و الرد عليهم فلم يتعرضوا له، و الظاهر تحريمه مع عدم الضرورة، و ينبغي أن يقول عند ملاقاتهم السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى كما فعله النبي صلى اللَّه عليه و آله (2)بمشركي قريش، و فيه أيضا بحث يعرف مما هناك أيضا.

و مما سمعته في النبوي يعلم الوجه فيما ذكره المصنف و غيره من أنه يستحب أن يضطره إلى أضيق الطرق على معنى منعهم عن جادة الطريق إذا اجتمعوا هم و المسلمون فيه و اضطرارهم إلى طرفه الضيق و في الدروس استحباب التضييق و المنع من الجادة، نعم كما في المسالك ليكن التضييق عليهم بحيث لا يقفون به في وهدة و لا يصدمون جدارا و لو خلت الطريق من مرور المسلمين فلا بأس بسلوكهم حيث شاءوا، و في الدروس و يكره مصافحته أيضا، فإن فعل فمن وراء الثياب، و لا بأس به، و اللَّه العالم.

[الأمر الرابع في حكم الأبنية]

الأمر الرابع في حكم الأبنية و النظر في الكنائس و المساكن و المساجد، لا يجوز استئناف أهل الكتاب المعابد ك البيع و الكنائس و الصوامع و بيوت النيران و غيرها في بلاد الإسلام مع اشتراط ذلك في ذمتهم، ضرورة بطلان عباداتهم، فهي بيوت ضلال حينئذ، بل لعل


1- 1 الوسائل- الباب 53 من أبواب أحكام العشرة الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 49 من أبواب أحكام العشرة الحديث 8.

ج 21، ص: 281

في الإذن لهم به إعانة على الإثم و لو استجدت وجب إزالتها على الوالي سواء كان البلد مما استجده المسلمون و أحدثوه كالبصرة و بغداد و كوفة و بسرّمن رأى و جملة من بلاد الجزائر و نحوها مما مصرها المسلمون أو فتح عنوة أو صلحا على أن تكون الأرض للمسلمين إذ هي على كل حال ملك للمسلمين، بل في المنتهى نفي الخلاف عن ذلك في الأول، بل عن التذكرة و التحرير و غيرهما الإجماع عليه، بل في محكي السرائر لا يجوز للإمام أن يقرهم على إنشاء البيعة أو الكنيسة أو صومعة الراهب أو مجتمع صلاتهم، و أنهم إن صالحهم على ذلك بطل الصلح بلا خلاف، و هو الحجة بعد ما

في الدعائم (1)عن علي عليه السلام «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله نهى عن إحداث الكنائس في دار الإسلام»

و عن ابن عباس (2)الذي من عادته الرواية عن النبي صلى اللَّه عليه و آله «أيما مصر مصره

العرب فليس لأحد من أهل الذمة أن يبني فيه بيعة، و ما كان قبل ذلك فحق على المسلمين أن يقر لهم»

و في آخر(3)«أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة و لا يضربوا فيه ناقوسا، و لا يشربوا فيه خمرا، و لا يتخذوا فيه خنزيرا»

إلى غير ذلك مما يدل على الحكم المزبور و لو بضميمة الإجماع المذكور، نعم في المنتهى و المسالك و محكي التذكرة من غير نقل خلاف أن ما وجد من الكنائس و البيع في هذه البلاد مثل كنيسة الروم في بغداد فإنها كانت في قرى لأهل الذمة أقرت على حالها، و كذا الكلام في الثاني الذي قد صارت للمسلمين بالفتح أيضا، بل في المسالك نفي الخلاف


1- 1 دعائم الإسلام ج 1 ص 381 المطبوعة عام 1383.
2- 2 كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 97 الرقم 269.
3- 3 الخراج لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم ص 149.

ج 21، ص: 282

عن عدم جواز الإحداث فيه و هو الحجة إن أريد به الإجماع بعد الخبر المنجبر بما عرفت، ضرورة صدق بلاد الإسلام على مثله.

نعم لا بأس بما كان قبل الفتح و لم يهدمه المسلمون، فإن المشهور كما في المسالك جواز إقرارهم عليه، كالمحكي عن أحد قولي الشافعي، لما سمعته من المروي عن ابن عباس، بل في المنتهى الاستدلال عليه

بآخر(1)عنه أيضا «أيما مصر مصرته العجم ففتحه اللَّه على العرب فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم»

و بأن الصحابة فتحوا كثيرا من البلاد عنوة و لم يهدموا شيئا من الكنائس، و كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن لا تهدموا بيعة و لا كنيسة و لا بيت نار، و بحصول الإجماع فإنها موجودة في بلاد الإسلام من غير نكير، لكن عن الشيخ عدم جواز إقرارهم عليه، و لعله للإعانة على الإثم، و لا حجة في المروي عن ابن عباس، بل لا تصلح الشهرة جابرة له، على أن الثاني منه لا دلالة فيه، ضرورة قوله فيه «فإن للعجم ما في عهدهم» و هو غير الفرض، و كذا لا حجة في فعل عمر بن عبد العزيز بل و فعل الصحابة إذا لم يكن فيهم من يتأسى بفعله و معصوم من الخطأ مبسوط اليد، و الإجماع المزبور أقصاه الإقرار على ما نجده الآن في أيديهم من غير نكير، و لم نعلم ابتداءه و لعله كان في ذمتهم و عهدهم، أو كان من فعل سلطان الجور الذي قد أمرنا بإمضائه على حاله حتى يظهر الحق، أو غير ذلك، و على كل حال فهو غير الفرض الذي هو الجواز و عدمه واقعا في ابتداء الأمر بعد ملك المسلمين له عنوة، و لعله لذا كان ظاهر الفاضل في محكي التذكرة التردد حيث حكى القولين ساكتا عنهما.

و كذا لا بأس أيضا بما استجدوه من المعابد في


1- 1 الخراج لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم ص 149.

ج 21، ص: 283

أرض فتحت صلحا على أن تكون الأرض لهم و يؤدون الخراج، فإنه حينئذ يجوز إقرارهم على بيعهم و كنائسهم و بيوت نيرانهم و مجتمع عباداتهم و إحداث ما شاءوا من ذلك منها، و إظهار الخمور و الخنازير و ضرب الناقوس و غير ذلك مما يجوز للمالك فعله في ملكه مع عدم الشرط في متن الصلح عدم ذلك كله أو بعضه كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا بل و لا إشكالا، و أما أرض الصلح التي تكون للمسلمين و هي القسم الثالث في المتن فكذلك لا يجوز لهم إحداث شي ء فيها بعد أن صارت الأرض للمسلمين أيضا، لعموم النهي و غيره مما عرفت، كما أن في إقرارهم عليها ما سمعت أيضا، نعم إن شرط في الصلح أن تكون السكنى لهم و الإحداث للبيع و الكنائس و غيرها و الإقرار على ما كان فيها كانوا على شرطهم الذي لا إشكال في جوازه للإمام عليه السلام إذا رأى المصلحة، كما يجوز له جعل الأرض كلها لهم فضلا عن بعضها، و ما تقدم عن السرائر من بطلان الصلح نافيا للخلاف فيه واضح المنع إن أراد ما يشمل المقام، على أن المحكي عنه هنا التصريح بالموافقة.

و على كل حال فقد قيل ينبغي أن يعين مواضع البيع و الكنائس و لا بأس به، و إن كان الظاهر عدم وجوبه، أما إذا اشترط عليهم عدم الإحداث و تخريب الموجود منها فهو على شرطه أيضا.

و من ذلك كله ظهر لك أن كل موضع لا يجوز لهم إحداث المعابد فيه ينقض لو أحدثوها فيه، و كل موضع جاز إقرارهم على ما فيه من المعابد لا خلاف في جواز رمها لو انشعب شي ء منها، بل في المنتهى الاتفاق على جوازه، أما إذا انهدمت فهل يجوز بناؤها و كذا لو هدموها؟ فالمحكي عن الشيخ التردد في ذلك، من عدم صدق كونه إحداثا بل هو استدامة

ج 21، ص: 284

كما عن الشافعي و أبي حنيفة، و من

النبوي (1)«لا تبنى الكنيسة في الإسلام»

كونه كالإحداث كما عن بعض العامة، و لعله الأولى ضرورة عدم اقتضاء الإقرار على ما كان منها جواز تجديدها، فيبقى على حرمة التصرف في أرض المسلمين، نعم لو كانت الأرض لهم اتجه حينئذ الجواز.

و إلى ذلك كله أشار المصنف بقوله و إذا انهدمت كنيسة مثلا مما لهم استدامتها جاز لهم إعادتها، و قيل لا يجوز و إن كنا لم نعرف القائل بالأخير منا، بل و الأول قبله، و إن كان قد عرفت أن الأخير منهما لا يخلو من قوة، و اللَّه العالم.

و أما المساكن فكلما يستجده الذمي لا يجوز أن يعلو به على المسلمين من مجاوريه لا غيرهم كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا في الظاهر كما اعترف به في الرياض بل في المسالك «المنع من العلو موضع وفاق بين

المسلمين» و في المنتهى «دور أهل الذمة على أقسام ثلاثة: أحدها دار محدثة، و الثاني دار مبتاعة، و الثالث دار مجددة، فالمحدثة هي أن يشتري عرصة يستأنف فيها بستانا فليس له أن يعلو على بناء المسلمين إجماعا- إلى أن قال-: و أما المجددة فكالمحدثة سواء» و نحوه عن التذكرة، و هو الحجة بعد إمكان استفادته من

قوله عليه السلام (2)«الإسلام يعلو و لا يعلى عليه»

و من قوله تعالى (3)«وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ» و غير ذلك مما دل على رجحان


1- 1 كتاب نصب الراية ج 3 ص 454.
2- 2 كنز العمال ج 1 ص 17- الرقم 246 و جامع الصغير ج 1 ص 123.
3- 3 سورة المنافقون- الآية 8.

ج 21، ص: 285

رفعة المؤمن و ضعة الكافر في جميع الأحوال.

بل لعل المستفاد من ذلك خلاف ما ذكره المصنف من أنه يجوز مساواته على الأشبه و إن حكي عن المبسوط نسبته إلى القيل، بل ربما حكي عن بعض منا، بل هو مقتضى الأصل، إلا أن الشيخ و الحلي و الفاضل و الشهيدين و غيرهم على المنع، بل هو المشهور لما عرفت و به يخص الأصل.

نعم يقر على ما ابتاعه من مسلم على علوه كيف كان كما صرح به في المنتهى و غيره معللين له بأنه ملكه كذلك، فلا يندرج في المنع عن العلو على المسلم، و لذا لا يجوز هدمها، و إن كان لا يخلو من نظر ضرورة ظهور الخبر المزبور المؤيد بما سمعت في الأعم من

ذلك و من هنا لو انهدم من أصله أو خصوص ما علا به لم يجز أن يعلو به على المسلم إجماعا كما في المنتهى و محكي التذكرة بل يقتصر على المساواة على القول بجوازها، و إلا فما دون أما لو انشعب شي ء منه و لم ينهدم جاز له رمه و إصلاحه لأنه استدامة و استبقاء لا تجديد، و كذا الكلام فيما لو اشترى المسلم دارا في جانب دار الذمي من ذمي مثلا أقصر منها أو بناها كذلك، فإن المتجه فيه على الأول عدم المنع، لعدم كونه علوا من الذمي على المسلم و على ما ذكرناه يمكن القول بالمنع، لأنه علو في نفسه و إن لم يكن بعمل الذمي، بل الظاهر أن ذلك من أحكام الدين التي لا ينفع فيها رضا الجار بعلوه عليه، بل منه ينقدح المنع عن أن يستجد دارا على نشر من الأرض تكون به أرفع من دار المسلم التي هي في أرض منخفضة و إن لم يعل ببنانه على بناء المسلم خلافا للشهيد في الدروس فجوزه، و احتمله في المسالك، نعم لا يبعد جواز الإفراط للذمي في الارتفاع في

ج 21، ص: 286

صورة العكس ليقارب دار المسلم كما صرح به في الدروس و نفى عنه البعد في المسالك، قال في الأخير في أصل المسألة: و هل يعتبر في العلو و عدمه نفس البناء أو مجرد الهواء؟ نظر، و تظهر الفائدة فيما لو كان بيت الذمي على أرض مرتفعة و دار المسلم في أرض منخفضة، فعلى الأول يجوز للذمي أن يرتفع عنه بحيث لا يبلغ طول حائط المسلم، و على الثاني يعتبر ارتفاع الأرض عن المسلم من جملة البناء، و قطع في الدروس بالأول، و جوز مع انعكاس الحكم أن يرتفع الذمي إلى أن يقارب دار المسلم و إن أدى إلى الإفراط في الارتفاع، و ليس ببعيد، و لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرنا محل النظر، بل منه ينقدح النظر فيما ذكره في الدروس و غيرها من عدم منع الذمي عن الارتفاع لو فرض دار المسلم نحو السرداب، لعدم صدق البناء، و فيه أن المدار على علو الذمي على المسلم، و ليس في شي ء من النص البناء كي يكون المدار عليه.

ثم إن ظاهر المتن أو صريحه كغيره اعتبار الجار في الحكم المزبور فلا يمنع حينئذ من العلو على غيره من المسلمين من أهل البلد، إذ المدار على أهل محلته بل مجاوريه، و لكن قد يقال بالمنع إذا فرض استئناف بناء للذمي مرتفع على أهل البلد أجمع، بل لعله أولى بالمنع المستفاد من نحو

قوله عليه السلام «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه»

هذا و ظاهر المصنف و غيره بل و معقد الإجماع أن ذلك من أحكام الذمي و المسلم لا أنه من أحكام عقد الذمة كي يكون المدار على اشتراطه في عقدها و عدمه كما عساه يظهر من بعض، فتأمل جيدا.

و أما المساجد فلا يجوز أن يدخلوا المسجد الحرام إجماعا من المسلمين محصلا و محكيا مستفيضا، مضافا إلى قوله تعالى (1)


1- 1 سورة التوبة- الآية 28.

ج 21، ص: 287

«إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ» من غير فرق بين اللبث و عدمه، و لا بين تعدي النجاسة و عدمها و لا غيره من المساجد عندنا كما عن التحرير و كنز العرفان مرادا منه. معشر الإمامية كما صرح بإجماعهم عليه في المسالك، بل في المنتهى نسبته إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام، و هو الحجة، مضافا إلى ما يستفاد من التفريع في الآية المفيد للاشتراك بينه و بين غيره من المساجد أيضا، خصوصا مسجد النبي صلى اللَّه عليه و آله و غيره من المساجد، ضرورة اعتبار التعظيم فيها أجمع، بل لو قلنا بجواز كون النجاسة غير المتعدية فيها لم يجز هنا إما للإهانة في دخولهم أو لغير ذلك، بل ربما كانوا أسوأ من الكلب و الخنزير و العذرة اليابسة و نحوها لو قلنا بجواز كونها فيها دونهم و إن كان الأقوى المنع من كل ما اقتضى الإهانة أو التلويث كما حققناه في محله، بل لو أذن المسلمون لهم في ذلك لم يصح الإذن لعموم أدلة المنع، خلافا

للجمهور الذين رووا في طرقهم ما يقتضي المفروغية من عدم دخولهم، قالوا: «دخل أبو موسى الأشعري على عمر و معه كتاب قد كتب فيه حساب عمله، فقال له عمر ادع الذي كتبه ليقرأه فقال: إنه لا يدخل المسجد، قال: و لم لا يدخل المسجد؟ قال لأنه نصراني، فسكت»

و ما رووه عن النبي صلى اللَّه عليه و آله من إدخال بعض الكفار المسجد و لبثهم فيه غير ثابت أو أنه كان قبل نزول الآية.

و على كل حال فلا يجوز لهم الدخول لا استيطانا و مكثا و لا اجتيازا و لا امتيارا للطعام بمعنى جلبه أو مطلق البيع و الشراء

ج 21، ص: 288

ضرورة اقتضاء النهي عن قرب المسجد الحرام الذي قد عرفت اشتراكه مع غيره في هذا الحكم ذلك، و حينئذ فما دل (1)على جواز اجتياز الجنب في غير المسجدين خاص بالمسلمين دون غيرهم، بل عن الشيخ عدم جواز دخولهم الحرم لا اجتيازا و لا استيطانا، و اختاره الفاضل و غيره بل لا أجد خلافا فيه بينهم معللا له بأنه المراد من المسجد الحرام في الآية بقرينة قوله (2)«وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً» إلى آخره و قوله تعالى (3)«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» مع أنه أسرى به من بيت أم هانئ، بل لعل قول الأصحاب بعدم جواز الامتيار مشعر بإرادة ذلك، ضرورة عدم الامتيار في نفس المسجد، مضافا إلى ما دل (4)على تعظيم الحرم على وجه ينبغي تنزيهه عنهم، و إلى ما في

الدعائم (5)عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: «لا يدخل أهل الذمة الحرم و لا دار الهجرة، و يخرجون منها»

و حينئذ فإن قدم ميرة لأهل الحرم منع من الدخول إليه، فإن أراد أهل الحرم الشراء منه خرجوا إليه إلى الحل، و لو جاء رسولا بعث إليه الإمام عليه السلام من يسمع رسالته، و لو أراد المشافهة خرج إليه الإمام عليه السلام من الحرم، و لو دخله عالما بالحرمة عزر، و جاهلا أعذر، فإن عاد عزر، فإن مرض


1- 1 الوسائل- الباب 15 من أبواب الجنابة.
2- 2 سورة التوبة- الآية 28.
3- 3 سورة الإسراء- الآية 1.
4- 4 الوسائل- الباب 13 من أبواب مقدمات الطواف من كتاب الحج.
5- 5 المستدرك- الباب 43 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 289

في الحرم نقله منه، و لو مات فيه لم يدفن فيه، بل عن الشيخ لو دفن نبش، و يحتمل إلحاق حرم الأئمّة عليهم السلام بذلك فضلا عن الحضرات المشرفة بل و الصحن، و لكن السيرة على دخولهم بلدانهم، و لو صالحهم الإمام عليه السلام على دخول الحرم بعوض فعن الشيخ الجواز، قال:

«و إن كان خليفة الإمام و وافقهم على عوض فاسد بطل المسمى و ثبت أجرة المثل» و لكن لا يخفى عليك ما في ذلك بناء على أن المنع للتعظيم و لعله لذا أبطل الشافعي الصلح على ذلك، إلا أنه قال: «و إن دخلوا الموضع الذي صالحهم عليه لم يرد العوض، لحصول المعوض لهم و لا أجرة مثل» و هو كما ترى.

و لا يجوز لهم استيطان الحجاز على قول مشهور بل في المنتهى و محكي المبسوط و التذكرة

الإجماع عليه، و هو الحجة بعد السيرة القطعية التي يمكن استفادة الإجماع أيضا منها، مضافا إلى ما سمعته من خبر الدعائم و إلى

خبر ابن الجراح (1)المروي من طرق العامة «أن آخر ما تكلم به النبي صلى اللَّه عليه و آله أن قال: أخرجوا اليهود من الحجاز و أهل نجران من جزيرة العرب»

متمما بعدم القول بالفصل، بل و إلى ما رواه

ابن عباس (2)عنه صلى اللَّه عليه و آله أيضا «أنه أوصى بثلاثة أشياء، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، و أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، و سكت عن الثالث، أو قال: أنسيته»

و أنه قال: «لا يجتمع ذميان في جزيرة العرب»

و قال (3)«لأخرجن اليهود و النصارى من جزيرة العرب»

بناء على أن المراد


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 208.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 207.
3- 3 سنن البيهقي ج 9 ص 207.

ج 21، ص: 290

من جزيرة العرب في هذه الأخبار الحجاز خاصة كما في المنتهى و عن المبسوط و التذكرة، بل في الأول «و نعني بالحجاز مكة و المدينة و اليمامة و خيبر و ينبع و فدك و مخاليفها، و يسمى حجازا لأنه حجز بين نجد و تهامة- إلى أن قال-: و إنما قلنا إن المراد بجزيرة

العرب الحجاز خاصة لأنه لو لا ذلك لوجب إخراج أهل الذمة من اليمن، و ليس بواجب، و لم يخرجهم عمر منها، و هي من جزيرة العرب، و إنما أوصى النبي صلى اللَّه عليه و آله بإخراج أهل نجران من الجزيرة لأنه صالحهم على ترك الربا فنقضوا العهد».

و كيف كان فقد قيل و إن كنت لم أعرف القائل قبل المصنف المراد به أي الحجاز مكة و المدينة نعم هو محكي عن الفاضل في جملة من كتبه، و لعل الأولى الرجوع إلى ما يسمى الآن حجازا كما في المسالك، قال: فيدخل فيه البلدان مع الطائف و ما بينهما، و إنما سمي حجازا لحجزه بين نجد و تهامة بكسر التاء بلد وراء مكة، و قد يطلق على مكة تهامة، و اللَّه العالم.

و في الاجتياز به و الامتيار منه تردد من إطلاق الأمر بالإخراج و من أن المنساق منه منع السكنى، و لعله الأقوى وفاقا لجماعة، بل في المسالك هو الأشهر، اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن من غير فرق بين إذن الإمام عليه السلام و عدمه، كما عن الشيخ التصريح به خلافا للمحكي عن الفاضل فشرط الإذن و مرجعه إلى المنع و لم أجد دليلا له، كما أني لم أجد دليلا لما ذكره المصنف من أن من أجازه حده بثلاثة أيام و إن كان ظاهر المصنف اتفاق القائلين بذلك إلا أني لم أتحققه، فإن كان على وجه يكون إجماعا فذلك، و إلا كان المتجه عدم التحديد، على أن ظاهر المنتهى إقامة الثلاثة في خصوص

ج 21، ص: 291

المكان لا مجموع الحجاز، و سواحل بحر الحجاز بل و جزائره التي هي من الحجاز بحكم بلدانه، أما ركوب بحره فلا يمنعون من الإقامة فيه فضلا عن المرور به لو قلنا بالمنع منه في البر.

و كذا لا يسكنون أيضا في جزيرة العرب بلا خلاف أجده فيه و لكن قيل المراد بها مكة و المدينة و اليمن و مخاليفها و قد سمعت ما في المنتهى من أن المراد بها في النصوص المزبورة الحجاز، و نحوه عن المبسوط و التذكرة، و حينئذ يتحد المراد بهما و قيل هي من عدن إلى ريف عبادان طولا، و من تهامة و ما والاها إلى أطراف الشام عرضا و في المسالك هو الأشهر بين أهل اللغة و عليه العمل، و لعله يرجع إليه ما عن الأصمعي و أبي عبيدة من أنها عبارة عن ما بين عدن إلى ريف العراق طولا، و من جدة و السواحل إلى أطراف الشام عرضا، و ربما قيل إنها من ريف أبي موسى إلى اليمن طولا، و من رمل تبريز إلى منقطع السماوة عرضا، و لكن قد يقال إن مرادهم مجرد تفسيرها، و إلا فالسيرة على عدم منعهم من جميع ذلك، و على كل حال فقد قيل إنما سميت جزيرة العرب لأن بحر الهند و هو بحر الحبشة و بحر فارس و الفرات أحاطت بها، و إنما نسبت إلى العرب لأنها منزلهم و مسكنهم و معدنهم، و عدن بفتح الدال بلد باليمن و الريف الأرض التي فيها زرع و خصب، و الجمع أرياف، و عبادان بفتح العين و تشديد الباء الموحدة جزيرة يحيط بها شعبتان من دجلة و الفرات و المخاليف الكور، واحدها مخلاف، و في الصحاح و المخلاف أيضا لأهل اليمن واحد المخاليف، و هي كورها، و لكل مخلاف منهما اسم يعرف به، و فيه أيضا الكورة المدينة و الصقع، و الجمع كور، و اللَّه العالم.

[الأمر الخامس في المهادنة]
اشاره

الأمر الخامس في المهادنة التي يراد منها كما في المنتهى

ج 21، ص: 292

المواعدة و المعاهدة و هي المعاقدة على ترك الحرب مدة معينة بعوض و غير عوض كما في المنتهى و محكي التذكرة و التحرير، و ما في القواعد و محكي المبسوط من زيادة بغير عوض في التعريف يراد منه عدم اعتبار العوض فيها، لا اعتبار عدم العوض، بل في المنتهى يجوز مهادنتهم على غير مال إجماعا، لأن النبي صلى اللَّه عليه و آله هادنهم يوم الحديبية على غير مال، و يجوز على مال يأخذه منهم بلا خلاف، و هو كذلك للأولوية و لأنه شرط سائغ غير مناف لها، بل فيه الجواز أيضا على مال يدفعه إليهم مع الضرورة المقتضية ذلك، و لعل منه

ما رواه الإسكافي من خبر الزهري الذي رواه العامة أيضا، قال: «أرسل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إلى عيينة بن حصين و هو مع أبي سفيان يوم الأحزاب أ رأيت إن جعلت لك ثلث تمر الأنصار أن ترجع بمن معك من غطفان و تخذل جيش الأحزاب فأرسل إليه عيينة إن جعلت لي الشطر فعلت، فقال سعد بن معاذ و سعد بن عبادة: يا رسول اللَّه و اللَّه لقد كانوا يحرسونه في الجاهلية حول المدينة ما يطيق أن يدخلها، فالآن حيث جاء اللَّه بالإسلام نعطيهم ذلك، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله فنعم إذا»

و لو لا جوازه لم يبذله،

كالمرسل من طرقهم أيضا «أن الحرث بن عمرو رئيس غطفان أرسل إلى النبي صلى اللَّه عليه و آله أنك إن جعلت لي شطر ثمار المدينة و إلا ملأتها عليك خيلا و ركابا، فقال النبي صلى اللَّه عليه و آله حتى أشاور السعود يعني سعد بن عبادة و سعد بن معاذ و سعد بن زرارة، فشاورهم النبي صلى اللَّه عليه و آله فقالوا يا نبي اللَّه إن كان هذا أمرا من السماء فتسليما لأمر اللَّه، و إن كان رأيك و هواك

ج 21، ص: 293

اتبعنا رأيك و هواك، و إن لم يكن بأمر من السماء و لا برأيك و هواك فو اللَّه ما كنا نعطيهم في الجاهلية برة و لا تمرة إلا شراء أو قرى فكيف و قد أعزنا اللَّه تعالى بالإسلام، فقال النبي صلى اللَّه عليه و آله لرسوله:

أو تسمع»

بل لا يبعد الجواز مع المصلحة للإسلام و المسلمين أيضا و أولى بالجواز ما نص عليه في المنتهى من وضع شي ء من حقوق المسلمين في مال المهادنين كما شرط رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله أن لا يعشروا و أنه لا يهجر عليهم إلا من أحبوا، و لا يؤمن عليهم إلا بعضهم، و حظر صيد واديهم و شجره و سن فيمن فعل ذلك جلده و نزع ثيابه.

و كيف كان ف هي في الجملة جائزة و مشروعة إذا تضمنت مصلحة للمسلمين، إما لقلتهم عن المقاومة، أو لما يحصل به الاستظهار و هو زيادة القوة أو لرجاء الدخول في الإسلام مع التربص أو غير ذلك بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى قوله تعالى (1)«فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ»- «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ (2)» و إلى المقطوع به من وقوعها من النبي صلى اللَّه عليه و آله في الجملة كما لا يخفى على من أحاط خبرا بخصوص ما وقع منه مع قريش و أهل مكة و غيرهم مما روي في طرق العامة و الخاصة و ما عن ابن عباس- من أن آية السلم منسوخة بقوله تعالى (3)«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» إلى آخرها، و الحسن و قتادة و مجاهد من أنها منسوخة بقوله تعالى (4)«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ»- غير ثابت، بل في الكنز أن آية «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» نزلت في سنة تسع


1- 1 سورة التوبة- الآية 4.
2- 2 سورة الأنفال- الآية 63.
3- 3 سورة التوبة- الآية 29.
4- 4 سورة التوبة- الآية 5.

ج 21، ص: 294

و بعث بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إلى مكة، ثم صالح أهل نجران على ألفي حلة ألف في صفر و ألف في رجب، فلا إشكال حينئذ في مشروعيتها بل الظاهر عدم الفرق فيها بين أهل الكتاب و غيرهم، لإطلاق الأدلة، بل و خصوص ما ورد في مهادنة قريش و غيرهم، و يجب الوفاء لهم بالمدة ما داموا هم كذلك بلا خلاف و لا إشكال بعد قوله تعالى (1)«فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ

عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ» و قوله تعالى (2)«فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ» نعم في القواعد و غيرها و لو استشعر الإمام خيانة جاز له أن ينبذ العهد إليهم و ينذرهم، و لا يجوز نبذ العهد بمجرد التهمة، و هو كذلك ضرورة وجوب الوفاء لهم، بخلاف ما إذا خاف منهم الخيانة لأمور استشعرها منهم، فإنه ينبذ العهد حينئذ لقوله تعالى (3)«وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» أي أعلمهم نقض عهدهم حتى تكونون سواء في ذلك، و ليس كذلك عقد الذمة الذي هو حق لهم، و لهذا يجب على الإمام إجابتهم إليه و إن كان له قوة عليهم، بخلاف عقد الهدنة الذي هو تابع للمصلحة، على أن عقد الذمة بعوض و هو الجزية، بخلاف عقد الهدنة الذي لم يلزمه العوض، على أنه منقطع بخلاف عقد الذمة فإنه للأبد، و يجب الرد إلى مأمنهم إذا فرض صيرورتهم بالهدنة بين المسلمين، أما إذا لم يكونوا كذلك بل كانوا باقين على منعتهم و قوتهم غزاهم بعد الإعلام، و لو نقض بعضهم العقد دون البعض جرى على الناقض حكم الحربي دون غيره، و إذا أراد الإمام غزوهم ميزهم عنهم، و كذا الحكم لو خاف الخيانة من بعض دون آخر نبذ إليه عهده، و لو تاب الناقض فعن


1- 1 سورة التوبة- الآية 4.
2- 2 سورة التوبة- الآية 7.
3- 3 سورة الأنفال- الآية 60.

ج 21، ص: 295

الإسكافي قبوله، و لا بأس به.

و كيف كان فظاهر المتن أنها جائزة في جميع أحوالها على معنى عدم وجوبها بحال كما هو صريح المنتهى و محكي التحرير و التذكرة جمعا بين ما دل على الأمر بها المؤيد بالنهي عن الإلقاء باليد في التهلكة(1)و بين الأمر بالقتال حتى يلقى اللَّه شهيدا بحمل الأول على الرخصة في ذلك، و منها ما وقع من النبي صلى اللَّه عليه و آله و الحسن عليه السلام، كما أن من الثاني ما وقع من الحسين عليه السلام و من النفر الذين وجههم النبي صلى اللَّه عليه و آله إلى هذيل و كانوا عشرة فقاتلوا حتى قتلوا و لم يفلت منهم إلا حبيب، فإنه أسر و قتل بمكة إذ القتل في سبيل اللَّه ليكون من الشهداء الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون ليس من الإلقاء في التهلكة، كما سمعته في حرمة الفرار من الزحف، لكن في القواعد يجب على الإمام الهدنة مع حاجة المسلمين إليها، و يمكن إرادته من المتن بحمل الجواز فيه على المعنى الأعم، و هو ما عدا الحرام، فيشمل الواجب حينئذ في الفرض المزبور ترجيحا لما دل على وجوب حفظ النفس و الإسلام من عقل و نقل مقتصرا في الخروج منهما على المتيقن كالفرار من الزحف و نحوه، و ما وقع من الحسين عليه السلام مع أنه من الأسرار الربانية و العلم المخزون يمكن أن يكون لانحصار الطريق في ذلك، علما منه عليه السلام أنهم عازمون على قتله على كل حال كما هو الظاهر من أفعالهم و أحوالهم و كفرهم و عنادهم، و لعل النفر العشرة كذلك أيضا، مضافا إلى ما ترتب عليه


1- 1 سورة البقرة- الآية 191.

ج 21، ص: 296

من حفظ دين جده صلى اللَّه عليه و آله و شريعته و بيان كفرهم لدى المخالف و المؤالف، على أنه له تكليف خاص قد قدم عليه و بادر إلى إجابته، و معصوم من الخطأ لا يعترض على فعله و لا قوله، فلا يقاس عليه من كان تكليفه ظاهر الأدلة و الأخذ بعمومها و إطلاقها مرجحا بينها بالمرجحات الظنية التي لا ريب في كونها هنا على القول بالوجوب، على أن النهي عن الإلقاء لا يفيد الإباحة، بل يفيد التحريم المقتصر في الخروج منه على المتيقن، و هو حيث لا تكون مصلحة في الهدنة، و حب لقاء اللَّه تعالى و إن كان مستحسنا و لكن حيث يكون مشروعا، و الكلام فيه في الفرض الذي هو حال الضرورة، و المصلحة التي قد ترجح على القتل و لو شهيدا الذي قد يؤدي إلى ذهاب بيضة الإسلام و كفر الذرية و نحو ذلك، و لعله لذا ربما فصل بين الضرورة و المصلحة، فأوجبها في الأول، و جوزها في الثاني، و لا بأس به، فإن دعوى الوجوب على كل حال كدعوى الجواز كذلك في غاية البعد، فالتحقيق انقسامها إلى الأحكام الخمسة.

و حينئذ ف متى ارتفع ذلك أي مقتضى الجواز و لو على كراهة كما إذا كان في المسلمين قوة على الخصم و استعداد و في الكافرين ضعف و وهن على وجه يعلم الاستيلاء عليهم بلا ضرر على المسلمين لم تجز المهادنة قطعا، لعموم الأمر بقتلهم مع الإمكان في الكتاب و السنة على وجه لا يعارضه إطلاق قوله تعالى (1)«وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها» المحمول على غير الفرض و لو بملاحظة ما كان يوصي به النبي صلى اللَّه عليه و آله أمراء السرايا من الأمر بالمنابذة


1- 1 سورة الأنفال- الآية 63.

ج 21، ص: 297

معهم إلا مع الإسلام أو الجزية من أهلها و غيره في الكتاب و السنة، بل و قوله تعالى (1)«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» و قوله تعالى (2)«فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، وَ اللَّهُ مَعَكُمْ» و غيرها.

نعم لا خلاف في أنه تجوز الهدنة إلى أربعة أشهر فما دون مع القوة، بل في المنتهى و المسالك و محكي التذكرة و غيرها الإجماع عليه، مضافا إلى الاستدلال عليه بقوله تعالى (3)«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» و كان ذلك عند منصرف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله من تبوك في أقوى ما كان، و صالحهم صفوان بعد الفتح أربعة أشهر، و إن كان قد يناقش بأن ذلك إمهال لهم على وجه التهديد و التوعد لخصوص من عاهدوا من المشركين، لأنه عقد هدنة أربعة أشهر، فالعمدة حينئذ في إثبات ذلك على جهة العموم الإجماع إن تم، و إلا فالحث على قتلهم و العقود لهم في كل مرصد يقتضي عدمه.

و من هنا لا تجوز أكثر من سنة على قول مشهور بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به في المسالك، بل في المنتهى و محكي التذكرة الإجماع عليه، بل في محكي المبسوط و لا تجوز إلى سنة و زيادة عليها بلا خلاف، و لعله كذلك، لأن الآية تدل على وجوب الجهاد في السنة و هو مناف لجوازها سنة، و لذا قال في الدروس و تنعقد المهادنة بما دون السنة، فيراعى الأصلح، و على كل حال فنسبة المصنف الأكثر من السنة إلى الشهرة في غير محله، و في المسالك كان الباعث له على ذلك


1- 1 سورة التوبة- الآية 5.
2- 2 سورة محمد صلى اللَّه عليه و آله- الآية 37.
3- 3 سورة التوبة- الآية 1.

ج 21، ص: 298

استضعاف دليله مع عدم تحقق الإجماع عنده و إن لم يعلم بالمخالف، فإن ذلك لا يكون إجماعا، و وجه ضعف الدلالة أن الشيخ و الجماعة احتجوا على ذلك بقوله تعالى «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ» إلى آخره و هو يتحقق في كل سنة مرة، و فيه أن الأمر لا يقتضي التكرار، و لكن ذلك كله كما ترى، خصوصا بعد إمكان استفادة التكرار من غير ذلك و لو على وجه يكون قرينة على المراد به، فتأمل.

و هل تجوز أكثر من أربعة أشهر و دون السنة قيل و القائل الشيخ فيما حكي عنه لا يجوز لقوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ و غيره من الآيات المشتملة على التأكيد في المبادرة إلى قتلهم و التوصل إليه بأيّ طريق يكون و قيل و لكن لا أعرف القائل به منا، و إنما هو محكي عن أحد قولي الشافعي نعم يجوز لقوله تعالى «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ » الذي قد عرفت أنه في غير الفرض، كما أن الأمر في الآية الأولى ليس للفور و لذا كان الوجه كما في المنتهى و المسالك و حاشية الكركي و محكي التحرير و القواعد مراعاة الأصلح (11) كما هو مقتضى إطلاق الولاية الذي لا يقيده الرخصة لهم في سياحة الأربعة أشهر المحتملة موافقة المصلحة في ذلك الوقت، على أنك قد عرفت كونها تهديدا و مهلة بعد نقض العهد، و كذا في مراعاة الأصلح المهادنة للضعف في المسلمين من غير تقييد بمدة معينة كما في المنتهى و محكي التذكرة و غيرهما، و إن حكي عن الإسكافي و الشيخ التقدير بالعشر سنين كالمحكي عن الشافعي محتجا عليه بعموم قوله تعالى «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» إلى آخره المقتصر في الخروج منه على العشر سنين، لمصالحة النبي صلى اللَّه عليه و آله قريشا قدرها، و لكن فيه أن

ج 21، ص: 299

الأدلة الدالة على مشروعية المهادنة مطلقة، فيرجع فيه إلى نظر الإمام عليه السلام، و وقوع العشر لا يقتضي التقييد بعد احتمال كونه الأصلح في ذلك الوقت، و اللَّه العالم.

و كيف كان ففي المنتهى و محكي المبسوط و التذكرة و التحرير و غيرها أنه لا تصح المهادنة إلى مدة مجهولة و لا مطلقا إلا أن يشترط الإمام عليه السلام لنفسه الخيار في النقض متى شاء بل لا أجد فيه خلافا بينهم في المستثنى و المستثنى منه الذي هو مقتضى الأصل بعد ظهور المفسدة في ذلك، و قصور الإطلاقات عن تناوله، و اقتضاء الإطلاق التأبيد الممنوع في المهادنة، مضافا إلى معلومية اعتبار المعلومية في كل أجل اشترط في عقد و إن كان مما يقع على المجهول كالصلح و غيره بل يمكن دعوى الإجماع على ذلك، و من هنا يتجه جعل الاستثناء للأخير خاصة، خلافا للكركي و ثاني الشهيدين فمالا إلى جعله لهما معللين له بانتفاء الجهالة بعد حصول التراضي منهما، فإن ذلك واقع بمشية الجميع، إلا أنه كما ترى، بل الظاهر جواز اشتراط ذلك لنفسه في المدة المعلومة له مطلقا كما عن الإسكافي و الشيخ التصريح به للعمومات و خصوص

النبوي (1)المروي من طرق العامة «أنه لما فتح خيبر عنوة بقي حصن فصالحوه على أن يقرهم ما أقرهم اللَّه، فقال لهم نقركم ما شئنا»

و في آخر(2)أنه فعل الأول، خلافا لبعض الجمهور فمنع منه لأنها عقد لازم، فلا يجوز اشتراط نقضه، و هو كما ترى، خصوصا بعد جواز اشتراط الخيار في العقود اللازمة، نعم في المنتهى لا يجوز اشتراط نقضها لمن شاء منهما، لأنه يفضي إلى ضد المقصود، و فيه منع واضح ضرورة اقتضاء العمومات الجواز، فيفي لهم ما داموا على العهد، كما


1- 1 سنن البيهقي ج 9 ص 224.
2- 2 سنن البيهقي ج 9 ص 224.

ج 21، ص: 300

أن ما فيه أيضا- من أن الإمام عليه السلام لو شرط لهم أن يقرهم ما أقرهم اللَّه لم يجز، لانقطاع الوحي بعد النبي صلى اللَّه عليه و آله-

واضح المنع، ضرورة تظافر النصوص (1)بل لعله من قطعيات المذهب في إمكان معرفة ذلك لهم عليهم السلام بطرق متعددة، كما أنها(2)تظافرت في أنه ينكت في قلوبهم و أن لهم ملكا يقال له الروح أعظم من جبرئيل يأتي لهم، و انقطاع الوحي بعد النبي صلى اللَّه عليه و آله إنما يراد منه ما يتعلق بالنبوة لا مطلقا، كما هو مفروغ منه في محله، و كل شرط سائغ وقع في عقد الهدنة من مال أو غيره يجب الوفاء به على حسبما اشترط بلا خلاف و لا إشكال، كما أنه يجب حمايتهم من المسلمين و رعايتهم في أنفسهم و أموالهم و غيرها مما اقتضاه العقد نعم لو وقعت الهدنة على ما لا يجوز فعله لم يجب الوفاء به مثل التظاهر بالمناكير و إعادة من يهاجر من النساء المسلمات التي قال اللَّه تعالى(3): «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ - إلى قوله تعالى- فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ» إلى آخره، و في

المروي (4)من طرق العامة «أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت مسلمة فجاء أخواها يطلبانها فأنزل اللَّه تعالى الآية»

و قال النبي صلى اللَّه عليه و آله «إن اللَّه منع من الصلح في النساء»

و من هنا لا خلاف أجده كما اعترف به في المنتهى في حرمة ردهن إليهم، فلو


1- 1 أصول الكافي ج 1 ص 260.
2- 2 أصول الكافي ج 1 ص 264 و 273.
3- 3 سورة الممتحنة- الآية 10.
4- 4 سيرة ابن هشام- القسم الثاني ص 325.

ج 21، ص: 301

وقع الصلح من بعض نواب الإمام عليه السلام على ذلك كان باطلا، بل الظاهر بطلان العقد من أصله لا خصوص الشرط، لكون التراضي قد وقع عليه، كعقد الذمة المشتمل على ما منع الشارع من عقدها عليه نحو عدم الصغار في الجزية أو إظهار المنكرات في شرعنا أو نحو ذلك مما عرفته سابقا، بل ظاهر المصنف هنا اعتبار الأخير في عقد الهدنة و هو مشكل، لعدم الدليل عليه، اللَّهمّ إلا أن يستفاد من منعه في عقد الذمة منعه هنا، و هو كما ترى، و في المنتهى الشروط المذكورة في عقد الهدنة قسمان صحيح و فاسد، فصحيح الشروط لازم بلا خلاف، مثل أن يشترط عليهم مالا أو معونة المسلمين عند حاجتهم، و فاسد الشرط يبطل العقد مثل أن يشترط رد النساء أو مهورهن أو رد السلاح المأخوذ منهم أو دفع المال إليهم مع عدم الضرورة الداعية إلى ذلك، أو أن لهم نقض الهدنة متى شاءوا، أو شرط رد الصبيان أو الرجال، فهذه الشروط كلها فاسدة يفسد بها عقد الهدنة، كما يفسد عقد الذمة باقتران الشروط الباطلة مثل ما لو شرط عدم التزام أحكام المسلمين أو إظهار الخمور و الخنازير أو يأخذ من الجزية أقل، و إن كان هو أيضا لا يخلو بعضه من نظر أو منع.

نعم الظاهر فساد عقد الهدنة باشتماله على ما لا يجوز لنا فعله شرعا كرد النساء المسلمات المهاجرات إليهم و نحوه مما يكون الصلح معه من المحلل للحرام أو بالعكس، أما إظهار المناكير في شرعنا دون شرعهم من شرب الخمر و أكل لحم الخنزير و نحو ذلك فلا دليل على فسادها به ضرورة كون ذلك من أفعالهم لا أفعالنا، و الفرض عدم تمام التمكن منهم، بل عن الإسكافي «لو كان بالمسلمين ضرورة أباحت لهم شرطا في الهدنة فحدث للمسلمين ما لم يكن يجوز معه ذلك الشرط ابتداء لم

ج 21، ص: 302

يجز عندي فسخ ذلك الشرط، و لا الهدنة لأجل الحادث، لقوله تعالى (1)«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و لأنه أمر بالوفاء بالعهد، و قد رد النبي صلى اللَّه عليه و آله (2)أبا بصير إلى المشركين بعد أن رجع إليه، و أمر النبي صلى اللَّه عليه و آله (3)حذيفة بن اليمان أن يفي للمشركين بما أخذوه عليه من أن لا يقاتل مع النبي صلى اللَّه عليه و آله يوم بدر، قال: و قد

روي في بعض الحديث عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «أن حيا من العرب جاءوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله فقالوا يا رسول اللَّه نسلم على أن لا ننحني و لا نركع فقال لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله نعم و لكم ما للمسلمين و عليكم ما عليهم قالوا نعم، فلما حضرت الصلاة أمرهم بالركوع و السجود فقالوا: أ ليس قد شرطت لنا أن لا ننحني و لا نركع؟ فقال صلى اللَّه عليه

و آله قد أقررتم بأن لكم ما للمسلمين و عليكم ما عليهم»

- قال-: و هذا إن صح فموجب أن الشرط العام ماض على الخاص، أو الشرط الأخير ناسخ للشرط الأول- ثم قال أيضا-: و لا نختار لأحد إذا كان مختارا غير مضطر أن يشترط في عقد و لا صلح يعقده ما لا يبيح الدين عقده مما هو محظور، و قد

قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله (4)«ما كان من شرط ليس في كتاب اللَّه فهو


1- 1 سورة المائدة- الآية 1.
2- 2 سيرة ابن هشام- القسم الثاني ص 323.
3- 3 المنتقى من أخبار المصطفى ج 2 ص 818 الرقم 4437.
4- 4 الوسائل- الباب 38 من أبواب المهور الحديث 2 من كتاب النكاح مع اختلاف يسير.

ج 21، ص: 303

باطل و لم يجز له و لا عليه»

و قد روي أن ثقيف سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله أن لا يركعوا و لا يسجدوا و أن يتمتعوا باللات سنة من غير أن يعبدوها فلم يجبهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إلى ذلك»

قلت. و هو كذلك، لكن لو فرض اقتضاء ضرورة لبعض المسلمين الرضا بالشرط الباطل و قلنا بمشروعية الرضا حينئذ كان المتجه عدم الالتزام به بعد التمكن، و الوفاء بالعقد و العهد لا يشمله بعد أن كان فاسدا، و رد أبي بصير و نحوه لأن له عشيرة تمنعه كما ستعرف الحال فيه، و الأقرب في المروي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنه اشتباه من الراوي، على أنه في الإسلام، و هو غير ما نحن فيه.

و كيف كان فلو عقد الهدنة مطلقا و هاجرت الامرأة و تحقق إسلامها بعد مجيئها أو قبله لم تعد إجماعا كما في المنتهى للآية(1)و غيرها، و لو جاء أبوها أو غيره من أرحامها يطلب مهرها لم يدفع إليه أيضا بلا خلاف كما في المنتهى و لا إشكال، لعدم حق له بل لو جاء زوجها أو وكيله مثلا لم تسلم إليه أيضا و لكن يعاد على زوجها ما سلم إليها من مهر خاصة إذا كان مباحا، و لو كان محرما كالخمر لم يعد لا عينه و لا قيمته بلا خلاف أجده في شي ء مما تقتضيه القيود المزبورة و لا إشكال، لعدم كونه مالا، بل و عدم وجوب غير المهر مما أنفقه في العرس أو وهبه إياها أو غير ذلك مما هو ليس بمهر بعد أن كان المراد مما أنفقوا في الآية(2)خصوص المهر، بل و عدم وجوب المهر أيضا إذا لم يكن قد سلمه إليها للأصل و ظاهر الآية و غيرها، كما أني لا أجد خلافا أيضا في وجوب دفع المهر المباح


1- 1 سورة الممتحنة- الآية 10.
2- 2 سورة الممتحنة- الآية 10.

ج 21، ص: 304

الذي سلمه إياها، بل في المنتهى و محكي التذكرة نسبته إلى علمائنا، لقوله تعالى (1)«وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» المؤيد باقتضاء عقد الهدنة حرمة مالهم أو كالمال و هو البضع و لو بضميمة رد النبي صلى اللَّه عليه و آله (2)ذلك في صلح الحديبية، خلافا لأبي حنيفة و ابن حنبل و المزني و الشافعي في أحد قوليه فلا

يجب، لعدم كون البضع مالا، و هو كالاجتهاد في مقابل القرآن الذي لم يثبت نسخه.

نعم رد المهر من بيت المال المعد لمصالح المسلمين و إن كانت عينه موجودة عندها، لكن عن الشيخ أن ذلك إذا كان الذي قد منع ردها الإمام عليه السلام أو خليفته، أما إذا كان المانع غير الإمام عليه السلام و غير خليفته من باب الأمر بالمعروف لم يلزم الإمام عليه السلام أن يعطيهم شيئا، لأن الذي يعطيه الإمام عليه السلام من المصالح، و لا تصرف لغير الإمام عليه السلام أو خليفته فيه، و في المنتهى إذا ثبت هذا فقول الشيخ إنه يدفع إليه من سهم المصالح لأنها قهرت الكفار على ما أخذته فملكته بالقهر، و إنما أوجبنا الرد من سهم المصالح للآية، و فيه أنه لا يتم في مال المعاهدين على أنفسهم و أموالهم، كما أنه لا يتم عدم الوجوب لو كان المانع غير الإمام عليه السلام حسبة بعد إطلاق قوله تعالى «وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» الذي هو خطاب للإمام و نوابه، هذا، و في حاشية الكركي و إنما يعاد المهر إذا طلبها زوجها في العدة، فلو كان الطلب من غير الزوج و لم يكن وكيلا أو كان في غير العدة لم يجب شي ء، لأن الطلب حق الزوج خاصة، و لا زوجية بعد


1- 1 سورة الممتحنة- الآية 10.
2- 2 سيرة ابن هشام- القسم الثاني ص 326.

ج 21، ص: 305

العدة، و حكاه في المسالك عن بعض الأصحاب مشعرا بتردده فيه، و لعله كذلك، لإطلاق الآية و الفتاوى.

[فرعان ]
اشاره

فرعان:

[الأول إذا قدمت مسلمة فارتدت لم ترد]

الأول إذا قدمت مسلمة فارتدت لم ترد، لأنها بحكم المسلمة بلا خلاف أجده فيه، فتحبس و تضرب أوقات الصلاة حتى تتوب أو تموت عندنا، و لكن يدفع المهر إلى زوجها.

[الثاني لو قدم زوجها و طالب بالمهر فماتت بعد المطالبة دفع إليه مهرها]

الثاني لو قدم زوجها و طالب بالمهر فماتت بعد المطالبة دفع إليه مهرها كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا، لأن الموت قد كان بعد الحيلولة، و الأمر بالإيتاء حينئذ بحاله، بل لو مات دفع إلى ورثته بلا خلاف و لا إشكال أيضا، نعم لو ماتت قبل المطالبة لم يدفع إليه شي ء كما صرح به الفاضل و الكركي و ثاني الشهيدين و غيرهم، بل لا أجد فيه خلافا، لأن الحيلولة حصلت بالموت لا بالإسلام و لكن في المتن فيه تردد من ذلك، و من سبق الإسلام عليه الموجب للحيلولة، فيستحق، مؤيدا بأصالة بقاء الاستحقاق، و إطلاق قوله تعالى «وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» و فيه أن المتيقن من الاستحقاق- المخالف للأصل مع المطالبة التي هي مقتضى سؤالهم- ما أنفقوا الذي ينزل عليه إطلاق الأمر بالإيتاء، فالاستصحاب حينئذ في غير محله، اللَّهمّ إلا أن يقال إن كلا من الإطلاق و الأصل يقتضي بقاء حق المطالبة و السؤال له بعد الموت، و لكنه كما ترى، ضرورة كون المنساق حال وجود الزوجة الممنوعة بالإسلام عن الرجوع إليه، و منه ينقدح سقوط الرد الذي هو مقتضى الأصل في كل مقام لم يحصل المطالبة فيه و لو بجنون و نحوه، بل في قيام وليه مقامه في ذلك إشكال و اللَّه العالم.

و لو قدمت فطلقها بائنا لم يكن له المطالبة بالمهر كما صرح

ج 21، ص: 306

به الفاضل و غيره، لأن الحيلولة منه حينئذ بالطلاق لا بالإسلام، نعم لو طالب به ثم طلقها رد إليه، لاستقراره له بالمطالبة و الحيلولة، و لو طلقها رجعيا لم يكن له المطالبة بالمهر إلا إذا راجعها في العدة حتى يكون الحائل بينهما الإسلام كما صرح به الفاضل أيضا.

و لو أسلم في العدة الرجعية مثلا كان أحق بها و وجب عليه رد مهرها إن كان قد أخذه منها قبل الطلاق، لأن استحقاقه للمهر إنما كان بسبب الحيلولة و قد زالت، و لو أسلم بعد انقضاء عدتها لم يجمع بينهما، لأنها قد بانت منه، و في المنتهى «ثم ينظر، فإن كان قد طالب بالمهر قبل انقضاء عدتها كان له المطالبة لأن الحيلولة حصلت قبل إسلامه، و إن لم يكن طالب قبل انقضاء العدة لم يكن له المطالبة بالمهر، لأنه التزم حكم الإسلام، و ليس من حكم الإسلام المطالبة بالمهر بعد البينونة، و لو كان غير مدخول بها و أسلمت ثم أسلم لم يكن له المطالبة بالمهر، لأنه أسلم بعد البينونة، و حكم الإسلام يمنع من وجوب المطالبة في هذا الحال، و لكن لا يخفى عليك ما فيه خصوصا بعد عدم كون الحكم مخصوصا بالذمي الملتزم أحكام الإسلام التي منها هذا، و قد سمعت ما ذكرناه سابقا عن الكركي و النظر فيه.

و لو أنكرت الامرأة زوجية المطالب كان القول قولها بيمينها، و لو اعترفت أو قامت بينة على ذلك فأنكرت قبض المهر كان القول قولها أيضا، و كذا لو أنكرت قدر المقبوض، و لو كان الزوج عبدا و طالب بالمهر دفع بيد مولاه، و لو طالب المولى به دون العبد ففي المنتهى لم يدفع إليه، لأنه وجب للحيلولة، فإذا طالب الزوج ثبت المهر لها، فيدفع حينئذ بيد المولى، و لا فرق بين الأمة و الحرة في الحكم المزبور فلو جاءت أمة مسلمة و طالب زوجها بالمهر دفع إليه، لإطلاق الآية

ج 21، ص: 307

سواء تحررت بالإسلام أو لا، كما أنه لا فرق بين العاقلة و المجنونة في ذلك أيضا إذا كانت قد جنت بعد إسلامها، و لو لم يعلم حالها أنها أسلمت قبل الجنون أو بعده ففي المنتهى لا ترد أيضا، لاحتمال أن تكون قد أسلمت عاقلة، و لا يرد مهرها لاحتمال الإسلام بعده، فإن أفاقت فأقرت بالإسلام رد مهرها عليه، و إن أقرت بالكفر ردت عليه و فيه أن النهي عن الإرجاع مشروط بالإتيان مسلمة، و لم يتحقق، و أشكل من ذلك ما فيه أيضا من أنها لو جاءت مجنونة و لم يخبر عنها بشي ء لم ترد إليه، لأن الظاهر أنها إنما جاءت إلى دار الإسلام، و لا يرد مهرها للشك، إلى أن قال فيتوقف في ردها إلى أن تفيق، فإن ذكرت أنها مسلمة أعطي المهر و منع منها، و إن ذكرت أنها لم تزل كافرة ردت إليه، و كذا ما فيه أيضا من أنها لو قدمت صغيرة و وصفت الإسلام لم ترد إليه، لئلا تفتن عند بلوغها عن الإسلام، و هل يجب رد المهر؟ قال الشيخ: لا يجب بل يتوقف عن رده حتى تبلغ، فإن بلغت و أقامت على الإسلام رد المهر، و إن لم تقم ردت هي وحدها، إذ لا يخفى عليك ما في ذلك كله من المنافاة لظاهر الآية الناهية عن إرجاع المؤمنات، كما هو واضح.

ثم إن الظاهر اختصاص هذا الحكم بالمعاهدين و نحوهم دون الحربيين كما صرح به بعضهم، بل لعله ظاهر بملاحظة طلب المهر من كل منهم، فإنه كما يسأل الكافر مهره كذلك يسأل المسلم مهره لو مضت زوجته، كما هو مقتضى الآية، و اللَّه العالم.

هذا كله في النساء و أما إعادة الرجال فلا خلاف بل و لا إشكال في عدم وجوب إعادة أحد منهم جاء إلينا مسلما مع إطلاق الهدنة الذي لا يقتضي أزيد من الأمان على أنفسهم و أموالهم، بل لا

ج 21، ص: 308

يجوز إعادته أو التمكين من قهره على ذلك بعد أن كان الواجب الهجرة من دار الحرب التي لا يتمكن من إقامة شعار الإسلام فيها، و من هنا لو طلبت امرأة أو صبية مسلمة الخروج من عند الكفار جاز لكل مسلم إخراجها مع المكنة، بل وجب عليه ذلك، و

في المرسل «أن النبي صلى اللَّه عليه و آله لما خرج من مكة وقفت ابنة حمزة على الطريق فلما مر بها علي عليه السلام قالت يا بن عمي إلى من تدعني فتناولها فدفعها إلى فاطمة عليها السلام حتى قدم بها المدينة»

و لعل المستضعف كذلك أيضا.

و على كل حال ف لو أرادوا اشتراط ذلك في عقد الهدنة جاز قبوله لكن بالنسبة إلى من أمن عليه الفتنة بكثرة العشيرة و ما ماثل ذلك من أسباب القوة التي تمنعه لو أراد إظهار ما عليه من الإسلام، و لا يخشى عليه الذل و لا القتل و لا الأذية، و حينئذ فإذا اشترطوا رد مثل ذلك جاز إعادته على معنى التخلية بينهم و بينه و إلا يكون كذلك بل كان مستضعفا يخشى عليه الفتنة و الهوان و الأذية و نحوها لم يصح اشتراط رده في عقد الهدنة و منعوا منه إن أرادوا رده بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك بين من تعرض للحكم و إن كنت لم أجد في شي ء من نصوصنا ما يدل عليه، نعم

في المنتهى أن النبي صلى اللَّه عليه و آله رد أبا جندل و أبا بصير في صلح الحديبية(1)

بمعنى أنه لم يمنعهم من أخذه إذا جاءوا في طلبه، و لا يجبره الإمام عليه السلام على المضي معهم، و له أن يأمره في السر بالهرب منهم و يقاتلهم، فإن

أبا بصير لما جاء إلى النبي صلى اللَّه عليه و آله و جاء


1- 1 سيرة ابن هشام- القسم الثاني ص 318 و 323 المطبوعة عام 1375 و كامل ابن الأثير- ج 2 ص 204 و 205 المطبوعة عام 1385.

ج 21، ص: 309

الكفار في طلبه قال له النبي صلى اللَّه عليه و آله: إنه لا يصلح في ديننا الغدر، و قد علمت ما عاهدناهم عليه، و لعل اللَّه أن يجعل لك فرجا و مخرجا، فلما رجع مع الرجلين قتل أحدهما في طريقه ثم رجع إلى النبي صلى اللَّه عليه و آله، فقال يا رسول اللَّه قد أوفى اللَّه ذمتك، قد ردني اللَّه إليهم، و أنجاني اللَّه منهم، فلم ينكر عليه النبي صلى اللَّه عليه و آله و لم يلمه، بل قال: ويك أمه مسعر حرب لو كان معه رجال، فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر و انحاز إليه أبو جندل بن سهيل و من معه من المستضعفين بمكة فجعلوا لا يمر عير لقريش إلا عرضوا لها فأخذوها و قتلوا من معها فأرسلت قريش إلى النبي صلى اللَّه عليه و آله تناشده اللَّه و الرحم أن يضمهم إليه و لا يرد إليهم أحدا جاء ففعل النبي صلى اللَّه عليه و آله (1)

ذلك.

بل يستفاد منه عدم دخول من تجدد إسلامه منهم في عقد الهدنة فيجوز له السلب و القتل، و لذا لم يؤد النبي صلى اللَّه عليه و آله لهم من قتله أبو بصير و لا ما أخذه هو و أصحابه من عير قريش، و لعله لظهور عقد الهدنة فيمن كان في قبضة الإمام عليه السلام وقت العقد

دون من كان قد أسلم منهم إلا أن يشترطوا ذلك على وجه يشملهم الصلح.

و قد يشكل صحة الاشتراط في الأول بأن في إعادته و قهره على ذلك ظلما له، فلا يجوز قبول اشتراط ما يقتضي الظلم على المؤمن، إذ هو من الصلح المحلل للحرام، و يدفع بإطلاق الإذن بالمسالمة الشاملة للفرض إذا اقتضت المصلحة، و نصرة المظلوم واجبة مع التمكن المفروض عدمه بالشرط الواجب الوفاء به، إذ لا ضرر على المسلم بالرجوع مع فرض


1- 1 سيرة ابن هشام- القسم الثاني ص 323 و كامل ابن الأثير ج 2 ص 205.

ج 21، ص: 310

كونه من ذي القوة المانعة عنه، بل ربما يكون وجوده بينهم أصلح مع هذا الحال، لإمكان رغبة غيره معه في الإسلام، نعم لو فرض الأذية عليه و لو من عشيرته فضلا عن خوف القتل اتجه حينئذ عدم جواز اشتراط رده، بل اللازم على الإمام عليه السلام منعهم من قهرهم إياه، كل ذلك بعد كون الحكم مفروغا منه بين من تعرض له على وجه يظهر منه كونه من المسلمات، و لو لا ذلك لأمكن المناقشة فيه بعد من وجوه أخر أيضا، كما أن ما في المنتهى أيضا كذلك، قال: «لو جاء صبي و وصف الإسلام لم يرد، لأنه لا يؤمن افتتانه عند بلوغه، و كذا لو قدم مجنون لم يرد، و لو بلغ الصبي و أفاق المجنون فإن وصفا الإسلام كانا مع المسلمين، و إن وصفا الكفر فإن كان كفرا لا يقر أهله عليه ألزمناهما بالإسلام، أو رددناهما إلى مأمنهما، و إن كان مما يقر أهله عليه ألزما بالإسلام أو الجزية أو الرد إلى مأمنهما» و كذا ما فيه أيضا من أنه «لو جاء عبد حكمنا بحريته، لأنه قهر مولاه على نفسه، و قد تقدم و لو جاء سيده لم يرد عليه، لأنه مستضعف لا يؤمن عليه الافتتان، و هل يرد عليه قيمته؟ للشافعي قولان» ثم قال في مقام آخر: «لو كان القادم عبدا فأسلم صار حرا، فإن جاء سيده بطلبه لم يجب رده و لا رد ثمنه، لأنه صار حرا بالإسلام، و لا دليل على وجوب رد ثمنه» إذ لا يخفى عليك أن المعاهد حرام المال، و إسلام العبد لا يقتضي أزيد من عدم ملك الكافر المسلم، فيجب استنقاذه من الكافر بدفع ثمنه له.

و كيف كان ف لو شرط في الهدنة إعادة الرجال مطلقا قيل يبطل الصلح، لأنه كما يتناول من يؤمن افتتانه الذي يصح اشتراط إعادته يتناول من لا يؤمن الذي لا يصح اشتراط إعادته

ج 21، ص: 311

فيكون الصلح باطلا باعتبار ظهور الإطلاق في الأمرين، و لعل وجه توقف المصنف فيه باعتبار نسبته إلى القيل من ذلك، و من إمكان إرادة الأول من الإطلاق، لأصالة الصحة، أو يقال بالصحة فيه دون الثاني فيكون كبيع ما يصح بيعه و ما لا يصح بيعه، و للمعاهدين الخيار مع عدم علمهم بالحال، و من ذلك يعلم الحال على فرض إرادة عدم التقييد بالرجال من الإطلاق أو التصريح بالإطلاق الشامل لكل منهما، و إن قال في حاشية الكركي: «لم يكن وجه حينئذ للتوقف» و في المسالك «كان الشرط فاسدا قطعا، و يتبعه فساد الصلح على الأقوى، و يمكن أن يريد هذا المعنى، و يكون نسبة البطلان إلى القيل بناء على التردد في فساد العقد المشتمل على شرط فاسد، و سيأتي في البيع ما يشعر بتوقف المصنف في ذلك كما هنا» قلت: قد عرفت وجه التوقف أيضا من غير هذه الجهة، بل قد يقال بجواز الاشتراط على الإطلاق، لإطلاق الإذن في الصلح، و ليس في شي ء من النصوص المعتبرة عدم جواز ذلك شرعا على وجه لا يصح اشتراطه، لكن لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه، بل و بما ذكره المصنف من الموافقة على عدم جواز إعادة من لا قوة له، و الأمر سهل بعد وضوح الحال.

ثم إنه إذا بطل الصلح لم يرد من جاء منهم مسلما رجلا كان أو امرأة كما صرح به في المنتهى، بل قال: «و لا يرد البدل بحال، لأن البدل استحق بشرط، و هو مفقود هنا، كما لو جاءنا من غير هدنة» و فيه أن الآية و إن كانت في خصوص المعاهدين على ما يظهر من الأصحاب لكن قاعدة الغرور تقتضي رد البدل مع فرض الجهل منهم بفساد الصلح، كما أن لهم الخيار في فسخه لو علموا بالحال، ثم قال في المنتهى أيضا: «و إذا أريد رد من له عشيرة لم نكرههم على الرجوع

ج 21، ص: 312

لأنه ليس للإمام عليه السلام إخراج مسلم من بلد إلى بلد من بلاد الإسلام، فكيف إلى دار الحرب، بل يمنعه من الرجوع إن اختار ذلك، فيقول لك في الأرض مراغم كثيرة و سعة، و لا يمنع منه من جاء لرده و يوصيه بالهرب» و لا يخفى عليك ما فيه بعد فرض فساد الصلح، و اللَّه العالم.

و كل من وجب رده لا يجب حمله و إنما يخلى بينه و بينهم كما سمعته من المنتهى، و لكن ينبغي أن يكون ذلك على حسبما وقع عليه عقد الهدنة الذي يجب الوفاء به و بكل شرط صحيح مشتمل عليه كما هو واضح و لا يتولى عقد الذمة و لا عقد الهدنة على العموم و لا لأهل البلد الكبير و لا الصقع أي الناحية إلا الإمام عليه السلام أو من يقوم مقامه في ذلك كما صرح به غير واحد، بل في المنتهى لا نعلم فيه خلافا، قال: «لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام عليه السلام و ما يراه من المصلحة، فلم يكن للرعية تولية، و لأن تجويزه من غير الإمام عليه السلام يتضمن إبطال الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية» بل عنه أيضا «الإجماع على عدم جواز مهادنة أحد من الرعية بلدا أو صقعا» قلت لا كلام في أن ذلك من وظائف الإمام عليه السلام، إلا أن الظاهر قيام نائب الغيبة مع تمكنه مقامه في ذلك لعموم ولايته، بل لا يبعد جريان الحكم على ما يقع من سلطان الجور المعد نفسه لمنصب الإمامة كما أومأ إليه الرضا عليه السلام فيما تقدم (1)من أن بني تغلب على ما صالحهم عليه عمر حتى يظهر الحق، بل قد ذكرنا سابقا استمرار السيرة من الأعوام و العلماء في كل


1- 1 الوسائل- الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.

ج 21، ص: 313

مصر على تناول الجزية من أيديهم كتناول الخراج، بل يعدون ذلك من الحلال البين، و قد تقدم منا بعض الكلام في ذلك.

و إذا عقد الإمام عليه السلام الهدنة ثم مات وجب على من بعده من الأئمّة عليهم السلام العمل بموجب ما شرط الأول إلى أن تخرج مدة الهدنة، بل في المنتهى لا نعلم فيه خلافا، لأنه معصوم فعل مصلحة فوجب على القائم بعده تقريرها إلى وقت خروج العهد، قلت: و لعل ما يقع من نائبه الخاص بل العام كذلك أيضا، بل يمكن جريانه فيما يقع من الجائر الغاصب لما عرفت، هذا، و لعل التقييد بالعموم و أهل البلد و الصقع للاحتراز عن ذمام آحاد المسلمين لآحاد المشركين بل و للبلد الصغير كما تقدم الكلام فيه سابقا، فإنه يتضمن ترك القتال في الجملة أيضا، و على كل حال فالظاهر عدم ضمان نفس المعاهد و نحوه كما صرح به بعضهم و إن أثم، لأنه من أهل الحرب الذين لا ضمان لأنفسهم أما ماله فهو مضمون على من أتلفه، و اللَّه العالم.

[و من لواحق هذا الطرف مسائل ]
اشاره

و من لواحق هذا الطرف مسائل:

[المسألة الأولى كل ذمي انتقل عن دينه إلى دين لا يقر أهله عليه لا يقبل منه ]

الأولى كل ذمي انتقل عن دينه إلى دين لا يقر أهله عليه لا يقبل منه البقاء على ذلك و لا يقر عليه بلا خلاف و لا إشكال، بل في المنتهى و محكي التذكرة و التحرير الإجماع عليه، و هو كذلك، ضرورة عدم قبول دين من انتقل إليهم و عدم إقرارهم عليه، فهو أولى، إنما الكلام في حكمه حينئذ ففي المسالك و حاشية الكركي و غيرهما أنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل بل عن الشيخ أنه قواه أيضا، بل هو المحكي عن الإسكافي أيضا لعموم قوله تعالى (1)«وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ»


1- 1 سورة آل عمران- الآية 79.

ج 21، ص: 314

و النبوي (1)«من بدل دينه فاقتلوه»

و لأنه بارتداده عن دينه معترف ببطلانه و معلومية بطلان غيره ما عدا الإسلام، فصار كالمرتد عن الإسلام الذي لا يقبل منه غيره أو القتل، و إن كان قد يناقش في الأخير بعدم تمامية التشبيه بالمرتد الذي هو عنوان مستقل في النص و الفتوى، بخلاف الفرض فإنه لا يصدق عليه أنه مرتد، بل لعل المراد ذلك من الآية(2)و الرواية(3)التي لم تجمع شرائط الحجية، مضافا إلى معلومية عدم العمل بإطلاقها في المرتد الملي، بل يمكن كون المراد من الآية عدم قبول غير الإسلام من الأديان و إن أقر بعض أهل غيره بالجزية، لكن ذلك ليس قبولا، كما هو واضح، و من هنا قيل يقبل منه الرجوع إلى دينه مضافا إلى الإسلام، ضرورة صدق أهل تلك الملة عليه، فيشمله عموم الأدلة، بل قيل يقبل منه الرجوع إلى دين غير دينه الأول إذا كان ممن يقر أهله عليه، و لعله للصدق المزبور بعد ما عرفت من عدم

صراحة الآية بل و لا ظهورها في ذلك، و عدم جمع الخبر المزبور شرائط الحجية.

بل من ذلك يظهر لك الحال فيما ذكره المصنف بقوله أما لو انتقل إلى دين يقر أهله عليه كاليهودي ينتقل إلى النصرانية أو المجوسية قيل و القائل الإسكافي و الشيخ فيما حكي عنهما يقبل بل جعله الثاني منهما في المبسوط هو الظاهر من المذهب، بل عنه في الخلاف الإجماع عليه، و لعله لذا كان هو خيرة الفاضل في المختلف


1- 1 المستدرك- الباب 1 من أبواب حد المرتد الحديث 2.
2- 2 سورة آل عمران- الآية 79.
3- 3 المستدرك- الباب 1 من أبواب حد المرتد الحديث 2.

ج 21، ص: 315

و غيره، و حينئذ فالمراد بقوله عليه السلام الكفر ملة واحدة(1)ما يشمل الفرض و قيل لا يقبل لقوله تعالى وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ و اختاره الكركي و ثاني الشهيدين لذلك و للنبوي (2)مع القطع بأن الكفر ملل متعددة لا ملة واحدة، فلا بد أن يراد كالملة الواحدة، فلعل المراد حينئذ بالنسبة إلى العقاب و النجاسة و غيرهما من الأحكام لا ما نحن فيه، خصوصا بعد اقتضاء الآية و الرواية عدم قبول غير الإسلام منه أو القتل.

بل لعله الظاهر من المصنف أيضا لقوله و إن عاد إلى دينه قيل يقبل لأن الكفر ملة واحدة و قيل لا يقبل و هو أشبه للآية و الرواية، فإن ذلك منه يستلزم عدم القبول في الأول

ضرورة اقتضاء عدم قبول دينه الأول منه عدم قبول الثاني منه أيضا للآية و الرواية، و لكن قد سمعت سابقا المفروغية من عدم قبول الجزية ممن تهود أو تنصر بعد النسخ، بل حكينا عن ظاهر التذكرة و المنتهى الإجماع على ذلك، بل لعل قولهم سابقا إنه لا يقبل من غير الفرق الثلاثة إلا الإسلام أو القتل شاهد على ذلك، ضرورة أنه لو لم يكن كذلك لقبل منهم الدخول في اليهودية مثلا مع أداء الجزية، بل خبر الأسياف (3)الطويل الذي تسمعه إن شاء اللَّه في الخاتمة كالصريح في ذلك و منه و من غيره يعلم أن المراد من الآية أنه لا يقبل دين غير دين الإسلام بعد نزول الآية، نعم الفرق الثلاثة و ما يتولد منهم إذا اختاروا دين


1- 1 الموجود في الشرائع:« قيل؛ يقبل لأن الكفر ملة واحدة» و المصنف قدس سره أسقط كلمة« لأن».
2- 2 المستدرك- الباب 1 من أبواب حد المرتد الحديث 2.
3- 3 الوسائل- الباب 5 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.

ج 21، ص: 316

آبائهم تقبل منهم الجزية، و يقرون على دينهم إلى أن يشاء اللَّه، بل يمكن كون المراد من

قوله صلى اللَّه عليه و آله (1): «من بدل دينه فاقتلوه»

ذلك أيضا، و حينئذ فالوثني لو اختار اليهودية لا يقر على ذلك، و كذا اليهودي لو اختار النصرانية، نعم لا يبعد إقراره لو رجع إلى دينه الأول الذي كان مقرا عليه، لتناول العمومات له، و الخبر محمول على من بدل مصرا على البدل، و أما احتمال وجوب قتله

إلى أن يسلم و إن رجع تمسكا بإطلاق التبديل و الابتغاء في غاية البعد.

و من ذلك كله ظهر لك أن الحكم الآن بتبعية الأطفال في الفرق الثلاثة يكفي في صدق التبديل، فلو بلغ و اختار دينا غير من حكم بتبعيته عليه لم يقبل منه و لا يقر عليه، لأنه ابتغاء غير الإسلام دينا بعد النسخ، قال في المنتهى و تؤخذ الجزية ممن دخل في دينهم أي الثلاثة من الكفار إن كانوا قد دخلوا فيه قبل النسخ و التبديل و من نسله و ذراريه و يقرون بالجزية، و لو ولدوا بعد النسخ فإن دخلوا في دينهم بعد النسخ لم يقبل منهم إلا الإسلام، و لا يؤخذ منهم الجزية، ذهب إليه علماؤنا، و نحوه عن التذكرة، ثم استدل بالآية و الرواية، و قد سمعت الكلام في بني تغلب، كما أنه ظهر لك من ذلك الإشكال فيما أطلقه المصنف و غيره في المسألة من غير إشارة منهم إلى حال النسخ و غيره حتى العلامة في المنتهى فإنه بعد ذلك ذكر المسألة على حسبما ذكره المصنف هنا، فلاحظ و تأمل، و لعل التحقيق ما ذكرناه، و به تندفع المناقشة السابقة.

و كيف كان ف لو أصر على ما هو عليه و قلنا بقتله أو حيث يكون حكمه ذلك فقتل هل تملك أطفاله قيل و القائل الشيخ


1- 1 المستدرك- الباب 1 من أبواب حد المرتد الحديث 2.

ج 21، ص: 317

لا، استصحابا لحالهم الأول قال فيما حكي عنه: ما هذا لفظه «و أما أولاده فإن كانوا كبارا أقروا على دينهم، و لهم حكم نفوسهم، و إن كانوا صغارا نظر في الأم فإن كانت على دين يقر أهله عليه ببذل الجزية أقر ولده الصغير في دار الإسلام، سواء ماتت الأم أو لم تمت و إن كانت على دين لا يقر أهله عليه كالوثنية و غيرها فإنهم يقرون أيضا لما سبق لهم من الذمة، و الأم لا يجب عليها القتل» و مرجعه إلى ما ذكره المصنف من الإقرار مطلقا كما هو خيرة الكركي و ثاني الشهيدين للأصل، و لكن ظاهر نسبة المصنف له إلى القيل التوقف فيه، و لعله لتبعية الولد الوالد في الأحكام، و هو حسن إن ثبت العموم، و اللَّه العالم.

[المسألة الثانية إذا فعل أهل الذمة ما هو سائغ في شرعهم و ليس بسائغ في الإسلام لم يتعرضوا]

المسألة الثانية إذا فعل أهل الذمة ما هو سائغ في شرعهم و ليس بسائغ في الإسلام كشرب الخمر و نحوه لم يتعرضوا ما لم يتجاهروا به كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا بل و لا إشكالا لا بعد إقرارهم على دينهم فيما بينهم بأخذ الجزية منهم و القيام بشرائط الذمة، نعم إن تجاهروا به عمل بهم ما تقتضيه الجناية بموجب شرع الإسلام لأنهم مكلفون بالفروع، و لم ينقض عقد الذمة إقرارهم عليه مع التجاهر به، فيبقى حينئذ ما دل على الأمر بالمعروف و إقامة الحدود و النهي عن تعطيلها و غير ذلك من العمومات على حاله بل عن المبسوط روى أصحابنا(1)أنه يقيم عليهم الحد، و هو الصحيح، لكن عنه أيضا قبل ذلك أن للإمام عليه السلام منعهم و تأديبهم على إظهاره، بل قيل هو ظاهر المنتهى و التذكرة و التحرير و أنه الموافق

للأصول، و فيه ما لا يخفى، بل الظاهر انتقاض عقد الذمة إذا كان مثل نكاح المحرمات الذي قد عرفت وجوبه فيه و إن لم يشترط كما


1- 1 الوسائل- الباب 6 من أبواب حد المسكر.

ج 21، ص: 318

أسلفنا الكلام فيه سابقا.

و إن فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم أيضا كالزنا و اللواط فالحكم فيه أيضا كما في المسلم للعموم كما صرح به غير واحد أيضا بل و بأنه إن شاء الحاكم دفعه إلى أهل نحلته ليقيموا الحد فيه بمقتضى شرعهم و لكن إن كان إجماعا فذاك، و إلا كان مشكلا، و ربما وجه بأن مقتضى عقد الذمة بقاؤهم على أحكامهم و مقتضيات شرعهم، و فيه أن ذلك كذلك مع عدم الاطلاع، أما معه فلا، لعموم الأدلة، و خصوصا إذا كان قد تجاهروا به، و في حاشية الكركي و المسالك هذا إذا تساوت الملتان في وجوب المؤاخذة و إن حصل الاختلاف في الكم و الكيف، أما إذا لم يكن في ملتهم مؤاخذة على ذلك فإنه يجب إجراء حكم الإسلام، و لا يجوز تعطيل حد اللَّه، و هو و إن كان جيدا في الجملة بل هو مقتضى قول المصنف «ليقيموا الحد بمقتضى شرعهم» لكن قد يناقش بصدق التعطيل مع فرض كون الحد فيه عندهم الضرب و عندنا القتل و نحو ذلك.

نعم لو تحاكم إلينا ذميان مثلا كان الحاكم مخيرا بين الحكم عليهما بحكم الإسلام، لقوله تعالى (1)«وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» و قوله تعالى (2)«وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ

وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» و بين الإعراض عنهم بلا خلاف أجده فيه بيننا، لقوله تعالى (3)«فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» و

خبر أبي بصير(4)عن أبي جعفر عليه السلام «أن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة و أهل الإنجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم، و إن شاء تركهم»


1- 1 سورة المائدة- الآية 46.
2- 2 سورة المائدة- الآية 54.
3- 3 سورة المائدة- الآية 46.
4- 4 الوسائل- الباب 27 من أبواب كيفية الحكم الحديث 1 من كتاب القضاء.

ج 21، ص: 319

خلافا للشافعي في أحد قوليه و المزني فأوجبا الحكم بينهم، لقوله تعالى (1)«وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» المخصص بالآية الأولى بل الظاهر أنه يجوز له أيضا نقض حكمهم الباطل إذا استعداه أحد الخصمين منهما للعمومات، و ل

خبر هارون (2)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «قلت: رجلان من أهل الكتاب نصرانيان أو يهوديان كان بينهما خصومة فقضى بينهما حاكم من حكامهما بجور فأبى الذي قضى عليه أن يقبل و سأل أن يرد إلى حكم المسلمين، قال: يرد إلى حكم المسلمين».

و لو ترافع إلينا مستأمنان حربيان من غير أهل الذمة ففي المنتهى «لا يجب على الحاكم الحكم بينهم إجماعا، لأنه لا يجب على الإمام عليه السلام دفع بعضهم عن بعض، بخلاف أهل الذمة، و لأن أهل الذمة آكد حرمة فإنهم يسكنون دار الإسلام على التأييد» قلت: العمدة

ما حكاه من الإجماع، و لو ترافع ذمي مع مسلم أو مستأمن مع مسلم و جب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل اللَّه، لقوله تعالى «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» و غيره من العمومات الدالة على ذلك، و على وجوب دفع الظلم و الأمر بالمعروف و الحكم بالعدل و غير ذلك.

و لو استعدت زوجة ذمي على زوجها في ظهار مثلا جاز الحكم عليه بحكم الإسلام، فيمنعه حينئذ أن يقربها حتى يكفر، و لكن في المنتهى «لا يجوز له أن يكفر بالصوم، لافتقاره إلى نية القربة، و لا بالعتق لتوقفه على ملك المسلم، و هو لا يتحقق في طرفه إلا أن يسلم في يده أو


1- 1 سورة المائدة- الآية 54.
2- 2 الوسائل- الباب 27 من أبواب كيفية الحكم الحديث 2 من كتاب القضاء.

ج 21، ص: 320

يرثه، بل بالإطعام» و فيه أن ذلك لا يوافق حكم الإسلام، ضرورة الترتب في كفارة الظهار، فيكلف بالمرتبة الأولى و لو بأن يسلم.

و لو ترافع إلينا ذمي و مسلم في خمر اشتراه من الذمي أو بالعكس أبطلناه بكل حال تقابضا أو لم يتقابضا، و رددنا الثمن إلى المشتري، فإن كان المسلم استرجع الثمن، و في المنتهى «و أرقنا الخمر لأنا لا نقضي على المسلم برد الخمر، و جوزنا إراقتها لأن الذمي عصى بإخراجها إلى المسلم فيعاقب بإراقتها عليه» قلت لا يخلو من نظر إن لم يكن إجماعا و إن كان المشتري الذمي رددنا إليه الثمن و لا نأمره برد الخمر بل يريقها لأنها ليست بمال في حق المسلم، و اللَّه العالم.

[المسألة الثالثة إذا اشترى الكافر مصحفا لم يصح البيع ]

المسألة الثالثة إذا اشترى الكافر مصحفا كله أو بعضه لم يصح البيع، و قيل يصح و ترفع يده و الأول أنسب بإعظام الكتاب العزيز، و مثل ذلك كتب أحاديث النبي صلى اللَّه عليه و آله، و قيل يجوز على كراهية، و هو أشبه عند المصنف بأصول المذهب و قواعده و قد أشبعنا الكلام بحمد اللَّه تعالى في المسألة و أطرافها في المكاسب عند ذكر المصنف حكم بيع العبد المسلم على الكافر، فلاحظ و تأمل.

[المسألة الرابعة لو أوصى الذمي ببناء كنيسة أو بيعة لم يجز]

المسألة الرابعة لو أوصى الذمي ببناء كنيسة أو بيعة أو غير ذلك معبدا لهم و محلا لصلاتهم و نحوها من عباداتهم الباطلة و رجع الأمر إلينا لم يجز لنا إنفاذها لأنها معصية و الوصية فيها غير جائزة إجماعا في المنتهى و محكي التذكرة و غيرهما، بل هو محصل و كذا لو أوصى بصرف شي ء في كتابة التوراة و الإنجيل و غيرها لأنها محرفة فصارت من كتب الضلال، قال اللَّه تعالى شأنه(1)


1- 1 سورة النساء- الآية 48.

ج 21، ص: 321

«يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ»* و قال (1)«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ»

و روي «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله خرج يوما من داره فوجد في يد عمر صحيفة فقال: ما هي: فقال: من التوراة، فغضب عليه و رماها من يده، و قال: لو كان موسى و عيسى عليهما السلام حيين لما وسعهما إلا اتباعي».

و لو أوصى أن تكتب كتب طب أو حساب أو غيرهما مما لا حرمة فيه جاز لعموم الأدلة من غير فرق بين كون ذلك لهم أو لغيرهم، بل في المنتهى الإجماع عليه، و هو كذلك، إذ الممنوع إنفاذ الوصية بالمحرم و هو ما عرفت.

و كذا لو أوصى باستئجار الأجير الخاص لخدمة البيع و الكنائس أو شراء مصباح لهما أو أرض توقف عليهما أو غير ذلك مما هو محرم لما عرفت، نعم لو أوصى ببناء ذلك مأوى للمارة من أهل الذمة خاصة أو مع المسلمين أو سكناهم أو غير ذلك مما هو ليس معصية جاز، لعموم الوصية، هذا، و عن الشهيد «أن هذا ليس على إطلاقه، بل هو في موضع ليس لهم الإحداث فيه» و فيه أن عدم جواز إنفاذنا لها إذا رجع الأمر إلينا باعتبار كونها معصية في نفسها، و هو المراد من عدم صحتها، فإن لم يرجع الأمر إلينا لم يكن لنا التعرض لهم فيما يقتضيه شرعهم، و إن كان لنا المنع لو أرادوا إحداثها فيما لا يجوز الإحداث فيه، و كذا الكلام في الوصية بشراء الخمر أو الخنزير أو الوقف عليهما أو غير ذلك من المحرمات، و إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم في غير ذلك و لو أوصى للراهب و القسيس و غيرهما جاز كما تجوز الصدقة عليهم و الهبة و غيرهما بلا خلاف و لا إشكال للعموم، و ضمير


1- 1 سورة البقرة- الآية 73.

ج 21، ص: 322

الجمع في العبارة إما لأن لام الجنس تلحقهما بالمتعدد، أو لأن أقل الجمع اثنان، أو لأن المراد به أهل الذمة، و الأمر سهل، و لو أوصى بالكنيسة مثلا للمارة و الصلاة ففي المنتهى «قيل يبطل الوصية في الصلاة و تصح في نزول المارة، فتبنى كنيسة بنصف الثلث لنزول المارة خاصة فإن لم يمكن ذلك بطلت الوصية، و قيل تبنى الكنيسة بالثلث، و تكون لنزول المارة، و يمنعون من الاجتماع في الصلاة، و في الوجهين قوة» قلت: لعل الحكم ببطلان الوصية أقوى منهما لكونهما من الوصية بالمحرم و إن اشترك معه غاية محللة، فتأمل.

[المسألة الخامسة يكره للمسلم أجرة رم الكنائس و البيع ]

المسألة الخامسة يكره للمسلم أجرة رم الكنائس و البيع و إصلاحها من بناء و نجارة و غير ذلك و لا يحرم بلا خلاف أجده، بل قد مر ما عن المنتهى من الاتفاق على جواز رم ما انشعب منها، و لعل الوجه في الكراهة بعد التسامح فيها أنه نوع إعانة لهم على ما يفعلونه، من المحرمات فيها من صلاة و نحوها.

[الركن الرابع في قتال أهل البغي ]

الركن الرابع في قتال أهل البغي

(الركن الرابع في قتال أهل البغي) الذي هو لغة مجاوزة الحد و الظلم و الاستعلاء و طلب الشي ء، و في عرف المتشرعة الخروج عن طاعة الإمام العادل عليه السلام على الوجه الآتي، و المناسبة بينه و بين الجميع واضحة، و إن كانت هي في الظلم أتم، و من ذلك و غيره يعلم أن البغاة اسم ذم، خلافا لبعض العامة فأنكره، و قال: المراد بالبغاة المخطئون من أهل الاجتهاد، و هو كما

ج 21، ص: 323

ترى ناش عن عناد، و على كل حال فخبر الأسياف (1)المروي في التهذيب و الكافي و عمل به الأصحاب و تسمعه إن شاء اللَّه صريح فيما ذكره بعض من أنه نزل فيهم قوله تعالى (2)«وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» و إن كان قد أشكله بعض بأنها في المؤمنين، و الفرق الثلاثة عندنا كفار و إن انتحلوا الإسلام، و لفظ البغي فيها أعمّ من ذلك، إذ يمكن إرادة التعدي من بعض المؤمنين على بعض، و لكن يمكن أن يكون على ضرب من المجاز و لو باعتبار معتقدهم كما ستعرف ذلك.

و على كل حال فقد قيل إنهم استفادوا منها أمورا خمسة: أحدها أن البغاة على الإمام عليه السلام مؤمنون، لأن اللَّه تعالى سماهم مؤمنين و هو لا يوافق أصولنا في الإمامة، و من هنا حمل على ضرب من المجاز بناء على الظاهر أو على ما كانوا عليه أو على ما

يعتقدونه، نحو قوله تعالى (3)«وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ، كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ» المعلوم أنه في المنافقين بل في المنتهى و هذه صفة المنافقين إجماعا، الثاني وجوب قتالهم، و هو كذلك عندنا كما ستعرف إن شاء اللَّه، الثالث وجوب القتال إلى غاية و هو كذلك أيضا لنص الآية كما ستعرف، الرابع عدم الرجوع على أهل البغي بنفس أو مال بعد الصلح، لعدم ذكر شي ء منهما بعده،


1- 1 الوسائل- الباب 5 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
2- 2 سورة الحجرات- الآية 9.
3- 3 سورة الأنفال- الآية 5 و 6.

ج 21، ص: 324

و مناف لما عندنا كما ستعرف، بل و لقوله تعالى فيها «وَ أَقْسِطُوا» المراد به العدل، الخامس دلالتها على جواز قتال كل من منع حقا طولب به فلم يفعل، للعلة التي جوزت قتال البغاة، و فيه أنها مستنبطة و ليست حجة عندنا، خصوصا بعد معلومية تفاوت الحقوق، و أن أعظمها مخالفة الإمام عليه السلام على وجه يترتب عليه الفساد في الدين، فلا يقاس عليه غيره، كما هو واضح.

و كيف كان فلا خلاف بين المسلمين فضلا عن المؤمنين في أنه يجب قتال من خرج على إمام عادل عليه السلام بالسيف و نحوه إذا ندب إليه الإمام عليه السلام عموما أو خصوصا أو من نصبه الإمام لذلك أو ما يشمله، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيض كالنصوص (1)من طرق العامة و الخاصة، مضافا إلى ما سمعته من الكتاب بناء على نزوله

فيهم كما تسمع التصريح به في خبر الأسياف في الخاتمة المروي في الكافي و التهذيب و عمل به الأصحاب و منهم الناكثون أصحاب الجمل أعوان الامرأة، و القاسطون أهل الشام و المارقون الخوارج الذين هم كلاب أهل النار، و قد مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية، و لا يتجاوز الإيمان تراقيهم، و قد بشر النبي صلى اللَّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السلام بمباشرة قتالهم أجمع من بعده كما تسمعه إن شاء اللَّه في خبر الأسياف و غيره، و أنه الذي يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو على تنزيله،

و عن علي عليه السلام (2)أنه قال: «أمرت بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين ففعلت ما أمرت»


1- 1 الوسائل- الباب 26 من أبواب جهاد العدو و سنن البيهقي ج 8 ص 168.
2- 2 دعائم الإسلام ج 1 ص 388.

ج 21، ص: 325

و قال عليه السلام أيضا(1)«و اللَّه ما وجدت إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل اللَّه تعالى على نبيه محمد صلى اللَّه عليه و آله»

و عن الباقر عليه السلام (2)أنه ذكر الذين حاربهم علي عليه السلام فقال: «أما إنهم أعظم حربا ممن حارب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، قيل له و كيف ذلك يا بن رسول اللَّه؟ قال: لأن أولئك كانوا جاهلية و هؤلاء قرءوا القرآن و عرفوا فضل أهل الفضل، فأتوا ما أتوا بعد البصيرة».

و كيف كان ف التأخر عنه كبيرة بلا خلاف و لا إشكال، خصوصا بعد أن كان من الجهاد، بل هو من أعظم أفراده، و في

خبر هاشم بن يزيد(3)قال: «سمعت يزيد بن علي يقول: كان علي عليه السلام في حربه أعظم أجرا من قيامه مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله في حربه، قال: قلت: و أي شي ء تقول أصلحك اللَّه؟ قال:

فقال لي لأنه كان مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله تابعا، و لم يكن له إلا أجر تبعيته، و كان في هذه متبوعا و كان له أجر كل من تبعه».

و لكن إذا قام به من فيه غنى سقط عن الباقين ما لم يستنهضه الإمام عليه السلام على التعيين إذ هو واجب كفاية كجهاد المشركين، و حينئذ فالمراد من ندب الإمام أو منصوبه طلب من تقوم به الكفاية من المسلمين، و إلا فلو أمرهم على العموم الاستغراقي وجب امتثال أمره، فيكون عينيا من هذه الحيثية، كالذي يستنهضه الإمام عليه السلام بخصوصه، كما هو واضح، و في

خبر محمد بن عمر بن


1- 1 المستدرك- الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 12.
2- 2 المستدرك- الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 13.
3- 3 التهذيب- ج 6 ص 170 الرقم 326 و فيه« قال: سمعت زيد بن علي» و هو الصحيح.

ج 21، ص: 326

علي عليه السلام (1)عن أبيه عن جده عليه السلام عن النبي صلى اللَّه عليه و آله المروي مسندا عن مجالس الحسن بن محمد الطوسي أنه قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله: «إن اللَّه تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم الجهاد مع المشركين معي، فقلت يا رسول اللَّه: و ما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟ قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا اللَّه، و أني رسول اللَّه، و هم مخالفون لسنتي و طاعنون في ديني، فقلت فعلى ما نقاتلهم يا رسول اللَّه و هم يشهدون أن لا إله إلا اللَّه و أنك رسول اللَّه؟ فقال على إحداثهم في دينهم و فراقهم لأمري، و استحلالهم دم عترتي»

، و عن علي عليه السلام (2)«أنه حرض الناس على القتال يوم الجمل، فقال: قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم، لعلهم ينتهون، ثم قال: و اللَّه ما رمى أهل هذه الآية سهم قبل اليوم»

و عنه عليه السلام أيضا(3)أنه قال يوم صفين:

«اقتلوا بقية الأحزاب و أولياء الشيطان، اقتلوا من يقول: كذب اللَّه و رسوله، و تقولون صدق اللَّه و رسوله».

و من ذلك و غيره كان الفرار في حربهم كالفرار في حرب المشركين و أنه يجب مصابرتهم حتى يفيئوا أو يقتلوا و إن استعاذوا بالمصاحف و الدعوة إلى حكم الكتاب لم يلتفت إلى قولهم إذا كان قد دعوا إليه

فامتنعوا فيقاتلون حينئذ حتى يصرحوا بالفئة على وجه لم يعلم كونه خديعة، و ما وقع من أمير المؤمنين عليه السلام في صفين كان مغلوبا عليه من جيشه الذي كان أكثره من المخالفين، و إلا فهو قد


1- 1 الوسائل- الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 7.
2- 2 دعائم الإسلام- ج 1 ص 389- 390 المطبوعة عام 1383.
3- 3 دعائم الإسلام- ج 1 ص 389- 390 المطبوعة عام 1383.

ج 21، ص: 327

صابرهم أي مصابرة، خصوصا ليلة الهرير في وقعة صفين، و عن

عبد الرحمن السلمي (1)قال: «شهدت صفين مع علي عليه السلام فنظرت إلى عمار بن ياسر و قد حمل فأبلى و انصرف و قد انثنى سيفه من الضرب، و كان مع علي عليه السلام جماعة قد سمعوا قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية، فكان لا يسلك واديا إلا اتبعوه فنظر إلى هاشم بن عتبة المرقال صاحب راية علي عليه السلام و قد ركز الراية و كان هاشم أعور فقال له عمار: يا هاشم عورا و جبنا لا خير في أعور لا يغشى الناس، فانتزع هاشم الراية و هو يقول:

أعور يبقى أهله محلا قد عالج الحياة حتى ملا

لا بد أن يفل أو يفلا

فقال عمار: أقدم يا هاشم- إلى أن قال: فحملا جميعا فما رجعا حتى قتلا»

و عن علي عليه السلام (2)«أنه أعطى الراية يوم الجمل محمد بن الحنفية و أقامه بين يديه، و قدم الحسن عليه السلام على الميمنة و الحسين عليه السلام على الميسرة، و وقف خلف الراية على بغلة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله الشهباء، قال ابن الحنفية: فدنا منا القوم و رشقونا بالنبل، و قتلوا رجلا، فالتفت إلى أمير المؤمنين عليه السلام فرأيته نائما قد استثقل نوما، فقلت يا أمير المؤمنين على مثل هذه الحال تنام و قد فضخونا بالنبل و قتلوا رجلا منا، هلك الناس، فقال علي عليه السلام لا أراك إلا تحن حنين العذراء الراية راية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، فأخذها فهزها و كانت الريح في وجوهنا فانقلبت عليهم، فحسر علي عليه السلام عن ذراعه و شد عليهم فضرب


1- 1 دعائم الإسلام ج 1 ص 392 مع اختلاف يسير.
2- 2 دعائم الإسلام ج 1 ص 353.

ج 21، ص: 328

بسيفه حتى صبغ كم قبائه و انحنى سيفه».

و كيف كان فقتال البغاة كقتال المشركين في الوجوب و كفائيته و كون تركه كبيرة، و أن الفرار منه كالفرار منه بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك كما اعترف به في المنتهى، و النصوص من الطرفين وافية به كفعل علي عليه السلام في قتال الفرق الثلاثة.

و المقتول مع العادل شهيد لا يغسل و لا يكفن بل يصلى عليه بلا خلاف أجده فيه، بل ظاهر المنتهى الإجماع عليه، و بالجملة فهم كالمشركين في أصل القتال و المصابرة و نحوهما مما تقدم هناك حتى بالنسبة إلى قتل الوالد و غيره من الأرحام الذي حكي عن الشيخ هنا كراهته بل في المنتهى نسبته إلى أكثر العلماء، و إن كان فيه أن التعارض مخصوص بالوالد، للأمر(1)بالصحبة في الدنيا معروفا، و مع فرض التكافؤ من جميع الوجوه يتجه التخيير، أما غير الوالد فهو باق على مقتضى عموم القتل كالمشرك الرحم، بل يمكن منع التكافؤ في الأول، لقوة دليل وجوب قتلهم المؤيد بإعزاز الدين، و نهي النبي صلى اللَّه عليه و آله أبا بكر و أبا حذيفة عن قتل أبويهما لم يثبت من طرقنا، و الغرض من ذلك بيان اتحاد كيفية قتال المشركين و البغاة من هذا الوجه و نحوه.

نعم من كان من أهل البغي لهم فئة يرجع إليها جاز الإجهاز على جريحهم و إتباع مدبرهم و قتل أسيرهم، و من لم يكن لهم فئة فالقصد بمحاربتهم تفريق كلمتهم، فلا يتبع لهم مدبر و لا يجهز على جريح و لا يقتل لهم مأسور بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، نعم في الدروس و نقل الحسن أنهم يعرضون على السيف، فمن تاب منهم ترك


1- 1 سورة لقمان- الآية 14.

ج 21، ص: 329

و إلا قتل، إلا أنه لم نعرف القائل به، بل المعلوم من فعل علي عليه السلام في أهل

الجمل خلافه، و حينئذ فلا خلاف معتد به فيه، بل في المنتهى و محكي التذكرة نسبته إلى علمائنا، بل عن الغنية الإجماع عليه صريحا، و هو الحجة بعد

خبر حفص بن غياث (1)«سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الطائفتين من المؤمنين إحداهما باغية و الأخرى عادلة فهزمت العادلة الباغية قال: ليس لأهل العدل أن يتبعوا مدبرا و لا يجهزوا على جريح و لا يقتلوا أسيرا، و هذا إذا لم يبق من أهل البغي أحد و لم يكن فئة يرجعون إليها، فإذا كانت لهم فئة يرجعون إليها فإن أسيرهم يقتل، و مدبرهم يتبع، و جريحهم يجهز عليه»

و خبر الحسن بن علي بن شعبة المروي عن تحف العقول (2)عن أبي الحسن الثالث عليه السلام أنه قال في جواب مسائل يحيى بن أكثم: «و أما قولك إن عليا عليه السلام قتل أهل صفين مقبلين و مدبرين و أجهز على جريحهم، و إنه يوم الجمل لم يتبع موليا، و لم يجهز على جريح، و من ألقى سلاحه أمنه و من دخل داره أمنه، إن أهل الجمل قتل إمامهم و لم تكن لهم فئة يرجعون إليها، و إنما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين و لا مخالفين و لا منابذين، و رضوا بالكف عنهم، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم، و الكف عن أذاهم إذا لم يطلبوا عليه أعوانا، و أهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة، و إمام يجمع لهم السلاح و الدروع و الرماح و السيوف، و يسني لهم العطاء، و يهيئ لهم المنازل، و يعود مريضهم، و يجبر كسيرهم، و يداوي جريحهم، و

يحمل راجلهم، و يكسو حاسرهم و يردهم فيرجعون إلى محاربتهم و قتالهم، فلم يساو بين الفريقين في الحكم


1- 1 الوسائل- الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.

ج 21، ص: 330

لما عرف من الحكم في قتال أهل التوحيد، لكنه شرح ذلك لهم، فمن رغب عرض على السيف أو يتوب عن ذلك»

و عن شريك (1)قال:

«لما هزم الناس يوم الجمل قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تتبعوا موليا و لا تجهزوا على جريح، و من أغلق بابه فهو آمن، فلما كان يوم صفين قتل المقبل و المدبر و أجاز على جريح، فقال أبان بن تغلب لعبد اللَّه بن شريك هاتان سيرتان مختلفتان، فقال: إن أهل الجمل قتل طلحة و الزبير و إن معاوية كان قائما بعينه، و كان قائدهم»

و في الدعائم (2)عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: «سار علي عليه السلام بالمن و العفو في عدوه من أجل شيعته، لأنه كان يعلم أنه سيظهر عليهم عدوهم من بعده، فأحب أن يقتدي من جاء بعده به، فيسير في شيعته بسيرته و لا يجاوز فعله، فيرى الناس أنه قد تعدى و ظلم إذا انهزم أهل البغي و كان لهم فئة يلجئون إليها طلبوا و أجهز على جرحاهم و أتبعوا و قتلوا ما أمكن إتباعهم و قتلهم، و كذلك سار

علي عليه السلام في أصحاب صفين، لأن معاوية كان وراءهم، و إذا لم يكن لهم فئة لم يطلبوا و لم يجهز على جرحاهم، لأنهم إذا ولوا تفرقوا»

إلى غير ذلك من النصوص التي قد تظافرت في أنه عليه السلام سار في أهل الجمل بالمن و العفو.

قال أبو حمزة الثمالي (3)«قلت لعلي بن الحسين عليهما السلام بما سار علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: إن أبا اليقظان كان رجلا حادا رحمه اللَّه فقال يا أمير المؤمنين: بم تسير في هؤلاء غدا؟ فقال


1- 1 الوسائل- الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
2- 2 ذكر صدره في المستدرك في الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 و ذيله في الباب 22 منها الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.

ج 21، ص: 331

بالمن كما سار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله في أهل مكة»

و عن الأصبغ (1)«أن أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل لما قتل طلحة و الزبير و قبض على عائشة و انهزم أصحاب الجمل نادى مناديه لا تجهزوا على جريح، و لا تتبعوا مدبرا، من ألقى سلاحه فهو آمن، ثم دعا ببغلة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله الشهباء فركبها، ثم قال: تعال يا فلان، و تعال يا فلان حتى جمع إليه زهاء من ستين شيخا، كلهم من همدان قد تنكبوا الترسة و تقلدوا السيوف و لبسوا المغافر، فسار و هم حوله حتى انتهى إلى دار عظيمة فاستفتح ففتح له، فإذا هو بنساء

يبكين بفناء الدار، فلما نظرن إليه صحن صيحة واحدة و قلن هذا قاتل الأحبة، فلم يقل لهن شيئا، و سأل عن حجرة عائشة ففتح له بابها و سمع بينهما كلام شبيه بالمعاذير لا و اللَّه و بلى و اللَّه، ثم خرج فنظر إلى امرأة أدماء طويلة فقال لها يا صفية فأتته مسرعة، فقال أ لا تبعدين هؤلاء الكلبات يزعمن أني قاتل الأحبة و لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة و من في هذه و أومأ إلى ثلاث حجر، فذهبت إليهن و قالت لهن فما بقيت في الدار صائحة إلا سكتت و لا قائمة إلا قعدت، قال الأصبغ و كان في إحدى الحجر عائشة و من معها من خاصتها، و في الأخرى مروان بن الحكم و شباب من قريش، و في الأخرى عبد اللَّه بن الزبير و أهله فقيل للأصبغ فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء فقتلتموهم أ ليس هؤلاء كانوا أصحاب القرحة فلم استبقيتموهم قال: قد ضربنا و اللَّه بأيدينا إلى قوائم سيوفنا و أحددنا أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر فما فعل و أوسعهم عفوا»

و لعله لهذه النصوص و نحوها قال الشيخ و ابنا إدريس و حمزة فيما حكي عنهم إنه يعتبر في جريان حكم البغاة كونهم في منعة و كثرة لا


1- 1 المستدرك- الباب 22 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

ج 21، ص: 332

يمكن كفهم و تفريق جمعهم إلا بالاتفاق و تجهيز الجيوش و القتال، فأما إن كانوا نفرا يسيرا كالواحد و الاثنين و العشرة و كيدهم ضعيف لم يجر عليهم حكم أهل البغي، و هو المحكي عن الشافعي، مستدلين عليه بأن

ابن ملجم (1)لما جرح عليا عليه السلام و قبض عليه أوصى أمير المؤمنين عليه السلام بالإحسان إليه، و قال: «إن برئت فأنا أولى بأمري و إن مت فلا تمثلوا به»

و لكن عن بعض الجمهور جريان حكم البغاة حتى على الواحد إذا خرج بالسيف، بل في المنتهى و عن التذكرة أنه قوي بل قيل إنه مقتضى إطلاق المتن و القواعد و الإرشاد و غيرها، و إن كان قد يناقش بانسياق غير ذلك من الإطلاق المزبور، خصوصا بعد ذكرهم الفئة و نحوها مما يظهر منه الاجتماع المعتد به، و لا أقل من الشك، فيبقى الأصل حينئذ بحاله، نعم يجري عليهم حكم المحارب لو فرض إشهاره للسلاح أو غيره مما يندرج فيه.

و حكي عن الشيخ أيضا و ابني حمزة و إدريس اشتراط الخروج عن قبضة الإمام منفردين عنه في بلد أو بادية في جريان حكم البغاة أما لو كانوا معه و في قبضته فليسوا أهل بغي، و لعله

للمرسل (2)«أن عليا عليه السلام كان يخطب فقال رجل بباب المسجد لا حكم إلا لله تعريضا بعلي عليه السلام أنه حكم في دين اللَّه الرجال، فقال علي عليه السلام:

كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث، لا نمنعكم مساجد اللَّه أن تذكروا اسم اللَّه فيها، و لا نمنعكم الفي ء ما دامت أيديكم معنا و لا نبدؤكم بقتال»

إذ المراد من

قوله عليه السلام «ما دامت أيديكم معنا»

عدم الانفراد، و لكنه مرسل غير جامع لشرائط الحجية، نعم


1- 1 الوسائل- الباب 62 من أبواب القصاص في النفس الحديث 4.
2- 2 المستدرك- الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 9.

ج 21، ص: 333

قد يقال إن حكم البغاة لم يعلم إلا من فعل علي عليه السلام كما اعترف به الشافعي و غيره، و لم يثبت لنا شي ء من فعله فيما عدا الفرق الثلاثة، و قد كانوا كذلك.

و ربما حكي عنهم أيضا اشتراط أن يكونوا على المباينة بتأويل يعتقدونه، و لم نجد لهم ما يدل عليه، بل الواقع من علي عليه السلام مع أهل الجمل و صفين خلافه، ضرورة عدم شبهة لهم، نعم قد كان ذلك في خصوص الخوارج، ففي

خبر السكوني (1)عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام «لما فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من أهل النهر قال لا يقاتلهم أحد بعدي إلا من هم أولى بالحق منه»

كما هو المحكي عن خط العلامة بيده، فيكون حينئذ إخبارا لا نهيا،

و في بعض «إلا من هو أولى بالحق منهم»

و في خبره الآخر(2)عن جعفر عن أبيه عليهما السلام أيضا قال: «ذكرت الحرورية عند علي عليه السلام قال: إن خرجوا على إمام عادل أو

جماعة فقاتلوهم، و إن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم، فإن لهم في ذلك مقالا»

و في خبر جميل بن دراج (3)قال: «قال رجل لأبي عبد اللَّه عليه السلام الخوارج شكاك فقال: نعم، قال: فقال بعض أصحابه: كيف و هم يدعون إلى البراز، قال: ذلك مما يجدون في أنفسهم»

و في نهج البلاغة(4)عن أمير المؤمنين عليه السلام «لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه يعني معاوية


1- 1 الوسائل- الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
2- 2 الوسائل- الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 عن ابن المغيرة إلا أن الموجود في علل الشرائع عن السكوني.
3- 3 الوسائل- الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
4- 4 الوسائل- الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 13.

ج 21، ص: 334

و أصحابه»

و الغرض من ذلك تنقيح موضوع البغاة على وجه تجري عليه أحكامهم، و إلا فقد يجب قتلهم لكونهم محاربين، أو لأنهم نصاب، و لاستحلالهم دماء المسلمين و تكفيرهم أمير المؤمنين عليه السلام و نحو ذلك مما هو إنكار ضروري الدين، أو لغير ذلك من موجبات القتل التي هي مذهبهم، فإنهم لم يبقوا على ما كانوا حال خروجهم، بل صارت لهم عقائد ملعونة خرجوا بها عن ربقة الإسلام، و لذا حكم الأصحاب بنجاستهم في كتاب الطهارة من غير خلاف يعرف فيه بينهم.

و كيف كان فقد عرفت عدم اعتبار الشبهة أيضا في البغي للقطع بكون أهل الجمل و صفين

منهم، و لا شبهة لهم، كما أن من حكم أهل البصرة و النهر يعلم أيضا عدم اعتبار نصب إمام لأنفسهم كما عن بعض العامة.

نعم الظاهر عدم الخلاف بل و الإشكال في اعتبار إرشادهم قبل القتل، و ذكر ما يزيح عنهم الشبهة كما فعله أمير المؤمنين عليه السلام في حربهم بنفسه و برسله حتى ذكر ما ذكر لهم جريا على مذاقهم، و لم يكتف بذلك حتى بدءوه بالحرب ففعله بهم ما فعل، و اللَّه العالم.

[مسائل ]
[المسألة الأولى لا يجوز سبي ذراري البغاة و لا تملك نساؤهم إجماعا]

الأولى لا يجوز سبي ذراري البغاة و إن تولدوا بعد البغي و لا تملك نساؤهم إجماعا محصلا و محكيا عن التحرير و غيره بل عن المنتهى «نفي الخلاف فيه بين أهل العلم» و عن التذكرة «بين الأمة» لكن في المختلف و المسالك نسبته إلى المشهور، و لعله لما في الدروس، قال: و نقل الحسن أن للإمام عليه السلام ذلك إن شاء، لمفهوم

قول علي عليه السلام «إني مننت على أهل البصرة كما من رسول اللَّه (ص) على أهل مكة، و قد كان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله أن يسبي فكذا الإمام عليه السلام»

و هو شاذ، قلت: بل لم نعرفه لأحد

ج 21، ص: 335

منا، مع احتمال كون مراده أنه قد كان ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام لو أراده، إلا أن التقية جعلت الحكم كذلك كما استفاضت به النصوص، ففي

خبر عبد اللَّه بن سليمان (1)«قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إن الناس يروون أن عليا عليه السلام قتل أهل البصرة و ترك أموالهم، فقال: إن دار الشرك يحل ما فيها، و إن دار الإسلام لا يحل ما فيها، فقال: إن عليا عليه السلام إنما من عليهم كما من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله على أهل مكة، و إنما ترك علي عليه السلام لأنه كان يعلم أنه سيكون له شيعة، و أن دولة الباطل ستظهر عليهم فأراد أن يقتدى به في شيعته، و قد رأيتم آثار ذلك هو ذا سائر في الناس سيرة علي عليه السلام، و لو قتل علي عليه السلام أهل البصرة جميعا و اتخذ أموالهم لكان ذلك له حلالا، لكنه من عليهم ليمن على شيعته من بعده»

و خبر زرارة(2)عن أبي جعفر عليه السلام «لو لا أن عليا عليه السلام سار في أهل حربه

بالكف عن السبي و الغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما، ثم قال: و اللَّه لسيرته كانت خيرا لكم مما طلعت عليه الشمس»

و خبر أبي بكر الحضرمي (3)«سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: لسيرة علي عليه السلام في أهل البصرة كانت خيرا لشيعته مما طلعت عليه الشمس، إنه علم أن للقوم دولة، فلو سباهم لسبيت شيعته، قلت فأخبرني عن القائم عليه السلام يسير بسيرته قال: لا إن عليا سار فيهم بالمن لما علم من دولتهم، و إن القائم عليه السلام يسير فيهم بخلاف تلك السيرة، لأنه لا دولة لهم»

و خبر الحسن بن هارون بياع الأنماط(4)قال: «كنت عند أبي عبد اللَّه


1- 1 الوسائل- الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
2- 2 الوسائل- الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 8.
3- 3 الوسائل- الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
4- 4 الوسائل- الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.

ج 21، ص: 336

عليه السلام جالسا فسأله معلى بن خنيس أ يسير الإمام عليه السلام بخلاف سيرة علي عليه السلام؟ قال: نعم، و ذلك أن عليا سار بالمن و الكف لأنه علم أن شيعته سيظهر عليهم، و أن القائم عليه السلام إذا قام سار فيهم بالسيف و السبي لأنه يعلم أن شيعته لن يظهر عليهم من بعده أبدا»

إلى غير ذلك من النصوص المروية في الكافي و التهذيب و غيرهما بل يمكن دعوى القطع بمضمونها إن لم يمكن دعوى تواترها بالمعنى

المصطلح، فلعل القائل المزبور أراد هذا المعنى، لا أن المراد جواز السبي في زمان الهدنة إلى ظهور صاحب الأمر عليه السلام،

قال محمد بن مسلم (1)«سألت أبا جعفر عليه السلام عن القائم عليه السلام إذا قام بأيّ سيرة يسير في الناس فقال بسيرة ما سار به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله حتى يظهر الإسلام، قلت: و ما كانت سيرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله؟ قال: أبطل ما كان في الجاهلية و استقبل الناس بالعدل، و كذلك القائم عليه السلام إذا قام يبطل ما كان في الهدنة مما كان في أيدي الناس و يستقبل بهم العدل»

و لا ينافي ذلك ما

في جملة من النصوص من جواب علي عليه السلام لما سئل عن السبي فقال: «أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه»

منها

خبر مروان بن الحكم (2)قال: «لما هزمنا علي بالبصرة رد على الناس أموالهم، من أقام بينة أعطاه، و من لم يقم بينة أحلفه، فقال له قائل يا أمير المؤمنين أقسم الفي ء بيننا و السبي، قال: فلما أكثروا قال: أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه، فكفوا»

و عن الصدوق رحمه اللَّه قد روى (3)«أن الناس اجتمعوا إلى


1- 1 الوسائل- الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
2- 2 الوسائل- الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.
3- 3 الوسائل- الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 7.

ج 21، ص: 337

أمير المؤمنين عليه السلام يوم البصرة فقالوا يا أمير المؤمنين أقسم بيننا غنائمهم، قال أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه»

ضرورة كون ذلك منه إسكاتا للخصم، و إلا فالأصل هو ما تضمنته النصوص السابقة الذي لا يمكنه أن يبوح به، فإن أكثر جيشه مخالفون كما صرح عليه السلام به في بعض خطبه، بل هو من المعلوم من كتب السير و التواريخ، و يكفيك خبر النهي (1)عن الاجتماع في نافلة شهر رمضان المشتمل على صيحة الكوفة من جميع جوانبها وا سنة عمراه فكف عن النهي عن ذلك، فالعمدة حينئذ هذا و هو تكليف كالأصلي، بل الأجر في التعبد به أعظم من الأجر بالعمل بالأول حال عدم التقية، و إلا ف

قوله عليه السلام «أيكم يأخذ أم المؤمنين»

إلى آخره يمكن الجواب عنه باستثنائها خاصة، إلا أنه عليه السلام أبدى ذلك إسكاتا لهم و جوابا على ما عندهم من الاعتقاد، و به قطع حجة الخوارج لما أنكروا عليه ما فعله بالبصرة من سفك الدماء و عدم السبي أو غير ذلك من الحكم التي هو أدرى بها، و لكن الأمر المخزون المكنون هو الذي أبداه أئمة الهدى عليهم السلام، على أنه عليه السلام مع منه عليهم بما من و كانت سيرته معلومة لديهم و قد فعلوا في كربلاء ما فعلوا.

و مما تضمنته النصوص المزبورة تنكشف الشبهة عن جملة من الأمور، منها نكاح عمر لأم كلثوم، و منها ملاقاتهم بالرطوبة و نحوها و غير ذلك من المعاملة معاملة المسلم الحقيقي، و حاصله أن هذا الزمان المسمى في النصوص بزمان الهدنة يجري عليهم فيه جميع أحكام المسلمين في الطهارة و أكل الذبائح و المناكحات و حرمة الأموال و نحو ذلك حتى يظهر


1- 1 الوسائل- الباب 10 من أبواب نافلة شهر رمضان من كتاب الصلاة.

ج 21، ص: 338

الحق فيجري عليهم حينئذ حكم الكفار الحربيين، و منه

خبر مسعدة بن زياد(1)المروي عن قرب الإسناد عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «أن عليا عليه السلام لم يكن ينسب أحدا من أهل البغي إلى الشرك و لا إلى النفاق، و لكن كان يقول: إخواننا بغوا علينا»

و خبر الفضل بن شاذان (2)عن الرضا عليه السلام المروي مسندا عن العيون في حديث طويل «فلا يحل قتل أحد من النصاب و الكفار في دار التقية إلا قاتل أو ساع في فساد، و ذلك إذا لم تخف على نفسك و أصحابك»

و في الدعائم (3)عن علي عليه السلام «أنه سئل عن الذين قاتلهم من أهل القبلة أ كافرون هم؟ قال: كفروا بالأحكام و كفروا بالنعم، ليس كفر المشركين الذين دفعوا النبوة و لم

يقروا بالإسلام، و لو كانوا كذلك ما حلت لنا مناكحتهم و لا ذبائحهم و لا مواريثهم»

إلى غير ذلك من النصوص الدالة على جريان حكم المسلمين على البغاة من حيث البغي في زمن الهدنة، فضلا عما هو المعلوم من تتبع كتب السير من مخالطتهم و عدم التجنب عن أسئارهم و غير ذلك من أحكام المسلمين، و إن وجب قتالهم على الوجه الذي ذكرناه، لكن ذلك أعمّ من الكفر، نعم الخوارج منهم قد اتخذوا بعد ذلك دينا و اعتقدوا اعتقادات صاروا بها كفارا لا من حيث كونهم بغاة، و أما تغسيلهم و دفنهم و الصلاة عليهم فقد فرعه بعضهم على الكفر و عدمه، و لكن قد يقال بعدم وجوب ذلك و إن لم نقل بكفرهم حال حياتهم، و لكن لهم حكمهم بعد موتهم كما سمعته سابقا في مطلق منكر الإمامة.


1- 1 الوسائل- الباب- 26- من أبواب جهاد العدو الحديث 10.
2- 2 الوسائل- الباب- 26- من أبواب جهاد العدو الحديث 9.
3- 3 المستدرك- الباب- 24- من أبواب جهاد العدو- الحديث 14.

ج 21، ص: 339

[المسألة الثانية لا يجوز تملك شي ء من أموالهم ]

و من ذلك يعلم الحال في المسألة الثانية التي هي لا يجوز تملك شي ء من أموالهم التي لم يحوها العسكر سواء كانت مما تنقل كالثياب و الآلات أو لا تنقل كالعقارات، لتحقق الإسلام المقتضي لحقن الدم و المال بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، بل في المسالك هو موضع وفاق، بل في صريح المنتهى و الدروس و محكي الغنية و التحرير الإجماع عليه، بل يمكن دعوى القطع به بملاحظة ما وقع من أمير المؤمنين عليه السلام في حرب أهل البصرة و النهر بعد الاستيلاء عليهم، مضافا إلى ما سمعته من النصوص السابقة، نعم ما حكاه الحسن بن أبي عقيل مثله يأتي هنا أيضا، و قد سمعت تحقيق الحال فيه على وجه لا يقدح في محكي الإجماع و لا محصله، فمن الغريب دعوى بعض الناس الشهرة سابقا بالنسبة إلى سبي الذرية و النساء، و الإجماع في المقام على عدم جواز تملك المال الذي لم يحوه العسكر مع اتحاد المقامين، و لكن الأمر سهل.

و هل يؤخذ ما حواه العسكر مما ينقل و يحول كالسلاح و الدواب و غيرهما قيل و القائل المرتضى و ابن إدريس و الفاضل في جملة من كتبه و الشهيد في الدروس على ما حكي عن بعضهم لا يؤخذ لما ذكرناه من العلة التي قد عرفت دلالة النصوص عليها عموما و خصوصا، بل عن الناصريات لا أعلم خلافا من الفقهاء فيه، و عن السرائر إجماعنا بل المسلمين عليه، و عن التذكرة نسبته إلى كافة العلماء و قيل و القائل العماني و الإسكافي و الشيخ في محكي الخلاف و النهاية و الجمل و القاضي و الحلبي و ابن حمزة و الفاضل في المختلف و ثاني الشهيدين و الكركي على ما حكي عن بعضهم نعم يؤخذ عملا بسيرة علي عليه السلام، و هو الأظهر عند المصنف و في المختلف نسبته

ج 21، ص: 340

إلى الأكثر، و عن الخلاف ما يحويه عسكر البغاة يجوز أخذه و الانتفاع به، و يكون غنيمة يقسم في المقاتلة، و ما لم يحوه العسكر لا يتعرض له، و استدل على ذلك بإجماع الفرقة و أخبارهم، و هو جيد لو ثبت أن ذلك سيرة علي عليه السلام، ضرورة كونها حينئذ المخصصة للعمومات الدالة على حرمة مال المسلم، و دعواها من المصنف و غيره معارضة بدعواها من غيره كالشهيد في الدروس و غيره على العكس، حتى استدل بها على العدم، قال: و هو الأقرب عملا بسيرة علي عليه السلام في أهل البصرة، فإنه أمر برد أموالهم، فأخذت حتى القدور، كما أن ما عن العماني من أنه

روي (1)«أن رجلا من عبد القيس قام يوم الجمل فقال يا أمير المؤمنين عليه السلام: ما عدلت حين تقسم بيننا أموالهم و لا تقسم بيننا نساءهم و لا أبناءهم، فقال له: إن كنت كاذبا فلا أماتك اللَّه حتى تدرك غلام ثقيف، و ذلك أن دار الهجرة حرمت ما فيها، و إن دار الشرك أحلت ما فيها، فأيكم يأخذ أمه من سهمه، فقام رجل فقال:

و ما غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ فقال: عبد لا يدع لله حرمة إلا انتهكها قال: يقتل أو يموت قال: بل يقصمه اللَّه قاصم الجبارين»

و الشيخ في المبسوط روى أصحابنا(2)«أن ما يحويه العسكر من الأموال فإنه يقسم»

معارض ب

ما عن المبسوط من أنه روي «أن عليا عليه السلام لما هزم الناس يوم الجمل قالوا له يا أمير المؤمنين أ لا نأخذ أموالهم؟

قال: لا لأنهم تحرموا بحرمة الإسلام، فلا تحل أموالهم في دار الهجرة»

و فيه أيضا روى أبو قيس «أن عليا عليه السلام نادى من


1- 1 المستدرك- الباب- 23- من أبواب جهاد العدو- الحديث 10 إلا أنه ترك ذيله.
2- 2 الوسائل- الباب- 41- من أبواب جهاد العدو.

ج 21، ص: 341

وجد ماله فليأخذه، فمر بنا رجل فعرف قدرا نطبخ فيها فسألناه أن يصبر حتى ينضج فلم يفعل فرمى برجله فأخذه»

و بما تقدم من خبر مروان و غيره مما سبق مضافا إلى العلة المزبورة، و لعل الجمع بين النصوص أنه عليه السلام قد أذن لهم بأخذ المال الذي عند العسكر ثم بعد أن وضعت الْحَرْبُ أَوْزارَها غرمه من بيت المال لأهله حتى أنه عليه السلام كان يكتفي من المدعي باليمين.

و أما إجماع الخلاف فمعارض بما سمعته من الإجماع على عكسه، و عدالة العماني مع أنه مرسل لا تقتضي صحة الرواية، كقول الشيخ في المبسوط روى أصحابنا خصوصا بعد أن روى في الخلاف ما سمعت فلا أقل من التعارض، فتبقى العمومات حينئذ سليمة، خصوصا بملاحظة ما سمعته من مراعاة علي عليه السلام حال شيعته من بعد.

نعم لا يضمن ما تلف من مال الباغي حال الحرب من دابة أو سلاح أو غيرهما و إن كان المباشر لإتلافه تابع العادل، لأن السبب فيه أقوى من المباشر، و لذا لم يضمن لعائشة جملها الذي كان شيطانا حين أمر بعقره، بل الأمر بقتالهم و دفاعهم يستلزم عرفا ذلك، بل عن أبي حنيفة و المرتضى منا جواز الانتفاع بدوابهم و سلاحهم حال الحرب في قتالهم، و هو لا يخلو من وجه، لإطلاق الأمر بقتالهم، خلافا للشافعي فالأظهر حينئذ الأول لا الثاني، و من ذلك يظهر لك ما في المختلف فإنه أطنب في الاستدلال بأمور ما كنا لنؤثر وقوعها منه، منها أن القائل بالأخذ أكثر فالظن به أقوى، و منها أن المرسل للرواية العماني و هو شيخ من علمائنا تقبل مراسيله، و منها أن البغاة عند بعض علمائنا كفار، و هي كغيرها مما ذكره بعد كما ترى، و اللَّه العالم.

[المسألة الثالثة ما حواه العسكر للمقاتلة خاصة يقسم للراجل سهم و للفارس سهمان ]

المسألة الثالثة ما حواه العسكر للمقاتلة خاصة يقسم للراجل

ج 21، ص: 342

سهم و للفارس سهمان و لذي الفرسين أو الأفراس ثلاثة بلا خلاف أجده بين القائلين به، و لعله لإلحاق حكم البغاة بحكم أهل الحرب في ذلك، لما سمعته من بعض النصوص الدالة عليه ك

خبر أبي البختري (1)عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم السلام «القتل قتلان قتل كفارة و قتل درجة، و القتال قتالان قتال الفئة الباغية حتى يفيئوا، و قتال الفئة الكافرة حتى يسلموا»

و نحوه مما يستفاد منه كونهم كأهل الحرب، و حينئذ يتجه في غنيمتهم ما سمعته في قسمة الغنيمة من إخراج الخمس و غيره مما تقدم سابقا، لكن لم يحك من فعل أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو الأصل في حكم البغاة كما اعترف به المؤالف و المخالف مراعاة شي ء من ذلك، بل لعل المتحقق خلافه، نعم قد أخذ الناس ما أخذوا و فيهم الأعراب و غيرهم ممن لا معرفة و لا مبالاة له في هذه الأمور، و لذا نادى مناديه بما سمعت، و غرم للمدعي بيمينه، و من ذلك يظهر لك زيادة على ما عرفت ضعف القول الثاني المتقدم في المسألة الثانية الذي مبنى الحكم هنا عليه، كما هو واضح.

و لو تترسوا بالأطفال و نحوهم ممن هو غير مقاتل و لم يمكن التوصل إليهم إلا بقتلهم قتلوا كما سمعته في المشركين، ترجيحا لما دل على قتالهم على حرمة قتل النساء و الأطفال، كما أنهم كذلك لو قاتلوا معهم، و لذا رشق الهودج بالنبال، و إن استؤسروا أطلقوا، لكن عن الشيخ في الخلاف أنهم يحبسون، و في الدروس و هو ظاهر ابن الجنيد، و لم نعرف مأخذه، و إذا استؤسر منهم مقاتل ففي الدروس «حبس حتى تنقضي الحرب، لكن

في بعض الأخبار(2)أن عمارا جاء


1- 1 الوسائل- الباب- 26- من أبواب جهاد العدو- الحديث 11.
2- 2 المستدرك- الباب- 21- من أبواب جهاد العدو- الحديث 2.

ج 21، ص: 343

لأمير المؤمنين عليه السلام بأسير منهم فقتله،

و اللَّه العالم».

[خاتمة من منع الزكاة لا مستحلا فليس بمرتد]

خاتمة من منع الزكاة لا مستحلا فليس بمرتد قطعا كمن ترك الصلاة و الصوم، و إطلاق ذلك عليه في بعض النصوص (1)منزل على إرادة بيان عظم الذنب و عظم العقوبة و لكن يجوز قتاله حتى يدفعها كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به بعضهم، بل عن المنتهى نسبته إلى قول العلماء، بل في محكي التذكرة الإجماع عليه، و هو الحجة بعد

خبر أبان بن تغلب (2)عن الصادق عليه السلام «دمان في الإسلام حلال من اللَّه تعالى لا يعصي فيهما أحد حتى يبعث اللَّه قائمنا أهل البيت عليهم السلام- إلى أن قال- الزاني المحصن نرجمه و مانع الزكاة نضرب عنقه»

و إن كان يمكن حمله على مستحل المنع من المسلمين الذي لا إشكال و لا خلاف في كفره بإنكاره الضروري كغيرها من الضروريات، فحكمه حينئذ حكم المرتد أما الأول فليس بمرتد قطعا، خلافا للعامة فسموه مرتدا تبعا لما وقع من أبي بكر في قوم منعوا الزكاة، فأرسل إليهم خالد بن الوليد لعنه اللَّه فقتل رجالهم و سبى نساءهم حتى دخل بزوجة مالك في تلك الليلة، و لكن ذلك قد كان لأغراض فاسدة، خصوصا بعد أن كان منعها عليه منهم لعدم

إمامته المقتضية وجوب طاعتهم له، و هذا هو الذي دعاه إلى ذلك، و إلا فمانع الزكاة عاص يقهر على أخذها منه، فإن لم يمكن إلا بالقتال قوتل، و هل غير الزكاة كذلك لم يحضرني الآن من تعرض لذلك.

و لكن يقوى في النظر إلحاق الخراج و نحوه من الحقوق العامة بها


1- 1 الوسائل- الباب- 4- من أبواب ما تجب فيه الزكاة.
2- 2 الوسائل- الباب- 4- من أبواب ما تجب فيه الزكاة الحديث 6.

ج 21، ص: 344

في ذلك، كما يلوح من

توعد أمير المؤمنين عليه السلام ابن عباس (1)لما أخذ خراج البصرة و هرب، بل فيه أنه لو فعل ذلك الحسن و الحسين عليهما السلام لفعلت كذا و كذا،

بل لعل الخمس أيضا كذلك، إذ الظاهر كون الوجه منع الناس حقوقها، و هو مشترك بين الجميع، و لكن ذلك كله من وظائف الإمام عليه السلام الذي يجوز له القتال مع كل من خالف أمره في حق وجب عليه أداؤه كما عساه يشعر به ما صنعه أمير المؤمنين عليه السلام حال قتال الخوارج فإنه قد طالبهم على ما في بعض الأخبار بالقود عن شخص قتلوه، فقالوا نحن جميعا قتلناه، و أبوا فنابذهم، كما أن كثيرا من الأحكام التي تقدمت مخصوصة به لا يتعدى منه إلى غيره، و اللَّه العالم.

و من سب الإمام العادل وجب قتله بلا خلاف أجده فيه، بل في ظاهر المنتهى و محكي التذكرة

الإجماع عليه، كما عن صريح جماعة، و هو الحجة بعد

قول النبي (2)صلى اللَّه عليه و آله و سلم «من سمع أحدا يذكرني فالواجب عليه أن يقتل من شتمني، و لا يرفع إلى السلطان، و إذا رفع إليه كان عليه أن يقتل من نال مني»

المتمم بعد القول بالفصل بينه و بين غيره من الأئمّة عليهم السلام الذين سبهم سبه أيضا مع

ما في آخر(3)«عمن سمع يشتم عليا عليه السلام فقال و اللَّه حلال الدم»

بل لعل إطلاق الفتاوى كصريح بعض النصوص عدم التوقف على إذن الإمام عليه السلام كما عن الغنية الإجماع عليه، بل لا ريب.


1- 1 البحار- ج 42 ص 181 الطبع الحديث.
2- 2 الوسائل- الباب- 25 من أبواب حد القذف- الحديث 2.
3- 3 الوسائل- الباب 27 من أبواب حد القذف- الحديث 2.

ج 21، ص: 345

في اندراج الساب من المسلمين

في الناصب الذي ورد فيه (1)أنه حلال الدم و المال،

بل ينبغي القطع بكفر الساب مع فرض استحلاله، إذ هو من منكري الضرورة حينئذ، بل الظاهر كفره و إن لم يكن مستحلا باعتبار كونه فعل ما يقتضي الكفر، كهتك حرمة الكعبة و القرآن، بل الإمام أعظم منهما، و لعله ظاهر المنتهى و غيره، لتعليله القتل بأنه كافر مرتد.

بل الظاهر إلحاق سب فاطمة عليها السلام بهم و كذا باقي الأنبياء عليهم السلام بل و الملائكة، إذ الجميع من شعائر اللَّه تعالى شأنه، فهتكها هتك حرمة اللَّه تعالى شأنه، بل لا يبعد القول بقتل الساب حدا و إن تاب و قلنا بقبول توبته كالمرتد الفطري و إن لم يكن منه.

نعم لا ينبغي التغرير بالنفس في زمان الهدنة إذا سمع العارف السب من بعض المخالفين،

قال الصادق عليه السلام في خبر إسحاق بن عمار(2)«لو لا أنا نخاف عليكم أن يقتل رجل منكم برجل منهم و رجل منكم خير من ألف رجل منهم لأمرناكم بالقتل لهم، و لكن ذلك إلى الإمام عليه السلام»

و قد تقدم خبر الفضل بن شاذان (3) و عن الريان بن الصلت (4)«قلت للرضا عليه السلام إن العباسي يسمعني فيك و يذكرك كثيرا و هو كثيرا ما ينام عندي و يقيل فترى أن آخذ عليه و أعصره حتى يموت ثم أقول مات فجاءة فقال و نفض يديه ثلاث مرات لا يا ريان، فقلت: إن الفضل بن سهل هو ذا يوجهني إلى العراق في أمواله و العباسي خارج بعدي بأيام إلى العراق فترى أن أقول لمواليك


1- 1 الوسائل- الباب- 27- من أبواب حد القذف الحديث 5.
2- 2 الوسائل- الباب- 26- من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
3- 3 الوسائل- الباب- 26- من أبواب جهاد العدو الحديث 9.
4- 4 الوسائل- الباب- 26- من أبواب جهاد العدو الحديث 12.

ج 21، ص: 346

القميين أن يخرج منهم عشرون و ثلاثون رجلا كأنهم قاطعوا طريق أو صعاليك فإذا اجتاز بهم قتلوه فيقال قتله الصعاليك فسكت فلم يقل نعم و لا لا»

قلت: لعله لعدم وثوقه باستتار الأمر، و إلا فلا إشكال في الجواز بل الوجوب معه، و قد أشبعنا الكلام في المسألة في مقام آخر، و لو عرض بالسب عزر كما في غيره، خلافا لبعض العامة فلم يوجبه، لعدم تعزير علي عليه السلام من عرض له بنحو ذلك المحتمل وجوها متعددة، و اللَّه العالم.

و إذا قاتل الذمي مع أهل البغي خرق الذمة بلا خلاف أجده فيه بل و لا إشكال بعد أن كان عقدها على خلاف ذلك، فيجري عليه الحكم الحربي حينئذ، نعم عن التذكرة و المنتهى و غيرهما قبول دعواه لو ادعى الشبهة المحتملة في حقه، فيبقى على ذمته حينئذ، و في الدروس لو ادعوا الجهل أو الإكراه فالأقرب القبول، و لا بأس به.

و للإمام عليه السلام أن يستعين بأهل الذمة مع الضرورة في قتال أهل البغي الذين هم كأهل الحرب، و قد استعان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله بأهل الذمة عليهم (1)كما تقدم سابقا بلا خلاف أجده فيه إلا من الشيخ في محكي المبسوط، بل في المنتهى هو خلاف ما عليه الأصحاب، و إنما سار إليه لتخريج من الشافعي، و هو أن أهل الذمة يقتلون أهل البغي مقبلين و مدبرين، و ذلك غير جائز و هو كما ترى، خصوصا بعد أن كان في عسكر علي

عليه السلام يوم الجمل مثل من قتل الزبير و هو قائم تحت شجرة و قتل محمد بن طلحة


1- 1 كتاب نصب الراية ج 3 ص 422.

ج 21، ص: 347

و لم يكن يقاتل بل قيل نهى علي عليه السلام عن قتله و غيره ممن لا يعرف هذه الحدود، و يخطر في البال أن عليا عليه السلام كان يجوز له قتل الجميع إلا خواص شيعته، لأن الناس جميعا قد ارتدوا بعد النبي صلى اللَّه عليه و آله يوم السقيفة إلا أربعة سلمان و أبا ذر و المقداد و عمار، ثم رجع بعد ذلك أشخاص، و الباقون استمروا على كفرهم حتى مضت مدة أبي بكر و عمر و عثمان، فاستولى الكفر عليهم أجمع حتى آل الأمر إليه عليه السلام، و لم يكن له طريق إلى إقامة الحق فيهم إلا بضرب بعضهم بعضا، و أيهم قتل كان في محله إلا خواص الشيعة الذين لم يتمكن من إقامة الحق بهم خاصة، و اللَّه العالم.

و لو أتلف الباغي على العادل أو تابعه و لو ذميا مالا أو نفسا في حال الحرب فضلا عن غيره ضمنه بلا خلاف أجده فيه بيننا كما اعترف به الفاضل في محكي التذكرة، بل ظاهره فيها و في المنتهى الإجماع عليه، و هو كذلك، مضافا إلى عموم الأدلة المقتضية له دون العكس كما عرفته سابقا و حينئذ ف من أتى منهم ما يوجب حدا و اعتصم بدار الحرب فمع الظفر به يقام عليه الحد بلا خلاف أجده فيه، كما هو ظاهر المسالك و غيرها، بل و لا إشكال لما عرفت، و إن لم يكن كذلك في أهل الحرب لخبر الجب (1)المستفاد من قوله تعالى(2)


1- 1 المستدرك- الباب- 15 من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث 2 و الخصائص الكبرى ج 1 ص 249 و كنز العمال ج 1 ص 17 الرقم 243 و جامع الصغير ج 1 ص 123.
2- 2 سورة الأنفال الآية 39.

ج 21، ص: 348

«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ» فلا يرجع عليهم بما أتلفوه من نفس أو مال إذا أسلموا، بل في الدروس و كذا جناية حربي على حربي هدر إذا أسلما، و لا يخلو من بحث و إن كان خبر الجب يقتضيه.

و ليكن فيما ذكرناه من أحكام الجهاد كفاية، فإن كثيرا منها موكولة إلى دولة الحق التي يكون صاحبها أعلم من غيره بها عجل اللَّه فرجه و سهل مخرجه، و لكن لا بأس بختم الكتاب ب

خبر حفص بن غياث (1)المروي في الكافي و التهذيب عن أبي عبد اللَّه عليه السلام ليكون ختامه مسكا قال: «سأل رجل أبي عن حروب أمير المؤمنين عليه السلام و كان السائل من محبينا، فقال له أبو جعفر عليه السلام: بعث اللَّه تعالى شأنه محمدا صلى اللَّه عليه و آله بخمسة أسياف ثلاثة منها شاهرة فلا تغمد حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها، و لن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم في ذلك اليوم، فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، و سيف منها مكفوف و سيف منها مغمود سله إلى غيرنا و

حكمه إلينا، و أما السيوف الثلاثة الشاهرة فسيف على مشركي العرب، قال اللَّه تعالى (2)«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تابُوا» يعني آمنوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ، فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام و أموالهم و ذراريهم سبي على ما سن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، فإنه سبى و عفى و قبل الفداء، و السيف الثاني


1- 1 الوسائل- الباب 5 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
2- 2 سورة التوبة الآية 5.

ج 21، ص: 349

على أهل الذمة، قال اللَّه تعالى (1)«وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» نزلت هذه الآية في أهل الذمة ثم نسخها قوله عز و جل (2)«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ» فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منهم إلا الجزية أو القتل، و مالهم في ء، و ذراريهم سبي، و إذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم، و حرمت أموالهم، و حلت لنا مناكحتهم، و من كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم و أموالهم، و لم تحل لنا مناكحتهم و لم يقبل منهم إلا دخول دار الإسلام أو الجزية أو القتل، و

السيف الثالث سيف على مشركي العجم يعني الترك و الديلم و الخزر قال اللَّه تعالى في أول السورة الذين كفروا فقص قصتهم (3)ثم قال «فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» فإن قوله «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ» يعني السبي منهم، «وَ إِمَّا فِداءً» يعني المفاداة بينهم و بين هؤلاء الإسلام، فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، و لا يحل لنا مناكحتهم ما داموا في الحرب، و أما السيف المكفوف فسيف على أهل البغي و التأويل قال اللَّه تعالى (4)وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ» فلما نزلت هذه الآية قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إن منكم


1- 1 سورة البقرة- الآية 77.
2- 2 سورة التوبة- الآية 29.
3- 3 سورة محمد صلى اللَّه عليه و آله- الآية 4 و 5.
4- 4 سورة الحجرات- الآية 9.

ج 21، ص: 350

من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل النبي صلى اللَّه عليه و آله من هو؟ فقال: خاصف النعل يعني أمير المؤمنين عليه السلام، فقال عمار بن ياسر قاتلت بهذه الراية مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله ثلاثا، و هذه الرابعة، و اللَّه لو ضربونا حتى يبلغوا بنا السعفات من هجر لعلمنا أنا على الحق، و

أنهم على الباطل، و كانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين عليه السلام ما كان من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله في أهل مكة يوم فتح مكة، فإنه لم يسب لهم ذرية، و قال: من أغلق بابه فهو آمن، و من ألقى سلاحه أو دخل دار أبي سفيان فهو آمن، و كذلك قال: أمير المؤمنين عليه السلام يوم البصرة نادى فيهم ألا لا تسبوا لهم ذرية، و لا تجهزوا على جريح، و لا تتبعوا مدبرا، و من أغلق بابه و ألقى سلاحه فهو آمن، و أما السيف المغمود فالسيف الذي يقام به القصاص، قال اللَّه تعالى (1)«النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» فسله إلى أولياء المقتول و حكمه إلينا، فهذه السيوف التي بعث اللَّه تعالى بها محمدا صلى اللَّه عليه و آله، فمن جحدها أو جحد واحدا منها أو شيئا من سيرها و أحكامها فقد كفر بما أنزل اللَّه تعالى على محمد صلى اللَّه عليه و آله».

هذا كله في الجهاد الأصغر، و أما الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس فقد تكفلت بجميع ما جاء به من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله الذي قال اللَّه تعالى شأنه (2)فيه «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» و من أخيه و ابن عمه و وصيه و خليفته و صهره و أبي ذريته أمير المؤمنين و سيد الوصيين عليه السلام الذي هو باب مدينة العلم، و من أولاده الأئمّة


1- 1 سورة المائدة- الآية 49.
2- 2 سورة القلم- الآية 4.

ج 21، ص: 351

المعصومين الغر الميامين الكتب المصنفة في هذا الفن لأصحابنا و غيرهم،

قال الصادق عليه السلام (1)«إن النبي صلى اللَّه عليه و آله بعث بسرية فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر و بقي الجهاد الأكبر قيل يا رسول اللَّه: و ما الجهاد الأكبر قال: جهاد النفس»

نسأل اللَّه تعالى شأنه التوفيق له، و الحمد للَّه تعالى شأنه أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا، و الشكر له، و الحمد للَّه رب العالمين، و صلى اللَّه على سيدنا محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين.


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب جهاد النفس- الحديث 1.

ج 21، ص: 352

بسم اللَّه الرحمن الرحيم و به نستعين

[كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر]

[كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر]

(كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر) الذي قال اللَّه عز و جل في بيانه (1) «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» و قال تعالى (2) «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» و قال تعالى (3) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» إلى غير ذلك مما ذكره تعالى في كتابه العزيز،

و قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله (4)

«إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من اللَّه تعالى»

و قال صلى اللَّه عليه و آله أيضا (5): «كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، و فسق شبانكم و لم تأمروا بالمعروف، و لم تنهوا عن المنكر، فقيل له و يكون ذلك يا رسول اللَّه فقال: نعم و شر من ذلك، فكيف بكم إذا أمرتم بالمنكر و نهيتم عن المعروف فقيل له يا رسول اللَّه و يكون ذلك فقال: نعم و شر


1- 1 سورة آل عمران- الآية 100- 106.
2- 2 سورة آل عمران- الآية 100- 106.
3- 3 سورة الحج- الآية 42.
4- 4 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 5.
5- 5 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 12.

ج 21، ص: 353

من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا و المنكر معروفا»

و قال صلى اللَّه عليه و آله أيضا(1)«إن اللَّه عز و جل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له فقيل له و ما المؤمن الذي لا دين له؟ قال: الذي لا ينهى عن المنكر»

و قال أيضا(2)«لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و تعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم

البركات، و سلط بعضهم على بعض، و لم يكن لهم ناصر في الأرض و لا في السماء»

«و جاء رجل من خثعم (3)فقال يا رسول اللَّه: أخبرني ما أفضل الإسلام؟ قال:

الإيمان باللَّه، قال: ثم ما ذا؟ قال: صلة الرحم، قال: ثم ما ذا؟

قال: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فقال الرجل: فأي الأعمال أبغض إلى اللَّه تعالى عز و جل؟ قال: الشرك باللَّه، قال: ثم ما ذا؟

قال: قطيعة الرحم، قال: ثم ما ذا؟ قال: النهي عن المعروف و الأمر بالمنكر»

و قال أمير المؤمنين عليه السلام (4): «من ترك إنكار المنكر بقلبه و يده و لسانه فهو ميت بين الأحياء»

و خطب عليه السلام يوما(5)فحمد اللَّه و أثنى عليه، و قال: «أما بعد فإنه إنما هلك من كان قبلكم حيث ما عملوا من المعاصي، و لم ينههم الربانيون و الأحبار عن ذلك، و إنهم لما تمادوا في المعاصي و لم ينههم الربانيون و الأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات، فأمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر، و اعلموا أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لن يقربا أجلا


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 13.
2- 2 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 18- 11- 7 إلا أنه ترك ذيل الأخير و ذكر تمامه في الكافي ج 5 ص 57.
3- 3 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 18- 11- 7 إلا أنه ترك ذيل الأخير و ذكر تمامه في الكافي ج 5 ص 57.
4- 4 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 4.
5- 5 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 18- 11- 7 إلا أنه ترك ذيل الأخير و ذكر تمامه في الكافي ج 5 ص 57.

ج 21، ص: 354

و لن يقطعا رزقا، إن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كل نفس بما قدر اللَّه لها من زيادة أو نقصان»

إلى آخره،

و قال أيضا(1)«اعتبروا أيها الناس بما وعظ اللَّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول (2)«لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ» و قال (3)«لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» و إنما عاب اللَّه تعالى ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر و الفساد، فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم، و رهبة مما يحذرون، و اللَّه يقول (4)«فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ» و قال (5)«الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» فبدأ اللَّه تعالى بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت و أقيمت استقامت الفرائض كلها هينها و صعبها، و ذلك أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع رد المظالم و مخالفة الظالم، و قسمة الفي ء و الغنائم، و أخذ الصدقات من مواضعها و وضعها في حقها»

إلى آخره،

و قال الباقر عليه السلام (6)«يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراءون يتقرءون و يتنسكون حدثاء و سفهاء


1- 1 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 9.
2- 2 سورة المائدة- الآية 68.
3- 3 سورة المائدة- الآية 82.
4- 4 سورة المائدة- الآية 48.
5- 5 سورة التوبة- الآية 72.
6- 6 ذكره في الوسائل مقطعا في الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 6 و الباب 1 منها الحديث 6 و الباب 3 منها الحديث 1 و تمامه في الكافي ج 5 ص 55 و التهذيب ج 6 ص 180 الرقم 372.

ج 21، ص: 355

لا يوجبون أمرا بمعروف و لا نهيا عن منكر إلا إذا آمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص و المعاذير، يتبعون زلات العلماء و فساد علمهم، يقبلون على الصلاة و الصيام، و ما لا يكلمهم في نفس و لا مال و لو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم و أبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض و أشرفها، إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب اللَّه عليهم، فيعمهم بعقابه، فيهلك الأبرار في دار الفجار، و الصغار في دار الكبار، إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء، و منهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، و تأمن المذاهب، و تحل المكاسب، و ترد المظالم، و تعمر الأرض، و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم و صكوا بها جباههم، و لا تخافوا في اللَّه لومة لائم، فإن اتعظوا و إلى

الحق رجعوا فلا سبيل عليهم «إِنَّمَا السَّبِيلُ (1)عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، و أبغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطانا، و لا باغين مالا، و لا مريدين بالظلم ظفرا حتى يفيئوا إلى أمر اللَّه و يمضوا على طاعته»

قال أبو جعفر عليه السلام (2)«أوحى اللَّه تعالى إلى شعيب «ع» أني معذب من قومك مائة ألف أربعين ألفا من شرارهم و ستين ألفا من خيارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى اللَّه عز و جل إليه أنهم داهنوا أهل المعاصي، و لم يغضبوا لغضبي»

و قال أبو جعفر عليه السلام (3)«بئس


1- 1 سورة الشورى- الآية 40.
2- 2 الوسائل- الباب 8 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 2.

ج 21، ص: 356

القوم قوم يعيبون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر»

و قال هو أيضا و الصادق عليهما السلام (1)«ويل لقوم لا يدينون اللَّه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر»

و قال الصادق عليه السلام أيضا(2): «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر خلقان من خلق

اللَّه، فمن نصرهما أعزه اللَّه، و من خذلهما خذله اللَّه تعالى»

و قال الباقر عليه السلام أيضا(3): «من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى اللَّه و وعظه و خوفه كان له مثل أجر الثقلين: الجن و الإنس، و مثل أعمالهم إلا الإمام عليه السلام»

و قال الصادق عليه السلام (4): «ما أقر قوم بالمنكر بين أظهرهم لا يغيرونه إلا أوشك أن يعمهم اللَّه بعقاب من عنده»

إلى غير ذلك من النصوص.

[الأول في تعريف المعروف ]

اشاره

و كيف كان ف المعروف على ما في المنتهى و محكي التحرير و التذكرة هو كل فعل حسن اختص بوصف زائد على حسنه إذا عرف فاعله ذلك أو دل عليه، و المنكر كل فعل قبيح عرف فاعله قبحه أو دل عليه فالأول بمنزلة الجنس، ضرورة كون المراد بالحسن الجائز بالمعنى الأعم الشامل لما عدا الحرام فإنه على ما عرفوه بما للقادر عليه العالم بحاله أن يفعله، أو بما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم و يقابله القبيح، و الاختصاص بوصف إلى آخره بمنزلة الفصل لإخراج المباح الذي لا وصف فيه زائدا على حسنه المراد به جواز فعله، و يتبعه


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1- 20 و الثاني عن الباقر عليه السلام إلا أن الموجود في التهذيب ج 6 ص 177 الرقم 357 قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام.
2- 2 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1- 20 و الثاني عن الباقر عليه السلام إلا أن الموجود في التهذيب ج 6 ص 177 الرقم 357 قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام.
3- 3 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 11 و ليس في ذيله« إلا الإمام».
4- 4 الوسائل- الباب 4 من أبواب الأمر و النهي الحديث

ج 21، ص: 357

المكروه و إن دخل في تعريفي الحسن بالأولويّة، أو لأنه لا وصف فيه زائدا على حسنه بمعنى الجواز بناء على كون المراد الزيادة في الحسن كالندبية و الوجوبية، فلا تدخل المرجوحية في الفعل حينئذ فيه، و قد يطلق الحسن على ما له مدخلية في استحقاق المدح، فيختص حينئذ بالواجب و المندوب، و يخرج عنه المباح و المكروه، لكن لا يحمل المتن عليه، ضرورة أنه لو كان المراد به ذلك لم يحتج إلى قيد الاختصاص بوصف زائد في إخراجهما بعد خروجهما عنه بالحسن، و أما المنكر فليس إلا القبيح الذي هو الحرام كما سمعته من مفاد التعريفين، بل و الثالث المقابل للحسن بالمعنى الأخير: أي ما كان على صفة تؤثر في استحقاق الذم، و حينئذ فالمباح و المكروه فضلا عن ترك المندوب ليسا من المعروف و لا من المنكر، فلا يؤمر بهما و لا ينهى عنهما، و ربما حكي عن بعض إدراج المكروه في المنكر على معنى ما كان فيه صفة تقتضي رجحان تركه، و حينئذ يكون النهي على قسمين: واجب و مستحب كالأمر بالمعروف، إلا أنه خلاف المعروف في المراد منه، و في المسالك يمكن دخوله في المندوب باعتبار استحباب تركه، فإذا كان تركه مندوبا تعلق الأمر به، و هذا هو الأولى، و فيه ما لا يخفى، و لكن الأمر سهل بعد معلومية رجحان النهي عن فعل المكروه، كمعلومية رجحانه أيضا عن ترك المندوب، و لذا صرح باستحباب الأول أبو الصلاح و ابن حمزة و الشهيدان و السيوري على ما حكي، اندرج في عنوان معروف و منكر أو لم يندرج، و على كل حال فالمراد بالتقييد بقوله «إذا» إلى آخره من حيث يؤمر به و ينهى عنه لا في حد ذاته إذ العلم به غير شرط في كونه حسنا و معروفا و قبيحا، كما أن الظاهر إرادة الإشارة إلى العلم بالاجتهاد و التقليد مثلا من قوله «عرفه أو دل

ج 21، ص: 358

عليه» و هو واضح.

و كيف كان ف الأمر بالمعروف الواجب و النهي عن المنكر واجبان إجماعا من المسلمين بقسميه عليه، مضافا إلى ما تقدم من الكتاب و السنة و غيره، بل عن الشيخ و الفاضل و الشهيدين و المقداد أن العقل مما يستقل بذلك من غير حاجة إلى ورود الشرع، نعم هو مؤكد، و إن كان الأظهر أن وجوبهما من حيث كونهما كذلك سمعي كما عن السيد و الحلي و الحلبي و الخواجا نصير الدين الطوسي و الكركي و فخر المحققين و والده في بعض كتبه، بل عن المختلف نسبته إلى الأكثر بل عن السرائر نسبته إلى جمهور المتكلمين و المحصلين من الفقهاء، ضرورة عدم وصول العقل إلى قبح ترك الأمر بذلك على وجه يترتب عليه العقاب بدون ملاحظة الشرع، و دعوى أن إيجابهما من اللطف الذي يصل العقل إلى وجوبه عليه جل شأنه واضحة المنع، كوضوح الاكتفاء من اللَّه تعالى بالترغيب و الترهيب و نحوهما مما يقرب معه العبد إلى الطاعة و يبعد عن المعصية دون الإلجاء في فعل الواجب و ترك المحرم بل في المنتهى «لو وجبا بالعقل لما ارتفع معروف و لما وقع منكر، أو كان اللَّه تعالى شأنه مخلا بالواجب، و التالي بقسميه باطل، فالمقدم مثله بيان الشرطية أن الأمر بالمعروف هو الحمل على فعل المعروف، و النهي عن المنكر هو المنع منه، فلو كانا واجبين بالعقل لكانا واجبين على اللَّه تعالى، لأن كل واجب عقلي يجب على كل من حصل فيه وجه الوجوب و لو وجبا على اللَّه تعالى لزم أحد الأمرين، و أما بطلانهما فظاهر، أما الثاني فلأنه حكيم لا يجوز عليه الإخلال بالواجب، و أما الأول فلأنه يلزم الإلجاء و هو ينافي التكليف، لا يقال: إن هذا وارد عليكم في وجوبهما على المكلف، لأن الأمر هو الحمل، و النهي هو المنع، و لا

ج 21، ص: 359

فرق في اقتضاء الحمل و المنع الإلجاء بين ما إذا صدرا من المكلف أو من اللَّه تعالى، و ذلك قول بإبطال التكليف، لأنا نقول: لا نسلم أنه يلزم الإلجاء، لأن منع المكلف لا يقتضي الامتناع، أقصى ما في الباب أن يكون مقربا، و يجري مجرى الحدود في اللطفية، و لهذا تقع القبائح مع حصول الإنكار و إقامة الحدود» و إن كان لا يخفى عليك ما في ذلك كله، و العمدة الوجدان، ضرورة عدم وصول العقل إلى ذلك على وجه يترتب عليه الذم و العقاب، نعم يمكن دعوى وصوله إلى الرجحان في الجملة لا على الوجه المزبور، و الأمر سهل بعد ما عرفت من ثبوته بالشرع كتابا و سنة و إجماعا.

و وجوبهما على الكفاية و حينئذ ف يسقط بقيام من فيه غناء و كفاية كما هو خيرة السيد و الحلبي و القاضي و الحلي و الفاضل و الشهيدين و المحقق الطوسي في التجريد و الأردبيلي و الخراساني و غيرهم على ما حكي عن بعضهم و قيل و القائل الشيخ و ابن حمزة و فخر الإسلام و الشهيد في غاية المراد و السيوري على ما حكي عن بعضهم بل هو على الأعيان بل ربما حكي عن الحلي بل عن الشيخ حكايته عن قوم من أصحابنا و هو أشبه عند المصنف بأصول المذهب و قواعده التي منها أصالة العينية في الوجوب، مضافا إلى الأمر بهما على جهة العموم في جملة من النصوص منها بعض ما تقدم سابقا، و منها

النبوي (1)«لتأمرن بالمعروف و لتنهن عن المنكر أو ليعمكم عذاب اللَّه»

و في آخر(2)«مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به كله، و انهوا عن المنكر و إن لم تنتهوا عنه كله»

إلى غير ذلك.


1- 1 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 12.
2- 2 الوسائل- الباب 10 من أبواب الأمر و النهي الحديث 10.

ج 21، ص: 360

لكن لا يخفى عليك انقطاع الأصل بمعلومية كون الغرض منهما حصول ذلك في الخارج لا أنهما مرادان من كل شخص بعينه، بل يمكن دعوى عدم تعقل إرادة الحمل على المعروف باليد مثلا من الجميع، كما أنه يمكن القطع بكون المراد من هذه العمومات مثل ما ورد منها في تغسيل

الميّت و دفنه و نحوهما مما هو متعلق بالجميع على معنى الاجتزاء به من أي شخص منهم و العقاب على الجميع مع الترك أصلا، لا أن المراد فعله من كل واحد الذي لا يمكن تصوره باعتبار معلومية عدم إرادة التكرار كمعلومية عدم إمكان الاشتراك، كما هو واضح، هذا كله مضافا إلى الاستدلال عليه أيضا بظاهر قوله تعالى (1)«وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ» إلى آخره المراد منه التبعيض، خصوصا بعد استدلال الصادق عليه السلام،

قال مسعدة بن صدقة(2)«سئل أبو عبد اللَّه عليه السلام عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أ واجب هو على الأمة جميعا؟ فقال: لا، فقيل و لم؟ قال إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضعفة الذين لا يهتدون سبيلا- إلى أن قال- و الدليل على ذلك كتاب اللَّه عز و جل «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ» إلى آخرها، فهذا خاص غير عام، كما قال اللَّه عز و جل (3)«وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» و لم يقل على أمة موسى و لا على كل قوم، و هم يومئذ أمم مختلفة، و الأمة واحد فصاعدا


1- 1 سورة آل عمران- الآية 100.
2- 2 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1.
3- 3 سورة الأعراف- الآية 159.

ج 21، ص: 361

كما قال اللَّه عز و جل (1)«إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ» يقول مطيعا للَّه عز و جل، و ليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له و لا عدد و لا طاعة»

و قال مسعدة(2)«سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: و سئل عن الحديث الذي جاء عن النبي صلى اللَّه عليه و آله أن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر ما معناه؟

قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته، و هو مع ذلك يقبل منه، و إلا فلا».

و لكن يمكن كون المراد من الخبر المفسر للآية الإمام العادل، بل كاد يكون صريح

قوله عليه السلام «و الأمة واحد»

إلى آخره، بل يمكن القطع به بناء على ما هو المعروف عندنا من تعلق الواجب الكفائي بالجميع من حيث الخطاب و إن سقط بفعل البعض، مع أن الآية ظاهرة في الوجوب على معنى أمة من المؤمنين لا جميعهم فضلا عن الناس، و هو إنما يوافق ما ذهب إليه غيرنا من أن المخاطب في الكفائي البعض المبهم، نحو ما قالوه في الواجب المخير بالنسبة إلى المكلف به، و قد أبطلناه في محله، و حينئذ فالمقصود أنه مع بسط يده الواجب عليه جميع أفراد الأمر بالمعروف التي منها الجهاد و قتال البغاة و إقامة الحدود و التعزيرات و رد المظالم العامة و الخاصة و غير ذلك مما لا يقوم به إلا الإمام عليه السلام، فهو خارج عما نحن فيه من بعض أفراد الأمر بالمعروف،

فالعمدة حينئذ ما ذكرناه أولا لكن ينبغي أن يعلم أن القائل بالعينية موافق على السقوط مع حصول المطلوب بترك العاصي الإصرار على معصيته، ضرورة امتناع التكليف حينئذ به بامتناع متعلقه


1- 1 سورة النحل- الآية 121.
2- 2 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1.

ج 21، ص: 362

و إنما يظهر فائدة القولين في وجوب قيام الكل به قبل حصول الغرض و إن قام به من فيه كفاية على الوجوب العيني، و سقوط الوجوب عمن زاد على ما فيه الكفاية من القائمين على القول الآخر، و حينئذ فلو أمر أو نهى بعض و تخلف بعض كان آثما و إن حصل المطلوب بالبعض الآخر.

و يمكن أن يقال بعينية الإنكار القلبي على كل مكلف، و دونه في الاحتمال الأمر اللساني، و أما الحمل عليه بضرب و نحوه فيمكن القطع بعدم العينية فيه، فيكفي حينئذ وقوعه من البعض فيسقط عن الآخر و لا إثم عليه و إن كان قادرا على ما وقع من غيره أيضا، كما أنه يمكن القطع بملاحظة السيرة المستمرة في سائر الأعصار و الأمصار بعدم الوجوب العيني فيهما، و لذا يكتفي ذو القدرة عليهما بإرسال من يقوم بهما عن مضيه بنفسه و عن مضي غيرهم ممن هو مشترك معهم في التكليف كما هو واضح.

و على كل حال فلا إشكال في سقوط الوجوب بامتثال المأمور على القولين و إن اختلفت الجهة على التقديرين، كما أنه لا إشكال في سقوط المبادرة على الكفائية مع القطع بقيام الغير، حتى لو بان بعد ذلك فساد القطع و لم يكن محل بعد للتكليف لم يكن آثما، للسيرة المستمرة في سائر الأعصار و الأمصار على عدم المبادرة بمجرد العلم بموت زيد مثلا لتغسيله مع القطع بقيام الغير به و إن ظهر بعد ذلك فساد القطع بل لا يبعد الاكتفاء بالظن الغالب المتآخم للعلم لها أيضا، بل ربما احتمل الاكتفاء بمطلق الظن و إن كان فيه نظر أو منع، للأصل السالم عن المعارض، و على كل حال فهو بحث في حكم الكفائي من حيث كونه كذلك لا مدخلية لخصوص المقام فيه، و قد ذكرنا الكلام فيه و في باقي

ج 21، ص: 363

أحكامه في مطاوي المباحث.

و على كل حال فقد ظهر لك مما ذكرنا سابقا أن المعروف ينقسم إلى الواجب و الندب ضرورة كون كل منهما معروفا، بل قد سمعت احتمال اندراج ترك المكروه في الثاني منهما أيضا، و حينئذ ف المدح و الثناء في الكتاب و السنة على الآمرين بالمعروف شامل لهما، نعم الأمر بالواجب واجب، و بالمندوب مندوب كما صرح به الحلي و الديلمي و الفاضل و الشهيدان و غيرهم، بل عن المفاتيح الإجماع عليه، مضافا إلى ما قيل من عدم زيادة الفرع على أصله و إلى ما جاء به من النصوص ك

قوله عليه السلام(1): «الدال على خير كفاعله»

و «من أمر بمعروف و نهى عن منكر أو دل على خير أو أشار به فهو شريك (2)»

و «لا يتكلم الرجل بكلمة حق يؤخذ بها إلا كان له مثل أجر من أخذ بها(3)»

إلى غير ذلك مما جاء من الحث على الأمر بالخير بل جميع ما في الكتاب و السنة من المدح على الأمر بالمعروف شامل لهما و لو على إرادة مطلق الرجحان من صيغة الأمر، اللَّهمّ إلا أن يقال إن مجاز التخصيص أولى من ذلك، و لكن في رجحانه عليه هنا بحث، لقوة إرادة ما يشملهما من المعروف، بل لو لا الإجماع الذي قد عرفت أمكن القول بوجوب الأمر بالمعروف الشامل لهما و إن لم يجب المندوب على المأمور، أو نقول بأن المراد وجوب الأمر بالمعروف كل على حاله نحو ما قيل في آية(4)«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» على تقدير


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 19.
2- 2 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 21.
3- 3 الوسائل- الباب 16 من أبواب الأمر و النهي الحديث 4.
4- 4 سورة المائدة- الآية 1.

ج 21، ص: 364

تناولها للجائز، فيكون المراد حينئذ من الوفاء بها إعطاء كل منها ما يقتضيه، و إن كان ذلك كله لا يخلو من بحث، و لكن الأمر سهل بعد معلومية الحال.

نعم ينبغي الرفق في ذلك،

قال عمار بن أبي الأحوص (1)«قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام إن عندنا قوما يقولون بأمير المؤمنين و يفضلونه على الناس كلهم، و ليس يصفون ما نصف من فضلكم، أ نتولاهم؟

فقال لي نعم في الجملة، أ ليس عند اللَّه ما لم يكن عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، و لرسول

اللَّه صلى اللَّه عليه و آله ما ليس عندنا، و عندنا ما ليس عندكم، و عندكم ما ليس عند غيركم، إن اللَّه وضع الإسلام على سبعة أسهم: على الصبر و الصدق و اليقين و الرضا و الوفاء و الحلم، ثم قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل محتمل، ثم قسم لبعض الناس السهم، و لبعضهم السهمين، و لبعضهم الثلاثة الأسهم، و لبعض الأربعة الأسهم، و لبعض الخمسة الأسهم، و لبعض الستة الأسهم، و لبعض السبعة الأسهم، فلا تحملوا على صاحب السهم سهمين، و لا على صاحب السهمين ثلاثة أسهم، و لا على صاحب الثلاثة أربعة أسهم، و لا على صاحب الأربعة خمسة أسهم، و لا على صاحب الخمسة ستة أسهم، و لا على صاحب الستة سبعة أسهم، فتثقلوهم و تنفروهم، و لكن ترفقوا بهم و سهلوا لهم المدخل، و سأضرب لك مثلا تعتبر به، إنه كان رجل مسلم و كان له جار كافر، و كان الكافر يرافق المؤمن، فلم يزل يزين له الإسلام حتى أسلم، فغدا عليه المؤمن فاستخرجه من منزله فذهب به إلى المسجد ليصلي معه إلى الفجر جماعة فلما صلى قال: لو قعدنا نذكر اللَّه تعالى حتى تطلع الشمس فقعد معه


1- 1 الوسائل- الباب 14 من أبواب الأمر و النهي الحديث 9.

ج 21، ص: 365

فقال له: لو تعلمت القرآن إلى أن تزول الشمس و صمت اليوم كان أفضل فقعد معه و صام حتى صلى الظهر و العصر، فقال له لو صبرت حتى تصلي المغرب و العشاء الآخرة كان أفضل فقعد معه حتى صلى المغرب و العشاء الآخرة، ثم نهضا و قد بلغ مجهوده و حمل عليه ما لا يطيق، فلما كان من الغد غدا عليه و هو يريد مثل ما صنع بالأمس فدق عليه بابه ثم قال: اخرج حتى نذهب إلى المسجد فأجابه أن انصرف عني إن هذا دين شديد لا أطيقه، فلا تخرقوا بهم، أ ما علمت أن إمارة بني أمية كانت بالسيف و العنف و الجور، و إن إمامتنا بالرفق و التأليف و الوقار و التقية و حسن الخلطة و الورع و الاجتهاد، فرغبوا الناس في دينكم و فيما أنتم فيه».

و أما المنكر ف لا ينقسم إذ ليس هو إلا القبيح المحرم كما عن الشيخ التصريح به، لما عرفته من عدم كون المكروه منكرا، و حينئذ فالنهي عنه كله واجب كما صرح به غير واحد و كأنه اصطلاح، و إلا فيمكن قسمته إليهما أيضا على معنى وجوب النهي عن الحرام و استحباب النهي عن المكروه، فيكون حينئذ قسمين كالمعروف و لعله لذا قال ابن حمزة فيما حكي عنه «النهي عن المنكر يتبع المنكر، فإن كان المنكر محظورا كان النهي عنه واجبا، و إن كان مكروها كان النهي عنه مندوبا» و إن كان فيه أن إطلاق المنكر على المكروه غير معروف، و في المختلف استجود هنا عبارة أبي الصلاح، قال: الأمر و النهي كل منهما واجب و مندوب، فما وجب فعله عقلا أو سمعا الأمر به واجب، و ما ندب إليه فالأمر به مندوب، و ما قبح عقلا أو سمعا النهي عنه واجب، و ما كره منهما النهي عنه مندوب» و لا بأس به و اللَّه العالم.

ج 21، ص: 366

[الثاني في شروط النهي عن المنكر]

و كيف كان ف لا يجب النهي عن المنكر و لا الأمر بالمعروف الواجب ما لم يكمل شروط أربعة كما صرح بذلك الفاضل و الشهيدان و غيرهم، و لعل اقتصار المصنف على الأول لإرادة الأعم من ترك الحرام و فعل الواجب عن المنكر على أن يكون المراد بالنهي عن الثاني هو الأمر بالفعل الذي هو المعروف، أو لوضوح أنها شرائط فيهما، أو لغير ذلك.

و على كل حال ف

[الأول أن يعلمه معروفا و منكرا ليأمن من الغلط]

الأول أن يعلمه معروفا و منكرا ليأمن من الغلط في التعريف و الإنكار كما صرح به الحلي و الفاضل و الشهيدان و المقداد و غيرهم على ما حكي عن بعضهم، بل عن المنتهى نفي الخلاف فيه، و مقتضاه كون ذلك شرطا للوجوب كالاستطاعة للحج و حينئذ فالجاهل معذور، لكن في حاشية الكركي و المسالك النظر في ذلك، قال في الأول: «و لقائل أن يقول: إن في اشتراط الوجوب به نظرا، فإن من علم أن زيدا قد صدر منه فعل منكر أو ترك معروفا في الجملة بنحو شهادة العدلين و لا يعلم المعروف و المنكر ينبغي أن يتعلق به وجوب الأمر و النهي، و يجب عليه تعلم ما يصح معه الأمر و النهي، كما يتعلق بالمحدث وجوب الصلاة، و يجب عليه تحصيل شروطها، و الأصل في ذلك أنه لا دليل يدل على اشتراط الوجوب بهذا الأمر، فإن الأمر بهما ورد مطلقا، و تقييده يتوقف على الدليل، و هو منتف، و ظاهر تعليلهم يرشد إلى ذلك فإنه كما هو ظاهر لا يستلزم ما ادعوه، لأنا على ذلك الاحتمال نوجب عليه- بعد الإحاطة بترك المعروف في الجملة- التعلم ثم الأمر» و قال في الثاني منهما: «و قد يناقش بأن عدم العلم بالمعروف و المنكر لا ينافي تعلق الوجوب بمن لم يعلم، و إنما ينافيه نفس الأمر و النهي حذرا من الوقوع في الأمر بالمنكر

ج 21، ص: 367

و النهي عن المعروف، و حينئذ فيجب على من علم بوقوع المنكر أو ترك المعروف من شخص معين في الجملة بنحو شهادة العدلين أن يتعلم ما يصح معه النهي و الأمر ثم يأمر أو ينهى، كما يتعلق بالمحدث وجوب الصلاة و يجب عليه تحصيل شروطها، و حينئذ فلا منافاة بين عدم جواز أمر الجاهل و نهيه حال الجهل و بين وجوبهما عليه كما تجب الصلاة على المحدث و الكافر، و لا تصح منهما على تلك الحال» و فيه- مع أنه مناف لما سمعته من الأصحاب من دون خلاف فيه بينهم كما اعترف به في المنتهى- أنه مناف أيضا لما في خبر مسعدة(1)السابق الذي حصر الوجوب فيه على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر، بل يمكن دعوى أن المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو ما علمه المكلف من الأحكام من حيث كونه مكلفا بها، لا أنه يجب أن يتعلم المعروف من المنكر زائدا على ذلك مقدمة لأمر الغير و نهيه اللذين يمكن عدم

وقوعهما ممن يعلمه من الأشخاص، و أما ما ذكراه من المثال فهو خارج عما نحن فيه، ضرورة العلم حينئذ بتحقق موضوع الخطاب بخلاف من فعل أمرا أو ترك شيئا و لم نعلم حرمة ما فعله و لا وجوب ما تركه، فإنه لا يجب تعرف ذلك مقدمة للأمر و النهي لو فرضنا كونهما منه، بل أصل البراءة محكم، و هو مراد الأصحاب بكونه شرطا للوجوب، و اللَّه العالم.

[الثاني أن يجوز تأثير إنكاره ]

و الثاني أن يجوز تأثير إنكاره، فلو غلب على ظنه أو علم أنه لا يؤثر لم يجب بلا خلاف أجده في الأخير، بل في ظاهر المنتهى الإجماع عليه، لكن قد يشكل بالنسبة إلى المرتبة الأولى منه، و هو الإنكار القلبي الذي ستعرف وجوبه على الإطلاق، اللَّهمّ إلا أن يقال


1- 1 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1.

ج 21، ص: 368

إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يعقل كونهما بالقلب وحده، ضرورة عدم كون ذلك أمرا و نهيا، كضرورة عدم كون المعرف و المنكر بالقلب آمرا و ناهيا، و إنما هو من توابع الإيمان بما جاء به النبي صلى اللَّه عليه و آله، فلا بد من اعتبار أمر آخر في المرتبة الأولى به تعد في الأمر و النهي، و هو إظهار عدم الرضا بضرب من الإعراض و إظهار الكراهة و نحو ذلك، و الأمر في ذلك سهل.

إنما الكلام فيما ذكره المصنف و جماعة، بل ربما نسب إلى الأكثر من السقوط أيضا بغلبة الظن بعدم التأثير، مع أن الأوامر مطلقة، و مقتضاها الوجوب على الإطلاق حتى في صورة العلم بعدم التأثير، إلا أنه للإجماع و غيره سقط في خصوصها، أما غيرها فباق على مقتضى الإطلاق من الوجوب، و لعله لذا كان ظاهر جماعة بل صريح آخرين الاكتفاء بالتجويز الذي معناه الإمكان الذي يخرج عنه الامتناع خاصة، بل هو مقتضى عنوان المتن أولا، و إن كان قد فرع عليه غلبة الظن، و دعوى انصراف الإطلاق إلى غير ذلك فيبقى أصل البراءة سليما ممنوعة، كما أن

قول الصادق عليه السلام في خبر مسعدة(1)المتقدم لما سئل عما جاء عن النبي صلى اللَّه عليه و آله: «أن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر»: «هذا على أن يأمره بعد معرفته، و مع ذلك يقبل منه، و إلا فلا»

-

كقوله عليه السلام في خبر يحيى (2)«إنما يؤمر بالمعروف و ينهى عن المنكر مؤمن متيقظ أو جاهل متعلم، و أما


1- 1 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 2 مع اختلاف في اللفظ.

ج 21، ص: 369

صاحب سوط و سيف فلا»

و في

خبر داود الرقي (1)«لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قيل له و كيف ذلك؟ قال: يتعرض لما لا يطيق»

و في

خبر حرث (2)«ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل ما تكرهون و ما يدخل علينا به الأذى أن تؤتوه فتؤنبوه و تعذروه و تقولوا له قولا بليغا، قلت جعلت فداك إذا لا يقبلون منا، قال: اهجروهم و اجتنبوا مجالسهم»

و في

خبر أبان (3)«كان المسيح عليه السلام يقول: إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة- إلى أن قال- فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا، و لا تمنعوها أهلها فتأثموا و ليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعا لدوائه، و إلا أمسك»

- لا دلالة فيه على السقوط مع الظن كما زعمه بعض الأفاضل خصوصا فيما عدا الأول، بل يمكن ظهوره خصوصا الأخير في عكسه فإن الطبيب قد يعطي الدواء مع احتمال الشفاء، و أما الأول فلا دلالة فيه على العلم بالقبول، مع أن الخصم لا يقوله أيضا، ضرورة الوجوب عنده مع تساوي الطرفين، و يمكن حمل عبارة المصنف و نحوها على أن المراد بغلبة الظن الطمأنينة العادية التي لا يراعى معها الاحتمال لكونه من الأوهام فيها، لا أن المراد عدم وجوبه مع الاحتمال المعتد به عند العقلاء الذي هو مقتضى إطلاق الأدلة، خصوصا بعد تصريح غير

واحد بأن الساقط مع العلم بعدم التأثير الوجوب دون الجواز، بل عن بعض الأصحاب استحبابه، و اللَّه العالم.

[الثالث أن يكون الفاعل له ]

و الثالث أن يكون الفاعل له أي المنكر و لو ترك الواجب


1- 1 الوسائل- الباب 13 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 7 من أبواب الأمر و النهي الحديث 3.
3- 3 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 5.

ج 21، ص: 370

مصرا على الاستمرار، فلو لاح منه أمارة الامتناع عن ذلك سقط الإنكار بلا خلاف مع فرض استفادة القطع من الأمارة بل و لا إشكال ضرورة عدم موضوع لهما، بل هما محرمان حينئذ كما صرح به غير واحد، كما أنه لا إشكال في عدم السقوط بعد العلم بإصراره، إنما الإشكال في السقوط بالأمارة الظنية بامتناعه كما هو مقتضى المتن و غيره باعتبار إطلاق الأدلة و استصحاب الوجوب الثابت اللَّهمّ إلا أن يريد الظن الغالب الذي يكون معه الاحتمال و هما لا يعتد به عند العقلاء كما سمعته آنفا، بل قد يقال بوجوبهما في حال عدم العلم بالإصرار، للحكم بفسقه ما لم تعلم توبته، فيجري عليه حينئذ جميع الأحكام التي منها أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر ما لم تتحقق التوبة و لو بالطريق الذي يتحقق به مثلها من إظهار الندم و نحوه، و من ذلك ينقدح الإشكال فيما عن السرائر و الإشارة و الجامع من كون شرط وجوبهما ظهور أمارة الاستمرار، بل و فيما عن جماعة من كون الشرط الإصرار، و لعل الأولى جعل الشرط عدم ظهور أمارة الإقلاع، بل لا بد من تقييد الأمارة بما يكتفى بمثلها في تحقق التوبة، بل لعل هذا هو المراد مما في الدروس من القطع بالسقوط لو لاح منه أمارة الندم، و لذا قال في الكفاية بعد حكايته عنه: و هو حسن إن أفادت الأمارة غلبة الظن، و حينئذ فلو شك في امتناعه و عدمه اتجه الوجوب كما صرح به في المسالك، قال فيها في شرح العبارة: لا إشكال في الوجوب مع الإصرار، و إنما الكلام في سقوطه بمجرد ظهور أمارة الامتناع، فإن الأمارة علامة ضعيفة يشكل معها سقوط الواجب المعلوم، و في الدروس أنه مع ظهور الأمارة يسقط قطعا، و يلحق بعلم الإصرار اشتباه الحال فيجب الإنكار و إن لم يتحقق الشرط الذي هو الإصرار، و مثله القول

ج 21، ص: 371

في الأمر بالمعروف، و هو موافق لكثير مما ذكرناه، خلافا لما سمعته من ظاهر السرائر و الجامع و الإشارة من اعتبار ظهور أمارة الاستمرار في الوجوب، بل و ظاهر من اعتبر الإصرار في الوجوب أيضا، ضرورة مخالفة ذلك كله لإطلاق الأدلة، و هل يكفي مجرد الامتناع أو لا بد من التوبة؟ استظهر بعض الناس من أكثر الأصحاب السقوط بالأول، ثم قال: نعم إن ظهر استمراره على ترك التوبة كان اللازم أمره بها، و لكن هذا غير الأمر بالمعروف الذي وجب عليه التوبة بتركه، و في الكفاية قالوا: لو ظهر الإقلاع سقط، و لا ريب فيه إن كان المراد بالإقلاع الندم، و لو كان مجرد الترك ففيه تردد، قلت: لا ريب في أولوية مراعاة التوبة كما أشرنا إليه سابقا، و اللَّه العالم.

[الرابع أن لا يكون في الإنكار مفسدة]

و الرابع أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو علم أو ظن توجه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى عرضه أو إلى أحد من المسلمين في الحال أو المال سقط الوجوب بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم، لنفي الضرر و الضرار و الحرج في الدين، و سهولة الملة و سماحتها، و إرادة اللَّه اليسر دون العسر و

قول الرضا عليه السلام في الخبر المروي (1)عن العيون: «و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك و لم يخف على نفسه»

كقول الصادق عليه السلام في حديث شرائع الدين (2)مع زيادة «و لا على أصحابه»

و قوله عليه السلام أيضا في خبر مسعدة(3)السابق: «و ليس ذلك في


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 22.
2- 2 الوسائل- الباب 1 من أبواب الأمر و النهي الحديث 22.
3- 3 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1 مع اختلاف يسير.

ج 21، ص: 372

هذه الهدنة إذا كان لا قوة له و لا مال و لا عدد و لا طاعة»

بل و قوله عليه السلام في خبر يحيى (1)الطويل السابق، بل و

قوله عليه السلام أيضا في خبر مفضل بن زيد(2): «من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها و لم يرزق الصبر عليها»

و غير ذلك من النصوص السابقة و غيرها.

و المناقشة بأن التعارض بينها و بين ما دل على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من وجه يدفعها أولا أن مورد جملة منها في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، نعم هو كذلك بالنسبة إلى نحو

قوله (ص)(3)«لا ضرر و لا ضرار»

و قوله تعالى (4)«ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» و نحوهما، و من التخصيص في السابقة يعلم الرجحان حينئذ في هذه العمومات، خصوصا بعد ملاحظة غير المقام من التكاليف التي تسقط مع الضرر كالصوم و نحوه، و

قول الباقر عليه السلام في الخبر(5)السابق: «يكون في آخر الزمان قوم مراءون يتقرءون- إلى أن قال-: لا يوجبون أمرا بمعروف و لا نهيا عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص و المعاذير»

محمول على أناس مخصوصين موصوفين بهذه الصفات، أو على إرادة فوات النفع من الضرر، بل في الوسائل أو على وجوب تحمل الضرر

اليسير، أو على استحباب تحمل الضرر العظيم، و إن كان لا يخلو من نظر بل منع في الأخير ضرورة


1- 1 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 2.
2- 2 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 3.
3- 3 الوسائل- الباب 12 من كتاب إحياء الموات.
4- 4 سورة الحج- الآية 77.
5- 5 الوسائل- الباب 2 من أبواب الأمر و النهي الحديث 6.

ج 21، ص: 373

ثبوت الحرمة حينئذ كما صرح به الشهيدان و السيوري، و ما وقع من خصوص مؤمن آل فرعون و أبي ذر و غيرهما في بعض المقامات فلأمور خاصة لا يقاس عليها غيرها.

ثم إن ظاهر الأصحاب اعتبار العلم أو الظن بالضرر، و يقوى إلحاق الخوف المعتد به عند العقلاء، هذا، و عن البهائي رحمه اللَّه في أربعينه عن بعض العلماء زيادة أنه لا يجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلا بعد كون الآمر و الناهي متجنبا عن المحرمات و عدلا، لقوله تعالى (1)«أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» و قوله تعالى(2):

«لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ» و قوله تعالى (3)«كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» و

قول الصادق عليه السلام في خبر محمد بن عمر(4)المروي عن الخصال و عن روضة الواعظين: «إنما يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به، تارك لما ينهى عنه»

و قول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة(5): «و أمروا بالمعروف و ائتمروا به، و انهوا عن المنكر و انتهوا عنه، و إنما أمرنا بالنهي بعد التناهي»

و في الخبر «و لا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به، و لا ينهى عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه»

على أن هداية الغير فرع الاهتداء، و الإقامة بعد الاستقامة، و فيه أن الأول


1- 1 سورة البقرة- الآية 41.
2- 2 سورة الصف- الآية 2.
3- 3 سورة الصف- الآية 3.
4- 4 الوسائل- الباب 10 من أبواب الأمر و النهي الحديث 3 عن محمد بن أبي عمير رفعه إلى أبي عبد اللَّه عليه السلام و الباب 2 منها الحديث 10.
5- 5 الوسائل- الباب 10 من أبواب الأمر و النهي الحديث 8.

ج 21، ص: 374

إنما يدل على ذم غير العامل بما يأمر به لا على عدم الوجوب عليه، و احتمال الثاني اللوم على قول فعلنا أو ما يدل على ذلك و لا فعل، و الثالث الإشارة إلى الإمام القائم بجميع أفراد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و التعريض بأئمة الجور المتلبسين بلباس أئمة العدل، كل ذلك لإطلاق ما دل على الأمر بهما كتابا و سنة و إجماعا من غير اشتراط للعدالة، بل ظاهر حصرهم الشرائط في الأربعة عدم اشتراط غيرها، بل عن السيوري و البهائي و الكاشاني التصريح بعدم اعتبار العدالة، نعم يعتبر في الأمر التكليف، كما أنه يعتبر في المأمور و المنهي، و منع الصبي و المجنون عن إضرار الغير ليس من الأمر بالمعروف، بل هو كمنع الدابة المؤذية، فما في كنز العرفان- من أنه لا يشترط في

المأمور و المنهي أن يكون مكلفا، فإن غير المكلف إذا علم إضراره للغير منع من ذلك و كذا الصبي ينهى عن المحرمات لئلا يتعودها، و يؤمر بالطاعات ليتمرن عليها- واضح الفساد بعد ما عرفت من أن المنكر المحرم و المعروف الواجب، و لا واجب و لا محرم بالنسبة إلى غير المكلف.

[الثالث في مراتب الإنكار]

و كيف كان ف مراتب الإنكار ثلاث بلا خلاف أجده فيه بين الأصحاب: الأولى الإنكار بالقلب كما سمعته سابقا في

الخبر(1)المروي عن الباقر عليه السلام «فأنكروا بقلوبكم، و الفظوا بألسنتكم و صكوا بها جباههم، و لا تخافوا في اللَّه لومة لائم- إلى أن قال- فجاهدوهم بأبدانكم و أبغضوهم بقلوبكم»

إلى آخره، و في

المروي (2)عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضا «من ترك إنكار المنكر بقلبه و يده و لسانه فهو ميت في الأحياء»

و في الآخر المروي (3)عنه عليه السلام


1- 1 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 4.
3- 3 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 10 مع اختلاف يسير.

ج 21، ص: 375

أيضا «إن أول ما تقبلون عليه من الجهاد الجهاد بأبدانكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف معروفا و لم ينكر منكرا قلب فجعل أعلاه أسفله»

و في المروي (1)عن العسكري (ع) عن النبي صلى اللَّه عليه و آله «من رأى منكرا فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم اللَّه من قلبه أنه لذلك كاره»

إلى غير ذلك من النصوص لكن عن النهاية تفسيره باعتقاد الوجوب و الحرمة، بل في المسالك هو الظاهر من الإطلاق، و جعل في القواعد ذلك الاعتقاد مع عدم الرضا بالمعصية أول مراتب الإنكار القلبي، و عن التنقيح تفسيره بذلك أيضا مع الابتهال إلى اللَّه تعالى في إهداء العاصي، و في الكفاية بعدم الرضا بالفعل، و لعله لاستفاضة النصوص (2)بأن الراضي بالحرام كفاعله، بل به علل (3)قتل ذراري قتلة الحسين عليه السلام، و عن المفاتيح تفسيره بالبغض في اللَّه، و لعله لبعض الأخبار، و ظاهر المنتهى و ما تسمعه من المتن أنه إظهار الكراهية، و لعله ل

قول أمير المؤمنين عليه السلام(4): «أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة»

و الصادق عليه السلام (5): «قد حق لي أن آخذ البري ء منكم بذنب السقيم، و كيف لا يحق ذلك و أنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا

تنكرون عليه و لا تنهرونه و لا تؤذونه حتى يترك»

و قوله عليه السلام أيضا(6): «لو أنكم إذا بلغكم عن الرجل شي ء


1- 1 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 12.
2- 2 الوسائل- الباب 5 من أبواب جهاد العدو.
3- 3 الوسائل- الباب 5 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
4- 4 الوسائل- الباب 6 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
5- 5 الوسائل- الباب 7 من أبواب الأمر و النهي الحديث 4.
6- 6 الوسائل- الباب 7 من أبواب الأمر و النهي الحديث 5.

ج 21، ص: 376

تمشيتم إليه فقلتم يا هذا إما أن تعتزلنا أو تتجنبنا، و إما أن تكف عن هذا، فإن فعل، و إلا فاجتنبوه»

و قوله عليه السلام أيضا(1): «إن اللَّه عز و جل بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها فلما انتهيا إلى المدينة فوجدا فيها رجلا يدعو و يتضرع- إلى أن قال- فعاد أحدهما إلى اللَّه تعالى فقال: يا رب إني انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلانا يدعوك و يتضرع إليك، فقال: امض إلى ما أمرتك، فإن ذا رجل لم يتمعر- أي يتغير- وجهه غضبا لي»

إلى غير ذلك من النصوص التي تقدم بعضها الآمرة بهجرانهم و هجران مجالسهم.

لكن لا يخفى عليك ما في جملة من هذه التفاسير، إذ الأول كما ذكرنا سابقا ليس من الأمر بالمعروف و لا من النهي عن المنكر لغة و لا عرفا، و إنما هو من أحكام الإيمان حال وجود موضوعهما و عدمه و كذا زيادة عدم الرضا بالمعصية معه، فإن الرضا و إن كان محرما في نفسه لكن عدمه ليس أمرا و لا نهيا،

و كذا البغض ما لم يظهر، و أغرب من ذلك زيادة الابتهال الذي لا مدخلية له في الأمر بالمعروف، بل لا قائل بوجوبه، نعم إظهار الكراهة و الهجر و نحوهما دالان على طلب الفعل أو الترك، و من هنا قلنا سابقا إنه لا بد من ضميمة في الإنكار بالقلب يكون بها داخلا في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، إلا أنه بهذا المعنى مشروط أيضا بتجويز التأثير و بعدم الضرر.

فلا يتم قول المصنف بل و العلامة في المحكي عن جميع كتبه:

و هو أي الإنكار بالقلب يجب وجوبا مطلقا على معنى أنه لا يتوقف على التجويز و لا على أمن الضرر كما صرح به غير واحد،


1- 1 الوسائل- الباب 6 من أبواب الأمر و النهي الحديث 2.

ج 21، ص: 377

و بالجملة الإنكار القلبي بمعنى الاعتقاد و نحوه ليس من الأمر بالمعروف بل و كذا عدم الرضا أو البغض أو نحو ذلك مما هو في القلب من دون إظهار منه و إن قلنا بوجوبه في نفسه لبعض النصوص، و أما الإظهار و نحوه فهو منه، لدلالته على طلب الفعل أو الترك، إلا أن ذلك ليس واجبا مطلقا بل هو مشروط بما عرفت.

و من هنا كان المتجه للمصنف و الفاضل تفسيره بذلك مع ترك إطلاق وجوبه، و ذلك لكونه حينئذ كالمرتبة الثانية و الثالثة و هي الإنكار باللسان و باليد اللتين لا خلاف في اشتراطهما بما سمعت كما لا خلاف في وجوبهما أيضا لما سمعته من النصوص السابقة، مضافا إلى

خبر(1)يحيى الطويل عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «ما جعل اللَّه بسط اللسان و كف اليد، و لكن جعلهما يبسطان معا و يكفان معا»

و غيره أيضا، نعم يستفاد منها أيضا خصوصا خبر العسكري (ع) السابق عن النبي صلى اللَّه عليه و آله (2)الإنكار القلبي المحض، ل

قوله صلى اللَّه عليه و آله: «من رأى منكرا فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم اللَّه من قلبه أنه لذلك كاره»

و خبر يحيى (3)الطويل صاحب المقري عن الصادق عليه السلام «حسب المؤمن عزا إذا رأى منكرا أن يعلم اللَّه عز و جل من قلبه إنكاره»

مع زيادة المقت و البغض كما يستفاد من غيرها(4)و لكنه ليس من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ضرورة عدم دلالته على الطلب من المأمور


1- 1 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 2.
2- 2 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 12.
3- 3 الوسائل- الباب 5 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1.
4- 4 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1.

ج 21، ص: 378

و المنهي بوجه من الوجوه مع فرض عدم أمارة تدل على ذلك حتى تغير الوجه و نحوه.

و كيف كان فقد صرح الفاضل و ابن سعيد و السيوري و الشهيدان و غيرهم على ما حكي عن

بعضهم بوجوب مراعاة الأيسر فالأيسر في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل نسبه بعض الأفاضل إلى الشهرة بل لم أجد من حكى الخلاف في ذلك، و إليه أشار المصنف بقوله:

و يجب دفع المنكر بالقلب أولا كما إذا عرف أن فاعله ينزجر بإظهار الكراهية، و كذا إذا عرف أن ذلك لا يكفي و عرف الاكتفاء بضرب من الإعراض و الهجر وجب، و اقتصر عليه مراعيا للأيسر فالأيسر، و لو عرف أن ذلك لا يرفعه انتقل إلى الإنكار باللسان مرتبا للأيسر من القول فالأيسر، و لو لم يرتفع إلا باليد مثل الضرب و ما شابهه من فرك الأذن و الحبس و نحوهما جاز و دعوى أن إطلاق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يقتضي خلاف الترتيب المزبور- بل قد سمعت ما في بعض الأخبار السابقة من التزام ارتكاب الأثقل من الإنكار- يدفعها ما يستفاد من غيرها من مراعاة الترتيب مضافا إلى قاعدة حرمة إيذاء المؤمن و إضراره المقتصر في الخروج منها على مقدار ما ترتفع به الضرورة، بل لعل قوله تعالى (1)«فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ» إلى آخره ظاهر في ذلك باعتبار تقديم الصلح أولا، على أن التعارض بين إطلاق الأمر بالمعروف و بين النهي عن الإضرار بالمؤمن و الإيذاء له من وجه، و المعلوم من تخصيص الأخير بالأول حال الترتيب الذي ذكرناه، و حينئذ فالمتجه الاقتصار فيهما على أول مراتب الإنكار


1- 1 سورة الحجرات- الآية 9.

ج 21، ص: 379

بالقلب على وجه يظهر للمأمور و المنهي ذلك، ثم المرتبة الأخرى منه الأيسر فالأيسر إلى أن تنتهي مراتبه بأقسام الهجر و تغير الوجه و نحوهما فإن لم يجد استعمل اللسان أيضا بمراتبه الأيسر فالأيسر، فإن لم يجد استعمل اليد أيضا بمراتبها.

و لكن ذلك كله مع فرض ترتبها في الإيذاء، و إلا فلو فرض أن الهجر أشد إيذاء من بعض القول وجب الثاني، و لو علم من أول الأمر أنه لا يجدي إلا المرتبة الأخيرة من المراتب استعملها من غير تدرج، إذ هو في مجهول الحال، لكن عن الشيخ و ابن حمزة «يجب أولا باللسان ثم باليد ثم بالقلب» و عن سلار «باليد أولا، فإن لم يمكن فاللسان، فإن لم يمكن فالقلب» و عن الحلبي في الإشارة «يجب باليد و اللسان، فإن فقدت القدرة أو تعذر الجمع فيه بين ذلك فباللسان و القلب خاصة، فإن لم يمكن الجمع فيه بينهما لأحد الأسباب المانعة فلا بد منه باللسان، و لا يسقط الإنكار به شي ء».

و لا يخفى عليك ما في الجميع، خصوصا الأخير، ضرورة سقوط الإنكار باللسان مع الضرر و الخوف و عدم تجويز التأثير، و ربما يكون المراد من الاختلاف بيان مراتب سقوط الإنكار بالنسبة إلى التمكن و عدمه على معنى سقوطه باليد عند الحاجة إليه مع عدم التمكن، و لكن لا يسقط باللسان مع التمكن و لو بالنسبة إلى غير الفرد الذي يتوقف إنكاره على الضرب باليد، فإن لم يتمكن منه أيضا باللسان بالنسبة إلى بعض الأشخاص اقتصر على القلب بالطريق الذي ذكرناه، و هكذا، و على ذلك فلا يكون خلافا في المسألة، و حينئذ فالسقوط مترتب أيضا كالثبوت، و لعل هذا أولى مما في المختلف، فإنه بعد أن حكى بعض ما ذكرناه من الاختلاف قال: «و لا أرى في ذلك كثير بحث، و التحقيق أن النزاع

ج 21، ص: 380

لفظي، فإن القائل بوجوبه باللسان أولا ثم باليد أشار إلى أنه يعد فاعل المعروف بالخير، و يعظه بالقول، و يزجره على الترك، فإن أفاد و إلا ضربه و أدبه، فإن خاف و عجز عن ذلك كله اعتقد وجوب الأمر بالمعروف و تحريم المنكر، و ذلك مرتبة القلب، و القائل بتقديم القلب يريد أنه يعتقد الوجوب و يغضب في قلبه غضبا يظهر على وجهه الكراهة و الإعراض، و القائل بتقديم اليد يريد أنه يفعل المعروف و يتجنب المنكر بحيث يتأسى الناس به، فإن لم ينجع وعظ و خوف باللسان، فإن لم ينجع اقتصر على الإنكار القلبي» و هو كما ترى، و لعله لذا قال في محكي التنقيح: «أنه مجرد تخمين لا دليل عليه».

و على كل حال فمما ذكرنا يعلم وجوب مراعاة الأيسر فالأيسر في المراتب كلها، كما يعلم منه أيضا أن المراد بالجواز في المتن الوجوب بل و يعلم أيضا التخيير في الأفراد مع فرض تساويها مرتبة، و لو كان المنكر مثلا يرتفع بالقول الغليظ و الضرب الخفيف اقتصر على الأول بناء على ما ذكرنا من الترتيب بين اللسان و اليد، مع احتمال التخيير مع فرض التساوي في الإيذاء، و إلا وجب الأسهل، لما سمعته من القاعدة السابقة التي منها يعلم الحال في أفراد المراتب، فرب إعراض و هجر من بعض الأشخاص بالنسبة إلى بعض الأشخاص يكون أشد إيذاء من بعض الكلام و بالجملة الميزان ما عرفت، و هو مع أنه أحوط به تجتمع النصوص.

ثم إن ظاهر المصنف و غيره الإجماع على عدم توقف الضرب الخالي عن الجرح على إذن الإمام عليه السلام أو القائم مقامه، لكن في محكي نهاية الشيخ «الأمر بالمعروف يكون باليد و اللسان، فأما اليد فهو أن يفعل المعروف و يتجنب المنكر على وجه يتأسى به الناس، و أما باللسان فهو أن يدعو الناس إلى المعروف، و يعدهم على فعله المدح و الثواب،

ج 21، ص: 381

و يزجرهم و يحذرهم عن الإخلال به من العقاب، فإن لم يتمكن من هذين النوعين بأن يخاف ضررا عليه أو على غيره اقتصر على اعتقاد وجوب الأمر بالمعروف بالقلب، و ليس عليه أكثر من ذلك، و قد يكون الأمر بالمعروف باليد بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب و الردع و قتل النفوس و ضرب من الجراحات، إلا أن هذا الضرب لا يجب فعله إلا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرئاسة العامة، فإن فقد الإذن من جهته اقتصر على الأنواع التي ذكرناها، و إنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها، فأما اليد فهو أن يؤدب فاعله بضرب من التأديب، إما الجراح أو الألم أو الضرب، غير أن ذلك مشروط بالإذن من جهة السلطان حسبما قدمناه» و فيه نظر من وجوه، و أغرب من ذلك ما في مجمع البرهان «أنه لو لم يكن جوازهما بالضرب إجماعيا لكان القول بجواز مطلق الضرب بمجرد أدلتهما مشكلا».

إذ لا يخفى على من أحاط بما ذكرناه من النصوص و غيرها أن المراد بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الحمل على ذلك بإيجاد المعروف و التجنب من المنكر لا مجرد القول، و إن كان يقتضيه ظاهر لفظ الأمر و النهي، بل و بعض النصوص الواردة في تفسير قوله تعالى (1)«قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ» المشتملة على الاكتفاء بالقول للأهل افعلوا كذا و اتركوا كذا»

قال الصادق عليه السلام في خبر عبد الأعلى مولى آل سام(2): «لما نزلت هذه الآية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً» جلس رجل من المسلمين يبكي و قال: أنا عجزت عن نفسي و كلفت أهلي، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه


1- 1 سورة التحريم- الآية 6.
2- 2 الوسائل- الباب 9 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1.

ج 21، ص: 382

عليه و آله: حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، و تنهاهم عما تنهى عنه نفسك»

و خبر أبي بصير(1)في الآية «قلت كيف أقيهم؟ قال:

تأمرهم بما أمر اللَّه، و تنهاهم عما نهاهم اللَّه، فإن أطاعوك فقد وقيتهم و إن عصوك كنت قد قضيت ما عليك»

و في خبره الآخر(2)عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في الآية أيضا «كيف نقي أهلنا؟ قال تأمرونهم و تنهونهم»

لكن ما سمعته من النصوص و الفتاوى الدالة على أنهما يكونان بالقلب و اللسان و اليد صريح في إرادة حمل الناس عليهما بذلك كله، بل هو معنى

قوله عليه السلام: «ما جعل اللَّه بسط اللسان و كف اليد و لكن جعلهما يبسطان معا و يكفان معا»

فيمكن إرادة ما يشمل الضرب و نحوه من أمر الأهل و نهيهم، كما أنه صرح في النصوص أيضا بالهجر و تغير الوجه و غيرهما مما يراد منه الطلب بواسطة هذه الأمور لا مجرد القول كما هو واضح بأدنى تأمل و نظر، بل منه يعلم أن المراد حينئذ من إطلاق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في الكتاب و السنة حمل تارك المعروف و فاعل المنكر على الفعل و الترك بالقلب على الوجه الذي ذكرناه، و باللسان و باليد كذلك، بل قد سمعت دعوى الإجماع من الأردبيلي على الأخير فضلا عن الأولين.

نعم من أعظم أفراد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أعلاها و أتقنها و أشدها تأثيرا خصوصا بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه و مندوبه، و ينزع رداء المنكر محرمه و مكروهه، و يستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة و ينزهها عن الأخلاق الذميمة، فإن ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف، و نزعهم المنكر و خصوصا إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة و المرهبة، فإن لكل مقام مقالا، و لكل


1- 1 الوسائل- الباب 9 من أبواب الأمر و النهي الحديث 2.
2- 2 الوسائل- الباب 9 من أبواب الأمر و النهي الحديث 3.

ج 21، ص: 383

داء دواء، و طب النفوس و العقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة و حينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف، نسأل اللَّه التوفيق لهذه المراتب.

و كيف كان ف لو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟

قيل و القائل السيد و الشيخ في التبيان و الحلبي و العجلي و الفاضل في جملة من كتبه و يحيى بن سعيد و الشهيد في النكت على ما حكي عن بعضهم نعم يجب و قيل و القائل الشيخ و الديلمي و القاضي و فخر الإسلام و الشهيد و المقداد و الكركي على ما حكي عن بعضهم لا يجوز إلا بإذن الإمام عليه السلام بل في المسالك هو أشهر، بل في مجمع البرهان هو المشهور بل عن الاقتصاد الظاهر من شيوخنا الإمامية أن هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلا للأئمة عليهم السلام أو لمن يأذن له الإمام عليه السلام فيه و هو الأظهر للأصل السالم عن معارضة الإطلاق المنصرف إلى غير ذلك، خصوصا بعد ما سمعت من اشتراط الوجوب بتجويز التأثير المشعر ببقاء المأمور و المنهي، بل لعل ذلك هو مقتضى الأمر و النهي الواجبين، ضرورة عدم موضوعهما مع القتل، و دعوى كون المراد منهما حمل الشخص على ترك المنكر و لو ترك الواجب الذي يحصل بقتله عدم وقوع المنكر منه كما ترى مجاز لا قرينة عليه بل لعلها على العكس موجودة، كل ذلك مضافا إلى ما في جواز ذلك لسائر الناس عدولهم و فساقهم من الفساد العظيم و الهرج و المرج المعلوم عدمه في الشريعة، خصوصا في مثل هذا الزمان الذي غلب النفاق فيه على الناس، و بالجملة لا يكاد ينكر اقتضاء تجويز ذلك لسائر الناس على مقتضى إطلاق وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فساد النظام، فدعوى اقتضاء إطلاق ما دل على وجوبهما خصوصا ما

ج 21، ص: 384

دل منه على وجوبهما باللسان و اليد الشاملة للجرح و القتل واضحة الفساد كدعوى اقتضاء وجوبهما على النبي صلى اللَّه عليه و آله و الإمام عليه السلام على هذا الوجه الوجوب على الناس أيضا كذلك للتأسي و لأصالة الاشتراط، و أوضح منهما فسادا الاستدلال على ذلك بأنهما إنما وجبا لمصلحة العالم فلا يقفان على شرط كغيرهما من المصالح بعد ما عرفت من اقتضاء وجوبهما على هذا الوجه فساد نظام العالم، و كذا ما قيل من أن إذن الإمام عليه السلام شرط فيما إذا كان الضرر مقصودا، و أما إذا كان المقصود أمرا آخر غيره فلا و إن حصل منه الضرر، و محل البحث فيه الأخير، إذ هو شبه المدافعة و الممانعة اللذين قد يتولد منهما ضرر غير مقصود.

نعم في

المروي (1)عن تاريخ الطبري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «إني سمعت عليا عليه السلام يوم لقينا أهل الشام يقول:

أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم، و من أنكره بلسانه فقد أوجر، و هو أفضل من صاحبه و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللَّه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نور في قلبه اليقين»

كقول الباقر عليه السلام (2): «فأنكروا بقلوبكم، و الفظوا بألسنتكم و صكوا بها جباههم، و لا تخافوا في اللَّه لومة لائم، فإن اتعظوا و إلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم


1- 1 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 8.
2- 2 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 1.

ج 21، ص: 385

و أبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا، و لا باغين به مالا، و لا مريدين بالظلم ظفرا حتى يفيئوا إلى أمر اللَّه و يمضوا على طاعته»

إلى غير ذلك من النصوص.

و لكن من المعلوم أنه أشار بذلك إلى نفسه و من يقوم مقامه من أولاده عليهم السلام لا سائر الناس كخطابات الحدود و قتال البغاة و جهاد الكفار و نحو ذلك، على أنه ظاهر في الجواز دون الوجوب الذي هو مقتضى الأمر بالمعروف، و نحو

قوله عليه السلام أيضا(1)الذي رواه عنه الرضي «فمنهم المنكر للمنكر بقلبه و يده و لسانه، فذلك المستكمل لخصال الخير، و منهم المنكر بلسانه و قلبه التارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير، و مضيع خصلة، و منهم المنكر بقلبه التارك بيده و لسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث و تمسك بواحدة، و منهم تارك لإنكار المنكر بلسانه و قلبه و يده فذلك ميت الأحياء»

، و كأنه لبعض ما ذكرنا فصل ثاني الشهيدين بين الجرح و القتل فجوز الأول و منع الثاني، و هو مع أنه خرق للإجماع على الظاهر فيه الفساد الذي ذكرناه، ضرورة عدم انحصار الجريح في غير المؤدي للقتل، بل قد سمعت عن الشيخ سابقا ما يقتضي عدم جواز الضرب إلا بإذن الإمام عليه السلام و إن كان فيه ما عرفت، فلا ريب في أن القول بعدم الجواز مطلقا أقوى، نعم في جوازه لنائب الغيبة- مع فرض حصول شرائطه أجمع التي منها أمن الضرر

و الفتنة و الفساد لعموم ولايته عنهم عليهم السلام- قوة، خصوصا مع القول بجواز إقامة الحدود له، و إن كان ذلك فرض نادر بل معدوم في مثل هذا الزمان.

[الرابع في المقيم للحد]

هذا و لعله لبعض ما ذكرنا من لزوم الفساد بإيكال ذلك


1- 1 الوسائل- الباب 3 من أبواب الأمر و النهي الحديث 9.

ج 21، ص: 386

إلى عامة الناس لا يجوز لأحد إقامة الحدود إلا الإمام عليه السلام مع وجوده و بسط يده أو من نصبه الإمام لإقامتها خاصة أو لما يشملها و إن كان ربما فرق بينهما بأن الحد مطلوب شرعا لذاته من حيث أنه حكم شرعي متعلق بمنصب الإمامة فلا بد من إذن الإمام عليه السلام، و أما الجرح و القتل فإنهما مطلوبان لامتثال الأمر و النهي لا لذاتهما، فلا يشترطان بإذن الإمام عليه السلام كالدفاع، و لذا وقع الخلاف في الأول دون الثاني، لكن فيه أن الكلام في جواز ذلك مقدمة للأمر و النهي، و على كل حال فلا خلاف أجده في الحكم هنا، بل عن الغنية و السرائر الإجماع عليه، بل في المحكي عن الثاني دعواه من المسلمين، قال: «و الإجماع حاصل منعقد من أصحابنا و من المسلمين جميعا أنه لا يجوز إقامة الحدود، و لا المخاطب بها إلا الأئمّة عليهم السلام، و الحكام القائمون بإذنهم في ذلك، و أما غيرهم فلا يجوز التعرض لها على حال، فلا يرجع عن هذا الإجماع بأخبار الآحاد، بل بإجماع مثله أو كتاب اللَّه أو سنة متواترة مقطوع بها» إلى آخره كل ذلك مضافا إلى النصوص الدالة على ذلك المذكورة في كتاب الحدود و غيره التي منها يعلم التقييد في الخطابات العامة الآمرة بإقامة الحدود نحو غيرها من خطابات الجهاد و غيرها المعلوم كون المراد منها مباشرة الإمام أو من نصبه لذلك.

نعم مع عدم ظهوره «ع» و عدم بسط يده يجوز للمولى و إن لم يكن مجتهدا إقامة الحد على مملوكه وفاقا للمشهور نقلا و تحصيلا بل كاد يكون إجماعا كما اعترف به بعضهم، بل في المسالك لم يخالف فيه إلا الشاذ النادر، و لعله كذلك، إذ لم يحك الخلاف فيه إلا من المفيد و الديلمي، بل عن الغنية الإجماع عليه، بل مقتضى جواز الحلي

ج 21، ص: 387

له بعد ما سمعته منه سابقا كونه مجمعا عليه أو أن النصوص به متواترة، بل المحكي عنه الاستدلال عليه بما ورد من الأخبار المستفيضة بين العامة و الخاصة و إن كان لا يحضرني شي ء منها- مضافا إلى عموم ما دل على تسلط السيد على عبده، و مضافا إلى ما عن الكركي من أنه ذكر أصحابنا أنه قد ورد بذلك رخصة- إلا خصوص

النبوي (1)المروي في بعض كتب الفروع «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم»

و خبر عنبسة بن مصعب (2)«قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: جارية لي زنت أحدها قال: نعم، و ليكن في سر، فإني أخاف عليك السلطان»

و خبر علي بن جعفر(3)عن أخيه موسى عليهم السلام «سأله عن رجل هل يصلح له أن يضرب مملوكه في الذنب يذنبه قال: يضربه على قدر ذنبه، و إن زنى جلده، و إن كان غير ذلك فعلى قدر ذنبه السوط أو السوطين و شبهه، و لا يفرط في العقوبة»

بل يمكن دعوى القطع من السيرة بجواز التعزيرات له التي هي قسم من الحدود أيضا و المناقشة باحتمال الإذن الخاصة من الإمام عليه السلام واضحة الفساد في غير خبر عنبسة الحمول على غيره، و بذلك كله يقيد حينئذ ما دل على أن الحد للإمام عليه السلام أو لمن يأذن له، مع إمكان كون ذلك إذنا منه على جهة العموم، فيتساوى حينئذ الإذن في الحكم.

ثم إن مقتضى إطلاق النص و الفتوى عدم الفرق في المولى بين العدل و الفاسق و الذكر و الأنثى، بل و المملوك كما إذا كان مكاتبا و غيره، بل عن الشيخ التعبير بالإنسان الشامل للذكر و الأنثى، لكن في الدروس


1- 1 المستدرك- الباب 27 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 2.
2- 2 الوسائل- الباب 30 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 6.
3- 3 الوسائل- الباب 30 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 8.

ج 21، ص: 388

«في جواز إقامة المرأة الحد على رقيقها و المكاتب على رقيقه و الفاسق مطلقا نظر» و لعله مما سمعت، و من الشك في التناول، و عدم استئمان الفاسق على مثل ذلك، و الأصل

عدم الجواز، و لو اشترك الموليان اجتمعا في الاستيفاء، و لا يجوز لأحدهما الاستقلال، كما لا يجوز إقامته على المبعض، بل في الدروس و المكاتب و إن كان لا يخلو من نظر إذا لم يتحرر بعضه، و كذا لا فرق في الحد بين الجلد و الرجم و القتل نعم يعتبر مشاهدته لمقتضى الحد أو إقرار المولى على وجه يترتب عليه ذلك، أما الثبوت بالبينة ففي المسالك يتوقف على الحاكم الشرعي، و فيه نظر بناء على جواز العمل بها لغيره من باب الأمر بالمعروف، و كذا يعتبر معرفته لمقدار الحد و باقي ما يعتبر فيه، و مع ذلك الأحوط عدم التعرض له مع فرض كون الحكم رخصة كما هو مقتضى المحكي عن الشيخ و غيره، لا عزيمة لعموم النهي عن تعطيل الحد لمن كان له إقامته، و أحوط من ذلك مباشرة نائب الغيبة له بإذن السيد بناء على جواز إقامة الحدود له فيها.

و كيف كان ف هل يجوز أن يقيم الرجل الحد على ولده و زوجته كما عن الشيخ و القاضي و اختاره أول الشهيدين أو لا يجوز كما عن المفيد و ابني زهرة و إدريس و الطبرسي و غيرهم، و اختاره الكركي و ثاني الشهيدين، بل لعله المشهور كما استظهره بعض الأفاضل فيه تردد كما في النافع و القواعد من دعوى الشيخ وجود الرخصة في ذلك، و ليس ما يحكيه إلا كما يرويه مؤيدة بما دل (1)على كمال سلطنة الوالد و الزوج على الولد و الزوجة، و السيرة المستمرة


1- 1 الوسائل- الباب 78 من أبواب ما يكتسب به و الباب 79 و 91 من أبواب مقدمات النكاح.

ج 21، ص: 389

على تأديبهما و تعزيرهما الذي هو قسم من الحدود، و خصوص ما دل على تأديب الزوجة بالضرب و الهجر مع التقصير في حقوق الزوجية كتابا(1)و سنة و إجماعا، مضافا إلى عموم الأمر بإقامة الحدود و من عدم صلاحية ذلك كله لتخصيص ما دل على أن إقامة الحد للإمام عليه السلام من

خبر حفص (2)«سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام من يقيم الحدود السلطان أو القاضي فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم»

و غيره، مضافا إلى ما سمعته من إجماع السرائر المقتصر في الخروج منه على السيد، بل في محكي الغنية و يجوز للسيد إقامة الحد على من ملكت يمينه بغير إذن الإمام عليه السلام، و لا يجوز لغير السيد ذلك إلا بإذنه، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة عليه، و من ذلك و غيره يعلم أن المراد بالعموم ما سمعته سابقا من الإمام و من أذن له في ذلك فالأقوى حينئذ عدم الجواز.

و على الأول فقد صرح في الدروس بأن المراد بالولد و إن نزل، كما أنه صرح فيها و في غيرها بعدم الفرق بين التزويج الدائم و المنقطع بل صرح فيها أيضا بأنه لا فرق في الزوج و الزوجة بين الحرين و العبدين أو أحدهما فتجتمع حينئذ على الأمة ولاية الزوج و السيد، و هل يتوقف إقامته حينئذ عليهما أو

لكل منهما إقامته، و صرح فيها أيضا بأنه لا فرق بين المدخول بها و غيرها، و أنه لا فرق بين الجلد و الرجم قال:

لما

روي (3)أنه لو وجد رجلا يزني بامرأته فله قتلهما،

و منع الفاضل


1- 1 سورة النساء- الآية 38.
2- 2 الوسائل- الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب 45 من أبواب حد الزنا الحديث 2.

ج 21، ص: 390

من الرجم و القطع بالسرقة، و لا يخفى عليك ما في استدلاله بالرواية المزبورة المعلوم كون ما فيها من غير الحدود، بل للغيرة و نحوها، و لذا لم يعتبر في الرجل كونه محصنا، على أن الحد فيه الرجم لا القتل كما أوضحنا ذلك في كتاب الحدود، و منه يعلم ما في الاستدلال بنحو ذلك للقول الأول الذي قد بان لك ضعفه، هذا، و في المسالك و يظهر من المختلف أن موضعه ما لو كان الأب و الزوج بل المولى فقيها، و حينئذ يتجه الجواز لما سيأتي من جواز ذلك لهم في حال الغيبة، قلت: عبارته في المختلف في غاية التشويش، و ربما حكي عنه جواز ذلك لهم و إن لم نقل بجوازه للفقيه في غير ذلك زمن الغيبة، و لكنه في غير محله، كما أن دعوى كون النزاع في خصوص ذلك كذلك، ضرورة ظهور كلام الأصحاب أو صريحه في كون ذلك من حيث كونه مولى و أبا و زوجا،

و الأمر سهل بعد أن عرفت التحقيق في المسألة، و اللَّه العالم.

و لو ولي وال من الشيعة من قبل الجائر و كان قادرا على إقامة الحدود بلا ضرر عليه هل له إقامتها؟ قيل و القائل المفيد في محكي المقنعة و الشيخ في محكي النهاية نعم له ذلك بعد أن يعتقد أنه يفعل ذلك بإذن الإمام الحق عليه السلام قال في الأخير: «و من استخلفه سلطان ظالم على قوم و جعل إليه إقامة الحدود جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال، و يعتقد أنه إنما يفعل ذلك بإذن سلطان الجور، و يجب على المؤمنين معونته و تمكينه من ذلك ما لم يتعد الحق في ذلك و ما هو مشروع في شريعة الإسلام، فإن تعدى ما جعل اللَّه الحق لم يجز له القيام به، و لا لأحد معاونته على ذلك، اللَّهمّ إلا أن يخاف في ذلك على نفسه، فإنه يجوز له حينئذ أن يفعل في حال التقية ما لم يبلغ قتل النفوس، و أما قتل النفوس

ج 21، ص: 391

فلا يجوز فيه التقية على حال» و في المنتهى قد روي أن من استخلفه سلطان إلى قوله في النهاية: «اللَّهمّ» ثم قال: أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته، و في محكي السرائر أنه أوردها إيرادا من طريق الخبر لا اعتقادا من جهة الفتيا و النظر.

و من هنا قيل و القائل الحلي و الفاضل و الشهيدان و غيرهم، بل المشهور لا يجوز له ذلك و هو أحوط بل و أقوى بل ينبغي القطع به، ضرورة ظهور كلام الأصحاب بل صريح بعضهم كما اعترف به في المسالك أن هذا المتولي غير فقيه شرعي، بل و ليس مضطرا كما يؤمي إليه ذكر حكم الاضطرار بعد ذلك، و قد عرفت الإجماع بقسميه و النصوص على عدم جواز إقامتها لغير الإمام عليه السلام و من أذن له في ذلك، و الرواية المزبورة بعد عدم جامعيتها لشرائط الحجية و إعراض المشهور بل الجميع عدا من عرفت عنها لا تصلح لإثبات ذلك قطعا.

نعم لو اضطره السلطان إلى إقامة الحد جاز حينئذ إجابته ما لم يكن قتلا ظلما فإنه لا تقية في الدماء بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المنتهى و محكي السرائر، بل في مجمع البرهان الظاهر الإجماع على جواز الإجابة في ذلك على الوجه المزبور، كل ذلك مضافا إلى عموم أدلة التقية(1)المؤيدة بما دل (2)على جواز تناول غير الباغي و العادي الميّتة و غيرها من المحرمات عند الاضطرار، لكن في إلحاق الجرح بالقتل كما هو مقتضى التعليل و عدمه خلاف، و عن الشيخ القطع بالأول، و في المسالك ألحق به الشيخ رحمه اللَّه الجرح، و هو مناسب


1- 1 الوسائل- الباب 25 من أبواب الأمر و النهي.
2- 2 سورة البقرة- الآية 168.

ج 21، ص: 392

لتعليل المصنف، فإن التقية المنفية في الدماء نكرة في سياق النفي، فتعم، و في بعض العبارات لا تقية في قتل النفوس، فيخرج

الجرح الذي لا يفضي إليه، و لا يحضرني مستند يترتب عليه الحكم، قلت:

يمكن إرادة النفوس من دماء في المرسل فيتحد حينئذ مع ما في محكي السرائر قال: إن خاف الإنسان من ترك إقامة الحدود فإنه يجوز له أن يفعل ذلك في حال التقية ما لم يبلغ قتل النفوس، فإنه لا يجوز التقية فيه عند أصحابنا بلا خلاف فيه، بل هو المراد من

قول الصادق عليه السلام في خبر الثمالي(1): «لم تبق الأرض إلا و فيها منا عالم يعرف الحق من الباطل، قال: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية، و ايم اللَّه لو دعيتم لتنصرونا لقلتم لا نفعل إنما نتقي، و لكانت التقية أحب إليكم من آبائكم و أمهاتكم و لو قد قام القائم عليه السلام ما احتاج إلى مساءلتكم عن ذلك، و لا قام في كثير منكم من أهل النفاق حد اللَّه تعالى»

بل هو مقتضى ما تسمعه من المتن أيضا، بل يمكن القطع بملاحظة ما يأتي من المتن و ما هنا بإرادة النفوس من الدماء لا مطلق الجرح، و خصوصا المعلوم عدم تأديته إلى القتل، لا أقل من الشك، فيبقى عموم الجواز للتقية في محله، بل ينبغي القطع به فيما إذا كان المجروح من غير الشيعة، بل قد يقال بجواز القتل فيه إذا كان الإكراه بالقتل، بل و إذا كان يخافه، خصوصا بعد ما ورد(2)من عدم مساواة الألف منهم لواحد من الشيعة، و أنهم مستحقون للقتل عند ظهور الصاحب


1- 1 الوسائل- الباب 31 من أبواب الأمر و النهي الحديث 2.
2- 2 الوسائل- الباب 26 من أبواب جهاد العدو- الحديث 2.

ج 21، ص: 393

روحي له الفداء، و أن إجراء حكم الإسلام عليهم للتقية الزمانية و للهدنة ما دامت دولة الحق مستورة، بل قد يقال أيضا إن من كان عليه الحد مخالفا و كان حده القتل في مذهبهم يجوز قتله و إن لم يصل إلى حد الإكراه، لقاعدة إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم و غيرها.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أنه يجوز لغير الفقيه إقامة الحد الثابت شرعا و لو قتلا إذا كان مجبورا على ذلك، لعموم أدلة التقية، و لا يجوز مع عدم الجبر، و هل يعتبر في حال الجواز نية كونه عن الإمام عليه السلام؟ ظاهر المرسل المزبور ذلك، لكن قد عرفت قصوره عن إثبات نحو ذلك و إن كان لا ريب في أنه أحوط، أما إذا كان القتل ظلما و كان المقتول من الشيعة فلا يجوز قطعا لما عرفت، و في إلحاق الجرح الغير المؤدي إلى القتل قول، و لكن الأقوى خلافه، بل يقوى جوازه في غير معلوم التأدية، و لو كان من غير الشيعة و لو مخالفا فالأقوى جواز قتله فضلا عن الجرح، خصوصا إذا كان ذلك مقتضى مذهبه، و خصوصا إذا علم قتل الجائر له إن لم يقتله، هذا، و ربما احتمل في عبارة المصنف أن المراد بالوالي الفقيه في زمن الغيبة، و فيه أنه لا وجه حينئذ لإفراده عن المسألة الآتية، اللَّهمّ إلا أن يقال إنه باعتبار صورة النيابة عن الجائر يتوهم المنع و إن جاز هناك، و هو كما ترى، أو يقال إنه و إن لم نقل بالجواز في تلك المسألة يجوز هنا باعتبار كونه واليا عن الجائر، فلا يخاف عليه حينئذ من السلطان، بخلاف ما إذا لم يكن، أو غير ذلك، و الأمر سهل بعد ما عرفت و تعرف أن الحكم جائز له على كل تقدير.

و كيف كان فقد قيل و القائل الإسكافي و الشيخان و الديلمي و الفاضل و الشهيدان و المقداد و ابن فهد و الكركي و السبزواري

ج 21، ص: 394

و الكاشاني و غيرهم على ما حكي عن بعضهم يجوز للفقهاء العارفين بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية العدول إقامة الحدود في حال غيبة الإمام عليه السلام كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، و يجب على الناس مساعدتهم على ذلك كما يجب مساعدة الإمام عليه السلام عليه، بل هو المشهور، بل لا أجد فيه خلافا إلا ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة و إدريس، و لم نتحققه، بل لعل المتحقق خلافه، إذ قد سمعت سابقا معقد إجماع الثاني منهما الذي يمكن اندراج الفقيه في الحكام عنهم منه، فيكون حينئذ إجماعه عليه لا على خلافه، كما أن ما في التنقيح من الحكاية عن سلار أنه جوز الإقامة ما لم يكن قتلا أو جرحا كذلك أيضا، فإن عبارته في المراسم عامة للجميع، قال فيها: فقد فوضوا عليهم السلام إلى الفقهاء إقامة الحدود و الأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدوا واجبا، و لا يتجاوزوا حدا، و أمروا عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك ما استقاموا على الطريقة.

فمن الغريب بعد ذلك ظهور التوقف فيه من المصنف و بعض كتب الفاضل سيما بعد وضوح دليله الذي هو

قول الصادق عليه السلام في مقبول عمر بن حنظلة(1)«انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فلترضوا به حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم اللَّه استخف، و علينا رد، و الراد علينا راد على اللَّه تعالى، و هو على حد الشرك باللَّه عز و جل»

و في مقبول أبي خديجة(2)«إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل


1- 1 الوسائل- الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 1.
2- 2 الوسائل- الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 5.

ج 21، ص: 395

الجور، لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه»

و قول صاحب الزمان روحي له الفداء و عجل اللَّه فرجه في التوقيع (1)المنقول عنه: «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللَّه» و عن بعض الكتب روايته «فإنهم خليفتي عليكم»

إلى آخره إما بدعوى أن إقامة الحد من الحكم سيما في مثل حد القذف مع الترافع إليه، و ثبوته عنده، و حكمه بثبوت الحد على القاذف، فإن المراد من الحكم عليه إنفاذ ما حكم به لا مجرد الحكم من دون إنفاذ، أو لظهور

قوله عليه السلام: «فإني قد جعلته عليكم حاكما»

في إرادة الولاية العامة نحو المنصوب الخاص كذلك إلى أهل الأطراف الذي لا إشكال في ظهور إرادة الولاية العامة في جميع أمور المنصوب عليهم فيه، بل

قوله عليه السلام: «فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللَّه»

أشد ظهورا في إرادة كونه حجة فيما أنا فيه حجة اللَّه عليكم، و منها إقامة الحدود، بل ما عن بعض الكتب «خليفتي عليكم» أشد ظهورا، ضرورة معلومية كون المراد من الخليفة عموم الولاية عرفا، نحو قوله تعالى (2)«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» أو لما سمعته من

قول الصادق عليه السلام (3)«إقامة الحدود إلى من إليه الحكم»

جواب من سأله من يقيم الحدود السلطان أو القاضي، كل ذلك مضافا إلى التأييد بما(4)دل على أنهم ورثة


1- 1 الوسائل- الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 10.
2- 2 سورة ص- الآية 25.
3- 3 الوسائل- الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 1.
4- 4 الوسائل- الباب 8 من أبواب صفات القاضي الحديث 2 و المستدرك الباب 11 منها الحديث 30.

ج 21، ص: 396

الأنبياء، و أنهم كأنبياء بني إسرائيل، و أنه لولاهم لما عرف الحق من الباطل، و بنحو

قول أمير المؤمنين عليه السلام (1)«اللَّهمّ إنك قلت لنبيك صلواتك عليه و آله فيما أخبر به: من عطل حدا من حدودي فقد عاندني و طلب بذلك مضادتي»

الظاهر في العموم لكل زمان، و الإجماع بقسميه على عدم خطاب غيرهم بذلك، فانحصر الخطاب بهم و لو لما عرفت من نصبهم إياهم على ذلك و نحوه.

بل منه ينقدح التأييد بعموم الأمر بالجلد للزاني و القطع للسارق و نحوهما فيه، و بأن تعطيل الحدود يفضي ارتكاب المحارم و انتشار المفاسد، و ذلك مطلوب الترك في نظر الشرع، و بأن المقتضي لإقامة الحد قائم في صورتي حضور الإمام و غيبته، و ليست الحكمة عائدة إلى مقيمه قطعا، فتكون عائدة إلى مستحقه، أو إلى نوع من المكلفين و على التقديرين لا بد من إقامته مطلقا، بثبوت النيابة لهم في كثير من المواضع على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام أجمع، بل يمكن دعوى المفروغية منه بين الأصحاب، فإن كتبهم مملوءة بالرجوع إلى الحاكم المراد به نائب الغيبة في سائر المواضع، قال الكركي في المحكي من رسالته التي ألفها في صلاة الجمعة: «اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى المعبر

عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى عليهم السلام في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل، و ربما استثنى الأصحاب القتل و الحدود» و لعل مقصوده ببعض الأصحاب مشيرا به إلى ابني زهرة و إدريس اللذين قد عرفت عدم ظهور المحكي عن الثاني منهما، بل ظاهره العكس، بل ينبغي الجزم بإرادته ذلك، خصوصا بعد فتواه نفسه في غيرها من كتبه


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 6.

ج 21، ص: 397

بالجواز، و حكايته له عن غيره، و بفحوى ما سمعته من جواز إقامة السيد الحد و الوالد و الزوج على القول بهما مع أمن الضرر، بل القطع بأولوية الفقيه منهما في ذلك بعد أن جعله الإمام عليه السلام حاكما و خليفة، و بأن الضرورة قاضية بذلك في قبض الحقوق العامة و الولايات و نحوها بعد تشديدهم في النهي عن الرجوع إلى قضاة الجور و علمائهم و حكامهم، بعد علمهم بكثرة شيعتهم في جميع الأطراف طول الزمان، و بغير ذلك مما يظهر بأدنى تأمل في النصوص و ملاحظتهم حال الشيعة، و خصوصا علمائهم في زمن الغيبة، و كفى بالتوقيع (1)الذي جاء للمفيد من الناحية المقدسة، و ما اشتمل عليه من التبجيل و التعظيم، بل لو لا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة.

فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئا، و لا فهم من لحن قولهم و رموزهم أمرا، و لا تأمل المراد من قولهم إني جعلته عليكم حاكما و قاضيا و حجة و خليفة و نحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم، و لذا جزم فيما سمعته من المراسم بتفويضهم عليهم السلام لهم في ذلك، نعم لم يأذنوا لهم في زمن الغيبة ببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجتهم إليها، كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان و جيوش و أمراء و نحو ذلك مما يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك و نحوه و إلا لظهرت دولة الحق كما أومأ إليه

الصادق عليه السلام بقوله:

«لو أن لي عدد هذه الشويهات و كانت أربعين لخرجت»

و بالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة.

و أغرب من ذلك كله استدلال من حلت الوسوسة في قلبه بعد


1- 1 البحار- ج 53 ص 174 و 176.

ج 21، ص: 398

حكم أساطين المذهب بالأصل المقطوع، و إجماع ابني زهرة و إدريس اللذين قد عرفت حالهما، و ببعض النصوص الدالة على أن الحدود للإمام عليه السلام خصوصا

المروي عن كتاب الأشعثيات لمحمد بن محمد بن الأشعث (1)بإسناده عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام «لا يصلح الحكم و لا الحدود و لا الجمعة إلا بإمام»

الضعيف سندا، بل الكتاب المزبور على ما حكي عن بعض الأفاضل ليس من الأصول المشهورة بل و لا المعتبرة، و لم يحكم أحد بصحته من أصحابنا، بل لم تتواتر نسبته إلى مصنفه، بل و لم تصح على وجه تطمئن النفس بها، و لذا لم ينقل عنه الحر في الوسائل و لا المجلسي في البحار مع شدة حرصهما، خصوصا الثاني على كتب الحديث، و من البعيد عدم عثورهما عليه، و الشيخ و النجاشي و إن ذكرا أن مصنفه من أصحاب الكتب إلا أنهما لم يذكر الكتاب المزبور بعبارة تشعر بتعيينه، و مع ذلك فإن تتبعه و تتبع كتب الأصول يعطيان أنه ليس جاريا على منوالها فإن أكثره بخلافها، و إنما تطابق روايته في الأكثرية رواية العامة إلى آخره، كل ذلك مع اشتمال الخبر المزبور على الحكم الذي يرجع إليه فيه بالضرورة من المذهب، و أما الجمعة ففيها البحث المعروف، و لا يبعد كون المراد منه بيان أنها من مناصب الإمامة و إن أذنوا فيها لفقهاء شيعتهم، و حينئذ فلا إشكال كما لا خلاف في وجوب مساعدة الناس لهم على ذلك نحو مساعدتهم للإمام عليه السلام، ضرورة كونه من السياسات الدينية التي لا يقوم الواحد بها، و من البر و التقوى اللذين أمر بالتعاون عليهما، و حينئذ لا يبعد وجوب الإقامة عليه مع أمن


1- 1 لم نعثر عليه و إنما رواه في المستدرك عن دعائم الإسلام في الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة الحديث 4.

ج 21، ص: 399

ضرر السلطان عليه أو على غيره من الشيعة و لو بقبول الولاية من قبله و إظهارها عنه، و إن كان مقتضى خبر حفص (1)و كثير من عبارات الأصحاب أو جميعها ثبوت الرخصة في ذلك، إلا أنه يمكن كون المقام من المواضع التي متى جاز فيها الحكم وجب، و لعل تعبير الأصحاب بالجواز لكون المهم بيان أصل جوازه في مقابل احتمال الحرمة بعد معلومية كون ذلك من مناصب الإمامة، و من هنا كان لا إشكال و لا خلاف في وجوب الحكم عليه بين المتخاصمين مع طلب ذي الحق له، فالمتجه حينئذ كونه عزيمة، خصوصا بعد ما سمعت من الأدلة التي مقتضاها ذلك، مضافا إلى التشديد في تعطيل الحد، و الظاهر كونه فيمن له إقامته، و اللَّه العالم.

و كيف كان ف لا يجوز أن يتعرض لإقامة الحدود غير من سمعته من السيد و الوالد و الزوج في قول عرفت الحال فيه و لا للحكم بين الناس و لا للفتوى و لا لغير ذلك مما هو مختص بالإمام عليه السلام و نائبه إلا عارف بالأحكام الشرعية جميعها و لو ملكة مطلع على مأخذها و عارف بكيفية استنباطها منها و ب إيقاعهما أي الحكم و الحدود على الوجوه الشرعية و بالجملة المجتهد المطلق الجامع للشرائط المفروغ من تعدادها و تفصيلها في محله، إذ هو المتيقن من النصوص و الإجماع بقسميه، بل الضرورة من المذهب نيابته في زمن الغيبة عنهم عليهم السلام على ذلك و نحوه، و في

المسالك في شرح العبارة «المراد بالعارف المذكور الفقيه المجتهد، و هو العالم بأحكام الشرعية بالأدلة التفصيلية، و جملة شرائطه مفصلة في مظانها و هذا الحكم و هو عدم جواز الحكم لغير المذكور موضع وفاق بين أصحابنا


1- 1 الوسائل- الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 1.

ج 21، ص: 400

و قد صرحوا فيه بكونه إجماعيا» إلى آخره، و حينئذ فلا يجوز لغيره حتى المتجزئ بناء على ثبوته و صحة عمله بظنه، ضرورة عدم اندراجه في مقبولة ابن حنظلة السابقة التي هي العمدة في الباب و إليها ترجع مقبولة أبي خديجة و التوقيع عن صاحب الأمر روحي له الفداء، بل و

صحيح أبي بصير(1)عن الصادق عليه السلام «أيما رجل كان بينه و بين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه و بينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال اللَّه عز و جل (2)«أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ»

على أن الأخير إنما هو في بيان عدم جواز الترافع إلى قضاة المخالفين، لا أن المراد منه مطلق الأخ و إن لم يكن عدلا عارفا بالأحكام، و في

خبره الآخر(3)«قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام قول اللَّه عز و جل في كتابه (4)وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ، فقال: يا أبا بصير إن اللَّه عز و جل قد علم أن في الأمة حكاما يجورون، أما إنه لم يعن حكام العدل، و لكنه عنى حكام الجور، يا أبا محمد إنه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكم أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له كان ممن حاكم إلى الطاغوت، و هو قول


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 2.
2- 2 سورة النساء- الآية 63.
3- 3 الوسائل- الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 3.
4- 4 سورة البقرة- الآية 184.

ج 21، ص: 401

اللَّه عز و جل أَ لَمْ تَرَ إلى آخره»

كما أن المراد بما في

التوقيع (1)«من رواة حديثنا»

الإشارة إلى الفقيه المزبور لا مطلق الراوي لحديثهم و إن لم يكن فقيها ذا بصيرة فيها عارف عامها و خاصها و مطلقها و مقيدها و ناسخها و منسوخها و غير ذلك مما أشاروا (ع) إليه في كلامهم كذا ما في مقبول أبي (2)خديجة، لا أن المراد منه مطلق العالم بشي ء من قضاياهم و لو المسألة الواحدة في الطهارة أو الصلاة، خصوصا بعد ما

ورد(3)عنهم عليهم السلام «أنه لا يكون الفقيه فقيها حتى نلحن له بالقول فيعرف ما نلحن له»

و خصوصا بعد عدم الجابر لسندها بالنسبة إلى ذلك، بل الموهن متحقق، فإني لم أجد من أثبت جميع أحكام المطلق للمتجزئ عدا ما يحكى عن الأردبيلي مستدلا بخبر أبي خديجة و صحيح أبي بصير و نحوهما مما عرفت المراد به و لو بقرينة الشهرة العظيمة بل الإجماع بقسميه على اختصاص الأحكام المزبورة بالمجتهد المطلق دون غيره.

نعم قد احتملنا في كتاب القضاء إن لم يكن إجماع جواز القضاء لمقلد المجتهد المطلق بفتوى مجتهده، و جوازه أيضا بالمعلوم من أحكام أهل البيت عليهم السلام، و يدل عليه

قوله عليه السلام (4)في تعداد القضاة: «رجل قضى بالحق و هو يعلم فهو في الجنة»

بل حكينا ذلك عن بعض، و خصوصا مع عدم المجتهد المطلق، أو عدم إمكان الوصول


1- 1 الوسائل- الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 10.
2- 2 الوسائل- الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 5.
3- 3 المستدرك- الباب 15 من أبواب صفات القاضي الحديث 5 مع اختلاف يسير.
4- 4 الوسائل- الباب 4 من أبواب صفات القاضي الحديث 6.

ج 21، ص: 402

إليه، و عدم إمكان رفع النزاع و القتال بالصلح و نحوه، فلاحظ، فإنه قد ذكرنا هناك أيضا جملة من المسائل المتعلقة بالقضاء و بالفتوى و غيرهما مضافا إلى المسائل المذكورة في مظانها.

منها تقليد الميّت الذي أطنب فيه الكركي هنا في حاشيته على الكتاب، مع أن عدم جوازه ابتداء مفروغ منه بين أصحابنا، و قد حكى الإجماع عليه غير واحد، إنما الكلام في جواز بقائه على ما قلده فيه زمن حياته و عدمه، فبين قائل بوجوبه، و قائل بحرمته، و التحقيق التخيير كما هو ظاهر الكركي في الجعفرية و غيره، بل الظاهر ذلك أيضا بالنسبة إلى المجتهد الحي، اللَّهمّ إلا أن يكون إجماعا و لم أتحققه و إن حكاه بعض الناس، إلا أن الظاهر كون المسلم منه عدم الرجوع فيما عمل به من فتواه في الزمان الماضي، أما المتجدد من الزمان فهو مخير فيه بينه و بين غيره، كما كان مخيرا في ابتداء التقليد مع فرض التساوي في الفضيلة و غيرها مما هو معتبر في التقليد، و إن كان التحقيق عندنا جواز تقديم المفضول مع وجود الفاضل من غير فرق بين العلم بالخلاف و عدمه، نعم لا طريق للعامي الذي لا أهلية له للنظر في أمثال هذه المسائل إلا الرجوع إلى الأفضل من أول الأمر، لأنه المتيقن له في زمن الغيبة المعلوم عدم سقوط التكليف فيه، ثم العمل بقوله حتى في أمثال هذه المسائل التي لا قابلية له للاجتهاد فيها. للحرج المنفي كتابا و سنة و إجماعا، و السيرة المعلومة التي تزيد على الإجماع، بل تقرب من الضرورة، و بالجملة فهذه المسائل و غيرها مما يتعلق بالاجتهاد و التقليد محررة في محالها.

ثم من المعلوم أنه كما لا يجوز الحكم إلا لمن عرفت كذلك لا

ج 21، ص: 403

تجوز الفتوى إلا له، ضرورة اشتراطهما معا بالاجتهاد، و الفرق بينهما أن الحكم إنشاء قول في حكم شرعي متعلق بواقعة مخصوصة، كالحكم بأن الدار ملك لزيد، و أن هلال شهر رمضان سنة كذا قد حصل و نحو ذلك مما هو في قضايا شخصية، و الفتوى حكم شرعي على وجه كلي، كقوله: المعاطاة جائزة، أو شخصي يرجع إلى كلي، كقوله لزيد إن صلاتك باطلة، لأنك تكلمت فيها مثلا، إذ مرجعه إلى بطلان صلاة من تكلم في صلاته، و زيد منهم، و حكاية الفتوى عن الغير أو إطلاقها مع القرائن الدالة على ذلك ليست فتوى من الحاكي، و إنما هو راو يجوز العمل بقوله مع عدالته.

و كيف كان ف مع اتصاف المتعرض للحكم بذلك أي الاجتهاد الجامع للشرائط يجوز الترافع إليه للحكم و الفصل بل يجب على الخصم إجابة خصمه إذا دعاه للتحاكم عنده كما يجب القبول على من حكم له و عليه منهما بلا خلاف أجده في شي ء منهما، لما سمعته من قول الصادق عليه السلام في مقبولي ابن حنظلة و أبي خديجة و صاحب الزمان روحي له الفداء في التوقيع المعتضد بالإجماع بقسميه عليه.

نعم قد يظهر من بعض عدم الوجوب بمجرد طلب الخصم ذلك، بل يتوقف على طلب الحاكم له، و لكن ظاهر النصوص وجوب الإجابة عليه بمجرد طلب خصمه ذلك، كما أن الظاهر كون التعيين مع التعدد بيد المدعي الذي له حق الدعوى، و يجب عليه الحكم و الإفتاء كفاية مع عدم المانع، لقوله تعالى (1)«إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما

أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ»


1- 1 سورة البقرة- الآية 154.

ج 21، ص: 404

و قال تعالى (1)«فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» و غير ذلك من الكتاب و السنة و الإجماع بقسميه، كما يجب تحصيل المرتبة المزبورة كذلك أيضا على المشهور، لتوقف النظام عليها، بل قيل بوجوب تحصيلها عينا، و إن كان هو واضح الضعف نعم قد يصير الواجب الكفائي عينيا بعدم قيام الناس به، فإنه حينئذ يجب عليهم جميعا التحصيل حتى يوجد من فيه الكفاية، بل لا يكفي ظن وصول الناهض إلى ذلك للأصل و غيره.

و على كل حال ف لو امتنع الخصم و آثر المضي إلى قضاة الجور كان مرتكبا للمنكر لأن ذلك كبيرة عندنا كما في المسالك، و قد عرفت وجوب النهي عن المنكر على الناس كفاية، و

قال الصادق عليه السلام (2)«أيما مؤمن قدم مؤمنا في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم اللَّه فقد شركه في الإثم»

بل قد سمعت ما في

خبري أبي بصير(3)عنه عليه السلام أيضا من كونه من أهل آية «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ

قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ»

بل

قال (ع) في مقبولة ابن حنظلة(4): «من تحاكم إلى طاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا و إن كان حقه ثابتا»

إلى غير ذلك من النصوص المعتضدة بالإجماع بقسميه.


1- 1 سورة التوبة- الآية 123.
2- 2 الوسائل- الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 1.
3- 3 الوسائل- الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 2 و 3.
4- 4 الوسائل- الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 4 مع اختلاف يسير.

ج 21، ص: 405

نعم لو توقف تحصيل الحق على ذلك أمكن اختصاص الممتنع بالإثم دون الآخر، و لا ينافيه ما سمعته في المقبولة المحمولة على كون ذلك بالاختيار لا في نحو الفرض.

هذا كله في المرافعة لإرادة الفصل و الحكم، أما المرافعة للإصلاح و نحوه فلا بأس بها عند الغير الجامع للشرائط للأصل و عموم الأمر بالصلح بين المتخاصمين، و الحث عليه كتابا(1)و سنة(2)بل قد يقال بجواز طلب البينة له أيضا، و الأمر على مقتضى قيامها من باب الأمر بالمعروف لا من القضاء و الفصل بناء على عدم اختصاص العمل بها بالحاكم، بل قد يقال بجواز الصلح عن إسقاط الدعوى بيمين المنكر مثلا، فإن القضاء فيه من خواص الحاكم لا ما إذا اندرج في معاملة لا فرق فيها بين الحاكم و غيره، فجائز كالصلح بمال و نحوه و إن كان لا يخلو من نظر فيما لو علم المدعي

عمد المنكر على اليمين الكاذبة، و جواز تحليفه في مجلس الحكومة و إن علم بعمده إلى الكذب في اليمين للأدلة على ذلك، و على سقوط الدعوى بها حينئذ، و أنها ذهبت بما فيها حتى لو استعمل التورية عند فعله، فإن المدار على قصد من له اليمين دونه كما حررناه في محله.

و من ذلك يظهر لك النظر فيما قيل من أن للناس بطريق الاحتياط و طريق الصلح غنى عن المجتهد في أغلب الفتاوى و الأحكام، و يسهل الخطب على من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من عالم و حاكم عادل أو ظالم إذا شهدت عنده البينة العادلة بثبوت الحق، فإن له الحكم على المشهود عليه بالتسليم كما لو علم من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر


1- 1 سورة الحجرات- الآية 10.
2- 2 الوسائل- الباب 1 من كتاب الصلح.

ج 21، ص: 406

بل لو لم تكن بينة و طلب المدعي اليمين أو رده المنكر عليه أمكن ذلك أيضا لغيره بإيقاع الصلح بين المنكر و المدعي بإسقاط الدعوى باليمين أو ثبوتها بيمين الرد، فتخرج المسألة عن حكم المرافعات التي يختص ثبوت الدعوى أو سقوطها فيها باليمين عند الحاكم، و تدخل في قسم المعاملات التي يستوي فيها الخواص و العوام، و دعوى أن ذلك داخل في الصلح على الحرام فلا يصح مردودة بأن ذلك مسدود في باب الأحكام و إلا لم يجز لمدع يعلم ثبوت حقه على المنكر تحليفه، و لا للمنكر الرد مع علمه بكذب المدعي، إذ لا يخفى عليك ما في الأخير بعد ما عرفت بل لا يخلو اتكال الاكتفاء بالبينة إلى الظلمة و الفساق و أهل الأغراض الفاسدة- مع عدم معرفتهم العدالة و عدم معرفتهم معنى الشهادة و كيفيتها و معنى الجرح و غير ذلك من الأمور التي لا يحسنها إلا الماهر- من فساد عظيم، بل قد يئول إلى الأمر بالمنكر و النهي عن المعروف.

نعم لا بأس بما يجوز منه للعارف و إن لم يصل إلى رتبة الاجتهاد كل ذلك بعد الإغضاء عن الإشكال في كون الدعوى من الحقوق التي تقابل إثباتا و إسقاطا بمال، و إنما هي من قبيل الأحكام و أن لا تسقط بالإسقاط، و اشتهار الصلح عن إسقاطها بمال مرجعه إلى الصلح على المدعى به بزعم المدعي، لا عن إسقاطها، و لذا يحرم عليه المال لو كان عالما بعدم مال له مثلا عند المنكر و لكن يكون الصلح قاطعا للدعوى على زعم المدعي نحو شراء من اعترف بحرية عبد من يدعي ملكيته، فإن فائدته تمحض العبد للحرية و قطع دعوى الملكية، و احتمال التزام القائل في الفرض بأنه صلح أيضا عن مال المدعي بزعمه الذي هو عند المنكر بأن يحلف باللَّه كذبا أنه ليس له كما ترى لا يرجع إلى محصل، خصوصا إذا فرض في غير حال الدعوى بأن يصالحه على

ج 21، ص: 407

مال معلوم أنه له بالحلف باللَّه كذبا على قيام زيد مثلا، و دعوى اغتفار نحو ذلك في خصوص الدعاوي مسلم بالنسبة إلى أحكامها كيمين الإنكار و الرد في مجلس الحكومة لا في مثل عقد الصلح الذي يراد به إخراجها عن حكم الدعاوي و اندراجها في حكم العقود التي لا فرق فيها بين المجتهد و غيره، و اللَّه العالم.

و لو نصب الجائر مؤمنا قاضيا لم يكن له رتبة الاجتهاد مكرها له على ذلك بما يتحقق معه مسمى الإكراه الذي أشبعنا الكلام فيه في كتاب الطلاق جاز له الدخول معه بل قد يجب دفعا لضرره، لكن عليه اعتماد الحق و العمل به ما استطاع بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، بل و لا إشكال بعد ما دل من الكتاب (1)و السنة(2)على رفع الإثم عن المكره، خصوصا الأخير الذي قال اللَّه تعالى (3)فيه «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» و

قال الصادق عليه السلام في خبر أبي بصير(4)«من حكم في درهم بغير ما أنزل اللَّه عز و جل فهو كافر باللَّه العظيم»

و خبر السكوني (5)عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام «أنه اشتكى عينه فعاده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله فإذا علي عليه السلام يصيح فقال له النبي صلى اللَّه عليه و آله أ جزعا أم وجعا يا علي؟ فقال يا رسول اللَّه: ما وجعت وجعا أشد منه قال يا علي: إن ملك الموت


1- 1 سورة النور- الآية 33.
2- 2 الوسائل- الباب 56 من أبواب جهاد النفس.
3- 3 سورة المائدة- الآية 48.
4- 4 الوسائل- الباب 5 من أبواب صفات القاضي الحديث 2.
5- 5 الوسائل- الباب 12 من أبواب آداب القاضي الحديث 1.

ج 21، ص: 408

إذا نزل بقبض روح الفاجر أنزل معه سفودا من نار فيقبض روحه به فتصيح جهنم، فاستوى علي عليه السلام جالسا فقال يا رسول اللَّه: أعد علي حديثك فقد أنساني وجعي ما قلت، فهل يصيب ذلك أحدا من أمتك؟ فقال: نعم حكاما جائرين و آكل مال اليتيم و شاهد الزور»

إلى غير ذلك.

نعم الظاهر كما صرح به غير واحد عدم اعتبار الإكراه في جواز قبول ذلك لمن جمع شرائط الاجتهاد و تمكن معها من إجراء الأحكام الشرعية على وجهها و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل قد يجب عليه القبول، بل يجوز أو يجب عليه التعرض لها مع علمه بعدم التعدي عن الواجب و عدم ارتكاب القبيح، و أنه متمكن من وضع الأشياء مواضعها، و من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إغاثة المظلوم و نحو ذلك، و لعل منه ما كان من علي بن يقطين (1)و ابن بزيع (2)و غيرهما ممن أمرهم الأئمّة عليهم السلام بذلك و وعدوهم على ذلك بالثواب الجزيل حتى

في بعضها «أن بيوت هؤلاء تضي ء لأهل السماء كما تضي ء النجوم لأهل الأرض، فكن يا محمد أنت منهم»

بل قد يقال إنه يكفي ظنه الغالب بذلك، و إن قال في المنتهى: لا يجوز لأحد أن يعرض نفسه للتولي من قبل الظالمين إلا أن يقطع و يعلم علما يقينا أنه لا يتعدى الواجب و لا يرتكب القبيح، و يتمكن من وضع الأشياء مواضعها و من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فإن علم أنه يخل بواجب أو يرتكب قبيحا أو غلب على ظنه ذلك فلا يجوز له التعرض بحال من الأحوال


1- 1 الوسائل- الباب 46 من أبواب ما يكتسب به الحديث 16.
2- 2 تنقيح المقال- ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع.

ج 21، ص: 409

مع الاختيار، فإن أكره على الدخول فيه و اضطرته التقية جاز له حينئذ ذلك، و يجتهد و يتحرز لنفسه من المظالم حسبما أمكن، لكن يمكن إرادته أيضا ما ذكرناه بملاحظة المفهوم في صورة المنع، بل إن لم يكن إجماع أو ظاهر نصوص في عدم قبول ذلك منهم أمكن القول بالجواز مع عدم العلم بارتكاب محرم مطلقا، ضرورة عدم وجوب التحرز من احتمال الحرمة التي يمكن رفع الإثم عنها مع فرض الإكراه عليها و إن كان قد حصل بقبوله الولاية اختيارا و تسمع تمام الكلام في قبول الولاية من الجائر في المكاسب.

و منه يعلم اعتبار الإكراه في جواز قبول الولاية المستلزمة لظلم الغير و نحوه من المحرمات، فلا يجزي حينئذ مجرد الخوف على النفس أو العرض أو المال في جواز ظلم الغير لنفي الضرار مع احتماله إذا كان ذلك هو الداعي للجائر على ظلمه و إن لم يتوعده به، بل و بما كان ذلك من الإكراه أيضا، نعم ليس له دفع الضرر عن نفسه بإضرار غيره قطعا.

كما أن منه يعلم الحال في كثير من المسائل المتعلقة في المقام الذي هو فرد أيضا من المسألة الآتية حتى يتحقق موضوع الإكراه، و إن كان تسمع إن شاء اللَّه تمام الكلام فيه في كتاب الطلاق، و منه يعلم عدم كون المسألة من التقية الدينية، و إنما هي الإكراه و لو من غير المخالفين.

كما لا فرق في المكره على ذلك بين الفقيه و غيره، بل و لا بين الإكراه على العمل بمذهب المخالفين أو غيرهم، ضرورة اشتراط الجميع مع الإكراه عليها في الجواز المعلوم نقلا بل عقلا مع فرض عدم تمكنه من التخلص على وجه يكون به غير مكره، و إلا كان ظالما آثما ضامنا

ج 21، ص: 410

لجميع ما يباشره من إتلاف مال الغير، لأن عليه اتباع الحق و التجنب عن الباطل على حسب إمكانه، بخلافه في الحال الأول، فإنه لا ضمان عليه و إن باشر، لقوة السبب على المباشر كما أوضحناه في محله إلا في الدماء على الوجه الذي عرفته سابقا، و إلى ذلك كله أشار المصنف رحمه اللَّه بقوله و إن اضطر إلى العمل بمذهب أهل الخلاف جاز إذا لم يمكن التخلص من ذلك ما لم يكن قتلا لغير مستحق، و عليه تتبع الحق ما أمكن هذا، و في المسالك و يجب عليه أي في حال الاضطرار إلى مذاهب أهل الخلاف التعلق بالأقرب فالأقرب إلى الحق إذا أمكن و لا ريب في رجحانه، أما الوجوب فلم يحضرني دليل له عدا الاعتبار الذي لا يصلح دليلا، كما أن من المعلوم عدم اعتبار خصوص الإكراه في أصل العمل بأحكامهم تقية، لعموم أدلتها و شدة الحث و التأكيد في مراعاتها،

قال علي بن الحسين عليه السلام (1): «إذا كنتم في أئمة جور فامضوا أحكامهم و لا تشهروا أنفسكم فتقتلوا»

و اللَّه هو العالم بحقائق أحكامه، و الحمد للَّه أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا، و له الشكر على إفضاله علينا بالنعم الجسام و المنن العظام التي لا تعد و لا تحصى، و كان الفراغ من ذلك يوم السبت سادس و عشرين من جمادى الثاني سنة الألف و المائتين و سبعة و خمسين من الهجرة النبوية على مهاجرها ألف صلاة و تحية، القسم الثاني في العقود(2).


1- 1 الوسائل- الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 7.
2- 2 و في النسخة الأصلية« هذا آخر صورة ما كتبه المصنف سلمه اللَّه تعالى و كان هذا المجلد آخر ما صنفه سلمه اللَّه تعالى فكمل بكماله شرح جميع شرائع الإسلام جعله اللَّه عونا له و لنا في جميع المهام في الدنيا و يوم القيام و الحمد للَّه رب العالمين.

ج 21، ص: 411

تم الجزء الحادي و العشرون من كتاب جواهر الكلام بحمد اللَّه و منه، و قد احتوى على كتاب الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و قد بذلنا الجهد غايته في تصحيحه و مقابلته للنسخة الأصلية المخطوطة المصححة بقلم المصنف نور اللَّه ضريحه، و قد خرج بعون

اللَّه و لطفه خاليا عن الأغلاط إلا نزرا زهيدا زاغ عنه البصر عباس القوچاني

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.