مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر المجلد 11

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

اشارة

أعوذ باللّه من الشيطان الرّجيم

سورة الرّحمن

اشارة

و تسمّى عروس القرآن مكّيّة. و قيل: مدنيّة.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الرّحمن رحم اللّه ضعفه و أدّى شكر ما أنعم اللّه عليه.

قال أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال: لا تدعوا قراءة الرّحمن و القيام بها فإنّها لا تقرّ في قلوب المنافقين و تأتي ربّها يوم القيامة في صورة آدميّ في أحسن صورة و أطيب ريح حتّى تقف من اللّه موقفا لا يكون أحد أقرب إلى قرب اللّه منها فيقول لها: من الّذى كان يقوم بك في الحياة الدنيا و يد من من قراءتك؟ فتقول: يا ربّ فلان و فلان و فلان فيبيضّ وجوههم فيقول لهم: اشفعوا فيمن أحببتم فيشفعون حتّى لا يبقى لهم غاية و لا أحد يشفعون له فيقول: لهم ادخلوا الجنّة و اسكنوا فيها حيث شئتم. ختم اللّه السورة باسمه و افتتح هذه السورة باسمه.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 13]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)

الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)

وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)

[الرَّحْمنُ مبتدأ و ما بعده خبره أي الّذي له الرحمة الشاملة و وسعت رحمته كلّ شي ء و في الدعاء: رحمان الدنيا و رحيم الآخرة لأنّه عمّ الرزق في الدنيا و خصّ المؤمنين بالعفو في الآخرة، و الرحمة الجنّة و العطف، و منه الرحم للانعطاف و هو بالنسبة إلى اللّه إرادة الخير و الإنعام بالإيجاد أوّلا و بالهداية إلى الايمان و أسباب السعادة ثانيا و هذه السورة مطرّزة بطراز اسم الرّحمن. و لمّا كان القرآن أعظم النعم شأنا و إنّه مدار جميع السعادات كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أشراف أمّتي حملة القرآن أي ملازمو قراءته و أصحاب الليل و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خيركم من تعلّم القرآن و علّمه، في القرآن جميع حقائق الكتب السماويّة.

و كان تعليمه من آثار الرحمة فقال: [عَلَّمَ الْقُرْآنَ بواسطة جبرئيل و بواسطة محمّد غيره من الامّة و كما علّم آدم الأسماء كلّها فخصّ محمّدا و أُمّته بخاصّة مثله [خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ أي أنشأه على ما هو عليه من القوى الظاهرة و الباطنة و البيان هو التعبير عمّا في الضمير و الكشف عن الشي ء.

و المراد بالإنسان آدم عن ابن عبّاس، فعلى هذا معنى علّمه البيان أي أسماء كلّ كلّ شي ء و اللغات كلّها قال الصادق: البيان الاسم الأعظم الّذي علم به كلّ شي ء.

ص: 3

و قيل: المراد من الإنسان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علّمه البيان أى علّم ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة [الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ مبتدء و خبر و الحسبان بالضمّ مصدر بمعنى الحساب كالغفران و الرجحان يقال: حسبه عدّة و باب نصر و بالكسر فبمعنى الظنّ من باب حسب بالكسر و المعنى يجريان بحساب مقدّر في بروجهما و منازلهما بحيث ينتظم بذلك الجريان أمور الكائنات السفليّة و يحصل اختلاف الفصول و الأوقات فالسنة القمريّة ثلاثمائة و أربعة و و خمسون يوما و الشمسيّة ثلاثمائة و خمسة و ستّون يوما و ربع يوم أو أقلّ و كلمة «يجريان» محذوف لدلالة الكلام عليه. و الفرض في الآية بيان النعم و خصّهما بالذكر لما فيهما من المنافع الكثيرة للناس من الضوء و الضياء و نضج الثمار إلى غير ذلك.

[وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ النجم النبات الّذي ينجم و يطلع من الأرض و لا ساق له مثل القرع و نحوه و الشجر الّذي له ساق و قيل: كلّ نابت إذا ترك حتّى يبرز و انقطع فليس شجرا و كلّ شي ء يبرز و لا يقطع من سنته فهو شجر «يَسْجُدانِ» أي ينقادان للّه تعالى فيما يريد بهما طبعا انقياد الساجد أو يسجد ظلّهما كما في قوله تعالى: «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ» (1) و ليس لنا علم بكيفيّة سجودهما كما أنّه لا نفقه تسبيح الأشياء فذكر سبحانه في مقابلة النعمتين السماويّتين اللتين هما الشمس و القمر نعمتين أرضيّتين و هما النجم و الشجر و هما أصل الرزق للحيوان.

و قيل: أراد بالنجم نجم السماء و هو موحّد و المراد جميع النجوم و الشجر يسجدان للّه بكرة و عشيّا. و يجوز أن يكون المعنى أنّ كلّ جسم له ظلّ فهو خاضع و خضوعه دلالته على الحدوث و إثبات المحدث المدبّر له.

[وَ السَّماءَ رَفَعَها] فوق الأرض انتصابه بمحذوف يفسّره المذكور أي خلقها مرفوعة محلّا كما هو المحسوس [وَ وَضَعَ الْمِيزانَ و شرع العدل أو آلة الوزن للتوصّل لكلّ ذي حقّ حقّه حتّى ينتظم به أمر العالم و إذا كان الميزان بمعنى العدل و به قامت السماوات و الأرض فالميزان هو القرآن و إذا كان بمعنى الآلة فبه يحصل التسوية و التعديل في الحقوق من أخذهم و إعطائهم.

ص: 4


1- النحل: 48.

و قوله: [أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أشدّ مناسبة في معنى الآلة و أن ناصبة و لا نافية و لام العلة مقدّرة متعلّقة بوضع الميزان أي وضعه لئلّا تعتدوا الإنصاف، و الطغيان مجاوزة الحدّ فمن قال: المراد من الميزان في الآية العدل فطغيانه الجور و من قال: إنّه الآلة فطغيانه البخس و النقص.

[وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ] أي اجعلوا أوزانكم مستقيما به و راعوا المعدلة في جميع أفعالكم و أقوالكم [وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ و الخسر و الاخسار النقص أي لا تنقصوا الموزون و الاقامة باليد و القسط بالقلب و التكرار في لفظ الميزان تشديدا للوصيّة و الحثّ على العدل. قيل: إنّ مالك بن دينار دخل على جار له احتضر فقال: يا مالك جبلان من نار بين يدي أكلّف الصعود عليهما قال مالك: فسألت أهله فقالوا: كان له مكيالان يكيل بأحدهما و يكتال بالآخر.

[وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أي خفضها مدحوّة على الماء و مبسوطة لمنافع الخلق. و الأنام جمع لا واحد له من لفظه بمعنى الخلق فهي كالمهاد لهم يتقلّبون عليها و قيل: الأنام كلّ ذي روح لأنّه ينام و قيل: من و نم الذباب همس و عبّر عن الأرض بالوضع لما عبّر عن السماء بالرفع.

[فِيها فاكِهَةٌ] في الأرض ما يتفكّه به من ألوان الثمار من الأشجار و تنكير الفاكهة تشعر باختلاف الأنواع [وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ الكمّ وعاء الثمرة و غلفها قبل التفتّق أي النخيل الّتي صاحبات الكمّ و الكمّ كلّ ما يكم و يغطّى فيه ممّا ينتفع به من ليف و جمار و كفري و الجمار شحم النخل و كلّها ينتفع بها.

[وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ و العصف هو ورق الزرع أو اليابس منه كالتبن أى و حبوب ينتفع بها و بورقها [وَ الرَّيْحانُ يعني الرزق بلغة حمير أو ماله من الرائحة من النبات أو الريحان المعروف و هو الشاهسفرم و قيل: الريحان ما لساقه رائحة طيّبة كما لورقه مثل الآس، و الورد لورقه رائحة فقط كالياسمين و الجورى يقال: راح الشي ء يريحه إذا وجد ريحه في الحديث من قتل نفسا معاهدة لم يرح رائحة الجنّة و الريحان في الأصل رويحان كفعيلان من روح قلبت الواو يا و ادغم ثمّ خفّف بحذف عين الفعل كما في ميّت.

ص: 5

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الخطاب للثقلين أي الجنّ و الإنس المدلول عليهما قوله: «لِلْأَنامِ» لعمومه لهما و سينطق به قوله: «أَيُّهَ الثَّقَلانِ» و أيضا قوله: خلق الإنسان و خلق الجانّ إشعار بأنّ الخطاب لهما جميعا و الآلاء النعم الظاهرة و الباطنة واحدها آلى و قيل: الآلاء النعم الظاهرة و النعم هي الباطنة و الصواب أنّهما من الألفاظ المترادفة كالأسود و الليوث، و الفلك و السفن.

روي عن جابر بن عبد اللّه قال: قرأ علينا رسول اللّه سورة الرّحمن حتّى ختمها فقال: مالي أراكم سكوتا؟ الجنّ كانوا أحس منكم ردّا ما قرأت عليهم هذه الآية مرّة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»* إلّا قالوا: و لا بشي ء من نعمك ربّنا نكذّب فلك الحمد و في الآية دلالة على أنّ الجنّ مكلّفون و زعمت الحشويّة أنّهم مضطرّون إلى أفعالهم و أنّهم ليسوا بمكلّفين و الدليل على أنّهم مكلّفون ما في القرآن من ذمّ الشياطين و لعنهم و ذكر ما أعدّ اللّه لهم من العذاب و هذه الأمور لا يحصل إلّا لمن خالف اللّه و خالف الأمر و النهي و ارتكب الكبائر مع تمكّنه من أن لا يفعل ذلك.

[سورة الرحمن (55): الآيات 14 الى 32]

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)

وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32)

قوله: [خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ] من طين يابس كالمفخور في النار بحيث إذا تمسّه يتصلصل و له صوت و صلصلة يسمع من يبسه و الفخّار الخزف و الطين المطبوخ بالنار و تشبيهه بالفخّار لصوته من يبسه إذا نقر و لأنّه أجوف.

[وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ الجانّ أبو الجنّ أو الجنّ أو إبليس و المرج هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر و الأصفر و الأخضر الّذي يعلو النار إذا وقّدت

ص: 6

من مرج القوم إذا اختلط و اضطرب فمعنى «مِنْ مارِجٍ» أي من لهب مختلط [مِنْ نارٍ] بيان لمارج قيل: خلق الجنّ من مارج من نار و الملائكة من نورها و الشياطين من دخانها و قال بعضهم: خلقوا من النار الّتي بين الكلة الرقيقة و بين السماء و فيها يكون البرق و قيل:

المارج النار المخلوطة الممتزجة بالهواء فحينئذ الجنّ من عنصر النار و الهواء و الإنسان من عنصر التراب و الماء و هو الطين.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا أفاض عليكما من سوابغ النعم.

[رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ خبر مبتدء محذوف أي الّذي أصنع هذه الأفاعيل البديعة ربّ مشرقي الصيف و الشتاء و مغربيها و ذلك مثل قولك في وصف ملك عظيم: له المشرق و المغرب؛ فإنّه يفهم منه أنّ له ما بينهما أيضا، و أحد المشرقين هو الّذي تطلع منه الشمس في أطول يوم السنة و الثاني الّذي تطلع منه في أقصر يوم من السنة و بينهما مائة و ثمانون مشرقا بعدد أيّام السنة و كذا الكلام في المغربين و قيل: أحد المشرقين للشمس و الثاني للقمر و كذا المغربان و المراد من قولهم: ما بين المشرق و المغرب ميلة يعني لأهل المشرق و هو أن تجعل مغرب الصيف على يمينك و مشرق الشتاء على يسارك فتكون مستقبل القبلة.

القميّ روى عن الصادق عليه السّلام أنّ المشرقين رسول اللّه و أمير المؤمنين، و المغربين الحسن و الحسين.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و في ذلك من اختلاف المشارق فوائد لا تحصى من اعتدال الهواء و تغيير الفصول و حدوث ما يناسب في كلّ فصل في وقته.

[مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ مرجت الدابّة إذا أرسلتها للرعي و المعنى أرسل البحر الملح و البحر العذب و تطرّق المالح في العذب و العذب في المالح حالكونهما متجاورين و يتماسّ سطوحهما و [يَلْتَقِيانِ كدجلة مثلا تدخل البحر فتشقّه فيجري في خلال البحر فراسخ لا يتغيّر طعمها.

[بَيْنَهُما بَرْزَخٌ و حاجز من قدرة اللّه [لا يَبْغِيانِ و لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة و إبطال الخاصّيّة مع أنّ شأنهما الاختلاط على الفور بل يبقيان زمانا يسيرا

ص: 7

و قيل: المراد من البحرين بحر السماء و بحر الأرض فإنّ في السماء بحرا يمسكه اللّه بقدرته ينزل منه المطر فيلتقيان في كلّ سنة و بينهما حاجز يمنع بحر السماء من النزول و بحر الأرض من الصعود و ينزل من بحر السماء المطر و قيل: إنّهما بحر فارس و بحر الروم فإنّ آخر طرف هذا يتّصل بآخر طرف ذاك و البرزخ بينهما الجزائر.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و ليس من البحرين من الفوائد شي ء يقبل التكذيب.

[يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ اللؤلؤ كبار الدرّ و المرجان صغاره أو المرجان الخزر الأحمر المشهور يقال: يلقيه الجنّ في البحر و في خريدة العجائب: اللؤلؤ يكون في بحر هند و فارس و المرجان ينبت في البحر كالشجر و إذا كلس المرجان عقد الزيبق فمنه أبيض و منه أحمر و منه أسود و هو يقوّي البصر كحلا و ينشف رطوبة العين.

و اعلم أنّه إن أريد بالبحرين بحر فارس و بحر الروم فلا حاجة في قوله: «مِنْهُمَا» إلى التأويل إذا اللؤلؤ و المرجان بمعنييه يخرجان منهما و قال بعضهم: يخرج من الأجاج من المواضع الّتي يقع فيها المياه العذبة من الأنهار فيناسب إسناد ذلك إليهما و هذا مشهور عند الغوّاصين.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لأنّ الجواهر الثمينة من نعماء اللّه لخلقه حيث يتحلّون بها قال ابن عبّاس و جماعة: إنّ تكوّن هذه اللآلي في البحر بنزول المطر لأنّ الصدف تفتح أفواهها للمطر فتكون الأصداف كالأرحام للنطف و لذلك أنّ السنة إذا أجدبت قلّت الأصداف و هزلت الحيتان فضمير منهما للبحرين باعتبار الجنس.

و قيل: البحران عليّ و فاطمة و البرزخ النبيّ و يخرج منهما الحسن و الحسين عليهم السّلام قال صاحب روح البيان: و عن الصادق: عليّ و فاطمة بحران عميقان لا يبغيان أحدهما على صاحبه يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان الحسن و الحسين و في المجمع أيضا ذكر هذه الرواية عن سعيد بن جبير و سلمان الفارسيّ و سفيان الثوريّ.

و قيل: هما الدنيا و الآخرة و البرزخ القبر و قيل: الحياة و الممات، و الأجل البرزخ.

و قال بعض أهل التأويل: الخوف و الرجاء و يخرج منها الورع و التقوى. و قال ابن عطا:

ص: 8

بين العبد و الربّ بحران عميقان: أحدهما بحر النجاة و هو الدّين و القرآن و بحر الهلاك و هو الدنيا و من اعتصم بجبل اللّه نجى و من ركن إلي الدنيا هلك و ردى.

[وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ اللام لام الملك أو لام الاستحسان و التعجّب مثل قوله:

للّه أبوك و للّه درّك و الجوار بكسر الراء أصله الجواريّ بالياء جمع جارية بمعنى السفن أقيمت الصفة مقام الموصوف و سمّيت السفينة جارية لأنّ شأنها الجري في البحر و إن كانت واقفة في الساحل كما تسمّى المملوكة أيضا جارية لأنّ شأنها الجري و السعي في حوائج سيّدها، و المراد بالمنشآت المرفوعات الشرع يقال: أنشأه إذا رفعه أو مرفوعات على الماء أو المنشآت معناها المصنوعات و قرئ منشئات بكسر الشين أي تنشئ الموج بصدرها [فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ جمع علم و هو الجبل الشاهق لأنّ السفن في البحر كالجبال في البرّ.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من خلق موادّ السفن و الإرشاد إلى أخذها و نفعها و حصول التجارات و المعاملات المفيدة بسببها.

[كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ الهاء كناية عن غير مذكور و هو الأرض كقولهم: ما بين لابتيها و هم في المدينة و إنّما جاز ذلك لكونه معلوما أي كلّ من على الأرض من حيوان فهو هالك و يفنون. و لمّا نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت بنو آدم فلمّا نزلت «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ»* (1) أيقنوا بهلاك أنفسهم فإن لهم أرواحا و أجساما لطيفة و أرواحهم ليست مجرّدة عن تلك الأجسام اللطيفة فهم ذوات الأنفس.

[وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي الباقي ذاته و منه قولهم: كرّم اللّه وجهه أي ذاته و الوجه العضو المعروف استعير للذات لأنّه أشرف الأعضاء و مجمع أغلب المشاعر و موضع السجود و يجوز أن يكون الوجه بمعنى القصد فحينئذ المعنى كلّ من عليها من الثقلين و ما اكتسبوه من الأعمال هالك إلّا ما توجّهوا به جهة اللّه و عملوه ابتغاء مرضاته و على هذا المعنى. قال الشيخ أكبر- و هو من علماء العامّة- إنّ الضمير في وجهه راجع إلى الشي ء.

[ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ صفة وجه أي ذو الاستغناء المطلق و العظمة في ذاته و صفاته

ص: 9


1- آل عمران: 185.

و في الحديث ألظّوا بيا ذا الجلال و الإكرام؛ الإلظاظ اللزوم و الإلحاح و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه مرّ برجل و هو يعليّ و يقول: يا ذا الجلال و الإكرام قال: استجيب لك الدعاء؛ فالدعاء بهاتين الكلمتين مرجوّ الإجابة.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن قيل: أيّ نعمة في الإفناء؟ فالجواب أنّ النعمة التسوية بين الحقّ فيه و إنّه و صلة إلى الثواب و تصل بين الصواب و العمل بالفناء ليفعل الطاعة لحسنها فيستحقّ الثواب و لو عجّل الثواب لصار الإنسان ملجئا إلى العمل و لم يستحقّ الثواب.

[يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يسألونه حوائجهم و الرزق و المغفرة كما أنّ أهل السماء أيضا يسألونه في وجوداتهم حدوثا و بقاء و سائر أحوالهم سؤلا مستمرّا بلسان الحال و المقال فإنّ الخلق كافّة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود و ما يتفرّع عليه من الكمالات بالمرّة بحيث لو انقطع ما بينهم و بين العناية الإلهيّة من علائق اللطف لم يشمّوا رائحة الوجود أصلا فهم مستمرّون في كلّ آن على السؤال.

[كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي كلّ وقت من الأوقات و المراد بطن الزمان في الحقيقة و هو اليوم الإلهيّ الّذي هو الآن و هو غير منقسم في شأن من الأشؤن من الإعطاء و المنع و الفقر و الغنى و يأتي بأحوال منها و يذهب بأحوال منها من العزّة و الذلّة و الصحّة و المرض و نحو ذلك حسب ما يقتضيه الحكمة البالغة و في الحديث من شأنه أن يغفر ذنبا و يفرّج كربا و يرفع قوما و يضع قوما و سوق المقادير إلى المواقيت قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الربّ لينظر إلى عباده كلّ يوم ثلاثمائة و ستّين نظرة يبدئ و يعيد و ذلك من حبّه خلقه و عن عيينة إنّ الدهر كلّه عند اللّه يومان أحدهما اليوم الّذي هو مدّة الدنيا فشأنه فيه الأمر و النهي، الإماتة و الإحياء و الآخر يوم القيامة فشأنه فيه الجزاء و الحساب و الثواب و العقاب قيل: نزلت الآية في اليهود حين قالوا: إنّ اللّه لا يقضي يوم السبت شيئا فردّ عليهم.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مع مشاهدتكم من الإيجادات من كتم العدم إلى

ص: 10

الوجود.

[سَنَفْرُغُ لَكُمْ و هذا الكلام مستعار من قول المهدّد لصاحبه مثل قولهم: سأفرغ لك أي سأتجرّد لعقوبتك و أقصد و الخطاب للمجرمين من الطائفتين و حاصل المعنى أنّ عند انتهاء الشؤون نجازيكم و لا يبقى إلّا شأن واحد و هو جزاؤكم [أَيُّهَ الثَّقَلانِ و إنّ الجنّ و الإنس جعلا أثقالا أي محمولة على الأرض و جعل ما سواهما كالعلاوة أو لرزانة آرائهما أو لأنّهما مثقّلان بالتكليف أو لعظم قدرهما في الأرض كما في الحديث إنّي تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الّتي من جملتها البيان و البيّنة بأمور سيلقونه يوم القيامة للتحذير عمّا يؤدّي إلى سوء الحساب و إنّ في التحذير عنهما نعمة عظيمة.

[سورة الرحمن (55): الآيات 33 الى 45]

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42)

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)

المعنى: [يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ خوطبا باسم جنسهما و المعشر الجماعة العظيمة سمّيت به لبلوغه غاية الكثرة فإن العشر العدد الكامل الكثير الّذي لا عدد بعده إلّا بتركيبه بما فيه من الآحاد نقول: أحد عشر و عشرون و ثلاثون أي اثنتا عشرات و ثلاث عشرات و لذا سمّي العدد الكثير معشرا كأنّه قيل: محلّ العشر الّذي هو الكثيرة الكاملة و تقديم الجنّ في الذكر لتقدّم خلقه و الإنس على الجنّ في قوله: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ» (1)، لفضله. إن قدرتم على الجواز و الخروج و الخصوص من جوانب السماوات و الأرض هاربين من اللّه فارّين من حكمه.

ص: 11


1- الإسراء: 88.

[فَانْفُذُوا] و اخرجوا منها و أخلصوا أنفسكم من عقابي [لا تَنْفُذُونَ و لا تقدرون على النفوذ [إِلَّا بِسُلْطانٍ و بقوّة و أنتم بمعزل عن القدرة روي أنّ الملائكة تحيط بجميع الخلائق فيهرب الإنس و الجنّ فلا يأتون وجها إلّا وجدوا الملائكة أحاطت فيقول الملائكة لهم ذلك فكما لا يقدر أحد على الفرار يوم القيامة كذلك لا يقدر في الدنيا فيدركه الموت.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من التنبيه و التحذير و العفو مع كمال القدرة على العقوبة.

[يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ] هو لهب خالص لا دخان فيه أو دخان النار و حرّها كما في القاموس و ذلك حين يساق إلى المحشر عن ابن عبّاس، أي يرسل عليكما لهب خالص بلا دخان و يسوقكم إلى المحشر عن ابن عبّاس. و التنوين فيها للتفخيم و التشديد [وَ نُحاسٌ صفر مذاب يصبّ على رؤوسهم و قيل: دخان عن ابن عبّاس [فَلا تَنْتَصِرانِ أي لا يمنعان من ذلك العذاب.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من بيان عاقبة الكفر و الشرك و المعاصي و أيّ نعمة أكمل من تحذير الإنسان ممّا يؤول أمره إلى مثل هذا العذاب.

[فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ] و انصدعت يوم القيامة و انفكّ بعضها من بعض لقيام الساعة أو صارت أبوابا لنزول الملائكة كقوله: «وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا» (1) [فَكانَتْ وَرْدَةً] أي فصارت السماء كوردة حمراء في اللون و هي الزهرة المعروفة الّتي تشمّ أو هو الفرس الأبيض الّذي يضرب إلى الحمرة فتصير السماء كالوردة في لونها. ثمّ يجري [كَالدِّهانِ خبر ثان لكانت و هو جمع دهن أو اسم لما يدّهن به كالإدام لما يؤتدم به أي تذوب و تجري كذوبان الدهن و جريه و جواب إذا محذوف تقديره لرأيت أمرا هائلا عظيما.

روى مسعدة بن صدقه عن كليب قال: كنّا عند أبي عبد اللّه فأنشأ يحدّثنا فقال:

إذا كان يوم القيامة جمع اللّه العباد في سعيد واحد و يوحي إلى السماء الدنيا أن

ص: 12


1- الفرقان: 25.

اهبطي بمن فيك فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الملائكة و الجنّ و الإنس ثمّ يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرّتين فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل السماوات السبع فينظر الجنّ و الإنس فإذا قد أحاط بهم سبعة أطواق من الملائكة.

و قيل: الدهان الأديم الأحمر و جمعه أدهنة و قيل: هو عكر الزيت يتلوّن ألوانا أحيانا قال الفرّاء: شبّه سبحانه تلوّن السماء بالدهان أي تتلوّن السماء مثل تلوّن الوردة من الخيل، و الفرس الورد يكون في الشتاء أحمر لونه و في الربيع أصفر و في الشتاء (1) أغبر فكذلك السماء فشبّهها في اختلاف ألوانها بالفرس الورد.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مع عظم شأن الآلاء.

[فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌ أي يوم انشقاق السماء حسب ما ذكر لا يسأل عن ذنبه لأنّهم يعرفون بسيماهم فلا يحتاج في تمييز المذنب عن غيره إلى أن يسأل عن دينه و ذلك أوّل ما يخرجون من قبورهم و يحشرون إلى الموقف فوجا فوجا و لا ينافي ذلك مع قوله سبحانه «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (2)، و ذلك في موقف الحساب و المناقشة و مواقف القيامة كثيرة قال ابن عبّاس: لا يسألهم هل عليهم كذا و كذا فإنّه أعلم منهم و لكن يسألهم بم عملتم كذا و كذا و عنه أيضا لا يسألون سؤال تحقيق و إنّما يسألون سؤال تقريع و أراد بالجانّ الجنّ كما يقال: تميم و يراد ولده و طائفته.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و الإخبار بما يزجر الإنسان من الشرّ هو النعمة و إنّ الانتقام من الأعداء نعمة على الأحباب و لذا ورد الحمد عقيب العقوبة كما قال:

«فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (3)».

[يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ السيماء بالقصر و المدّ العلامة و الجملة استيناف يجري مجرى التعليل لعدم السؤال أي لا يحتاج إلى السؤال لأنّهم يعرفون بسواد الوجوه و زرقة العيون و ما يعلوهم من الكأبة و الحزن كما يعرف الصالحون بأضداد ذلك.

ص: 13


1- كذا في الأصل.
2- الحجر: 92.
3- الانعام: 45.

[فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ الناصية مقدّم الرأس و لعلّ المراد شعرها يأخذ الملائكة بشعور مقدّم رأسهم و أقدامهم أو يؤخذ بجمع نواصيهم و أقدامهم في سلسلة من و راء ظهورهم فيقذفونهم في النار.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من الزواجر.

[هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ أي يقال لهم ذلك بطريق التوبيخ [يَطُوفُونَ بَيْنَها] أي يدورون بين النار [وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ أي ماء بالغ في الحرارة أقصاها يصبّ عليهم أو يسقون منه يدورون من النار إلى الحميم و من الحميم إلى النار من أنى يأني آن مثل قضى يقضي قاض و قيل: معنى «الآن» الحاضر و في تفسير عليّ بن إبراهيم أي لها أنين من شدّة حرّها. يسلّط عليهم الجوع فيؤتى بهم إلى الزقّوم الّذي طلعها كرؤوس الشياطين فأكلوا منها من شدّة الجوع فأخذت في حلوقهم فاستغاثوا بالماء فأوتوا به من الحميم فإذا قرّبوه إلى وجوههم تناثر لحم وجوههم و يشربون من الحميم فتغلي أجوافهم و يخرج جميع ما فيها ثمّ يلقى عليهم الجوع فمرّة يذهب بهم إلى الحميم و مرّة إلى الزقّوم و هكذا.

قال كعب الأحبار: إنّ واديا من أودية جهنّم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتّى يخلع أوصالهم ثمّ يخرجون منه و قد أحدث اللّه لهم خلقا جديدا فيلقون في النار.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من هذه المواعظ النافعة الّتي توجب بعثا و حثّا على فعل ما يستحقّ به الثواب و تحفّظا عمّا يستلزم العذاب.

[سورة الرحمن (55): الآيات 46 الى 61]

وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)

فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)

ص: 14

المقام اسم مكان و لكن ليس للّه مكان، و مقامه تعالى موقفه الّذي يقف فيه العباد للحساب كما قال: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (1) و الإضافة للاختصاص الملكيّ إذ لا ملك يومئذ إلّا للّه و يدخل في عموم الآية من يهمّ بالمعصية فيذكر اللّه فيدعها من مخافة اللّه [جَنَّتانِ جنّة للخائف الإنسيّ و جنّة للخائف الجنّيّ فإنّ الخطاب للفريقين لكنّ الأصوب أن يكون المعنى كلّ أحد منهما جنّتان جنّة لعقيدته و أخرى لعلمه أو جنّة لفعل الطاعات و أخرى لترك المعاصي أو جنّة يثاب بها و أخرى يتفضّل بها عليه.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و قوله: «مَقامَ رَبِّهِ» أي مقام شهود ربّه «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» من نعمة الفناء في اللّه و نعمة البقاء باللّه و بهذا المعنى كما يقول لعائشة حين يغيب عن حسّه: كلّميني، للتبليغ و الإرشاد.

[ذَواتا أَفْنانٍ صفة لجنّتان و ما بينهما اعتراض بينهما و تنبيه على أنّ تكذيب كلّ من الموصوف و الصفة موجب للإنكار و التوبيخ و ذواتا تثنية ذات بمعنى صاحبة و أصلها ذويه مؤنّثة ذوي و في تثنيتها لغتان الردّ على الأصل و هو ذواتا و التثنية على اللفظ فيقال: ذاتا و الأفنان جمع فنّ أي من الأشجار و الثمار أو جمع فنن و هو الغصن المستقيم طولا و يشعب من فروع الشجر كأنّه قيل: ذواتا أشجار و أغصان و أظلال و أثمار و على معنى الفنّ أيضا يستقيم المعنى قال الشاعر:

و من كلّ أفنان اللذاذة و الصبالهوت به و العيش أخضر ناضر

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و ليس فيها شي ء يقبل التكذيب.

[فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ صفة أخرى لجنّتان أي في الجنّتين عينان تجريان من جبل من مسك قال ابن عبّاس: تجريان من الماء الزلال: أحدهما التسنيم و الاخرى السلسبيل قيل: و تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة اللّه.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان و ضربان متشاكلان كتشاكل الذكر و الأنثى كالرطب و اليا بس فلذلك سمّاهما زوجين ضرب

ص: 15


1- المطففين: 6.

معروف عندهم و ضرب من شكله غريب لم يعرفوه في الدنيا.

[مُتَّكِئِينَ حال لأهل الجنّتين أي قاعدين كالملوك جلسة راحة معتمدين [عَلى فُرُشٍ جمع فراش و هو ما يبسط و يستمهد للجلوس و النوم [بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ قرئ بحذف الألف و كسر النون و قرئ بإسكان النون و كسر الألف و قطعها و البطانة من الثوب ضدّ الظهارة و الإستبرق ما غلظ من الديباج من البريق و هو الإضاءة و قيل:

من البرقة و هو اجتماع ألوان فإذا كان بطائنها كذلك فما ظنّك بظهائرها؟ لأنّ الظهارة في الملبوس أشرف و أعلى و قيل: ظهائرها من سندس أو من نور.

[وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ جنى اسم بمعنى المجنيّ كالقبض بمعنى المقبوض و دان من الدنوّ و هو القرب أي ما يتجنّى من أشجارها قريب يناله القائم و القاعد و المضطجع تدنو الشجرة حتّى يجتنيها وليّ اللّه بل قيل: إنّ تلك الثمار يقع في الفم بلا أخذ.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من هذه الآلاء اللذيذة الباقية.

[فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ في الجنان أو في الفرش قاصرات الطرف من إضافة الفاعل إلى منصوبه و متعلّق القصر و هو قوله: «على أزواجهنّ» محذوف للدلالة عليه و المعنى نساء يقصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ لا تبصرن إلى غيرهم و تقول كلّ منهنّ لزوجها: و عزّة ربّي ما أرى في الجنّه شيئا أحسن منك فالحمد للّه الّذي جعلك زوجي و جعلني زوجك و قيل: معنى «قاصِراتُ الطَّرْفِ» هو أن يقصر الطرف عنها من ضوء نورها أو المعنى إنّهن من الحياء و الدلال و الغنج عيونهنّ مقصورة و ليست في غاية الانفتاح حتّى يستلزم شيئا في الجملة في العين.

[لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌ طمثت المرأة إذا افتضّها الرجل بالتدمية و أخذ بكارتها فالطمث الجماع المؤدّي إلى خروج دم البكر ثمّ أطلق على كلّ جماع طمث و إن لم يكن معه دم و في القاموس الطمث المسّ و المعنى لم يمسّهنّ أحد من الإنس و لا أحد من الجنّ و هذا دليل على أنّ الجنّ يطمثون كما يطمث الإنس و حاصل المعنى أنّ الحور الّتي جعلت للمؤمنين الخائفين من اللّه لم تنلها يد الإنس قبل ذلك و

ص: 16

الّتي جعلت للمؤمنين من الجنّ كذلك لم تنلها يد الجنّ قبل ذلك.

و في الآية دلالة على وقوع الطمث للجنّ في الدنيا و لكن ليس لهم ماء كماء الإنسان بل لهم هواء بدل الماء و به يحصل العلوق في أرحام إناثهم و هذا يستدعي أن لا تصلح المناكحة بين الإنس و الجنّ و كذا العكس هذا قول الجمهور من المفسّرين. و قال الشعبيّ و الكلبيّ هنّ من نساء الدنيا أي لم يجامعهنّ بعيد النشأة الثانية أحد سواء كنّ في الدنيا ثيّبات أو أبكارا.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من هذه النعم الّتي هي لتمتّع نفوسكم.

[كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ صفة لقاصرات الطرف قد سبق بيان المرجان و أمّا الياقوت فهو حجر صلب شديد اليبس رزين صاف منه أحمر و أبيض و أصفر و أخضر و أزرق و لا تعمل فيه النار لقلّة دهنيّته و لا يثقب غالبا لغلظة رطوبته و لا تعمل فيه المبارد لصلابته سيّما الأحمر منه و بعده الأصفر أصبر على النار من سائر أصنافه و أمّا الأخضر منه فلا صبر له على النار و في الطبّ أنفعها و أغلاها الرمّانيّ و هو الّذي يشابه النار في لونه قيل: و من تختّم بهذه الأوصاف أمن من الطاعون و إن عمّ الناس و أمن أيضا من الصاعقة و الغرق و من حمل شيئا منها أو تختّم به كان معظما عند الناس وجيها عند الملوك و أكل معجون الياقوت يدفع ضرر السمّ و يزيد في القوّة قال الشاعر:

و بقاء السمندر في لهب النار مزيل فضيلة الياقوت

و بالجملة شبّههنّ سبحانه بالياقوت في حمرة الوجنة و المرجان صغار الدرّ في بياض البشرة و صفائها فإنّ صغار الدرّ أنصع بياضا من كباره.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ «هل» يجي ء على أربعة أوجه: الأوّل بمعنى قد كقوله تعالى: «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ (1)» و الثاني بمعنى الأمر نحو قوله (2): «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» أي فانتهوا و الثالث بمعنى الاستفهام كقوله تعالى: «فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا (3)» و الرابع بمعنى «ما» الجحد كما في هذه

ص: 17


1- الدهر: 1.
2- المائدة: 94.
3- الأعراف: 43.

الآية ما جزاء الإحسان في العمل إلّا الإحسان في الثواب روي أنّه قرأ رسول اللّه «هل جزاء الإحسان» إلخ، ثمّ قال: هل تدرون ما قال ربّكم: قالوا: اللّه و رسوله أعلم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقول هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي بقبوله توحيدي إلّا أن اسكنه جنّتي و حظيرة قدسي برحمتي.

حكي أنّ ذا النون المصرى رأي عجوزا كافرة تنفق الحبوب للطيور وقت الشتاء فقال: إنّه لا يقبل من الأجنبيّ فقالت: أفعل قبل أولم يقبل ثمّ إنّه رآها في حرم الكعبة فقالت: يا ذا النون أحسن إلى نعمة الإسلام بقبضة من الحبّ. قال بعض الأكابر: الإحسان الأنعم و لا يخصّ مثل المطر و الريح و الشمس و القمر.

روي أنّ العبد إذا قال: لا إله إلّا اللّه بشروطها أتت هذه الكلمة إلى صحيفة فلا تمرّ على خطيئة إلّا محتها حتّى تجد حسنة مثلها فتجلس إلى جنبها. و عن أبي ذرّ الغفاري قال: قلت يا رسول اللّه دلّني على عمل يدخلني الجنّة و يباعدني عن النار فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إذا عملت سيّئة فاعمل بجنبها حسنة فإنّها بعشر أمثالها فقلت: يا رسول اللّه لا إله إلّا اللّه من الحسنات؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هي أحسن الحسنات.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من نعمه الواصلة في الدنيا و الآخرة.

[سورة الرحمن (55): الآيات 62 الى 78]

وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)

حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (78)

[وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ مبتدأ و خبر أي و من دون تينك الجنّتين الموعودتين للخائفين جنّتان أخريان لمن دونهم من أصحاب اليمين فالخائفون قسمان: المقرّبون و أصحاب اليمين و هم دون المقرّبين بحسب الفضائل العلميّة و العمليّة فدون بمعنى الأدنى مرتبة و منزلة لا بمعنى غير فالجنّتان الأوليان أفضل من الأخريين لفضل المقرّبين على

ص: 18

الأبرار و قيل: دون ليس من الدناءة بل من الدنوّ و هو القرب أي و من دون هاتين الجنّتين إلى العرش أقرب إليه، و حمل بعض المفسّرين على معنى الغير قالوا: و لكلّ رجل و امرأة من أهل الجنّة أربع جنان في الجهات الأربع ليتضاعف له السرور بالتنقّل من جنّة إلى جنّة.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا ذكر من الجنّات.

[مُدْهامَّتانِ صفة لجنّتان ادهام الشي ء يدهامّ ادهيماما فهو مدهامّ اسودّ و الأدهم الأسود فقوله: «مُدْهامَّتانِ» أي علا لونهما سواد و دهمة من شدّة الخضرة و الري و إن شئت قلت: خضراوان تضربا إلى السواد من شدّة الخضرة.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حيث تمتّع أبصاركم بخضرة هاتين الجنّتين.

[فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ نضخ الماء اشتدّ فورانه من ينبوعه أي في الجنّتين عينان فوّارتان بالماء لا ينقطعان و هذا يدلّ على فضل الجنّتين الأوليين على الأخريين لأنّه قال سبحانه في الأوليين: يجريان، و في الأخيرتين: نضّاختان، و النضخ دون الجري.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من الصفاء و الريّ.

[فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ عطف الأخيرين على فاكهة كعطف جبرئيل و ميكائيل على الملائكة بيانا لفضلهما فإنّ ثمرة النخل فاكهة قال ابن عبّاس: نخل الجنّة جذوعها زمرّد أخضر و كريها ذهب أحمر و سعفها كسوة لأهل الجنّة منها حللهم و ثمرها كالدلاء أشدّ بياضا من اللبن و أحلى من العسل و ألين من الزبد ليس له عجم كلّما نزعت و قطعت ثمرة عادت فكأنّها اخرى و أنهارها يجري من غير أخدود و قال عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام: ما من حبّة من الرمّان تقيم في جوف مؤمن إلّا أنارت قلبه و أخرجت شيطان الوسوسة منه أربعين يوما. قيل: و أجوده الكبار الحلو المليس و أظنّ أن معنى الحلو المليس ما يغلب حلاوته على طعم حموضته و هو حارّ رطب يلين الصدر و يجلو المعدة و ينفع من الخفقان و يزيد في الباءة، و ثمرة النخل فاكهة و غذاء و الرمّان

ص: 19

فاكهة و رواء. في الكافي عن الصادق عليه السّلام: الفاكهة مائة و عشرون لونا سيّدها الرمّان.

في الفقيه عن الصادق عليه السّلام: «الخيرات الحسان» من نساء أهل الدنيا و هنّ أجمل من حور العين. القميّ قال: جوار نابتات على شطّ الكوثر كلّما أخذت منها واحدة نبتت اخرى قال الصادق عليه السّلام: في قول الرجل: جزاك خيرا يعني به أنّ خيرا نهر في الجنّة مخرجه من الكوثر و الكوثر مخرجه من ساق العرش عليه منازل الأوصياء و شيعتهم و على حافتي ذلك النهر جوار نابتات سمّين باسم ذلك النهر و ذلك قوله تعالى: «فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ» فإذا قال الرجل لصاحبه: جزاك اللّه خيرا فإنّما المعنى رزقك اللّه تلك المنازل الّتي أعدّها اللّه لصفوته.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حيث هيّأ لكم ما به تلتذّون من الفواكه.

[فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ و خيرات مخفّفة من خيّرات جمع خيّرة لأنّ خير الّذي بمعنى أخير لا يجمع و لا يقال: خيرون و لا خيرات، و معنى خيرات منتخبات و مصطفيات و ليس فيهنّ ما يشينهنّ من القبائح و العاهات لا ذربات و طمّاحات و لا طوّافات و لا متشوّفات [حِسانٌ أي حسان الخلق و الخلق و في الحديث لو أنّ امرأة من نساء أهل الجنّة أطلعت على السماوات و الأرض لأضاءت ما بينهما و لملأت ما بينهما ريحا و لعصابتها على رأسها خير من الدنيا و ما فيها و لو أنّ حوراء بزقت في بحر لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها و يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، الراضيات فلا نسخط و الخالدات فلا نبيد قيل:

المراد من خيرات الحوراء و قيل: المؤمنات.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و قد أنعم عليكم بما تستمتعون من هذه النساء.

[حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ بدل من خيرات جمع حوراء و هي البيضاء أو شديدة سواد العين قصرن في خدورهنّ لا يظهرن لغير المحارم و إن لم تكن الجنّة دار التكليف.

و الخيام جمع خيمة و هي القبّة المضروبة على الأعواد و لا تشبه خيام الدنيا إلّا بالاسم لأنّ الخيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة عرضها ستّون ميلا في كلّ زاوية منها أهلون ما

ص: 20

يرون إلّا حين يطوف عليهم المؤمنون و المعنى إنّهنّ مستورات في الحجال و يصف اللّه جواري جنانه الّتي خلقهنّ لخدمة أوليائه و ألبسهنّ لباس نوره و أجلسهنّ على سرير أنسه في حجال قدسه و ضرب عليهن خيام الدرّ و ينتظرن أزواجهنّ.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و قد خلق من النعم ما هي مقصورة لكم.

[لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌ كالّذي مرّ نظيره و الأوّل في أزواج المقرّبين و هذا في أزواج الأبرار أو التكرار زيادة التشويق و الرغبة [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مع أنّها ليست كنعم الدنيا إذ قد يطمث المرأة في الدنيا فيا لها من طيب وصالها و براعة جمالها فالعقول فيها حيارى و القلوب سكارى.

[مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ] حال صاحبه المؤمنون، رفرف اسم جمع واحده رفرفة أو اسم جنس ضرب من البسط أو الوسائد أو هو ما تدلّى من الأسرّة أو ضرب من الثياب تتّخذ منه المجالس و تبسط و فضول الفرش و الرقيق من الديباج خضر جمع أخضر أحد الألوان نعت لرفرف.

[وَ عَبْقَرِيٍ عطف على رفرف و المراد الجنس قيل: عبقر موضع كثير الحسن و قرية نباتها في غاية الحسن و العبقريّ ضرب من البسط و موضع للحسن ينسب إليه كلّ نادر من إنسان و حيوان و ثوب، جعل مثلا لفرش أهل الجنّة و في التكملة عبقر اسم موضع يصنع فيه الوشي كانت العرب إذا رأت شيئا عجيبا نسبته إليه فخاطبهم اللّه على عادتهم و قيل: عبقر اسم رجل كان بمكّة يتّخذ الزرابيّ و يجيدها فنسب إليه كلّ شي ء جيّد «حسان» جمع حسن حملا على المعنى، و قيل: الرفرف فراش في الجنّة إذا استقرّ عليه المؤمن طاربه من فرحه و شوقه يمينا و شمالا و حيثما يريده المؤمن.

و روي في حديث المعراج أنّ رسول اللّه لمّا بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله من جبرئيل و طاربه نحو العرش فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه طاربي يخفضني و يرفعني حتّى وقف بي على ربّي و لمّا حان الانصراف تناوله فطار به خفضا و رفعا يهوي به حتّى أدّاه إلى جبرئيل فالرفرف خادم في الجنّة للمؤمنين مختصّ بخواصّ الأمور.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و قد هيّأ لكم ما تتّكئون عليه.

ص: 21

[تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تنزيه و ثبوت لجلاله تعالى لما ذكر في السورة من آلائه الفائضة على المؤمنين و ارتفع شأنه عن جحود نعمائه و تكذيبها و هذا الموضع ممّا أريد فيه بالاسم المسمّى أو المراد الاسم فإذا كان الاسم حاله كذلك بالتبعة فكيف المسمّى؟ [ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ و العظمة و الكبرياء و يكرم أولياءه بهذه الكرامات و قيل: معنى الآية فاطلبوا البركة في كلّ شي ء بذكر اسمه و انطقوا بيا ذا الجلال و الإكرام و داوموا عليه

ص: 22

سورة الواقعة

اشارة

مكّيّة إلّا آية مدنيّة و هي «وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ».

عن ابيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه: من قرأ سورة الواقعة كتب أنّه ليس من الغافلين.

و روي أنّ عثمان بن عفّان دخل على عبد اللّه بن مسعود يعوده في مرضه الّذي مات فيه فقال: ما تشتكي قال: ذنوبي قال: ما تشهّي قال: رحمة ربّي قال: أفلا تدعو الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني قال: أفلا نأمر بعطائك؟ قال: منعتنيه و أنا محتاج إليه و تعطنيه و أنا مستغن عنه؟ قال: يكون لبناتك قال: لا حاجة لهنّ فيه فقد أمرتهنّ أن يقرأن سورة الواقعة فإنّي سمعت رسول اللّه يقول: من قرأ سورة الواقعة كلّ ليلة لم تصبه فاقة أبدا.

و روى العيّاشيّ بالإسناد عن زيد الشحّام عن الباقر عليه السّلام قال: من قرأ الواقعة قبل أن ينام لقى اللّه و وجهه كالقمر ليلة البدر.

عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ الواقعة في كلّ ليلة الجمعة أحبّه اللّه و حبّبه إلى الناس و لم ير في الدنيا بؤسا أبدا و لا فقرا و لا آفة من آفات الدنيا و كان من رفقاء أمير المؤمنين عليه السّلام. تمام الخبر.

ص: 23

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)

وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)

وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)

عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)

الظرف منصوب بفعل محذوف تقديره اذكروا حين وقوع الحادثة و القيامة و هي الصيحة عند النفخة الأخيرة يكون من الأحوال ما لا يفي به المقال سمّاها واقعة مع أنّ دلالة اسم الفاعل على الحال لتحقّق وقوعها.

[إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ] الهائلة [لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ] يكنّى عن الحرب بالوقعة و كلّ أمر شديد يعبّر عنه بذلك قيل: سمّيت القيامة بالواقعة لصونها أي لا يكون عند وقوعها نفس تكذّب على اللّه و يفتري بالشريك و الولد و الإنكار للقيامة إذ ليس لمجيئها كذب و يقع صدقا إذ كلّ نفس حينئذ مؤمنة صادقة و قيل: كاذبة مصدر كالعاقبة بمعنى التكذيب.

[خافِضَةٌ] أي القيامة خافضة لأقوام [رافِعَةٌ] لآخرين و هو تقرير لعظمة ذلك اليوم فإنّ الوقائع العظام يرتفع فيها أناس إلى مراتب و يتّضع أناس و تقديم الخفض على الرفع للتشديد في التهويل و إنّ القيامة يخفض أقواما كانوا مرتفعين في الدنيا و يرفع أقواما كانوا متّضعين فيها بسبب تقواهم لأنّ جماعة يؤتي بهم بالذلّة و الأغلال و السلاسل و جماعة بالمراكب و الحليّ و الحلل.

[إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا] الرجّ تحريك الشي ء و اضطرابه أي يحصل الخفض

ص: 24

و الرفع إذا حرّكت الأرض تحريكا شديدا بحيث يهدم ما كان عليها من جبل و بناء و لا تسكن زلزلتها حتّى تلقى جميع ما في بطنها على ظهرها.

[وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا] أي فتّت حتّى صارت كالسويق الملتوت من بسّ السويق إذا التّه و المعنى مأخوذ من بسّ الغنم إذا أسيقت من أماكنها.

[فَكانَتْ أي فصارت بسبب ذلك [هَباءً] غبارا و الغبار ما يسطع من سنابك الخيل و الّذي يرى من شعاع الكوّة و ما ذرته الريح من الأوزان [مُنْبَثًّا] منشرا متفرّقا و في التفسير إنّ اللّه يبعث ريحا من تحت الجنّة فتحمل الأرض و الجبال و تضرب بعضها ببعض و لا يزال كذلك حتّى تصير غبارا و يسقط ذلك الغبار على وجوه الكفّار و ذلك قوله تعالى:

«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ».

[وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً] و الخطاب للامّة الحاضرة و الأمم السالفة لكن للحاضرة وقع الخطاب تغليبا «أزواجا» أي أصنافا [ثَلاثَةً] صنفان في الجنّة و واحد في النار.

[فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ] تقسيم للأزواج الثلاثة «فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» مبتدء و خبر ما أصحاب الميمنة على أن ماء الاستفهامية مبتدء ثان و ما بعده خبره أي أيّ شي ء هم في حالهم و المراد تعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة و العظامة نحو زيد و أيّ زيد فهم أهل المنزلة السيّئة و أصحاب المشأمة هم أصحاب المنزلة الدنيّة أخذا من التيامن بالميامن و تشؤّمهم بالشمائل كما يقول: فلان منّي باليمين و الشمال إذا أوصفته بالرفعة و الضعة أو الّذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم و الّذين يؤتون صحائفهم بشمائلهم أو الّذين يكونون يوم القيامة على يمين العرش فيأخذون طريق الجنّة و الّذين يكونون على شمال العرش فيجي ء بهم إلى النار.

[وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هم القسم الثالث من الأزواج الثلاثة و أصل السبق التقدّم في السير ثمّ تجوّز به في غيره من التقدّم و الجملة مبتدأ و خبر مثل قوله:

«أنا أبو النجم و شعري شعري» أو السابقون الأوّل مبتدأ و الثاني تأكيد له كرّر تعظيما لهم و الخبر جملة «أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» و قيل: التقدير السابقون ما السابقون فحذف «ما» لدلالة

ص: 25

ما قبله عليه و المراد بالسبق الّذين سبقوا إلى الإيمان و الطاعة من غير توان و حازوا الكمالات الدينيّة و الفضائل اليقينيّة.

[أُولئِكَ الموصوفون بذلك النعت الجليل [الْمُقَرَّبُونَ درجاتهم و علت مراتبهم و رفعت إلى حظائر القدس نفوسهم [فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي كائنين في جنّات النعيم متعلق بالمقرّبون.

و قد قيل في السابقين: المراد السابقين إلى الإيمان أو الهجرة و قيل: إلى الصلوات الخمس عن عليّ عليه السّلام و قيل: إلى الجهاد و قيل: إلى التوبة و أعمال البرّ و إلى كلّ ما دعا اللّه إليه و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: السابقون أربعة ابن آدم المقتول و سابق في أمّة موسى و هو حزبيل مؤمن آل فرعون و سابق امّة عيسى و هو حبيب النجّار صاحب أنطاكية و السابق في امّة محمّد عليّ بن أبي طالب و قال كعب: هم أهل القرآن المتوجّون يوم القيامة فإنّهم كادوا أن يكونوا أنبياء إلّا أنّهم لا يوحى إليهم و المراد بأهل القرآن الملازمون لقراءته و العاملون به و قيل: الناس ثلاثة: فرجل ابتكر الخير في حداثة سنّه ثمّ داوم عليه حتّى خرج من الدنيا فهو السابق المقرّب، و رجل ابتكر عمره بالذنب طول الغفلة ثمّ تراجع بتوبة فهذا صاحب اليمين و رجل ابتكر شرّا في حداثة سنّه ثمّ لم يزل عليه حتّى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال.

[ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي هم جماعة كثيرة العدد من الأوّلين من الأمم الماضية [وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ من أمّة محمّد لأنّ من سبق إلى إجابة نبيّنا قليل بالإضافة إلى من سبق إلى إجابة الأنبياء قبله و لا يخالفه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أمّتي يكثّرون سائر الأمم أي يغلبونهم فإنّ أكثريّة سابقي الأمم السالفة من سابقي هذه الامّة لا تمنع أكثريّة تابعي هؤلاء من تابعي أولئك مثل أن يكون سابقو امم السابقة ألفين و تابعوهم ألف المجموع ثلاثة آلاف و يكون سابقو هذه الامّة ألفا و تابعوهم ثلاثة آلاف فالمجموع أربعة آلاف فرضا و هذا المجموع أكثر من من المجموع الأوّل و في الحديث أنا أكثر الناس تبعا يوم القيامة.

[عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ] حال اخرى من المقرّبين و السرر جمع سرير، المشبّكة

ص: 26

بالدرّ و الياقوت المنسوجة المتواصلة من الوضن و هو نسج الدرع و استعير لكلّ نسج محكم.

[مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ أي مستقرّين على سرر متّكئين عليها و قاعدين قعود الملك متقابلين لا ينظر بعضهم من أقفاء بعض و هو وصف لهم بحسن العشرة و تهذيب الأخلاق و الآداب.

[سورة الواقعة (56): الآيات 17 الى 26]

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ (19) وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)

وَ حُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)

[يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي يدور حولهم للخدمة حال الشرب و غيره [وِلْدانٌ جمع وليد و خدمة الوليد أمتع من خدمة الكبير [مُخَلَّدُونَ أي مبقون أبدا على شكل الولدان و طراوتهم لأنّهم خلقوا للبقاء لا للفناء قيل في الأسئلة المفخمة: هؤلاء هل يدخلون تحت قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ (1)»*؟ فالجواب أنّهم لا يموتون فيها بل يلقي بين النفختين نوم و قيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابون عليها و لا سيّئات فيعاقبون عليها و قيل: أولاد الكفّار خدّام أهل الجنّة، و قيل في معنى [مُخَلَّدُونَ : مقرطون و الخلد القلادة و السوار و القرط لأنّهم في حدّ الوصافة.

[بِأَكْوابٍ من الذهب و الجواهر لا عرى لها و لا خراطيم الواسعة الرأس و لا يعوق الشارب منها عائق عن شرب من أيّ موضع أراد منها [وَ أَبارِيقَ جمع إبريق و هو الّذي له عروة و خرطوم و قيل: هي عجميّة معرّبة آبريز أو الكوب للماء و الإبريق للغسل و الكأس للشرب من الخمر.

[وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ من خمر جارية من العيون و الكأس القدح إذا كان فيها شراب و إلّا فهو قدح و معنى الماء إذا جرى فهو فعيل بمعنى فاعل أو المعنى ظاهرة تراها العيون في الأنهار فيكون بمعنى المفعول من المعاينة من عانه إذا شخّصه و إفراد الكأس و جمع

ص: 27


1- آل عمران: 185.

الأكواب و الأباريق لأنّ العادة جرت على تعدّد الأواني و الشرب يكون بكأس واحدة [لا يُصَدَّعُونَ عَنْها] الصدع شقّ في الأجسام الصلبة كالزجاج و الحديد و منه الصداع و هو الانشقاق في الرأس من الوجع أي لا ينالهم بسبب شوبها صداع كما ينالهم ذلك من خمر لدنيا [وَ لا يُنْزِفُونَ أي لا يسكرون و لا تذهب عقولهم أو المراد لا ينفد شرابهم فالنفاد إمّا للعقل أو للشراب.

[وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ يأخذون خيره و أفضله من ألوانها و هو عطف على قوله: «بِأَكْوابٍ» أي يطوف عليهم ولدان بفاكهة ثمّ ذكر اللحم الّذي هو سيّد الإدام.

[وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يتناولون من لحوم الطير مشويّا أو مطبوخا بما يشتهون منها على حسب ميلهم و إرادتهم لا أنّهم مضطرّون و كارهون بل مشتهون.

[وَ حُورٌ عِينٌ عطف على ولدان أو مبتدء محذوف الخبر أي و لهم حور عين و حور جمع حوراء و هي الشديدة بياض العين و الشديدة سوادها و عين جمع عيناه و هي الواسعة الحدقة الحسنة [كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ صفة لحور، مثل الدرّ المصون في الصدف لم تمسّه الأيدي.

[جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مفعول له أي يفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم في الدنيا و يروى أنّ عقد ياقوتها يضحك في نحرها و في رجيلها نعلان شراكهما من لؤلؤ تصوّتان بالتسبيح على كلّ حوراء سبعون حلّة ليست منها حلّة على لون الاخرى و سبعون لونا من الطيب ليس منها لون على لون الآخر لكلّ امرأة سبعون سريرا من ياقوت أحمر منسوجة بالدرّ على كلّ سرير سبعون فراشا بطائنها من إستبرق و فوق السبعين فراشا سبعون أريكة لكلّ امرأة منهنّ سبعون وصيفة بيد كلّ وصيفة صفحتان من ذهب فيها لون من طعام يجد لآخر لقمة منه لذّة لا يجدها لأوّلها و يعطي لزوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر عليه سوارات من ذهب موشّح بالجواهر.

[لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً] أي باطلا و اللغو السقط من الكلام و ما لا يعتدّ به و ما يرد من الكلام لا عن رويّة و فكر و اللغا صوت العصافير و نحوها من الطيور [وَ لا تَأْثِيماً] أي لا

ص: 28

يقال لهم: أثمتم و الإثم اسم للأفعال البعيدة عن الثواب.

[إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً] و الاستثناء منقطع أي لكنّهم يسمعون فيها قولا سلاما سلاما أي سماعهم السلام فيسلّمون سلاما بعد سلام و لا يسمع كلّ من المسلّم و المسلّم عليه إلّا سلام الآخر بدءا و ردّا المشتمل على السلامة من الزوال و النقائص.

سلام من الرحمن نحو جنابه فإنّ سلامي لا يليق ببابه

[سورة الواقعة (56): الآيات 27 الى 40]

وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ (31)

وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ (33) وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)

عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

شروع في تفصيل ما أجمل في التقسيم بعد بيان شؤون السابقين فقال:

[وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ مبتدء و خبره جملة قوله: [ما أَصْحابُ الْيَمِينِ أي لا تدري ما لهم من الخير بسبب كوامل محاسنهم [فِي سِدْرٍ] أي هم في سدر [مَخْضُودٍ] غير ذي شوك ليس كسدر الدنيا كأنّه خضد و نزع عنه شوكه أو المعنى تثنى أغصانه لكثرة حمله من حصد الغصن إذا ثنّاه و السدر شجر النبق ثمر معروف عند العرب محبوب و يستظلّ به فجعل ذلك مثلا بظلّ أهل الدنيا و نعيمها.

[وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ] قد نضد حمله و تراكب بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه ليست له سوق بارزة و هو شجر الموز و هو شجر له أوراق كبار و ظلّ بارد و قيل: هو امّ غيلان له أنوار كثيرة منتظمة طيّبة الرائحة تقصد العرب منه النزهة و إن كان لا يؤكل منه شي ء قال مجاهد: كان لأهل الطائف واد معجب فيه الطلح و السدر و قالوا: يا ليت لنا في الجنّة مثل هذا الوادي! فنزلت هذه الآية.

[وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ] ممتدّ لا ينقص و لا يتفاوت مثل ما بين الطلوعين و في الحديث: في الجنّة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام و لا يقطعها و يمكن أن يراد من معنى الظلّ الحفظ يقول: فلان في ظلّ فلان أيّ كنفه و حفظه و يمكن أن يكون المراد من الظلّ الراحة كما في قوله تعالى: «وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (1)» لأنّه إنّما يجلس المرء في

ص: 29


1- النساء: 56.

الظلّ للاستراحة.

[وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ أي يصبّ أينما شاءوا و كيفما أرادوا بلا تعب و مسكوب سائل تجري على الأرض من غير أخدود.

[وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ] بحسب الأنواع و الأجناس [لا مَقْطُوعَةٍ] في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا [وَ لا مَمْنُوعَةٍ] عن متناوليها بوجه من الوجوه من العبد و الشوك أو حائط يمنع عن التناوش.

[وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ] أي رفيعة القدر أو مرتفعة و ارتفاعها كما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام أو مرفوعة على الأسرّة و قيل: الكناية عن النساء رفعت عن نساء الدنيا جمالا و شأنا في الحديث الولد للفراش و حينئذ ارتفاعها كونهنّ على الأرائك بقرينة قوله: [إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً] و على المعنى الأوّل لدلالة ذكر الفرش الّتي هي المضاجع عليهنّ و المعنى ابتدأنا خلقهنّ ابتداء جديدا من غير ولادة و في الحديث هنّ اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا رمصا شميطا جمع شمطاء و الشمط بياض شعر الرأس يخالطه سواد و رمص جمع رمصاء و الرمص بالتحريك وسخ يجتمع في الموق جعلهنّ اللّه بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد كلّما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا فلمّا سمعت عائشة ذلك فقالت: وا وجعاه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس هناك وجع.

[فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً] بعد أن كنّ عجائز أبكارا أي عذارى، جمع بكر و المصدر البكارة بالفتح و البكرة أوّل النهار لتقدّمها على سائر أوقات النهار و سمّيت الّتي لم تفتضّ بكرا اعتبارا بالشيب لتقدّمها عليها.

[عُرُباً أَتْراباً] جمع عروب كرسل جمع رسول أي تبيّن محبّتها لزوجها بشكل و غنج و حسن تعرّبه بمحبّة زوجها و قيل: كلامهم عربيّ أترابا جمع ترب أي مستويات في السنّ و اللذة في سنّ ثلاث و ثلاثين سنة و كذا أزواجهنّ و القامة ستّون ذراعا في سبعة أذرع على قامة أبيهم آدم و في الحديث إنّ الرجل ليفتضّ في الغداة سبعين عذراء ثمّ ينشئهنّ اللّه أبكارا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الرجل من أهل الجنّة ليتزوّج خمسمائة حوراء و أربعة آلاف ثيّب و ثمانية آلاف بكر يعانق كلّ واحدة منهنّ مقدار عمره في الدنيا و أدنى

ص: 30

أهل الجنّة الّذي له ثمانون ألف خادم و اثنتان و سبعون زوجة و ينصب له قبّة من الجواهر كما بين الجابية إلى صنعا، و الجابية بلد بالشام.

[لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلّق بأنشأنا [ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي هم امّة من الأوّلين و امّة من الآخرين و قيل: المراد من الثلّتين امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على هذا القول الثلاثة الاولى المقدّمون في التقوى و التابعون بإحسان و من يجري مجراهم و أمّا الّذين أنزل منهم في العمل فهم الثلاثة الأخيرين روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّي لا أرجو أن يكونوا شطر أهل الجنّة ثمّ تلا: «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» قال الحسن البصريّ: رأيت سبعين بدريّا كانوا فيما أحلّ اللّه لهم أزهد منكم فيما حرّم اللّه عليكم و كانوا بالبلاء أشدّ منكم فرحا بالرخاء لو رأيتموهم قلتم: مجانين و لو رأوا أخياركم قالوا: ما لهولاء من خلاق و لو رأوا أشراركم حكموا بأنّهم لا يؤمنون بيوم الحساب إن عرض عليهم الحلال من المال تركوه خوفا من فسادهم قلوبهم انتهى.

[سورة الواقعة (56): الآيات 41 الى 56]

وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ (42) وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَ لا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)

وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)

هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

[وَ أَصْحابُ الشِّمالِ شروع في تفصيل أحوالهم و هم الكفّار لقوله تعالى: «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ» [ما أَصْحابُ الشِّمالِ أي لا تدري ما لهم من شدّة الحال يوم القيامة.

[فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ أي هم في حرّ نار ينفذ في المسامّ و ثقوب البدن و السموم الريح الحارّة يكون غالبا في النهار و الحرور الريح الحارّة يكون بالليل و الحميم الماء المتناهي في الحرارة و الفور.

قوله: [وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ من دخان أسود بهيم يقول العرب أسود يحموم إذا كان

ص: 31

شديد السواد [لا بارِدٍ] كسائر الظلال [وَ لا كَرِيمٍ و لا نافع من أذى الحرّ لمن يأوي إليه نفى بذلك ما أوهم الظلّ من الاسترواح، و في الآية تهكّم بأصحاب المشأمة أنّهم لا يستأهلون للظلّ البارد.

[إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ تعليل لابتلائهم، ترف أي تنعّم و أترفته النعمة أطغته أي إنّهم كانوا قبل ذلك ممّا ذكر من سوء العذاب شغلوا أنفسهم بالنعم و تركوا الواجبات طلبا لراحة أبدانهم منهمكين في الشهوات.

[وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ أي الذنب العظيم الّذي هو الشرك و منه بلغ الغلام الحنث أي وقت المؤاخذة بالذنب و حنث في يمينه خلاف برّ فيها و قيل:

الحنث هنا الكذب لأنّهم كانوا مع شركهم يحلفون باللّه لا يبعث اللّه من يموت.

[وَ كانُوا يَقُولُونَ لغاية جهلهم و عتوّهم: [أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً] بعد الموت و كان أعضاؤنا من اللحم و الجلد ترابا و بعضها عظاما و تقديم التراب على العظام للاستبعاد [أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي لا يكون البعث لنا [أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الواو للعطف على الضمير في مبعوثون و مرجع المعنى أنّنا و آباءنا لا نبعث بعد تلك الحالة.

[قُلْ يا محمّد ردّا لهم: [إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ من الأمم الّذين من جملتهم أنتم و آباؤكم [لَمَجْمُوعُونَ بعد الموت [إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ و التعدية بإلى ضمّن فيه معنى السوق معلوم عند اللّه وقته و الإضافة بمعنى من كخاتم فضّة و الميقات هو الوقت المضروب للشي ء ينتهي عنده أو يبتدأ منه و الميقات قد يستعار للمكان و منه مواقيت الإحرام للحدود المعيّنة.

[ثُمَّ إِنَّكُمْ و ثمّ للتراخي زمانا أو رتبة الخطاب لأهل مكّة و أمثالهم [أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن الهداية و الصواب [الْمُكَذِّبُونَ بآيات اللّه و البعث [لَآكِلُونَ بعد الجمع و البعث [مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ من الاولى لابتداء الغاية و الثانية بيانيّة أي مبتدئون الأكل من شجر هو الزقّوم تخرج من قعر جهنّم.

[فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي تملئون بطونكم منها من شدّة الجوع أو بالقسر و لا يكتفي منكم بالأكل بل لا بدّ و ملزمون بأن تملئوا منها بطونكم.

ص: 32

[فَشارِبُونَ عَلَيْهِ أي على أكل الزقّوم و عقيبه بلا ريث لعطشكم الغالب [مِنَ الْحَمِيمِ. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ الماء الحارّ الشديد في الحرارة و لا يكون شربكم شربا معتادا بل مثل الا بل الّتي بها الهيام و هو داء يصيبها يشبه الاستسقاء فتشرب و لا تروي حتّى أن تموت.

[هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ أي الّذي ذكر من الزقّوم و الحميم رزقهم المعدّ لهم كالنزل الّذي يعدّ للضيف تكرمة له [يَوْمَ الدِّينِ أي يوم الجزاء.

[سورة الواقعة (56): الآيات 57 الى 74]

نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (57) أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (62) أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70) أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)

أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

[نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فهلّا تصدّقون على الإعادة فإن من قدر على الإبداء قدر على الإعادة و اعلم أنّ اللّه تعالى إذا أخبر عن نفسه بلفظ الجمع يشير به إلى ذاته و صفاته و أسمائه كما قال: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (1)» و إذا أخبر عن نفسه بلفظ المفرد يشير به إلى ذاته المطلقة كما قال: «إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (2)» هذا إذا كان المخبر هو اللّه و أمّا إذا كان العبد فينبغي أن يقول: أنت يا ربّ لا أنتم لإيهام الشرك المنافي لتوحيد القائل و لذا يقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه ليدلّ على شهادته بخصوصه.

[أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أي أخبروني ما تقذفونه في أرحام النساء من النطف و ما تمنون مفعول الأوّل يقال: أمنى الرجل يمني و منيت الشي ء إذا قضيته و سمّي المنيّ منيّا لأنّ الخلق منه يقضي.

ص: 33


1- يوسف: 12 و 63.
2- القصص: 30.

[أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي تقدّرونه و تصوّرونه بشرا و هذه الجملة الاستفهاميّة مفعول ثان [أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ له من غير دخل شي ء فيه و أم قيل: منقطعة لأنّ ما بعدها جملة و المعنى بل نحن الخالقون و الاستفهام للتقرير و قيل: متّصلة و مجي ء الخالقون بعد نحن بطريق التأكيد لا بطريق الخبريّة.

[نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وقّتنا موت كلّ أحد بوقت معيّن حسبما تقتضيه الحكمة [وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أي لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم و نأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق و قادرون على ذلك.

[وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ من الخلق و الأطوار و لسنا عاجزين عن خلق أمثالكم بدلا منكم أو تغيير صوركم إلى غيرها كما فعلنا بمن قبلكم من القردة و الخنازير كاليهود و الآية تشعر إلى الوعيد و إنشائهم من خلق لا يعلمونها من الألوان و الأشكال و في الحديث إنّ أهل الجنّة جرد مرد و إنّ الجهنّميّ ضرسته مثل احد، أ ما تخاف أن يجعلك من القردة و الخنازير و أنت تقرء كلّ صباح و مساء في ذمّ اليهود بقوله تعالى:

«يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ» تعني بذلك ما غيّروا حكم اللّه في الزنا من الرجم إلى أربعين جلدة و كذا غيّروا حكم القود من القتل إلى الدية حتّى كثر القتل فيهم؟ و أنت يا شرّ اليهود غيّرت أحكاما فاستعدّ جوابا.

[وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ] أي الخلقة [الْأُولى هي خلقتهم من نطفة ثمّ من علقة أو فطرة آدم من التراب [فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ فهلّا تتذكّرون أنّ من قدر عليها قدر على غيرها فإنّها أقلّ صنعا لحصول الموادّ و سبق المثال.

[أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أخبروني ما تبذرونه من الحبّ و تعملون في الأرض بالسقي و نحوه و الحرث إلقاء البذر في الأرض [أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ و تردّونه نباتا يربو و ينمو [أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ المنبثّون لا أنتم، و الزرع الإنبات و ذلك بالأمور الإلهيّة دون البشريّة و لذا نسب الحرث إليهم و نفى عنهم الزرع و نسبه إلى نفسه، و في الحديث:

لا يقولنّ أحدكم: زرعت و ليقل: حرثت فإنّ الزارع هو اللّه.

[لَوْ نَشاءُ] لو للماضي و إن دخل على المضارع و لذا لا يجزمه فهو شرط غير جازم

ص: 34

أي لو أردنا [لَجَعَلْناهُ أي الزرع بمعنى المزروع [حُطاماً] الحطم كسر الشي ء مثل الهشم و يستعمل في كلّ كسر متناه المعنى يابسا متكسّرا متفتّتا بعد ما أنبتناه.

[فَظَلْتُمْ أي فصرتم بسبب ذلك [تَفَكَّهُونَ أي تتعجّبون من سوء حاله أثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون و تندمون علي ما فعلتم فيه و أنفقتم عليه أو تندمون على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتحدّثون فيه و التفكّه التنقّل بصنوف الفاكهة و يستعار للتنقّل بالحديث و قرئ تفكّنون بالنون و التفكّن التعجّب و التندّم [إِنَّا لَمُغْرَمُونَ حال من فاعل تقكّهون أي قائلين: إنّا ملزمون بغرامة ما أنفقنا أو المعنى إنّا مهلكون بهلاك رزقنا [بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ لا جدّ و لا نصيب لنا و حرمنا رزقنا و لو كنّا مجدودين لما فسد علينا هذا.

روي عن أنس بن مالك قال: مرّ رسول اللّه بأرض الأنصار فقال: ما يمنعكم من الحرث؟ قالوا: الجدوبة قال: أفلا تعقلون فإنّ اللّه يقول: أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء و إن شئت زرعت بالريح و إن شئت زرعت بالبذر ثمّ تلا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ» الآية.

و في الحديث إشارة إلى أنّ اللّه هو الّذي يعطي و يمنع بأسباب و بغيرها فالتوحيد هو أن يعتقد أنّ التأثير من اللّه لا من غيره كالكوكب و في الحديث ما سنة بأمطر من أخرى و لكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل اللّه ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف اللّه ذلك إلى الفيافي (1) و البحار.

[أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أخبروني الماء الّذي تشربون عذبا فراتا [أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ السحاب إذا السحاب الأبيض و ماؤه أعذب [أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ له بقدرتنا.

[لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً] ملحا زعافا لا يمكن شربه و حذف اللام هاهنا مع إثباتها في الشرطيّة الاولى لتقدّم أمر المطعوم على المشروب و الوعيد بفقد المطعوم أصعب من من الوعيد بالمشروب فإنّ المشروب إنّما يحتاج إليه تبعا للمطعوم [فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ فهلّا تشكرون بتوحيد منعمه و إطاعة أمره؟ء.

ص: 35


1- جمع الفيفاء: الصحراء.

و عن ابن عبّاس إنّ تحت العرش بحرا تنزل منه أرزاق الحيوانات يوحي اللّه إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتّى ينتهي إلى سماء الدنيا و يوحي إلى سماء الدنيا أن غربليه فتغربله فليس من قطرة تقطر إلّا و معها ملك يضعها موضعها و لا تنزل قطرة إلّا بكيل معلوم إلّا ما كان من يوم الطوفان فإنّه نزل بغير كيل و وزن و كان صلّى اللّه عليه و آله يكشف رأسه عند عند نزول المطر و يقول: حديث عهد بربّه.

[أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أي أخبروني النار الّتي تخرجونها بسبب قدح الزناد أو بسبب قدح آخر و تشعلونها و العرب تقدح بعودين تحكّ أحدهما على الآخر يسمّون الأعلى الزند و الأسفل الزندة شبّهوهما بالفحل و الطروقة [أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها] الّتي منها الزناد و هي المرخ و العفار [أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ لها بقدرتنا.

[نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً] استيناف لبيان منافعها أي جعلنا نار الزناد تبصرة في أمر البعث فإنّ أمر البعث ليس أبدع من إخراج النار من الشجر الرطب و هو حجّة على منكري عذاب القبر حيث تضمّن النار ما لا يحرق ظاهره لكنّ النار حاصله و مؤثّره لكنّ الأثر غير بيّن أو المعنى أنّ هذه تذكرة لما أوعدوا به من نار جهنّم لينظروا إليها و يتذكّروا [وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ أي بلغة و منفعة للمسافرين و الّذين ينزلون القواء بالفتح و هو القفر الخالي من العمارة و تخصيصهم بذلك لأنّهم أحوج إليها لأنّ المقيمين في العمارة ليسوا بمضطرّين إلى الاقتداح و عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه: إنّ أدنى أهل النار عذابا الّذي يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه في رأسه.

[فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي أحدث التنزيه لربّك و نزّهه عمّا لا يليق به و قيل: معناه قل: سبحان ربّي العظيم فقد صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال: اجعلوا هذا الذكر في ركوعكم و الباء للاستعانة و قيل: المراد هنا تلاوة القرآن و شرّف عبيده بأن أمرهم بالتسبيح ليطهّروا أنفسهم بتسبيحه تعالى.

[سورة الواقعة (56): آية 75]

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75)

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75).

أي فاقسم و لا مزيدة للتأكيد و تقوية الكلام كقوله: «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» و يجوز أن يكون ردّا لما يقوله الكفّار في القرآن من أنّه سحر و شعر و كهانة ثمّ

ص: 36

استأنف القسم، و مواقع النجوم قيل: مطالعها و مساقطها و قيل: انكدارها و انتثارها يوم القيامة و قيل: هي الأنواء الّتي كان أهل الجاهليّة إذا امطروا قالوا: أمطرنا بنوء كذا قال الباقر و الصادق عليهما السّلام: إنّ مواقع النجوم رجومها للشياطين و كان المشركون يقسمون بها فحينئذ «لا» نافية فقال سبحانه: فلا اقسم بها. قرئ بموقع، أي عظم أمر من يحلف بها.

في الفقيه عن الصادق عليه السّلام المراد به اليمين بالبراءة من الأئمّه عليهم السّلام يحلف بها الرجل إنّ ذلك عند اللّه عظيم و قيل: المعنى اقسم بنزول القرآن فإنّه نزل نجما نجما متفرّقا عن ابن عبّاس.

[سورة الواقعة (56): الآيات 76 الى 87]

وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)

أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85)

فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)

[وَ إِنَّهُ أي القسم المذكور [لَقَسَمٌ لو علمتم بموجبه لعظّمتموه و جواب القسم قوله: [إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ و هذه الجملة و هو قوله: «وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ» اعتراض بين القسم و جوابه أي الكتاب الكريم كثير النفع في صلاح المعاش و المعاد أو كريم عند اللّه و دالّ على مكارم الأخلاق و شرائف الأفعال أو كريم بسبب نزوله من عند كريم إلى أكرم الخلق.

[فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ و مصون عن غير المقرّبين إذ لا يطّلع عليه من سواهم لأنّه مستنسخ في اللوح المحفوظ [لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إمّا صفة اخرى للكتاب فحينئذ المراد بالمطهّرين الملائكة المنزّهون عن أوضار الأوزار أو صفة للقرآن فيكون نفيا بمعنى النهي أي لا ينبغي أن يمسه إلّا من كان على طهارة من الأدناس كالحدث و الجنابة و النفي بمعنى النهي مثل قوله عليه السّلام: المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه أي لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه إلى من يظلمه و قيل: (و القائل و القول كلاهما ضعيفان و هو محمّد

ص: 37

ابن فضيل من العامّة قال:) المراد من الطهارة هاهنا التوحيد يعني إنّ غير الموحّد لا يجوز أن يمسّه.

[تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة اخرى للقرآن مصدر بمعنى المفعول أي منزل مثل الخلق بمعنى المخلوق.

[أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ الّذي ذكرت صفاته و هو القرآن [أَنْتُمْ يا أهل مكّة [مُدْهِنُونَ أي مكذّبون أو أي متهاونون به و الإدهان عبارة عن المداراة و الملاينة و ترك الحدّ و الاستحقار و في الآية دلالة على حدوث القرآن.

[وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال ابن عبّاس: أصاب الناس عطش في بعض أسفاره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدعا فسقوا، فسمع رجلا يقول: مطرنا بنوء كذا فنزلت الآية و قيل:

المعنى تجعلون حظّكم من القرآن و شكر رزقكم الّذي رزقكم التكذيب بالقرآن و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: لو حبس اللّه القطر عن امّتي عشر سنين ثمّ أنزل لأصبحت طائفة تقول: سقينا بنوه كذا. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخوف ما أخاف على امّتي حيف الأئمّة و التكذيب بالقدر و الإيمان بالنجوم.

و في الحديث ثلاث من أمر الجاهليّة: الطعن في الأنساب و النياحة و الأنواء فالطعن معروف و النياحة البكاء على الميّت مع تعديد محاسنه و الأنواء جمع نوه المنازل الثماني و العشرون للقمر. و العرب كانت تعتقد أنّ الأمطار و الخير من الأنواء و آثارها و الصحيح أنّ الأنواء النجوم الّتي يسقط واحد منها في جانب المغرب وقت طلوع الفجر و يطلع رقيبه في جانب المشرق من ساعته. و بالجملة فللمؤمن أن يعتقد أنّ الخير بأمر اللّه و بيده و الأفلاك و الأنجم مسخّرات بأمره إن أراد كان و إن لم يشأ لم يكن.

[فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ للتحضيض لإظهار عجزهم قيل: الحلقوم مجرى النفس و البلعوم مجرى الطعام أي فهلّا إذا بلغت النفس أي الروح الحلقوم و تداعت إلى الخروج و الضمير كناية عن غير مذكور للدلالة [وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ و الحال أنتم أيّها الحاضرون حول صاحبها تنظرون إلى ما هو فيه من غمرات الموت و لكم تعطّف عليه و لكم رغبة في إنجائه من الموت تردّون روح ميّتكم إلى مقرّها.

ص: 38

[وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أي إلى المحتضر قدرة و علما و تصرّفا [مِنْكُمْ حيث لا تعرفون حاله إلّا ما تشاهدونه من آثار الشدّة و لا تقدرون على دفع أدنى شي ء منها و نحن المتولّون لتفاصيل أحواله و بقبض روحه [وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ كنه ما يجري عليه و المراد هنا البصيرة لا البصر.

[فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ يعني هلّا إن كنتم غير مربوبين و غير مملوكين أذلّاء من دان السلطان رعيّته إذا استعبدهم و ساسهم أو غير مجزيّين.

[تَرْجِعُونَها] أي تردّون النفس إلى مقرّها و تردّون روح ميّتكم إلى بدنه من الرجع و هو الردّ و المحضّض عليه بلو لا الاولى و الثانية مكرّرة للتأكيد و حاصل المعنى إن كنتم غير مربوبين و غير مصدّقين بخلقنا إيّاكم فهلّا ترجعون النفس إلى مقرّها عند بلوغها الحلقوم [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في اعتقادكم.

[سورة الواقعة (56): الآيات 88 الى 96]

فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)

فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

[فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أمّا في الكلام لتفصيل الجمل و شرح الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السورة مثل قولك جاءني القوم فأمّا زيد فأكرمته و أمّا عمرو فأهنته أي إن كان المتوفّى و ذلك المحتضر الّذي بلغت روحه الحلقوم من المقرّبين عند اللّه و هم السابقون و أجلّ الأزواج الثلاثة.

[فَرَوْحٌ أي فله استراحة و رحمة [وَ رَيْحانٌ يعني الرزق في الجنّة و قيل:

هو الريحان المشموم من رياحين الجنّة يؤتى بها عند الموت فيشمّه ثمّ يقبض روحه، و قيل: الروح النجاة من النار و الريحان الدخول في الجنّة، و قيل: روح في القبر و هو الهواء الّذي تستلذّه النفس و يزيل عنها المكروه و ريحان في القيامة [وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ أي ذات تنعّم.

[وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ و استعير اليمين للتيمّن و السعادة [فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ إي إن كان المتوفّى من أصحاب اليمن و البركة فسلام لك

ص: 39

بأصحاب المين من إخوانك المؤمنين و الملائكة و لك البشارة منهم بالسلامة من العذاب قال الفرّاء: فسلام لك إنّك من أصحاب اليمين فحذف إنّك فيكون السلام إشارة له بأنّه من أهل الجنّة و إلّا لقيل عليك.

[وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ و هم أصحاب الشمال و هم الّذين كذّبوا بالبعث و ضلّوا عن التوحيد و الهداية [فَنُزُلٌ فله نزل كائن [مِنْ حَمِيمٍ تشرب بعد أكل الزقّوم [وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ و إدخال في النار و قيل: إقامة فيها و مقاساة لألوان عذابها و قيل: ذلك ما يجده في القبر من سموم النار.

[إِنَّ هذا] الّذي ذكر في هذه السورة الكريمة [لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ حقّ الخبر اليقين الواقع و لا يطرء علي هذا الأمر التبدّل و التغيّر و إضافة العلم و الحقّ إلى اليقين إضافة الشي ء إلى مرادفه كما فعلوا في العطف التفسيريّ [فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ الفاء لترتيب التسبيح فسبّح يا محمّد و نزّه ربّك عمّا لا يليق به من الأمور الّتي من جملتها التكذيب بآياته الناطقة و الإشراك به و أعرض عمّا لا يليق من كلّ الأمور و لمّا نزل هذه الآية قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اجعلوها في ركوعكم فلمّا نزل سبّح اسم ربّك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم تمّت السورة بعون اللّه

ص: 40

سورة الحديد (مدنية)

اشارة

العرباض بن سارية قال: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقرء المسبّحات قبل أن يرقد و يقول: إنّ فيهنّ آية أفضل من ألف آية.

و عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام لم يمت حتّى يدرك القائم عليه السّلام و إن مات كان في جوار رسول اللّه.

الحسين بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه قال: من قرأ سورة الحديد و المجادلة في صلاة فريضة أدمنها (1) لم يعذّبه اللّه حتّى يموت أبدا و لا يرى في نفسه و لا في أهله سوءا أبدا و لا خصاصة في بدنه.

ص: 41


1- أدمنه: ادامه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)

التسبيح تنزيه اللّه تعالى اعتقادا و قولا و عملا عمّالا يليق بجنابه بدأ اللّه بالمصدر في الإسراء لأنّه الأصل ثمّ بالماضي في هذه السورة و الحشر و الصفّ لأنّ الماضي أسبق الزمانين ثمّ بالمستقبل في الجمعة و التغابن ثمّ بالأمر في الأعلى استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها و تعليم العباد استمرار التسبيح منهم في جميع الأزمنة و الكونات من لدن أخرجها من العدم إلى الوجود مسبّحة في الأزمنة و لا يختصّ تسبيحها بوقت دون وقت و في الحديث أفضل الكلام أربع: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر و سبّح متعدّ بنفسه كما في قوله: «وَ تُسَبِّحُوهُ» فاللام في للّه إمّا مزيدة للتأكيد كما في نصحت له و شكرت له أو للتعليل أي فعل التسبيح و أحدثه خالصا لوجهه.

[سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و المراد جميع الخلق من حيوان و جماد و نبات و غيره و عبّر بما تغليبا للأكثر و الجماد ميّت في نظر المحجوب حتّى في نفس الأمر لا ميّت لأنّ الجماد مدبّر حيّ و المدبّر حيّ و ليس من شرط الحيّ أن يحسّ لأنّ الإحساس و الحواسّ أمر معقول زائد على الحياة و إنّما هما من شرط الإدراك و العلم و قد يحسّ الشي ء و قد لا يحسّ أما ترى صاحب الأكلة و الجذام إذا أكل و استعمل ممّا

ص: 42

يغيب به إحساسه كيف يقطع عضوه و لا يحسّ به مع أنّه حيّ ليس بميّت «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» لأنّ وجود الشي ء دالّة على تنزيهه تعالى فضلا عن امور زائدة.

[وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب بقدرته و سلطانه الحكيم في أفعاله، ورد حديث أنّ كلّ شي ء من الجماد و الحيوان يسمع عذاب القبر إلّا الثقلين يدلّ على أنّ السماوات و الأرض بجميع أجزائهما و ما فيهما من الملك و الشمس و القمر و النجوم و الجنّ و الإنس و الحيوان و النبات و الجماد لها حياة و فهم.

[لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي التصرّف الكلّيّ [يُحْيِي وَ يُمِيتُ جعل الشي ء ميّتا و جعل الميّت حيّا مثل النطفة و البيض [وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ] من الأشياء [قَدِيرٌ] تامّ القدرة فإنّ الصيغة للمبالغة.

[هُوَ الْأَوَّلُ السابق على سائر الموجودات بالذات و الصفات لأنّه مبدؤها و المراد بالسبق و الأوّليّة هو الذاتيّ لا الزمانيّ فإنّ الزمان من جملة الحوادث أيضا [وَ الْآخِرُ] الباقي بعد فنائها حقيقة [وَ الظَّاهِرُ] وجود الأشياء دلائله الواضحة [وَ الْباطِنُ حقيقة فلا يحوم العقل حول إدراك كنهه و ليس يعرف اللّه إلّا اللّه و تلك الباطنيّة سواء في الدنيا و الآخرة.

[وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ من الظاهر و الخفيّ تامّ العلم بكلّ شي ء جليّه و خفيّة و يمكن أن يكون معنى هو الأوّل أي الّذي تبتدء منه الأسباب و الآخر الّذي تنتهي إليه المسبّبات و الظاهر أي الغالب على كلّ شي ء و الباطن أي العالم بباطن كلّ شي ء.

و احتجّ كثير من أهل التحقيق في إثبات أنّ الإله واحد بقوله تعالى: [هُوَ الْأَوَّلُ و قالوا: الأوّل هو الفرد السابق و لهذا لو قال: أحد أوّل مملوك اشتريته فهو حرّ ثمّ اشترى عبدين لم يعتقا لإنّ شرط كونه الأوّل حصول الفرديّة و هنا لم يحصل فلو اشترى بعد ذلك عبدا واحدا لم يعتق لأنّ شرط الأوّليّة كونه سابقا و هاهنا لم يحصل مع أنّ الشرط في كونه أوّلا أن يكون فردا فكانت الآية دالّة على أنّ صانع العالم واحد

ص: 43

فرد و الأوّل الّذي لم يسبقه شي ء في الوجود فهو تعالى شأنه نفى القدم عن كلّ أوّل بأوليّته و نفى البقا عن كلّ آخر بآخريّته.

و قال بعض علماء الكلام: المراد من الآية مبالغة في نفي التشبيه لأنّ كلّ من كان أوّلا لا يكون آخرا و كلّ من كان ظاهرا لا يكون باطنا فأخبر سبحانه أنّه الأوّل الآخر الظاهر الباطن ليعلم أنّه لا يشبه شيئا من المخلوقات و المصنوعات و أوضح المعاني قوله: «هُوَ الْأَوَّلُ» إنّه سبحان كان و لم يكن صور العوالم كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

كان اللّه و لم يكن معه شي ء.

و قال بعض المجرّبين: إنّ من قرأ بعد صلاة ركعتين خمسا و أربعين مرّة «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» حصل له ما طلبه.

[هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بقدرته [فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أوّلها الأحد و آخرها الجمعة و هذه المدّة ليشهد الملائكة بحدوثها و يعلموا سنّة التدريج في الأمور و اختلف في أنّ الأيّام من أيّام الدنيا أو الآخرة كما وقع اختلاف في الأربعين الّتي خمّر اللّه فيها طينة آدم عليه السّلام [ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استولى بالتدبير على امور أراد خلقه و نظمه و قيل: معنى «اسْتَوى قصد و عمد.

[يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها] أي يعلم ما يدخل في الأرض و يستتر فيها و يعلم ما يخرج من الأرض من أنواع النبات و الحيوان و الجماد لا يخفى عليه شي ء منها.

قال أهل التأويل: يعلم سبحانه ما يلج في أرض قلب المؤمن من النيّة و الإخلاص و التوحيد و في أرض قلب الكافر من الشكّ و الشرك و ما يخرج منها بحسب حالهم و الصحيح أنّ العلم محيط بتمام العوالم و قلب الكافر و المؤمن أيضا جزء من العالم.

[وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ] كالكتب و الملائكة و الأقضية و الصواعق و الأمطار [وَ ما يَعْرُجُ فِيها] كالملائكة الّذين يكتبون الأعمال و الأرواح السعيدة.

[وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ في الأرض و هو تمثيل لإحاطة علمه و في الحديث أفضل إيمان المرء أن يعلم أنّ اللّه معه حيث كان قال موسى عليه السّلام، أين أجدك يا

ص: 44

ربّ؟ قال: يا موسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ.

[وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] فيجازيكم عليه ثوابا و عقابا.

[لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ تكرير للتأكيد و تمهيد لقوله تعالى: [وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] و التأكيد في قوله: «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ» الأوّل متعلّق بالإبداء و الثاني بالإعادة و لذا قرن بالأوّل «يُحْيِي وَ يُمِيتُ» و بالثاني ما يكون في الآخرة من ردّ الخلق إليه.

[يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ] الإيلاج الإدخال حتّى يصير النهار أطول ما يكون خمس عشر ساعة و الليل أقصر ما يكون تسع ساعات [وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ باختلاف الفصول و مطالع الشمس و مغاربها حتّى يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة و النهار أقصر ما يكون تسع ساعات قال الشاعر:

فالشمس بالقوس أمست و هي نازلةإن لم تزرني و بالجوزاء إن زارا

[وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] أي بمكنوناتها من الأسرار و المعتقدات و هو بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه في نيّاتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم قال ابن عبّاس:

اسم اللّه الأعظم في أوّل سورة الحديد في ستّ آيات من أوّلها و تعليقها على المقاتل في الصفّ نافع جدّا كما في فتح الرحمن.

[سورة الحديد (57): آية 7]

آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

[آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ جعلكم اللّه خلفاء في ذلك المال بالتصرّف فيه من غير أن تملكوه حقيقة لأنّ يدكم يد العارية على الحقيقة و في الآية أمر و ترغيب في الإنفاق أو المعنى جعلكم خلفاء من قبلكم فيما كان بأيديهم بتوريثه إيّاكم و سينتقل منكم إلى من بعدكم فلا تبخلوا به قيل: إنّ الآية نزلت في غزوة ذي العشرة و هي غزوة تبوك [فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا] حسبما أمروا به [لَهُمْ بسبب ذلك [أَجْرٌ كَبِيرٌ] و له عشر أمثالها إذا أتى بحسنة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حكاية عن اللّه أنفق أنفق عليك و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لأتوك فيوكى عليك (1).

ص: 45


1- أوكى الرجل: بخل.

[سورة الحديد (57): الآيات 8 الى 10]

وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)

[وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي أيّ شي ء ثبت لكم و حصل حالكونكم غير مؤمنين و ما سبب عدم إيمانكم باللّه؟ [وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ توبيخ لهم بأنّه أيّ عذر لكم في ترك الإيمان و النبيّ ينبّهكم عليه بالحجج و الآيات؟

[وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ و الميثاق عقد يؤكّد بيمين و عهد أي قد أخذ اللّه ميثاقكم بالإيمان من قبل دعوة الرسول إيّاكم و ذلك بما أودع اللّه قلوبكم من دلالات العقل الموصلة إلى معرفة التوحيد أو المراد من الميثاق العهد المأخوذ يوم الذرّ حين أخرجهم من من صلب آدم في صورة الذرّ و هي النمل الصغير [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن دمتم على ما بدأتم به و مصدّقين بحقّ لأنّ الآن تمّت الحجّة و لزمتكم الحجّة بالأدلّة السمعيّة و العقليّة.

[هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ بواسطة جبرئيل عليه السّلام [عَلى عَبْدِهِ المطلق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات من الأمر و النهي و الحلال و الحرام [لِيُخْرِجَكُمْ اللّه [مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ] من ظلمات الجهل و الشرك إلى معرفة اليقين و التوحيد [وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث يهديكم لسعادة الدارين بإرسال الرسل و إنزال الكتب.

[وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ و أيّ شي ء لكم من أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى اللّه و هو له في الحقيقة و إنّما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عيّنه من المصارف [وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و الحال أنّه لا يبقى لكم منها شي ء بل تبقى كلّها له بعد فناء الخلق فإنفاقها بحيث تستخلف عوضا يبقى و هو الثواب كان أولى من الإمساك و نسب نفسه إلى الوارث من حيث إنّ الأموال صائرة إليه و الميراث ما ترك الإنسان فخاطبهم

ص: 46

بما يعرفون بينهم، قال عيسى عليه السّلام: قلب كلّ إنسان حيث ماله فاجعلوا أموالكم في السماء يكن قلوبهم في السماء.

[لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ يا معشر المؤمنين [مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ أي فتح مكّة الّذي أزال الهجرة [وَ قاتَلَ العدوّ تحت لواء رسول اللّه و قسيم «مَنْ أَنْفَقَ» محذوف لوضوحه أي بعد الفتح و في «أَنْفَقَ» إشارة إلى إنفاق المال و في «قاتَلَ» إشارة إلى إنفاق النفس.

[أُولئِكَ المنفقون المقاتلون قبل الفتح [أَعْظَمُ دَرَجَةً] و أرفع منزلة عند اللّه [مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا] و قد صرّح صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا بفضل الأوّلين بقوله: لو أنفق أحدكم مثل احد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم و لا نصفه و المدّ قيل: مل ء كفّي الإنسان المعتدل إذا ملأهما و مدّيده بهما و به سمّي مدّا و قد جرّب مرارا أنّ هذا المقدار مساو مع الوزن المعروف الّذي يقال له: المدّ.

[وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي كلّ واحد من الفريقين وعدهم اللّه المثوبة الحسنى و هي الجنّة لكنّ الدرجات متفاوتة [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] بظواهره و بواطنه فيجازيكم بحسب نيّاتكم و إخلاصكم.

[سورة الحديد (57): الآيات 11 الى 15]

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

ثمّ حثّ سبحانه على الإنفاق فقال:

[مَنْ ذَا الَّذِي قيل: من مبتدأ و «ذَا» خبره و [الَّذِي بدله قال الطبرسيّ:

إنّ الصحيح أن يكون «ذَا» مبتدءا و الّذي يقرض اللّه صفته و من خبر المبتداء قدّم

ص: 47

عليه لما فيه من معنى الاستفهام و الإقراض إعطاء العين على وجه يطلب بدله و المعنى كأنّه قيل: أ يقرض أحد مالا طيّبا فيعطيه اللّه عوضه أضعافا من فضله من السبع إلى السبعين إلى السبعمائة؟ و إنّما قلنا بمعنى الاستفهام لأنّ قوله: «فَيُضاعِفَهُ لَهُ» و الفاء إنّما تنصب فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه و هاهنا السؤال لم يقع عن القرض بل عن فاعله.

[وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي و ذلك الأجر كريم حسن مرضيّ في نفسه. روي أنّه لمّا نزلت الآية جعل أبو الدحداح يتصدّق بنصف ماله من كلّ شي ء له حتّى أنّه خلع إحدى نعليه قال بعضهم: سأل اللّه القرض منهم و لو كانوا يمكن لهم أن يخرجوا من وجودهم لخرجوا قبل سؤاله فضلا عن المال فإنّ العبد و ما يملكه لمولاه، في الحديث: عبدي استطعمتك فلم تطعمني.

و في الإنفاق يكون عشر شرائط: الأوّل أن يكون من الحلال. و الثاني أن يكون من أطيب ماله دون الردي ء. و الثالث أن يتصدّق و يحبّ المال. و الرابع أن يعطيه و هو يرجو الحياة و هو صحيح يأمل العيش. الخامس يخشى الفقر. السادس أن يضعه في الأخلّ الأحوج الأولى بأخذه. السابع أن يكتمه ما أمكن. الثامن أن لا يتبعها المنّ و الأذى. التاسع أن يقصد به وجه اللّه. العاشر أن يستحقر ما يعطي فالصدقة لا بدّ و أن تكون موصوفة بهذه الصفات العشرة و في المرفوع: النافلة هديّة العبد ألى ربّه فليحسن أحدكم هديّته و ليطيّبها.

[يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ الظرف منصوب بإضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم أي اذكر يوم رؤيتهم يوم القيامة على الصراط أو غيره [يَسْعى نُورُهُمْ حال من مفعول ترى أي نور إيمانهم و طاعاتهم و معنى السعي المشي السريع دون العدو و يستعمل أيضا للجدّ في الأمر خيرا كان أو شرّا و أكثر استعماله في الأفعال المحمودة [بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ جمع يمين و المراد جهة اليمين قيل: يكون النور بين أيديهم و في جهة أيمانهم [و عن شمائلهم إلّا أن ذكر الشمائل مضمر و ذلك النور دليلهم ألى الجنّة و المراد بالنور الضياء الّذي يرونه و يمرون فيه إنّ المؤمن يضي ء له نور كما بين عدن إلى صنعاء و دون ذلك و دون ذلك حتّى أنّ من المؤمنين من لا يضي ء له نوره إلّا في موضع

ص: 48

قدميه، قال عبد اللّه بن مسعود: و يعطون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من نوره على قدر الجبل و أدناهم نورا نوره على إبهامه يطفى مرّة و يتّقد اخرى و يقول لهم الملائكة:

[بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي الّذي تبشّرون به اليوم جنّات و دخولها و حذف المضاف [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ صفة للجنّات أنتم دائمون فيها و ما ذكر [هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الّذي لا غاية و راءه.

[يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بدل من «يَوْمَ تَرَى» فذكر سبحانه حال المنافقين في ذلك اليوم يقولون: [لِلَّذِينَ آمَنُوا] ظاهرا و باطنا [انْظُرُونا] أي انتظرونا يقولون ذلك لما أنّ المؤمنين يسرع بهم إلى الجنّة كالبروق الخاطفة على ركاب تزفّ بهم و هؤلاء مشاة إذ المعنى من انظرونا استقبلونا نستضي ء بأنواركم و إنّ النظر بمعنى الإنظار لا يتعدّى بنفسه و إنّما يتعدّى بإلى فيكون المعنى اجعلوا نظركم إلينا لكن بمعنى النظرة و الإمهال أليق.

[نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ و الاقتباس التناول من الشعلة أي نأخذ من نوركم قبسا سراجا و شعلة لأنّهم كانوا يستضيئون بنور المؤمنين فإذا سبقهم المؤمنون و وصلوا إلى مكانهم بقوا هؤلاء في الظلمة فيقولون: انظرونا نقتبس، و هيهات! أين الثريّا من يد المتناول؟

[قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ طردا و تهكّما لهم و القول من جهة الملائكة أو المؤمنين ارجعوا إلى الموقف [فَالْتَمِسُوا نُوراً] و اطلبوا هناك فإنّه من ثمّة يقتبس النور أو فارجعوا إلى الدنيا لأنّ النور بالإيمان يحصل في الدنيا و هاهنا ليس دار التحصيل بل دار الجزاء فيرجعون فلا يجدون نورا.

[فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ] و قد ضرب بين المؤمنين و بينهم و حيل بينهم حائط بين الجنّة و النار و لمّا كان البناء ممّا يحتاج إلى ضرب باليد و نحوها من الآلات عبّر عنه بالضرب مثل قولهم: ضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة و بالجملة هو سوريين أهل الجنّة و النار يقف عليه أصحاب الأعراف يشرفون على أهل الجنّه و أهل النار و هو السور الّذي يذبح عليه الموت بمرأى الفريقين [لَهُ بابٌ أي لذلك السور و الحائط و المانع باب يدخل فيه المؤمن فيكون السور بينهم باعتبار حاله الثانية بعد الدخول لا حين الضرب

ص: 49

[باطِنُهُ باطن السور أو باطن. الباب فيه الرحمة لأنّه يلي الجنّة [وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ و من جهته و عنده [الْعَذابُ لأنّه يلي النار، و بالجملة إنّ المؤمنين يسبقونهم و يدخلون الجنّة و المنافقين يجعلون إلى النار و بينهم السور المذكور. في الحديث: بيت المقدس أرض المحشر و المنشر.

[يُنادُونَهُمْ أي ينادي المنافقون المؤمنين: [أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدنيا يريدون به ما كانوا يوافقون مع المؤمنين في الأمور الظاهرة كالمناكحة و الموارثة و الصلاة [قالُوا بَلى كنتم معنا بحسب الظاهر [وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ محنتموها بالنفاق و أهلكتموها إضافة الفتنة إلى النفس إضافة الميل و الشهوة و إلى الشيطان في قوله:

«لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ» إضافة الوسوسة.

[وَ تَرَبَّصْتُمْ و انتظرتم بالمؤمنين الدوائر و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الموت و هو وصف قبيح، إنّ انتظار موت وسائل الخير و وسائط الحقّ من أعظم الجرم و القباحة [وَ ارْتَبْتُمْ و شككتم في النبوّة أو في غد اليوم الموعود [وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ الفاسدة الّتي من جملتها انتكاس أمر الإسلام، جمع امنيّة أباطيل الدنيا [حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي الموت [وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الكريم [الْغَرُورُ] أي الشيطان غرّكم بحلمه تعالى و إمهاله و قيل:

الغرور الدنيا قال قتادة: ما زال أهل الدنيا على خدعة من الشيطان حتّى قذفوا في النار و الغرور مبالغة و هو كلّ ما يغرّ الإنسان من مال و جاه و شهوة و شيطان و فسّر بالشيطان لأنّه أخبث الغارّين.

[فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ أيّها المنافقون [فِدْيَةٌ] فداء تدفعون به العذاب عن أنفسكم و الفداء ما يحفظ الإنسان عن النائبة أي لا يؤخذ منكم دية و لا نفس اخرى مكان أنفسكم [وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا] ظاهرا و باطنا فالناس ثلاثة أقسام: مؤمن ظاهرا و باطنا و هو المخلص و مؤمن ظاهرا لا باطنا و هو المنافق و كافر ظاهرا و باطنا.

[مَأْواكُمُ النَّارُ] مرجعكم جهنّم لا ترجعون إلى غيرها أبدا [هِيَ أي النار [مَوْلاكُمْ تتصرّف فيكم تصرّف المولى في عبيده أو هي أولى بكم فالمولى مشتقّ من الأولى [وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ] و المرجع.

ص: 50

[سورة الحديد (57): الآيات 16 الى 20]

أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)

من أنى الأمر يأني أنيا إذا جاء أناه أي وقته و حان حينه و أدرك أي ألم يجي ء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره و يسارعوا إلى طاعة بالامتثال من غير توان و لا فتور. قوله تعالى: [وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ أي القرآن و هو عطف على ذكر اللّه فإن كان المراد من الذكر القرآن أيضا فالعطف لتغاير العنوانين و تفسيريّ كما في قوله: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» (1) و معنى الخشوع في الآية في قوله: «أَنْ تَخْشَعَ» الانقياد التامّ و أوامره و نواهيه روي أنّ المؤمنين كانوا مجدبين بمكّة فلمّا هاجروا أصابوا الرزق و النعمة فصيّروا عمّا كانوا عليه من الخشوع فنزلت الآية و عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا و بين أن عوتبنا بهذه الآية أربع سنين و قيل: ظهر بين الأصحاب من المزاح و المضاحك فنزلت الآية: «أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا الآية» و قيل: إنّ هذه الآية قرئت بين قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فقال بعض الأصحاب: هكذا كنّا و قد قست قلوبنا.

[وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ عطف على تخشع و المراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله: [فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ] أي الأجل و الزمان أو الأعمار و الآمال و زالت عنهم الروعة الّتي كانت تأتيهم من التوراة و الإنجيل

ص: 51


1- الأنفال: 2.

إذا سمعوهما [فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ و القسوة غلظة القلب و إنّما تحصل من اتّباع الشهوة و الصفوة لا يجتمعان [وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ و خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتبهم بالكلّيّة.

و فيه إشارة إلى أنّ عدم الخشوع في أوّل الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر.

قال عيسى بن مريم عليه السّلام: لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه فتقسو قلوبكم و القلب القاسي بعيد من اللّه و لا تنظروا في ذنوب العباد كأنّكم أرباب و انظروا في ذنوبكم كأنّكم عبيد فإنّما الناس رجلان مبتلى و معافى فارحموا أهل البلاء و احمدوا اللّه على العافية انتهى.

[اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر و التلاوة بإحياء الأرض الميّتة بالغيث للترغيب في الخشوع و التحذير عن القساوة و بيان لمنكر في البعث أي كما أنّ اللّه يحيي الأرض بعد يبسها و جمودها كذلك يحيي الأموات بعد بلاها و محو صورتها [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ كي تعقلوا و تعلموا بموجبها و كان استماع آية «أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ» سببا لتوبة فضيل بن عياض و مجاورته في الحرم و قصّته معروفة، و كذلك ابن المبارك و كان منهمكا في الشرب و ضرب العود، بينما هو في هذه الحالة إذ سمع قارئا يقرء هذه الآية فتاب و رجع ممّا كان عليه و آل أمره إلى ما آل لكن و تعيها اذن واعية.

و عن مالك بن دينار و هو أحد الزهّاد الثمانية أنّه سئل عن سبب توبته فقال:

إنّي كنت شرطيّا و كنت منهمكا على شرب الخمر ثمّ اشتريت جارية جميلة و وقعت في عيني أحسن موقع فولدت لي بنتا فشغفت بها فلمّا دبّت على الأرض ازدادت في قلبي حبّا و ألفتني و ألفتها فلمّا تمّ لها سنتان ماتت فأكمدني الحزن عليها لكنّي تجلّدت خوفا من أن يصيبني غضب من اللّه فلمّا كانت ليلة النصف من شعبان و كانت ليلة جمعة بتّ ممتلئا من الخمر و لم اصلّ صلاة العشاء فرأيت كأنّ أهل القبور قد خرجوا و حشر الخلائق و أنا معهم فسمعت حسّا من ورائي فإذا أنا بتنّين عظيم أعظم ما يكون أسود قد فتح فاه مسرعا نحوي فمررت بين يديه هاربا فزعا مرعوبا فمررت في طريقي بشيخ نقيّ

ص: 52

الثياب طيّب الرائحة فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام فقلت له: أجرني فقال: أنا ضعيف و هذا أقوى منّي و ما أقدر عليه و لكن مرّ و اسرع فلعلّ اللّه سبّب لك ما ينجيك منه فولّيت هاربا على وجهي و صعدت على شرف من شرف القيامة فأشرفت على طبقات النيران فنظرت إلى أهلها فكدت أهوي فيها من فزع التنّين و هو في طلبي فصاح بى صائح: ارجع فلست من أهلها فاطمأننت الى قوله و رجعت و رجع التنّين في طلبى فأتيت الشيخ فقلت:

يا شيخ سألتك باللّه أن تخبرني من هذا التنّين فبكى الشيخ و قال: أنا ضعيف و لكن سر إلى هذا الجبل فإنّ فيه ودائع للمسلمين فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك فنظرت إلى جبل فيه كوى و ستور معلّقة و على كلّ كوّة مصراعان من الذهب مكللان بالدرّ فلما نظرت إلى الجبل هربت إليه و التنّين من ورائي حتّى إذا قربت منه صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور و افتحوا المصاريع فلعلّ لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوّه و إذا الستور قد رفعت فأشرف عليّ أطفال بوجوه كالأقمار و قرب التنين منيّ فتحيّرت في أمرى فصاح بعض الأطفال: و يحكم أشرفوا كلّكم فقد قرب منه فأشرفوا فوجا بعد فوج فإذا بابنتي الّتي ماتت فلمّا رأتني بكت و قالت: أبي و اللّه ثمّ دنت و مدّت يدها الشمال فتعلّقت بها فولّى هاربا ثمّ اجلستني و قعدت في حجري و قالت يا أبت: «أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ» فبكيت و قلت: يا بنيّه و أنتم تعرفون القرآن؟ فقالت: يا أبت نحن أعرف به منكم قلت: فأخبرينى عن التنّين قالت: ذلك عملك السوء قوّيته قلت: و من الشيخ الّذي مررت به؟ قالت: ذلك عملك الصالح أضعفته حتّى لم يكن له طاقة بعملك السوء قلت: و ما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت: نحن أطفال المسلمين قد اسكنّا فيه إلى أن تقوم القيامة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم فانتبهت فزعا فلمّا أصبحت فارقت ما كنت عليه و تبت إلى ربّي انتهى.

[إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ أي المتصدّقين و المتصدّقات [وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً] عطف على الصلة من حيث المعنى أي إنّ الناس الّذين تصدّقوا و تصدّقن و أقرضوا و أقرضن اللّه و المراد من الحسن التصدّق من الطيّب عن طيبة النفس و خلوص النيّة.

ص: 53

و روى مسلم عن جابر أنّه قال: شهدت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلاة العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان و لا إقامة فلمّا فرغ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الصلاة قام متوكّئا على بلال فأمر بتقوى اللّه و حثّ على طاعته و وعظ الناس ثمّ مضى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى النساء فوعظهنّ و ذكّرهنّ فقال: تصدّقن فإنّ أكثركنّ حطب جهنّم قالت امرأة: لم يا رسول اللّه؟ فقال:

لأنّكنّ تكثرن الشكاية و تكفرن العشير أي الزوج فجعلن يتصدّقن من حليّهن و يلقين في ثوب بلال حتّى اجتمع فيه شي ء كثير قسّمه على فقراء المسلمين انتهى.

[يُضاعَفُ لَهُمْ أي ثواب التصدّق يضاعف لهم [وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ و هو رضى اللّه.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ كافّة و هو مبتدء [أُولئِكَ مبتدء ثان [هُمُ مبتدء ثالث خبره [الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ] أي أولئك [عِنْدَ رَبِّهِمْ بمنزلة الصدّيقين و الشهداء المشهورين في علوّ المرتبة و رفعة المحلّ قيل: الشهداء على ثلاث درجات الدرجة الاولى الشهيد بين الصفّين و هو أكبر هم درجة ثمّ كلّ من قضى و مات بقارعة أو بليّة و هي الدرجة الثانية مثل الغرق و الحرق و الهالك في الهدم و المطعون و المبطون و الغريب و الميّتة في نفاسها و الميّتة بالوضع و الميّت يوم الجمعة و ليلة الجمعة و الميّت على الطهارة، و الدرجة الثالثة ما نطقت به هذه الآية العامّة للمؤمنين و قال بعضهم في معنى الآية: هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا و صدّقوا بجميع ما أخبر سبحانه و أخبر رسله.

[لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ مبتدء و خبر أي لهم أجرهم و ثواب طاعاتهم مثل ثواب الصدّيقين و الشهداء الّذين معروفون بالفضيلة و الكمال و قد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوّة المماثلة و بلوغها حدّ الاتّحاد، و حاصل المعنى أنّ المؤمنين المصدّقين بآيات اللّه لهم من الأجر و النور ما للصدّيقين و للشهداء قال بعض أهل التحقيق: لا يكون الأجر إلّا مكتسبا فإن أعطيت ما هو خارج عن الكسب فهو نور و هبات و لا يقال له «أجر» و لهذا قال سبحانه: «لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ» فإنّ أجرهم ما اكتسبوه و نورهم ما وهبه اللّه لهم بالتفضّل.

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ الموصوفون بهذه

ص: 54

الصفات القبيحة أصحاب النار و ملازموها بحيث لا يفارقونها أبدا و فيه دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكافر و المراد بالكفر الكفر باللّه في مقابلة الإيمان باللّه و بالتكذيب ما بأيدي الرسل في مقابلة تصديق الرسل.

[اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا] فكلّ ما قبل الموت تسمّى دنيا و كلّ ما تأخّر عنه أخرى [لَعِبٌ أي عمل باطل تتعبون فيه أنفسكم إتعاب اللاعب [وَ لَهْوٌ] تشغلون أنفسكم بها عمّا يهمّكم من أعمال الآخرة [وَ زِينَةٌ] تزيّنون بها من الملابس و المراكب و المنازل الحسنة [وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ بالأنساب و الأحساب و يعبّر عن كلّ نفيس بالفاخر [وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ] بالعدد و تطاولون بها على الناس.

فالحياة في الدنيا و أمورها لعب كلعب الصبيان و زينة كزينة النسوان و تفاخر كتفاخر الأقران و تكاثر كتكاثر الدهقان و لذائذها تجمع في ستّة أشياء مطعوم و مشروب و ملبوس و مشموم و مركوب و منكوح فأكبر طعامها العسل و هو ريق ذبابة، و أكبر شرابها الماء و يستوي فيه جميع الحيوان، و أكبر الملبوس الديباج و هو نسج دودة، و أكبر المشموم المسك و هو دم ظبية، و أكبر المركوب الفرس و عليها يقتل الرجال، و أكبر المنكوح النساء و هو مبال في مبال، هذه اللذائذ أنفع أم ركعتان؟

[كَمَثَلِ غَيْثٍ أي هي صفاتها شبيهة بغيث و الغيث مطر يحتاج إليه يغيث الناس من الجدب عند قلّة المياه فهو مخصوص بالمطر النافع بخلاف المطر فإنّه عامّ [أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ الكفّار الحرّاث يقول العرب للزارع: كافر لأنّه يستر بذره بتراب الأرض و الكفر في اللغة التغطية و لهذا يسمّى الكافر كافرا لأنّه يغطّي الحقّ بالباطل و الكفر القبر يسترها الناس، و في الحديث: أهل الكفور أهل القبور و الليل كافر لستره الأشخاص «نَباتُهُ» أي النبات الحاصل من الغيث و المراد الكافرون باللّه لأنّهم أشدّ إعجابا بزينة الدنيا.

[ثُمَّ يَهِيجُ أي يجفّ بعد خضرته و نضارته و الهائجة أرض يبس بقلها أو اصفرّ [فَتَراهُ مُصْفَرًّا] بعد ما رأيته مونقا ناضرا و إنّما لم يقل: فيصفرّ إيذانا بأنّ اصفراره مقارن لجفافه.

ص: 55

[ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً] فيصير ذلك الزرع منكسرا و الحطم الكسر المتفاني و المقصود التحقير لأمور الدنيا و زينتها و بيان أنّها خياليّة باطلة لا حقيقة لها و تمثيل لحال الدنيا في سرعة تقضّيها و فخر الإنسان على مثل هذا الشي ء إنّما هو من جهله بحقيقته [وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ] لمن أقبل عليها و لم يطلب بها الآخرة.

[وَ مَغْفِرَةٌ] عظيمة كائنة [مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ لا يقدّر قدره لمن أعرض عنها و قصد بها الآخرة و إذا كان كذلك فنيّة الحسنة تجعل المباح طاعة كما قيل: إنّ من استقامت سريرته و صلحت نيّته أدرك جميع ما تمنّاه في الأعمال الصالحة، في الحديث: من نام على طهارة و في عزمه أنّه يقوم من الليل فأخذ اللّه بنفسه إلى الصباح كتب اللّه له قيام ليلة فالدنيا من هذه الجهة حسنة نافعة مفيدة للعاقل و من ذمّها فقد عقّ امّه لأنّ الأنكاد و الشرور الّتي ينسبها الناس إلى الدنيا ليس هو فعلها و إنّما هو فعل أولادها فإنّ الشرّ فعل المكلّف لا فعل الدنيا و هي مطيّة العبد؛ عليها يبلغ الخير و بها ينجو من الشرّ فمن لم يستوف حقّه من الدنيا بهذه الكيفيّة كان غاشّا لنفسه.

[وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ] أي كالمتاع الّذي يتّخذ من نحو الزجاج و الخزف ممّا يسرع فناؤه و يميل الطبع أوّل ما رآه فالعمل للحياة الدنيا متاع الغرور.

[سورة الحديد (57): الآيات 21 الى 25]

سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

ثمّ رغّب سبحانه في السياق إلى الجنّة فقال:

[سابِقُوا] أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار [إِلى مَغْفِرَةٍ] عظيمة

ص: 56

كائنة [مِنْ رَبِّكُمْ أي إلى أسبابها و موجباتها مثل الأعمال الصالحة و الاستغفار كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّهم إنّي أسألك عزائم مغفرتك أي توفّقني للأعمال الّتي تغفر لصاحبها لا محالة أي محتوماتها، و تلك الأسباب و الموجبات منحصرة كاتّباع شريعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمرنا سبحانه بالإسراع إلى هذا الأمر على وجه المبالغة فإنّ صيغة المفاعلة للمبالغة و أمرنا بالإسراع لقلّة عمر الدنيا و طريق الإسراع في مرتبة الطبيعة و الجسمانيّات الامتثال بالأوامر و الاجتناب على النواهي.

و في مرتبة النفس تزكيتها عن الأخلاق الرذيلة كالكبر و الرياء و العجب و الغضب و الحسد و حبّ الجاه و المال و تحليتها بالأخلاق المحمودة كالتواضع و الإخلاص و الحلم و الصبر على الشدائد و الرضى و التسليم و في مرتبة الروح بتحصيل معرفة اللّه و اليقين.

[وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي كعرض سبع سماوات و سبع أرضين و إذا كان عرضها كذلك فيكف بطولها فإنّ طول كلّ شي ء أكثر من عرضه في الغاية، و تقديم المغفرة في الآية لتقديم التخلية على التحلية [أُعِدَّتْ و هيّئت [لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ فيه دليل على أنّ الجنّة مخلوقة بالفعل و الإيمان بالرسل و العمل بكتابهم.

[ذلِكَ الّذي وعد بالمغفرة و الجنة [فَضْلُ اللَّهِ و عطاؤه [يُؤْتِيهِ تفضيلا و إحسانا [مَنْ يَشاءُ] إيتائه إيّاه مع وجود القابليّة و قبولهم [وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ و في الآية إشارة على أنّه سبحانه يجزي و يعطي الدائم الباقي على القليل و لو اقتصر في الجزاء على قدر ما يستحقّ بالأعمال كان عدلا منه لكنّه يفضل بالزيادة على أنّه سبحانه لو لم يدعنا إلى الطاعة و لم يبيّن لنا الطريق الموصل إلى السعادة لما اهتدينا فذلك كلّه من فضل اللّه.

في الحديث قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خرج من عندي خليلي جبرئيل آنفا فقال: يا محمّد و الّذي بعثك بالحقّ إنّ عبدا من عباد اللّه عبد اللّه خمسمائة سنة على رأس جبل يحيط به بحر فأخرج اللّه له عينا عذبة في أسفل الجبل و شجرة رمّان كلّ يوم تخرج رمّانة

ص: 57

فإذا أمسى نزل و أصاب من الوضوء و أخذ تلك الرمّان فأكلها ثمّ قام للصلاة فسأل ربّه أن يقبض روحه ساجدا و أن لا يجعل للأرض و لا لشي ء على جسده سبيلا حتّى يبعثه اللّه و هو ساجد ففعل و نحن نمرّ عليه إذا هبطنا و إذا عرجنا و هو على حاله في السجود.

قال جبرئيل: و نحن نجد في العلم أنّه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي اللّه فيقول له الربّ: أدخلوا عبدي الجنّة برحمتي فيقول العبد: بل بعملي فيقول اللّه:

فايسوا عبدي بنعمتي عليه و بعمله فتؤخذ نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسائة سنة وهبت عليه النعم الباقية بلا عبادة في مقابلتها فيقول اللّه: أدخلوا عبدي النار فيجرّ إلى النار فينادي و يقول: برحمتك أدخلني الجنّة فيقول اللّه: ردّوه إليّ فيوقف بين يديه فيقول:

عبدي من خلقك و لم تك شيئا؟ فيقول: أنت يا ربّ فيقول: أ كان ذلك بعملك أو برحمتي؟

فيقول: بل برحمتك فيقول: من قوّاك على عبادتي خمسمائة سنة؟ فيقول: أنت يا ربّ فيقول: من أنزلك في جبل وسط البحر و أخرج الماء العذب من بين المالح و أخرج لك رمّانة كلّ ليلة و سألتني أن اقبضك ساجدا من فعل ذلك كلّه بك؟ فيقول: أنت فقال:

ذلك كلّه برحمتي و برحمتي أدخلك الجنّة الباقية انتهى.

[ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ما نافية أصاب السهم إذا وصل إلى المري ثمّ استعير بالحادثة و النائبة أي ما حدث من حادثة كائنة في الأرض كجدب و آفة في الزروع و غيرها [وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ كمرض و موت و خوف عدوّ و جوع [إِلَّا فِي كِتابٍ مكتوبة مثبتة في علم اللّه أو في اللوح المحفوظ [مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها] و قبل أن نخلق النفوس ليستدلّ ملائكته به على علمه تعالى و الآية صريحة على أنّ جميع الحوادث الأرضيّة قبل دخولها في الوجود و كذا جميع أعمال الخلق مكتوبة في اللوح و ليعرف الملائكة حلمه سبحانه فإنّه تعالى مع علمه أنّهم يقومون على المعاصي خلقهم و رزقهم و أمهلهم و فيها دليل على أنّه عالم بالأشياء قبل وقوعها لأنّ إثباتها في الكتاب محال.

[إِنَّ ذلِكَ أي إثباتها في كتاب مع كثرتها [عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] متعلّق بقوله:

«يَسِيرٌ».

[لِكَيْلا تَأْسَوْا] أخبرناكم بإثباتها كي لا يحصل لكم الحزن و الألم [عَلى ما

ص: 58

فاتَكُمْ من نعم الدنيا يقال: أسى على مصيبة أي حزن [وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ و أعطاكم فإنّ من علم أنّ كلّا من المصيبة و النعمة مقدّر يذهب ما قدّر فواته و يأتي ما قدّر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات و لا فرحه بما هو آت، قيل لبزرجمهر: أيّها الحكيم مالك لا تحزن على ما فات و لا تفرح بما هو آت؟ قال: لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة و الآتي لا يستدام بالحبرة أي بالسرور.

و المراد من الآية نفي الأسى المانع لأمر اللّه و الفرح الموجب للبطر و الاختيال و لذا عقّب بقوله: [وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ] فإنّ من فرح بالحظوظ الدنيوية اختال و افتخر بها لا محالة و المختال المعجب المتكبّر من تخيّل فضيلة تتراءى للإنسان من نفسه و منها يتأوّل لفظ الخيل لما قيل: إنّه لا يركب أحد فرسا إلّا وجد في نفسه نخرة كأنّ الخضراء له عرشت و الغبراء باسمه فرشت و كسرى حامل غاشيته و قيصر راعي ماشيته و إسكندر قهرمان حاشيته.

و في الآية إشارة إلى أنّه يلزم أن يثبت الإنسان على حال في السرّاء و الضرّاء فإن كان لا بدّ له من فرح فليفرح شكرا لا بطرا و إن كان لا بدّ من حزن فليحزن صبرا على بلائه لا ضجرا.

قال قتيبة بن سعيد دخلت على أحياء العرب فإذا أنا بفضاء مملوّ من الإبل الميّتة بحيث لا تحصى و رأيت شخصا على تلّ يغزل صوفا فسألته فقال: كانت باسمي فارتجعها من أعطاها و ما سرّني أنّها لي في مباركها و ما حزنني أنّها خرجت من ملكي. و مثل هذا يكون دأب الصالحين و لا يجري عليهم أحلام التلوين و الاضطراب في اليقين بل لصاحب المال مصيبتان: يسلب عن كلّه و يسأل عن كلّه.

[الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بدل من كلّ مختال فإنّ المتكبّر بالمال يضنّ به غالبا و يأمر غيره به و البخل إمساك المقتنيات عمّا يحقّ إخراجها فيه و في الحديث: أربعة لا يجدون ريح الجنّة و إنّ ريحها ليوجد في مسيرة خمسمائة عام:

البخيل و المنّان و مدمن الخمر و العاقّ للوالدين.

[وَ مَنْ يَتَوَلَ و يعرض عن الإنفاق و لا يخرج من ماله حقّ اللّه [فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ

ص: 59

الْغَنِيُ عنه و عن إنفاقه [الْحَمِيدُ] المحمود في ذاته مستغن عن إقبال الخلق إليه و إدبارهم.

[لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا] أي الملائكة إلى الأنبياء إلى الأمم و هو الأظهر [بِالْبَيِّناتِ و الحجج الواضحة [وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ و أنزلنا مع الرسل جنس الكتب لتكميل القوّة النظريّة و العمليّة فالنزول مع الكتاب شأن الملائكة و الإنزال إليهم شأن الأنبياء [وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] ليعاملوا بينهم بالعدل إيفاء و استيفاء قيل:

المراد من الميزان و إنزاله إنزال أسبابه و إلّا فالميزان من مصنوعات البشر و قيل: المراد نفس الميزان. روي أنّ جبرئيل عليه السّلام نزل بالميزان نفسه فدفعه إلى نوح عليه السّلام و قال:

قومك يزنوا به حتّى يعدلوا في الحقوق.

قال الغزاليّ: إنّ هذا الميزان هو ميزان معرفة اللّه و معرفة كتبه و رسله ليتعلّم الإنسان من أنبيائه و ليس المراد ما يوزن به البرّ و الشعير و لعلّ دليله قوله: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ» (1)، أي مقيما للعدل في جميع أموره فإذا كان اللّه قائما بالعدل في جميع الأمور كان الواجب على العباد أن يقوموا به أيضا. و قال غير الغزاليّ: ما الدليل على العدول عن الظاهر؟ بل المراد من الميزان هو هذا الميزان المعروف.

[وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ] قيل: نزل آدم من الجنّة معه خمسة أشياء من حديد:

السندان و الثاني الكلبتان و الثالث الميقعة- أصله موقعة ما يحدّون به و قد وقعته بالمقيعة فهو وقيع حدّدته بها- و الرابع المطرقة و هي آلة الضرب من الحديد و الخامس الإبرة و هي مسلّة الحديد و في الحديث إنّ اللّه أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد و النار و الملح و عن ابن عبّاس ثلاثة أشياء نزلت مع آدم الحجر الأسود و كان أشدّ بياضا من الثلج و عصا موسى و كانت من اسّ الجنّة طولها عشرة أذرع و الحديد و قيل: المراد و أنزلنا الحديد أي خلقنا كقوله: «وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» و ذلك أنّ أوامره و أحكامه تنزل من السماء و قيل: أصل الحديد ماء و هو منزّل

ص: 60


1- آل عمران: 18.

من السماء.

[فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ] و هو القتال و الدفاع به و ذو قوّة شديدة و يحفظكم من أذى الموذي بالدفع به [وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ كالسكّين و الفأس و المسحاة و ما من صنعة إلّا و الحديد آلتها.

[وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ كأنّه قيل: ليستعملوه و ليعلم اللّه علما يتعلّق به الجزاء و إلّا فهو عالم بمن يعمله في جهاد دينه و مقاتلة أعداء دينه و من يعمل الحديد لإزهاق أرواح المؤمنين و يستعمله في الشرّ [بِالْغَيْبِ حال من فاعل ينصر أي غائبين عنه أي ينصرونه و لا يبصرونه و إنّما يحمد و يثاب من أطاع بالغيب من غير معاينة للمطاع أو حال من مفعول ينصر أي حالكونه تعالى غير مرئيّ لهم.

[إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] على إهلاك من أراد إهلاكه غالب لا يفتقر إلى نصرة الغير و استعمال القوّة في حقّ اللّه بمعنى القدرة و هي الصفة الّتي تتمكّن الحيّ من الفعل و تركه بالإرادة.

قال بعض أهل الأوراد: إنّ ذكر القويّ له خاصيّة ظهور القوّة في الوجود و ما تلاه ذو همّة ضعيفة إلّا وجده القوّة و لا ذو جسم ضعيف إلّا كان له ذلك و لو ذكره مظلوم بقصد إهلاك الظالم ألف مرّة كان له ذلك و كذلك خاصّيّة اسم العزيز وجود الغنى فمن ذكره أربعين يوما في كلّ يوم أربعين مرّة أعانه اللّه و أعزّه. و في الأربعين الإدريسيّة يا عزيز المنيع الغالب على أمره فلا شي ء يعادله قال السهرورديّ: من قرأه سبعة أيّام متواليات كلّ يوم ألفا أهلك خصمه إذا كان الخصم بغير حقّ و إن ذكره في وجه العسكر سبعين مرّة و يشير إليهم بيده فإنّهم ينهزمون.

[سورة الحديد (57): آية 26]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)

[وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً] اللام للقسم أي و باللّه قد بعثنا نوحا إلى قومه و هم بنو قابيل و نوح يقال له: آدم الثاني [وَ إِبْراهِيمَ إلى قومه أيضا و هم نمرد و من تبعه ذكرهما اللّه بالرسالة تشريفا لهما و لأنّهما أبوان للأنبياء و من أوّل الرسل فالبشر كلّهم

ص: 61

من ولد نوح و العرب و العبرانيّون كلّهم من ولد إبراهيم.

[وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا] و في نسلهما [النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ بأن استنبأنا بعض أولادهما و أوحينا إليهم الكتب مثل هود و صالح و موسى و هارون و داود [فَمِنْهُمْ أي فمن ذرّيّة هذين الصنفين أو من المرسل إليهم [مُهْتَدٍ] إلى طريق الحقّ [وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ و خارجون عن طاعة اللّه.

[سورة الحديد (57): الآيات 27 الى 29]

ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

قوله: [ثُمَّ قَفَّيْنا] أي ثمّ أرسلنا و أتبعنا على آثار نوح و إبراهيم و من عاصرهما و بعد عصرهما من الرسل مثل هود و صالح فإنّهما بعد نوح و مثل إسماعيل و إسحاق و يعقوب فإنّهم بعد إبراهيم و بالجملة أرسلنا رسولا بعد رسول حتّى انتهى إلى عيسى و الآثار جمع إثر بالكسر تقول: خرجت على إثره أي عقبه.

قال الحريريّ: يقال شفعت الرسول بآخر أي جعلتها اثنين فإذا بعثت بالثالث فوجه الكلام أن يقال: عزّزت بثالث أي قوّيت كما قال سبحانه «فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» (1)، فمعنى قوله: «وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» أي آتينا بعيسى بعد الرسل فأوّل أنبياء بني إسرائيل موسى و آخرهم عيسى.

[وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ دفعة واحدة [وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ المؤمنين [الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي اتّبعوا عيسى في دينه كالحواريّين و أتباعهم [رَأْفَةً] و هي اللين [وَ رَحْمَةً] و هي الشفقة كما كان الصحابة رحماء بينهم حتّى كانوا أذلّة على المؤمنين و كان أهل الإنجيل

ص: 62


1- يس: 14.

قد أمروا في الإنجيل بالصفح و الإعراض عن مكافاة الناس على الأذى و كانوا متوادّين متحابّين بينهم و وصفوا بالرحمة خلاف اليهود الّذين وصفوا بالقسوة.

[وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها] و رهبانيّة منصوب بفعل مضمر يفسّره الظاهر أي أتباع عيسى ابتدعوا الترهّب و حملوا أنفسهم على هذا الأمر و استحدثوها بينهم و الرهبانيّة المبالغة في العبادة بمواصلة الصوم و لبس المسوح و ترك أكل اللحم و الامتناع عن المطاعم اللذيذة و الملابس الفاخرة و المناكح و التعبّد في الغيران و الرهبة المخافة مع الحزن و الاضطراب و رهبان فعلان من رهب كخشيان من خشي.

و قرئ بضمّ الراء كالرهبان جمع راهب و ركبان جمع راكب و الرهبان لمّا كان اسما لطائفة مخصوصة صار بمنزلة العلم و إن كان جمعا في نفسه و التحقّق بالنصارى و أعراف فقيل: رهبانيّ كما يقال: أعرابيّ و أنصاريّ.

و سبب ابتداعها أنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السّلام فقاتلوا حتّى لم يبق منهم إلّا قليل فخافوا أن يفتتنوا في دينهم فاختاروا الرهبانيّة في قلل الجبال فارّين بدينهم مخلّصين أنفسهم للعبادة منتظرين البعثة النبويّة الّتي وعدها عيسى لهم كما قال تعالى: «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (1).

و روي أنّ اللّه لمّا أغرق فرعون و جنوده استأذن الّذين كانوا آمنوا من السحرة موسى عليه السّلام في الرجوع إلى الأهل و المال بمصر فأذن لهم و دعا لهم فترهّبوا في رؤوس الجبال فكانوا أوّل من ترهّب و بقيت طائفة منهم مع موسى عليه السّلام حتّى توفّاه اللّه ثمّ انقطعت الرهبانيّة بعدهم حتّى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه السّلام.

[ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ما فرضنا الرهبانيّة عليهم في كتابهم و لا على لسان رسولهم [إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع أي ما رعوا جميعا حقّ رعايتها بسبب التثليث و القول بالاتّحاد و الكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عدم تصديق النبيّ العربيّ و نحوها قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من آمن بي و صدّقنى فقد رعاها حقّ رعايتها و من لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون.

ص: 63


1- الصف: 6.

و قال الزجّاج: الاستثناء في قوله: «إِلَّا ابْتِغاءَ» استثناء متّصل تقديره ما فرضناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان اللّه و لكنّ الصحيح أنّا ما فرضنا الرهبانيّة عليهم لكن هم ابتدعوا ذلك و ألزموا أنفسهم ذلك التطوّع و دخلوا عليه فلزمهم تمامه كما أنّ الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يعرض عليه لزمه أن يتمّه فقوله: «فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها» على ضربين أحدهما أن يكونوا قصّروا فيما ألزموه أنفسهم و الثاني و هو الأجود أن يكونوا حين بعث النبيّ فلم يؤمنوا به كانوا تاركين طاعة اللّه فما رعوا تلك الرهبانيّة و دليل قوّة هذا المعنى قوله:

[فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ أي من العيسيّين إيمانا برسول اللّه لأنّ عدم تصديق محمّد يلزمه تكذيب عيسى لأنه بشّر به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالّذين عملوا منهم و صدّقوا بما يجب عليهم أعطيناهم ما يحسن و يليق لهم من الأجر.

[وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي من العيسيّين خارجون عن حدّ الإيمان روي أنّ نفرا من الصحابة أخذهم الخوف و الخشية حتّى أراد بعضهم أن يعتزل عن النساء و الإقامة على رؤوس الجبال و ترك الأكل و الشرب اللذيذ و بعضهم الخصاء فنهاهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك كلّه و قال: لا رهبانيّة في الإسلام و رهبانيّة امّتي في المسجد.

قال بعض أهل التحقيق: إنّ الكامل من الرجال من سدّ باب الابتداع و لم يزد في التكاليف حكما واحدا و لا يجعل ورده و ذكره غير ما ورد في الكتاب و السنّة فيكون حينئذ ممتثلا لا مخترعا و قد شاهدنا بعض الناس متسرّعين إلى بعض النوافل مثل وضع الخواتم العديدة في أصابعهم لكنّهم متكاسلون عن القيام بحقوق الواجبات و لا يقومون بفرض واحد على وجهه.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بالرسل المتقدّمه [اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه [وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني محمّدا و في إطلاقه إيذان بأنّه علم فرد الرسالة لا يذهب الوهم إلى غيره [يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ نصيبين و أجرين و الكفل الحظّ الّذي فيه الكفالة كأنّه تكفّل بأمره نصيبا لإيمانكم بمن تقدّم من الأنبياء و نصيبا لإيمانكم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يوم القيامة حسبما نطق به قوله تعالى: «يَسْعى

ص: 64

نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ» و هو الضياء الّذي تمشون به على الصراط [وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ما أسلفتم من الكفر و المعاصي [وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ في المغفرة و الرحمة.

[لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ لا مزيدة مؤكّدة مثل قوله (1): «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» و إنّما يحسن إدخال مثل هذا اللام المزيدة في كلام أواخره أو أوائله جحد و تقدير الكلام إن تتّقو اللّه و تؤمنوا باللّه و رسله يؤتكم كذا و كذا ليعلم الّذين لم يسلموا من أهل الكتاب [أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أن هي المخفّفة و الاسم ضمير الشأن و المعنى أنّ الّذين لم يؤمنوا لا أجر لهم و لا نصيب من فضل اللّه.

[وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ] فأتى المؤمنين منهم أجرين و حاصل ليعلموا أنّهم لا ينالوا شيئا من الفضل و الكفلين و المغفرة و لا يتمكّنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الّذي هو الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّ الفضل بيده سبحانه و لا يعطيه إلّا لمن آمن به و قيل: إنّ المراد من فضل اللّه هنا النبوّة أي ليعلم أهل الكتاب أنّهم لا يقدرون على نبوّة الأنبياء و لا على صرفها عمّن شاء اللّه أن يخصّه بها فيصرفونها عن محمّد إلى من يحبّونه [وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تمّت السورة

ص: 65


1- الأعراف: 11.

سورة المجادلة

اشارة

من قرأها كتب من حزب اللّه يوم القيامة.

هي اثنتان و عشرون آية مدنيّة أو إلّا آية منها.

ص: 66

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المجادلة (58): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5)

سمع مجاز مرسل عن أجاب بعلاقة السببيّة، و المجادلة المفاوضة على سبيل الجدل و المبالغة من جدلت الحبل أي أحكمت فتله و المراد هنا المكالمة بالخشونة و المعنى قد أجاب اللّه دعاء المرأة الّتي تكالمك في حقّ زوجها و تستفتي في شأن زوجها في ظهاره إيّاها.

[وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ و الشكاية و الشكاة و الشكوى إظهار البثّ و المكروه و الشكوة سقاء صغير يجعل فيه الماء و هو استعارة كقولك: بثثت له ما في وعائي و نفضت ما في جرابي إذا ظهرت ما في قبلك.

نزلت في خولة بنت ثعلب بن مالك الخزرجية و زوجها أوس بن الصامت أخو عبادة روي أنّها كانت حسنة البدن رآها أوس و هي تصلّي فاشتهى مواقعتها فلمّا سلّمت راودها و أبت و كان به خفّة فغضب عليها و قال: أنت عليّ كظهر امّي و كان أوّل ظهار وقع في الإسلام ثمّ ندم على ما قال: و كان الظهار و الإيلاء من طلاق الجاهليّة فقال

ص: 67

لها: ما أظنّك إلّا و قد حرمت عليّ فشقّ ذلك عليها فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه إنّ زوجي أوس أبو ولدي و ابن عمّي و أحبّ الناس إليّ ظاهر منّي و ما ذكر طلاقا و قد ندم على فعله فهل من شي ء يجمعني و إيّاه؟ و ذكرت تفاني أهلها و أنّ لها صبية صغارا و قالت: إن ضممتهم إليّ جاعوا و إن ضممتهم إلى أبيهم ضاعوا فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أظنّ أنك حرمت عليه فجعلت تراجع رسول اللّه مقالتها الاولى و كرّر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مقالته عليها فقالت: أشكو إلى اللّه مما لقيت من زوجي حال فاقتي و وحدتي و قد طالت معه صحبتي و نفضت له بطني و صرت عقيما لا ألد بعد و كانت في كلّ ذلك ترفع رأسها إلى السماء استنزالا للأمر الإلهيّ حتّى نزل جبرئيل بهذه الآيات الأربع قبولا لشكواها فكانت سببا لظهور حكم الظهار و «قد» تدخل على ماض متوقّع.

[وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما] أي يعلم تخاطبكما و المحاورة رجع الكلام من الحور بمعنى الرجوع و منه في الدعاء نعوذ باللّه من الحور بعد الكور أي من الرجوع إلى النقصان بعد وصول الزيادة أو إلى الوحشة بعد الانس و ذلك التحاور لأنّ المرأة تراجع الرسول في طلب التحليل و الرسول لا يحكم به و يدافعها بجواب ينبئ عن التوقّف و ترقّب الوحي.

[إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] قال صاحب تفسير روح البيان: إنّ هذه المرأة هي الّتي وعظت عمر بن الخطّاب في أيام خلافته و هو راكب على حمار في طريق و الناس معه فاستوقفته و وعظته فقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا ثمّ قيل لك: عمر ثمّ قيل لك:

أمير المؤمنين فاتّق اللّه يا عمر فإنّه من أيقن الموت خاف الفوت و من أيقن الحساب خاف العذاب فقيل لعمر: أ تقف لهذا العجوز هذا الوقوف الطويل؟ فقال عمر: هي خولة سمع اللّه قولها من سبع سماوات و لا يسمع كلامها عمر؟.

قال بعض أهل التحقيق: من أكبر الذنوب أن يقول الرجل لأخيه: اتّق اللّه و لا تفعل كذا فيقول في جوابه: عليك نفسك. و الإنسان لا يستغني عن تنبيه و إيقاظ و ينبغي أن يكون الإنسان كالنحل يأخذ من النبات الطيّب و الأزهار المعطّرة ثمّ يخرجه عسلا فيه شفاء من كلّ داء و شمعا و ضياء لنفسه قال الشاعر:

ص: 68

المرء لو لا عرفه فهو الدميّ و المسك لو لا عرفه فهو الدم

العرف الأوّل بضم العين بمعنى المعروف و الثاني بمعنى الرائحة و الدميّ جمع دمية الصور المنقّشة من الرخام و العاج و في زماننا يقال له المجسّمة.

[الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ أيّها المؤمنون فلا يلحق بهم الذمّي لأنّه ليس من أهل الكفّارة من النساء، و الظهار مصدر ظاهر الرجل أي قال لزوجته: أنت عليّ كظهر امّي و يعبّر عن البطن بالظهر و كنّي عن البطن بالظهر الّذي هو عمود البطن لمراعاة الأدب في الكلام لئلّا يذكر ما يقارب الفرج و المعنى إنّ الّذين يقولون لنسائهم:

أنتنّ كظهور امّهاتنا.

[ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ يعني ما اللواتي تجعلونهنّ من الزوجات كالامّهات بامّهاتهم [إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ إن نافية بمعنى ما امّهاتهم في الحقيقة إلّا اللّائي جمع الّتي أي النساء اللّاتي ولدن المظاهرين فلا تشبه بهنّ في الحرمة إلّا من ألحقها الشرع بهنّ من أزواج النبيّ و مثل المرضعات و منكوحات الآباء لكرامتهنّ فدخلن بذلك في حكم الأمّهات و لكنّ الزوجات فأبعد شي ء من الأمومة.

[وَ إِنَّهُمْ أي إنّ المظاهرين منكم [لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ عند الشرع و العقل و الطبع لأنّ الزوجة ليست بالأمّ و لا ممّن ألحقه الشرع بالامومة فهدا التشبيه منكر غير معروف مطلقا [وَ زُوراً] و باطلا و كذبا منحرفا عن الحقّ، و الزور بالتحريك الميل و يقال للكذب: زور بالضمّ لكونه مائلا عن الحقّ. فإن قلت: قوله: أنت عليّ كظهر أمّي إنشاء لتحريم الاستمتاع بها و ليس بخبر و الإنشاء لا يوصف بالكذب قلنا:

هذا من قبيل إطلاق السبب على المسبّب لأنّ هذا الإنشاء يتضمّن إلحاق المحلّلة بالأمّ المحرّمة و هذا الإلحاق مناف لمقتضى الزوجيّة فيكون كاذبا لا محالة و في الحديث قال رسول اللّه: ألا انبّئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول اللّه قال: الإشراك باللّه و عقوق الوالدين و كان متّكئا و قال: ألا و قول الزور و شهادة الزور فما زال يقولها حتّى قلنا:

لا يسكت.

[وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ] أي مبالغ في العفو و المغفرة لما سلف إمّا على الإطلاق

ص: 69

على مذهب الأشاعرة أو بالمتاب عنه على مذهب الاعتزال.

[وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] أي الّذين يقولون ذلك القول المنكر ثمّ يعودون إلى ما قالوا، اللّام و إلى يتعاقبان كثيرا نحو يهدي للحقّ و إلى الحقّ و المراد إذا عادوا إلى ما قالوا بالتدارك قال ابن عبّاس: العود في الآية المراد الندم فقال: معناه يندمون و يرجعون إلي الالفة و قال الفرّاء: المعنى يرجعون عمّا قالوا يقال: عاد لما فعل أي رجع و نقض ما فعل و يحتمل أن يقال: عاد لما فعل يريد فعله مرّة اخرى و هو أن يكرّر لفظ الظهار عن أبي العالية و احتجّ بأنّ لفظ العود يدلّ على تكرير القول و ردّه أبو عليّ الفارسيّ ليس هذا كما ادّعوا لأنّ العود قد يكون إلى شي ء لم يكن عليه قبل و قد سمّيت الآخرة معادا و لم يكن فيها أحد ثمّ صار إليها. و قال الأخفش: تقدير الآية «و الّذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا» ثمّ يعودون إلى نسائهم و عليهم تحرير الرقبة لما نطقوا به و قال: التقديم و التأخير كثير في التنزيل.

و أمّا ما ذهب إليه أئمّة الهدى من آل محمّد عليهم السّلام فهو أنّ المراد بالعود إرادة الوطي و نقض القول الّذي قاله فعليه تحرير رقبة قبل الوطي فإنّ الوطي لا يجوز إلّا بعد الكفّارة كما قال سبحانه: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» أي من قبل أن يجامعها و التحرير هو أن يجعل الرقبة المملوكة حرّة بالعتق بأن يقول المالك لمن تملّكه: أنت حرّ.

و بالجملة فالنكاح باق و حرمة الوطي أيضا باق ما لم يكفّر و نزول بالتكفير.

[ذلِكُمْ أي الحكم بالكفّارة أيّها المؤمنون [تُوعَظُونَ بِهِ الوعظ زجر يقترن بتخويف أي تزجرون به من ارتكاب المنكر المذكور فإنّ الغرامات مزاجر من تعاطي الجنايات و التباعد عن الباطل فيحصل من هذا الحكم التدارك للمظاهر و لغير المظاهر الاجتناب عن ارتكاب مثله [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] من قليل و كثير فيجازيكم بها.

[فَمَنْ لَمْ يَجِدْ] المظاهر و لا يتمكّن من تحرير الرقبة بأن كان فقيرا وقت التكفير [فَصِيامُ شَهْرَيْنِ عليه [مُتَتابِعَيْنِ ليس فيها رمضان و لا الأيّام المحرّمة صومها كالعيدين بحيث لا يفعل يوما عن يوم و لا شهرا عن شهر بالإفطار و التتابع عند أكثر الفقهاء و قال

ص: 70

أصحابنا الإماميّة: إنّه إذا صام شهرا و من الثاني شيئا و لو يوما و أحدا ثمّ أفطر لغير عذر فقد أخطأ إلّا أنّه يبني عليه و لا يلزمه الاستيناف و إن أفطر قبل ذلك استأنف و متى بدأ بالصوم و صام بعض ذلك ثمّ وجد الرقبة لا يلزمه الرجوع إلى التحرير و إن رجع كان أفضل و قال قوم: إنّه يلزمه الرجوع إلى العتق.

[فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً] أي من لم يطق الصوم لعلّة أو كبر فعليه إطعام ستّين مسكينا و المسكين- و يفتح ميمه- من لا شي ء له أوله ما لا يكفيه و أسكنه الفقر أي قلّل حركته، لكلّ مسكين نصف صاع عند أصحابنا و هو مدّان فإن لم يقدر فمدّ هذا إذا كان حرّا و أمّا إذا كان المظاهر عبدا فعليه الصوم إلّا إذا أمكنه المولى عن ثمن الرقبة فحينئذ لا يجوز له الصوم.

[ذلِكَ البيان و التعليم [لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ و تعملوا بحكمه و ترفضوا ما كنتم عليه في جاهليّتكم.

[وَ تِلْكَ إشارة إلى الأحكام المذكورة [حُدُودُ اللَّهِ الّتي لا يجوز تعدّيها و تجاوزها و الحدّ الحاجز بين الشيئين اللّذين يمنع اختلاط أحدهما بالآخر [وَ لِلْكافِرِينَ الّذين لا يقبلون الحدود [عَذابٌ أَلِيمٌ .

[إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي يشاقّونهما و يعادونهما و يكونون في حدّ غير حدّ هما و في شقّ غير شقّهما و قيل: المحادّة مفاعلة من لفظ الحديد و المراد المقابلة سواء كان في ذلك حديد حقيقة أو كان ذلك مخالفة شديدة شبيهة بالخصومة بالحديد و و يضعون حدودا غير حدودهما قال صاحب تفسير روح البيان: كالامراء السوء الّذين وضعوا أمورا خلاف ما حدّه الشرع و سمّوها القانون.

[كُبِتُوا] أي أخزوا و صرعوا منكوسا و ذلّوا و العبارة تصلح أن يكون دعاء عليهم و إخبارا عمّا سيكون و أتى بالماضي لتحقّقه أي سيكبتون [كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفّار الأمم الماضية [وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ حال من واو الجمع في كبتوا أي و الحال إنّا قد أنزلنا آيات واضحات فيما فعلنا بمن حادّ اللّه من قبلهم من الأمم. فإن قيل: إنّ الإنزال نقل الشي ء من الأعلى إلى الأسفل و الآيات الّتي هي

ص: 71

من الكلام من الأعراض القارّة فكيف قال: أنزلنا؟ فالمراد: أنزل ما يتلقّف من اللّه و يرسل إلى عباده مثل جبرئيل فيسند الإنزال إليها مجازا فكونها المقصودة منه و يصدق على الآيات لفظ النزول لأنّها نازلة من السماء.

[وَ لِلْكافِرِينَ بالآيات [عَذابٌ مُهِينٌ يذهب بغيرهم من الإهانة الحاصلة بالعذاب.

[سورة المجادلة (58): الآيات 6 الى 10]

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (6) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (7) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

يوم منصوب باذكر المقدّر تهويلا له و المراد يوم القيامة أي يحييهم بعد الموت للجزاء [جَمِيعاً] كلّهم فيكون تأكيدا للضمير أو حالا أي مجتمعين [فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا] من القبائح ببيان صدورها أو بتصويرها في تلك النشئة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الأشهاد تشهيرا لحالهم [أَحْصاهُ اللَّهُ كأنّه قيل: كيف ينبّئهم بأعمالهم و هي أعراض فانية متلاشية؟ فقيل: أحصاه اللّه و أحاط بها عددا و حفظا لم يفت عن علمه شي ء و الإحصاء مأخوذ من لفظ الحصى إذ أصله العدد بآحاد الحصى للتقوّي على الضبط [وَ نَسُوهُ أي و الحال أنّهم قد نسوه لكثرته أو لتهاونهم حين ارتكبوه [وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] لا يغيب عنه أمر من الأمور و الشهود بمعنى الحضور و المراد بالحضور حضور العلمي لا الحضور الجسميّ.

ص: 72

[أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ بيان على شمول شهوده تعالى و الهمزة للإنكار الّذي مقرّر للرؤية و المعنى ألم تعلم علما يقينيّا بمرتبة المشاهدة و الرؤية أنّه تعالى يعلم ما في السماوات و ما في الأرض من الموجودات قال ابن عبّاس: إنّها نزلت في ربيعة و حبيب ابني عمرو و صفوان بن اميّة كانوا يتحدّثون فقال أحدهم:

أ ترى اللّه يعلم ما نقول: فقال الآخر: يعلم بعضا و قال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلم كلّا لأنّ من علم بعضا بغير سبب فقد علمها كلّها فنزلت الآية.

[ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ] «ما» نافية و يكون تامّة بمعنى يقع و يوجد و نجوى فاعله و هو مصدر بمعنى التناجي كالشكوى يقال: نجاه نجوى أي سارّه كناجاه المناجاة و النجوى السرّ الّذي يكتم و أصله أن تخلو في نجوة و مرتفع من الأرض منفصل بارتفاعه عمّا حوله كأنّ المتناجي بنجوة من الأرض لئلا يطّلع عليه أحد و المعنى أنّه ما يتسارّ ثلاثة [إِلَّا هُوَ] تعالى [رابِعُهُمْ أي جاعلهم أربعة من حيث يشاركهم في الاطّلاع عليها [وَ لا خَمْسَةٍ] أي و لا نجوى خمسة نفر [إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ثمّ عمّم الحكم فقال: [وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ أي أقلّ ممّا ذكر لا الاثنين و الواحد فإنّ الواحد أيضا يناجي نفسه [وَ لا أَكْثَرَ] كالستّة و ما فوقها [إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ بالعلم و الإحاطة [أَيْنَ ما كانُوا] و في أيّ مكان و لو كانوا تحت الأرض ثمّ إنّ هذه المعيّة مع المؤمن و الكافر لكن له سبحانه معيّة اللطف و التقرّب ببعض عباده المخصوصين بالفيض.

[ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا] و يخبرهم أعمالهم في الدنيا [يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لأنّ نسبة ذاته المفيضة للعلم ألى الكلّ سواء.

[أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ نزلت في اليهود و المنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم و يتخلّفون ثلاثة و خمسة و يتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين يريدون أن يغيضوهم فنهاهم رسول اللّه ثمّ عادوا لمثل فعلهم و الخطاب للرسول و الهمزة للتعجّب من حالهم [بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ عطف على قوله: «يَعُودُونَ» داخل في حكمه و بيان لما نهوا عنه أي بما هو إثم في نفسه و عدوان للمؤمنين و تواص بمعصية الرسول و العدوان و المعصية خلاف الطاعة.

ص: 73

[وَ إِذا جاؤُكَ أهل النجوى [حَيَّوْكَ و التحيّة في الأصل مصدر حيّاك على الإخبار من الحياة فمعنى حيّاك اللّه جعل لك حياة ثمّ استعمل للدعاء ثمّ غلب في الإطلاق عليه السّلام [بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي بشي ء لم يقع من اللّه أن يحيّك به فكانوا يقولون:

السام عليك و السام بلغتهم الموت أو القتل بالسيف و هم يوهمون أنّهم يقولون: السلام عليك و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يردّ عليهم «عليكم» بدون الواو.

[وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي فيما بينهم إذا خرجوا من عندك: [لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي هلّا يعذّبنا اللّه و يغضب علينا بجرأتنا علي الدعاء بالشرّ عليه لو كان نبيّا حقّا [حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها] أي كافيهم جهنّم في التعذيب من حسبه إذا كفاه يصلونها و يقاسون حرّها و إن لم يعجّل تعذيبهم لحكمة [فَبِئْسَ الْمَصِيرُ] و المقرّ، و الفاء في فبئس لما فيه من معنى التعقيب.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بألسنتهم و قلوبهم [إِذا تَناجَيْتُمْ في أنديتكم و خلواتكم [فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ كما يفعله المنافقون و اليهود [وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى و ما يتضمّن خير المؤمنين و ذكر اللّه و قراءة القرآن و إصلاح الناس.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ و المضاف محذوف أي اتّقوا عذاب اللّه و ما يفضي إلي سخطه [إِنَّمَا النَّجْوى المعهودة الّتي هي التناجي بالإثم بقرينة ليحزن [مِنَ الشَّيْطانِ لا من غيره لأنّه المزيّن لها فكأنّها منه [لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا] و الحزن بضمّ الحاء بعده السكون متعدّ من الباب الأوّل و الحزن بفتحين لازما من الباب الرابع و الحزن و الحزن خشونة في الأرض و خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغمّ و يضادّه الفرح فالمعنى أنّ النجوى الممنوعة من الشيطان ليجعل قلوب المؤمنين محزونة و يشوّش قلوبهم و يتوهّمون أنّه تصيبهم نكبة أو أمر موحش، و في الحديث إذا كنتم ثلاثة فلا يناج اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزّنه.

[وَ لَيْسَ أي الشيطان أو التناجي [بِضارِّهِمْ بالّذي يضرّ المؤمنين [شَيْئاً] من الأشياء [إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بمشيّته و إرادته أو بعلمه و إنّ كان يوجب الحزن للمؤمنين لكن إذا سلّمت عاقبته لا يكون ضررا في الحقيقة و هذه نكتة كلاميّة اصوليّة

ص: 74

إذ الضرر إذا كانت عاقبته الثواب لا يكون ضررا في الحقيقة و النفع إذا كانت عاقبته العذاب لا يكون نفعا مثل الجهاد لأنّ سبب الجهاد أمره تعالى و هو يلحقهم الآلام و الأمراض عقيب ذلك لكن هذا ليس بضرر بل نفع لهم و قيل: إنّ الآية المراد بها الأحلام الّتي يراها الإنسان في نومه فيحزّنه.

روي أنّ فاطمة عليها السّلام رأت كأنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام أكلا من أطيب جزور بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهما فماتا فلمّا أصبحت سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سأل هو جبرئيل و جبرئيل ملك الرؤيا فقال: لأعلم لي به فعلم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه من الشيطان.

[وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ و الشيطان يناجي النفس الأمّارة و يتزيّن لها القبائح و المعارضات ليقع القلب و الروح في الاضطراب و الحزن للتقاعد عمّا أمره اللّه و ينقطع عن السير فليكن العبد على المعالجة دائما بتفويض الأمور إليه و يشتغل بما هو عليه.

قوله [سورة المجادلة (58): الآيات 11 الى 15]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15)

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] يعني المخلصين [إِذا قِيلَ لَكُمْ من أيّ قائل كان من إخوانكم توسّعوا و لينفسح بعضكم عن بعض و لا تتضامّوا [فِي الْمَجالِسِ متعلّق بقيل أو بقوله «تَفَسَّحُوا» و الصحيح الثاني لأنّ البيهقيّ صرّح في تاج المصادر بأن التفسّح يعدّى بفي [فَافْسَحُوا] فتوسّعوا [يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فيما تريدون من المكان و الصدر و الرزق و القبر فإنّ الجزاء من جنس العمل و الآية عامّة في كلّ مجلس خيرا اجتمع

ص: 75

فيه المؤمنون سواء كان مجلس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كانوا يتضامّون تنافسا في القرب منه أو مجلس الذكر أو الجمعة و في الحديث: لا يقيمنّ أحدكم الرجل من مكانه و مجلسه ثمّ يخلفه فيه و لكن تفسّحوا و توسّعوا.

روي إنّ رجلا من الفقراء دخل المسجد و أراد أن يجلس بجنب واحد من الأغنياء فلمّا قرب منه قبض الغنيّ إليه ثوبه فرأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك فقال للغنيّ: خشيت أن يعديه غناك أو يعديك فقره [وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا] يقال: نشز الرجل إذا ارتفع عن مكانه و كذلك النشز بفتحتين المكان المرتفع من الأرض و المعنى إذا قيل: لكم قوموا للتوسعة على المقبلين و لمن جاء بعدكم [فَانْشُزُوا] و ارتفعوا و قوموا و لا تتثاقلوا عن القيام و توسّعوا لإخوانكم لضرورة داعية إليه أو للتحبّب و المواساة و في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يكرم أهل بدر فأقبلت جماعة منهم فلم يوسّعوا لهم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قم يا فلان فأقام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المجلس بعدد المقبلين من أهل بدر فتغامز به المنافقون أنّه ليس من العدل يقيم أحدا من مجلسه و شقّ ذلك على من أقيم من مجلسه و عرف رسول اللّه الكراهة في وجوههم فأنزل اللّه الآية.

[يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ جواب لأمر أي من فعل ذلك طاعة للأمر يرفعهم اللّه بالنصر و الإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة لأنّ من تواضع رفعه اللّه و من تكبّر وضعه.

[وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي و يرفع العلماء منهم خاصّة و هو من عطف الخاصّ على العامّ للدلالة على طبقاتهم [دَرَجاتٍ أي مراتب مرتفعة بسبب ما جمعوا من العلم و العمل و العمل مع العلم لا يدرك شأوه العمل العاري عن العلم و إن كان العامل في غاية الصلاح قال ابن عبّاس: تمّ الكلام عند قوله: «مِنْكُمْ» و ينتصب «وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» بفعل مضمر تقديره و يرفعهم درجات أي إلى درجات أو رفع درجات أو على الحاليّة أي ذوي درجات.

[وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] عالم لا يخفى عليه شي ء و العمل لا بدّ و أن يكون

ص: 76

حسبما قرّره الشارع و بيّنه العلماء الربّانيّون و هم الأئمّة الاثنا عشر لأنّهم أهل البيت و أهل البيت أدرى بما في البيت و للعلماء إطلاقات كما قالوا: نحن العلماء و شيعتنا المتعلّمون و الباقي همج رعاع فالمتعبّد بغير طريقتهم و من غير علمهم كحمار الطاحونة يدور و لا يقطع المسافة و العالم من شأنه أن يجمع مع علمه العمل و كلّ علم لم يوطد بعمل فإلى ذلّ يصير و العلماء أيضا لهم درجات من الشرف في الزيادة و النقصان.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] خالصا [إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً] و كالمتوه سرّا في بعض شؤونكم فقدّموا قبل أن تسارّوه صدقة للفقراء و أراد بذلك تعظيم الرسول و أن يكون ذلك سببا لأن يتصدّقوا فيوجروا عليه فلمّا نهوا عن المناجاة حتّى يتصدّقوا ضنّ كثير من الناس فلم يناجه أحد إلّا عليّ بن أبي طالب فإنّه عليه السّلام كان له دينار فباعه بعشرة دراهم و ناجى رسول اللّه عشر نجوات.

و قال بعض أهل التفسير: و كان ذلك الحكم عشر ليال أو أقلّ و نسخت بآية «أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا» الآية.

و بالإسناد إلى مجاهد قال: قال عليّ: إنّ في كتاب اللّه لآية ما عمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها بعدي و هي آية النجوى و في الخصال عنه عليه السّلام في احتجاجه على أبي بكر قال: فاشدك باللّه أنت الّذي قدّم بين يدي نجواه لرسول اللّه صدقة فناجاه و عاتب اللّه قوما بقوله: «أَ أَشْفَقْتُمْ الآية» أم أنا؟ فقال أبو بكر: بل أنت و بالجملة نزلت الآية حين أكثر الناس عليه السؤال حتّى أسأموه و أملّوه فأمرهم اللّه بتقديم الصدقة للفقراء عند المناجاة فكفّ الناس أمّا الفقير فلعسرته و أمّا الغنيّ فلشحّه ثمّ نسخت بقوله: «أَ أَشْفَقْتُمْ» و هو و أن كان متّصلا به تلاوة لكنّه متراخ عنه نزولا.

[ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ أي ذلك التصدّق أنفع لكم من الإمساك [وَ أَطْهَرُ] لأنفسكم من درن البخل الناشي من حبّ الدنيا و هذا يشعر بالندب لكن قوله: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» منبئ عن الوجوب لأنّه ترخيص لمن لم يجد فهو غفور لهم و رحيم بهم.

[أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ و المعنى أخفتم الفقر؟

ص: 77

و المفعول محذوف و أفرد الصدقة أوّلا لكفاية شي ء منها و جمع ثانيا نظرا إلى كثرة التناجي و المناجي [فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا] و شقّ عليكم ذلك [وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخّص لكم في أن لا تعلوه و أسقط عنكم تقديم الصدقة و «إذ» في الآية فيها معنى الظرفيّة أي إنّكم تركتم ذلك فيما مضى و تجاوز اللّه عنكم فتداركوه بما تؤمرون به بعد هذا فإن فرّطتم فيما أمرتم به من تقديم الصدقات:

[فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ] و تداركوه بالمواظبة على إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة المفروضة [وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر الأوامر [وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة و الباطنة و في تخصيص الصلاة و الزكاة بالذكر إشارة إلى إنافة قدرهما و علوّ شأنهما فإنّ الصلاة رئيس الأعمال البدنيّة و بها يتحقّق صورة العبوديّة و معناها و هي مخّ العبادة و العبوديّة من الخضوع و الذلّة و التكبير و التهليل و الركوع و السجود و الصلاة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من تركها فهو محروم من تمام هذه الكيفيّة الجامعة و الويل لتاركها و إنّ الزكاة امّ الأعمال الماليّة بها يطهّر القلب من دنس البخل فإنّها هي المطهّرة و بها ينمو المال في الدنيا لأنّه سبحانه يمحق الربا و يربي الصدقات.

[أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تعجيب من حال المنافقين الّذين يتّخذون اليهود أولياء و يناصحونهم و يتحاببون إليهم بالمعاشرة أي ألم تنظر إلى هؤلاء الّذين يتولّون من الموالاة لا من الإعراض أي والوا قوما غضب اللّه عليهم و هم اليهود كما ينبئ عن هذا المعنى قوله: «مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ» و الغضب حركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام و هو بالنسبة إليه تعالى نقيض الرضا [ما هُمْ مِنْكُمْ أي المتولّين لمن غضب اللّه عليه منكم [وَ لا مِنْهُمْ أي و ليسوا من القوم المغضوب عليهم لأنّهم منافقون مذبذبون و إن كانوا كفّارا في الواقع لكنّهم ليسوا من اليهود.

[وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ أي يحلفون و اللّه إنّا لمسلمون و يدّعون الإسلام و هو عطف على تولّوا [وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أي هم في يمينهم عالمون بكذب حلفهم فإنّ الحلف على ما يعلم أنّه كذب في غاية القبح و الآية نزلت حين ما كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجرة

ص: 78

من حجراته فقال: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار و ينظر بعين شيطان فدخل عبد اللّه بن نبتل- كجعفر بتقديم النون على الباء الموحّدة- و كان اللعين أزرق فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له علام تشتمني أنت و أصحابك؟ فحلف باللّه ما فعل فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعلت فانطلق بأصحابه فحلفوا باللّه ما سبّوه فنزلت الآية انتهى.

[أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب ذلك التولّي و النفاق [عَذاباً شَدِيداً] و تنكير العذاب يشعر بشدّته [إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي تمرّنوا على هذا العمل السيّئ و اعتادوا و يستفاد معنى الاعتياد و التمرين من «كان» الدالّة على الزمان الماضي أي ذلك كان دأبهم و بئس العمل عملهم و هو النفاق و موالاة أعداء اللّه.

[سورة المجادلة (58): الآيات 16 الى 22]

اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)

كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

[اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الكاذبة الفاجرة الّتي يحلفون بها عند الحاجة [جُنَّةً] و هي الترس الّذي يجنّ صاحبه و يستره، وقاية و سترة على أكاذيبهم و يحفظ نفوسهم و أموالهم [فَصَدُّوا] أي منعوا الناس و صرفوهم [عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دين اللّه و تثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام [فَلَهُمْ بسبب كفرهم و صدّهم [عَذابٌ مُهِينٌ مخز بين أهل أهل المحشر و قوله: «عَذابٌ مُهِينٌ» وعيد ثان بوصف آخر لأنّ العذاب الأوّل موصوف بالشدّة و الثاني بالخزي قيل: الأوّل عذاب القبر و هذا عذاب الآخرة.

ص: 79

[لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عذابه [شَيْئاً] قليلا، من الإغناء و إذا دخلوا النار لا تنفعهم أموالهم الّتي صانوها و أولادهم الّذين ربّوهم فإنّ يوم القيامة يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون [أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات القبيحة [أَصْحابُ النَّارِ] و ملازموها [هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا و تقديم ضميرهم لتقوية الإسناد و رعاية الفاصلة لا للحصر لخلود غير المنافقين فيها أيضا من الكفّار.

[يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً] أي اذكر يوم يجمعهم اللّه [فَيَحْلِفُونَ في ذلك اليوم [لَهُ أي للّه على أنّهم مسلمون مخلصون كما قالوا: «وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» [كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا.

[وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الكاذبة [عَلى شَيْ ءٍ] مصدره الحسبان و يقارب الحسبان الظنّ و لكنّ الظنّ هو أن يخطر النقيضان بباله فيغلب أحدهما الآخر و الحسبان هو أن يحكم لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله [أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ المبالغون في الكذب حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علّام الغيوب و المراد من حرف التنبيه في قوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ» بيان و تنبيه على توغّلهم في النفاق موتا و حياة.

[اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ من حذت الإبل إذا استوليت عليها و جمعتها و سقتها سوقا عنيفا أي ملكهم الشيطان لطاعتهم له في كلّ ما يريد منهم [فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أي كان بالاستيلاء سببا لنسيان اللّه فلم يذكروه بقلوبهم و لا بألسنتهم [أُولئِكَ المنافقون [حِزْبُ الشَّيْطانِ و جنوده و أعوانه و الحزب الفريق الّذي يجمعه مذهب واحد [أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ الموصوفون بالخسران حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم.

قال بعض المشايخ: علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل و الملابس و يشغل قلبه عن القيام لشكرها و يشغل لسانه بالكذب عن ذكر ربّه و سمعه عن الحقّ بسماع اللهو و متى ما احتجب القلب عن التذكّر صار وطن إبليس و جنوده.

ص: 80

[إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي يعادونهما و يتعدّون حدودهما [أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي إنّهم في جملة من هو أذلّ خلق اللّه لأنّ ذلّة أحد المتخاصمين على مقدار عزّة الاخرى و حيث كانت عزّة اللّه غير متناهية كانت ذلّة من يحادّه كذلك و ذلك بالسبي و القتل في الدنيا و عذاب النار في الآخرة.

[كَتَبَ اللَّهُ أي قضى و أثبت في اللوح [لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي و لمّا جرى الكلام مجرى القسم بقوله «كَتَبَ اللَّهُ» فأورد الكلام كجواب القسم بقوله: «لَأَغْلِبَنَّ» و المراد بالغلبة الحجّة و السيف أو بالعاقبة لأنّهم الفائزون بالعاقبة الحميدة و سبب نزول الآية أنّ عبد اللّه بن ابيّ بن سلول رئيس المنافقين قال: أ تظنّون الروم و الفارس كبعض القرى الّتي غلبتم عليها؟ و اللّه إنّهم لأكثر عددا و أشدّ بطشا من أن تظنّوا فيهم ذلك فنزل الآية.

[إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] تعليل للغلبة، قويّ في نصرة أوليائه لا يغلب عليه في مراده.

فإن قلت: إذا كان اللّه قويّا غالبا فما وجه انهزام المسلمين في بعض الأحيان مع أنّه وعد النصرة؟

فالجواب أنّه لو شدّد المحنة على الكافر و الباطل في جميع الأوقات و أزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الضروريّ بأنّ الإيمان حقّ و ما سواه باطل و لو كان كذلك لبطل التكليف و الثواب و العقاب فلهذه الحكمة تارة يسلّط المحنة على المؤمنين و اخرى على الكافرين لتكون الشبهات باقية و المكلّف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل.

قوله: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو لكلّ أحد و المراد بنفي الوجدان نفي الموادّة أي إنّ الإيمان يفسد بموادّة الكفّار و لا يصدر من كامل الإيمان هذا الأمر و من أخلص توحيده لا يأنس إلى أعداء اللّه و إلى مبتدع و لا يجالسه و لا يؤاكله و يظهر من نفسه العداوه و من داهن مبتدعا سلبه اللّه التوفيق نعم إذا كانت المعاشرة مع الكفّار بسبب هدايته أو بسبب معاملة مشروعة فحينئذ غير ممنوعة بل في بعض الموارد لازمة و الموادّة المحرّمة هي إرادة منافع الكفّار دينا و دنيا مع كونه كافرا.

ص: 81

[وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أي و لو كان من حادّ اللّه آباء الموادّين أو أبناء الموادّين [أَوْ إِخْوانَهُمْ الموادّين [أَوْ عَشِيرَتَهُمْ و العشيرة أهل الرجل الّذين يتكثّر بهم و يصيرون بمنزلة العدد الكامل و ذلك أنّ العشرة هو العدد الكامل و حاصل المعنى أنّ المؤمن المتصلّب في الدين لا يوالي هؤلاء الأقارب بعد أن كانوا محادّين اللّه و رسوله فكيف بغيرهم كما أنّ أمير المؤمنين عليّا و حمزة و عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب قتلوا يوم بدر عتبة و شيبة ابني ربيعة و الوليدين عتبة و كانوا من عشرتهم و قرابتهم.

[أُولئِكَ إشارة إلى الّذين لا يوادّونهم [كَتَبَ اللّه [فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي أثبته فيها [وَ أَيَّدَهُمْ و قوّاهم [بِرُوحٍ مِنْهُ و هو نور القرآن والدين أو المراد النصر على العدوّ [وَ يُدْخِلُهُمْ في الآخرة [جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] الأربعة من الماء و العسل و اللبن و الخمر [خالِدِينَ فِيها] مؤبّدين لا يقرب منهم زوال كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ينادي مناد إنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا و إنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا و إنّ لكم أن تسبوا فلا تهزموا أبدا و إنّ لكم أن تنقموا فلا تيأسوا [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ و الرضى ترك السخط [وَ رَضُوا عَنْهُ بالكرامات [أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ لا حزب الشيطان [أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الناجون من المكاره تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 82

سورة الحشر مدنية

اشارة

فضلها: أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ الحشر لم يبق جنّة و لا نار و لا عرش و لا كرسيّ و لا حجاب و لا السماوات السبع و لا الأرضون السبع و الهواء و الرياح و الطير و الشجر و الدوابّ و الشمس و القمر و الملائكة إلّا صلّوا عليه و استغفروا له و إن مات في يومه أو ليلته مات شهيدا.

و عن أبي سعيد المكاري عن الصادق عليه السّلام من قرأ إذا أمسى الرّحمن و الحشر وكّل اللّه بداره ملكا شاهرا سيفه حتّى يصبح.

ص: 83

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحشر (59): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)

ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)

[سَبَّحَ لِلَّهِ التسبيح تبعيد اللّه عن ما لا يليق به و تطهير عمّا لا ينبغي بشأن الألوهيّة و لا بدّ أن يكون بالجنان و اللسان و الحال و الأوّل اعتقاد العبد بتعاليه عن الشريك فحينئذ يلزم المعتقد مثل التوحيد و التعظيم و الثاني القول بما يدلّ على تعاليه مثل التكبير و التهليل و الثالث دلالة المصنوعات على أنّ صانعها متّصف بنعوت الجلال متقدّس عن المكان و بهذا البيان يعمّ تسبيح كلّ الموجودات شاءوا أم أبوا.

[وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب على أمره الحكيم في أفعاله.

[هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني يهود بني النضير من ديارهم بأن سلّط اللّه المؤمنين عليهم و أمر نبيّه بإخراجهم من حصونهم و أوطانهم. النزول:

نزلت في إجلاء بني النضير فمنهم من خرج إلى خيبر و منهم من خرج إلى الشام.

و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا دخل المدينة صالحه بنو النضير و هم رهط من اليهود أولاد هارون على أن لا يقاتلوه و لا يقاتلوا معه فقبل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك منهم فلمّا غزا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدرا و ظهر على المشركين قالوا: و اللّه إنّه النبيّ الّذي وجدنا نعته في التوراة لا تردّ له

ص: 84

راية فلمّا غزا غزوة احد و هزم المسلمون ارتابوا و نقضوا العهد فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكّة و حالفوا قريشا على أن يكون كلمتهم واحدة على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ دخل أبو سفيان في أربعين فارسا و دخلوا البيت و أخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار و الكعبة ثمّ رجع كعب و أصحابه إلى المدينة و نزل جبرئيل فأخبر النبيّ بما تعاقد عليه كعب و أتو سفيان.

و في بعض الأخبار أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذهب إلى بني النضير في نفر من أصحابه دون العشرة في أمر دية فقالوا: يا أبا لقاسم نعم حتّى تطعم و ترجع بحاجتك و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالسا إلى جنب جدار من بيوتهم فخلا بعضهم ببعض و قالوا: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة فهل من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه فقال أحد ساداتهم و هو عمرو بن حجاش: أنا لذلك فقال الآخر منهم: لا تفعلوا و اللّه ليخبرنّ بما هممتم به إنّه لنقض للعهد فلمّا صعد الرجل ليلقي الصخرة أتاه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الخبر من السماء بما أراد القوم فقام و رجع مسرعا إلى المدينة و بعث محمّد بن مسلمة إلى بني النضير أن اخرجوا من بلدي و كانوا ساكنين في قرية زاهرة من أعمال المدينة و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تساكنوني بها و لقد هممتم بما هممتم من الغدر فأرسل إليهم المنافقون أن أقيموا في حصونكم فإنّا نمدّكم فأرسلوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّا لا نخرج من ديارنا فافعل ما بدا لك و كان المتولّي أمر ذلك سيّد بني النضير حيّ بن أخطب فسار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع المؤمنين حتّى نزل بهم. و باقي القصّة معروفة. و المراد من الخارجين الّذين كفروا في الآية هؤلاء [لِأَوَّلِ الْحَشْرِ] اللّام تعلّق بأخرج قيل: كان ذلك أوّل حشرهم إلى أرض الشام ثمّ تحشر الناس يوم القيامة إلى أرض الشام أيضا في القيامة و ذلك الحشر الثاني قال ابن عبّاس: قال لهم البنيّ: اخرجوا قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر و قيل: معناه لأوّل الجلاء لأنّهم كانوا أوّل من اجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ثمّ اجلي إخوانهم من اليهود و قيل: إنّما قيل: «لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» لأنّ اللّه فتح على نبيّه في أوّل ما قاتلهم.

[ما ظَنَنْتُمْ أيّها المسلمون [أَنْ يَخْرُجُوا] من ديارهم بهذا الذلّ و الهوان لوثاقة حصونهم [وَ ظَنُّوا] هؤلاء اليهود ظنّا قويّا بمنزلة اليقين [أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ

ص: 85

مِنَ اللَّهِ و المراد من الحصن كلّ موضع لا يوصل إلى جوفه و لذا يقال: درع حصينة أي ظنّوا أنّ حصونهم تمنعهم عن بأس اللّه تقديم الخبر للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها و تقديم المسند يفيد حصر المسند إليه على المسند فإنّ معنى قائم زيد أنّ زيدا مقصور على القيام لا يتجاوزه إلى القعود.

[فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي أتاهم أمره [مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا] و لم يخطر ببالهم و هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه الرضاعيّ بأمر رسول اللّه [وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ القذف الرمي البعيد و المراد هنا الإلقاء و إثباته و ركزه و الرعب خوف يملأ القلب فيغيّر العقل و يشوّش الرأي و يفرّق التدبير أي أثبت و ملأ قلوبهم هذا النوع من الخوف.

[يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ كانوا يخربون و يهدمون بيوتهم بأيديهم من داخل ليهزموا و لئلّا يكون للمؤمنين و يخربها المؤمنون من خارج ليصلوا إليهم و إزالة لتحصّنهم و إضرارا بهم و توسيعا لمجال القتال و إسناد هذا إليهم مع أنّه يقول: [وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ لما أنّهم السبب فيه فكأنّهم أمروهم بالتخريب.

[فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ] و الألباب اتّعظوا بما جرى عليهم و اتّقوا مباشرة ما يؤدّي إليه عن مثل هذه الأمور من الكفر و الاعتبار مأخوذ من العبور و هو المجاوزة من شي ء إلى شي ء و سمّي أهل التعبير في الرؤيا لأنّ صاحبه ينتقل من المتخيّل إلى المعقول و سمّيت الألفاظ عبارات لأنّها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع و يقال: السعيد من اعتبر بغيره لأنّه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه.

[وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ حكم [عَلَيْهِمُ بني النضير [الْجَلاءَ] الخروج من أوطانهم و لو لا امتناعيّة و ما بعدها مبتدء و أن مخفّفة اسمها ضمير الشأن أي و لو لا كتاب اللّه عليهم الجلاء في علمه أو في لوحه المحفوظ [لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا] بالقتل و السبي كما فعل ببني قريظة.

[وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ] استيناف و غير متعلّق بجواب لو لا إذ لو كان معطوفا عليه لزم أن ينجو من عذاب الآخرة أيضا لأنّ لو لا يقتضي انتفاء الجزاء لحصول

ص: 86

الشرط لكن جملة مستأنفة و بيان أنّهم إن نجوا من عذاب الدنيا بكتابة الجلاء لا نجاة لهم من عذاب الآخرة.

[ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي ما حاق لهم و سيحيق بسبب أنّهم [شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و خالفوا أمرهما و المشاقّة كون الإنسان في شقّ و طرفه في شقّ [وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ كائنا من كان [فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ له بحذف العائد فليحذر المؤمنون من المخالفة مطلقا و المشاقّة مع الرسول المنازعة في حكمة أمره و نهيه.

[ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ] ما شرطيّة نصب بقطعتم و اللينة فعلة نحو حنطة من اللون على أنّ أصلها «لونة» فياؤها مقلوبة عن و او لكسرة ما قبلها نحو ديمة و قيمة و يجمع على ألوان و هي ضروب النخل و قيل: من اللين و يجمع على أليان و هي النخلة الكريمة بكونها قريبة من الأرض و الطيّبة الثمرة فقوله: «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ» أي من نخلة كريمة ناعمة.

[أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً] الضمير راجع لما و تأنيثه لتفسيره باللينة قائمة [عَلى أُصُولِها] كما كانت من غير أن تتعرّضوا لها [فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي قطعها و تركها بأمر اللّه فلا جناح عليكم و في كلّ من القطع و الترك حكمة.

[وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ و ليذلّ اليهود الخارجين عن إطاعة المسلمين و حصول ضرب من الاستخفاف لهم لأنّهم إذا رأوا المؤمنين يتحكّمون في أموالهم كيف ما شاءوا من القطع و الترك يتضاعفون حسرة و يزدادون غيظا.

و سبب النزول أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين أمر أن تقطع نخيلهم و تحرق قالت بنو النضير: يا محمّد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخيل و إحراقها؟

و كان في أنفس المؤمنين أيضا من ذلك شي ء فنزلت الآية. و في شرح مسلم للنوويّ أنّ أنواع التمر مائة و عشرون و قيل: أنواع التمر بلغت مائة و بضعا و ثلاثين.

و نقل أنّ عالم فاس محمّد بن غازي أرسل إلى عالم سلجماسة إبراهيم بن هلال يسأله عن حصر أنواع التمر بتلك البلدة فأرسل إليه جملا أو جملين من كلّ نوع تمرة

ص: 87

واحدة و أرسل إليه هذا ما يتعلّق به علم الفقير «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و أحسن أنواعها العجوة و الصيحانيّ، و البرنيّ، و البرنيّ فارسيّ معرّب أي ثمر مبارك و أصله «بر نيك» انتهى.

[وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ في تفسير روح البيان في الآية بيان حال ما أخذ من أموالهم و ما موصولة و يجوز أن تكون شرطيّة أي و ما جعله اللّه فيئا لرسوله و أرجعه إليه و جعله عائدا إليه و في معنى العود و الإرجاع إشعار بأنّ ما كان في يدهم بغير حقّ لعدم إيمانهم فرجعه اللّه إلى مستحقّه لأنّه تعالى خلق الناس لعبادته و خلق ما خلق ليتوسّلوا به إلى طاعته فمن خرج عن عبوديّته فليس له حقّ لكن لمّا كان هذا الحكم يوجب الهرج و المرج فيكون موجبه بإذن النبيّ و الوليّ و يجوز أن يكون معنى «ما أَفاءَ اللَّهُ»* أي صيّره له فالعود على هذا المعنى أن يتحوّل الشي ء إلى غيره بأمر و إن لم يكن ذلك التحوّل مسبوقا بالحصول له و كلمة «عَلى * في الآية يؤيّد هذا المعنى.

قال المطرّزي في مغرب اللغة: إنّ الفرق بين الغنيمة و الفي ء و النفل أنّ الغنيمة ما نيل من أهل الشرك عنوة و الحرب قائمة و حكمها أن تخمّس و سائرها بعد الخمس للغانمين خاصّة. و الفي ء ما نيل منهم بعد ما تضع الحرب أوزارها و تصير الدار دار الإسلام و حكمه أن يكون لكافّة المسلمين و لا يخمّس و النفل ما ينفله الغازي أي يعطاء زائدا على سهمه و هو أن يقول الإمام: من قتل قتيلا من أهل الشرك فله سلبه أو قال: للسريّة ما أصبتم فلكم ربعه أو نصفه و لا يخمّس.

قوله تعالى: [سورة الحشر (59): الآيات 6 الى 10]

وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)

ص: 88

المعنى: الفي ء ردّ ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك اللّه إيّاهم ذلك على شرط فيه، و أفأته عليه أي رددته عليه.

النزول: قال ابن عبّاس: الآية نزلت في أموال كفّار أهل القرى و هم بنو النضير و قريظة و هما بالمدينة و فدك و هي من المدينة علي ثلاثة أميال و خيبر و قرى عرينة و ينبع جعلها لرسوله يحكم فيها ما أراد و أخبر أنّها له كلّها فقال أناس:

فهلّا قسّمها فنزلت الآية «وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ» و قيل: الآية الاولى بيان أموال بني النضير خاصّة لقوله: «وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ الآية» و الآية الثانية بيان الأموال الّتي أصيب من غير قتال و قيل: إنّهما واحد و الآية الثانية بيان قسم المال الّذي ذكر اللّه في الآية الاولى.

و بالجملة بيّن كيفيّة أموال بني النضير فقال:

[وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من اليهود الّذين أجلاهم و إن كان الحكم ساريا في جميع الكفّار الّذين حكمهم حكمهم [فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ الإيجاف في الخيل و الإيضاع في الإبل و ما نافية أي لم تسيروا إليها على خيل و إبل و إنّما كانت ناحية من المدينة مشيتم إليها مشيا و الركاب الإبل الّتي يحمل القوم و «مِنْ» زائدة بعد النفي أي «ما أوجفتم خيلا» و هو جماعة الأفراس لا واحد له و قيل: واحده خائل لأنّ راكبه يختال و يتكبّر من تخيّل فضيلة تتراءى للإنسان من نفسه لما قيل: إنّه لا يركب أحد فرسا إلّا وجد في نفسه نخوة و الخيل يستعمل للأفراس و الفرسان نحو يا خيل اللّه اركبي فهذا للفرسان و قوله عليه السّلام: عفوت لكم عن صدقة الخيل يعني الأفراس و الفرس يرى المنامات كبني آدم و لا طحال له و هو مثل لسرعته و حركته و البعير لا مرارة له

ص: 89

انتهى. و حاصل المعنى أنّكم ما قطعتم لها شقّة بعيدة و لا لقيتم مشقّة شديدة، و ما كان فيهم راكب إلّا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان راكبا حماره مخطوما بليف و قيل: كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم راكبا جملا فافتتحها صلحا من غير أن يجري بينهما مسابقة.

[وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ] و قد سلّط النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على هؤلاء تسليطا غير معتاد من غير أن تقتحموا مطابق الحروب فحينئذ لا حقّ لكم في أموالهم و الأمر فيه مفوّض إليه يضعه حيث يشاء و لا تقسّم قسمة الغنائم الّتي قوتل عليها و أخذت عنوة و قهرا و ذلك لأنّهم طلبوا القسمة كخيبر فنزلت لبيان هذا الأمر.

[وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] فيفعل ما أراد بقدرته.

قوله: [ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى بيان للأوّل و لذلك لم يعطف عليه و يعيّنه سبحانه أنّه للرسول و أهل بيته خاصّة من غير أنّ يكون للمقاتلين حقّ.

[فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ و ذكر اللّه التعظيم و التبرّك و هو راجع إلى النبيّ [وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السّلام نحن و اللّه الّذين عنى اللّه بذي القربى الّذين قرنهم بنفسه و نبيّه و اليتامى و المساكين منّا خاصّة و لم يجعل لنا سهما في الصدقة أكرم اللّه نبيّه و أكرمنا أن يطعمنا الأوساخ ممّا في أيدي الناس و معنى الآية و لذي قربى الرسول و يتامى ذرّيّته و مساكينهم و أبناء سبيلهم من بني هاشم.

و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: نحن قوم فرض اللّه طاعتنا و لنا الأنفال و لنا صفو المال يعني ما كان يصطفى لرسول اللّه من فره الدوابّ و حسان الجواري و الدرّة الثمينة و الشي ء الّذي لا نظير له.

ثمّ بيّن سبحانه لم فعل ذلك فقال: [كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ و قرئ تكون بالتاء و رفع دولة و الدولة اسم للشي ء الّذي يتداوله القوم بينهم يكون لهذا مرّة و المعنى لئلّا يكون الفي ء متداولا بين الرؤساء منكم يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلّية فإنّ الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة و يقولون من عزّ بزّ و من غلب سلب فيجعلون الاستقلال منوطا بالغلبة على الأموال فكلّ من غلب على شي ء يستقلّ به مثل كليب بن

ص: 90

وائل و نظرائه.

[وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ما موصولة أي ما أعطاكم الرسول أيّها المؤمنون من الفي ء فخذوه و ما أمركم به فاعملوه [وَ ما نَهاكُمْ عن أخذه و فعله [فَانْتَهُوا] عنه و امتنعوا منه [وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقب من يخالف أمره و نهيه.

و الآية دالّة و صريحة بأن اتّباع أوامره و ترك نواهيه واجب سواء كان اصولا اعتقاديّة أو فردا عمليّة يجب التمسّك به و كلّما فعله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأمر اللّه و قد قسم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أموال خيبر و منّ عليهم في رقابهم و أجلى بني النضير و بني قينقاع و أعطاهم شيئا من المال و قتل رجال بني قريظة و سبى ذراريّهم و نساءهم و قسّم أموالهم على المهاجرين و منّ على أهل مكّة و قد جعل اللّه تدبير الامّة إليه و إلى الّذي نصّ النبيّ بخلافته بعهده.

[لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الّذين هاجروا من مكّة إلى المدينة و من دار الكفر إلى دار الإسلام [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً] يطلبون بذلك رضى اللّه و نصرة دينه و رسوله و قوله: «لِلْفُقَراءِ» قيل: بدل من لذي القربى قال الزجّاج بيّن سبحانه من المساكين الّذين لهم الحقّ فقال: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ» و هذا الإبدال الّذي جعلوه من قوله: «لِذِي الْقُرْبى لئلّا يلزم دخول الرسول في زمرة الفقراء لأنّه يوهم الذمّ و النقصان و إذا لم يصحّ تسمية الرسول فقيرا فلأن لا يصحّ تسميته تعالى فقيرا أولى و منعوا الإبدال من اللّه و رسوله فحينئذ على الإبدال خصّ بأموال بني النضير من الفي ء و لو كان المراد عدم الإبدال فالمراد غنائم خيبر حيث قسّم للمهاجرين و لم يقسّم الأنصار و إن كان المعنى لرسول اللّه لأنّ الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم اللّه و رسوله.

و قوله: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا» حيث اضطرّ هم كفّار مكّة إلى الخروج و أخذوا أموالهم و كانوا مائة فخرجوا منها و إلّا فهم هاجروا باختيارهم حبّا للّه و رسوله و اختار و الإسلام على ما كانوا فيه من الشدّة حتّى كان الرجل يعصب الحجز على بطنه ليقيم

ص: 91

صلبه من الجوع و كان الرجل يتّخذ حفيرة في الشتاء ما له دار غيرها و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبشّر الصعاليك من المهاجرين بالنور التامّ يوم القيامة و يقول: يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم و ذلك مقدار خمسمائة عام.

[وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ عطف على يبتغون أي ناوين نصرة اللّه بإعلاء دينه و نصرة رسوله و أيّ نصرة [أُولئِكَ المهاجرون [هُمُ الصَّادِقُونَ الراسخون في الصدق كأنّ الصدق مقصور عليهم.

ثمّ مدح سبحانه الأنصار حتّى طابت عن الفي ء أنفسهم فقال: [وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ] يعني المدينة و هي دار الهجرة [وَ الْإِيمانَ مدحهم اللّه بخلوص الإيمان و لزوم دار الهجرة تبوّأ في مكان أي اتّخذه مسكنا و عطف الإيمان على الدار في المعنى لأنّ الإيمان ليس بمكان يتبوّءوه و المراد و آثروا الإيمان [مِنْ قَبْلِهِمْ قيل: المراد من قبل قدوم المهاجرين عليهم و قيل: تقدير الآية «و الّذين تبوّءوا الدار» من قبل المهاجرين لأنّ الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين و الّذي قال: معنى الآية قبل إيمان المهاجرين المراد منهم أصحاب ليلة العقبة و هم سبعون رجلا بايعوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حرب الأبيض و الأحمر.

و الأنصار بنو الأوس و الخزرج ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عامر بن شالح و هو أصل العرب العرباء و من الأنصار غسّان اسم ماء نزل عليه قوم من ولد الأزد فشربوا منه فنسبوا إليه و عطف الإيمان على التبوّء على تنزيل الحالّ منزلة المحلّ أو المعنى آثروا الإيمان كما ذكرنا و ذلك مثل قوله: «علّفتها تبنا و ماء باردا».

[يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ يوصف الأنصار أي يحبّون من هاجر إليهم لمحبّتهم الإيمان [وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ و نفوسهم [حاجَةً] ممّا اوتي المهاجرون من الفي ء أي إنّ نفوسهم لم تبتغ ما أوتوا و لم تطمع إلى شي ء منه يحتاج إليه و لم يحسدوا باقتصاصهم الفي ء من أموال بني النضير.

ص: 92

[وَ يُؤْثِرُونَ أي يقدّمون المهاجرين [عَلى أَنْفُسِهِمْ بأموالهم و منازلهم [وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ] أي فقر و حاجة و لم يكن إيثارهم عن غنى و الخصاصة خلّة و حاجة و أصلها خصاص البيت و هي فرجه شبّه حالة فقرهم ببيت ذي فرج و هو من القصب و الشجر و ذلك يرى من ذلك البيت الخلّة و الفرجة.

و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قسّم أموال بني النضير على المهاجرين و لم يعط الأنصار إلّا ثلاثة نفر محتاجين أبا دجانة سماك بن خرشة و سهل بن حنيف و الحارث بن الصّمة و قيل:

لم يعط إلّا رجلين لأنّ الحارث قتل في بئر معونة و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم و دياركم و شاركتموهم في هذه الغنيمة و إن شئتم كانت لكم دياركم و أموالكم و لم يقسم لكم شي ء من الغنيمة فقالت الأنصار: بل نقسّم لهم من أموالنا و ديارنا و نؤثر هم بالغنيمة و لا نشاركهم فيها فنزلت الآية «وَ يُؤْثِرُونَ» الآية و لمّا أعطى المهاجرين أمرهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بردّ ما كان للأنصار لاستغنائهم عنهم و لأنّهم لم يكونوا ملكوهم و إنّما كانوا دفعوا لهم النخيل لينفعوا بثمرها.

روي عن أنس إنّه قال: اهدي لرجل من الأنصار رأس شاة و كان مجهودا فوجّه به إلى جار له زاعما أنّه أحوج إليه منه فوجّه جاره أيضا إلى آخر فلم يزل لبعث به واحد إلى آخر حتّى تداول ذلك الرأس سبعة بيوت إلى أن رجع إلى المجهود الأوّل.

قال حذيفة العدويّ: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي و معي شي ء من المال و أنا أقول: إن كان به رمق سقيته فإذا أنا به فقلت: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم فإذا برجل يقول: آه آه فأشار إليّ ابن عمّي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص، فقلت:

أسقيك؟ قال: نعم فسمع آخر يقول: آه آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئت إليه فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمّي فإذا هو قد مات.

و الصحيح إنّ الآية نزلت في حقّ عليّ بن أبى طالب عليه السّلام في الأماليّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه جاء إليه رجل و شكا إليه الجوع فبعث رسول اللّه إلى بيوت أزواجه فقلن:

ما عندنا إلّا الماء فقال رسول اللّه: من لهذا الرجل الليلة فقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:

أنا له يا رسول اللّه فأتى فاطمة و قال: لها ما عندك يا ابنة رسول اللّه؟ فقالت: ما عندنا

ص: 93

إلّا قوت العشية لكنّا نؤثر ضيفنا فقال: ابنة محمّد نوّمي الصبية و أطفئ السراج فلمّا أصبح عليّ عليه السّلام غدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره الخبر فلم يبرح حتّى أنزل اللّه «وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ» الآية.

و عن أمير المؤمنين في الاحتجاج إنّه قال للقوم بعد موت عمر بن الخطّاب في حديث عدّ المناقب: نشدتكم باللّه هل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية غيري؟ قالوا: لا.

[وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الشحّ بخل مع الحرص في مقابلة السخاء و في مقابلة الجود البخل و الجود و البخل يتطرّق إليهما الاكتساب بطريق العادة بخلاف الشحّ و السخاء لأنّهما غريزيتان و كلّ سخيّ جواد و ليس كلّ جواد سخيّا و من يوق بالملكات و الرياضيّات من الإطاعة ينزّه نفسه و حرصه على إمساك المال [فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكلّ مطلوب الناجون من كلّ مكروه.

[وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ هم الّذين هاجروا بعد ما قوى الإسلام جاءوا إلى المدينة أو المراد التابعون بإحسان و هم الّذين اتّبعوا النبيّ بعد الفريقين و يشمل حال المؤمنين إلي يوم القيامة كما في الحديث مثل امّتي كالمطر لا يدري أوّله خير أم آخره [يَقُولُونَ خبر للموصل لمن تقدّمهم من المؤمنين يدعون لهم قائلين: [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ يستغفرون لأنفسهم و لمن سبقهم بالإيمان.

[وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا] أي حقدا و عداوة لأحد من المؤمنين و يعصمنا ربّنا من إرادة السوء بالمؤمنين لأنّ من أبغض مؤمنا و أراد به السوء لأجل إيمانه فهو كافر و إذا كان بغضة لغير ذلك فهو فاسق [رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ متعطّف على العباد منعم عليهم و في الآية دلالة على أنّ الترحّم و الاستغفار مستحبّ على المؤمنين الآخرين للسابقين منهم لا سيّما لآبائهم و لمن علّمهم امور دينهم.

فائدة الغلالة اسم لما يلبس بين الشعار و الدثار، و الغلّ و الغلول تدرّع الحقد و يستعار الغلالة للذرع كما يستعار الدرع قال الشاعر:

لا تعجبوا من بلى غلالته قد زرّ أزراره على القمر

ص: 94

قوله تعالى: [سورة الحشر (59): الآيات 11 الى 15]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)

لمّا وصف اللّه المهاجرين و الأنصار و التابعين لهم عقّب ذلك بذكر المنافقين و الهمزة استفهام للتعجّب عن حال المنافقين و الكافرين [أَ لَمْ تنظر و تعلم [إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا] من أهل المدينة النفق الطريق النافذ و منه نافقاء اليربوع و هو الدخول من باب و الخروج من باب [يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ و المراد بالإخوان بنو النضير و بإخوانهم توافقهم في الكفر و صداقتهم و موالاتهم: [لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ اللام موطّئة للقسم أي و اللّه لئن أخرجتم أيّها الإخوان دياركم و قراكم قسرا بإخراج محمّد إيّاكم منها [لَنَخْرُجَنَ البتّة [مَعَكُمْ و نذهبنّ في صحبتكم أينما ذهبتم و هو جواب للقسم و جواب الشرط مضمر و لمّا كان جواب القسم و جواب الشرط متماثلين اقتصر على جواب القسم.

[وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً] أي في شأنكم لا نطيع أحدا يمنعنا من الخروج معكم أبدا [وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ أي قاتلكم محمّد و أصحابه حذف منه اللام الموطّئة [لَنَنْصُرَنَّكُمْ أي لنعاونكم على عدوّكم [وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مواعيدكم المؤكّدة بالأيمان الفاجرة.

[لَئِنْ أُخْرِجُوا] قهرا [لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ تكذيب لهم في أقوالهم [وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ و كان الأمر كذلك فإن ابن ابيّ و أصحابه أرسلوا إلى بني النضير و ذلك سرّا أن لا تخرجوا من دياركم و أقيموا في حصونكم فإنّ معي ألفين من قومي

ص: 95

و غيرهم من العرب فطمع بنو النضير فيما قاله اللعين فقال أحد سادات بني النضير: و هو سلّام بن مشكين لحيّ بن أخطب الّذي كان هو المتولّي لأمر بني النضير: و اللّه يا حيّ إنّ قول ابن ابيّ لباطل و إنّما يريد أن يورّطك في الهلكة حتّى تحارب محمّدا فيجلس في بيته و يتركك فقال حيّ: تأبى نفسي إلّا عداوة محمّد و إلّا قتاله فقال سلّام: فهو و اللّه جلاؤنا من أرضنا و ذهاب أموالنا و سبي ذراريّنا فكان ما كان.

[وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ فرضا [لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ] فرارا و انهزاما و تولية الأدبار كناية عن الانهزام [ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي لا يكون النصر للمنافقين و لا ينفعهم نفاقهم.

[لَأَنْتُمْ يا معشر المسلمين [أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي إنّ خوف المنافقين منكم أشد من خوفهم من اللّه لأنّهم يشاهدونكم و يعرفونكم و لا يعرفون اللّه.

و حاصل المعنى أنّهم يظهرون لكم في العلانية خوف اللّه و أنتم أهيب في قلوبهم من اللّه فإن قلت: كأنّهم كانوا يرهبون من اللّه حتّى يكون رهبتهم منكم أشدّ قلنا: إنّ رهبتهم في السرّ منكم أشدّ من رهبتهم من اللّه الّتي يظهرونها لكم و ذلك لأنّهم كانوا يظهرون رهبة شديدة من اللّه.

[ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الحقّ و لا يعلمون عظمة اللّه و ذلك إشارة إلى ما ذكر من كون رهبتهم منكم أشدّ و العبد هو الّذي لا يخاف إلّا من مولاه و لا يراقب إلّا إيّاه و لا يلتفت إلى ما سواه.

و [لا يُقاتِلُونَكُمْ معاشر المؤمنين جميع [إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ] أي إنّهم لا يبرزون لحربكم و إنّما يقاتلونكم متحصّنين بالقرى [أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ] أي يرمونكم من وراء الجدران بالنبل و الحجر. و القرى جمع قرية و هي مجتمع الناس للتوطّن.

[بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ] استيناف سيق لبيان أنّ ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم و جبنهم في أنفسهم و هم بالنسبة إلى أقرانهم أقوياء و إنّما جبنهم و ضعفهم بالنسبة إليكم بما قذف اللّه في قلوبهم من الرعب و إذا أراد اللّه نصرة قوم استأسد أرنبهم و إذا أراد اللّه قهر قوم استرنب أسدهم و وصف البأس بالشدّة للمبالغة.

[تَحْسَبُهُمْ يا محمّد [جَمِيعاً] متّفقين ذوي السعة [وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى و الحال أنّ

ص: 96

قلوبهم متفرّقة و في الآية تشجيع لقلوب المؤمنين على قتالهم و أهل الباطل متفرّقون أبدا و إن اجتمعوا بالأبدان و توافقوا بالظواهر لأنّ اللّه يقول: «تَحْسَبُهُمْ» [ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي ما ذكر من تشتّت قلوبهم بسبب أنّهم [قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ لا شيئا حتّى يعرفوا الحقّ من عدم العقل و الفقه و هو مذموم في القرآن بموجب هذه الآية و ممّا نسب إلى أمير المؤمنين قوله: و إنّ العقل عقلان: فمسموع و مطبوع.

و لا ينفع مطبوع إذا لم يك مسموع كما لا تنفع الشمس و نور العين ممنوع

قال علىّ بن عبيدة: العقل ملك و الخصال رعيّة فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها فسمع هذا الكلام أعرابيّ فقال: هذا الكلام يقطر عسله: و كل شي ء إذا كثر رخص إلّا العقل فإنّه إذا كثر غلا: و قال أعرابيّ: لو صوّر العقل لأظلمت معه الشمس و لو صوّر الحقّ لأضاء معه الليل و غاية قوّة العقل أن يتسلّم لأوامر الشرع لأنّ الّذي وضع الأشياء أعرف بمواضعها.

قوله: [كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ خبر مبتدء محذوف تقديره مثله أي مثل المذكورين من المنافقين و اليهود كمثل المشركين الّذين قتلوا قبلهم ببدر لأنّ البدر كانت قبل غزاة بني النضير بستّة أشهر أو سنة أو كمثل بني قينقاع لأنّهم اخرجوا قبل بني النضير إلى الشام و لم يدر الحول عليهم حتّى هلكوا.

[ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ الوبل و الوابل المطر الثقيل و لمراعاة الثقل يقال: للأمر الّذي يخاف ضرره وبال أي ذاقوا سوء عاقبة كفرهم و هو عذاب القتل و الأسر ببدر [وَ لَهُمْ في الآخرة [عَذابٌ أَلِيمٌ مولم لا يقادر قدره حيث يكون ما في الدنيا بالنسبة إليه كالذوق بالنسبة إلى الأكل.

قوله: [سورة الحشر (59): الآيات 16 الى 20]

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)

ص: 97

أي مثل المنافقين في غرورهم لبني النضير و خذلانهم إيّاهم [كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ] و المراد من قول الشيطان مجاز عن الإغواء و الإغراء فإن أريد بالإنسان الجنس فالمراد من قوله: [قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ يكون يوم القيامة كما ينبئ عنه قوله: [إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ و إن أريد من الإنسان الإنسان المعهود و هو أبو جهل- كما قيل في بعض التفاسير- فقوله: «اكْفُرْ» أي دم على الكفر و ذلك يوم بدر حين قال لهم: «لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ» (1) لأنّ أصحاب أبي جهل لمّا قاتلوا يوم بدر و نصر اللّه محمّدا بإمداد الملائكة رأى إبليس جبرئيل مع محمّد فخافه فتبرّء اللعين منهم و انهزم.

و قال بعض أهل التفسير: إنّ المراد بالإنسان في الآية المذكورة برصيصا الراهب من بني إسرائيل في زمان الفترة عن ابن عبّاس قال: إنّه كان في بني إسرائيل عابد اسمه برصيصا عبد اللّه في صومعة سبعين سنة و قيل: مائتين و خمسين سنة حتّى كان يؤتى بالمجانين و المرضى فيعودهم فيبرءون على يده و كان يحسده إبليس غاية و قد عجز عن إغوائه فاوتي يوما بامرأة في شرف قد جنّت و كان لها إخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت فلمّا استبان حملها أخاف الراهب من الشناعة فقتلها و دفنها فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتّى لقي إخوتها فأخبر هم بالّذي فعل الراهب و أنّه دفنها في مكان كذا حتّى بلغ الخبر إلى ملكهم فسار الملك و الناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالّذي فعل فأمر به فصلب فلمّا وقع على خشبته تمثّل له الشيطان و قال:

أنا الّذي ألقيتك في هذا فهل أنت مطيعي في ما أقول لك اخلّصك مما أنت فيه؟ قال: نعم قال: اسجد لي سجدة واحدة فقال: كيف أسجد لك و أنا على هذه الحالة؟ فقال: أكتفي منك بالإيماء فأومأ له بالسجود فكفر باللّه و قتل فهو قوله: «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ» انتهى.

ص: 98


1- الأنفال: 43.

[فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أي صار عاقبة الفريقين من الداعي و المدعوّ و من المنافقين و اليهود أنّهما معذّبان في النار و ذلك جزاؤهم.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إيمانا خالصا [اتَّقُوا اللَّهَ و تحرّزوا عن العصيان بالطاعة و تجنّبوا عن الكفر بالشكر و توقّوا عن النسيان بالذكر [وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ] ما استفهاميّة أي أيّ شي ء قدّمت من الأعمال ليوم القيامة و عبّر عن يوم القيامة بالغد لدنوّه لأنّ كلّ آت قريب سمّاه باليوم الّذي بلي يومك تقريبا له أو لأنّ الدنيا زمانها كيوم و الآخرة كغده.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ تكرير للتأكيد في شأن التقوى و الأوّل في أداء الواجبات و الثاني في ترك المحرّمات كما يؤذن به الوعيد بقوله: [إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ و التقوى هو التجنّب عن كلّ ما يؤثم من فعل و ترك و وقاية النفس في الدنيا عن ترتّب الضرر في الآخرة و تقوى العامّة عن ضرر الأفعال و تقوى الخاصّة عن ضرر الصفات من الأخلاق و تقوى أخصّ الخواصّ عن جميع ما سوى اللّه.

قال مالك بن دينار: دخلت جبانة البصرة فإذا أنا بسعدون المجنون فقلت له:

كيف حالك؟ فقال كيف حال من أصبح و أمسى يريد سفرا بعيدا بلا اهبة، و تقدّم على ربّ عدل حاكم بين العباد ثمّ بكى بكاء شديدا قلت: ما يبكيك؟ قال: أبكاني قلّة الزاد و بعد المسافة و العقبة الكؤود فقلت: إنّ الناس يزعمون أنّك مجنون فقال: و أنت اغتررت بقولهم مالي جنّة و لكن حبّ مولاي قد خالط قلبي و جرى بين لحمي و دمي فأنا من حبّه هائم ثمّ قال: يا مالك كن من الناس خائبا، و ارض باللّه صاحبا، قلّب الناس كيف شئت تجدهم عقاربا.

[وَ لا تَكُونُوا] أيّها المؤمنون [كَالَّذِينَ المراد بالموصول اليهود و المنافقين المعهودين أو الجنس كائنا من كان من الكفّار [نَسُوا اللَّهَ فيه حذف المضاف أي نسوا حقّ اللّه و تركوا أداء حقّ اللّه من الطاعات [فَأَنْساهُمْ بسبب ذلك [أَنْفُسَهُمْ أي جعلهم ناسين لأنفسهم حتّى يتداركوا بالاعتذار و التوبة و هذا الإنساء مجازاتهم بسبب

ص: 99

إقدامهم على ترك طاعة اللّه و نسيانهم ذكر اللّه.

[أُولئِكَ الناسون المخذولون بالإنساء [هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طريق الطاعة و «هم» يفيد معنى شدّة الخروج عن الطاعة بل عن الإيمان و الإنسان العاقل لا بدّ و أن يراعي حقّ ربوبيّة اللّه و مراعاة حطّ شخصه كي لا يحرم السعادة لأنّ المنسي محروم لا محالة.

[لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ] الّذين نسوا اللّه و استحقّوا النار، و النار مع اللام من أسماء جهنّم في تعبير القرآن كالساعة للقيامة و جاء في الشعر أيضا:

الجنّة الدار فاعلم إن عملت بمايرضي الإله و إن فرّطت فالنار

هما محلّان ما للناس غيرهمافانظر لنفسك ماذا أنت تختار

و يقال: أصحاب النار و أصحاب الجنّة فباعتبار الصحبة الأبديّة و الاقتران الدائم و الصحبة في الأصل اقتران الشي ء بالشي ء في زمان ممّا قلّ أو كثر و لا يقال للعصاة المؤمنين أصحاب النار قوله: [وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ] الّذين اتّقوا المعاصي أي لا يستوون [أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ بيان لكيفيّة عدم الاستواء بين الفريقين هم أهل الكرامة و أصحاب النار أهل الهوان فنبّه اللّه الناس بتذكير سوء حال أهل النار و حسن حال أهل الجنّة للاحتراز عن الغفلة.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أهون أهل النار عذابا و أخفّهم من له شراكان و نعلان من النار و يغلي منها دماغه كما يغلي المرجل ما يرى إنّ أحدا أشدّ منه عذابا و كان بعض العارفين ليلة يردّد قوله: «وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ» (1) و يبكي فقيل له: قد أبكتك ما تبكي عند مثلها؟ فقال: فما ينفعني عرضها إذا لم يكن لي فيها موضع قدم.

قوله: [سورة الحشر (59): الآيات 21 الى 24]

لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

ص: 100


1- آل عمران: 133.

[لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ العظيم الشأن المنطوي على فنون القوارع قال ابن عبّاس: إن السماء أطبّ من ثقل الألواح لمّا وضع اللّه عليها في وقت موسي فبعث اللّه لكلّ حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها فخفّفها على موسى و كذلك الإنجيل على عيسى و الفرقان على محمّد ثمّ إنّه لا يلزم في الإشارة وجود حملة المشار إليه إي الأبعاض المترتّبة وجودا بل يكفي وجود بعض الإشارة حقيقة و وجود بعض حكما و يحتمل أن يكون المشار إليه هنا الآية السابقة من قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إلخ» فإنّ لفظ القرآن كما يطلق على المجموع يطلق على البعض منه حقيقة بالاشتراك أو باللغة أو مجازا بالعلاقة فيكون التذكير باعتبار تذكير المشار إليه.

[عَلى جَبَلٍ من الجبال و هي ستّة آلاف و ستّمائة و ثلاثة و سبعون جبلا سوى التلول كما في زهرة الرياض.

[لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً] يا من شأنه الرؤية أو لرأيته يا محمّد مع أنّ شأن الجبل القسوة و الصلابة خاضعا ذليلا و الفرق بين الخشوع و الخضوع أنّ الخشوع انقياد الباطن للحقّ و الخضوع انقياد الظاهر له و قيل: الخضوع في البلدان و الخشوع في الصوت و البصر و أكثر ما يستعمل في القلب بسبب ضراعة القلب [مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي متشقّقا من أن يعصيه فيعاقبه و الصدع شقّ في الأجسام الصلبة كالزجاج و الحديد و الصخر و المراد علوّ شأن تأثير القرآن لما فيه من المواعظ و توبيخ الإنسان على عدم تخشّعه و قسوة قلبه عند تلاوته.

و حاصل المعنى أنّه لو ركّب في الجبل عقل و شعور كما ركّب فيكم أيّها الناس ثمّ أنزل عليه القرآن و وعد و واعد كما و عدتم و أوعدتم لخشع و تصدّع من خشية اللّه و أنتم لا تنفعلون و هذا البيان مثل قولك لمن تعظه و لا تنجع فيه وعظك: لو كانت هذا الحجر لأثّر فيه.

[وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ إشارة إلى هذا المثل و إلى أمثاله في مواضع القرآن و المثل

ص: 101

حقيقة عرفيّة في القول المشهور السائر و يستعار لكلّ أمر غريب [نَضْرِبُها لِلنَّاسِ و نبيّنها لهم [لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيما ينفعهم و يتذكّرون به قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعطوا أعينكم حظّها من العبادة قالوا: ما حظّها من العبادة قال: النظر في المصحف و التفكّر فيه و الاعتبار عند عجائبه.

قال بعض العلماء: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو و من لم يكن سكوته تفكّرا فهو سهو و من لم يكن نظره عبرة فهو لهو و التفكّر إمّا أن يكون في الخالق أو الخلق و الأوّل إمّا في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله أمّا في ذاته فممنوع لأنّه لا يعرف اللّه إلّا اللّه إلّا أن يكون التفكّر في ذاته باعتبار عظمته و جلاله من حيث وجود الواجب و امتناع المكان و الصمديّة الّتي هي الاستغناء عن الكلّ و أمّا في صفاته فهو فيها باعتبار كمالها بحيث يحيط علمه بجميع المعلومات و قدرته بجميع الأشياء و نحو ذلك و أمّا في أفعاله فهو فيها بحسب شمولها و وقوعها على الوجه الأتمّ كلّ يوم هو في شأن و الثاني إمّا أن يكون فيما كان من العلويّات و السفليّات أو فيما سيكون من أهوال القيامة و أحوال الآخرة إلى أبد الآباد مثل أن يتفكّر في وعد اللّه بالثواب فيتولّد منه الرغبة في الطاعة و إمّا في وعيد اللّه بالعقاب فيتولّد منه الرهبة من المعصية و إمّا في تفريط نفسه في جنب اللّه فيتولّد منه الندامة و التوبة.

[هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ في سورة الحشر خواصّ بعض أسماء الحسنى و كلمة «هو» في أصل وضعه كناية عن المفرد المذكر الغائب و كثيرا ما يكنى به عن من لا يتصور فيه الذكورة و الأنوثة كما هو هاهنا فإنّه راجع إلى اللّه و هو مبتدء و خبره لفظة اللّه أي هو المعبود بالحقّ المسمّى باللّه الدالّ على جلال الذات و كمال الصفات فبهذا التعبير لا يلزم أن يتّحد المبتدء و الخبر بأن يكون التقدير اللّه اللّه حتّى لا يصح الحمل فحصل التغاير الاعتباريّ أو «اللّه» بدل من هو الموصول مع صلته خبر المبتدء أو «هو» إشارة إلى الشأن و اللَّهُ مبتدء و «الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» خبر و الجملة خبر ضمير الشأن و «إله» مبنيّ على الفتح مرفوع المحلّ على الابتداء و «لا» لنفي الجنس أي جنس المعبود بالحقّ لتعدّد

ص: 102

الآلهة الباطلة و «إِلَّا هُوَ» مرفوع على البدليّة من محلّ المنفي أو من ضمير الخبر المقدّر للا و المقدّر موجود أو ممكن.

[الْمَلِكُ بفتح الميم و كسر اللام هو المتصرّف بالأمر و النهي في الجمهور و ذلك يختصّ بسياسة الناطقين و لهذا يقال: «مَلِكِ النَّاسِ» و لا يقال: ملك الأشياء و الأنبياء و الأوصياء عبيد الملك على حسب الحقيقة لأنّهم مستغنون عن غيره تعالى و احتياج الناس كلّهم إليهم في حياتهم العاجلة و الآجلة فهم الملوك في العالم العرضي و إلّا فلا ملك للعبد قيل: و خاصّيّة اسم الملك صفاء القلب فمن واظب عليه وقت الزوال كلّ يوم مائة مرّة صفا قلبه و زال كدره و من قرأه بعد الفجر مائة و إحدى و عشرين مرّة أغناه اللّه من فضله.

[الْقُدُّوسُ هو من صيغ المبالغة من القدس و هو النزاهة و الطهارة أي البليغ في النزاهة عمّا يوجب نقصانا و هو بالعبريّ قديسا و حقيقة القدس الاعتلاء عن قبول التغيّر و روح القدس جبرئيل لأنّه عليه السّلام ينزل بما يطهّر به نفوسنا من الفيض الإلهيّ و القرآن و الحكمة و بيت المقدس لأنّه يتطهّر فيه من الذنوب، قال السهرورديّ: من قرأه كلّ يوم ألف مرّة في خلوة أربعين يوما شمله بما يريد.

[السَّلامُ أي ذو السلامة من كلّ آفة و نقص و عجز هو مصدر بمعنى السلامة وصف به للمبالغة نحو زيد عدل فما ورد من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنت السلام معناه أنت الّذي سلم من كلّ عيب و نقص و منك السلام أي الّذي يعطي السلامة و إليك السلام أي يرجع السلامة إليك و كلّ من عليها فان و خاصّيّة هذا الاسم صرف الآلام و المصائب و إذا قرئ على مريض مائة و إحدى عشرة مرّة برى ء أو خفّف عنه ما لم يحضر أجله.

[الْمُؤْمِنُ و الإيمان التصديق بوحدانيّة اللّه و هو تعالى موحّد نفسه بقوله: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» و قيل: المعنى واجب الأمن و الطمأنينة للنفوس بعدم ظلمه في امور لأنّ الإنسان في أصل فطرته عرضة للأخطار مثل المرض و الجوع و العطش و و المحرقة و المغرقة و الجارحة و الكاسرة و لم يؤمنه من هذه المخاوف إلّا الّذي أعدّ له الأسباب الدافعة له مثل الأطعمة و أعدّها لجوعه و الأشربة لعطشه و نحو ذلك فهو تعالى أمّنه ثمّ خوّفه الأعظم من هلاك الآخرة و لا يحصّنه منه إلّا كلمة التوحيد و اللّه هاديه

ص: 103

إليها حيث قال: لا إله إلّا اللّه حصني فمن دخله أمن من عذابي فلا آمن في العالم إلّا و هو مستفاد من أسباب هو متفرّد بخلقها و أحقّ العباد بهذا الاسم من كان سببا لأمن الخلق من عذاب اللّه بالهداية إلى طريق اللّه و الإرشاد إلى سبيل النجاة و بهذا المعنى أشار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: إنّكم تتهافتون في النار تهافت الفراش و أنا آخذ بحجزكم.

فإن قيل: هو الّذي خلق أسباب الخوف فكيف ينسب إليه الأمن؟

فالجواب أنّ الخوف تارة للعبد من معاصيه فهو المسبّب على نفسه الخوف و قد حذّره تعالى عن العصيان فالعبد أوجب على نفسه الخوف و تارة يكون الخوف من عظمته تعالى و ذلك أمر حسن له و أمّا الأمن فمنه تعالى و كونه تعالى مخوّفا لا يمنع كونه مؤمنا كما أنّ كونه مذلّا لم يمنع كونه معزّا، انتهى.

[الْمُهَيْمِنُ قيل: عدّ هذا الاسم من أسمائه الّتي علت لعلّ معناها عن مجاري الاشتقاق فلا يعلم تأويله إلّا اللّه و قال بعضهم: المبالغ في الصيانة عن المضارّ من قولهم: هيمن الطائر إذا نشر جناحه على فرخه حماية له و يؤول معناه إلى الرقيب الحافظ و قيل: معناه الشاهد و منه قوله تعالى: «وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ» و قيل: مفيعل من الأمن و أصله مؤامن بهمزتين قلبت الهمزة الثانية ياء لكراهة اجتماعهما فصار مؤيمن ثمّ صيّرت الاولى هاء كما قالوا في أراق الماء و الدم: هراقة فيكون حينئذ بمعنى المؤمن.

حكي أنّ ابن قتيبة لمّا قال في المهيمن: إنّه مصغّر من مؤمن و الأصل مؤيمن فأبدلت الهمزة هاء قيل له: هذا يقرب من الكفر فليتّق اللّه قائله لأنّ فيه ترك التعظيم و قد قيل: إنّه من أسماء اللّه في الكتب القديمة و قيل: إن خاصّيّة هذا الاسم الإشراف على البواطن و الأسرار و من قرأ مائة مرّة بعد الغسل و الصلاة في خلوة بجمع خاطر نال ما نوى و نافذ للنسيان.

[الْعَزِيزُ] الغالب في حكمه أو من عزّ عزازه إذا قلّ و المراد عديم المثل و خاصيّة هذا الاسم الغنى و العزّ صورة أو معنى فمن ذكره أربعين يوما في كلّ يوم أربعين مرّة أعزّه اللّه و لم يحوجه إلى أحد، و في الأربعين الإدريسيّة يا عزيز المنيع الغالب على أمره فلا شي ء يعادله من قرأ سبعة أيّام متواليات كلّ يوم ألفا أهلك خصمه و إن ذكره في

ص: 104

وجه العسكر سبعين مرّة و يشير إليهم بيده فإنّهم ينهزمون.

[الْجَبَّارُ] الّذي قهر خلقه أو أصلح حالهم و سمّي الّذين يدّعون أنّ اللّه يكره العباد على للمعاصي في عرف المتكلّمين بالمجبّرة و في قول المتقدّمين: جبريّة و في وصف اللّه بالجبّار على أنّه يجبر الناس على ما هو المصلحة لهم من مرض أو موت و بعث و فقر و نحوها و خاصيّة هذا الاسم الحفظ من ظلم الجبابرة يذكر عشر صباحا و مساء إحدى و عشرين مرّة.

[الْمُتَكَبِّرُ] الّذي تكبّر عن كلّ ما يوجب حاجة و نقصانا أي إنّه المبالغ في الكبرياء و العظمة أقصى المراتب و الّذي تكبّر عن كلّ ما يوجب حاجة و نقصانا و صيغة التفعّل للتكليف بما لم يكن فإذا قيل: تكبّر و تسخّى دلّ على أنّه بري ء و يظهر الكبر و السخاء و ليس بكبير و لا سخيّ و التكليف بما لم يكن لمّا كان على اللّه مستحيلا حمل على لازمه و هو كمال الكبر و منه ترحّمت على إبراهيم بمعنى رحمة كمال الرحمة و الفرق بين المتكبّر أنّ المتكبّر عامّ لإظهار الكبر الحقّ كما وصف اللّه و لإظهار الكبر الباطل كما في قوله: «سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» و الاستكبار إظهار الكبرياء باطلا كما في حقّ إبليس استكبر.

فإن قيل: إنّ التكبّر صفة ذم فكيف جعل من أسماء الله؟

فالجواب أنّ التكبّر هو الامتناع عن الانقياد فلهذا كان مذموما في حقّ الخلق و هو صفة مدح في حقّ اللّه لأنّه يفيد الاستغناء و المتكبّر هو الّذي يرى غيره حقيرا بالنسبة إلى شخصه و هذا المعنى لا يتصوّر إلّا للّه فهو المتكبّر و خاصيّة هذا الاسم ظهور الخير و البركة.

[سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له تعالى عن إشراكهم أي سبّحوا اللّه تسبيحا و نزّهوه تنزيها عمّا يشركه الكفّار به من المخلوقات.

[هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته و معنى الخلق التقدير يقال:

خلق النعل إذا قدّرها و سوّاها بمقياس و خاصيّة هذا الاسم إذا ذكر في جوف الليل ساعة فما فوقها يتنوّر قلب الذاكر و يذكر لجمع الضائع و الغائب خمسة آلاف مرّة.

ص: 105

[الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ] الموجد للأشياء حالكون الأشياء بريئة من التفاوت و النقصان بحيث لا يجوز أن يزيد عليها أو ينقص منها على حسب ما يقتضيه المصلحة مثل أن يكون اللازم من السماوات أن تكون في الخلقة عالية و الأرض سافلة المصوّر لصور الأشياء بالشكل المخصوص و مميّزها عن غيرها و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خلق اللّه آدم على صورته أراد بالصورة ما خصّ الإنسان به و لو رجع الضّمير إليه تعالى فمن قبيل إضافة التشريف مثل بيت اللّه و ناقة اللّه لا على سبيل التشبيه و البعضيّة تعالى شأنه عن الصورة و الصورة الإلهيّة عبارة عن الصفات السبع المرتّبة و هي الحياة و العلم و الإرادة و القدرة و السمع و البصر و الكلام و آدم مظهر هذه الصفات بالفعل دون سائر الموجودات.

بالجملة فقد يظنّ أنّ هذه الأسماء مترادفة و الكلّ يرجع إلى معنى و ليس كذلك بل «الْخالِقُ» في الأسماء المقدّر على وجه الحكمة «الْبارِئُ» الموجد على ذلك التقدير «و المصوّر» المبدع لأشكال المحدثات بحيث يترتّب عليها خواصّها و كلّ ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى التقدير أوّلا و إلى الإيجاد على وفق التقدير ثانيا و إلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا فقدّم سبحانه ذكر الخالق على البارئ لأنّ الإرادة و التقدير متقدّمة على تأثير القدرة و قدّم البارئ على المصوّر لأنّ إيجاد الذات متقدّم على إيجاد الصفات و لو أنّه تعالى يوجّه الأشياء بتمامها أقلّ من طرفة عين إذا أراد لكن صورة الترتيب كما وصف اللّه نفسه تعالى.

[لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لدلالتها على المعاني الحسنة و الحسنى تفضيل الأحسن مؤنّثا كالعليا في تأنيث الأعلى إذ لا نسبة لأسمائه إلي غير الأسماء كما لا نسبة لذاته المتعالية إلى ذوات الغير و تعدّد الأسماء لا يدلّ على تعدّد المسمّى كما أنّ الواحد يسمّى أبا من وجه و جدّا من وجه و خالا من وجه و عالما من وجه و طبيبا من وجه.

و قيل: إنّ أسماء اللّه أربعة آلاف اسم ألف منها في القرآن و الأخبار و ألف في التوراة و ألف في الإنجيل و ألف في الزبور قال رسول اللّه في دعائه: أسألك بكلّ اسم سمّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب فعلى هذا كون أسماء الحسنى تسعة و تسعين- على ما قيل- بالنظر إلى الأشهر

ص: 106

الأشرف.

قال بعض أهل الذكر: إنّ من السرّ المكتوم في الأسماء أن يأخذ حروف الأسماء مثل قولك: الكبير المتعال و لا يأخذ الألف و اللام بل يأخذ كبير متعال و ينظركم لها من العدد بالجمل الكبير فتذكّر ذلك العدد في خلوة بالشرائط المعتبرة عند أهل الذكر من الطهارة و أمثالها لا يزيد عن العدد و لا ينقص لأنّ العدد و لا ينقص لأنّ العدد في الذكر بالأسماء كأسنان المفتاح و إنّها إذا زادت أو نقصت لا تفتح الباب فإنّه يستجاب لك و هو الكبريت الأحمر فضنّ الدرّ و افهم السرّ.

و اعلم أنّ إطلاق الاسم على اللّه توقيفيّ عند الأكثر و لا يصحّ إطلاقه إلّا بعد أن كان و اردا في القرآن أو الحديث الصحيح و قيل: كلّ لفظ دلّ على جلالة اللّه و يليق به جائز الإطلاق و إلّا فلا و استدلّوا بقوله تعالى: «وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» فكلّ اسم دلّ على هذه المعاني كان اسما حسنا و إنّه لا فائدة في الألفاظ إلّا رعاية المعاني فإذا كانت المعاني صحيحة كان المنع من إطلاق اللفظ المقيّد غير لائق.

[يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ينطق بتنزّهه عن جميع النقائص الأشياء إمّا نطقا و بيانا و إمّا برهانا و خلقا لأنّ وجود كلّ موجود ينطق في عالم الصورة أو المعنى على قدرته لأنّ ذلك الموجود شاهد قدرته.

[هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب على أمره الحكيم العالم بحقيقة الأشياء على ما هي عليه و هي أنفس المعارف و أكثرها خيرا كما قال: «وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» (1) و الإنسان إذا حصل له الحكمة لا ينبغي له أن يفتخر بذاته بل بصفاته و لا ينبغي أن يمدح نفسه إلّا على مصلحة دينه و الفخر بالذات لا يكون إلّا للّه و هذا كما قال سبحانه: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» (2) لكنّ الترتّب و المزايا بالأوصاف و لذا ذكر سبحانه شرف التربة و الوصف بقوله: «يُوحى إِلَيَّ» و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا سيّد ولد آدم و لا فخر أي لا افتخر عليكم بالسيادة و إنّما أفتخر بالعبودية فإذا كان هذا كلام

ص: 107


1- البقرة: 269.
2- الكهف: 111.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو أكمل الكاملين في الإمكان فكيف يجوز أن يمدح الناقص نفسه فمدحه لنفسه سمّ قاتل ينبئ عن العجب و شهادة الزور لجهله بمقامه عند اللّه هل هو مقبول أو مردود.

فائدة اعلم أنّ الحكمة الشريعة المحمّديّة هي الحكمة الكاملة الّتي نحن مأمورون بامتثالها و إنّما الأولى لنا أن نسكت عن امور يدقّ عن أفهامنا من العلوم الغامضة في علم الكلام مثلا مثل أنّ الصفات الثابتة هل هي موجودات بوجودات مستقلّة غير وجوده أوّلا و مثل أنّ الوجود هل هو واحد و اللّه سبحانه هو ذلك الوجود و سائر الموجودات مظاهر له و لا وجود لها بالاستقلال أوله وجود زائد على ذاته واجب لها مقتضية هي إيّاه و أمثال هذه المباحث و أنّ ما أبهم علمه فالأدب فيه السكوت بعد الإيمان بالقرآن و الحديث فإنّ المرء لا يسأل إلّا عن علم لزمه في إقامة الطاعة لمولاه بل لا يجوز أن يناظر أحد في ذات اللّه بل في صفاته المتعالية عن القياس.

و في الحديث إنّ هلاك هذه الأمّة إذا نطقوا في ربّهم و إنّ ذلك من أشراط الساعة فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخرّ ساجدا متى ما سمع ما يتعالى عنه ربّ العزّة و لا يجيب السائل عن ذلك إلّا بمثل ما جاء به القرآن في آخر سورة الحشر من ذكر أفعاله و صفاته و لا يدقّق الكلام فيه تدقيقا فإنّ ذلك من الشيطان و ضرر ذلك و فساده أكثر من نفعه حتّى قيل: إنّه ما في فرق الإسلاميّة أسوء حالا من المتكلّمين لأنّهم ادّعوا معرفة اللّه بالعقل على حسب ما أعطاهم نظر هم القاصر و الحقّ منزّه عن أن يدرك أو يعلم بأوصاف خلقه عقلا كان أو علما فإنّ اللّه ما جعل الحواسّ الظاهرة و الباطنة طريقا إلّا إلى معرفة المحسوسات و العقل بلا شكّ منها فلا يدرك الحقّ بها لأنّه تعالى ليس بمحسوس و لا بمعلوم معقول و طريق المعرفة من طريق ما بيّنه القرآن و الرسل.

و الفاضل محمّد الشهرستانيّ صاحب كتاب الملل و النحل كان من كبار المتكلّمين و فحولهم و له مباحث كثيرة في علم الكلام حتّى قيل في حقّه: لم يسبق إليه سواه ثمّ انتهى إلى العجز و تحيّر في الذات حتّى رجع إلى مذهب العجائز فقال: عليكم بدين العجائز فانّه أسنى الجوائز و أنشد:

ص: 108

لقد طفت في تلك المعاهد كلّهاو سيّرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلّا واضعا كفّ حائرعلى ذقن أو قارعا سنّ نادم

أتيت بيوتا لم تنل من ظهورهاو أبوابها عن فرع مثلك سدّت

و الوجه الأصح أن يعتقد العبد الدين الّذي جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دعا إليه و لا يدخل إليه شيئا من نظر عقله لا في تنزيه و لا في تشبيه بل يؤمن بكلّ آية جاءت في القرآن في ذاته و صفاته تعالى و يكل علمه إلى اللّه و هذا هو الطريق الصحيح و على ذلك كانت الصحابة و السالفون الصالحون و من طلب غير ذلك كان على خطر في المآل لأنّ فهم مثل هذه الأمور عسر لأنّا نرى أنّ العقلاء اختلفوا في اللّه و في الأدلّة و وقع بينهم اختلاف كثير في مثل هذا الأمر فالمعتزليّ يخالف الأشعريّ بل يكفّره و بالعكس و هم يخالفون الحكماء و بالعكس و كلّ طائفة تجهّل الاخرى و تكفّرها فعلم أنّ سبب ذلك هو اختلاف نظرهم و رأينا الأنبياء لم يختلف منهم اثنان في اللّه قطّ و كلّ دعوا إليه تعالى على باب واحد و كان اختلافهم في الفروع و ذلك بحكم اللّه في فصولها كما قال اللّه: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (1)» فقوله «وَ لا تَتَفَرَّقُوا» دليل على اجتماعهم على أمر واحد في الأصول و اختلاف الفروع لا يضرّ.

هذا آخر كلام الشيخ صدر الدين في رسالته المعمولة وصيّة للطالبين و عظة للراغبين.

و في عين المعاني قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سألت جبرئيل عن اسم اللّه الأعظم فقال: عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته فأعدت عليه فأعاد عليّ.

و عن أبي امامة يقول: قال رسول اللّه: من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فقبض ذلك اليوم أو الليلة فقد استوجب الجنّة و في رواية من قرء سورة الحشر فان مات في يومه أو ليلته مات شهيدا أي يثاب ثواب الشهادة على مرتبته و للشهادة مراتب تمت السورة بعون اللّه

ص: 109


1- الشورى: 13.

سورة الممتحنة

اشارة

(مدنية) و سمّيت سورة المودّة.

أبو حمزة الثماليّ عن عليّ بن الحسين قال: من قرأ هذه الصورة في فرائضه و نوافله امتحن اللّه قلبه للإيمان و نوّر بصره و لا يصيبه فقر و لا جنون. افتتح سبحانه هذه السورة بذكر تحريم موالاتهم و إيجاب معاداتهم.

ص: 110

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الممتحنة (60): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)

سمّيت السورة ممتحنة لقوله: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ» فأضيفت السورة إليها.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة العبسيّ- بالحاء المهملة- و كان حاطب يبيع الطعام و كان من المهاجرين و أصل القصّه أنّه لمّا تجهّز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لغزوة الفتح في السنة الثامنة من الهجرة كتب حاطب إلى أهل مكّة إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يريدكم فخذوا حذركم فإنّه توجّه إليكم في جيش كالليل و أرسل الكتاب مع امرأة يقال لها «سارة» و أعطاها عشرة دنانير و بردة و توجّهت إلى مكّة و معها كتاب حاطب.

ص: 111

فنزل جبرئيل و أخبره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا و عمّارا و طلحة و الزبير و المقداد و أبا مرثد و قال: انطلقوا حتّى تأتوا خاخ موضع بين الحرمين فإنّ بها ظعينة- و الظعينة المرأة مادامت في الهودج و إذا لم تكن في الهودج فهي المرأة- معها كتاب حاطب فخذوه منها و خلّوها فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها ثمّة فجحدت فسلّ علي عليه السّلام سيفه فأخرجته من عقاصها.

(و روى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمن جميع الناس يوم فتح مكّة إلّا أربعة هي أحدهم فأمر بقتلها).

فاستحضر حاطبا فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول اللّه ما كفرت منذ أسلمت و لا غششتك مذ نصحتك و لكنّي كنت امرأ حليفا مع قريش و لم أكن منهم، و من معك من المهاجرين كان لهم فيهم قرابات يحمون أهاليهم و أموالهم و ليس لي من يحميني فأردت أن آخذ عندهم يدا و لم أفعله كفرا و ارتدادا عن ديني و قد علمت أنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدّقه رسول اللّه و قبل عذره و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم و إنّ حاطب ادّعى لعمله الفاسد تأويلا فقبل منه و العذر عند كرام الناس مقبول انتهى.

قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» خاطب سبحانه المؤمنين و نهاهم أن يتّخذوا الكافرين أولياء يوالونهم و يستنصرون بهم و ينصرونهم [تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ] الودّ تمنّي كون الشي ء و محبّته و يستعمل في كلّ من المعنيين أي توصلون محبّتكم بالمكاتبة و الهدية و نحوها من الأسباب المقتضية للمودّة و الباء زائدة مثل «بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» [وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ حال من فاعل «تُلْقُونَ» و الحق القرآن أو دين الإسلام أو النبيّ.

[يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ حال من فاعل كفروا أي مخرجين الرسول و إياكم من مكّة و المضارع لاستحضار الصورة [أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ تعليل للإخراج أي لعلّة إيمانكم باللّه خالقكم و مدبّركم [إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي لا تتولّوا أعدائي إن كنتم أوليائي و تبتغون مرضاتي و تجاهدون في سبيلي

ص: 112

لأنّكم إن كنتم خرجتم عن أوطانكم لأجل هذين الأمرين فلا ينبغي معهم التصادق.

و المرضاة مصدر كالرضى.

[تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ] استيناف وارد على جهة التوبيخ كأنهم سألوا ماذا صدر عنّا؟ فقيل: تلقون إليهم بالمودّة سرّا [وَ أَنَا أَعْلَمُ حال من فاعل «تسرّون» [بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ من مودّة الأعداء.

[وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ و يتّخذ المنهيّ عنه [فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ و أخطأ طريق الحقّ و الصواب و «من» من إضافة الصفة إلى الموصوف.

[إِنْ يَثْقَفُوكُمْ و الثقف الحذق في إدراك الشي ء أي إن يتمكّنوا منكم و يظفروا بكم [يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً] يرتبوا عليكم ما يقتضي عداوتهم إيّاكم و لا ينفعكم إلقاء المودّة إليهم [وَ يَبْسُطُوا] و يطيلوا [إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ] و بما يضرّكم من القتل و الأسر و الشتم.

[وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كلمة لو مصدريّة بمعنى أن و تمنّوا ارتدادكم و كونكم مثلهم كقوله: «وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ».

[لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ الرحم في الأصل وعاء الولد في بطن امّه فاستعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة [وَ لا أَوْلادُكُمْ الّذين يوالون المشركين لأجلهم و يتقرّبون إليهم محاماة عليهم.

[يَوْمَ الْقِيامَةِ] يوم يفر المرء من أخيه بجلب نفع أو دفع ضرّ و الظرف متعلّق لقوله: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ» فيوقف عليه ثمّ يبتدأ بما بعده [يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ و يفرق بين الوالد و الولد بما يعتريكم من أهوال القيامة و يدخل أهل طاعته الجنّة و أهل معصيته النار. [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] فيجازيكم بحسبه.

[قَدْ كانَتْ لَكُمْ أيّها المؤمنون [أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] الأسوة كالقدوة هي الحالة الّتي يكون الإنسان عليها في اتّباع غيره حسنا كان أو قبيحا و أسوة اسم كانت و لكم خبرها [فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أي من أصحابه من المؤمنين ولي بك أسوة أي اقتداء

ص: 113

في سنّتك و أقوالك و أفعالك و قيل: المراد من الّذين مع إبراهيم الأنبياء الّذين كانوا قريبا من عصره لأنّه لم يرد أنّ إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحة نمرود حتّى قيل: إنّه عليه السّلام قال لسارة حين رحل بها إلي الشام مهاجرا بلاد نمرود: ما على الأرض من يعبد اللّه غيري و غيرك.

[إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ الكفّار: [إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ جمع بري ء أي برءاء منكم كظريف و ظرفاء [وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام أظهروا البراءة أوّلا منهم مبالغة و ثانيا من عملهم الشرك و حاصل الآية هلّا فعلتم كما فعل إبراهيم حيث تبرّأ من عمّه و قومه لكفرهم [كَفَرْنا بِكُمْ أي بدينكم على إضمار المضاف [وَ بَدا بَيْنَنا] أي ظهر ظهور بيننا و البادية كلّ مكان يبدو ما يعقّ و يعرض فيه و بيننا ظرف لبدا [وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً] أي هذا دأبنا معكم لا نتركه و قد حصل بيننا و بينكم العداوة [حَتَّى غاية لبدا [تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ و تتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة حينئذ الولاية و المقت مقة و الوحشة الفة.

[إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ أي اقتدوا و تأسّوا بإبراهيم في كلّ أموره إلّا في هذا القول فلا تقتدوا به فيه فإنّه إنّما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إيّاه بالإيمان فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للّه تبرّأ منه قال الحسن: و إنّما تبيّن له ذلك عند موت أبيه و لو لم يستثن ذلك لظنّ أنّه يجوز الاستغفار للكفّار مطلقا من غير موعدة بالإيمان منهم فنهوا لمن يقتدوا به في هذا خاصّة و قيل: كان آزر ينافق إبراهيم و يريه أنّه مسلم فيستغفر له و حاصل معنى الكلام و الاستثناء أنّ استغفار إبراهيم لأبيه لا يحملنّكم على أن تتأسّوا به و تستغفرون للكفّار فذلك ممنوع لكم و أمّا استغفاره فكان لهذه الجهة ظنّا منه أنّه مسلم أو سيسلم.

[وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ] بقيّة قول إبراهيم أي أستغفر لك و ليس في قدرتي دفع العذاب عنك إن لم تؤمن [رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا] اعتمدنا [وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا] و رجعنا [وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ] و الرجوع في الآخرة و تقديم الجارّ و المجرور لقصر الإنابة و التوكّل عليه.

ص: 114

[رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا] من بقيّة كلام إبراهيم و من معه أي لا تسلّطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نطيقه فالفتنة بمعنى المفتون أو المعنى لا تقتر علينا الرزق و تبسط عليهم فيظنّوا أنّا على الباطل [وَ اغْفِرْ لَنا] ما فرط منّا من التقصير [رَبَّنا] تكرير النداء للمبالغة في التضرّع فيكون لاحقا بما قبله كما عليه السجاونديّ حيث وضع علامة الوقف الجائز على ربّنا و تلك العلامة الجيم و قيل: ربّنا استيناف لما بعده توسّلا إلى إثبات العزّة و الحكمة [إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب في أمره الحكيم في أفعاله.

قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60): الآيات 6 الى 9]

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

تكرير للمبالغة في الحثّ على الاتّساء بإبراهيم و من معه من الأنبياء أو أمر الاتّساء في الآية السابقة بالقول و في هذه الآية في الفعل و قيل: في الاولى التأسّي به في العداوة مع الكفّار و في الثانية في الخوف و الخشية من اللّه لتنالوا ثواب ما نالوا [لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ] بالإيمان به تعالى و التصديق بالقيامة و وقوعها و الرجاء و الخوف و توقّع محبوب و خوف مكروه عن أمارات مظنونة و الرجاء أيضا يستعمل في الخوف مجازا.

[وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] أي و من يعرض عند الاقتداء بهم في التبري عن الكفّار و الأهم فإنّ اللّه مستغن عن خلقه و مستحقّ للحمد في ذاته و في الحديث القدسيّ من صحاح الأحاديث يا عبادي لو أنّ أوّلكم و آخركم و إنسكم و جنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا و إذا كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أنّ أوّلكم و آخركم

ص: 115

و إنسكم و جنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ إنسان مسألته ما نقص ذلك من عندي إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر يا عبادي إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم ثمّ اوفيكم إيّاها فمن وجد خيرا فليحمد اللّه و من وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه.

[عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي من أقاربكم المشركين و عسى و لعلّ في القرآن وعد من اللّه و تذكرة ليكون الإنسان منه على رجاء لا بمعنى أنّه تعالى راج. قوله: [مَوَدَّةً] بأن يوافقواكم في الدين و قد أنجز وعده حين أتاح لهم الفتح فأسلم منهم جمع و كانوا أعداء أشدّ العداوة و وقع بينهم التحابب و التصافي [وَ اللَّهُ قَدِيرٌ] مبالغ في القدرة [وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لمن أسلم من المشركين أو غفور لما فرط منكم في موالاة أعداء اللّه بشرط إيمانكم و في الحديث من نظر إلى أخيه المؤمن مودّة لم يكن في قلبه إحنة لم يطرف حتّى يغفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه.

[لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ أي لا ينهاكم اللّه عن مودّة الّذين لم يقاتلوكم و عاهدوكم على ترك القتال و لم يقاتلوكم على الدين [وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل الاشتمال عن الموصول و برّهم أن تعاملوهم بالعدل [وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي تعدلوا فيما بينكم و بينهم من الوفاء بالعهد.

و قيل: إن المسلمين استأذنوا النبيّ في أن يبرّوا إلى أقربائهم من المشركين و يحسنوا إليهم و ذلك قبل أن يؤمروا بقتال جميع المشركين فنزلت هذه الآية و هي منسوخة بقوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (1)» و قيل: إنّه عنى بالّذين لم يقاتلوكم من آمن من أهل مكّة و لم يهاجر و قيل: هي عامّة في كلّ من كان بهذه الصفة. و الّذي عليه الإجماع أنّ برّ الرجل من يشاء قرابة كان أو غير قرابة ليس بمحرّم و إنّما الخلاف في إعطائهم الزكاة و الفطرة و الكفّارات و حاصل الكلام أنّكم غير منهيّين عن أن تبرّوا الّذين لم يقاتلوكم.

[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين و قيل: المعنى: إنّ اللّه يحبّ الّذين يجعلون لقراباتهم قسطا ممّا في بيوتهم من المطعومات و قيل: إنّ قوله: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ الآية»

ص: 116


1- التوبة: 6.

نزلت في قوم من خزاعة كانوا معاهدين مع رسول اللّه و لم يقصدوا بالمسلمين بسوء و ما نصروا أعداء النبيّ فنزلت الآية فيهم و القسط إذا كان بمعنى الجور فالإقساط بمعنى إزالة الظلم و الهمزة للسلب مثل أشكيته، و من أزال الظلم اتّصف بالعدل.

[إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ و إطفاء نوره [وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ و هم عتاة مكّة و جبابرتهم [وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ و عاونوا الجبابرة في إخراجكم [أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل من الموصول أي إنّما ينهاكم عن أن تتولّوهم.

[وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ و يتوادّهم [فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لوضعهم الولاية في موضع العداوة بتعريض أنفسهم للعذاب و أورد كلمة الحصر تغليظا و لكنّ المبرّة غير الموالاة و الموالاة للكافر غير جائز إجماعا و المبرّة أيضا لغير المقاتل و للمقاتل غير جائزة.

قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60): الآيات 10 الى 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

النزول: قال ابن عبّاس: صالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحديبية مشركي قريش على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم و من أتى من أصحاب رسول اللّه فهو لهم و لم يردّوه و كتبوا بذلك كتابا و ختموا عليه كما سبق شرحه فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلميّة مسلمة بعد الفراغ من الكتاب و النبيّ بعد بالحديبية فأقبل زوجها رجل من بني محزوم و كان كافرا فقال: يا محمّد اردد إليّ امرأتي فإنّك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا و هذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد و فنزلت الآية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ» من دار الكفر إلى دار الإسلام «فَامْتَحِنُوهُنَّ».

قال ابن عبّاس: امتحانهنّ أن يستحلفن أنّها ما خرجت من بغض زوج و لا رغبة عن أرض إلى أرض و لا التماس دنيا و ما خرجت إلّا حبّا للّه و لرسوله فاستحلفها رسول اللّه

ص: 117

فحلفت باللّه الّذي لا إله إلّا هو على ذلك فأعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زوجها مهرها و ما أنفق عليها و لم يردّها عليه فكان رسول اللّه يردّ من جاءه من الرجال و يحبس من جاءه من النساء إذا امتحنّ و يعطي أزواجهنّ مهورهنّ انتهى.

المعنى: [إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ و لعلّ التسمية بالمؤمنات لكونهنّ كذلك في علم اللّه و ذلك لا ينافي الامتحان لغير، [مُهاجِراتٍ حال من المؤمنات [فَامْتَحِنُوهُنَ و اختبروهنّ أنّ قلوبهنّ موافقة للسانهنّ في الإيمان [اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ منكم و الجملة اعتراض.

[فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَ بعد الامتحان [مُؤْمِناتٍ العلم الّذي يمكنكم تحصيله و هو الظنّ الغالب بالحلف و ظهور الأمارات و إنّما سمّاها علما إشعارا بأنّه جار مجرى العلم في وجوب العمل به ففي علمتوهنّ استعارة تبعيّة [فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ] و لا تردّوهنّ إلى أزواجهنّ الكفرة.

[لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ تعليل للنهي عن ردّهنّ إليهم لأنّه لا تحلّ مؤمنة لكافر لشرف الإيمان و لا يجوز أن ينكح كافر مسلمة.

[وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا] و أعطوا أزواجهنّ مثل ما دفعوا إليهنّ من المهور و الشرط في الحديبية إنّما كان للرجال دون النساء لضعف النساء عن الدفع عن أنفسهنّ و عجزهنّ لكنّ المقيمة منهنّ على شركها مردودة عليهم و في الآية إيذان بأنّ الوليّ كائنا من كان لا يجوز له تزويج مؤمنة له ولاية عليها بمبتدع في الدين بحيث تفضي بدعته إلى الكفر فضلا عن الكافر.

أقول: و لعلّ أن يكون بعض المتصوّفة من أهل زماننا داخلا في هذا الحكم لأنّ بعضهم يدّعون القطبيّة العظمى و بسبب هذا العنوان يغيّرون بعض الفروعات من العبادات إلى ما لا ينبغي فعله أو تركه و ليست البدعة إلّا أمثال هذه الأمور و لا شكّ أنّ القطبيّة لا يحصل إلّا لمن جعله اللّه قطبا لمدار أمر العالم و ذلك مختصّ بالنبيّ و الوليّ المنصوص عليه من قبل البنيّ خاصّة فادّعاؤهم هذا الأمر ليس إلّا كذبا محضا و خارجا عن الحكمة الإلهّية و يؤول إلى تحريف الدّين و تأسيس امور محرّفة عن وضعها

ص: 118

و هذه هي البدعة بل من أشراط الساعة لأنّ القيامة من أشراطها أن يتغيّر أحوال كلّ طائفة عاما فعاما شهرا فشهرا اسبوعا فاسبوعا يوما فيوما لا يزال هذا التغيّر إلى انقراض الأخيار و لا يقوم الساعة إلّا على الأشرار.

و في الحديث ما من نبيّ بعثه اللّه في امّة قبلي إلّا كان له من امّته حواريّون يأخذون بسنّته و يقتدون بأمره ثمّ إنّها تخلف من بعدهم خلوفا يقولون ما لا يفعلون و يفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن و من جاهدهم بلسانه فهو مؤمن و من جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يذهب الصالحون الأوّل فالأوّل و يبقى حثالة كحثالة الشعير و التمر لا يبالي بهم اللّه و أوّل التغيّر في الأمراء ثمّ في العلماء ثمّ في الفقراء ففي كلّ طائفة أهل هدى و أهل هوى فكن من أهل الهدى و لا تكن من أهل الهوى أو المشبّهين لهم فإنّ من تشبّه بقوم فهو منهم و من كثّر سواد قوم فهو منهم و في الحديث من أحبّ قوما على فعلهم حشر في زمرتهم و حوسب بحسابهم و إن لم يعمل بعملهم انتهى.

قوله: [وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ هذا هو الحكم الثالث يقال: جنحت السفينة أي مالت إلى أحد جانبيها و الإثم المائل بالإنسان عن الحقّ سمّي جناحا استعارة [أَنْ تَنْكِحُوهُنَ أي تنكحوا المهاجرات و تتزوّجوهنّ و إن كانت لهنّ أزواج كفّار من أهل الحرب فإنّ إسلامهنّ حال بينهنّ و بين أزواجهنّ الكفّار [إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ إذا ظرفيّة أو شرطيّة جوابها محذوف دلّ عليه ما تقدّمها شرط إيتاء المهر في نكاحهنّ إيذانا بأنّ ما اعطي أزواجهنّ لا تقوم مقام المهر لأنّ ظاهر النظم يقتضي إيتاءهنّ إيتاء إلى الأزواج و إيتاء إليهنّ على سبيل المهر.

[وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ] هذا هو الحكم الرابع أي لا تمسكوا بنكاح الكافرات و أصل العصمة المنع و سمّي النكاح عصمة لأنّ المنكوحة تكون في حبال الزوج و عصمته و في هذا دلالة على أنّه لا يجوز العقد على الكافرة سواء كانت حربيّة أو ذمّيّة لأنّه عامّ في الكوافر جمع كافرة و ليس لأحد أن يخصّ الآية بعابدة الوثن لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب و الكوافر طائفتان من النساء طائفة قعدت

ص: 119

عن الهجرة و ثبتت على الكفر في دار الحرب ارتدّت عن الهجرة و لحقت بأزواجها الكفّار و حاصل المعنى لا يكن بينكم و بين المشركات و الكافرات علقة زوجيّة.

قال بعض أهل التفسير من العامّة: المراد بالعصمة هنا النكاح بمعنى من كانت له زوجة كافرة بمكّة أو ارتدّت و رجعت إلى مكّة لا يعدّها من نسائه فيكون بيان حكم اللاتي بقين في دار الكفر و ما أسلمن و لا هاجرن بعد الإسلام أزواجهن و هجرتهم.

قال الحقّي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر فيكون قوله: «وَ لا تُمْسِكُوا» بمقابلة قوله: «إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ» أي حكم اللاتي أسلمن و هاجرن هذا و حكم المسلمات اللاتي ارتددن و خرجن من دار الإسلام إلى دار الكفر هذا.

قوله: [وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ هذا هو الحكم الخامس أي و اسألوا الكفّار أيّها المؤمنون من مهور نسائكم اللاحقات بالكفّار أي إذا ارتدّت امرأة أحدكم و لحقت بدار الحرب فاسألوا ما أنفقتم لها ممّن تزوّجها [وَ لْيَسْئَلُوا] أي الكفّار منكم ما أنفقوا من مهور نسائهم المهاجرات إليكم أي يسأل كلّ كافر أسلمت امرأته و هاجرت إلينا ممّن تزوّجها منّا مهرها.

[ذلِكُمْ الّذي ذكر في هذه الآية من الأحكام [حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ مستأنف للتأكيد [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قيل: كان في صدر الإسلام تكون المسلمة تحت الكافر و الكافرة تحت المسلم فنسخته هذه الآية.

و لمّا نزلت هذه الآية آمن المؤمنون بحكم اللّه و أدّوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم و أبى المشركون أن يقرّوا بحكم اللّه فيما أمرهم به من أداء نفقات المسلمين فنزل [وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي و إن سبقكم و أتلف منكم شي ء من أزواجكم و المراد من الأزواج الزوجات و فاتكم شي ء قلّ أو كثر من مهور أزواجكم [فَعاقَبْتُمْ من العقبة و هي المناوبة و المعنى فجاءت نوبتكم و عقبتكم من أداء المهر مثل أن هاجرت امرأة الكافر مسلمة إلى المسلمين و لزمهم أداء مهرها إلى زوجها الكافر بعد أن فاءت امرأة المسلم إلى الكفّار [فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا] أي من المهاجرة الّتي تزوّجتموها و لا تؤتوا زوجها الكافر أي إن فاءت امرأة مسلم إلى الكفّار

ص: 120

و لم يعط الكفّار مهرها فإذا هاجرت امرأة كافر إلى المسلمين وجب على المسلمين أن يعطوا المسلم الّذي فاءت امرأته إلى الكفّار مثل مهر زوجته الفائتة من مهر هذه المهاجرة ليكون كالعوض لمهر زوجته الفائتة و لا يجوز لهم أن يعطوا مهر هذه المهاجرة زوجها الكافر الأوّلي.

و إنّما عبّر سبحانه بالمعاقبة لأنّه شبّه ما حكم به على المسلمين و الكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة و أداء أولئك مهور نساء هؤلاء اخرى بأمر يتعاقبون فيه مثل النوبة كما يتعاقب في الركوب.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لا بغيره فإن الإيمان به يقتضي التقوى منه.

[سورة الممتحنة (60): الآيات 12 الى 13]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)

[يا أَيُّهَا النَّبِيُ نداء تشريف و تعظيم [إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ مبايعات و قاصدات للبيعة. نزلت يوم الفتح فإنّه عليه السّلام لمّا فرغ من بيعة الرجال شرع في بيعة النساء سمّيت البيعة لأنّ المبايع يبيع نفسه بالجنّة و من عادة الناس حين المبايعة بعد أن يضع أحد المتبايعين يده على يد الآخر ليكون معاملتهم محكمة فمبايعة الامّة رسولهم التزام طاعته و المعاونة له و مبايعة الرسول إيّاهم الوعد بالثواب و القيام بمصالحهم إن كانوا ثابتين على المعاهدة.

[عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً] من الأشياء من الإشراك و لا يتّخذون إلها غير اللّه [وَ لا يَسْرِقْنَ و السرقة أخذ ما ليس له أخذه في الخفاء أي لا يأخذن مال أحد بغير حقّ [وَ لا يَزْنِينَ الزنا وطي المرأة من غير طريق مشروع [وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ أريد به وأد البنات و دفنهنّ أحياء خوف الفقر و العار و في تفسير أبي الليث: و لا يشربن دواء فيسقطن حملهنّ.

ص: 121

[وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَ البهتان الكذب الّذي يبهت المكذوب عليه و يدهشه فيكون أقبح أنواع الكذب ثمّ وصفه بكونه مفترى مبالغة في الكذب و الافتراء الاختلاق فري فلان كذبا إذا خلقه بين أيديهن و أرجلهنّ ظرف متعلّق بفعل تقديره يوجد بين أيديهنّ.

و حاصل المعنى لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم. قال الفرّاء: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهنّ و أرجلهنّ و ذلك أنّ الولد إذا وضعته الأمّ سقط بين يديها و رجليها و ليس المراد نهيهنّ من أن يأتين بولد من الزنا فينسبنه إلى الأزواج لأنّ الشرط بنهي الزنا قد تقدّم. و قيل:

معنى الآية في البهتان الّذي نهين عنه قذف المحصنات و الكذب على الناس و إضافة الأولاد على الأزواج باطلا.

[وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ و لا يخالفنك فيما تأمرهن به و تنهاهن عنه و كلّ ما وافق في طاعة اللّه و رسوله فعلا أو تركا فهو معروف و المعروف خلاف المنكر مثل أن لا يتركن الواجبات مثل الصلاة و الصوم و لا يرتكبن المنكرات مثل المحرّمات حتّى النياحة و تمزيق الثوب و حلق الشعر في المصيبة و نتفه و نشره و خمش الوجه، و أن تحدّث المرأة الرجال إلّا ذا رحم محرّم و أن تخلو برجل غير محرّم و أمثاله و الآية شاملة للكلّ و تخصيص الأمور المذكورة المعدودة بالذكر في حقّهنّ لكثرة وقوعها فيما بينهنّ و لتقدّم الأقبح على ما هو أدنى قبحا منه.

[فَبايِعْهُنَ جواب لإذا و هو العامل فيه أي فبايعهنّ إذا قبلن هذه الشروط و ما لم يذكر من الشروط في المبايعة كالصلاة و الزكاة و غيرها فذلك أمر منطبق مفهوم من قوله: «وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ».

[وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهنّ إذا وفين بما بايعن عليه قال بعض أهل التحقيق: إنّه تعالى غافر لأنّه يزيل معصيتك عن ديوانك و غفور لأنّه ينسئ الملائكة أفعالك السوء و غفّار لأنّه ينسيك أيضا ذنبك كيلا تستحي.

ص: 122

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا و شرع في بيعة النساء و دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده الشريف ثمّ غمس أيديهنّ فجاءت هندة بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكّرة خوفا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يعرفها لما صنعته بحمزة يوم احد من المثلة.

فلمّا قال عليه السّلام: أبا يعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا رفعت هندة رأسها فقالت:

و اللّه لقد عبدنا الأصنام و إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام و الجهاد فلمّا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «وَ لا يَسْرِقْنَ» قالت: إنّ أبا سفيان رجل شحيح و إنّي أصبت من ما له هنات أي شيئا يسيرا فما أدري أ يحلّ لي؟ فقال أبو سفيان:

ما أصبت فهو لك حلال فضحك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: أنت هندة؟ فقالت: نعم فاعف عمّا سلف يا نبيّ اللّه عفا اللّه عنك.

فقال: «وَ لا يَزْنِينَ» فقالت: و هل تزني الحرّة؟.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ» فقالت: ربّينا هم صغارا و قتلتهم كبارا فأنتم و هم أعلم، و كان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر حتّى استلقى و تبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال: «وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ» فقالت: إنّ البهتان لأمر قبيح.

فقال: «وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ» فقالت: و اللّه ما جلسنا مجلسنا هذا و في أنفسنا أن نعصيك.

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بايعهنّ و بين يديه و أيديهنّ ثوب قطريّ ضرب من البرد و يأخذ بطرف منه و يأخذن بالطرف الآخر توقّيا عن مساس أيدي الأجنبيّات.

و روي أنّه جلس على الصفا و معه عمر أسفل منه و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشترط عليهنّ البيعة و عمر يصافحهنّ و في رواية: إنّ عمر كان يبايع النساء بأمره و يبلّغهنّ عنه و قيل:

إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّفت امرأة وقفت على الصفا بايعتهنّ و هي اميمة اخت خديجه خالة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها و الأظهر الأشهر القدح و الغمس و كيف يجوز مصافحة عمر مع الأجنبيّات و هو أعلى حالا من كلّ وجه و أولى؟ انتهى.

ص: 123

ثمّ خاطب سبحانه المؤمنين فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي لا تتولّوا اليهود و قيل: المراد نوع الكفّار لأنّ كلّهم مغضوب عليهم لا رحمة لهم من الرحمة الاخرويّة و كان بعض فقراء المؤمنين يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فعلى هذا يكون المراد في الآية اليهود كما صرّح تعالى «وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ (1)» و القوم الرجال و يدخل فيه النساء تبعا لأنّ قوم كلّ نبيّ رجال و نساء [قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ] قطعوا الطمع من ثواب الآخرة و ينبغي أن يقطعوا طمعهم عن ثواب الآخرة لعنادهم الرسول المنعوت في التوراة أي إنّهم أهل الكتاب يؤمنون بالقيامة لكنّهم لمّا أصرّوا على كفرهم عنادا و حسدا لا بدّ و أن ييأسوا من ثوابها.

[كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ] أي كما يئس من السعادة و أيقن الّذين ماتوا منهم لأنّهم لمّا ماتوا و قفوا على حقيقة الحال و شاهدوا حرمانهم من الثواب و ابتلاءهم بالعذاب و قيل: معنى الآية كما يئس كفّار العرب من أن يحيي أهل القبور أبدا لأنّهم ما كانوا يعتقدون بالبعث و قيل: يعني يريد أنّهم يئسوا مثل يأسهم بعد دفن موتاهم منهم و قيل: «مِنَ» في الآية تبيينيّة فحينئذ يكون يأسهم مثل يأس الكفّار المقبورين و ذلك لأنّ الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك شديد الانتهار ثمّ يسأله: من ربّك و ما دينك و من نبيّك؟ فيقول: ما أدري فيقول الملك: أبعدك اللّه انظر إلى منزلتك من النار فيدعو الكافر بالويل و الثبور ثمّ يفتح له باب الجنّة فيقول: هذا لمن آمن باللّه فلو كنت آمنت بربّك نزلت الجنّة فيكون حسرة عليه و تنقطع رجاؤه و ييأس من خير الجنّة فذلك يأسه تمّت السورة بعون اللّه

ص: 124


1- المائدة: 63.

[سورة الصف (مدنية) و تسمّى سورة الحواريّين و سورة عيسى.

اشارة

ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ سورة عيسى كان عيسى مستغفرا له مادام في الدنيا و هو يوم القيامة رفيقه.

و عن أبي بصير عن الباقر عليه السّلام قال: من أدمن قراءة سورة الصفّ في فرائضه و نوافله صفّه اللّه مع ملائكته و أنبيائه.

ص: 125

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الصف (61): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)

نزّهه ما في السماوات من العلويّات الفاعلة و ما في الأرض من السفليّات القابلة آفاقا و أنفسا و سجّه جميع الأشياء من غير فرق بين موجود و موجود كما قال: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (1) [وَ هُوَ الْعَزِيزُ] الغالب على أمره [الْحَكِيمُ في أفعاله و كلّ شي ء هو يسبّحه طوعا أو كرها حتّى الكافر لأنّ وجوده دالّ على موجده و لا حكيم على الإطلاق غيره و لذا يجب تسبيحه و من أراد أن يصفو له تسبيحه فليصف عن آثار نفسه قلبه و من أراد أن يصفو له في الجنّة عيشه فليصف عن أوضار الهوى دينه.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إيمانا رسميّا [لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ روي أنّ المسلمين قالوا: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى اللّه لبذلنا فيه أموالنا و أنفسنا فلمّا نزل الجهاد كرهوه فنزلت الآية تعيير الهم بترك الوفاء و لم مركّبة من اللام الجارّة و ما الاستفهاميّة قد حذفت ألفها لكثرة استعمالهما معا كما في عمّ و فيم أي لأيّ شي ء تقولون نفعل ما لا تفعلون من الخير و المعروف؟ و مدار التعيير و التوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم و إنّما و جهه إلى قولهم تنبيها على أنّ المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد به أيضا منكر و لو قيل: لم لا تفعلون ما تقولون لفهم منه أنّ المنكر هو ترك الموعود مثل أن تذمّون الدّنيا بلسان الظاهر و تمدحونها بلسان الباطن لشهادة ارتكابكم أنواع الشهوات الحيوانيّة و أصناف

ص: 126


1- الإسراء: 44.

اللذّات الجسمانيّة.

[كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «كَبُرَ» مثل نعم و بئس فيه ضمير مبهم يفسّر بالنكرة بعده قوله: «أَنْ تَقُولُوا» هو المخصوص بالذمّ و المقت البغض الشديد و حاصل المعنى أنّه عظم بغضا في حكمته و عند علمه تعالى هذا القول المجرّد عن الفعل فهو أشدّ ممقوتيّة و مبغوضيّة و نعم ما قيل:

لا تنه عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

أوحى اللّه إلى عيسى يا بن مريم عظ نفسك فإن اتّعظت فعظ الناس و إلّا فاستحي منّي. قيل لبعض السلف: حدّثنا فسكت ثمّ قيل: له حدّثنا فقال: لهم أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت اللّه؟ و قال: ثلاث آيات منعتني أن أقصّ على الناس «أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» (1) الثانية «وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» (2) و الثالثة هذه الآية.

[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ أعداء اللّه [فِي سَبِيلِهِ و في طريق مرضاته و إعلاء دينه يرضى عنهم و يثني عليهم [صَفًّا] متصافّين قبالة أعداء اللّه و صفّا مصدر وقع موقع الفاعل أي صافّين أو موقع المفعول أي مصفوفين [كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ و البنيان الحائط و البناء ضدّ الهدم و بناه بناء و بنيانا مصدر بمعنى المبنيّ و الرصّ اتّصال بعض البناء بالبعض و استحكامه بوضع الحجر على الحجر ثمّ يرصّ بأحجار صغار ثمّ يوضع عليه اللبن أو غيره يسمى ه أهل مكة مرصوصا شبّه سبحانه وقوفهم في تراصّهم من غير فرجة و خلل بميل هذا البناء و هذا تعليم من اللّه للمؤمنين كيف يكونون في قتال عدوّهم و لذلك لا يجوز الخروج من الصفّ إلّا لحاجة تعرض للإنسان أو في رسالة يرسله الإمام أو منفعة يظهر للمقام المنتقل إليه. و في الخروج عن الصفّ للمبارزة و إرهابا للعدوّ و تحريضا على القتال قيل: لا بأس و قيل: لا يجوز و إنّما يكون المبارزة إذا طلبها الكافر كما كانت في حروب النبيّ يوم بدر و خيبر و ذلك صحيح و حسن بالاتّفاق و حكم الجهاد فرض كفاية على المستطيع و

ص: 127


1- البقرة: 44.
2- هود: 88.

إذا فعله البعض سقط عن الباقين و عند النفير العامّ و هو هجوم العدوّ فهو فرض عين و هذا الجهاد أحيانا دون أحيان و هو يقع مع الأعداء الظاهرة كالكفّار و المنافقين و أمّا الجهاد مع الأعداء الباطنة كالنفس و الشيطان فثابت مستقرّ حكمه إلى زهوق الروح كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المجاهد من جاهد نفسه في طاعة اللّه، و المهاجر هاجر الخطايا و الذنوب، و أعظم المجاهدات جهاد النفس.

[وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ كلام مستأنف مقرّر لمّا قبله من شناعة ترك القتال أي اذكر لهؤلاء المتقاعدين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (1)» فلم يمتثلوا بأمره و عصوه حيث قالوا: «يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إلى قوله:- فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (2)».

[يا قَوْمِ أصله يا قومي و لو لا تقدير الياء لقيل: يا قوم بالضمّ لأنّه حينئذ يكون مفردا معرفة فبني على الضمّ لكن ليس كذلك و إنّما قوم بالكسر و هو نداء بالشفقة و الرفق كما هو شأن الأنبياء [لِمَ تُؤْذُونَنِي بالمخالفة و العصيان فيما أمرتكم به قال في القاموس: آذى فعل الأذى فلفظ الإيذاء من الأغلاط في أفواه الناس [وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ جملة حاليّة مؤكّدة لإنكار الأذيّة أي و الحال أنّكم تعلمون علما قطعيّا بمشاهدة ما ظهر بيدي من المعجزات أنّي مرسل من اللّه إليكم و من لازم علمكم بذلك أن تبالغوا في تعظيمي و تسارعوا إلى طاعتي.

و في الحديث رحم اللّه أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر و ذلك أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قسّم غنائم الطائف قال بعض المنافقين: هذه القسمة ما عدل فيها فتغيّر وجهه الشريف و قال ذلك.

[فَلَمَّا زاغُوا] الزيغ الميل عن الاستقامة أي أصرّوا على الزيغ و الميل عن الحقّ

ص: 128


1- آل عمران: 149.
2- المائدة: 27.

الّذي جاء به موسى و استمرّوا عليه [أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي خلّا هم و سوء اختيارهم و منعهم الألطاف الّتي يهوي بها قلوب المؤمنين.

[وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يهديهم إلى الثواب و الكرامة و الجنّة الّتي وعدها المؤمنين و لا يفعل بهم الألطاف الّتي يفعلها بالمؤمنين بل يخلّيهم و اختيارهم.

[سورة الصف (61): الآيات 6 الى 9]

وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

[وَ إِذْ قالَ معطوف على إذ الاولى و ابن في هذه الآية و في «عزير» يثبت ألفه خطّا [يا بَنِي إِسْرائِيلَ ناداهم بهذه النسبة استمالة لقلوبهم إلى تصديقه في قوله: [إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ] فإنّ تصديقه عليه السّلام التوراة من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إيّاه أي أرسلت إليكم لتبليغ أحكامه الّتي لا بدّ منها و أنّها من اللّه و يمكن أنّه عليه السّلام ما خاطبهم بيا قوم كما قال موسى: لأنّه لا نسب له فيهم إذ النسب عندهم بالآباء.

[وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ أي حالكوني مصدّقا لأحكام التوراة و مبشّرا برسول [يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] أيّ إنّ ديني التصديق بكتب اللّه و أنبيائه ممّن تقدّم و تأخّر قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا دعوة إبراهيم و بشرى عيسى و قيل: إنّ بين رفع المسيح و مولد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسمائة و خمس و أربعون سنة و عاش المسيح عليه السّلام إلى أن رفع ثلاثا و ثلاثين سنة و بين رفعه و الهجرة الشريفة خمسمائة و ثمان و تسعون سنة و نزل جبرئيل عليه السّلام على عيسى عليه السّلام عشر مرّات و كذلك أثبته النصارى على اختلافهم.

و خصّ لفظ أحمد فيما بشّر به عيسى تنبيها على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحمد منه و من الّذين من قبله من الأنبياء و هو محمود في أخلاقه و أقواله. قال السهيليّ في كتاب التعريف و الأعلام:

ص: 129

أحمد اسم علم منقول من صفة و تلك أفعل الّتي يراد بها التفضيل فمعناه أحمد الحامدين لربّه و أمّا محمّد فمنقول أيضا من صفة و هو في معنى محمود و لكن فيه معنى المبالغة و التكرار فمحمّد هو الّذي حمد مرّة بعد مرّة كما أنّ المكرّم من أكرم مرّة بعد مرّة فهو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم محمود في الدنيا بما هدى إليه و نفع به من العلم و الحكمة و أيضا محمود في الآخرة بالشفاعة فقد تكرّر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ.

ثمّ إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن محمّدا حتّى كان حمد ربّه فنبّأه و شرّفه و لذلك يقدّم اسم أحمد على الاسم الّذي هو محمّد فذكره عيسى عليه السّلام فقال: اسمه أحمد و ذكره موسى حين قال له ربّه: تلك امّة أحمد فقال: اللّهمّ اجعلني من امّة أحمد فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمّد فلمّا وجد و بعث كان محمّدا و هذا بيان تقدّم ذلك الاسم على هذا الاسم و ما خصّ به من الحمد و المحامد مشا كلا لمعناه مصادقا لصفته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّ اللّه تعالى شرع له سنّة و قرآنا و أنزلت عليه سورة الحمد و خصّ بلواء الحمد و بالمقام المحمود في الآخرة و شرّع في اختتام الأمور ذكر الحمد كما قال سبحانه: «وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1)» و قال: أيضا «وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)» فهذا الاسم و المسمّى تطابقا لكونه خاتم الأنبياء و مؤذنا بانقضاء الرسالة و الوحي و ختم به و تخصيص اللّه إيّاه بهذا الاسم و بهذه الكرامات قبل وجوده تكرمة له و إشعارا بخاتميّته.

قال في فتح الرحمن: لم يسمّ بهذا الاسم أحد من العرب و لا غيرهم إلى أن شاع قبيل ميلاده من الكهّان و الأحبار أنّ نبيّنا اسمه محمّد يبعث فسمّى قوم قليل من العرب أبناء هم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو و هم: محمّد بن احيحة بن الجلاح الأوسيّ و محمّد بن مسلمة الأنصاريّ و محمّد بن البراء البكريّ و محمّد بن سفيان بن مجاشع و محمّد بن حمدان الجعفيّ و محمّد بن خزاعة السلميّ فهم ستّة لا سابع لهم و حمى اللّه كلّ من سمّى به أن يدّعي النبوّة أو يدّعيها له أحد أو يظهر عليه سبب يشكّك أحدا في أمره من الموسومين

ص: 130


1- الزمر: 69 و 75.
2- يونس: 10.

الستّة حتّى ظهر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و من أسمائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المقفّي بتشديد الفاء و كسرها لأنّه أتى بعد جميع الأنبياء و في قفاهم أو قفا آثارهم و أتبعهم في الآثار من الأصول.

و منها نبيّ التوبة لأنّه كثير الاستغفار أو لأنّ التوبة في امّته صارت أسهل و غيرهم يؤاخذ في الدنيا و في الآخرة و امّته لا يؤاخذ لا في الدنيا بعد التوبة و لا في الآخرة.

و منها نبيّ الرحمة لأنّه كان سبب الرحمة و هو سبب الوجود لقوله تعالى: لولاك لما خلقت الأفلاك و لأنّه هو الأمان الأعظم ما عاش و مادامت سنّته باقية على وجه الزمان قال اللّه: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (1)».

و منها نبيّ الملحمة أي الحرب لأنّه بعث بالقتال. فإن قلت: المبعوث بالقتال كيف يكون رحمة؟ فالجواب أنّ امم الأنبياء كانوا يهلكون في الدنيا إذا لم يؤمنوا بهم بعد المعجزات و يستأصلون و لكنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث بالسيف لير تدعوا به عن الكفر و لا يستأصلوا و منها الماحي و قد محا اللّه به الكفر.

و منها الحاشر و هو الّذي يحشر الناس في دعوته و عهده من غير أن تنسخ.

و منها العاقب و هو الّذي ليس بعده نبيّ فانقطعت النبوّة.

و منها الفاتح لأنّ به فتح الإسلام.

و منها الكافّ قيل: معناه الّذي أرسل إلى الناس كافّة و ليس هذا بصحيح لأنّ كافّة لا يتصرّف منه فيكون منه اسم فاعل و إنّما معناه الّذي كفّ الناس عن المعاصي و الشرك.

و منها الرءوف و الرحيم و الشاهد و المبشّر و السراج المنير و طه ويس و المزّمّل و المدّثّر و عبد اللّه و قثم أي الجامع للخير. و «ن» إشارة إلى اسم النور و الناصر و المتوكّل و المختار و المحمود و المصطفى و الخاتم بفتح التاء أي أحسن الأنبياء خلقا و خلقا كأنّه الخاتم الّذي يتجمّل به و لأجل كما له كان الخاتم الّذي يختم به الكتاب عند الفراغ

ص: 131


1- الأنفال: 33.

منه و أمّا الخاتم بالكسر فمعناه آخر الأنبياء اسم فاعل من ختم.

و منها راكب الجمل سمّاه به شعيا النبيّ كناية من أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عربيّ.

و منها صاحب الهراوة أي العصا سمّاه به سطيح الكاهن قبل أن يلد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و منها روح الحقّ سمّاه به عيسى عليه السّلام في الإنجيل في بيانه و سمّاه أيضا المنحنا بمعنى محمّد بالسريانيّة.

و منها حمياطي بالعبرانيّة و برقليطس بالروميّة بمعنى محمّد و ماذ ماذ بمعنى طيّب طيّب و فارقليطا مقصورا بمعنى أحمد و روي فارقلبط بالباء و معناه الّذي يفرق بين الحقّ و الباطل.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اسمي في التوراة أحيد لأنّي أحيد امّتي عن النار و اسمي في الزبور الماحي محا اللّه بي عبدة الأوثان و اسمي في الإنجيل أحمد و في القرآن محمّد لأنّي محمود في أهل السماء و الأرض.

أقول: و تخصيص الوارد بالخمسة أو الأربعة لا ينافي ما سواه و إذا اشتققت أسماءه من صفاته كثرت جدّا.

قوله: [فَلَمَّا جاءَهُمْ أي الرسول المبشّر به الّذي اسمه أحمد أي بني إسرائيل و النصارى و المشركين [بِالْبَيِّناتِ و المعجزات و القرآن [قالُوا هذا] مبشّرين إليه أو إلى ما جاء به لأنّه قرئ ساحر مكان [سِحْرٌ مُبِينٌ .

[وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ الفرق بين الكذب و الافتراء أنّ الافتراء افتعال الكذب من قول نفسه و الكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه [وَ هُوَ] أي و الحال أنّ ذلك المفتري [يُدْعى من لسان الرسول [إِلَى الْإِسْلامِ الّذي فيه نجاته أو يدعى إلى الاستسلام لأمر الرسول و الانقياد لطاعته، أي و من أشدّ ظلما ممّن اختلق الكذب على اللّه و نسب القرآن إلى السحر و الرسول إلى الساحر مع أنّه يدعوه للإسلام الّذي به نجاته فيضع موضع الإجابة الافتراء على اللّه بقوله للقرآن الّذي هو دعاء عباده إلى الحقّ: هذا سحر و اللام في الكذب للعهد و من الافتراء على اللّه الكذب في الإخبار عن النبيّ أو الإمام و الكذب في الرؤيا و الداعي في الحقيقة هو اللّه كما قال:

ص: 132

«وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ» (1) و الرسول يدعو بأمره تعالى كما قال: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ (2)» [وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ و لا يرشدهم إلى طريق الجنّة بسبب إعراضهم عن الحقّ و عن متابعة الداعي.

[يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ الإطفاء الإخماد يريدون إخماد حجّته النيّرة و كتابه و دينه و اللام زائدة تأكيد المعنى الإرادة أو معنى الآية يريدون الافتراء ليطفئوا نور اللّه [بِأَفْواهِهِمْ و أقوالهم السخيفة و بمفترياتهم في كلامهم [وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ و اللّه يتمّ حجّته و كتابه و ينشره [وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إتمامه إرغاما لهم و «لو» في الآية بمعنى إن أي و إن كرهوا ذلك فإنّه تعالى يفعله لا محالة.

[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [بِالْهُدى أي القرآن و المراد من الهدى ما به الاهتداء إلى الصراط المستقيم [وَ دِينِ الْحَقِ و الملّة الحنيفة الّتي اختارها لرسوله و للناس و هو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة مثل عذاب الحريق [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليجعله بالحجّة ظاهرا عاليا على جميع الأديان.

[وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ففي الآية السابقة أسند الإكراه إلى الكفّار لأنّه لمّا كان إتمام نوره من أجل النعم و الكافر أيّ كافر كان من أصناف الكفر كفروا بهذه النعمة العظيمة فأسند الكراهة إليهم و في هذه الآية الّتي أسند الكراهة إلى المشركين فإنّه قد ورد في مقابلة دين الحق الّذي معظم أركانه التوحيد و إبطال الشرك و كفّار مكّة كارهون له من أجل إنكارهم للتوحيد و إصرارهم على الشرك فالمناسب في الآية التعرّض لشكر هم فقال: «وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

و لو قيل: إنّ دينه ما ظهر على جميع الأديان؟ فقد روى العيّاشيّ بالإسناد عن عمران بن ميثم عن عباية إنّه سمع أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: يظهر بعد ذلك فو الّذي نفسي بيده حتّى لا تبقي قرية إلّا و ينادي فيها بشهادة أن لا إله إلّا اللّه بكرة و عشيّا.

قال السهيليّ في كتاب الأمالي في بيان فائدة كون أبواب النار سبعة: وجدنا

ص: 133


1- يونس: 25.
2- النحل: 125.

الأديان سبعة واحد للرحمن و ستّة للشيطان فالّتي للشيطان اليهوديّة و النصرانيّة و الصابئيّة و عبادة الأوثان و المجوسيّة و امم لا شرع لهم و لا يقولون بنبوّة و هم الدهريّة و الصنف السابع هو من أهل التوحيد لكنّهم المصرّون على المعاصي و الكبائر من غير استغفار و توبة فإنّ فيهم من ينفذ فيه الوعيد و النار و منهم من يعفو اللّه عنه فهؤلاء كلّهم صنف واحد غير أنّه لا يحتم عليهم بالخلود فهؤلاء سبعة أصناف ستّة منها مخلّدون إجماعا و الصنف السابع غير مخلّد و يخرجون بالشفاعة و وافق عدد الأبواب عدد الأصناف و تبيّنت الحكمة في ذكرها في القرآن لما فيها من التخويف و الإرهاب.

و أمّا معنى الإشراك هو إثبات الشريك للّه تعالى في الألوهيّة سواء كانت بمعنى وجوب الوجود أو استحقاق العبادة لقوله في وصف المشركين «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (1)»* و الكفر لا يخلو عن الشرك و يدلّ على هذا المعنى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ»* و قد ثبت ضرورة أنّه تعالى لا يغفر كفر غير المشركين من اليهود و النصارى فيكون المراد في الآية: لا يغفر أن يكفر به. انتهى.

[سورة الصف (61): الآيات 10 الى 14]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ في صراط الإيمان هل اعلّمكم و أرشدكم و هل ترغبون في تجارة منجية من العذاب الأليم و هو الإيمان باللّه وحده و الجهاد في سبيل دينه بالمال و النفس؟ و صورة الكلام العرض و المراد الأمر على سبيل التلطّف في الاستدعاء فيكون العمل به سببا لإنجاء اللّه إيّاكم من العذاب و عكسه عكسه لأنّ من التجارة ما تكون

ص: 134


1- العنكبوت: 61.

لصاحبها سبب العذاب كجمع المال و منع حقوق اللّه منه فهي تجارة خاسرة موجبة للنكال و أضعف أفراد الجهاد في الدين مع الباطل بالألسنة، و كان حسّان مدّاح النبيّ يجلس على المنبر و يهجو المشركين بإذن رسول اللّه. و التاجر الّذي ببيع و يشتري و ليس في كلام العرب تاء بعدها جيم غير هذه اللفظة و أمّا كلمة «تجاه» فأصلها و جاه و «تجوب» تاؤه تاء المضارعة و هي قبيلة من حمير.

[ذلِكُمْ أي ما ذكر من الإيمان و الجهاد [خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّه خير لكم و تعقلون هذا الأمر فعل العاقل تبديل الفاني بالباقي و بعد نزول هذه الآية جاء رجل بناقة مخطومة و قال: هذه في سبيل اللّه فقال النبيّ: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلّها مخطومة.

[يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ في الدنيا [وَ يُدْخِلْكُمْ في الآخرة [جَنَّاتٍ لكلّ واحد منكم جنّة و لا بعد من لطفه أن يكون لكلّ واحد جنّات [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] من تحت أشجارها و تحت قصورها و غرفها الأنهار الأربعة من اللبن و العسل و الخمر و الماء.

[وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً] و منازل نزهة كائنة [فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي إقامة و خلود بحيث لا يخرج منها من دخلها و المسكن يستعمل في الاستيطان و سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن هذه المساكن الطيّبة فقال: قصر من لؤلؤ في الجنّة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كلّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء في كلّ بيت سبعون وصيفا و وصيفة. و المرويّ عن ابن عبّاس أنّ الجنّات سبع جنّة الفردوس و جنّة عدن و جنّة النعيم و دار الخلد و هي جنّة الخلد و جنّة المأوى و دار السلام و علّيّون و كلّ واحدة منها لها مراتب. و روي أيضا أنّها ثمان: دار الجلال و دار القرار و دار السلام و جنّة عدن و جنّة المأوى و جنّة الخلد و جنّة الفردوس و جنّة النعيم.

و قيل: الجنّات أربع كما قال اللّه: «وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (1)» ثمّ قال سبحانه: «وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (2)» فذلك جنان أربع إحداهن جنّة الخلد و الثانية

ص: 135


1- الرحمن: 46.
2- الرحمن: 62.

جنّة الفردوس و الثالثة جنّة المأوى و الرابعة جنّة عدن و أبوابها ثمانية و خازن الجنّة يقال له «رضوان» «و قد ألبسه اللّه الرأفة و الرحمة كما أنّ خازن النار يقال له «مالك» قد ألبسه اللّه الغضب و الهيبة.

[ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ما ذكر من المغفرة و إدخال الجنّة هو الفوز الّذي لا فوز وراءه و الفوز يكون بمعنى النجاة من المكروه و بمعنى الظفر بالبغية و الأوّل يحصل بالمغفرة و الثاني بإدخال الجنّة.

[وَ أُخْرى تُحِبُّونَها] أي و لكم إلى هذه النعمة العظيمة نعمة اخرى مبتدء حذف خبره عطف على يغفر لكم على المعنى تحبّونها و ترغبون فيها تعريض بأنّهم يؤثرون العاجل على الآجل.

[نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ بدل أو بيان للأخرى أي نصر على عدوّكم الكفّار أو قريش [وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ أي فتح مكّة أو فتح غيرها [وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يا أكمل الرسل بأنواع النعمة.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي أنصار دينه [كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ و «من» يحتمل أن يكون استفهاما حقيقة ليعلم وجود الأنصار و يحتمل العرض و الحثّ على النصرة و المعنى: من جندي إلى نصرة دين اللّه؟

[قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فحاصل الآية مخاطبا للمؤمنين: كونوا أنصار اللّه كما كان الحواريّون أنصاره حين قال لهم عيسى: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» أو قل لهم:

كونوا كما قال عيسى للحواريّين و الحواريّون أصفياء عيسى من الحور و هو البياض الخالص و هم أوّل من آمن به و كانوا اثني عشر رجلا قال اللّه لعيسى: إذا دخلت القرية فأت النهر الّذي عليه القصّارون فاسألهم النصرة فأتاهم عيسى و قال: من أنصاري إلى اللّه؟ فقالوا: نحن ننصرك فصدّقوه و نصروه و قيل: كانوا صيّادين أو كانوا يطهّرون نفوس الناس بإفادتهم العلم و الدين و إنّما قيل لهم إنّهم قصّارون على التمثيل و التشبيه أو قيل لهم: إنّهم صيّادون لاصطيادهم نفوس الناس إلى الحقّ.

ص: 136

[فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ آمنوا بعيسى و أطاعوه [وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ] الطائفة جماعة أقلّ من الفرقة [فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا] أي قوّينا مؤمني قومه بالحجّة أو بالسيف و ذلك بعد رفع عيسى [عَلى عَدُوِّهِمْ أي على الّذين كفروا و في لفظ العدوّ إيذان بأنّ الكافر لا زال كان عدوّا للمؤمن. و لمّا رفع عيسى تفرّق القوم ثلاث فرق فرقة قالوا: كان ابن اللّه فرفعه اللّه إليه و فرقة قالوا: كان عبد اللّه و رسوله فرفعه اللّه و هم المؤمنون و اتّبع كلّ فرقة منهم طائفة من الناس فاقتلوا و ظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتّى بعث اللّه محمّدا فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: «فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ».

[فَأَصْبَحُوا] صاروا [ظاهِرِينَ غالبين عالين يقال: ظهرت على الحائط علوته. و سبقوهم أيضا بالحجّة لأنّهم قالوا لهم: ألستم تعلمون أنّ عيسى عليه السّلام كان ينام و اللّه تعالى لا ينام و إنّه يأكل و يشرب و اللّه منزّه عن ذلك و قيل: المراد من قوله: «فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ» بمحمّد و كفرت طائفة به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صدّقوا و كذّبوا فأصبحت المؤمنة عالية على الكافرة بالحجّة قال أمير المؤمنين: أيّها الناس دينكم فإنّ السيّئة فيه أحسن من الحسنة في غيره لأنّ السيّئة فيه يغفر و الحسنة في غيره لا يقبل تمّت السورة بعون اللّه

ص: 137

[سورة الجمعة] (مدنية)

اشارة

عن ابيّ ابن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و من قرأ سورة الجمعة اعطي عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة و بعدد من لم يأت في أمصار المسلمين.

و عن منصور بن فخّام عن الصادق عليه السّلام قال: من الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرء في ليلة الجمعة بالجمعة و سبّح اسم ربّك الأعلى و في صلاة الظهر بالجمعة و المنافقين فإذا فعل فكأنّما يعمل عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان ثوابه الجنّة.

ص: 138

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجمعة (62): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)

[يُسَبِّحُ جميعا من حيّ و جامد تسبيحات مستمرّة فما في السماوات هي البدائع العلويّة و ما في الأرض هي الكوائن السفليّة فللكلّ نسبة إلى اللّه بالحياة و الوجود [الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ المنزّه من كلّ نقص [الْعَزِيزِ] الغالب على ما أمر، أو [الْحَكِيمِ في أفعاله.

[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ و الأمّيّ من لا يكتب و لا يقرء كأنّه بقي على ما تعلّمه من امّه، منسوب إلى قبائل كثيرة.

و سمّي هو بالأمّيّ لأنّه لم يكتب و لم يقرء لاستغنائه بضمان اللّه له في الفضل و الحفظ عن العلم بقوله: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى أو لنسبته إلى امّ القرى مكّة و ليس المراد أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان لا يعرف القراءة و الكتابة و لقد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرء و يكتب باثنين و سبعين لسانا كما في الحديث عن محمّد بن عليّ الرضا عليه السّلام قال الراوي: سألته يا بن رسول اللّه لم سمّي النبيّ امّيّا؟ فقال: ما يقول الناس؟ قلت: يزعمون أنّه لم يحسن أن يكتب و يقرأ فقال: كذبوا عليهم لعنة اللّه أنّى ذلك و اللّه تعالى يقول: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ» إلى أن قال: «وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» فكيف يعلّمهم و هو لا يعرف

ص: 139

أن يقرأ؟ و لقد يعرف و يكتب باثنين و سبعين لغة. الحديث.

أقول: و لو صحّ أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يقرء و لا يكتب فهذه فضيلة له لأنّه لا يحتاج إلى القراءة و تحصيل الكتابة من كان القلم الأعلى في نظره و اللوح المحفوظ مصحفه و منظره.

قيل: بدئت الكتابة في العرب بالطائف و تعلّمها ثقيف و أهل الطائف أخذوها من الحيرة و أهل الحيرة أخذوا من أهل الأنبار و هي مدينة قديمة على الفرات بينها و بين بغداد عشرة فراسخ و لم يكن في أصحاب الرسول كاتب غير حنظلة غسيل الملائكة و عليّ عليه السّلام ثمّ ظهر الخطّ في الصحابة بعد في معاوية و زيد بن ثابت و كانا يكتبان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[رَسُولًا] كائنا [مِنْهُمْ من جملتهم و نسبهم عربيّا امّيّا مثلهم و في كتاب شعيا النبيّ عليه السّلام مذكور أنّي أبعث امّيّا في الأمّيّين و أختم به النبيّين.

و اعلم أنّ البعث في الأمّيّين لا ينافي عموم دعوته على الناس كافّة لأنّ التخصيص بالذكر لا مفهوم له و له سلّم فلا يعارض المنطوق مثل قوله: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ» على أنّه في الكلام فرق بين البعث في الأمّيّين و البعث إلى الأمّيّين فبطل احتجاج أهل الكتاب بهذه الآيه.

[يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي القرآن مع كونه امّيّا مثلهم لم يعهد منه قراءة و تعلّم و الفرق بين التلاوة و القراءة أنّ التلاوة و قراءة القرآن متتابعة كالأوراد الموظّفة و القراءة أعمّ لأنّها جمع الحروف باللفظ لا اتّباعها.

[وَ يُزَكِّيهِمْ صفة اخرى لرسولا أي يحملهم على ما يصيرون أزكياء من خبائث الأعمال و العقائد و المزكّي في الحقيقة هو اللّه كما قال (1): «بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» إلّا أنّ الإنسان الكامل مظهر الصفات الإلهيّة.

[وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ] صفة اخرى لرسولا يعلّمهم القرآن و السنّة و هي ما شرع اللّه لعباده و المراد من الحكمة الفقه و العظة و الأحكام الشريعة الحكميّة و الحكميّة و نعم ما قال صاحب القصيدة البرديّة:

كفاك بالعلم في الأمّيّ معجزةفي الجاهليّة و التأديب في اليتم

ص: 140


1- النساء: 48.

[وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ و إن مخفّفة عن المثقّلة و ليست شرطيّة و لا نافية و اللّام هي الفارقة بينها و بينهما أي و إنّ الشأن كان الأمّيّون من قبل بعثته لفي ضلال ظاهر و هو الشرك و خبث عادات الجاهليّة و نسبة الضلال إلى الجميع من باب التغليب و إلّا فقد كان فيهم مهتدون مثل ورقة بن نوفل و زيد بن نفيل و قسّ بن ساعدة و غيرهم أو أنّ نسبة الضلالة إلى الجميع صحيحة لأنّ هؤلاء المذكورين و أمثالهم أيضا كانوا في الضلالة من الأحكام، النهاية أنّهم ما كانوا مشركين فكونهم مهتدين من وجه لا ينافي كونهم ضالّين من وجه آخر.

[وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أي و يعلّم قوما آخرين من الأمّيّين و المؤمنين يأتون بعد ذلك و لمّا يأتوا بعد و هم كلّ من بعد الصحابة إلى يوم القيامة لأنّ شريعته تلزمهم و إن لم يلحقوا بزمانه و قيل: هم الأعاجم لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مبعوث إلى من شاهده و إلى كلّ من لم يشاهده من العرب و العجم روي ذلك عن الباقر، و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله قرأ هذه الآية فقيل له: من هؤلاء فوضع يده على كتف سلمان و قال: لو كان الإيمان في الثريّا لنالته رجال من هؤلاء فعلى هذا فإنّما قال: «منهم» لأنّهم إذا أسلموا صاروا منهم فإنّ المسلمين يد واحدة و امّة واحدة على من سواهم و إن اختلف أجناسهم و من لم يؤمن بالنبيّ فانّهم ليسوا بمن عناهم اللّه بقوله: «وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ» و إن كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مبعوثا إليهم و آخرين جمع آخر بمعنى غير و هو عطف إمّا على الأمّيّين الّذين على عهده أو على المنصوب في يعلّمهم و يعلّم آخرين منهم أي من الّذين يأتون بعد هؤلاء الّذين تعلّموا منه فهم يتعلّمون مثل هؤلاء فيكونون من جنسهم و منفيّ كلمة «لمّا» مستمرّ النفي إلى الحال و متوقّع الثبوت بخلاف منفيّ «لم».

[وَ هُوَ الْعَزِيزُ] الغالب و المبالغ في العزّة و لذلك مكّن سبحانه رجلا امّيّا و ذلك الأمر العظيم من الرياسة على الملك و الجنّ و البشر [الْحَكِيمُ في رعاية المصلحة و لذلك اصطفاه من بين كافّة البشر.

[ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ إشارة إلى هذا الأمر العظيم فضله و إحسانه [يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ] تفضيلا [وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الّذي يستحقر دونه نعم الدنيا بل نعيم الآخرة على

ص: 141

الخلق بإرسال محمّد إليهم.

[مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ] أي علموها [ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها] و لم يعملوا بما في تضاعيفها من آياتها الّتي من جملتها الآيات الناطقة بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اقتنعوا بمجرّد قراءتها و المراد اليهود [كَمَثَلِ الْحِمارِ] و الكاف زائدة و الحمار معروف (و في حياة الحيوان إن اتّخذ خاتم من حافر الحمار الأهليّ و لبسه المصروع لم يصرع) يعبّر به عن الجاهل.

[يَحْمِلُ أَسْفاراً] أي كتبا من العلم يتعب بحملها و لا ينتفع بها و الأسفار جمع سفر بكسر السين و هو الكتاب مثل شبر و أشبار و إنّما سمّي الكتاب بسفر لأنّه يسفر و يكشف عن الحقائق و على هذا فمن تلا القرآن و لم يعمل به و أعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه كان هذا المثل لاحقا به و إن حفظه و هو طالب لمعناه و العمل به فليس من أهل المثل.

[بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بئس مثلا مثل القوم المكذّبين و التمييز محذوف و الفاعل المفسّر له مستتر و المخصوص بالذمّ اليهود [وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الواضعين التكذيب موضع التصديق و الظالمين أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد باختيار الضلالة على الهداية.

[سورة الجمعة (62): الآيات 6 الى 8]

قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

[قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا] من هاد يهود إذا اختار اليهوديّة فإنّ المهاداة الممايلة فإنّهم مالوا عن الحقّ و قال بعضهم: يهود من قولهم: «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» أي بيّنّا و كان بالأوّل اسم مدح كما أنّ النصارى اسم مدح لقولهم: «نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ»*.

[إِنْ زَعَمْتُمْ و الزعم هو القول بلا دليل و أكثر ما يستعمل فيما يشكّ فيه و قيل: الزعم حكاية قول يكون مظنّة للكذب و يقال للمتكفّل و الرئيس: زعيم [أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ جمع وليّ بمعنى الحبيب [مِنْ دُونِ النَّاسِ صفة أولياء أي من دون

ص: 142

الأمّيّين و غيرهم ممّن ليس من بني إسرائيل من العرب و العجم يريد بذلك قولهم:

«نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ» و يدّعون أنّ الدار الآخرة لهم عند اللّه خالصة و قولهم:

«لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً» فأمر اللّه رسوله بأن يقول لهم إظهارا لكذبهم: إن زعمتم ذلك [فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي تمنّوا من اللّه أن يميتكم من دار البليّة إلى دار الراحة و الكرامة و الفرق بين التمنّي و الاشتهاء أنّ التمنّي أعمّ من الاشتهاء لأنّه يكون في الممتنعات دون الاشتهاء.

[إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين و واثقين فتمنّوا الموت و المحبّ يكون مشتاقا إلى لقاء محبوبه كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امّه.

[وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً] إخبار بما سيكون منهم و أبدا ظرف بمعنى الزمان المتطاول و المراد به ماداموا في الدنيا [بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي يأبون التمنّي بسبب ما عملوا من الكفر و المعاصي الموجبة للنار و لمّا كانت اليد بين جوارح الإنسان مناط عامّة أفعاله عبّر بها تارة عن النفس و اخرى عن القدرة و الأيدي هنا بمعنى الذوات استعملت فيها لزيادة احتياجها إليها فكأنّها هي.

[وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم في كلّ أمورهم أي عليم بهم و بظلمهم و فنون ظلمهم و وقع الأمر كما ذكر فلم يتمنّ منهم أحد موته و في الحديث لا يتمنّنّ أحدكم الموت إمّا محسنا فإن يعش يزدد خيرا فهو خير له و إمّا مسيئا فلعلّه أن يستعتب أي يسترضى ربّه بالتوبة و الطاعة روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في حقّ اليهود: لو تمنّوا الموت لغصّ كلّ إنسان بريقه فمات مكانه و ما بقي على وجه الأرض يهوديّ.

[قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ و لا تجسرون أن تمنّوه مخافة أن تؤخذوا بوبال كفركم [فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ البتّة من غير صارف يلويه [ثُمَّ تُرَدُّونَ بعد الموت الاضطراريّ ترجعون [إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ] الّذي لا تخفى عليه أفعالكم و أحوالكم

ص: 143

الظاهرة و الباطنة [فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر و المعاصي و يجازيكم بها.

[سورة الجمعة (62): الآيات 9 الى 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

النداء رفع الصوت و نداء الصلاة مخصوص في الشرع بالألفاظ المعروفة و المراد بالصلاة صلاة الجمعة و دلّ عليه يوم الجمعة.

أي إذا أذن لصلاة الجمعة و ذلك إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة و ذلك لأنّه لم يكن على عهد رسول اللّه نداء غيره و كان لرسول اللّه مؤذّن واحد هو بلال فإذا كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام الصلاة.

[مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ] بضمّ الميم و هو الأصل و السكون تخفيفا منه و إنّما سمّي جمعة.

لاجتماع الناس فيه للصلاة و أوّل من سمّى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤيّ لصغير لأي سمّاه بها لاجتماع قريش فيه إليه و كانت العرب قبل ذلك تسمّيه العروبة.

و قيل: إنّ الأنصار قبل الهجرة قالوا لليهود: يوم تجمعون فيه في كلّ سبعة و للنصارى كذلك فهلمّوا نجعل لنا يوما نجمع فيه فنذكر اللّه و نصلّي فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلّى بهم ركعتين فسمّوه الجمعة ثمّ ذبح لهم شاة فأكلوا فدارت عادة الإطعام بعد الصلاة إلى يومنا هذا فأنزل آية الجمعة فهي أوّل جمعة في الإسلام.

و أمّا أوّل جمعة جمعها رسول اللّه فهي أنّه لمّا قدم المدينة مهاجرا نزل قبائل بني عوف يوم الاثنين لاثني عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل حين امتدّ الضحى و من تلك السنة يعدّ التاريخ الإسلاميّ فأقام بها يوم الاثنين و الثلثاء و الأربعاء و الخميس و أسّ مسجدهم ثمّ خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف قد اتّخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا فخطب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صلّى الجمعة و هي أوّل خطبة خطبها بالمدينة و أوّلها: الحمد للّه و أستعينه إلخ.

[فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ السعي المشي السريع دون العدو أي اقصدوا إلى الخطبة

ص: 144

و الصلاة لاشتمال كلّ منهما على ذكر اللّه و في الحديث إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضّة و أقلام من ذهب يكتبون الأوّل فالأوّل على مراتبهم فإذا خرج النبيّ أو الإمام طويت الصحائف و اجتمعوا للخطبة و المهاجر إلى الصلاة كالمهدي بدنة ثمّ الّذي يليه كالمهدي بقرة ثمّ الّذي يليه كالمهدي شاة حتّى ذكر الدجاجة و البيضة و هذه المثوبات و الأحكام هل هو خاصّ من زمان الإمام و حضوره أو هذا الحكم جار في زمن الغيبة فيه بيان ليس هنا موضع بسطه.

[وَ ذَرُوا الْبَيْعَ أي اتركوا المعاملة قيل: إنّ البيع هنا مجاز عن المعاملة مطلقا و النهي عن البيع على أيّ صورة في المعنى يتضمّن النهي عن الشراء لأنّهما متضايفان لا يعقلان إلّا معافا كتفي بذكر أحدهما عن الآخر.

[ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي ما أمرتكم من حضور الجمعة و استماع الذكر و أداء الفريضة و ترك البيع أنفع لكم عاقبة [إِنْ كُنْتُمْ عالمين بمنافع أموركم و مصالح أنفسكم و في الآية دلالة على وجوب الجمعة و تحريم امور مانعة عن الحضور، و فيها دلالة على أنّ الخطاب للاحتراز لأنّ العبد لا يملك البيع و على اختصاص الجمعة بمكان و لذلك أوجب السعي إليه و فرض الجمعة لازم جميع المكلّفين إلّا أصحاب الأعذار من السفر أو المرض أو العمى أو العرج أو أن يكون امرأة أو شيخا همّا لا حراك به أو عبدا أو يكون على رأس أكثر من فرسخين من الجامع و عند حصول هذه الشرائط لا يجب إلّا عند حضور السلطان العادل أو من نصبه السلطان للصلاة و العدد عند أهل البيت صلوات اللّه عليهم يتكامل بسبعة و قيل:

ينعقد بثلاثة سوى الإمام عن أبي حنيفة و قيل: ينعقد بأربعين رجلا أحرارا بالغين مقيمين عند الشافعيّ و قيل: ينعقد باثنين سوى الإمام و بالجملة الاختلاف بين الفقهاء في مسائل الجمعة كثير من أراد فموضعه كتب الفقه.

[فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ فإذا قضيت الصلاة الّتي نوديتم لها و ادّيت و فرغ منها فانتشروا في الأرض لإقامة مصالحكم و تفرّقوا فيها لحوائجكم المشروعة و الأمر أمر الرخصة لا أمر العزيمة.

[وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ و اطلبوا لأنفسكم و أهليكم الرزق الحلال. قيل: إنّ هذا

ص: 145

الأمر للإطلاق بعد الحظر و هو الإباحة كقوله: «وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا (1)» و قال سعيد بن جبير: إنّه للندب و قال: إذا انصرفت من الجمعة فساوم بشي ء و إن لم تشتره و قال ابن عبّاس: لم يؤمروا بطلب شي ء من الدنيا إنّما هو عيادة المرضى و زيارة أخ في اللّه و حضور الجنائز و طلب العلم و أمثالها.

[وَ اذْكُرُوا اللَّهَ بالجنان و اللسان [كَثِيراً] ذكرا كثيرا و زمانا كثيرا و لا تخصّوا ذكره تعالى بالصلاة و قيل: المراد من الذكر هنا الفكر كما قال: تفكّر ساعة خير من عبادة سنة و قيل: معناه اذكروا اللّه في تجاراتكم و أسواقكم كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: من ذكر اللّه في السوق مخلصا عند غفلة الناس و شغلهم بما فيه كتب له ألف حسنة و يغفر اللّه له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر.

[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتفلحوا و تفوزوا بثواب النعيم و صحّ الحديث عن أبي ذرّ عن رسول اللّه قال: من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله و لبس صالح ثيابه و مسّ من طيب بيته أو دهنه ثمّ لم يفرّق بين اثنين غفر اللّه ما بينه و بين جمعة الاخرى و زيادة ثلاثة أيّام بعدها أورده البخاريّ في الصحيح و روى سلمان التيميّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ للّه تعالى في كلّ جمعة ستّمائة ألف عتيق من النار كلّهم قد استوجب النار.

[وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً] فأخبر سبحانه عن أحوال أهل الدنيا أنّهم قابلوا أكرم الكرم بألأم اللؤم فقال: و إذا رأوا بتجارة المراد تجارة دحية الكلبيّ قبل أن يسلم روي أنّ دحية بن خليفة الكلبيّ قدم المدينة بتجارة من الشام و كان بالمدينة مجاعة و غلاء سعر و كان معه جميع ما يحتاج إليه من برّ و دقيق و زيت و غيرها و النبيّ يخطب يوم الجمعة فلمّا علم أهل المسجد ذلك قاموا إليه خشية أن يسبقوا في الشراء فما بقي إلّا ثمانية أو أحد عشر أو أربعون فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفس محمّد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم اللّه عليهم الوادي نارا.

[أَوْ لَهْواً] و المراد الطبل و ما يشبهه و كانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبول و الدفوف و الصفيق و هو المراد من اللهو في الآية [انْفَضُّوا إِلَيْها] و تفرّقوا و انتشروا إلى التجارة و اللهو.

ص: 146


1- المائدة: 3.

[وَ تَرَكُوكَ حالكونك قائما على المنبر عن جابر بن عبد اللّه قال: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس و من ثمّة كانت السنّة في الخطبة ذلك و الخطبة مشتملة على التوحيد و الحمد و التصلية على النبيّ و النصيحة للمسلمين و الدعاء لهم.

[قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب [خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ] و استماعه [وَ مِنَ التِّجارَةِ] و نفعها [وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأنّه موجد الأزراق و في قوله: خير من اللهو و التجارة و قوله: خير الرازقين من قبيل الغرض و التقدير إذا لا خيرة في اللهو و لا رازق إلّا اللّه فيكون إن وجد في اللهو خيرة و إن وجد رازقون غير اللّه و اللّه خيرهم.

قال في الأحياء: يستحبّ أن تقول بعد صلاة الجمعة: اللهمّ يا غني يا حميد يا مبدئ يا معيد يا رحيم يا ودود، أغنني بحلالك عن حرامك و بفضلك عمّن سواك فيقال: من دوام على هذا الدعاء أغناه اللّه عن خلقه و رزقه من حيث لا يحتسب و في الحديث من قال: يوم الجمعة اللهمّ أغنني بحلالك عن حرامك و بفضلك عمّن سواك سبعين مرّة لم تمرّ به جمعتان حتّى يغنيه اللّه، عن أنس بن مالك تمّت السورة بعون اللّه

ص: 147

سورة المنافقون

اشارة

(مدنية) من قرأها برى ء من النفاق.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المنافقون (63): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)

النفاق إظهار الإيمان باللسان و كتمان الكفر بالقلب و بعبارة اخرى الدخول في الشرع من باب و الخروج منه من باب مأخوذ من النافقاء إحدى جحر اليربوع و الضبّ يكتمها و يظهر غيرها فإذا اتي من قبل القاصعاء و هو الّذي يدخل منه ضرب النافقاء برأسه فانتفق، و النفق هو السرب في الأرض النافذ.

[إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ و حضروا مجلسك [قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ مؤكّدين كلامهم بأنّك [لَرَسُولُ اللَّهِ و جواب إذا محذوف تقديره فاحذرهم و الشهادة قول صادر عن علم حصل بشهادة بصر أو بصيرة [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ أي و اللّه يشهد إنّك لرسوله و كفى به شهيدا و كلّما جاء لفظة إنّ بعد العلم فهي مفتوحة إلّا إذا دخلت لام الابتداء على

ص: 148

خبرها فحينئذ تكون مكسورة و ذلك لأنّ اللام لتأكيد معنى الجملة و لا جملة إلّا في صورة المكسورة.

[وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ أي إنّهم كاذبون و الظاهر في موضع الضمير إشعارا لذمّهم.

[اتَّخَذُوا] أي المنافقون [أَيْمانَهُمْ الفاجرة [جُنَّةً] أي ترسا و وقاية عمّا يتوجّه إليهم من المؤاخذة بالقتل و غير ذلك و المعنى من اتّخاذ الأيمان جنّة إعدادهم و تهيّئهم لها إلى وقت الحاجة ليخلصوا بها من المؤاخذة.

[فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فمنعوا و صرفوا عن سبيل الإسلام من أراد الدخول فيه بقولهم: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس برسول و منعوا من أراد الإنفاق في سبيله [إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ساء الشي ء الّذي كانوا يعلمونه من الصدّ و النفاق.

[ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي كونهم أسوأ الناس عملا بسبب أنّهم [آمَنُوا] و نطقوا بكلمة الشهادة [ثُمَّ كَفَرُوا] و ظهر كفرهم من قولهم: إن كان ما يقوله محمّد حقّا فنحن حمير و يجوز أن يراد بهذه الآية أهل الردّة منهم كما قال الزمخشريّ في الكشّاف.

[فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ معاقبة على سوء أفعالهم و ليس لهم أن يقولوا: إنّ اللّه ختم على قلوبنا فكيف نؤمن؟ لأنّه تعالى خلّاهم و اختيارهم فصار ذلك طبعا على قلوبهم و هو إلفهم إلى ما اعتادوه من الكفر [فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ و لا يعلمون الحقّ من حيث إنّهم لا يتفكّرون حتّى يميّزوا بين الحقّ و الباطل.

[إِذا رَأَيْتَهُمْ و المراد الرؤية البصريّة [تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ و يروقك منظرهم لصباحة وجوههم و العجيب هو الّذي يعظم في النفس أمره لغرابته [وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أي ألسنتهم ذلقة لفصاحتهم و حلاوة كلامهم و كان عبد اللّه بن ابيّ صبيحا جسميا يحضر مجلس رسول اللّه في نفر من أمثاله و هم رؤساء المدينة و الّذين مع رسول اللّه من أصحابه يعجبون بهيا كلهم و يسمعون كلامهم فإنّ الفصاحة و حسن المنظر داعية إلى الميل غالبا، قال بعضهم:

يدلّ على معروفة حسن وجهه و ما زال حسن الوجه إحدى الشواهد

روي عن بعض الحكماء إنّه رأى غلاما حسنا وجهه و استنطقه لظنّه ذكاء

ص: 149

فطنته فما وجد عنده معنى فقال: ما أحسن هذا البيت لو كان فيه ساكن.

[كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ] خبر مبتدء محذوف أي هم كالخشب بضمّتين جمع خشبة مثل أكم و أكمة و الخشب ما غلظ من العيدان كأنّها أسندت إلى موضع شبّههم سبحانه في جلوسهم مجلس رسول اللّه و مستندين فيه بأخشاب منصوبة مسنّدة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن الخير و الانتفاع فكما أنّ مثل هذا الخشب لا نفع فيه فكذا هم لا نفع فيهم و كذا قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة، على أنّ الكمال و النقصان بالأصغرين: اللسان و القلب لا بالأكبرين:

الرأس و الجلد.

[يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ] يظنّون كلّ صوت ارتفع واقعة [عَلَيْهِمْ أي إذا نادى مناد في المدينة أو في العسكر لمصلحة أو انفلتت دابّة أو أنشدت ضالّة بين الناس ظنّوه إيقاعا بهم لجبنهم و استقرار الرعب في قلوبهم و الخائن خائف و في الآية تخفيف لقدرهم قال الشاعر:

«إذا رأى غير شي ء ظنّه رجلا» و كانوا على وجل من أن ينزّل اللّه فيهم ما يهتك أستارهم و يبيح دماءهم و أموالهم.

[هُمُ الْعَدُوُّ] أي هم العدوّ لك يا محمّد و للمؤمنين في الحقيقة فاحذرهم من أن تأمنهم على سرّك و لا تثق بهم فإنّهم يفشون سرّك و العدوّ لكونه بزنة المصادر يقع على الواحد و الجمع.

[قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم و لعنهم سبحانه أو تعليم للمؤمنين بالبراءة منهم و هي كلمة ذمّ و توبيخ بين الناس [أَنَّى يُؤْفَكُونَ تعجيب من حالهم أي كيف يصرفون عن الحقّ من الأفك بفتح الهمزة بمعنى الصرف عن الشي ء.

[وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا] قيل: إنّه بعد نزول هذه الآيات قال بعض أصحاب ابن ابيّ: إنّ هذه الآيات نزلت فيك اذهب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى يرضى عنك و يستغفر ربّه لك فقال اللعين: قال لي محمّد أن آمن فآمنت و قال: أدّ ذكاة مالك فأدّيت ما بقي لي إلّا أن أسجده فنزلت هذه الآية «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا» أصله تعاليوا فاعلّ بالقلب و الحذف و إنّ واحد الماضي «تعالى» بإثبات الألف المقلوبة عن التاء المقلوبة عن الواو الواقعة رابعة

ص: 150

و واحد الأمر تعال بحذفها وقفا و فتح اللام و أصل معنى التعالي الارتفاع فإذا أمرت منه قلت: تعال و تعالوا و معناه ارتفعوا ثمّ استعمل في كلّ داع يطلب المجي ء، لما فيه حسن الأدب في الطلب أي هلمّوا و ائتوا و من الأدب أن لا يقال: تعالى فلان لأنّه ممّا اشتهر به اللّه فتعالى اللّه الملك الحقّ.

[يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ جواب الأمر أي يدع اللّه لكم و يطلب منه أن يغفر ذنوبكم [لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي أمالوا و عطفوا رؤوسهم و وجوههم استكبارا [وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ و يعرضون عن القائل و الاستغفار [وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن هذا الأمر لغلبة الشيطنة و في الحديث إذا رأيت الرجل لجوجا معجبا برأيه فقد تمّت خسارته.

[سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ و كلمة سواء اسم بمعنى مستو خبر مقدّم و عليهم متعلّق به و ما بعده من المعطوف عليه و المعطوف مبتدء بتأويل المصدر و الأصل أ استغفرت فحذفت همزة الوصل الّتي هي ألف الاستفعال للتخفيف و معنى الآية:

يتساوى الاستغفار و عدمه لهم و لا يفيدهم.

[لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأنّهم مبطنين الكفر و إن أظهروا الإسلام [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن الدّين إلى طريق الجنّة أخبر سبحانه نبيّه أنّهم يموتون على الكفر و قد كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستغفر لهم رجاء أن يسلموا و في الحقيقة استغفاره لهم طلب الهداية لهم لأنّه نبيّ الرحمة قيل: لمّا قال اللّه: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» قال: لأزيدنّ على السبعين فأنزل اللّه «سواء» إلخ، فعلم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّهم يموتون على الكفر فترك الاستغفار.

[سورة المنافقون (63): الآيات 7 الى 11]

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)

ص: 151

المنافقون [هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ للأنصار، تعليل لعدم مغفرتهم [لا تُنْفِقُوا] لا تعطوا النفقة الّتي يتعيّش بها [عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ يعنون فقراء المهاجرين، و قولهم: رسول اللّه إمّا للهزؤ و التهكّم أو لكونه كاللقب له أو اشتهاره به فلو كانوا مقرّين برسالته لما صدر عنهم ما صدر أو تعبير اللّه له إجلالا له [حَتَّى يَنْفَضُّوا] و يتفرّقوا عن حوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الانفضاض التفرّق و التشتّت و ذلك لجهلهم عمّا في خزائن اللّه.

[وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و بيده تعالى خزائن الأرزاق [وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ذلك لجهلهم قيل: لمّا بلّغ موسى عليه السّلام جعله كلّا على بني إسرائيل امتحانا له فغلق موسى من تغيير الحال عليه و قال: يا ربّ أغنني عن بني إسرائيل فأوحي اللّه إليه أما ترضى أن افرغك لعبادتي و أجعل مؤونتك على غيرك فسكت ثمّ سأل ثانيا فأوحى اللّه إليه لا يليق بنبيّ أن يرى في الوجود شيئا لغير سيّده فكلّ من رزق ربّك و لا منّة لأحد عليك فسكت، فاللّه تعالى يوصل الرزق إلى عبده بيد من يشاء من عباده مؤمنا كان أو كافرا فالأغنياء إن خصّوا بوجود الأرزاق فالفقراء خصّوا بشهود الرزّاق و خزائن اللّه في السماوات الغيوب و في الأرض القلوب فما انفصل من الغيوب وقع على القلوب و يمكن أنّ الأرزاق السماويّة المعارف و العلوم المخزونة لخواصّ العباد القابلين لها و خزائن الأرزاق الأرضيّة هي المأكولات و المشروبات و أمثالها.

[يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين لقي بني المصطلق على المريسع من نواحي المدينة و قاتل معهم و هزمهم و سبى منهم و ازدحم على الماء جهجاه الغفاريّ و هو أجير لعمر بن الخطّاب و سنان الجهني المنافق حليف ابن ابيّ المنافق و اقتتلا فصرخ جهجاه بالمهاجرين و سنان الأنصار فلطم رجل يقال له «جعال» من فقراء المهاجرين سنانا فاشتكى سنان إلى ابن ابيّ فقال ابن ابيّ: ما صحبنا محمّدا إلّا لنلطم و اللّه ما مثلنا و مثلهم إلّا كما قيل: سمّن كلبك يأكلك أما و اللّه لئن رجعنا من هذا السفر إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ- و عنى بالأعزّ نفسه و بالأذلّ جانب المؤمنين- استناد القول إلى المنافقين مع أنّه هو

ص: 152

القائل لرضاهم به ثمّ قال اللعين: ماذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم و قاسمتموهم أموالكم فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد.

فسمع بذلك زيد بن أرقم و هو حدث فقال له: أنت و اللّه الذليل و محمّد في عزّ الرحمن ثمّ أخبر زيد بذلك رسول اللّه فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لابن ابيّ: أنت صاحب الكلام الّذي بلغني قال: و اللّه الّذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا و إنّ زيدا لكاذب فقال الحاضرون: شيخنا و كبيرنا تصدّق عليه كلام غلام؟ و عسى أن يكون و هم فروي أنّ رسول اللّه قال لزيد: لعلّك غضبت عليه قال زيد: لا، قال: فعلّه أخطاك سمعك قال لا: قال: فلعلّه شبّه عليك قال: لا، فلمّا نزلت الآية لحق رسول اللّه زيدا من خلفه فغرّك اذنه و قال: وفت اذنك يا غلام إنّ اللّه صدقك و كذّب المنافقين.

[وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي و للّه الغلبة و القوّة و لمن أعزّه من رسوله و المؤمنين لا لغيرهم و من كان في الدنيا عبدا محضا كان في الآخرة ملكا محضا و من كان في الدنيا يدّعي الملك لشي ء و لو من جوارحه نقص من ملكه في الآخرة بقدر ما ادّعاه في الدنيا فلا أعزّ في الآخرة ممّن بلغ في الدنيا غاية الذلّ في جانب اللّه و لا أذلّ في الآخرة ممّن بلغ في الدنيا غاية العزّة في نفسه و عزّة اللّه العظمة و القدرة و عزّة الرسول النبوّة و الشفاعة و عزّة المؤمنين الإيمان و العبوديّة و العزّة للّه بالأصالة و الدوام و عزّة غيره منه تعالى فللّه العزّة جميعا و لهذا قيل: من عظم الربّ في قلبه صغر الخلق في عينه و هذا معنى قوله: من تواضع غنيّا لأجل غناه ذهب ثلثا دينه لأنّ التواضع يكون بثلاثة أشياء بلسانه و بدنه و قلبه فإذا تواضع له بلسانه و بدنه و لم يعتقد له العظمة بقلبه ذهب ثلثا دينه فإنّ اعتقدها بقلبه أيضا ذهب كلّ دينه.

قال بعضهم: رأيت رجلا في الطواف و بين يديه خدم يطردون النّاس ثمّ رأيته بعد ذلك على جسر بغداد يتكفّف و يسأل فحدقت النظر إليه لأتعرّفه هل هو ذلك الرجل أولا فقال لي: مالك تطيل النظر إليّ؟ أنا ذاك إنّي تكبّرت في موضع بتواضع الناس فيه فوضعني في موضع يترفّع فيه الناس.

[وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ من فرط جهلهم، ختم الآية الاولى بلا يفقهون

ص: 153

و الثانية بلا يعلمون للتفنّن المعتبر في البلاغة و تأكيد بيان جهلهم. روي أنّ عبد اللّه ابن ابيّ لمّا أراد أن يدخل المدينة اعترضه ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه بن ابيّ و كان مخلصا و سلّ سيفه و منع أباه من الدخول و قال: لئن لم تقرّ للّه و لرسوله بالعزّ لأضربنّ عنقك فقال: ويحك أ فاعل أنت؟ قال نعم: فلمّا رأى منه الجدّ قال: أشهد أنّ العزّة للّه و لرسوله و للمؤمنين فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لابنه: جزاك اللّه عن رسوله و عن المؤمنين خيرا.

و لمّا كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرب المدينة هاجت ريح شديدة كادت يدفع الراكب فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة و لأجل ذلك عصفت الريح فكان كما قال، مات في ذلك اليوم زيد بن رفاعة و كان كهفا للمنافقين و كان من عظماء بني قينقاع و كان ممّن أسلم ظاهرا و إلى ذلك أشار السبكيّ في تائيّته بقوله:

و قد عصفت ريح فأخبر أنّهالموت عظيم في اليهود بطيبة

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إيمانا صادقا [لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي لا يشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها و بمصالحها عن الاشتغال بذكره تعالى من الصلاة و سائر العبادات المذكورة للمعبود قيل: الذكر باللسان الصلاة و قراءة القرآن و التسبيح و التهليل و التمجيد و تعلّم علم الدّين و تعليمها و الذكر بالقلب الخوف.

[وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ و تلهّى بالدنيا عن الدّين و عن الذكر [فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الكاملون في الخسران و في الحديث: ما طلعت الشمس إلّا و بجنبيها ملكان يناديان و يسمعان الخلائق غير الثقلين يا أيّها الناس هلمّوا إلى ربّكم، ما قلّ و كفى خير ممّا كثر و ألهى، يقول اللّه سبحانه لهم: لا تشغلكم أموالكم و أولادكم من إطاعتي و عن أداء الفرائض في أوقاتها.

[أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ أي بعض ما أعطيناكم ادّخارا للآخرة [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بأن يشاهد دلائله و يعاين أماراته [فَيَقُولَ عند تيقّنه بحلوله: [رَبِ يا إلهي [لَوْ لا أَخَّرْتَنِي هلّا أمهلتني للتحضيض و قيل: لا زائدة للتأكيد و لو للتمنّي بمعنى لو أخّرتني [إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أمد قصير و ساعة اخرى قليلة و يقول ردّني إلى الدنيا و أبقني زمانا قليلا [فَأَصَّدَّقَ و هو بقطع الهمزة لأنّها للمتكلّم و همزته

ص: 154

مقطوعة بتشديد الصاد لأنّ أصله أتصدّق و أدغمت التاء في الصاد و ينصب المضارع بأن مضمرة بعد الفاء في جواب التمنّي [وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بالجزم عطفا على محلّ فأصّدّق لأنّ المعنى إن أخّرتني أصّدّق و أكن.

و الفرق بين الصدقة و الهديّة أنّ الصدقة للمحتاج بطريق الرحم و الهديّة للتحبّب و المودّة و لذا كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقبل الهديّة لا الصدقة فرضا كانت أو نفلا.

قال ابن عبّاس: الآية تشمل المؤمن و الكافر و من كان له مال تجب عليه الزكاة فلم يزكّه أو مال يبلغه إلى بيت اللّه الحرام فلم يحجّ يسأل الرجعة عند الموت، فسئل: و ما توجب الزكاة؟ فقال: مائتا درهم فصاعدا قيل: ما توجب الحجّ؟ قال: الزاد و الراحلة.

[وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها] و لن يمهلها مطيعة كانت أو عاصية صغيرة أو كبيرة إذا انتهى أمدها [وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ فسارعوا في الخيرات و بادروا لما هو آت قيل: حقيقة الإيمان غلبة حبّ اللّه على محبّة كلّ شي ء و في الحديث لأن يتصدّق المرء في حياته بدرهم خير من أن يتصدّق بمائة عند موته.

قال رجل: يا رسول اللّه أيّ الصدقة أعظم أجرا؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أن تتصدّق و أنت صحيح شحيح تخشى الفقر و تأمل الغنى جعلنا اللّه من المنفقين مالا و نفسا في مرضاته تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 155

سورة التغابن

اشارة

يختلف في كونها مكّيّة أو مدنيّة؛ قال ابن عبّاس: هي مكّيّة غير ثلاث آيات من آخرها نزلن بالمدينة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ» إلى آخر السورة عن أبي بن كعب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة ابن أبي العلا عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ سورة التغابن في فريضته كانت شفيعته يوم القيامة و شاهد عدل عند من يجيز شهادتها ثمّ لا تفارقه حتّى يدخل الجنّة.

ص: 156

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التغابن (64): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5)

المعنى: ينزّه اللّه [ما فِي السَّماواتِ من الروحانيّات [وَ ما فِي الْأَرْضِ من الجسمانيّات عمّا لا يليق بجناب كبريائه تنزيها مستمرّا و المراد إمّا تسبيح الإشارة الدالّة من وجود المسبّح على كمال تنزّهه تعالى عن جميع النقائص أو المراد من التسبيح هو أن يقول: سبحان اللّه و على المعنى الأوّل فظاهر لأنّه في الحقيقة لم يتحرّك موجود إلّا بأمره و خلقه و تلك الحركة و الموجوديّة إجابة داعي القدم لذاته تعالى و ذلك محض التقديس.

[لَهُ الْمُلْكُ الدائم الّذي لا يزول [وَ لَهُ الْحَمْدُ] أي حمد الحامدين و هو الثناء بذكر الأوصاف الجميلة و الأفعال الجزيلة و تقديم الجارّ و المجرور لتأكيد الاختصاص فان اللّام مشعر لمعنى الاختصاص و أمّا حمد غيره و ملك غيره لا من حيث الحقيقة بل عارية و مجاز تسليط من حيث الصورة.

[وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] لأنّ نسبة ذاته المفيضة للقدرة إلى الكلّ سواء فهو القادر على الإيجاد و الإعدام و الإسقام و الإبراء و الإعزاز و الإذلال و التبييض و التسويد من الأمور الغير المتناهية و قدرة اللّه تصلح للخلق و قدرة العبد مع أنّها عارية تصلح للكسب فالعبد لا يوصف بالقدرة على الخلق و اللّه لا يوصف بالقدرة على الكسب.

ص: 157

[هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ خلقا بديعا قابلا لجميع مبادئ الكمالات العلميّة و العمليّة و مع ذلك [فَمِنْكُمْ كافِرٌ] فبعضكم مختار للكفر كاسب له حسبما يقتضيه سوء اختياره و ميل نفسه مع أنّه كان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الإيجاد و الخلق و ما يتفرّع عليها من سائر النعم فما فعلتم ذلك مع تمام تمكّنكم منه بل تشعّبتم شعبا شعبا، و الكفر و الإيمان اكتساب العبد لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلّ مولود يولد على الفطرة إلّا أنّ أبويه يهوّدانه أو ينصّرانه، و قوله تعالى: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (1)» فلكلّ واحد من الفريقين كسب و اختيار، و هذا هو المذهب الحقّ خلاف ما يقول أهل السنّة [وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ و مختار للإيمان [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ مطلقا [بَصِيرٌ] فيجازيكم بذلك.

[خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ بالحكمة المتضمّنة للمصالح الدينيّة و الدنيوية فإن قيل: ما وجه عدم ذكر العرش و الكرسيّ في أمثال هذه المواضع مع عظم خلقهما؟

فالجواب إنّهما و إن كانا من السماء لأنّ السماء هو الفلك و الفلك جسم شفّاف محيط بالعالم و هما أوسع الأفلاك إحاطة و عظمة إلّا أن آثار هما غير ظاهرة للخلق بخلاف السماوات و الأرض و ما بينهما فإنّها معلوم حالها عند المخاطبين في الجملة و مكشوفة آثارها كما قالوا: إنّ الشمس تنضج الفواكه و القمر يلوّنها و الكواكب تعطيها الطعوم و التغيّرات فيها أظهر فهي على عظم القدرة أدلّ و هذه الشؤون و التغيّرات فيها بأمر اللّه و وديعته إيّاها و هي في عالم الكون و الفساد الّذي هو عبارة عن السماوات و الأرض إذ هما من العنصريّات النهاية أنّ عنصر الأرض غير عنصر السماء لكنّها من العناصر بخلاف العرش و الكرسيّ فإنّهما ليستا من العناصر و لهذا لا يفنيان.

[وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ الفاء للتفسير أي صوّركم أحسن تصوير و تقويم و خصّكم بخصائص مبدعاته و لذا لا يتمنّى الإنسان أن يكون صورته خلاف ما هو عليه و لا يقدح في كونه أحسن الصور كون بعض الصور قبيحا بالنسبة إلى بعض لأنّ الحسن هو الجمال في الوضع و ذلك القبيح الصورة إذا قايست وضعه و خلقته مع كلّ ذي روح

ص: 158


1- الانعام: 79.

من نوع الحيوان بل الأجسام السفليّة مطلقا فذلك القبيح الصورة أحسن وضعا و أتمّ خلقة.

و المعتدّ به هو الحسن المعنويّ و يكون مقارنا بالإيمان الّذي هو أحسن السير و في الحديث:

خلق اللّه آدم على صورته أي على الصورة الإلهيّة الّتي هي عبارة عن صفاته العليا و أسمائه الحسنى و إلّا فالحسن الصوريّ يوجد في الكافر أيضا نعم قد يوجد في الكافر سيرة حسنة و خلق حميد كعدل أنوشيروان لكنّ المعتدّ به أيضا الإيمان و لو أنّ تلك السيرة الحسنة تنفعه لكن نفعا مختصرا و الجميل لا يضيّع و لو في الجملة.

[وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ] و الرجوع إليه في النشأة الآخرة فأحسنوا سرائركم باستعمال قواكم في طاعته حتّى يوافق السيرة الجميلة و الصورة الحسنة في الرجوع فكم من صورة حسناء تكون في العقبى شوهاء بقبح السريرة و كم من صورة قبيحة تكون حسناء بحسن السيرة و قد ثبت أنّ ضرس الكافر يوم القيامة مثل جبل احد و أنّ غلظ جسده مسافة ثلاثة أيّام و أنّه يسوء خلقه فيغلظ شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه و تسترخي شفته السفلى حتّى تضرب سرّته و إنّ أهل الجنّة ضوء وجوههم كضوء القمر ليلة البدر مكحلون أبناء ثلاث و ثلاثون، فيا عجبا من إنسان خفي عليه ما أودع في أرض وجوده من كنز إلهيّ غيبيّ من نال إليه لو يفتقر أبدا و كيف أقام في الحضيض مع سهولة العروج.

[يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ من الأمور الكلّيّة و الجزئيّة و الجليّة و الخفيّة [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] محيط بجميع المضمرات في الصدور و في الآية بيان ترقّ من الأظهر إلى الأخفى من الحقّ و الباطل و الرياء و الإخلاص.

[أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا] أيّها الكفرة؟ و الهمزة للاستفهام و لم للجحد و معناه التحقيق و المراد من نبأهم أي خبر قوم نوح و من بعدهم من الأمم [مِنْ قَبْلُ متعلّق بكفروا أي قبلكم [فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ و الذوق و إن كان في العرف للقليل لكنّه مستصلح للكثير إذ ما ذاقوا بالنسبة إلى عذاب جهنّم كالذوق و الوبال الثقل و الشدّة و منه الوابل للمطر الثقيل و المراد من الأمر الكفر عبّر عنه بالأمر للإيذان بأنّه أمر هائل و جناية عظيمة.

ص: 159

[وَ لَهُمْ في الآخرة بعد ذلك الذوق [عَذابٌ أَلِيمٌ كثير الألم و فيه إخبار بأنّ ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفّارة لذنوبهم و إلّا لم يعذّبوا في الآخرة بخلاف المؤمنين فإنّ ما أصابهم في الدنيا من الآلام و المصائب كفّارة لذنوبهم على ما ورد في الأخبار الصحيحة.

[سورة التغابن (64): الآيات 6 الى 10]

ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

المعنى: [ذلِكَ أي ما ذكر من العذاب الّذي ذاقوه و سيذوقوه في الآخرة [بِأَنَّهُ بسبب أنّ الشأن [كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الظاهرة و الباء إمّا للملابسة أو للتعدية [فَقالُوا] عطف على كانت [أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا] و أنكروا أن يكون الرسول من جنسهم متعجّبين من ذلك أبشر و آدميّ مثلنا يهدينا إلى اللّه كما قالت ثمود:

«أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ» أنكروا أن يكون الرسول بشرا و لم ينكروا أن يكون المعبود حجرا و مثل أن عبدوا العجل و أقرّوا له بالمعبوديّة و أنكروا نبوّة موسى.

[وَ تَوَلَّوْا] و أدبروا فيما أتوا به عن التصديق لهم فاستغنى اللّه أي أظهر استغناءه عن إيمانهم حيث أهلكهم و قطع دابرهم حيث علم سبحانه أنّه ليس فيهم من يؤمن [وَ اللَّهُ غَنِيٌ عن العالمين [حَمِيدٌ] في أفعاله يحمده كلّ مخلوق بلسان الحال و إن كان لم يعرفه و يقرّ بالوهيّته و في الأربعين الإدريسيّة: يا حميد الفعال ذا المنّ على جميع خلقه بلطفه، من داومه يحصل له من الأموال غاية.

[زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا] عبّر سبحانه بالزعم إشعارا بأنّه لا سند في الحكم سوى ادّعائه إيّاه و المراد من الموصول كفّار مكّة و أن مخفّفة ادّعوا أنّ الشأن

ص: 160

لن يبعثوا بعد موتهم و لن يقاموا، قيل: لكلّ شي ء كناية و كناية الكذب زعم.

[قُلْ ردّا لهم و إبطالا لزعمهم [بَلى أن تبعثوا فإنّ بلى لإيجاب النفي الّذي قبله [وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي لتحاسبنّ و تجزون بأعمالكم و بيان لتأكيد إثبات البعث و لتبعثنّ أصله لتبعثون حذفت واوه لاجتماع الساكنين و هو جواب قسم قبله [وَ ذلِكَ البعث و الجزاء [عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] لوجود القدرة التامّة و قبول المادّة.

و إذا كان الأمر كذلك [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ محمّد [وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا] و هو القرآن حقّ نازل من عند اللّه مظهرا للحقّ و الباطل كما أنّ النّور كذلك و الالتفات إلى نور العظمة لإظهار العناية [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الامتثال بالأمر و عدمه [خَبِيرٌ] [يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ظرف لتنبؤنّ و ما بينهما اعتراض أو مفعول لا ذكر [لِيَوْمِ الْجَمْعِ ليوم يجمع فيه الأوّلون و الآخرون من الجنّ و الإنس و أهل السماء و الأرض لأجل الحساب و الجزاء و هو يوم القيامة و اللام للعهد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا جمع الأوّلين و الآخرين جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلّهم سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم اليوم ثمّ يرجع ينادي: ليقم الّذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون و هم قليل فيسرحون إلى الجنّة ثمّ يحاسب سائر الناس و قيل: المراد جمع اللّه و عمله.

و قيل بين الظالم و المظلوم أو بين كلّ نبيّ و امّته.

[ذلِكَ اليوم [يَوْمُ التَّغابُنِ تفاعل من الغبن و هو أن تخسر صاحبك في معاملة بينك و بينه بضرب من الإخفاء و التغابن أن يغبن بعضهم بعضا و يوم القيامة يوم غبن بعض الناس بعضا بنزول السعداء منازل الأشقياء و بالعكس فالكافر أخذ الشرّ و ترك الخير و المؤمن ترك حظّه من الدنيا و أخذ حظّه من الآخرة ترك ما هو شرّ له و أخذ ما هو خير له فكان غائبا و الكافر كان مغبونا فيظهر في ذلك اليوم التغابن لظهور الغبن في المباهاة المشار إليها بقوله: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (1)».

و قيل: يظهر الغبن من الكافر بترك الإيمان و من المؤمن بتقصيره في الإحسان و في الحديث لا يلقى اللّه أحد إلّا نادما إن كان مسيئا أن لم يحسن و إن كان محسنا أن لم يزدد.

ص: 161


1- التوبة: 112.

[وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بالإخلاص و يعمل صالحا بمقتضى إيمانه، حكي أنّ إبراهيم ابن أدهم أراد أن يدخل الحمّام فطلب الحمّامي الاجرة فتأوّه ثمّ قال: إذا لم يدخل أحد بيت الشيطان بلا اجرة فإنّى يدخل بيت الرحمن بلا عمل؟

[يُكَفِّرْ] أي يغفر اللّه [عَنْهُ سَيِّئاتِهِ يوم القيامة [وَ يُدْخِلْهُ بفضله له بالإيجاب [جَنَّاتٍ على حسب درجات أعماله [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] الأربعة [خالِدِينَ فِيها] و مؤبّدين [أَبَداً] نصب على الظرف تأكيد للخلود [ذلِكَ من تكفير السيّئات و إدخال الجنات [الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الّذي لا فوز وراءه لانطوائه على النجاة و الخلاص من أعظم الهلكات و الظفر بأجلّ الطيّبات.

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] و حججنا [أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ] ملازمون النار لخلودهم فيها [خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ] هذه النار.

[سورة التغابن (64): الآيات 11 الى 18]

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (11) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

المعنى: [ما أَصابَ ما نافية، أصاب الخلق [مِنْ مُصِيبَةٍ] من المصائب الدنيويّة و المصيبة المضرّة الّتي تلحق صاحبها كالرمية الّتي تصيبه و إنّما عمّ ذلك سبحانه و إن كان في المصائب ما هو ظلم و هو لا يأذن بالظلم لأنّه ليس من أفراد الظلم إلّا ما أذن اللّه في وقوعه أو التمكّن منه و ذلك إذن للملك الموكّل به و المعنى أنّه لا يمنع من وقوع المصيبة و قد يكون ذلك بتمكين من اللّه فكأنّه يأذن أن يكون فيرجع المعنى بتخلية اللّه بينكم و بين من يريد فعلها و قيل: إنّه خاصّ فيما يفعله اللّه أو يأمر به و قيل: معنى

ص: 162

بإذن اللّه أي بعلم اللّه و لا يصيبكم مصيبة إلّا و هو عالم بها.

[وَ مَنْ يُؤْمِنْ بتوحيد اللّه و يصبر لأمر اللّه عند نزول المصيبة [يَهْدِ قَلْبَهُ فإن ابتلي صبر و إن اعطي شكر و إن ظلم غفر قال ابن عبّاس: «يَهْدِ قَلْبَهُ» للاسترجاع حتّى يقول: «إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» فيثيب عند إصابتها و لا يضطرب بأن يقول قولا يدل على التضجّر من قضاء اللّه. قال بعض المحقّقين: و من يؤمن باللّه تحقيقا يهد قلبه على العمل بمقتضى إيمانه.

[وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيعلم إيمان المؤمن.

[وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ إطاعة العبد لمولاه و إطاعة الامّة لنبيّها فيما يؤدّيه عن اللّه و لا يشغلنّكم المصائب عن الاشتغال بطاعته و العمل بكتابه و كرّر الأمر للتأكيد و الإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفيّة.

[فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم عن إطاعة الرسول [فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تعليل للجواب المحذوف تقديره فلا بأس عليه إذ ما عليه إلّا التبليغ و إضافة الرسول إلى نون العظمة و إظهار الرسول في مقام إضماره لتشريفه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[اللَّهُ لا إِلهَ في الوجود [إِلَّا هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ أي عليه تعالى خاصّة [فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فانّ الألوهيّة مقتضية للتبتّل اليه و قطع التعلّق عمّا سواه بالمرّة و التوكّل اظهار العجز و الاعتماد على الغير.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ الزوج يعمّ الحليل و الحليلة [وَ أَوْلادِكُمْ يعمّ الابن و البنت [عَدُوًّا لَكُمْ يشغلونكم عن طاعة اللّه و إن لم يكن لهم عداوة ظاهرة فإنّ العدوّ لا يكون عدوّا بذاته و إنّما يكون عدوّا بفعله و قدّم الأزواج لأنّها مصادر الأولاد قيل: إنّ أناسا أرادوا الهجرة عن مكّة فثبّطهم أزواجهم و أولادهم فرقّوا لهم و وقفوا فلمّا هاجروا بعد ذلك و رأوا الّذين قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم و لهذا زيّن اللّه لهم العفو عن العقوبة.

[فَاحْذَرُوهُمْ الحذر احتراز عن مخيف و الضمير راجع إلى العدوّ فإنّه يطلق على الجمع أي احفظوا أنفسكم عن شدّة التعلّق بهم و لا تؤثروا حقوقهم على حقوق اللّه بترك

ص: 163

طاعته بالانهماك في محبّتهم و في الحديث إذا كان امراؤكم شراركم و أغنياؤكم بخلاءكم و أمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها و في الحديث شاوروهن و خالفوهنّ و السبب أنهنّ في الغالب ضعيفات العقول و الحظوظ و الإيمان و تطيع هوى نفسها لكنّ المرأة الفاضلة في الدين يجوز استشارتها و قد استشار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم امّ سلمة في قصّة صلح الحديبية لفضلها و وفور عقلها و قصّة خسرو و شيرين و الصيّاد و السمكة معروفة.

و حكي أنّ رجلا من بني إسرائيل أتى سليمان عليه السّلام و قال: يا نبيّ اللّه أريد أن تعلّمني لسان البهائم فقال سليمان: إن كنت تحبّ أن تعلم لسان البهائم أنا اعلّمك و لكن إذا أخبرت أحدا تموت من ساعتك فقال: لا أخبر أحدا فقال سليمان: قد علّمتك و كان للرجل ثور و حمار يعمل عليهما في النهار فإذا أمسى أدخل عليهما علفا فحطّ العلف بين يديهما فقال الحمار للثور أعطني الليلة عشاءك حتّى يحسب صاحبنا أنّك مريض فلا يعمل عليك فتستريح يوما ثمّ أنا أعطيك عشائي في الليلة القابلة فرفع الثور رأسه من علفه فضحك الرجل فقالت امرأته: لم تضحك قال: لا شي ء فلمّا جاءت الليلة القابلة أعطى الرجل للحمار علفه و للثور علفه فقال الثور للحمار: اقضني السلف الّذي عندك فإنّى أمسيت مغلوبا من الجوع و التعب فقال له الحمار: إنّك لا تدري كيف كان الحال فقال الثور: و ما ذلك قال: إنّ صاحبنا ذهب البارحة و قال للجزّاز: ثوري مريض اذبحه قبل أن يعجف فاصبر الليلة و أسلفني عشاءك أيضا حتّى إذا جاءك الجزّاز صباحا وجدك عجيفا و لست قابلا للذبح فلا يذبحك فتنجو من الموت و لو تعشّيت يمتلئ بطنك و يحسبك سمينا فيذبحك إنّى أردّ لك ما أسلفتني الليلتين فرفع الثور رأسه أيضا من علفه و لم يأكل فضحك الرجل فقالت المرأة لم تضحك؟ أخبرني و إلّا طلّقني فقال الرجل:

إذا أخبرتك أموت في ساعتي فقالت: لا ابالي إلّا أن تخبرني فقال: ايتني بالدواة و القرطاس حتّى أكتب وصيّتي ثمّ أخبرك ثمّ أموت فناولته فبينما هو يكتب إذ طرحت المرأة كسرة من الخبز إلى الكلب فسبق الديك و أخذها بمنقاره قال الكلب: ظلمتني قال الديك: صاحبنا يريد الموت اصبر فتكون أنت شبعانا من وليمة المأتم و لكن نحن نبقي في بيتنا إلى ثلاثة أيّام لا يفتح لنا الباب و إن يمت يرضي امرأته أبعده اللّه و أسخطه

ص: 164

فإنّ لي تسع نسوة لا تقدر واحدة منهنّ أن تسأل عن سرّي لو كنت أنا مكانه لأضربنّها حتّى تموت أو تتوب و بعد ذلك لا تسأل عن سرّ زوجها فأخذ الرجل عصا و لم يزل يضربها حتّى تابت من ذلك الطلب، انتهى. و النساء إذا وافقتموهنّ في المعروف يطمعن في المنكر.

[وَ إِنْ تَعْفُوا] عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن تكون متعلّقة بأمور الدنيا أو بأمور الدين لكن مقارنة للتوبة [وَ تَصْفَحُوا] و تسامحوا [وَ تَغْفِرُوا] بإخفائها و قبول عذرها [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعاملكم بمثل ما عملتم.

و في الحثّ على العفو و الصفح إشارة إلى أن ليس المراد من الأمر بالحذر تركهم بالكلّيّة و الإعراض من معاشرتهنّ كيف و بها نظام العالم. و ما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يقول: اتّقوا الدنيا و النساء إنّما هو للتحذير عمّا يضرّ معاشرتها في محبّتها الشاغلة عن طاعة اللّه لا الترك بالكليّة.

[إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ] بلاء و محنة يوقعونكم في الإثم من حيث لا تحتسبون و المعنى محنة امتحنكم اللّه بها حتّى يميّز المطيع و العاصي في محبّتهم و محبّة اللّه [وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر طاعته على محبّة الأموال و الأولاد و زهدهم في الدنيا و رغبتهم في الآخرة.

عن ابن مسعود لا يقولنّ أحدكم: اللّهم اعصمني من الفتنة و لكن ليقل: اللّهم إنّي أعوذ بك من مضلّات الفتن يقال: إنّما يتعلّق بالرجل يوم القيامة أهله و أولاده فيوقفونه بين يدي اللّه تعالى و يقولون: يا ربّنا خذ بحقّنا منه فإنّه ما علّمنا ما نجهل و كان يطعمنا الحرام و نحن لا نعلم فيقتصّ لهم منه و يأكل عياله حسناته فلا يبقى له حسنة و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يؤتي الرجل يوم القيامة فيقال له: أكل عياله حسناته.

قال بعض العارفين: العيال سوس الطاعات.

و بالجملة فكلّ شي ء يشغل عن اللّه فهو مشؤوم على صاحبه قيل: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في دعائه: اللهمّ من أحبّني و أجاب دعوتي فأقلل ماله و ولده و من أبغضني و لم يجب دعوتي فأكثر ماله و ولده و هذا الغالب عليهم النفس و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: في حقّ أنس

ص: 165

اللّهم أكثر ماله و ولده فهو لأمر هو أعرف بصلاحه.

[فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ابذلوا في التقوى جهدكم و تحرّزوا عمّا يكون سببا لمؤاخذة اللّه إيّاكم و هذه الآية نزلت بعد قوله: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» لمّا اشتدّ على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن قام في الصلاة حتّى و رمت قدماه و تقرّحت جبهته الشريفة فنزلت «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» قال ابن عبّاس: كلتا الآيتين محكمة لا ناسخ فيها و حقّ التقوى ما يحسن أن يطلق عليه اسم التقوى و ذلك لا يقتضي أن يكون حقّ التقوى فوق الاستطاعة فإنّه سبحانه لا يكلّف نفسا إلّا وسعها.

[وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا] أوامره [وَ أَنْفِقُوا] ممّا رزقكم في الوجوه الّتي أمركم اللّه بالإنفاق فيها خالصا لوجهه و المراد مطلق الإنفاق أو الزكاة كما قال ابن عبّاس:

[خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ مفعول لفعل محذوف أي افعلوا خيرا لأنفسكم أو يكون الإنفاق خيرا.

[وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أي و من يقه اللّه و يعصمه من بخل نفسه الّذي هي الرذيلة [فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكلّ مرام و في المقاصد الحسنة كفى بالمرء من الشحّ أن يقول: أخذ منه حقّي لا أترك منه شيئا أبدا.

و روي عن النبيّ انّه كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلّق بأستار الكعبة و هو يقول: إلهي بحرمة هذا البيت إلّا غفرت لي فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما ذنبك؟ صفه لي قال: هو أعظم من أصفه لك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و يحك ذنبك أعظم أم الأرضون؟ قال: بل ذنبي قال:

و يحك ذنبك أعظم أم السماوات؟ قال: بل ذنبي قال. فذنبك أعظم أم العرش؟ قال: بل ذنبي أعظم قال: فذنبك أعظم أم اللّه؟ قال: بل اللّه أعظم و أعلى قال: و يحك صف لي ذنبك قال: يا رسول اللّه إنّى ذو ثروة من المال و إنّ السائل ليأتيني و يسألني فكأنّها يستقبلني بشعلة من النار فقال: إليك عنّي لا حرّقني اللّه بنارك فو الّذي بعثني بالهداية لو قمت بين الركن و المقام ثمّ بكيت ألقي عام حتّى يجري من دموعك الأنهار و تسقي بها الأشجار ثمّ متّ و أنت لئيم لكبّك اللّه في النار أما علمت أنّ البخل كفر و أن الكفّار في النار ثمّ تلا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية انتهى و الإنفاق على الغير إنفاق على نفسك في الحقيقة.

[إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ بصرف أموالكم إلى المصارف الّتي عيّنها و ذكر القرض تلطّفا

ص: 166

في الطلب و أصل القرض القطع و قيل للقرض: قرض لأنّه قطع شي ء من المال و استعمل في أن يعطي أحدا شيئا ليرجع إليه [قَرْضاً حَسَناً] مقرونا بالأخلاق و طيب النفس و قرضا إن كان بمعنى الإقراض كان نصبه على المصدريّة و إن كان بمعنى مقرضا كان مفعولا ثانيا لتقرضوا لأنّ الإقراض يتعدّى إلى مفعولين.

[يُضاعِفْهُ لَكُمْ أي يجعل لكم أجره مضاعفا و يكتب بالواحد عشرة و سبعين و سبعمائة و أكثر على حسب النيّات و الأوقات و المحالّ.

[وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ما فرط منكم من بعض الذنوب [وَ اللَّهُ شَكُورٌ] يعطي الكثير بمقابلة اليسير من الطاعة و سمّي جزاء الشكر شكرا أو المعنى و اللّه كثير الثناء على عبده بذكر أفعاله الحسنة و ينبغي أنّ العبد لا يقصّر في الشكر فشكر البدن أن لا يستعمل جوارحه في غير طاعته و شكر قلبه أن لا يشتغل بغير معرفته و ذكره و شكر اللسان أن لا يستعمل غير ثنائه و مدحته و حمده و شكر المال و هو أن ينفقه في محبّته و سبيله [حَلِيمٌ لا يغافل بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم من المنع و الإمساك و هو يرى مخالفة العاصين و لا يعتريه غيظ و لا يحمله علمه على المسارعة إلى الانتقام.

قيل: إنّ إبراهيم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا رئي ملكوت السماوات و الأرض رأى عاصيا في معصيته قال: اللّهمّ أهلكه فأهلكه اللّه ثمّ رأى آخر فدعا عليه فأهلكه اللّه ثمّ رأى آخر فدعا عليه فأهلكه اللّه ثمّ رأى رابعا فدعا عليه فأوحى اللّه إليه أن قف إبراهيم، فلو أهلكنا كلّ عاص رأيناه لم يبق أحد من الخلق و لكنّا تحمّلنا لا نعذّبهم بل نمهلهم فإمّا أن يتوبوا و إمّا أن يصرّوا فلا يفوتنا بشي ء.

قيل: الحلم حجاب الآفات و ملح الأخلاق و الفرق بين الصبور و الحليم أنّ المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم يعني إنّ الصبور يشعر بأنّه يعاقب في الآخرة بخلاف الحليم و التخلّق باسم الحليم إنّما هو بأن يصفح عن جنايات الناس بل يجازيهم بالإحسان.

قال السهرورديّ: يا حليم ذا الأناة فلا يعادله شي ء من خلقه، من ذكره كان مقبول

ص: 167

القول وافر الحرمة قويّ الجاش بحيث لا يقدر عليه سبع و لا غيره.

[عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ] خبر بعد خبر أي لا يخفي عليه خافية [الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ البالغ في القدرة و الحكمة و يعلم من هو في نيّة صادقة و في عمله خلوص و من ليس كذلك و من هو أهل للكرامة كما ردّ بلعم بن باعور و قبل كلب أصحاب كهف قيل: إنّهم لمّا طردوا الكلب و لم ينصرف أنطقه اللّه فقال: لم تصرفونني إن كان لكم إرادة فلي إرادة أيضا و إن كان خلقكم فقد خلقني أيضا فازدادوا بكلامه يقينا و اتّفقوا على استصحابه معهم إلّا أنّهم قالوا: يستدلّ علينا بآثار قدمه فالحيلة أن نحمله فحمله الأولياء على أعناقهم و هم يمشون و ذلك لخلوصه فأدركه من العناية الأزليّة كما أن الاستكبار أخرج إبليس من ذلك المقام المنيع و جعله في أسفل السافلين.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 168

سورة الطلاق مدنية

اشارة

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و من قرء سورة الطلاق مات على سنّة رسول اللّه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الطلاق (65): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (3) وَ اللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)

ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)

[يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ] أصل الطلاق التخلية من وثاق و يقال: أطلقت بعيرا من عقاله و منه استعير طلاق المرأة إذا خلّيتها فهي طالق أي مخلّاة عن حبالة النكاح.

و الطلاق كالسلام و الكلام بمعنى التسليم و التكليم و المستعمل في المرأة لفظ التطليق و في غيرها لفظ الطلاق حتّى لو قيل: أطلقتك لم يقع الطلاق.

و تخصيص النداء به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع عموم الخطاب لأمّته لتشريف الخطاب و لأنّ

ص: 169

النبيّ إمام امّته و قدوتهم كما يقال لرئيس القوم و كبيرهم: يا فلان افعلوا كيت و كيت اعتبار الترؤّسه و إنّه لسان قومه و هذه العبارة مثل قوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُ قل للمؤمنين إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» و قيل: إنّه في التقدير يا أيّها النبيّ و المؤمنون إذا طلّقتم فحذف المؤمنون لأنّ الحكم يدلّ على المحذوف أو من قبيل «إيّاك أعني» و المراد امّته.

[فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ العدّة مصدر عدّه يعدّ و من هذا قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سئل عنه متى يكون القيامة؟ قال: إذا تكاملت العدّتان أي عدد أهل النار و عدد أهل الجنّة و سمّي الزمان الّذي تتربّص فيه المرأة عقيب الطلاق أو الموت عدّة لأنّ المرأة تعدّ الأيّام المضروبة عليها و تنتظر أيّام الفرج أي طلّقوهنّ مستقبلات لعدّتهن فاللّام متعلّقة بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام أي واقع وقت عدّتهنّ و ذلك أن يطلّقها في طهر لم يجامعها فيه حتّى يحسب العدّة من ذلك اليوم و يصحّ الطلاق فإن لم يقع الطلاق في ذلك الطهر و وقع في طهر واقع الرجل فيه لم يقع الطلاق فهذا هو الطلاق للعدّة لأنّها تعتدّ بذلك الطهر من عدّتها و تحصل في العدّة عقيب الطلاق فيكون على هذا العدّة الطهر لا الحيض.

[وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ] أي اضبطوها بحفظ الوقت الّذي وقع فيه الطلاق و أكملوها ثلاثة أقراء لكنّ القرء بمعنى الطهر في الآية عندنا و قيل: اللام في «لِعِدَّتِهِنَّ» للسبب فالمعنى فطلّقوهنّ ليعتددن و لا شبهة أنّ هذا الحكم أي الاعتداد للمدخول بها لأنّ المطلّقة قبل المسيس لا عدّة عليها و قد ورد به التنزيل في سورة الأحزاب و هو قوله: «فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها» (1).

و بالجملة و إنّما أمر سبحانه الرجال بالإحصاء و إن كانت النساء مأمورة لأنّهم أضبط للحساب و للزوج في هذا الضبط حقّ و هي المراجعة و لها حقّ و هو النفقة و السكنى و أيضا قعود الزوجة عن اتّخاذ البعل حتّى تنقضي و قد يحصل الفراق بغير الطلاق كالارتداد و اللعان و إن لم يسمّ طلاقا و يحصل أيضا بالفسخ للنكاح بأشياء أخر.

و الطلاق منهيّ عنه من غير سبب و مبغوض قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تزوّجوا

ص: 170


1- الأحزاب: 49.

و لا تطلّقوا فإنّ الطلاق يهتزّ منه العرش و عن ثوبان رفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنّة و عن أبي موسى الأشعريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لا تطلّقوا النساء إلّا من ريبة فإنّ اللّه لا يحبّ الذوّاقين و الذوّاقات.

و اعلم أنّ العدّة على ضروب فضرب بالإقراء لمن تحيض و ضرب يكون بالأشهر للّتي لم تبلغ المحيض و مثلها تحيض و كذلك الآيسة من المحيض و مثلها تحيض فعدّتها بالشهور و حدّها أصحابنا بأن تكون سنّها أقلّ من خمسين سنة و من ستّين سنة للقرشيّات فإن كان سنّها أكثر من ذلك فلا عدّة عليها عند أكثر أصحابنا و المتوفّى عنها زوجها عدّتها بالشهور أيضا و ضرب تكون بوضع الحمل في الجميع إلّا المتوفّى عنها زوجها فإنّ عدّتها أبعد الأجلين ثمّ إنّ عدّة الطلاق للحرّة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر و للأمة قرءان أو شهر و نصف و وضع الحمل.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ و لا تعصوه فيما أمركم به و [لا تُخْرِجُوهُنَ من بيوتهنّ [وَ لا يَخْرُجْنَ هنّ أيضا في زمان العدّة و لا يجوز للزوج أن يخرج المطلّقة المعتدّة من مسكنه الّذي كان يسكنها فيه قبل الطلاق و على المرأة أيضا أن لا تخرج في عدّتها إلّا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت.

[إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ] ظاهرة و اختلف في الفاحشة فقيل: إنّها الزنا فتخرج لإقامة الحدّ عليها و قيل: هي البذاء على أهلها فيحلّ لهم إخراجها عن ابن عبّاس و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام و روى عليّ بن أسباط عن الرضا عليه السّلام قال:

الفاحشة أن تؤذي أهل زوجها و تسبّهم و قيل: هي النشوز فإن طلّقها على نشوز فلها أن تتحوّل من بيت زوجها و في رواية اخرى إنّ كلّ معصية للّه ظاهرة فهي فاحشة.

[وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ممّا ذكر من أحكام الطلاق [وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بأن على غير ما أمر اللّه به [فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ و أثم فيما بينه و بين اللّه و خرج من الطاعة إلى المعصية و فعل ما يستحقّ به العقاب.

لا تدري [لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً] أي يغيّر رأي الزوج في محبّة الطلاق و يوقع في قلبه المحبّة لترجعها في ما بين الطلقة الواحدة و الثانية و في ما بين الثانية و

ص: 171

الثالثة و لعلّ اللّه يحدث الرجعة في العدّة و طلاق السنّة في مقابلة طلاق البدعيّ الّذي هو غير مشروع عندنا و الطلاق السنّيّ يطلق على الطلاق الّذي لم يطأ فيه بعد الرجعة و يكون طلاق عدّة إن وطأ بعد الرجعة و طلّق و الحاصل إنّ أصحابنا الإماميّة قد اصطلحوا على أن يسمّوا الطلاق الّذي لا يزاد عليه بعد المراجعة طلاق السنّة و الطلاق الّذي يزاد عليه بشرط المراجعة طلاق العدّة، فطلاق السنّة أيضا طلاق العدّة و هو ما كان مستجمعا لشرائط الصحّة المذكورة في كتاب الطلاق.

قوله: [فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ أي شارفن آخر زمان العدّة و لم تنقص و ذلك لأنّه لا يمكن الرجعة بعد بلوغهنّ آخر العدّة و حمل البلوغ في الآية عند الفريقين على المشارفة [فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فأنتم بالخيار إن شئتم راجعوهنّ بالمعروف و حسن المعاشرة و إنفاق لائق و في الحديث أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا و ألطفهم بأهله [أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بإيفاء الحقّ و إنفاء الضرار بأن يراجعها ثمّ يطلّقها تطويلا للعدّة و خصومة لها.

[وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قال المفسّرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق و عند الرجوع شاهدي عدل حتّى لا يجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدّة و الرجل الطلاق و قال أصحابنا: الإشهاد على الطلاق و هو المرويّ عن أئمّتنا و هذا أليق بظاهر الآية و عليه العمل عندنا لأنّ العطف على قوله: «إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» في الكافي عن الكاظم عليه السّلام قال لأبي يوسف: إن اللّه تبارك و تعالى أمر في كتابه في الطلاق بشاهدين و لم يرض لهما إلّا عدلين و أمر في كتابه بالتزويج فأهمله بلا شهود و أنتم أثبتّم شاهدين و أوجبتم فيما أهمل و أبطلتم الشاهدين فيما أكّد.

[وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ و هذا خطاب للشهود أي أقيموها لوجه اللّه لا لطلب رضاء المشهود له و الشهادة أمانة و لا بدّ من تأدية الأمانة فلو كتمها أو حرّفها فقد خان و الخيانة من الكبائر دلّ عليه: «وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» [ذلِكُمْ إشارة إلى الحثّ على جميع امور المذكورة من الشهادة و أحكام الطلاق و العدّة [يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] إذ هو المنتفع به و المؤمن باللّه و اليوم الآخر لا يترك العمل بما وعظ

ص: 172

به رغبة في الثواب و رهبة من العقاب.

[وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ عن مخالفته في هذه المذكورة و غيرها [يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً] مصدر ميميّ أي خروجا و خلاصا يجعل سبحانه له من شبهات الدنيا و من غمرات الموت و من شدائد يوم القيامة و من الحرام إلى الحلال و من النار إلى الجنّة و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من أكثر الاستغفار جعل اللّه له من كلّ همّ فرجا و من كلّ ضيق مخرجا.

[وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال الصادق: يبارك له فلما أتاه و عن أبي ذرّ الغفاريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّي لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم و هي قوله:

«وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» الآية.

[وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي و من يفوّض أمره إلى اللّه و وثق بتقديره و تدبيره فهو كافيه و يعطيه ثواب الجنّة و يجعله مكفّى في أموره و في الحديث من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكّل عليه.

[إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ أي يبلغ ما أراد على ما أراد و لا يقدر أحد على منعه عمّا يريده أو المعنى أنّه تعالى منفذ أمره فيمن يتوكّل عليه [قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً] و بيّن لكلّ شي مقدارا بحسب المصلحة في الإباحة و الوجوب و الترغيب و الترهيب و الشدّة و الرخاء.

ثمّ بيّن تعالى اختلاف أحكام العدّة باختلاف أحوال النساء فقال: [وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ فلا يحضن [إِنِ ارْتَبْتُمْ اللّائي من الموصولات جمع الّتي أي النساء اللّاتي دخلتم بهنّ و يئسن من الحيض لكبرهنّ يقال: آيس إذا كان يأسها من الحيض و لا يقال لها: آيسة لأنّ الياء إنّما تزاد في المؤنّث إذا استعملت الكلمة للمذكّر أيضا فرقا بينهما فإذا لم تستعمل له فأيّ حاجة إلى الزيادة مثل طالق و حائض.

و المحيض و الحيض مصدر حائض و هو خروج الدم من قبلها و يكون للأرنب و الضبع و الخفّاش و منه الحوض لأنّ الماء يسيل إليه.

[إِنِ ارْتَبْتُمْ و شككتم و أشكل عليكم لجهلكم بحكم عدّتهن أي شككتم في أمرهنّ فلا تدرون لكبر ارتفع حيضهنّ أم لعارض، عن أئمّتنا عليهم السّلام هنّ اللواتي أمثالهنّ يحضن

ص: 173

لأنهنّ لو كنّ في سنّ من تحيض لم يكن للارتياب معنى روي في المجمع كذلك.

[فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ] و اللائي يئسن مبتدء خبره: فعدّتهنّ و الشهر العدد المعروف من الأيّام و سمّي شهرا لأنّه يشهر و يعرف بالقمر و بإهلال الهلال.

[وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي ما رأين الدم لصغرهنّ و الشابّة الّتي كانت تحيضن فارتفع حيضها بعذر من الأعذار قبل بلوغها من الآيسات فتعتدّ بثلاثة أشهر أيضا.

[وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ و واحدة الأولات ذات بمعنى صاحبه و المراد من الحمل الحبل و هو المحمول في البطن أي الحبالى منهنّ [أَجَلُهُنَ أي منتهى عدّتهن [أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ قال ابن عبّاس: هذا الحكم خاصّ بالمطلّقات و هو المرويّ عن أئمّتنا فأمّا المتوفّى عنها زوجها إذا كانت حاملا فعدّتها أبعد الأجلين فإذا مضت بها أربعة أشهر و عشرا و لم تضع انتظرت الوضع و إذا وضعت قبل المدّة انتظرت المدّة و لكن عند غيرنا أنّه عام في المطلّقات و المتوفّى عنها زوجها و إن كانت المرأة حاملا باثنين و وضعت و أحدا لم تحلّ للأزواج حتّى تضع جميع الحمل.

قال أصحابنا: إذا وضعت واحدا انقطعت عصمتها من الزوج و لا يجوز لها أن تعقد على نفسها لغيره حتّى تضع الآخر.

و الّذين قالوا: إنّ الآية عامّة في المطلّقة و المتوفّى عنها زوجها قالوا: إنّ هذه الآية نسخت قوله «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» (1)، لتراخي نزوله لكن عندنا لا يصحّ لأنّ النسخ لم يثبت و في الكافي عن الصادق عليه السّلام سئل عنه عن الحبلى يموت زوجها فتضع و تزوّج قبل أن يمضي لها أربعة أشهر و عشر فقال عليه السّلام: إن كان دخل بها فرّق بينهما و اعتدّت بما بقي عليها من الأوّل و استقبلت عدّة اخرى من الأخير ثلاثة قروء، الحديث.

[وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فيما أمره بالطاعة و الاجتناب عن المعصية [يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً] و يسهّل عليه امور الدنيا و الآخرة إمّا بفرج عاجل أو عوض آجل و قيل:

يسهّل عليه فراق أهله و يزول الغموم عن قلبه.

ص: 174


1- البقرة: 234.

[ذلِكَ أي ما ذكر من الأحكام [أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ من الصلاة إلى الصلاة و من الجمعة إلى الجمعة قال الربيع: إنّ اللّه قد قضى على نفسه أنّ من توكّل عليه كفاه و من آمن به هداه و من أقرضه جازاه و من وثق به أنجاه و من دعاه لبّاه و تصديق ذلك في كتاب اللّه حيث قال: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» و قال عزّ و جل: «وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» (1) و قال: «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ» (2) و قال: «وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (3) و قال: «وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» (4).

[وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً] و هو ثواب الجنّة لأنّه الأجر العظيم.

[سورة الطلاق (65): الآيات 6 الى 10]

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10)

«أَسْكِنُوهُنَّ» استيناف وقع جوابا عن سؤال نشأ ممّا قبله من الحثّ على التقوى كأنّه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدّات؟ فقيل: [أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي بعض مكان سكناكم و الخطاب للمؤمنين المطلّقين [مِنْ وُجْدِكُمْ و وسعكم ممّا تطيقونه و الوجد القدرة و الغنى يقال: فلان افتقر بعد وجده و هو عطف بيان لقوله:

«حَيْثُ سَكَنْتُمْ» و البدل أحسن قال أبو حيّان: إنّه لم يعهد في عطف البيان إعادة العامل إنّما عهد ذلك في البدل.

ص: 175


1- التغابن: 11.
2- البقرة: 245.
3- آل عمران: 101.
4- البقرة: 184.

[وَ لا تُضآرُّوهُنَ و لا تقصدوا عليهنّ الضرر [لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ و تلجئوهنّ إلى الخروج من مساكنكم.

[وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ أي المطلّقات ذوات حمل، و أولات بالكسر على قانون جمع المؤنّث و تنوين حمل للتنكير أي أيّ حمل كان قريب الوضع أو بعيده [فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ فيخرجن من العدّة و تحلّ لهنّ تزوّج غيركم أيّا شئن فأمر سبحانه بالإنفاق على المطلّقة الحامل سواء كانت رجعيّة أو مبتوتة.

[فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي فإن أرضعن الولد لأجلكم بعد البينونة فأعطوهنّ اجرة الرضاع سواء كان الولد منهنّ أو من غيرهنّ فانّ حكمهن في ذلك حكم الأضآر [وَ أْتَمِرُوا] أيّها الآباء و الأمّهات [بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ و الائتمار قبول الأمر أمرهم اللّه سبحانه بالتلقّي لأمره بما يوجب المعروف فلا يكون من الأب مماسكة و من الأمّ معاسرة و عليهما الإشفاق للولد [وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ و تضايقتم في الرضاع و الاجرة و اختلفتم في هذا الأمر [فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى أي فليسترضع الوالد امرأة أجنبيّة و توجد مرضعة اخرى و لا يجوز إجبارها على الإرضاع.

[لِيُنْفِقْ لام الأمر [ذُو سَعَةٍ] و ثروة و غنى [مِنْ سَعَتِهِ و ماله أمر سبحانه أهل التوسعة أن يوسّعوا على نسائهم المرضعات أولادهنّ على قدر سعتهم [وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ و ضيّق عليه رزقه [فَلْيُنْفِقْ على قدر ذلك و على حسب إمكانه و طاقته [مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها] من المال جلّ أو قلّ و لا يقع منه تعالى تكليف ما لا يطاق.

[سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً] أكّد الوعد باليسر بعد العسر عاجلا أو آجلا و ليس في السين دلالة على تعيّن وقت، نعم السين تعيّن قرب الوعد و كلّ ما هو آت قريب و لو في الآخرة فلينتظر المعسر اليسر فإنّ الانتظار للفرج عبادة قال الزمخشريّ: هذا وعد لفقراء ذلك الوقت و الصحابة خصوصا فإنّ الغالب على أكثر هم في ذلك الوقت الفقر ثمّ فتح عليهم البلاد فيما بعد.

[وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ] بمعنى كم الخبريّة للتكثير و القرية اسم لموضع يجتمع و يسكن فيه الناس أي و كثير من أهل قرية [عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ استكبرت

ص: 176

و طغت عن قبول أمر ربّها و أمر رسل ربّها و في الآية تحذير للناس عن المخالفة و كأيّن مبتدء و من قرية بيان له و عتت خبره.

[فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً] أي ناقشناها في الحساب و شددنا عليها و أخذنا بدقائق ذنوبها في الدنيا قبل الآخرة من غير عفو بنحو من القحط و الجوع و الأمراض و السيف و تسليط الأعداء عليها معّجلا على استيصالها العذاب الأكبر و ذلك لترجع إلى اللّه فلم تفعل فابتلاها اللّه بما فوق ذلك [وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً] منكرا عظيما لشدّته و إيلامه و النكر الأمر الصعب الّذي لا يعرف.

[فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها] و ضرر كفرها و أحسّته إحساس الذائق الطعام [وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً] لا خسر وراءه لتضييع رأس ما لهم و هو العمر في المخالفة.

[أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مع ذلك [عَذاباً شَدِيداً] و اللام للتخصيص فهم أهل الحساب و العذاب في الدنيا و الآخرة فإنّ ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفّارة لذنوبهم لعدم رجوعهم عن الكفر فعذّبوا بعذاب الآخرة أيضا و قيل: في الآية تقديم و تأخير فيكون المعنى إنّا عذّبناها عذابا شديدا في الدنيا و نحاسبها حسابا شديدا في الآخرة و لفظ الماضي للتحقيق كأكثر ألفاظ القيامة.

[فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ و اعتبروا بحال الأمم الماضين من المنكرين و اتّقوا من مخالفة أمره تعالى إن خلصت عقولكم من شوائب كدورات النفس و اعلموا أنّ الدنيا دار تجارة [الَّذِينَ آمَنُوا] ثمّ وصف سبحانه اولي الألباب و خصّ المؤمنين بالذكر لأنّهم المنتفعون بذلك دون الكفّار.

[قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ و الخطاب للالتفات [ذِكْراً رَسُولًا] و هو النبيّ و أبدل منه «رَسُولًا» و عبّر عنه بالذكر لمواظبته على تلاوة القرآن و تبليغه أو لأنّه سبب عن إنزال الوحي إليه يعني إنّ رسول اللّه شبّه بالذكر الّذي هو القرآن لشدّة ملابسته به فأطلق عليه اسم المشبّه به استعارة تصريحيّة و قرن به ما يلائم المستعار منه و هو الإنزال ترشيحا لها أو مجازا مرسلا من قبيل إطلاق السبب على المسبّب فإنّ إنزال الوحي إليه سبب لإرساله.

ص: 177

و قيل: معنى الآية قد أنزل إليكم ذكرا يعني القرآن و أرسل إليكم رسولا يعني محمّدا لكنّ الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول و قد دلّ عليه القرينة و هو قوله: «أَنْزَلَ» نظير قوله: «علّفتها تبنا و باردا» أي و سقيتها ماء باردا.

قوله تعالى: [سورة الطلاق (65): الآيات 11 الى 12]

رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (12)

[رَسُولًا يَتْلُوا] و يقرء عليكم أيّها الناس [آياتِ اللَّهِ أي القرآن [مُبَيِّناتٍ حال كون الآيات مظهرات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام أو مبيّنات بالفتح أي واضحات لا خفاء فيها لأهلها أو لا مرية في إعجازها و إنّما يتلوها.

[لِيُخْرِجَ الرسول أو اللّه بناء على أنّ اللام متعلّقة بأنزل لا بقوله: «يَتْلُوا» ... [الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الموصول عبارة عن المؤمنين بعد إنزال القرآن و إلّا فإخراج الموصوفين بالإيمان من الكفر لا يمكن إذ لا كفر فيهم حتّى يخرجوا منه [مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ] من الضلالة إلى الهدى و من الجهل إلى العلم و من الغفلة إلى اليقظة على طبقاتهم في السعي و الاجتهاد.

[وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً] خالصا من الرياء و إذا كان مكارم الأخلاق تنفع للإنسان في الجملة و لو كان كافرا فكيف إذا كان مؤمنا؟ كما قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا عرج به أطلع على النار فرأى حظيرة فيها رجل لا تمسّه النار فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما بال هذا الرجل في هذه الحظيرة لا تمسّه النار؟ فقال جبرئيل: هذا حاتم طيّئ صرف اللّه عنه جهنّم بسخائه وجوده كما في أنيس الوحدة و كما رئي أبو لهب في المنام و هو يمصّ ماء من إبهامه ليلة الاثنين لعتقه بعض جواريه حين بشّرته بولادة رسول اللّه.

[يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا] أي من تحت قصورها أو أشجارها [الْأَنْهارُ] الأربعة [خالِدِينَ فِيها] و مقيمين في تلك الجنّات دائمين [أَبَداً] تأكيد للخلود لئلّا يتوهّم أنّ المراد المكث الطويل المنقطع آخرا [قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً] حال ثان من

ص: 178

مفعول يدخله و في الكلام معنى التعجّب و التعظيم لما رزق اللّه المؤمنين من الثواب كأنّه قيل: ما أحسن رزقهم و ما أعظمه! [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ أي اللّه الملك القادر الّذي خلق سبع سماوات على وفق حكمته الشاملة و قدرته الكاملة [وَ مِنَ الْأَرْضِ أي و خلق من الأرض [مِثْلَهُنَ في العدد و الطباق.

و اختلف في كيفيّة طبقات الأرض فقال قوم: إنّها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض كالسماوات لأنّها لو كانت مصمّته لكانت أرضا واحدة و في كلّ أرض خلق خلقهم اللّه كما شاء و روى أبو صالح عن ابن عبّاس إنّها سبع أرضين ليس بعضها فوق بعض بينهنّ البحار و يظلّ جميعهنّ السماء و اللّه سبحانه أعلم بصحّة ما استأثر بعلمه و أبهم على خلقه.

و بالجملة ليس في القرآن آية تدلّ على أنّ الأرضين سبع مثل السماوات إلّا هذه الآية و بعض الأخبار الّتي ينقلونها أنّ في كلّ أرض آدم كآدمكم و نوح مثل نوحكم ضعيفة غير معلومة و لا نعلم بصحّتها فالأولى السكوت عنها و اللّه أعلم بصحّتها.

قوله: [يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ] أي أمر اللّه و اللام عوض عن المضاف إليه [بَيْنَهُنَ أي بين السماوات السبع و الأرضين السبع و المراد نفوذ أمره تعالى في العلويّات و السفليّات كلّها و الأمر عند الأكثرين القضاء أي يجري حكمه و ينفذ بينها و لا يقتضي من قوله:

«بَيْنَهُنَّ» أن لا يجرى في العرش و الكرسيّ لأنّ المقام اقتضى ذكر ما ذكره و التخصيص بالذكر لا يقتضي التخصيص بالحكم.

[لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] متعلّق بخلق أو يتنزّل أي فعل ذلك لتعلموا أنّ من قدر على ما ذكر قادر على كلّ شي ء و منه البعث للجزاء فتطيعوا أمره و تستعدّوا لكسب السعادة و اللام لام الغرض و المصلحة [وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً] كما أحاط به قدرة و قوله: «عِلْماً» نصب على التمييز.

تمّت السورة

ص: 179

سورة التحريم مدنية

اشارة

قال ابيّ: عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأها أعطاه اللّه توبة نصوحا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التحريم (66): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)

عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً (5)

[يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ أصل لم لما و الاستفهام لإنكار التحريم.

النزول: فيه اختلاف قيل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا صلّى الغداة يدخل على أزواجه امرأة امرأة و كان قد أهديت لحفصة عكّة عسل فكانت إذا دخلها عليها رسول اللّه حبسته و سقته منها و إنّ عائشة أنكرت احتباسه عندها فقالت لجويرية عندها: إذا دخل رسول اللّه على حفصة فادخلي عليها و انظري ماذا تصنع فأخبرتها الخبر و شأن العسل فغارت عائشة و أرسلت إلى صواحبها فأخبرتهنّ و قالت: إذا دخل عليكنّ رسول اللّه فقلن:

ص: 180

إنّا نجد ريح المغافير و هو صمغ العرفط كريه الرائحة و كان رسول اللّه يكره و يشقّ عليه أن يوجد منه ريح غير طيّبة لأنّه يأتيه الملك.

قال: فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على سودة فقالت: ما أردت أن أقول ذلك لرسول اللّه ثمّ إنّي خفت من عائشة فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الريح الّتي أجدها منك أكلت المغافير؟ فقال: لا و لكن حفصة سقتني عسلا ثمّ دخل على امرأة امرأة و هنّ يقلن له ذلك فدخل على عائشة فأخذت بأنفها فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أجد ريح المغافير أكلتها يا رسول اللّه؟ قال: لا بل سقتني حفصة عسلا فقالت: جرست إذا نحلها العرفط فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اللّه لا أطعمه أبدا فحرّمه على نفسه فنزلت الآية و قيل: إنّ الّتي كانت تسقي العسل رسول اللّه امّ سلمة و قيل: كانت زينب بنت جحش.

و قيل في النزول: إنّ رسول اللّه قسّم الأيّام بين نساءه فلمّا كان يوم حفصة قالت يا رسول اللّه: إنّ لي إلى أبي حاجة فأذن لي أن أزوره فأذن لها فلمّا خرجت أرسل رسول اللّه إلى جاريته مارية القبطيّة و كان قد أهداها له المقوقس ملك مصر فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا و جلست عند الباب فخرج رسول اللّه و وجهه يقطر عرقا فقالت حفصة: إنّما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أمتك بيتي ثمّ وقعت عليها في يومي و على فراشي أما رأيت لي حرمة و حقّا؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أليس هي جاريتي قد أحلّ اللّه ذلك لي اسكتي فهو حرام عليّ و اللّه ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهنّ فلمّا خرج رسول اللّه قرعت حفصة الجدار الّذي بينها و بين عائشة فقالت: ألا ابشّرك! إنّ رسول اللّه قد حرّم أمته مارية عليه و أخبرت عائشة بما رأت فلم تكتم فطلّقها رسول اللّه بطريق الجزاء على إفشاء سرّه و اعتزل نساءه و مكث تسعا و عشرين يوما في غرفة مارية حتّى نزلت آية التخيير في سورة الأحزاب و هي: «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ» (1) الآية.

و بالجملة [يا أَيُّهَا النَّبِيُ ناداه بهذا النداء تشريفا له و تعليما لعبادة كيف يخاطبونه في أثناء محاوراتهم [لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ من الملاذّ [تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ

ص: 181


1- الأحزاب: 51.

و تطلب رضاء نسائك و هنّ أحقّ يطلب مرضاتك منك و ليس في هذا ما يدلّ على وقوع ذنب منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّ تحريم الرجل بعض نسائه أو بعض الملاذّ لسبب أو لغير سبب ليس بقبيح و قد يكون خرج هذا القول مخرج المتوجّع له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ بالغ في إرضاء أزواجه و تحمّل في ذلك المشقّة و لو أنّ إنسانا أرضى بعض نسائه بتطليق بعضهنّ لصحّ أن يقال له: لم فعلت ذلك و تحمّلت هذه المشقّة و إن كان لم يفعل قبيحا و لو قلنا:

إنّه عوتب على ذلك لأنّ ترك التحريم كان أفضل من فعله لم يمنع لأنّه يحسن أن يقال لتارك النفل: لم لم تفعله و لم عدلت عنه و إنّ تطييب قلوب النساء ممّا لا ينكره العقول.

حكي أنّ عبد اللّه بن رواحة كان من النقباء كانت له جارية فاتّهمته زوجته ليلة بالنسبة إلى الجارية فقال قولا يشبه الإنكار فقالت له زوجته: إن كنت لم تقربها فاقرء القرآن فأنشد:

و فينا رسول اللّه نتلو كتابه كما لاح معروف مع الصبح ساطع

أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنابه موقنات إنّ ما قال واقع

فقالت: زدني، فأنشد:

شهدت بأنّ وعد اللّه حقّ و أنّ النار مثوى الكافرينا

و إنّ محمّدا يدعو بحقّ و إنّ اللّه مولى المؤمنينا

فقالت: إذا قرأت القرآن صدّقتك فأخبر به رسول اللّه فتبسّم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال:

خيركم خيركم لنسائه.

و اختلف فقهاء العامّة فيمن قال لامرأته: أنت حرام عليّ فقال مالك: هو ثلاث تطليقات و قال أبو حنيفة: إن نوى به الظهار فهو ظهار و إن نوى الإيلاء فهو إيلاء و إن نوى الطلاق فهو طلاق بائن و إن نوى ثلاثا كان ثلاثا و إن لم يكن له نيّة فهو يمين.

و قال الشافعيّ: إن نوى الطلاق كان طلاقا، أو الظهار كان ظهارا و إن لم يكن له نيّة فهو يمين. و قال أصحابنا: إنّه لا يلزم به شي ء و وجوده كعدمه و إنّما أوجب اللّه فيه الكفّارة لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله كان حلف أن لا يقرب جاريته أوّلا بشرب الشراب

ص: 182

المذكور فأوجب عليه أن يكفّر عن يمينه و يعود إلى استباحة ما كان حرّمه و هو قوله:

و اللّه لا اقرّبها قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعتق جارية في تحريم مارية و عاودها.

[وَ اللَّهُ غَفُورٌ] لعباده [رَحِيمٌ بهم إذ ارجعوا إلى ما هو الأولى.

[قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي قد قدّر اللّه تعالى لكم ما تحلّلون به أيمانكم إذا فعلتموها و شرع لكم الحنث و الكفّارة فيها و اليمين ينحلّ بالحنث فسمّي ذلك تحلّة و قد بيّن اللّه كفّارة أيمانكم في سورة المائدة و في هذا دلالة على أنّه قد حلف و لم يقتصر على قوله: حرام عليّ لأنّ هذا القول ليس بيمين.

[وَ اللَّهُ هو مَوْلاكُمْ و وليّكم يحفظكم و هو أولى بكم [وَ هُوَ الْعَلِيمُ بمصالحكم [الْحَكِيمُ في تدبير أموركم في أوامره و نواهيه.

[وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ و هي حفصة [حَدِيثاً] أي كلاما أمرها بإخفائه [فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي أخبرت غيرها فأفشت سرّه إلى صاحبتها و هي عائشة أو إلى صواحبها نساء النبيّ [وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي اطّلع اللّه النبيّ على إفشاء حفصة ذلك الحديث على لسان جبرئيل، و ظهر الشي ء أصله أن يحصل شي ء على ظهر الأرض فلا يخفى و بطن إذا حصل في بطنان الأرض فيخفى.

[عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي عرّف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حفصة بعض الحديث الّذي أفشته إلى صاحبتها بأن قال: لها ألم أك أمرتك أن تكتمي سرّي و هو إمّا حديث الإمامة او قصّة مارية و أخبرها ببعض ما أفشت و أعرض عن بعض آخر لمكارم أخلاقه لأنّ الكريم لا يستقصي قطّ و على قراءة عرف بالتخفيف فمعناه غضب عليها و جازاها بأن طلّقها تطليقة أو همّ بطلاقها.

[فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ و أخبر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حفصة بما أظهره اللّه عليه قالت حفصة: [مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ رسول اللّه: [نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ] بسرائر الصدور.

ثمّ خاطب سبحانه عائشة و حفصة [إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ من التعاون على النبيّ بالإيذاء و التظاهر عليه و الشرط و قيل في معنى الأمر: أي وجب عليكما التوبة [فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما] و مالت قلوبكما إلى الإثم و عدلت عن الثواب و قيل: «إِنْ» على معناه أي

ص: 183

إن تتوبا إلى اللّه يقبل توبتكما.

[وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ بإسقاط إحدى التاءين أي و إن يتعاونا على النبيّ بالإيذاء قال ابن عبّاس: قلت: لعمر بن الخطّاب و المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول اللّه قال:

عائشة و حفصة أورده البخاريّ في الصحيح [فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ الّذي يتولّى نصرته [وَ جِبْرِيلُ رئيس الكرّوبين قرينه [وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قال قتادة: يعنى الأنبياء و قال الزجاج: صالح هنا ينوب عن جميع المؤمنين و لكن وردت الرواية من طريق الخاصّ و العامّ أنّ المراد بصالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و هو قول مجاهد.

و في كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن سدير الصير فيّ قال: لقد عرف رسول اللّه عليّا أصحابه مرّتين مرّة حيث قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه و أمّا الثانية فحيث نزلت هذه الآية أخذ رسول اللّه بيد عليّ فقال: أيّها الناس هذا الصالح المؤمنين و قالت أسماء بنت عميس: سمعت أنّ النبيّ يقول: و صالح عليّ بن أبي طالب.

قيل: إنّ رجلا قال لإبراهيم بن أدهم: إنّ الناس يقولون لي: صالح فبم أعرف أنّي صالح فقال: أعرض أعمالك على الصالحين فإن قبلوها و وافق مع القرآن فإن وافقت فاعلم أنّك صالح.

قوله: [وَ الْمَلائِكَةُ] مع تكاثر عددهم [بَعْدَ ذلِكَ أي نصرة اللّه و رئيس الكرّوبين و ناموسه الأعظم و صالح المؤمنين وزيره الّذي بمنزلة هارون من موسى [ظَهِيرٌ] خبر و الجملة معطوفة على جملة «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ» و ذكر نصرة غير اللّه مع الإخبار بكونه تعالى مولاه لتذكير كمال رفعة النبيّ و بيان لشأنه و لكون سوق الكلام في مقام التظاهر لكون عائشة و حفصة متظاهرتين.

[عَسى رَبُّهُ يعني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عسى للمقاربة [إِنْ طَلَّقَكُنَ و جواب الشرط مقدم أي ان طلّقكن عسى [أَنْ يُبْدِلَهُ و يبدلكن [أَزْواجاً له خَيْراً مِنْكُنَ و أصلح له منكنّ ثمّ نعّمت سبحانه تلك الأزواج [مُسْلِماتٍ و مسلّمات لأمر اللّه و نهيه [مُؤْمِناتٍ مصدّقات اللّه و رسوله أو المعنى مصدّقات في أقوالهنّ و أفعالهنّ [قانِتاتٍ مواظبات على الطاعة و الذكر [تائِباتٍ من الذنوب [عابِداتٍ متذّللات لأمر الرسول

ص: 184

[سائِحاتٍ أي صائمات سمّي الصائم سائح لأنّه يسيح في النهار بلا زاد أو المراد مهاجرات من مكّة إلى مدينة [ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً] أي مدخولات و غير مدخولات وسّط بين هاتين الكلمتين بالعاطف دون غير هما لتنافيهما و عدم اجتماعهما في ذات واحدة بخلاف سائر الصفات و يمكن أن يكون المراد بالأبكار تعريضا لعائشة و بالثيّبات غيرها من بعض أزواج النبيّ.

قال بعض أهل التحقيق: إنّ في الآية إشارة إلى مريم البتول و هي البكر و إلى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون و أنّ اللّه سيزوّجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيّاهما في الجنّة كما روي عن ابن عبّاس قال أبو الليث: يكون وليمة في الجنّة و يجتمع عليها أهل الجنّة فيزوّج اللّه هاتين المرأتين من محمّد و بدأ في الآية بالثيّب قبل البكر لأنّ زمن آسية قبل زمن مريم.

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل على خديجة و هي تجود بنفسها فقال: أتكرهين ما نزل بك يا خديجة و قد جعل اللّه في الكره خيرا كثيرا فإذا قدمت على ضرّاتك فاقرئيهنّ منيّ السلام فقالت: من هنّ يا رسول اللّه؟ قال: مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم و حليمة اخت موسى فقالت: بالرفاء و البنين، و كان هذا دعاء الأوائل للمعرّس ثمّ نهى النبيّ عن هذا القول و أمر بقوله: بارك لك و بارك عليك و جمع بينكما في خير.

و في الحديث أنّ الرجل من أهل الجنّة ليتزوّج خمسمائة حوراء و أربعة آلاف ثيّب و ثمانية آلاف بكر يعانق كلّ واحدة منهنّ مقدار عمره في الدنيا.

[سورة التحريم (66): الآيات 6 الى 12]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)

ص: 185

[قُوا] أصله اوقيوا كاضربوا أي احفظوا [أَنْفُسَكُمْ بترك المعاصي و فعل الطاعات [وَ أَهْلِيكُمْ بالنصح و التعليم جمع أهلين حذفت النون بالإضافة و المراد من الأهل كلّ من في عيال الرجل و نفقته من المرأة و الولد و الأخ و الاخت بل قد يطلن على أصحابه.

و في الحديث كلّكم راع كلّكم مسؤولون عن رعيّته و هو من الرعاية و كلّكم مسؤول عمّا التزم حفظه يوم القيامة فالإمام راع على الناس و الرجل راع على أهل بيته و المرأة راعية على بيت زوجها و عبد الرجل راع على مال سيّده و الكلّ مسؤول و قد خصّ الأهلين لأنّ شرائط الأمر و النهي قد لا توجد في حقّ الأجانب بخلاف الأهلين و إلّا حكم الأجانب كحكمهم في الأمر و النهي لكنّ الأقرب مقدّم كما قال سبحانه:

«وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (1) فإذا طهّرتم أنفسكم عن دنس المعاصي و اتّباع الهوى فانصحوا إخوانكم حتّى يأتمّون بهدايتكم.

[ناراً وَقُودُهَا] ما يوقد به النار يعني حطبها و الوقود بالفتح اسم لما توقد به النار من الحطب و بالضمّ مصدر بمعنى الاتّقاد [النَّاسُ كفّار الإنس و الجنّ و إنّما لم يذكر الجنّ لأنّ كفّار الجنّ تابعة لكفّار الإنس [وَ الْحِجارَةُ] أي تتّقد بها أيضا اتّقاد غيرها بالحطب فإنّ اتّقاد النار بالحجارة مكان الحطب يكون من زيادة حرّها و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم قال ابن عبّاس: هي حجارة الكبريت و لها سرعة الاتّقاد و نتن الرائحة و كثرة الدخان و شدّة الالتصاق بالأبدان

ص: 186


1- الشعراء: 214.

و قيل: وقودها الناس إذا صاروا إليها و الحجارة قبل أن يصيروا إليها.

[عَلَيْها] أي على تلك النار [مَلائِكَةٌ] تلي أمرها و تعذيب أهلها و هم الزبانية التسعة عشر و أعوانهم و المراد بقوله: «عَلَيْها» ليس الاستعلاء الحسّيّ بل الولاية و الغلبة [غِلاظٌ] القلوب خالية عن الرحمة [شِدادٌ] أقوياء أو غلاظ الأقوال شداد الأفعال إذا استرحموا لأنّهم خلقوا من الغضب و جبّلوا على القهر لا لذّة لهم إلّا فيه، ما بين منكبيهم مسيرة سنة أو كما بين المشرق و المغرب يضرب أحدهم بمقمعته ضربة واحدة سبعين ألفا فيهوون في النار.

[لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ في عقوبة الكفّار [وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ من غير تثاقل و تأخير.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا] يقال لهم عند إدخال الملائكة إيّاهم في النار حسبما أمروا به: [لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ أي في هذا اليوم و العذر تجري الإنسان بما يمحوبه ذنوبه [إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الكفر و المعاصي بعد ما نهيتم عنها أشدّ النهي فلا عذر لكم أبدا و قوله: «وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» فمواقف القيامة كثيرة [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً] أبلغ وجوه الاعتذار مثل أن تقول: فعلت و أسأت و في الشرع ترك الذنب لقبحه و الندم على ما فرط منه و العزيمة على ترك المعاودة و تدارك ما أمكنه أن يتدارك و النصح جري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه و النصوح فعول من أبنية المبالغة أي بالغة في النصح و صفت التوبة بذلك على الإسناد المجازيّ و هو وصف التائبين و هو أن ينصحوا أنفسهم بالتوبة و يأتوا بها على طريقها.

و في الحديث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّها الناس توبوا إلى اللّه فإنّي أتوب إلى اللّه في اليوم مائة مرّة و توبة العوامّ عن الزلّات و الخواصّ عن الغفلات و الأخصّ عن رؤية الحسنات و مراتب التوبة كمراتب التقوى فكما أنّ أوّل مراتب التقوى هو الاجتناب عن المنهيّات و آخرها الاتّقاء عن الأنانيّة و البقيّة (؟) فكذلك التوبة أوّلها الرجوع عن المعاصي و آخرها الرجوع عن ذنب الوجود الآنيّة و الإقبال حقيقة على طاعة اللّه بحيث لا يكون له غير الطاعة شغل يشغله و هذه التوبة ترفو جميع خروق وقعت في ثوب دينه

ص: 187

و بالجملة النصوح في التوبة الصدق فيها و ترك ما منه تاب سرّا و علنا قولا و فكرا و هي واجبة على الفور لما في التأخير من الإصرار على المحرّم و الإصرار يجعل الصغيرة كبيرة و قصّة النصوح معروفة و قد شرح حاله المولوي في المثنويّ فراجعه.

[عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يسترها بل يمحوها و يبدلها حسنات [وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] قيل: ورود صيغة المقاربة و الإطماع و و الترجية على سنن الكبرياء فإنّ الملوك يجيبون بلعلّ و عسى و يقع ذلك موقع القطع و الإشعار بأنّه تفضّل و أنّ العبد ينبغي أن يكون بين الخوف و الرجاء و إن بالغ في وظائف العبوديّة.

[يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَ ظرف متعلّق ليدخلكم و الخزي إمّا الفضاحة فيكون تعريضا للكفرة أو من الخزاية بمعنى الحياء و الخجل و هو الأنسب هنا بالنظر إلى شأن الرسول و إن أريد المعنى الأوّل فباعتبار أنّ خزي الامّة لا يخلو عن إنشاء خزي كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في دعائه: اللّهم لا تخزنا يوم القيامة و لم يقل: لا تخزني ليكون دعاؤه عامّا لأمّته و أدخل فيهم نفسه العالية من كمال مروّته و قيل: الخزي كناية عن العذاب للملازمة بينهما و الأولى العموم لكلّ خزي يكون سببا من الأسباب من الحساب و الكتاب و العقاب و غيرها.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ عطف على النبيّ و معه صلة أي لا يخزي معه الّذين آمنوا و اتّبعوه في الإيمان [نُورُهُمْ أي نور إيمانهم و طاعتهم على الصراط [يَسْعى السعي المشي القويّ السريع إشارة إلى اللمعان [بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي قدّامهم يراد بين أيديهم قدّام الشي ء لكونه بين اليدين غالبا [وَ بِأَيْمانِهِمْ أي و عن أيمانهم و تخصيص الجهتين لأنّ أرباب السعادة يؤتون صحائف أعمالهم منها كما أنّ أصحاب الشقاوة يؤتون من شمائلهم و من وراء ظهورهم فلكون ذلك علامة لذلك و قائدا على الصراط إلى دخول الجنّة و في الحديث من المؤمنون من نوره أبعد ما بيننا و بين عدن و منهم من نوره لا يجاوزه قدمه.

ص: 188

[يَقُولُونَ أي المؤمنين يقولون [رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا] المراد بالإتمام الإدامة إلى أن يصلوا إلى دار السلام [وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] من الإتمام و المغفرة و يمكن أنّ نورهم لمّا كان بحسب أعمالهم متفاوتا فيسألون إتمامه تفضّلا فيكون قوله:

«يَقُولُونَ» من باب بنو فلان قتلوا زيدا.

ثمّ إنّ الأنوار كثيرة نور الصفات و نور الأفعال و نور العبادات مثل الصلاة و و الوضوء كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الصلاة نور و السرّ فيه أنّ المصلّي يناجي ربّه و يتوجّه إليه و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ العبد إذا قام يصلّي فإنّ اللّه ينصب له وجهه للقائه و اللّه نور النور فالذات المظلمة إذا واجهت الذات المنيرة و قابلتها بمحاذاة صحيحة فإنّها تكتسب ألا ترى أنّ القمر الّذي هو في ذاته جسم أسود مظلم كمد كثيف كيف يكتسب النور بالمقابلة و كيف يتفاوت نوره بحسب التفاوت الحاصل في المحاذاة و المقابلة فإذا تمّت المقابلة كمل اكتساب نوره و في الحديث: بشّر المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التامّ يوم القيامة.

[يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ] بالسيف [وَ الْمُنافِقِينَ و جاهد المنافقين بالحجّة و الموعظة و القول الرادع عن القبيح لا بالحرب لأنّه فيه أيضا بذل المجهود فلذلك سمّي جهادا و إنّ رسول اللّه لم يقاتل منافقا قطّ إنّما كان يتألّفهم و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قرء جاهد الكفّار بالمنافقين.

[وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي اشدد عليهم قيل: أي على المنافقين من غير محاباة و قيل:

اشدد عليهم في اقامة الحدّ عليهم قال الحسن: أكثر من كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقون فأمر اللّه تعالى أن يغلظ عليهم في الحدود.

[وَ مَأْواهُمْ أي الكفّار و المنافقين [جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ] و المستقرّ.

ثمّ مثل اللّه و ضرب لأزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثلا حثّا لهنّ على الطاعة و بيانا لهنّ أنّ مصاحبة النبيّ مع مخالفته لا ينفعهنّ فقال: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا] و ضرب المثل عبارة عن إيراد حالة غريبة لنعرف بها حالة اخرى مشاكلة لها في الغرابة أي جعل

ص: 189

اللّه مثالا لحال هؤلاء الكفّار حالا و مالا و مثلا مفعول ثان لضرب [امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ] أي حالهما و امرأة نوح اسمها واعلة أو والعة و امرأة لوط هي واهلة.

[كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ و المراد بكونهما تحتهما كونهما في حكمهما و تصرّفهما بعلاقة النكاح و صالحين صفة عبدين أي كانتا تحت نكاح نبيّين و في عصمة رسولين و حيازة سعادتهما [فَخانَتاهُما] بيان لما صدر عنها من الخيانة العظيمة بالكفر و النفاق و النسبة إلى الجنون و الدلالة على الأضياف ليتعرّضوا لهم بالفجور و المراد بالخيانة هذه الأمور لا البغاء فإنّه ما بغت امرأة نبيّ قطّ فالبغيّ للزوجة أشدّ في إيراث الأنفة لأهل العار و الناموس من الكفر و إن كان الكفر أشدّ منه جرما يؤاخذ به العبد يوم القيامة.

[فَلَمْ يُغْنِيا] أي فلم يغن النبيّان [عَنْهُما] عن تينك المرأتين بسبب حقّ الزواج [مِنَ اللَّهِ أي من عذاب اللّه [شَيْئاً] من الإغناء أي لم يدفعا العذاب عنهما فغرقت امرأة نوح و أمطرت بالحجارة امرأة لوط.

[وَ قِيلَ لهما] عند موتها أو يوم القيامة و صيغة الماضي للتحقيق قاله الملائكة الموكّلون بالعذاب: [ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ من الكفرة المعذّبين و جمع المذكّر لأنّهنّ لا ينفردن بالدخول و إذا اجتمعا فالغلبة للذكور فتحقّق أنّ الاتّصالات الدينيّة و الروحانيّة هي المؤثّرة فحسب و أمّا العلائق الصوريّة و الدنيويّة لا يبقى لها أثر بعد الموت.

[وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ سبحانه حالها مثلا لحال المؤمنين بأنّ وصلة الكفر لا يضرّها حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء اللّه و هي في أعلى غرف الجنّة و المراد آسية بنت مزاحم و في الآية حثّ للمؤمنين على الصبر في الشدّة و الثبات في الدين حتّى لا يكونوا أضعف من امرأة فرعون.

[إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي بيد قدرتك [عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ] أي قريبا من رحمتك لأنّ اللّه منزّه عن الحلول في مكان أو المراد ابن لي من عند كرمك و فضلك لا باستحقاق منّي قيل: إنّها لمّا قالت: ذلك: رفعت الحجب حتّى رأت بيتها في الجنّة من درّة بيضاء

ص: 190

و انتزع روحها [وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ الجاهل و عمله الباطل و سوء جواره [وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ عن القبط التابعين له في الظلم.

روي أنّه لمّا غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون و قيل: هي عمّة موسى فلمّا تبيّن لفرعون إسلامها طلب منها أن ترجع عن إيمانها فأبت فأوتد يديها و رجليها بأربعة أوتاد و ربّطها في الشمس فأمر اللّه ملائكته أن يظلّوها بأجنحتهم و أراها اللّه بيتها في الجنّة بحيث نسيت ما هي فيه من العذاب فضحكت فعند ذلك قالوا هي مجنونة تضحك و هي في العذاب و قال الضحّاك: أمر فرعون بأن يلقى عليها حجر رحى و هي في الأوتاد فقالت: «رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ» فما وصل الحجر إليها حتّى رفع روحها إلى الجنّة فالقي الحجر عليها بعد خروج روحها، و مسألة الخلاص و الالتجاء إلى اللّه عند المحن و البلاء من سير الصالحين و يحسن إظهار التجلّد للهدي و يقبح غير العجز عند الأحبّة.

[وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ عطف على امرأة فرعون و المعنى و ضرب اللّه مثلا للّذين آمنوا حال مريم ابنة عمران و مريم بمعنى العابدة عندهم الإحصان العفاف أي حفظت فرجها عن مساس الرجال مطلقا حراما و حلالا و قال السهيليّ: معنى إحصان الفرج طهارة الثوب يريد فرج القميص يعني لم يعلّق بثوبها ريبة و سمّي الفرج بالسوءة استعارة من هذا المعنى و فروج القميص أربعة الكمّان و الأعلى و الأسفل فلا يذهبنّ وهمك إلى غير هذا لأنّ القرآن أنزه معنى و أوجز لفظا و أحسن عبارة من أن يريد معنى ذهب إليه الناس.

[فَنَفَخْنا فِيهِ الباء سببيّة أي نفخنا و النفخ الريح في الشي ء بسبب ذلك الإحسان في ما انفرج من جيبها و فرج درعها و هو إلى التذكير أقرب و إذا كان المراد من الفرج معنى المتبادر المعروف فحينئذ قوله: «فِيهِ» من باب الاستخدام و أراد بالضمير معنى الثاني الّذي فسّره السهيليّ بالدرع و فروجه و قد نفخ جبرئيل في قميصها [مِنْ رُوحِنا] أي من روح خلقناه بلا توسّط أصل و أضاف الروح إلى ذاته تفخيما لها و تشريفا

ص: 191

لعيسى أو المعنى من جهته روحنا جبرئيل.

[وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها] معطوف على أحصنت أي آمنت بالصحف المنزلة على الأنبياء أو أيقنت بالبشارات و بما يكلّم اللّه به و أوحاه [وَ كُتُبِهِ المنزلة على رسله مثل التوراة و الإنجيل متقدّمة أو متأخّرة و من وحّد و قرء و كتابه فالمراد الإنجيل [وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ و من المطيعين المعتكفين في المسجد الأقصى و التذكير لتغليب المذكّر فإنّ مريم جعلت داخلة في ذلك اللفظ مع المذكّرين و الإشعار بأنّ طاعتها لم تقصر عن طاعات الرجال حتّى عدّت من جملتهم أو كانت من القانتين أي من نسلهم لأنّها من أعقاب موسى و هارون و لأنّ رهطها و عشيرتها كانوا من أهل بيت طاعة و صلاح و عن أبي موسى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: الكمّل من الرجال كثير و لم يكمل من النساء إلّا أربعة: آسيه امرأة فرعون و مريم ابنة عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تمّت السورة

ص: 192

سورة الملك

اشارة

و تسمّى سورة المنجية لأنّها تنجي صاحبها من عذاب القبر و قد ورد به الخبر.

و تسمّى الواقية لما روي أنّها الواقية من عذاب القبر. و هي مكّيّة.

فضلها: ابيّ بن كعب عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و من قرء سورة تبارك فكأنّما أحيا ليلة القدر.

و عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وددت أنّ تبارك في قلب كلّ مؤمن.

و عن أبي هريرة قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ سورة تبارك من كتاب اللّه ما هي إلّا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته يوم القيامة من النار فأدخلته الجنّة.

و عن ابن مسعود قال: إذا وضع الميّت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل لأنّه قد كان يقوم بسورة الملك ثمّ يؤتي من قبل رأسه فيقول لسانه: ليس لكم عليه سبيل لأنّه يقرء بي سورة الملك ثمّ قال: هي المانعة من عذاب القبر، و هي في التوراة سورة الملك من قرءها فقد أكثر و أطنب و لم يكتب من الغافلين.

ص: 193

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الملك (67): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (4)

وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)

البركة الثبوت و النماء و الزيادة باعتبار تعاليه عمّا سواه في ذاته و صفاته و أفعاله و أمّا قوله: تخلّقوا بأخلاق اللّه فباعتبار اللوازم و بقدر الاستعداد من حصول فيوضاته سبحانه لا باعتبار الحقيقة فمثل إحياء عيسى الأموات من اللّه على يده بقدر استعداده منه تعالى له [الَّذِي بقبضته [الْمُلْكُ و التصرّف الكلّيّ بأمر و نهي و إعطاء و منع و إحياء و إماتة و غيره [وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ].

[الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ] الموصول بدل الموصول الأوّل و الحياة ما يصحّ بوجوده الإحساس و الموت عدم ذلك و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يذبح الموت بين الجنّة و النار على صورة كبش و لا شكّ أنّ الذبح إنّما يتعلّق بالأعيان لأنّ عالم الآخرة عالم الصفة يعني إنّ كلّ صفة باطنة في الدنيا تتصوّر بصورة ظاهرة في العقبى حسنة أو قبيحة فلا شي ء من المعاني إلّا و هو مجسّم مصوّر.

و معنى قوله: «خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ» إيجاد ذلك المصوّر و إعدامه و إيجاد أثر الحياة بنفخ الروح و إضاءة ظاهر البدن و باطنه و إيجاد أثر الموت بقطع ضوء الروح عن ظاهر الحيّ و باطنه و بجعله معدوم الحركة فعدم تلك الملكة ليس عدما محضا بل فيه

ص: 194

شائبة الوجود و إلّا لم يعتبر فيه المحلّ القابل للأمر الوجوديّ فلذلك صحّ تعلّق الخلق بالموت كتعلّقه بالحياة و هذا التقرير دفع لما اعترضوا به من أنّ العدم حال يكون مخلوقا هذا كلّه إذا كان الموت أمرا وجوديّا في الجملة و لكن لو كان الموت عبارة عن عدم الحياة فمعنى «خَلَقَ الْمَوْتَ» أي قدّر الموت فإنّ الخلق يجي ء بمعنى التقدير فمن جعله نصب عينه أفلح و في الحديث لو لا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه: الفقر و المرض و الموت ثمّ إنّ الألف و اللّام في «الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ» عوض عن المضاف إليه أي موتكم و حياتكم أيّها المكلّفون.

[لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا] اللّام لام العلّة و الغرض خلافا للأشاعرة أي ليعاملكم معاملة المختبر حتّى يجازيكم بموجب عملكم و البلوى الاختبار و ليس هنا على حقيقته لأنّ الاختبار إنّما يتصوّر ممّن يخفى عليه عواقب الأمور فالابتلاء من اللّه أن يظهر من العبد ما كان يعلم منه في الغيب لأنّه رتّب سبحانه الجزاء بعد وقوع الفعل و لو أنّه سبحانه يعلم الفعل من العبد قبل وقوعه لكنّ الجزاء يقع على تفاوت المراتب و الطبقات من العلم و العمل و أنّ العمل غير مختصّ بعمل الجوارح و لذلك فسّره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله:

أيّكم أحسن عقلا و أورع من محارم اللّه و أسرع في طاعته و أتمّ عقلا لمراده تعالى.

و أفضل العمل و أوجبه و أولاه معرفة اللّه و طريقها النظر و التفكّر في بدائع صنعه و آياته المنصوبة في الأنفس و الآفاق كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تفضّلوني على يونس بن متّى فإنّه كان يرفع له كلّ يوم مثل عمل أهل الأرض و ذلك لكمال تدبّر يونس عليه السّلام في بدائع صنعه تعالى ضرورة أنّ أحدا لا يقدر على أن يعمل بجوارحه كلّ يوم مثل عمل أهل الأرض و الحديث إشارة إلى أنّ أعمال المقرّبين واحد منها مقابل بمائة ألف باعتبار التفاوت بالنسبة إلى الأشخاص مثل بيتوتة أمير المؤمنين تلك الليلة في فراش رسول اللّه و لعلّ المراد من الحديث في قوله: «مثل عمل أهل الأرض» أهل الأرض في زمانه و قوله:

لا تفضّلوني خضوع منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ] و الحال أنّه غالب على حكمه غفور لمن تاب منهم.

[الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ أبدعها من غير مثال [طِباقاً] صفة للسموات و الصفة

ص: 195

للأعداد يكون للمضاف إليه مثل (1) «سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ»* و طابقت بين الشيئين إذا جعلتها على حذو واحد و ألزمتها و المعنى مطابقة بعضها فوق بعض و سماء فوق سماء غلظ كلّ سماء خمسمائة عام و كذا جوّها بلا علاقة و لا عماد و لا مماسّة فالسماء الاولى على ما قيل:

موج ممنوع من السيلان و الثانية من درّة بيضاء و الثالثة من حديد و الرابعة من نحاس أو صفر و الخامسة من فضّة و السادسة من ذهب و السابعة من ياقوتة حمراء و ما فوقها من الكرسيّ و العرش بحار من نور.

[ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ و الخطاب لرسوله أي اختلاف و تناقض من طريق الحكمة و ليس فيها عدم تناسب بل مستو مستقيم قيل: سلب التفاوت عنها مطابقة بعضها بعضا و حسن انتظامها لأنّ أحد المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر فحينئذ لا يلائمه فلو قيل: إنّ التفاوت حاصل فيها أو في المخلوقات كما نشاهد مثل أنّ الليل غير النهار و في السماء الاولى امور ليس في الثانية و هكذا فكيف يكون ليس في خلق الرحمن من تفاوت فالجواب بأنّ المعنى ليس تناقص أو تزايد غير محتاج إليه أو محتاج إليه بل الكلّ مستقيمة على قدر موافق للحكمة لا ينبغي أن ينقص منها شي ء أو يزيد فيها شي ء.

[فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ] أي ردّ البصر و أدره و استقص في النظر في السماء هل ترى شقوق و فتوق أو و هن و خلل؟

[فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ] أي ردّ البصر و أدره و استقص في النظر في السماء هل ترى شقوق و فتوق أو وهن و خلل؟

[ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي كرّر النظر و أدم و ارجع النظر و البصر مرّة بعد اخرى و لا يريد حقيقة التثنية لقوله: «وَ هُوَ حَسِيرٌ» و لا يصير حسرا بمرّتين و ذلك مثل قولهم: لبّيك و سعديك و المعنى إلبابا بعد إلباب و إسعادا بعد إسعاد كلّما دعوتني فأنا ذو إجابة و ثبات بمكاني بعد ثبات من قولهم: لبّ بالمكان و ألبّ إذا أقام.

[يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً] أي يرجع إليك بصرك بعيدا عن نيل المراد ذليلا صاغرا [وَ هُوَ حَسِيرٌ] أي طال، و خاسئا حال من البصر يقال: خسأ الكلب تباعد من ذلّه كأنّه زجر و طرد مستهينا به و ذلك إذا قيل له: اخسأ.

ص: 196


1- يوسف: 43.

[وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا] تصدير الجملة بالقسم لإبراز بيان خلوّها عن شائبة القصور و كونها في غاية الحسن و الانتظام أي و باللّه لقد زيّنّا أقرب السماوات إلى الأرض و الناس و جمّلناها، و الدنيا تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب [بِمَصابِيحَ * أي بالسرج و التنكير للتعظيم يعني بكواكب مضيئة بالليل كإضاءة السرج من السيّارات و الثوابت تتراءى كلّها مع أنّ بعضها في سائر السماوات لكن لمّا كانت السماوات صافية و أجراما شفّافة فهي لا بدّ و أن تظهر و تلوح منها.

[وَ جَعَلْناها] أي المصابيح المعبّر بها عن النجوم [رُجُوماً] جمع رجم بالفتح و هو ما يرجم به و يرمي للطرد و الزجر أو جمع راجم كسجود جمع ساجد [لِلشَّياطِينِ و هم كفّار الجنّ و المعنى و جعلنا للكواكب فائدة اخرى هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المقتبسة من الكواكب لا نفس الكواكب فإنّها قارّة في الفلك على حالها فمنهم من يقتله الشهاب و منهم من يفسد عضوا من أعضائه أو عقله و الشهاب شعلة ساطعة من نار تنفصل من النجم فأطلق عليها النجم. و قالت الفلاسفة: إنّ الشهب هي أجزاء ناريّة تحصل في الجوّ عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة و اتّصالها بالنار الّتي دون الفلك و هذا القول بمعزل عن القبول مع الآية و دلائل لا يسع هذا المقام بيانه.

[وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ] أي هيّأنا للشياطين بعد الإحراق بالشهب عذاب النار المسعرة الموقدة.

[سورة الملك (67): الآيات 6 الى 11]

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10)

فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)

[وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من الشياطين و غيرهم بسبب كفرهم [عَذابُ جَهَنَّمَ أي الدركة الناريّة الّتي تلقاهم بالتجهّم و العبوسة و الكلوحة [وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ]

ص: 197

جهنّم و يجوز أن يكون جهنّم من الجهنام و هي بئر بعيدة القعر.

و دركات النار سبع و هي جهنّم ثمّ لظى ثم الحطّة ثمّ السقر ثمّ الجحيم ثمّ الهاوية و لكن كلّ من هذه الأسماء يطلق على جهنّم و كلّ فرقة دركة من الدركات السبع كعصاة أهل التوحيد و النصارى و اليهود و الصابئة و المجوس و المشركين و المنافقين و لم يذكروا الشياطين في واحدة من الدركات السبع و لعلّهم يقسّمون على مراتب إضلالهم و ضلالهم كما قال سبحانه: «وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ» (1) أي مع شياطينهم.

[إِذا أُلْقُوا] أي الّذين كفروا في جهنّم و طرحوا كما يطرح الحبّ في النار و في تعبير الإلقاء دون الإدخال إشعار بتحقيرهم و كون جهنّم سفليّة [سَمِعُوا لَها] لجهنّم نفسها [شَهِيقاً] أي صوتا كصوت الحمار الّذي هو أنكر الأصوات و أفظعها غضبا عليهم و هو حسيس النار قالوا: الشهيق في الصدر و الزفير في الحلق أو الشهيق آخر صوت الحمير و الزفير أوّله و الشهيق ردّ النفس و الزفير إخراجه.

[وَ هِيَ تَفُورُ] و الحال أنّها يغلي لهم غليان المرجل بما فيها من شدّة التلهّب و التعسّر فهم لا يزالون صاعدين هابطين كالحبّ إذا كان الماء يغلي به لا قرار لهم أصلا و الفور شدّة الغليان و فعلت كذا من فوري أي من غليان الحال [تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ] يقال: فلان يكاد ينشقّ من غيظه إذا وصف بالإفراط في الغضب و التميّز الانفصال و التقطّع و تميّز أصله تتميّز أي يقرب من شدّة غيظها أن يتمزّق تركيبها و استعير لفظ الغيظ لهذا الاستعمال استعارة تصريحيّة و ذلك كلّه لغضب سيّدها و تأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر بألف زمام لكلّ زمام سبعون ألف ملك و هي من شدّة الغيظ تقوى على الملائكة و تحمل على الناس فتقطع الأزمة و تحطم أهل المحشر و تقول: لأنتقمنّ اليوم ممّن أكل رزق اللّه و عبد غيره فلا يردّها عنهم إلّا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقابلها بنوره فترجع مع أنّ لكلّ ملك من القوّة ما لو أن امر به أن يقتلع الأرض و ما عليها من الجبال و يصعد بها فعل من غير كلفة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد أدنيت منّي النار حتّى جعلت أنفثها خشية أن تغشاكم.

ص: 198


1- ابراهيم: 94.

قال جعفر الطيّار: كنت مع النبيّ في طريق فاشتدّت عليّ العطش فعلمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان حذاءنا جبل فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بلّغ منّي السلام إلى هذا الجبل و قل له يسقيك إن كان فيه ماء قال: فذهبت إليه قلت: السلام عليك أيّها الجبل فقال الجبل بنطق فصيح:

لبّيك يا رسول اللّه فعرضت القصّة فقال الجبل: بلّغ سلامي إلى رسول اللّه و قل:

منذ سمعت قوله تعالى: «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ» (1) بكيت لخوف أن أكون من الحجارة الّتي هي وقود النار بحيث لم يبق فيّ ماء.

[كُلَّما أُلْقِيَ فِيها] أي في جهنّم [فَوْجٌ جماعة الكفرة بدفع الزبانية [سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها] أي سأل الخزنة و الزبانية ذلك الفوج و ضمير الجمع باعتبار المعنى [أَ لَمْ يَأْتِكُمْ في الدنيا [نَذِيرٌ] منذر يتلو عليكم آيات ربّكم و ينذركم لقاء يومكم هذا و الإنذار لا يكون إلّا في التخويف.

[قالُوا] اعترافا: [بَلى لإيجاب نفي إتيان التذكير [قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا] ذلك النذير في كونه نذيرا من اللّه فإن قلت: هذا يقتضي أن لا يدخلها الفاسق المصرّ لأنّه لم يكذّب النذير فالجواب أنّ الأدلّة السمعيّة دلّت على تعذيب العصاة مطلقا [ما نَزَّلَ اللَّهُ على أحد [مِنْ شَيْ ءٍ] من الأشياء فضلا عن تنزيل الآيات عليكم و قيل: المراد ما نزّل اللّه من كتاب و لا رسول [إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم أيّها الرسل في هذا الادّعاء [إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ] بعيد عن الحقّ.

[وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ من النذر و ما جاءونا به و دعونا إليه [ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ] و لو كنّا نسمع من يعي و نتفكّر و نعقل عقل من يميّز ما كنّا من أصحاب السعير و عن أنس قال: أثنى قوم على رجل عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

كيف عقل الرجل؟ قالوا: نخبرك عن اجتهاده في العبادة و أصناف الخير و تسألنا عن عقله؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الأحمق يصيب بتحمّقه أعظم من فجور الفاجر و إنّما يرتفع العباد غدا في الدرجات و ينالون الزلفى من ربّهم على قدر عقولهم.

ثمّ قال: [فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ في ذلك الوقت الّذي لا ينفعهم الإقرار فيه و الإقرار

ص: 199


1- البقرة: 24.

من قرّ الشي ء يقرّ قرارا إذا ثبت و الاعتراف مأخوذ من المعرفة و هو الإقرار عن معرفة و الذنب مصدرا لا يثنّى و لا يجمع و يفيد فائدة الجمع بكونه اسم الجنس و شامل للقليل و الكثير أو أريد به الكفر و هو و إن كان على أنواع فهو على ملّة واحدة.

[فَسُحْقاً] مصدر إمّا لفعل من المزيد بحذف الزائد أي فأسحقهم اللّه من رحمته سحقا أي إسحاقا و إبعادا أو أنّهم سحقوا سحقا أي بعدوا بعدا [لِأَصْحابِ السَّعِيرِ] و قيل: ألزمهم اللّه سحقا عن الخير و بعدا عن الرحمة فجاء المصدر على غير لفظه مثل «نَباتاً حَسَناً» (1) و معنى سحقته باعدته بالتفريق عن حال اجتماعه حتّى صار كالغبار و اللام في قوله: «لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» للبيان.

[سورة الملك (67): الآيات 12 الى 21]

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)

أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ (21)

[إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ و يخافون عذابه و هو عذاب القيامة و يوم الموت و يوم القبر خوفا و راء عيونهم حالكون ذلك العذاب غائبا عنهم و لم يعاينوه [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ] عظيمة و لمّا كان السرور إنّما يتمّ بالإعطاء قال: و [وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ] أي ثواب عظيم في الآخرة قال مسروق: إنّ المخافة قبل الرجاء فإنّ اللّه خلق جنّة و نارا فلن تخلصوا الجنّة حتّى تمرّوا بالنار قال تعالى: «وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» (2).

قال فضيل بن عياض: إذا قيل لك: أ تخاف اللّه؟ فاسكت فإنّك إن قلت: لا فقد

ص: 200


1- آل عمران: 37.
2- مريم: 71.

جئت بأمر عظيم و إذا قلت: نعم فالخائف لا يكون على ما أنت عليه؛ ألا ترى أنّ اللّه لمّا اتّخذ إبراهيم عليه السّلام خليلا ألقى في قلبه الوجل حتّى أنّ خفقان قلبه يسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء.

[وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ قال ابن عبّاس نزلت في المشركين كانوا يتكلّمون في شأن النبيّ فيما بينهم بأشياء فيظهره اللّه رسوله عليها فقال بعضهم لبعض أسرّوا قولكم كيلا يسمع ربّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيخبره بما تقولون فقال لهم: «وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ» الآية [إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] و بمضمرات جميع الناس و أسرارهم و بما في قلوبهم.

[أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أي ألا يعلم اللّه من خلقه [وَ هُوَ] و الحال أنّه [اللَّطِيفُ العالم بدقائق الأشياء [الْخَبِيرُ] المطّلع ببواطنها و إنّما يستحقّ اسم اللطيف من يعلم دقائق المصالح و غوامضها ثمّ يسلك في إيصالها إلى المستصلح على سبيل الرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق في الفعل و اللطف في الإدراك ثمّ معنى اللطف و لا يتصوّر كما ذلك في العلم و الفعل إلّا للّه.

[هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ لمنافعكم اختلفوا في مبلغ الأرض و كميّتها قال مكحول: ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمسمائة سنة مائتان من ذلك في البحر و مائتان ليس يسكنها أحد و ثمانون فيها يأجوج و مأجوج و عشرون فيها سائر الخلق قال قتادة: بسيطها من حيث محيط بها البحر المحيط أربعة و عشرون ألف فرسخ فملك السودان منها اثنا عشر ألف فرسخ و ملك الروم ثمانية آلاف فرسخ و ملك العجم و الترك ثلاثة آلاف فرسخ و ملك العرب ألف فرسخ، قال عبد اللّه بن عمر: ربع من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس.

و قد خرّج بطلميوس مقدار قطر الأرض في المجسطي بالتقريب و هو كتاب له يذكر فيه القواعد الّتي يتوسّل بها في بيان الأوضاع الفلكيّة و الأرضيّة قال: بسيط الأرض مائة ألف و ثمانون ألف اسطاربوس و هي أربعة و عشرون ألف ميل فتكون على هذا ثمانية آلاف فرسخ و الفرسخ ثلاثة أميال و ثلاثة آلاف ذراع بالمكّيّ و الذراع ثلاثة أشبار و كلّ شبر اثنتا عشر إصبعا و الأصبع خمس شعيرات مضمومات بطون بعضها إلى

ص: 201

بعض و عرض الشعيرة الواحدة ستّ شعرات بغل و الأسطاربوس أربعمائة ألف ذراع.

قوله: [ذَلُولًا] أي منقادة يسهل عليكم السلوك فيها و السكونة بها و لتتوصّلوا إلى ما ينفعكم و الذلّ بالضمّ و الكسر ضدّ الصعوبة و الذلّ بمعنى الهوان بالضمّ فقط و الذلول فعول بمعنى الفاعل و لذا عري عن علامة التأنيث مع أنّ الأرض مؤنّث سماعيّ.

[فَامْشُوا فِي مَناكِبِها] و الأمر أمر إباحة أي فاسلكوا في جوانبها حيث إنّ منكبي الرجل جانباه و استعير للأرض كاستعارة الظهر لها في قوله: (1) «ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها» و المراد من مناكب الأرض جبالها و شبّهت بالمناكب من حيث الارتفاع.

[وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ من الحبوب و الفواكه و نحوها [وَ إِلَيْهِ أي إلى اللّه وحده [النُّشُورُ] و المرجع بعد البعث.

[أَ أَمِنْتُمْ استفهام توبيخ [مَنْ فِي السَّماءِ] أي هل أمنتم من عذاب ملائكة السماء الموكّلين بتدبير أمر العالم أو اللّه سبحانه لا أنّه تعالى في جهة السماء لأنّ ذلك من صفات الأجسام و المراد بالفوقيّة القدرة و السلطنة لا فوقيّة الجهة مثل رفع الأيدي إلى السماء في الدعاء لكونها محلّ البركات و قبلة الدعاء و يجوز أن يكون الظرفيّة باعتبار زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنّه تعالى في السماء فحينئذ المعنى: أنتم من تزعمون أنّه في السماء.

[أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ و يقلبها عليكم فيغيبكم فيها كما فعل بقارون و الباء في مثل هذه المواضع للتعدية و خسف اللّه به الأرض أي غاب به فيها [فَإِذا هِيَ تَمُورُ] و تضطرب و تتحرّك و أنتم مخسفون فيها و الأرض تدور بكم إلى الأرض السفلى و المور التردّد في الذهاب و المجي ء في مثل الموج.

[أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً] أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط و أصحاب الفيل و المعنى هل جعل لكم من هذين أمانا؟ و إذ لا أمان لكم منهما فما معنى تماديكم في شرككم و عصيانكم [فَسَتَعْلَمُونَ عن قريب [كَيْفَ نَذِيرِ] أي إنذاري عند مشاهدتكم للمنذر به أهو واقع أم لا؟ أ شديد أم ضعيف؟

ص: 202


1- فاطر: 45.

[وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفّار مكّة من كفّار الأمم السابقة كالمذكورين و أضرابهم و الالتفات إلى الغيبة إشعار بالإعراض عنهم [فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ] أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب و إنكار اللّه على عبده أن يفعل به أمرا صعبا هائلا لا يعرف.

[أَ وَ لَمْ يَرَوْا] و ينظروا [إِلَى الطَّيْرِ] فالرؤية بصريّة لأنّها تتعدّى بإلى و أمّا القلبيّة فتعديتها بفي و الطير يطلق على جنس الطائر إمّا لكون جمعه في الأصل مثل ركب و راكب أو مصدره جعل اسما لجنسه.

[فَوْقَهُمْ ظرفا ليروا أو حالا من الطير أي كائنات فوقهم [صافَّاتٍ و الصفّ أن يجعل الشي ء على خطّ مستو كالناس و الأشجار و المعنى باسطات أجنحتهنّ في الجوّ عند طيرانها فإنّهنّ إذا بسطنها صففن قوادمها صفّا و هي عشر في كلّ جناح الواحدة قادمة.

[وَ يَقْبِضْنَ و يضممنها إذا ضربن بها جنوبهنّ حينا فحينا للاستظهار به على التحرّك فإنّ الطيران كالسباحة في الماء فكما أنّ السباحة مدّ الأطراف و بسطها فكذا الطيران لا بدّ فيه صفّ الأجنحة و بسطها و حاصل المعنى أنّ الطير في الطيران صافّات و قابضات و لذا جاز العطف مع أنّ الثانية فعليّة.

[ما يُمْسِكُهُنَ في الجوّ عن السقوط عند الصفّ و القبض على خلاف مقتضى الطبع الجسمانيّ فإنّه يقتضي الوقوع إلى السفل [إِلَّا الرَّحْمنُ الواسع رحمته كلّ شي ء بأن خلقهنّ على خصائص و صنع تركيب للجري في الهواء [إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ] يعلم تدبير العجائب و يشاهد و ينكشف له كمال صفات المبصرات.

[أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أم منقطعة مقدّرة ببل لتوبيخه و المعنى بل من هذا الحقير الّذي هو في زعمكم جند لكم و عون من آلهتكم ينصركم عند نزول الآفات و العذاب من غير اللّه و ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو حاصل الكلام أنّ اللّه الّذي له هذه الأوصاف ينصركم و ينجيكم من الخسف و الحصب إن أصابكم أم الّذي تزعمون أنّه جند لكم و على هذا المعنى أم متّصلة.

[إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ] إن نافية أي ما هم في زعمهم أنّهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم و أنّ آلهتهم يحفظهم من بأس اللّه إلّا في غرور عظيم.

ص: 203

[أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ و يعطيكم الرزق [إِنْ أَمْسَكَ الرّحمن و حبس [رِزْقَهُ بإمساك المطر و مباديه و لو كان الرزق موجودا أو كثيرا و سهل التناول فوضع الأكلة في فمه فأمسك اللّه عنه قوّة الابتلاع عجز أهل السماوات و الأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة كما يقع هذا الأمر أحيانا لبعض المرضى. قيل: كان الكفّار يمتنعون عن الإيمان و يعاندون الرسول عليه السّلام معتمدين على شيئين: أحدهما بمالهم و عددهم و الثاني اعتقادهم أنّ الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات و تدفع عنهم الآفات فأبطل اللّه عليهم الأوّل بقوله: «أمّن هذا الّذي هو جند لكم» إلخ، و ردّ عليهم الثاني بقوله: «أمّن هذا الّذي يرزقكم» إلخ.

[بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ] الكلام منبئ عن مقدّر يستدعيه المقام كأنّه قيل:

إنّهم لم يذعنوا للحقّ بل لجّوا و تمادوا في عتوّ و عناد و استكبار و شراد عن الحقّ.

[سورة الملك (67): الآيات 22 الى 30]

أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)

[أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى مثل ضرب للمشرك و الموحّد توضيحا لحالهما و إلغاء لترتيب البيان و تقديم الهمزة على إلغاء صورة لاقتضائها الصدارة و أمّا بحسب المعنى فالأمر بالعكس حتّى لو قيل مكان الهمزة «هل» لقيل: فهل يمشي مكبّا و المكبّ الساقط على وجهه و المعنى فمن يمشي و هو يعترّ في كلّ ساعة و يخرّ على وجهه في كلّ خطوة لتوعير طريقه و اختلال قواء أشدّ هداية و رشدا إلى المقصد الّذي يؤمّه.

[أَمَّنْ أي هو أهدى أم من [يَمْشِي سَوِيًّا] قائما سالما من العثار [عَلى صِراطٍ

ص: 204

مُسْتَقِيمٍ مستوي الأجزاء و قيل: المكبّ كناية عن الأعمى قيل للنبيّ: و كيف يمشون على وجوههم؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الّذين أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم.

[هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ و جعل لكم السمع أيّها الكفّار إنشاء بعيدا بأن صوّركم فأحسن صوركم [وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتسمعوا آيات اللّه و تعملوا بموجبها و قدّم السمع لأنّ فوائد السمع أقوى بالنسبة إلى عموم الناس و إن كانت فوائد البصر أعلى بالنسبة إلى الخواصّ [وَ الْأَبْصارَ] لتنظروا بها إلى الآيات الكونيّة الشاهدة بشئون الخالق [وَ الْأَفْئِدَةَ] و القلوب لتتفكّروا بها فيما تسمعونه و تتعقّلونه من الواردات عليكم و التفؤد التوقّد و منه الفؤاد للقلب لأنّ العلوم و المعارف يتّقد و ينكشف به و هو كالحوض حيث ينصبّ إليه ما حصل من طريق السمع و البصر.

[قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ باستعمالها فيما خلقت لأجله و قليلا صفة لمحذوف و ما مزيدة لتأكيد القلّة أي شكرا قليلا تشكرون و قيل: المراد من القلّة النفي إذا كان الخطاب للكفرة و بمعناه المعروف إذا كان الخطاب للكلّ قال بعض المتّقين:

لو عشت ألف عام في سجدة لربّي شكرا لفضل يوم لم أقض بالتمام

و العام ألف شهر و الشهر ألف عام و اليوم ألف حين و الحين ألف عام

و اعلم أنّ شكر السمع التعلّم و الاستماع من العلماء و المواعظ الحسنة و ردّ أقوال البدعة و الهوى و شكر البصر النظر بالدقّة إلى المصاحف و كتب الدين و إلى وجوه أهل الإيمان و الفقراء بعين الرحمة و شكر القلب قبول أحكام اللّه و اليقين بتوحيده و الخوف و الرجاء منه و به و المحبّة لأوليائه و البغض لأعدائه.

[هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم و كثّركم فيها و ذرأه أي كثره و منه الذرّيّة [وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي إليه تعالى تجمعون و تبعثون للحساب و الجزاء فابنوا أموركم على ذلك و استعدّوا لذلك اليوم و جميع البيان المذكور لإثبات هذا المطلوب.

[وَ يَقُولُونَ من فرط عنادهم أو بطريق الاستهزاء: [مَتى هذَا الْوَعْدُ] أي الحشر الموعود و كانوا يقولون: متى هذا [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به النبيّ و جواب الشرط

ص: 205

محذوف أي كنتم صادقين فيما تخبرون به من مجي ء الساعة فبيّنوا وقته.

[قُلْ ما أعلم الخلق [إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقته [عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ مخوّف بلغة تعرفونها و أمّا العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار.

[فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً] أي فلمّا رأوا العذاب قريبا و ذا قرب أو على أنّه مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفا و المراد يوم بدر أو المراد يوم القيامة و رأوا أنّ القيامة قد قامت و ما اعدّ لهم العذاب كما عليه أكثر المفسّرين و أتى بلفظ الماضي لتحقّق وقوعها و أراد به المستقبل [سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا] قبحت وجوههم و ظهر عليها الكأبة و نالهم السوء و يقال لهم: [هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي هذا الّذي كنتم به تستعجلون و تدّعون بتعجيله قال الفرّاء: تدّعون و تدّعون واحد مثل: تدّخرون و تدخرون قيل: هو تدّعون من الدعوى أي تدّعون أن لا جنّة و لا نار.

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ بالأسانيد الصحيحة عن شريك عن الأعمش قال: لمّا رأوا عليّ بن أبي طالب و ماله من الزلفى و التقرّب عنّد اللّه سيئت وجوه الّذين كفروا و عن أبي جعفر عليه السّلام فلمّا رأوا مكانة عليّ من النبيّ سيئت وجوه الّذين كفروا و كذّبوا بفضله و أصل الكلام أنّ رؤية الموعود ساءت وجوههم و السياءة من ساءه الشي ء يسوؤه سوءا و مساءة نقيض سرّه و هذا المعنى متعدّ و يجوز أن يكون لازما بمعنى قبح و منه «ساء مثلا» فالمعنى حينئذ ساءوا و قبحوا و قيل: توبيخا لهم هذا الكلام.

[قُلْ يا خير الخلق: [أَ رَأَيْتُمْ أخبروني خبرا أنتم في الوثوق به مثل الرؤية قال بعضهم: لمّا كان الإخبار قويّا بالرؤية شاع أ رأيت في معنى أخبر [إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ و أماتني و ذلك لما يتربّصون به ريب منون [وَ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين و حصل مقصودكم [أَوْ رَحِمَنا] بتأخير آجالنا [فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ استحقّوه بكفرهم و من ينقذهم و قيل: معنى رحمنا غفرنا أي لا ينجيكم من عذابه أحد سواء متنا أو بقينا إنّما النجاة بالإيمان و العمل الصالح و وضع الكافرين موضع ضمير هم ليتخيّل عليهم بالكفر و بيان نفي الإنجاء بسبب الكفر.

[قُلْ يا محمّد: [هُوَ الرَّحْمنُ الّذي أدعوكم إلى عبادته مولى التنعّم [آمَنَّا بِهِ

ص: 206

و لم نكفر به كما كفرتم [وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا] و فوّضنا أمورنا عليه لا على غيره مثلكم حيث توكّلتم على عدّتكم و عددكم [فَسَتَعْلَمُونَ يا كفّار مكّة [مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ من استفهاميّة أو موصولة منّا و منكم أيّنا المصيب و أيّنا المخطئ.

[قُلْ يا محمّد: [أَ رَأَيْتُمْ أخبروني [إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً] و صار غائرا في الأرض بالكلّيّة و نازلا و ذاهبا فيها و نضب أو غار في المنهبط من الأرض [فَمَنْ يَأْتِيكُمْ على عجزكم [بِماءٍ مَعِينٍ جار، من عان الماء أو معن الماء كلاهما أي ظاهر للعيون بجريه و بسهولة تناوله بالأيدي و كان ماء أهل مكّة من بئرين: بئر زمزم و بئر ميمون الحضرميّ و إنّما خصّ سبحانه من النعم بذكر الماء لأنّه أصل الحياة و هو أهون موجود و أعزّ مفقود.

و في تفسير الزاهديّ إنّ زنديقا سمع معلّما تلقّن تلميذه قوله: «فمن يأتيكم بماء معين» فأجاب الزنديق: يأتي به المعول فلمّا أمسى الزنديق و نام في فراشه فسمع هاتفا و هو يسمع صوته و لا يرى شخصه فهتف الهاتف يا زنديق غار ماء عينك فقل حتّى يأتي به المعول! فعوقب بذهاب ماء عينيه لأنّ الجزاء من جنس العمل، و نعم ما حكى هذه القصّة المولوي في المثنوي نعوذ باللّه من الجرءة على اللّه و ترك حرمة القرآن تمّت السورة بعون اللّه

ص: 207

سورة ن و القلم

اشارة

هي مكّيّة و قيل: بعضها مكّيّة و بعضها مدنيّة.

عليّ بن ميمون عن الصادق عليه السّلام قال: من قرء سورة ن في فريضة أو نافلة آمنه اللّه أن يصيبه في حياته فقرا و أعاذه من ضغطة القبر.

ص: 208

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القلم (68): الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)

وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ (14)

إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

أي هذه سورة «ن» أو بحقّ ن أقسم اللّه بها على سبيل التأكيد في إثبات الحكم على ما عليه عادة الخلق مع ما فيه من بيان عظم شأن المقسم به، و النون حرف واحد في في الكتابة و ثلاثة أحرف في التلفّظ و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف بل ألف حرف و لام حرف و ميم حرف و قال بعضهم: هو مفتاح اسم النور و الناصر. و قيل فيه: إنّه اسم من أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: النون الحوت العظيم قال عكرمة، أقسم اللّه بالحوت الّذي لطخ سهم نمرود بدمه لمّا رمى السهم نحو السماء عاد السهم مختضبا بدم سمكة في بحر معلّق في الهواء فأكرم اللّه ذلك الحوت بأن أقسم به و أحلّ جنسه من غير ذكاة فإنّه لا يحلّ إلّا ميتتان: السمك و الجراد. و قيل: المراد الحوت الّذي احتبس يونس في بطنه. و قيل: هو الحوت الّذي على ظهر الأرض و هو في بحر تحت الأرض السفلى اسمه ليوثا أو يهموت أو برهوت. و قيل: هو الدواة. و قيل: هو نهر في الجنّة قال اللّه: له كن مدادا فحينئذ.

[وَ الْقَلَمِ هو ما يكتب به و الواو للقسم على التقدير الأوّل و للعطف على الثاني و المراد قلم اللّوح كما جاء في الخبر إنّ أوّل ما خلق اللّه القلم و نظر إليه

ص: 209

فانشقّ بنصفين ثمّ قال: له أجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك من الآجال و الأعمال و الأرزاق ثمّ ختم على القلم و هو قلم من نور طوله كما بين السماء و الأرض، و بعد ما خلق القلم خلق النون فدحي الأرض عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السماوات و اضطرب النون فمادّت الأرض فأثبتت بالجبال.

و عن ابن عبّاس أنّ المراد بالقلم قلم الكرام الكاتبين أو جنس القلم أقسم اللّه بالدواة و القلم لكثرة منافعها كما قيل: البيان اثنان بيان لسان و بيان بنان و هو باق على الأيّام و بيان اللسان تدرسه الأعوام و او لم يكن للقلم مزيّة سوى كونه آله لتحرير كتب اللّه لكفى به فضلا مرحبا لتعظيمه و من تعظيمه تعظيم برايته فتوضع حيث لا تطأها الأقدام و إلّا أورثت الآلام.

كفى قلم الكتّاب فخرا و رفعةمدى الدهر، أنّ اللّه أقسم بالقلم

[وَ ما يَسْطُرُونَ ما موصولة و العائد محذوف و السطر الصفّ من الكتابة و من القوم الوقوف و ضمير الجمع لأصحاب القلم من الحفظة الملائكة أو غيرهم و لعلّ مناسبة كون «ن» من أسمائه تعالى هي أنّ النون في الرقم نصف دائره محسوسه و نصف دائره معقوله تشعر نقطتها بأحدية ذاته تعالى و النصف المحسوس مظهر و ظرف مداد عالم الخلق و النصف المعقول ظرف عالم الأمر فالمناسبة حاصلة.

قوله: [ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم أي لست مجنونا و ليس شي ء حائلا بين نفسك و عقلك و أنت ملتبس بنعمة ربّك و هي نعمة النبوّة و الرياسة العامّة و المراد تنزيهه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عمّا كانوا ينسبونه إليك حسدا و مكابرة مع كونه في غاية من حصافة العقل و رزانة الرأي و قوله: «بنعمة ربّك» قسم اعترض به بين المحكوم عليه و الحكم- على ما قال أبو حيّان- علي سبيل التأكيد في انتفاء الوصف الذميم عنه و ذهب غيره أيضا أنّ الباء للقسم مثل شيخ نجم الدين في تأويلاته.

و قيل في النزول: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غاب عن خديجة إلى حراء جبل النور قالت خديجة: فلم نجده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإذا هو قد طلع و وجهه متغيّر بلا غبار فقالت له: مالك؟ فذكر نزول جبرئيل و أنّه قال: له اقرأ باسم ربّك فهو أوّل ما نزل من القرآن قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص: 210

نزل جبرئيل إلى قرار الأرض فتوضّأ و توضّأت ثمّ صلّى و صلّيت معه ركعتين و قال:

هكذا الصلاة يا محمّد فذكر ذلك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لخديجة فذهب خديجة إلى ورقه بل نوفل و هو ابن عمّها و كان قد خالف دين قريش و دخل في النصرانية فجاء ورقه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال:

هل أمرك جبرئيل أن تدعو أحدا؟ فقال: لا فقال ورقة: لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنّك نصرا عزيزا ثمّ مات قبل دعاء الرسول.

و وقعت تلك الواقعة في ألسنة كفّار قريش فقالوا: إنّه مجنون فأقسم اللّه على أنّه ليس بمجنون و هو خمس آيات عن أوّل هذه السورة لكن قال ابن عبّاس: أوّل ما نزل «سبّح اسم ربّك» و «اقرأ» هي الثانية.

قوله: [وَ إِنَّ لَكَ بمقاساة تحمّلك أعباء الرسالة و ألوان الشدائد من جهة الكفّار [لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ و غير مقطوع و منه قيل «المنون» للمنيّة لأنّها تقطع العدد و المدد و يجوز أن يكون معناه غير مكدّر بسبب المنّة.

[وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ لا يدرك شأوه أحد من الخلق لأنّك تحتمل من جهتهم ما لا يكاد يحتمله أحد و دلّت الآية على أنّك مستول على الأخلاق الحميدة و الأفعال المرضيّة حتّى صارت بمنزلة الأمور الطبيعيّة و لذا قال: «قل لا أسألكم عليه أجرا و ما أنا من المتكلّفين (1)، أي لست متكلّفا فيما يظهر من أخلاقي لأنّ المتكلّف لا يدوم أمره طويلا بل يرجع إليه الطبع و سمّي خلقا لرسوخه و ثباته حتّى صار بمنزلة الخلقة الّتي جبّل عليها الإنسان و إن احتاج في كونه ملكة راسخة إلى اعتمال و مجاهدة طويلة و لذا يتبدّل بالمصاحبة فيكون الحسن قبيحا و القبيح حسنا على حال المصاحبين كما في الحديث المرء علي دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل و في حديث آخر: لا تجالسوا أهل الهوى و البدع فإنّ لهم عرّة كعرّة الجرب و لذلك صنّف أطبّاء الأرواح أبوابا في علم الأخلاق لترتيب الصحّة الروحانيّة كما ألّف أطبّاء الأشباح فصولا في علم الأبدان.

و إنّما وصف سبحانه خلقه بالعظمة كما وصف العرش و القرآن بالعظيم لبيان

ص: 211


1- ص: 88.

أنّ ذلك الخلق جامع لمكارم الأخلاق اجتمع فيه شكر نوح و خلّة إبراهيم و إخلاص موسى و صدق إسماعيل و صبر يعقوب و أيّوب و اعتذار داود و تواضع سليمان و عيسى و هكذا من أخلاق سائر الأنبياء كما قال: «فبهداهم اقتده (1)» إذ ليس هذا الهدى معرفة اللّه لأنّ ذلك تقليد و هو غير لائق بالرسول و ليس هذا الهدى معرفة اللّه لأنّ ذلك تقليد و هو غير لائق بالرسول و ليس الشرائع لأنّ شريعته ناسخة لشرائعهم و المراد الاقتداء بكلّ منهم فيما اختصّ به من الخلق الكريم إذ كان كلّ واحد منهم مختصّا بخلق حسن غالب على سائر أخلاقه و هذه درجة عالية لم يتيسّر لأحد من الأنبياء.

لكلّ نبيّ في الأنام فضيلةو جملتها مجموعة لمحمّد

و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متحلّيا بما في القرآن من مكارم الأخلاق و قد جمع فيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما في الآي العشر في سورة المؤمنين من قوله: «قد أفلح» فذلك خلقه العظيم و هو عين الصراط المستقيم.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ للّه ثلاثمائة و ستّين خلقا من لقيه بخلق منها مع التوحيد دخل الجنّة و أحبّها إلى اللّه السخاء.

قال بعض المحقّقين: من أراد أن يرى رسول اللّه ممّن لم يدركه من امّته فلينظر إلى القرآن فإنّه لا فرق بين النظر فيه و بين النظر إلى رسول اللّه فكأنّ القرآن انتشاء صورة جسديّة يقال له محمّد: و الأنبياء كلّهم أنوارهم كالكواكب بالنسبة إلى نوره و مع أنّه كان غائبا عنهم استناروا من صفاء نوره؛

فاق النبيّين في خلق و في خلق و لم يدانوه في علم و لأكرم

[فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ عند كشف الغطاء فيعلمون حينئذ أنّك مجنون أو أنّهم مجانين [بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي أيّكم الّذي ابتلي بفتنة الجنون على أنّ المفتون بمعنى الفتون و هو الجنون كالمعقول بمعنى العقل و الباء مزيدة في المبتداء كما في بحسبك زيد أو الباء بمعنى «في» أي الفريقين من المؤمنين و الكافرين يوجدون من يستحقّ عليه هذا الاسم.

ص: 212


1- الانعام: 9.

[إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الحقّ المؤدّي إلى سعادة الدارين أوهام في تيه الضلال متوجّها إلى ما يفضيه إلى الشقاوة الأبديّة و هو المجنون الّذي لا يفرّق بين النفع و الضرّ [وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى سبيله فيجزي كلا الفريقين حسبما يستحقّه و إعادة «هو أعلم» لزيادة التقرير و حصول الهداية أمر متوقّف على قبول المهتدي لأنّ الرسول الصادق الأمين قال: «إنّي دعوت قومي ليلا و نهارا فلم يزدهم دعائي إلّا فرارا (1)».

[فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ أي إذا تبيّن عندك حالهم فدم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم فقوّى سبحانه قلبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتشدّد مع قومه مع قلّة العدد و كثرة الكفّار و في الآية بيان للامّة أنّ الإطاعة للعاصي عصيان و الاقتداء بالطاغي طغيان.

[وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ لو للتمنّي و المراد من الإدهان الملاينة و التسهيل و المسامحة و ترك الدعوة أي إنّهم لو سامحتهم في الدعوة يداهنونك حينئذ بترك الطعن و الفرق بين المداهنة و المداراة إنّ الإدهان الملاينة لمن لا ينبغي له ذلك و تغضي عنهم لحظّ نفسك و سلامة جاهك و اجتلاب نفعك و المداراة لما ترى فيه من اصطلاح الأمر بالإغضاء و هي في الغالب مع من يخاف شرّه.

قوله: [وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ كثير الحلف في الحقّ و الباطل لجهله حرمة اليمين و عدم مبالاته من الحنث لسوء عقيدته و أصل الحلف اليمين الّذي كان يأخذ بعضهم من بعض على أمر أي العهد ثمّ عبّر به عن كلّ يمين و المهين الحقير الرأي و هي الحقارة في التدبير.

[هَمَّازٍ] عيّاب طعّان يلوي شدقيه في أقفية الناس و في الحديث لا يكون المؤمن طعّانا و لا لعّانا و الهمّاز مبالغة هامز و الهمز الطعن و منه المهمزة حديدة تطعن بها الدابّة قيل لأعرابيّ: أ تهمز الفار؟ قال: السنّور يهمزها استعير للمغتاب الّذي يذكر الناس بالمكروه و يظهر عيوبهم و يكسر أعراضهم.

[مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجهه السعاية و الإفساد بينهم

ص: 213


1- نوح: 5.

و إظهار الحديث بالوشاية و هو من الكبائر أمّا نقل الكلام بقصد النصيحة للمؤمنين فواجب كما قال: من قال: «يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من الناصحين (1)» و في الحديث لا يدخل الجنّة نمّام.

[مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ] الخير المال أي بخيل يمنع الناس من أقسام الخير من الإيمان و الطاعة و الإنفاق و كان للوليد بن المغيرة عشرة من البنين و كان يقول لهم و لأقاربه:

من تبع منكم دين محمّد لا أنفعه بشي ء و كان موسرا.

[مُعْتَدٍ] متجاوز في الظلم من استغراقه في الأخلاق الذميمة و مجاوزة الحقّ و الحدّ [أَثِيمٍ كثير الاثم و المعصية.

[عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ عتله إذا قاده بعنف و غلظة أي جاف غليظ القلب بحيث لا يقبل الخير و النصح «بعد ذلك» أي بعد هذه القبائح «زنيم» دعيّ ملتصق بالقوم و ملحق بهم في النسب و ليس منهم فالزنيم هو الّذي تبنّاه أحد و اتّخذه ابنا و ليس بابن له في الحقيقة و الزائد في القوم تشبيها بالزنمتين من الشاة و هما المندلبتان من اذنها أو شي ء يقطع من اذن البعير فيترك معلّقا.

قال العتبيّ: لا نعلم أنّ اللّه وصف أحدا و لا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عارا لا يفارقه أبدا و كان الوليد دعيّا في قريش و ليس من سنخهم، ادّعاه أبوه المغيرة بعد ثمان عشرة سنة من مولده و حاصل معنى الزنيم ولد الزنى.

زنيم ليس يعرف من أبوه بغيّ الأمّ ذو حسب لئيم

و في الحديث لا يدخل الجنّة جوّاظ و لا جعظريّ و لا العتلّ الزنيم. و الجوّاظ: الجموع المنوع، و الجعظريّ: الفظّ الغليظ، و العتلّ: رحيب الجوف أكول شروب غشوم ظلوم.

[أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ متعلّق بقوله: «لا تطع» بحذف الجارّ أي لأن كان مستظهرا بالمال و البنين، و من قرء بالاستفهام فيكون المعنى أ لأن كان ذا مال و بنين يجحد آياتنا و جعل مجازاة النعم الكفر بآياتنا؟

ص: 214


1- سورة القصص: 20.

[إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ استيناف جار مجرى التعليل المنهيّ أي إذا تقرء عليه آياتنا و كلامنا قال: هي أحاديث و قصص لا اعتبار بها اكتتبوها كذبا.

[سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أصله سنوسمه من الوسم و هو إحداث السمة و العلامة و المسيم المكواة و آلة الكيّ و الخرطوم الأنف أو مقدّمه أو ما ضممت عليه الحنكين أي سيجعل له كيّا على أكرم مواضعه لإهانته و إذلاله إذ الأنف أكرم موضع من الوجه لتقدّمه له و لذلك جعلوه مكان العزّ و الحميّة و اشتقّوا منه الأنفة فيقال: فلان شامخ العرنين و يقال للذليل: رغم أنفه.

و لقد وسم العبّاس أباعره في وجوهها فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أكرموا الوجوه فوسمها في جواعرها أي في أدبارها و في التعبير عن الأنف بلفظ الخرطوم استقباحا لصاحبه و استهانة له لأنّه لا يستعمل إلّا في الفيل و الخنزير.

[سورة القلم (68): الآيات 17 الى 33]

إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَ لا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)

أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)

عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)

[إِنَّا بَلَوْناهُمْ يقال: بلي الثوب أي خلق، و بلوته: اختبرته كأنّي أخلقته من كثرة اختباري له و المعنى إنّا ابتلينا أهل مكّة بالقحط و الجوع سبع سنين بدعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أكل الجيف لتمرّدهم [كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ] مثل ابتلاء أصحاب الجنّة المعروف خبرها عندهم و اللام في الجنّة للعهد.

و أصحاب الجنّة قوم من أهل صنعاء قيل: كانوا إخوة و كانت الجنّة لأبيهم دون

ص: 215

صنعاء بفرسخين و قيل: هي جنّة بضروان و ضروان على فرسخ من صنعاء و كان أصحاب هذه الجنّة بعد رفع عيسى عليه السّلام بيسير و كانوا بخلاء و كان أبوهم يأخذ من البستان قوت سنة و يتصدّق بالباقي و كان ينادي الفقراء وقت الصرام و يترك لهم ما أخطأه المنجل و ما في أسفل الأكداس و ما أخطأه القطّاف من العنب و ما بقي على البساط الّذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شي ء كثير و يتزوّدون به أيّاما.

فلمّا مات أبوهم قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر و نحن أولو عيال فحلفوا فيما بينهم و ذلك قوله تعالى: [إِذْ أَقْسَمُوا] و الإقسام الحلف [لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ و يقطعون الثمار من النخل و العنب و يجمعنّ محصولها مبكرين و سواد الليل باق «ليصر منّها» جواب للقسم [وَ لا يَسْتَثْنُونَ و لا يقولون: إن شاء اللّه و كانوا غير مستثنين فلم يقولوا: إن شاء اللّه و قيل: المعنى و لا يستثنون حصّة المساكين و لا يخرجونها كما يفعل أبوهم و قال أبو حيّان: المعنى لا يستثنون عمّا عزموا عليه من حرمان المساكين.

[فَطافَ عَلَيْها] أي أحاط على الجنّة [طائِفٌ أي بلاء طائف و ذلك بالليل إذ لا يكون الطائف إلّا بالليل و كان ذلك الطائف نارا نزلت من السماء فأحرقتها [مِنْ رَبِّكَ من جهته تعالى أي من جهة أمره و هو منزّه عن الجهة و الطوف الدوران حول الشي ء و منه الطائف لمن يدور حول البيت حافظا و منه استعير الطائف من الجنّ و الخيال و الخادم.

[وَ هُمْ نائِمُونَ غافلون بالنوم عمّا جرت به المقادير و النوم استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه أو أن يتوفّى اللّه النفس من غير أن يقطع ضوء الروح عن الجسد فالنوم موت خفيف و الموت نوم ثقيل.

[فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالبستان الّذي صرمت ثماره حيث لم يبق فيها شي ء و قيل:

معناه كالليل لأنّ الليل يقال له الصريم، أي صارت سوداء كالليل لاحتراقها [فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي نادى بعضهم بعضا حالكونهم داخلين في الصباح [أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ أي اخرجوا غدوة على ضيعتكم و بستانكم و الحرث يجوز أن يراد به الحاصل مطلقا

ص: 216

و أن يراد به الزرع خصوصا و تعدية الغدوّ بعلى لتضمّنه الاستيلاء [إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ و قاصدين للصرم و قطع الثمرة و جمع المحصول.

[فَانْطَلَقُوا] و مضوا إليها [وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافة و السرّ كيلا يسمع أحد و لا يدخل عليهم [أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا] في الجنّة [الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ من المساكين فضلا عن أن يكثروا.

[وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ] أي مشوا بكرة على الحدّة و الغضب و الامتناع من مخالطة المساكين [قادِرِينَ حال من فاعل «غدوا» فلم يحصل لهم إلّا النكد و الحرمان و ذلك أنّهم قصدوا حرمان الفقراء فتعجّلوا الحرمان جزاء.

[فَلَمَّا رَأَوْها] الجنّة [قالُوا] قال بعضهم البعض: [إِنَّا لَضَالُّونَ طريق جنّتنا [بَلْ نَحْنُ قوم مَحْرُومُونَ قالوه بعد ما تأمّلوها و وقفوا على حقيقة الأمر أي لسنا ضالّين بل حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا بسوء نيّتنا.

[قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم و خيرهم و أصوبهم رأيا و الوسط تارة يقال: فيما له طرفان مذمومان كالجود الّذي بين البخل و السرف فيستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط و التفريط و تارة يقال: فيما له طرف محمود و طرف مذموم كالخير و الشرّ و يراد به الرذل [أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ لو لا تذكرون اللّه بالتسبيح و تتوبون إليه من خبث نيّتكم و قد كان قال لهم: حين عزموا على ذلك اذكروا اللّه و توبوا من هذه العزيمة الخبيثة فعلّلوه و لم يقبلوا منه فعيّرهم لعلّ كانت الأمم السابقة يؤاخذون على ما عزموا عليه من المعصية.

[قالُوا] معترفين بالذنب [سُبْحانَ رَبِّنا] نزّهه عن كلّ سوء سيّما عن أن يكون ظالما فيما فعل بنا [إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بقصد حرمان المساكين كأنّهم قالوا: نستغفر اللّه من سوء صنيعنا و لو تكلّموا بهذه الكلمة قبل نزول العذاب لنجوا من نزوله لكنّهم تكلّموا بعد خراب البصرة.

[فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا فإنّ منهم من أشار بذلك و منهم من استصوبه و منهم من أنكره [قالُوا يا وَيْلَنا] أي الويل و السخط لنا [إِنَّا كُنَّا

ص: 217

طاغِينَ متجاوزين حدود اللّه.

[عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا] و يعوّضنا بدلا منها ببركة التوبة [خَيْراً مِنْها] من هذه الجنّة [إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ راجعون العفو.

روي أنّهم تعاقدوا: إن أبدلنا اللّه خيرا منها لنصنعنّ كما صنع أبونا فأبدلهم اللّه من ليلتهم ما هو خير منها قالوا: إنّ اللّه أمر جبرئيل أن يقتلع تلك الجنّة المحتوفة فيجعلها بزعر من أرض الشام أي موضع قليل النبات و يأخذ من الشام جنّة فيجعل مكانها قال ابن مسعود: إنّ القوم لمّا تابوا و أخلصوا أبدلهم جنّة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا. قال أبو خالد اليمانيّ: دخلت تلك الجنّة فرأيت كلّ عنقود منها كالرجل الأسود القائم.

[كَذلِكَ الْعَذابُ جملة من مبتدء و خبر مقدّم لإفادة القصر و الألف و اللام للعهد أي مثل الّذي بلونا به أهل مكّة من القحط و أصحاب الجنّة كذلك أفعل بامّتك إذا لم تعطف أغنياؤهم على فقرائهم بأن أمنعهم القطر و أرفع البركة من ذروعهم و تجارتهم و فيه وعيد لمانعي الزكاة بأيّ طريق كان.

[وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ] و أشدّ [لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أنّه أشدّ و أكبر لاحترزوا عمّا يؤدّيهم.

[سورة القلم (68): الآيات 34 الى 45]

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)

أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ (43)

فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)

[إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ من الكفر و المعاصي [عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة و ذكر «عند» للتشريف و التكريم لأنّ كلّ شي ء حقيقة و صورة له و ملكة فكأنّها حاضرة عنده و إلّا فمحال

ص: 218

كون عنديّة الجنّة بالنسبة إلى اللّه مكانيّة و عند لفظ موضوع للقرب فتارة يستعمل في المكان و تارة يستعمل في الاعتقاد مثل عندي الأمر كذا و تارة في المنزلة كقوله: «أحياء عند ربّهم (1)» و على ذلك يقال: الملائكة المقرّبون.

[جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي جنّات ليس فيها إلّا التنعّم الخالص و استفيد الحصر من الإضافة اللاميّة الاختصاصيّة فإنّها تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه.

[أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ كان صناديد قريش يرون و فور حظّهم من الدنيا و قلّة حظوظ المسلمين منها فإذا سمعوا بحديث الآخرة و ما وعد اللّه المسلمين قالوا: إن صحّ أنّا نبعث كما يزعم محمّد و من معه لم يكن حالنا و حالهم إلّا مثل ما هي في الدنيا و أقصى أمرهم أن يساوونا فردّهم اللّه و الهمزة للإنكار أي أ نحيف في الحكم فنجعل المؤمنين كالكافرين في حصول النجاة و الوصول إلى الدرجات؟ و المراد من المجرمين الكافرون على ما دلّ عليه سبب النزول و إلّا فالإجرام في الجملة لا ينافي الإسلام.

[ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ تعجّبا من حكمهم، و ما استفهاميّة في موضع الرفع بالابتداء و «لكم» خبرها و المعنى أيّ شي ء ظهر لكم حتّى حكمتم هذا الحكم؟

[أَمْ لَكُمْ أي بل أ لكم [كِتابٌ نازل من السماء [فِيهِ متعلّق بقوله: «تدرسون» [تَدْرُسُونَ و تقرءون فيه [إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ و المعنى تقرءون في الكتاب أنّ لكم ما تختارونه لا نغلبكم و أنّ في ذلك الكتاب أنّ العاصي كالمطيع بل أرفع حالا.

[أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ] أي أضمنّا أو أو أقسمنا بأيمان مغلّظة فثبت لكم علينا عهود مؤكّدة بالأيمان [إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها و لا ننقطع ذلك العهد إلى يوم الحشر [إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ لأنفسكم من الخير و ما تطلبونه و تحكمون به حاصل لكم.

[سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ تلوين للخطاب و توجيه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهم مبكّتا بهم أيّهم بذلك الحكم الغلط الخارج عن العقول قائم يتصدّى بتصحيحه كما يقوم زعيم القوم بإصلاح أمورهم و يقيم الحجّة عليها و يتكفّل بها.

ص: 219


1- آل عمران: 169.

[أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ] يشاركونهم في هذا القول و يذهبون مذهبهم [فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم أي إذا كان ليس لهم دليل في هذا القول الغلط و هو التسوية بين المحسن و المسي ء إذ لا أقلّ من التقليد فليأتوا بمن يوافقهم من العقلاء على صحّة هذا القول حتّى يقلّدوهم و الأدلّة من السمع و العقل قائمة بخلافه.

[يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ الظرف متعلّق باذكر المقدّر و «عن ساق» قائم مقام الفاعل «ليكشف» و المراد يوم القيامة أو المعنى فليأتوا بشركائهم و بشهدائهم في ذلك اليوم الشديد الّذي تظهر فيه الأهوال و كشف الساق مثل و كناية عن الشدّة في الأمر.

قال عكرمة: سئل ابن عبّاس عن معنى قوله: «يوم يكشف عن ساق» فقال:

إذا خفي عليكم شي ء في القرآن فابتغوه في الشعر أما سمعت العرب تقول: «و قامت الحرب بنا على ساق» و يريدون شدّة اليوم و الحرب و أصله أنّ الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى الجدّ يشمّر عن الساق فاستعير كشف الساق عن الشدّة استعارة تمثيليّة قال دريد بن الصّمة:

كميش الإزار خارج نصف ساقه بعيد من الآفات طلّاع أنجد

[وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ] أي يقال للكفّار و المنافقين: على وجه التوبيخ اسجدوا تعنيفا على تركهم السجود في الدنيا لا تكليفا لأنه لا تكليف لهم ذلك في ذلك اليوم فلا يستطيعون، و فيه دلالة على أنّهم يقصدون السجود فلا يتأتّى لهم ذلك عن ابن مسعود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تعقم أصلابهم أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع و الخفض فيبقون قياما على حالهم و في الحديث: و تبقى أصلابهم طبعا واحدا أي فقارة واحدة كأنّ سفافيد الحديد في ظهورهم لا تنثني.

[خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ ذليلة لا يعرفون نظرهم عن الأرض ذلّة و مهانة [تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ] الرهق غشيان الشي ء الشي ء أي تغشاهم ذلّة شديد بيان لخضوع أبصارهم [وَ قَدْ كانُوا] في الدنيا [يُدْعَوْنَ دعوة التكليف [إِلَى السُّجُودِ] و المراد به الصلاة و خصّ السجود بالذكر من حيث إنّه أعظم الطاعات و أنّ الدعوة إلى الصلاة دعوة إلى السجدة و من

ص: 220

أعظم الدعوة أذان المؤذّنين فإنّ قولهم: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح.

[وَ هُمْ سالِمُونَ أي أصحّاء يمكنهم السجود فلم يفعلوا.

قال كعب الأحبار: ما نزلت هذه الآية إلّا في الّذين يتخلّفون حكي عن الربيع بن خثيم أنّه عرض له الفالج فكان بهاوي بين رجلين إلى المسجد فقيل له: يا بايزيد لو جلست فإنّ لك رخصة قال: من سمع حيّ على الفلاح فليجب و لو حبوا.

و في الآية وعيد لمن ترك الصلاة المعروضة حتّى لو تخلّف عن الجماعة المشروعة من غير عذر سيّما إذا سمع النادين أو كان في جوار المسجد، و حدّ الجوار على قاله بعض العلماء: أن تكون بينه و بين المسجد مائة دار، و تعمير بيت اللّه الصلاة فيه. قال أبو الدرداء:

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أحبّ الأعمال إلى اللّه ثلاثة أمر بصدقة و خطوة إلى الصلاة جماعة و إصلاح بين الناس. و حديث أمير المؤمنين عليه السّلام أن احرقوا عليهم بيوتهم صحيح السند إذا كان ترك مستحبّ هذا حكمه فكيف المخالطة مع الزنادقة؟

قال مجاهد و قتادة و غيرهما: يؤذّن المؤذّن يوم القيامة فيسجد المؤمن و تصلب ظهور الكافرين و المنافقين فيصير سجود المؤمنين حسرة على المنافقين و الكافرين.

[فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي كل أمرهم إليّ و إذا كان حالهم كذلك فدعني و من يكذّب بالقرآن و توكّل عليّ في الانتقام منهم و في الآية دليل على حدوث القرآن و كلّ كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي يقال له: حديث [سَنَسْتَدْرِجُهُمْ استدرجه إليه درجة درجة درجة باستحقاقهم و قبولهم الكفر أي سنستزلّهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإحسان و إدامة الصحّة و ازدياد النعمة [مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أي الجهة الّتي لا يشعرون أنّه الهلاك و في الحديث إذا رأيت اللّه ينعم على عبد و هو مقيم على معصية فاعلم أنّه مستدرج و تلا هذه الآية.

روي أنّ رجلا من بني إسرائيل قال: يا ربّ كم أعصيك و كم أنت لا تعاقبني فأوحى اللّه إلى نبىّ زمانه أن قل له: كم من عقوبة لي عليك و أنت لا تشعر كونها عقوبة و إنّ جمود عينك و قساوة قلبك استدراج منيّ و عقوبة لو عقلت قيل: من المقت الإلهيّ بالعبد أن يرزق العلم و يحرم العمل به أو يرزق العمل و يحرم الإخلاص فيه

ص: 221

فمن علم اتّصافه بهذا من نفسه فليعلم أنّه ممقوت به.

[وَ أُمْلِي لَهُمْ الإملاء الإمهال بإطالة العمر و ازدياد النعمة [إِنَّ كَيْدِي أي أخذي بالعذاب [مَتِينٌ قويّ شديد لا يطاق و لا يدفع بشي ء و الكيد ضرب من الاحتيال و قد يكون محمودا و مذموما و إن كان يستعمل في المذموم أكثر و كذلك الاستدراج و المكر و هو من الخلق الحيلة السيّئة و من اللّه التدبير بالحقّ لمجازاة أعمال الخلق.

[سورة القلم (68): الآيات 46 الى 52]

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَ ما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)

[أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً] على التبليغ [فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ فلأجل ذلك من الغرامة الماليّة مكلّفون حملا ثقيلا فيعرضون عنك [أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ و المغيبات [فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه ما يحكمون به من أباطيلهم.

[فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في تأخير نصرتك و إمهالهم [وَ لا تَكُنْ في التفجّر بعقوبة قومك [كَصاحِبِ الْحُوتِ يونس عليه السّلام في استعجال عقاب قومه لا تخرج من بين قومك من قبل أن يأذن اللّه لك كما خرج هو [إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ أي دعا ربّه و هو في بطن الحوت محبوس عن التصرّف و مملوّ من الغمّ، و كظم السقاء إذا ملأه و شدّ رأسه و أمسك عليه و الّذي نادى به قوله: «لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين (1)» قوله: [لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ و ناله و وصل إليه [نِعْمَةٌ] و رحمة كائنة [مِنْ رَبِّهِ و هو توفيقه سبحانه و تفضيله [لَنُبِذَ] و طرح من بطن الحوت [بِالْعَراءِ] بالأرض الخالية من الأشجار و العراء مكان لا سترة به [وَ هُوَ مَذْمُومٌ مليم لكنّه رحم فنبذ غير مذموم.

[فَاجْتَباهُ رَبُّهُ و قرّبه بالتوبة عليه من ترك الأولى إذا صحّ هذا القول بأن ردّ

ص: 222


1- الأنبياء: 78.

إليه الوحي و أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته و الحوض الجامع له جابية و الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء و كان رسولا قبل احتباسه في بطن الحوت.

[فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ بأن عصمه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى قيل: إنّ هذه الآية بأحد حين همّ رسول اللّه أن يدعو على المنهزمين فيكون الآية مدنيّة.

و المعتزلة فسّروا قوله: «فجعله من الصالحين» أنّه سبحانه أخبر بصلاحه.

[وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ إن مخفّفة و اللام دليلها، أزلّ رجله أزلقها و «لمّا» ظرفيّة أي إنّهم من شدّه عداوتهم لك ينظرون إليك شزرا نظر الغضبان بمؤخر العين بحيث يكادون يزلّون قدمك فيرمونك وقت سماعهم القرآن [لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ] و ذلك لاشتداد حسدهم مأخوذ المعنى من قولهم: نظر إليّ نظرا يكاد يصر عني أو أنّهم يكادون يصيبونك بالعين و الجمهور على هذا القول.

روي أنّه كان في بني أسد عيّانون و العيّان شديد الإصابة بالعين و كان الواحد منهم إذا أراد أن يعين شيئا يتجوّع له ثلاثة أيّام ثمّ يتعرّض له فيقول: رأيت ما أحسن من هذا فيتساقط ذلك الشي ء و كان الرجل منهم ينظر إلى النافة السمينة أو البقرة السمينة ثمّ يعينها فتقول لجاريته: خذي المكتل و الدرهم فأتينا بلحم من لحم هذه فما تبرح حتّى تقع فتخرّ فسأل الكفّار من قريش من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول: في رسول اللّه هكذا فعصمه اللّه.

و في الأسرار المحمّديّة قيل: إنّ في هذه الآية خاصيّة لدفع العين تعليقا و غسلا و شربا و في الحديث: العين حقّ أي أثرها في العين واقع و لمّا خاف يعقوب عليه السّلام على أولاده من العين لأنّهم كانوا اعطوا جمالا و قوّة و كانوا ولد رجل واحد قال:

«يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرّقة (1)» لئلا يصابوا بالعين.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعوّذ الحسن و الحسين فيقول: أعوذ بكلمات اللّه التامّة

ص: 223


1- يوسف: 67.

من كلّ شيطان و هامة و من كلّ عين لامة و يقول: هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل و إسحاق.

و عن عبادة بن الصامت قال: دخلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أوّل النهار فرأيته شديد الوجع ثمّ عدت إليه آخر النهار فوجدته معافى فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ جبرئيل أتى و رقّاني فقال: بسم اللّه أرقيك من كلّ شرّ يؤذيك و من كلّ عين و حاسد يشفيك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فأفقت و إنّما تكره الرقية إذا كانت بغير لسان العرب و الدعاء و لا يدري ما هو و لعلّه سحر أو كفر و أمّا إن كان من القرآن أو شي ء من الدعوات فلا بأس به و لا تختصّ العين بالإنس بل تكون في الجنّ أيضا حتّى قيل: إنّ عيونهم أنفذ من أسنّة الرماح و عن امّ سلمة إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأي في بيتها جارية تشتكي و في وجهها صفرة فقال: استرقوا لها فإنّ بها النظرة و أراد بها العين أصابتها من الجنّ.

و في الحديث لو كان شي ء يسبق القدر لسبقه العين و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ العين لتدخل الرجل القبر و الجمل القدر.

قيل: و من الشفاء من العين أن يقال على ماء نظيف و يسقيه منه و نغسله عيس عايس بشهاب قابس رددت العين من العين عليه إلى أحبّ الناس إليه فارجع البصر هل ترى من فطور الفاتحة و آية الكرسي و ستّ آيات الشفاء و هي «و يشف صدور قوم مؤمنين (1)، و شفاء لما في الصدور (2)، فيه شفاء للناس (3)، و ننزّل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين (4)، و إذا مرضت فهو يشفين (5)، قل هو للذين آمنوا هدى و شفاء (6)» انتهى.

[وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ لتنفير الناس عنه و جهلهم و عنادهم أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمجنون أي هو مصاب الجنّ أو هو معلّم من جنّي كما قال الوليد بن المغيرة: يأتيه جنّي فيعلّمه.

ثمّ ردّ سبحانه قولهم فيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ على أنّه حال

ص: 224


1- التوبة: 15.
2- يونس: 57.
3- النحل: 69.
4- الإسراء: 72.
5- الشعراء: 80.
6- حم السجدة: 44.

من فاعل «يقولون» مفيدة لبطلان قولهم أي و الحال أنّ القرآن ذكر للعالمين و تذكّر و بيان للجنّ و الإنس:

إذا لم يكن للمرء عين صحيحةفلا غرو أن يرتاب و الصبح مسفر

و قيل: إنّ الضمير راجع إلى النبيّ و كونه ذكرا أو شرفا لا ريب فيه تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 225

سورة الحاقة (مكية)

اشارة

روى جابر الجعفيّ عن الباقر عليه السّلام قال: أكثروا من قراءة الحاقّة فإنّ قراءتها في الفرائض و النوافل من الإيمان باللّه و رسوله و لم يسلب قارئها دينه حتّى يلقى اللّه.

ص: 226

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ (4)

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10)

[الْحَاقَّةُ] هي عن أسماء القيامة من حقّ يحقّ إذا وجب و ثبت لأنّها يجب مجيئها [مَا الْحَاقَّةُ] الأصل ما هي أي أيّ شي ء هي في حالها فوضع الظاهر موضع المضمر تأكيدا لهو لها كما يقال: زيد ما زيد على التعظيم لشأنه فقوله: «الحاقّة» مبتدء و ما مبتدء ثان و ما بعده خبره و الجملة خبر للمبتدأ الأوّل و المراد أنّ الحاقّة أمر بديع و خطب فظيع.

[وَ ما أَدْراكَ من الدراية بمعنى العلم يقال: درى به أي علم به و أدراه أي أعلمه و المعنى و أيّ شي ء أعلمك يا محمّد بها و بأهوالها لأنّه لا يكاد تبلغه دراية أحد و لا و همه من شدّة عظمتها و أهوالها و جملة ما الحاقّة في موضع المفعول الثاني لأدراك و يمكن أن يكون صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عالما بوقوعها و لكن لم يكن عالما بكمال كيفيّتها و يحتمل أن يقال له و إسماعا لغيره.

[كَذَّبَتْ ثَمُودُ] قوم صالح من الثمد و هو الماء القليل الّذي لا مادّة له [وَ عادٌ] قوم هود و تمنع ثمود و هي قبيلة [بِالْقارِعَةِ] من أسماء القيامة لأنّها تقرع و تضرب بفنون الأقراع و الأهوال و تصيبهم كأنّهم تقرعهم و السماء بالانشقاق و الانفطار و الأرض و الجبال بالدكّ و النسف و النجوم بالطمس و الانكدار و يقال: قارعة الدهر أي شدّتها.

ص: 227

[فَأَمَّا ثَمُودُ] كانوا عربا منازلهم بالحجر بين الشام و الحجاز [فَأُهْلِكُوا] لتكذيبهم [بِالطَّاغِيَةِ] بالصيحة الّتي جاوزت عن حدّ سائر الصيحات فرجفت منها الأرض و تصدّعت القلوب.

[وَ أَمَّا عادٌ] و كانت منازلهم بالأحقاف و هي الرمل بين عمّان إلى حضر موت و اليمن و كانوا عربا أيضا ذوي بسطة في الخلقة و كان أطولهم مائة ذراع و أقصرهم ستّين و أوسطهم ما بين ذلك و كان رأس الرجل منهم كالقبّة يفرخ في عينيه و منخريه السباع [فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ] شديدة الصوت في هبوبها أو شديدة البرد تحرق ببردها النبات و الحرث [عاتِيَةٍ] مجاوزة الحدّ لشدّة العصف و الرياح مسخّرة لميكائيل تهبّ بإذنه و تنقطع بإذنه.

[سَخَّرَها عَلَيْهِمْ التسخير سوق الشي ء إلى الغرض المختصّ به قهرا فسلّط اللّه تلك الريح الموصوفة عليهم و في الكلام بيان لدفع ما يتوهّم من كون هذه الواقعة باتّصالات فلكيّة مع أنّه لو كان كذلك لكان بتسبيبه أيضا [سَبْعَ لَيالٍ منصوب على الظرفيّة و أنّث العدد لكون الليالي جمع ليلة يقال: ليل و ليلة و لا يقال: يوم و يومة و تجمع الليل على الليالي بزيادة التاء على غير القياس فتحذف تاؤها حالة التنكير بالإعلال إلّا حالة النصب نحو «سيروا فيها ليالي و أيّاما آمنين (1)» لأنّه غير منصرف و الفتح خفيف.

[وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ ذكّر العدد لكون الأيّام جمع يوم و هو مذكّر [حُسُوماً] جمع حاسم مثل شهود جمع شاهد بمعنى حاسمات حال من مفعول «سخّرها» أي حالكون الريح متتابعات حتّى أهلكتهم تمثيلا بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكيّ على داء الدابة مرّة بعد اخرى حتّى ينقطع و ينحسم الدم أي تلك الرياح المتتابعة حسمت و استأصلت دابرهم و من ذلك يسمّي السيف حساما لأنّه يقطع و يحسم العدوّ.

و هي كانت أيّام برد العجوز من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوّال أو آخر أربعاء من شهر صفر إلى غروب الأربعاء الآخر و عن ابن عبّاس يرفعه: آخر أربعاء في

ص: 228


1- سبا: 18.

الشهر يوم نحس مستمرّ و سمّيت عجوزا لأنّ عجوزا توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الآخر فأهلكتها و قيل: هي أيّام الفجر و هي آخر الشتاء.

و في روضة الأخبار: رغبت عجوز إلى أولادها أن يزوّجوها و كان لها سبعة بنين فقالوا: إلى أن تصبري على البرد عارية لكلّ واحد منّا ليلة ففعلت فلمّا كانت في السابعة ماتت فسمّيت تلك الأيّام أيّام العجوز و أسماء هذه الأيّام: الصنّ بالكسر أوّل أيّام العجوز، و الصنبر و هي الريح الباردة و هو الثاني، و الوبر و هو الثالث، و المعلل كمحدث و هو الرابع، و مطفى ء الجمر و هو الخامس أو مكفئ الظعن أي مميلها و هو جمع ضعينة و هو الهودج، و الأمر و هو السادس، و المؤتمر و هو السابع. و التاريخ يكون بالليالي دون الأيّام و لذلك لم يذكر الثامن.

[فَتَرَى الْقَوْمَ أي قوم عاد [فِيها] في محالّ هبوب تلك الريح أو في تلك الليالى و الأيّام [صَرْعى موتى جمع صريع مثل قتلى و قتيل ساقط على الأرض [كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ] مشبهين بأصول نخل خاوية أي خالية مجوّفة لأنّ أبدانهم خلت من أرواحهم و كانت الريح يدخل في أفواههم فيخرج ما في أجوافهم من أدبارهم كالنخل الخالية المجوّفه.

[فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ] و الباقية اسم كالبقيّة لا وصف و التاء للنقل إلى الاسميّة و من زائدة أي ما ترى منهم بقيّة من صغارهم و كبارهم غير المؤمنين و يجوز أن يكون صفة موصوف محذوف بمعنى نفس باقية أو مصدر بمعنى البقاء كالكاذبة و الطاغية.

[وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ و تقدّمه من الكفرة و قرأ أبو عمرو و الكسائيّ و من قبله بكسر القاف و فتح الباء بمعنى و من معه من القبط [وَ الْمُؤْتَفِكاتُ القميّ المؤتفكات البصرة و الخاطئة فلانة. أي قرى قوم لوط فهي المنقلبات بالخسف و هي خمس قريات صبعه و سعده و عمره و دوما و سدوم [بِالْخاطِئَةِ] بالأفعال ذات الخطاء العظيم الّتي من جملتها تكذيب البعث و ذلك الفعل الرجس.

[فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي فعصى كلّ امّة من المذكورين رسل ربّهم و الرسول

ص: 229

بمعنى الجمع لأنّ فعول يستوي فيه المذكّر و المؤنث و الواحد و الجمع [فَأَخَذَهُمْ اللّه بالعقوبة [أَخْذَةً رابِيَةً] زائدة في الشدّة على عقوبات سائر الكفّار لمّا زادت معاصيهم في القبح.

[سورة الحاقة (69): الآيات 11 الى 12]

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)

[إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ] المعهود وقت الطوفان و جاوز حدّه المعتاد حتّى ارتفع على كلّ شي ء حتّى الجبال الشامخة فانتفم اللّه منهم بالإغراق [حَمَلْناكُمْ أي حملنا آباءكم و أنتم في أصلابهم فكأنّكم محمولون بأشخاصكم و إنّ نجاة آبائهم سبب ولادتهم [فِي الْجارِيَةِ] في السفينة لأنّ من شأنها أن تجري على الماء.

[لِنَجْعَلَها] أي فعلة النجاة للمؤمنين و إغراق الكافرين [لَكُمْ تَذْكِرَةً] و عبرة لكمال قدرة اللّه و قوّة قهره على العاصين المتمرّدين.

[وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ] و تحفظ هذه التذكرة اذن من شأنها أن تحفظ ما يجب و و ينبغي حفظه و الإفراد في الأذن حيث لم يقل الآذان الواعية لعلّ للإشعار على قلّتها قيل: الاذن الواحدة إذا وعت و عقلت عن اللّه فهي السواد الأعظم عند اللّه و إنّ ما سواها لا يبالي بهم و إنّ ملئوا الخافقين.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند نزول هذه الآية إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لعليّ عليه السّلام سألت اللّه أن يجعلها اذنك يا عليّ قال عليّ عليه السّلام: فما نسيت بعد ذلك شيئا و ما كان لي أن أنسي فصار عليه السّلام حافظا للأسرار الإلهيّة و قد قال عليه السّلام: ولدت على الفطرة و سبقت إلى الإيمان و الهجرة و في رواية أخذ باذن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و قال: هي هذه و قد صحّ هذا الحديث عند الفريقين و رووها.

[سورة الحاقة (69): الآيات 13 الى 24]

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22)

قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)

ص: 230

[فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ] النفخ إرسال الريح من الفم و الصور قرن من نور أوسع من السماوات ينفخ فيه إسرافيل فيحدث صوت عظيم فإذا سمع الناس ذلك الصوت يصيحون ثمّ يموتون و المصدر المبهم يكون لمجرّد التأكيد و المراد النفخة الاولى و إن كانت النفختان فالمعنى أنّها لا تثنّى في وقتها و ذكر الواحدة للتأكيد مثل نفخة واحدة.

[وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ أي قلعت و رفعت من أماكنها بتوسّط الزلزلة و الريح العاصفة فإنّ الريح في قوّة عصفها تحمل الأرض و الجبال كما حملت قوم عاد [فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً] أي ضربت جملة الأرضين و جملة الجبال بعضها ببعض ضربة واحدة بلا احتياج إلى تكرار الضرب و تثنية الدقّ و الدكّ أبلغ من الدق و دكّه إذا ضربه و كسره حتّى سوّاه بالأرض فتصير كثيبا مهيلا.

[فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ] أي فحينئذ وقعت القيامة و الواقعة من أسماء القيامة بالغلبة لتحقّق وقوعها.

[وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ] و انفرجت السماء لأمر عظيم أراده اللّه أو بسبب شدّة ذلك اليوم «فهي» أي السماء «يومئذ» ظرف لقوله: «واهية» ضعيفة ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة أي انشقّت و انحرقت و استرخت.

[وَ الْمَلَكُ أي الخلق المعروف بالملك [عَلى أَرْجائِها] أي على جوانب السماء جمع رجاء بالقصر أي بعد انشقاق السماء الّتي هي مساكن الملك يلجئون إلى أكنافها و حافاتها وقوفهم على حافاتها لحظة و موتهم بعدها فإنّ الملائكة يموتون عند النفخة الاولى و يمكن أن يكون هم المستثنون بقوله: «إلّا من شاء اللّه» أن يموتوا في هذا الوقت المخصوص.

[وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ] العرش جسم عظيم لا يعلم عظمته إلّا اللّه و إنّه في الآفاق بمنزلة القلب في الأنفس و هو معنى الحديث: قلب المؤمن عرش الرحمن

ص: 231

و ظاهر الآية في ذكر العرش عقيب ما تقدّم أنّ العرش بحاله خلاف السماء و الأرض «فوقهم» أي فوق الملائكة أو فوق الثمانية أي يحملون العرش «يومئذ» يوم القيامة ثمانية من الملائكة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيّدهم اللّه بأربعة اخرى و قيل: المراد بالثمانية الثمانية آلاف و قيل: ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلّا اللّه.

[يَوْمَئِذٍ] متعلّق بقوله: [تُعْرَضُونَ على اللّه أي تسألون و تحاسبون عبّر عنه بذلك تشبيها له بعرض السلطان العسكر ليعرف أحوالهم.

روي أن في يوم القيامة ثلاث عرضات عرضتان اعتذار و احتجاج و توبيخ و أمّا الثالثة ففيها تنشر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بيمينه و الهالك بشماله و هذا العرض و إن كان بعد النفخة الثانية لكن لمّا كان اليوم اسما لزمان متّسع يقع فيه النفخات و الصعقة و النشور و الحساب صحّ جعله ظرفا للكلّ كما تقول: جئت عام كذا و إنّما كان المجي ء في وقت واحد من أوقاته و ذهب و المشبّهة الضالّة من حمل العرش و العرض إلى كونه تعالى محمولا في العرش لكنّه هذا المعنى كفر و غلط بل تمثيل لعظمة اللّه و المراد في هذه الآية و من إتيانه في ظلل من الغمام إتيان أمره سبحانه و قضائه و بالجملة يا معاشر المكلّفين يوم القيامة يوم العرض لأعمالكم.

[لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ] أي فعلة خافية أو نفس خافية و قيل: الخافية مصدر كالعاقبة أي خافية أحد لا تخفى و هو كقوله: «يوم تبلى السرائر (1)» فيظهر أحوال المؤمنين فيتكامل سرورهم و أحوال غيرهم فيحصل الحزن و الفضيحة.

[فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ أي مكتوبه الّذي كتبته الحفظة [بِيَمِينِهِ تعظيما له لأنّ اليمين يتبرّك بها و الباء بمعنى في أو للإلصاق و المراد الأبرار فإنّ المقرّبين لا لا كتاب لهم لمكانتهم من اللّه [فَيَقُولُ فرحا و سرورا و ليظهر ذلك لغيره: [هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ أي هلمّوا و خذوا كتابي و اقرءوه و هاء اسم فعل معناه خذ يقال: هاء يا رجل- بفتح الهمزة- و هاء- بكسرها- يا امرأة و هاؤما يا رجلان أو يا امرأتان و هاؤم يا رجال

ص: 232


1- الطارق: 9.

و هاؤنّ يا نسوة بمعنى خذ خذا خذوا خذي خذا خذن و مفعوله محذوف و كتابي مفعول اقرءوا لأنّه أقرب العاملين فهو أقوى و الهاء هاء الاستراحة لنظم الآي و هذه الهاء لا تكون إلّا ساكنة و تمسّى هاء السكت و هي في سبعة مواضع في القرآن في لم يتسنّه و في بهداهم اقتده و في كتابيه و في حسابيه و في ماليه و في سلطانيه و في ماهيه و أمّا الهاء الّتي في القاضية و الهاوية و في خاوية و ثمانية و عالية و أمثالها للتأنيث فيوقف عليهنّ بالهاء و يوصلن بالتاء.

[إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي علمت و أيقنت أنّي مصادف حسابي في ديوان الحساب الإلهيّ و أحاسب عليه و إنّما فسّر الظنّ بالعلم لأنّ البعث و الحساب ممّا يتيقّن المؤمن بهما و لا إحسان بدون اليقين و يمكن أن يكون المراد أنّي ظننت أنّي ملاق حسابي على الشدّة و المناقشة لما سلف منّي من الهفوات و الآن أزال اللّه عنّي ذلك.

قال في الكشّاف: و إنّما أجرى الظنّ مجرى العلم لأنّ الظنّ الغالب يقام مقام العلم في العبادات و الأحكام ثمّ إن الظنّ استعمل بمعنى العلم في مواضع من القرآن كما في قوله تعالى حكاية: «قال الّذين يظنّون أنّهم ملاقو اللّه (1)» و هم المؤمنون بالآخرة و في قوله: «و ظنّ داود إنّما فتّناه (2)» أي علم.

[فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ] أي من اوتي كتابه بيمينه في نوع من العيش و إذ كسر العين من العيش يلزمه التاء و العيش الحياة المختصّة بالحيوان «راضية» ذات رضى يرضاها من يعيش فيها أو بمعنى مرضيّة «كماء دافق» أي مدفوق.

[فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ] مرتفعة المكان لأنّها في السماء كما أنّ النار سافلة لأنّها تحت الأرض [قُطُوفُها دانِيَةٌ] جمع قطف و هو ما يقطف و يجتنى بسرعة و القطف بالفتح مصدر و القطف بالكسر العنقود دانية أي قريبة من مريديها ينالها القائم و القاعد و المضطجع من غير تعب و نعيم الجنّة تابع لإرادة المتنعّم به.

ص: 233


1- البقرة: 44.
2- ص: 24.

[كُلُوا وَ اشْرَبُوا] أمر إباحة يقال لهم: كلوا و اشربوا من طعام الجنّة و شرابها [هَنِيئاً] سائغا لا تنغيص فيه في الحلقوم و جعل الهنأ صفة للأكل و الشرب لأنّ المصدر يتناول المثنّى و منه اليهناى ء في اللحم المطبوخ و يستعمله الناس بالخاء المعجمة بدل الهاء من هنأ يهنأ و يهنى هناءة أي صار سائغا [بِما أَسْلَفْتُمْ بمقابلة ما قدّمتم من الأعمال الصالحة [فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ] الماضية في الدنيا و قيل: المراد أيّام الصيام أي تدلّ ما أمسكتم عن الأكل و الشرب لوجه اللّه و هذا المعنى أنسب لأنّ الجزاء لا بدّ و أن يكون من جنس العمل.

[سورة الحاقة (69): الآيات 25 الى 52]

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَ لا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَ ما لا تُبْصِرُونَ (39)

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)

لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)

وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

[وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ تحقيرا له لأنّ الشمال يتشأّم بها [فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ أي لم اعط هذا المكتوب الّذي جمع جميع سيّئاتي [وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ من الدراية بمعنى العلم لما شاهد من سوء الجزاء.

[يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ] تكرير للتمنّي و تجديد للتحسّر أي يا ليت الموتة الّتي ذقتها كانت قاطعة لأمري و لم ابعث بعدها و كانت دائمة عليّ الموتة و الموتة و إن لم يكن مذكورة إلّا أنّها في حكم المذكور بدلالة المقام و لمّا كانت تلك الحالة عليه أمر من الموت فتمنّاها عندها قال الشاعر:

و شرّ من الموت الّذي إن لقيته تمنّيت من الموت و الموت أعظم

[ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ و لم يدفع عنّي شيئا من العذاب الّذي كان لي في الدنيا من المال و هذا المعنى على كون ما نافية و المفعول محذوفا و على كون ما موصولة فاللام جارّة داخلة على ياء المتكلّم، و يمكن أن تكون للاستفهام على سبيل الإنكار أي أيّ شي ء أغنى عنّي ما كان لي في الدنيا من اليسار؟

[هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ السلاطة التمكّن من القهر أي هلك و فنى سلطاني و ملكي و بقيت ذليلا و ضلّت عنّي حجّتي كما قال ابن عبّاس: لأنّ الحجّة سلطة و استعملت في السلطة.

[خُذُوهُ فَغُلُّوهُ حكاية لما يقوله اللّه يومئذ للزبانية أي خذوا هذا العاصي المتمرّد لربّه و اجمعوا يديه إلى عنقه بالقيد و الحديد و الغلّ بالضمّ الطوق من حديد الجامع

ص: 234

لليد الى العنق المانع عن تحرّك الرأس [ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ دلّ التقديم على التخصيص أي لا تدخلوه إلّا الجحيم و هي النار العظمى.

[ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ] من نار و هي حلق منتظمة و الجارّ متعلّق بقوله: «فاسلكوه» [ذَرْعُها] مبتدء خبره [سَبْعُونَ أي طول السلسلة [ذِراعاً] تميز [فَاسْلُكُوهُ السلك هو الإدخال في الطريق و الخيط و القيد و تقديم السلسلة على السلك كتقديم الجحيم على التصلية و الملازمة بالنار و جعل السلسلة سبعين ذراعا إرادة الوصف بطول السلسلة لأنّ هذا العدد معروف و مستعمل في الكثرة كما قال سبحانه: «إن تستغفر لهم سبعين مرّة (1)» يزيد مرّات كثير لا خصوص السبعين من العدد.

و قال بعض أهل التحقيق: و لا منع من الحمل على ظاهره من العدد و المراد من الذراع ذراع الملك و ذراع الملك سبعون باعا و مساحة باع الملك كلّ باع ما بين الكوفة إلى مكّة. قال كعب: لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها و لو وضعت حلقة من تلك السلسلة على جبل لذاب مثل الرصاب ص، تدخل السلسلة في فيه و تخرج من دبره و يلوى فضلها على عنقه و جسده و يقرن بها بينه و بين شيطانه و حينئذ يشمل الآية الكافر لأنّ جسده يكون في العظم مسيرة ثلاثة أيّام و ضرسه مثل جبل احد على ما جاء في الحديث و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أنّ رضاضة مثل هذه- و أشار إلى صخرة مثل الجمجمة- سقطت من السماء إلى الأرض و هي خمسمائة عام لبلعت الأرض قبل الليل و لو أنّها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل و النهار قبل أن تبلغ أصلها و قعرها و اللام في السلسلة في هذا الحديث للعهد إشارة إلى السلسلة الّتي ذكرها اللّه في قوله:

«ثمّ في سلسلة».

حكي أنّ شابّا حضر صلاة الفجر من الجماعة خلف واحد من المشايخ فقرء الشيخ سورة الحاقّة فلمّا بلغ إلى قوله: «خذوه فغلّوه ثمّ الجحيم صلّوه» صاح الشابّ و سقط و غشي عليه فلمّا أتّم الشيخ صلاته قال: من هذا؟ قالوا: شابّ صالح خائف من اللّه و له والدة عجوز ليس لها غيره قال الشيخ: ارفعوه و احملوه حتّى نذهب به إلى امّه ففعلوا فلمّا

ص: 235


1- التوبة: 81.

رأت امّه فزعت و أقبلت و قالت: ما فعلتم بولدي؟ قالوا: ما فعلنا به شيئا إلّا أنّه حضر الجماعة و سمع آية مخوّفة من القرآن فلم يطق سماعها فقالت: أيّة آية هي؟ فاقرءوها حتّى أسمع، فقرأها الشيخ فلمّا وصلت الآية إلى سمع الشابّ شهق شهقة اخرى خرجت معها روحه فلمّا رأت الأمّ ذلك و سمعت الآية خرّت ميتة فهكذا تفعل المواعظ في القلوب الواعية.

[إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ كأنّه قيل: ما له يعذّب بهذا العذاب الشديد؟

فأجيب: بهذا السبب عذّب هذا العذاب [وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ الحضّ الحثّ على الفعل و أصله من الحثّ على الحضيض و الحضيض قرار الأرض و المعنى لا يحثّ أهله و غيرهم على إعطاء طعام يطعم به الفقير فضلا عن أن يعطي من ماله و ذكر الحضّ دون الفعل ليعلم أنّ تارك الحضّ بهذه المنزلة فيكون ترك الفعل أشدّ عقوبة و جعل سبحانه حرمان المسكين قريبة للكفر حيث عطفه عليه و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: البخل كفر و الكافر في النار و تخصيص الأمرين بالذكر لما أنّ أقبح العقائد الكفر و أشنع الرذائل البخل و عن أبي الدرداء أنّه كان يحضّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين و كان يقول:

جعلنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها الآخر بالإطعام و الحضّ عليه.

[فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ و هو يوم القيامة [هاهُنا] أي في هذا المكان و هو مكان الأخذ الغلّ [حَمِيمٌ أي قريب نسبا أو ودادا و هذا الكلام من بقيّة ما يقال للزبانية حثّا لهم على بطشه [وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ أي و لا طعام إلّا من غسالة أهل النار و ما يسيل من أبدانهم من الصديد و القيح و الدم بعصر قوّة الحرارة الناريّة روي أنّه لو وقعت قطرة منه على الأرض لأفسدت على الناس معايشهم و وجه التلفيق بين هذه الآية و بين قوله: [ «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ»] أنّ للنار دركات و لكلّ دركة نوع طعام و الشراب، و قيل: الغسلين شجر في النار أخبث طعامهم.

[لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أصحاب الخطايا أو الخاطئون طريق التوحيد و الخاطئ هو الّذي يفعل ضدّ الصواب متعمّدا و المخطئ هو الّذي يفعله غير متعمّد أي يريد الصواب فيصير إلى غيره.

ص: 236

[فَلا أُقْسِمُ أي فاقسم على أنّ «لا» مزيدة للتأكيد أو المعنى نفي الإقسام لظهور الأمر و استغنائه عن التحقيق بالقسم و قيل: هو جملتان و التقدير و ما قال المكذّبون فلا يصحّ لأنّه قول باطل ثمّ قال: اقسم [بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ قسم عظيم لأنّه قسم بالأشياء كلّها على سبيل الشمول و الإحاطة لأنّها لا تخرج عن قسمين مبصر و غير مبصر فالمبصر المشاهدات و غير المبصر المغيبات فدخل فيهما الدنيا و الآخرة و الأجسام و الأرواح و الإنس و الجنّ و الخلق و الخالق و النعم الظاهرة و الباطنة ممّا يكون لائقا بأن يكون مقسما به إذ من الأشياء ما لا يكون لائقا بأن يكون مقسما به و قيل: إنّ المراد بما أظهره للخلق و الملائكة و القلم و اللوح و بما اختزن في علمه و لم يجز القلم به و لم يشعر أحد به من الملائكة و ما أبدى لهم من علمه في جنب ما اختزنه في علمه عنهم إلّا كذرّة في جنب الدنيا و الآخرة و لو أظهر اللّه ما اختزن لذاب الخلائق عن آخرهم فضلا عن جملة.

[إِنَّهُ أي القرآن [لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ على اللّه و قوله قول الحقّ و أضاف القول إليه لأنّه لمّا قال: «قول رسول» اقتضى مرسلا و ما يقرؤه ليس من كلامه بل هو مبلّغ ذاك الكلام و هو قول مرسلة فالإضافة إلى الرسول من حيث التبليغ إذ الرسول شأنه التبليغ لا الاختراع و قيل: معنى الرسول الكريم المراد جبرئيل أي هو قول جبرئيل الرسول الكريم و النسبة و الإضافة إليه من حيث إنّه أنزله من السماوات إلى الأرض و أملاه على خاتم النبيّين فجبرئيل أيضا منزّل و مبلّغ لا أنّه قوله و القول الأوّل أنسب في المقام و يدلّ عليه مقابلة رسول بشاعر و كاهن لأنّهم كانوا يقولون للنّبي: شاعر و كاهن و لم يقولوا لجبرئيل: شاعر و كاهن.

[وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ] كما تزعمون تارة [قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أى إنّ القليل منكم تؤمنون أو إيمانا قليلا تؤمنون بالقرآن و الرسول، أو المراد بالقلّة النفي أي لا تؤمنون أصلا كقولك لمن لا يزورك: فلمّا تأتينا و أنت لا تأتينا أصلا.

[وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ أي القرآن ليس بقول الكاهن كما يزعمون و الكاهن هو الّذي يخبر عن الكوائن من مستقبل الزمان أو الّذي يزعم أنّ له خدما من الجنّ يأتونه

ص: 237

بضرب من الأخبار و قد انقطعت الكهانة بعد نبيّنا لأنّ الجنّ منعوا من الاستماع.

و قال الراغب في المفردات: الكاهن الّذي يخبر بالأخبار الماضية الخفيّة بضرب من الظنّ كالعرّاف الّذي يخبر بالأخبار المستقبلة بالظنّ و لكون هذه الصناعتين مبنيّتين على الظنّ الّذي يخطئ و يصيب قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أتى عرّافا أو كاهنا فصدّقه بما قال:

فقد كفر بما أنزل اللّه على محمّد و في شرح المشارق: العرّاف من يخبر بما أخفى من المسروق و الضالّة و الكاهن من يخبر بما يكون في المستقبل و في الصحاح: العرّاف الكاهن.

[قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكّرا قليلا أو زمانا قليلا تذكّرون و المراد لا تذكّرون أو المتذكّر منكم قليل و النسبة الّتي نسبوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الشعر و الكهانة ناشئة من عدم شعورهم و قصورهم لأنّ معاني ما يلقيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منافية لمعاني أقوال الكهنة فإنّهم لا يدعون الناس إلى تهذيب الأخلاق و الأعمال المتعلّقة بالمعاد و المبدء بل الكاهن ينصب نفسه للدلالة على بعض الضوائع و بعض الأخبار بالمغيبات حدثا يصدق فيها تارة و يكذب كثيرا و يأخذ جعلا على ذلك فلو تذكّر و تعقّل أهل مكّة معاني القرآن و معاني أقوال الكهنة لما قالوا بأنّه كاهن.

[تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي القرآن منزل من اللّه نزله على لسان جبرئيل تربية و تبشيرا للسعداء و إنذارا للأشقياء و عبّر سبحانه عن المفعول بالمصدر مبالغة.

[وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ أي و لو ادّعى محمّد علينا شيئا لم نقله كما تزعمون و التقوّل افتعال القول و اختراعه [لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي بيمينه و سلبنا منه القوّة على التكلم بذلك و قيل، المعنى منعناه بقوّتنا و قدرتنا فيكون المعنى من قبيل ذكر المحلّ و إرادة الحالّ و ذكر الملزوم و إرادة اللازم.

[ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ أي أهلكناه و قطعنا نياط قلبه و النياط عرق أبيض غليظ كالقصبة علّق به القلب إذا انقطع مات صاحبه و في الآية بيان لإهلاكه بأفظع ما يكون.

[فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ أي ما من أحد أيّها الناس يقدر على منع إهلاكه و حاصل المعنى أنّه لو قال من عند نفسه شيئا أو زاد أو نقص على ما اوحي إليه لعاقبه اللّه و هو أكرم الناس.

ص: 238

[وَ إِنَّهُ أي القرآن [لَتَذْكِرَةٌ] موعظة [لِلْمُتَّقِينَ من الشرك و حبّ الدنيا بخلاف المشرك و من مال إلى الدنيا فإنّه يكذّب به و لا ينتفع منه [وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ منكم أيّها الناس مكذّبين بالقرآن فنجازيهم على تكذبيهم.

[وَ إِنَّهُ أي القرآن [لَحَسْرَةٌ] و ندامة يوم القيامة [عَلَى الْكافِرِينَ عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين المصدّقين بالقرآن.

[إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ أي القرآن هو الحقّ و اليقين صفتان بمعنى واحد أضيف أحدهما إلى الآخر إضافة الشي ء إلى نفسه مثل «حبّ الحصيد» للتأكيد فإنّ الحقّ هو الثابت الّذي لا يتطرّق إليه الريب و كذا اليقين فالتجلّيات في المعلومات ثلاثة: تجلّي علميّ و تجلّي عينيّ و تجلّي حقّيّ فاليقينيّ هو العلم الحاصل بالإدراك من النظر و الاستدلال بحيث يحصل به اطمينان و يزول الارتياب منه و هو المعبّر عنه بعلم اليقين و مرتبة عين اليقين أعلى من المرتبة الاولى لأنّ أهل الطبقة الاولى يمكن أن يقع لهم خطرات بخلاف أهل عين اليقين فإنّهم أهل إرشاد و النبوّة و أهل حقّ اليقين مرتبة أكمل من المرتبة الثانية بحيث لو رأوا ما كان غائبا لا يزداد في يقينهم يقين و هذه مرتبة الأكملين من الأنبياء و الأولياء كما قال عليّ عليه السّلام: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا مثاله فالأوّل كعلم الكعبة علما ضروريّا من غير رؤية و الثاني مثل رؤيتها من بعيد و الثالث كدخولها فافهم.

[فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي فسبّح اللّه بذكر اسمه العظيم بأن تقول: سبحان اللّه تنزيها عن الرضى بالتقوّل عليه فمفعول سبّح محذوف و الباء في «باسم ربّك» للاستعانة كما في ضربته بالسوط.

روي أنّه لمّا نزلت الآية قال رسول اللّه: اجعلوها في ركوعكم و معنى هذا التسبيح تنزيهه تعالى عن شوب الغير و التشريك و تجريد غيره عن الاستحقاق لهذا الاسم الأعظم الحاوي للأسماء و لكن لا يظهر في قلبك و شهودك أيّها المسبّح تلوين من النفس أو القلب و التوجّه لغيره تعالى فتكون مشبّها لا مسبّحا و مشركا لا مخلصا موحّدا تمّت السورة بعون اللّه

ص: 239

سورة المعارج

اشارة

مكّيّة إلّا قوله: «وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ» مدنيّة.

و عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من أدمن قراءة سورة سأل سائل لم يسأله اللّه يوم القيامة عن ذنب عمله و أسكنه جنّته مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 240

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المعارج (70): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)

فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَ نَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)

وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10)

السؤال بمعنى الدعاء و الطلب و اختلف أنّ هذا السائل من هو قيل: القائل هو الّذي قال: «اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك (1)» الآية، هو النضر بن الحارث العبدريّ (2) فالمعنى دعا داع على نفسه بعذاب واقع مستعجلا له و قيل: معنى الآية سأل بعض المشركين من النبيّ فقالوا: لمن هذا العذاب الّذي تذكر؟ جوابه بأنّه [لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ و قيل: معناه دعا داع بعذاب على الكافرين و ذلك الداعي هو النبيّ فحينئذ الباء زائدة للتأكيد كما في قوله: «و هزّي إليك بجزع النخلة» و قرئ «سال سائل بعذاب واقع» على قراءة الألف من سال يسيل سيلا و التقدير سال سيل سائل بعذاب واقع.

و أخبرنا (3) السيّد أبو الحمد قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ قال:

حدّثنا أبو عبد اللّه الشيرازيّ قال، حدّثنا أبو بكر الجرجانيّ قال: حدّثنا أبو أحمد البصريّ قال: حدّثنا محمّد بن سهل قال: حدّثنا زيد بن أبي إسماعيل مولى الأنصار قال: حدّثنا محمّد بن أيّوب الواسطيّ قال حدّثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائه عليه السّلام قال: لمّا نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا يوم غدير خمّ و قال: من كنت مولاه فعليّ

ص: 241


1- الأنفال: 8.
2- منسوب الى عبد الدار.
3- نقله عن مجمع البيان.

مولاه انتشر ذلك في البلاد فقدم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النعمان بن الحرث الفهريّ فقال: أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّك رسول اللّه و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه فهذا شي ء منك أو أمر من عند اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و اللّه الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من اللّه فولّى النعمان بن الحرث و هو يقول: «اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء» فرماه بحجر على رأسه فقتله و أنزل اللّه تعالى «سأل سائل بعذاب واقع ليس له دافع من اللّه» إذا جاء وقته و أوجبت الحكمة وقوعه.

[مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ صفة للّه تعالى مثل «فالق الإصباح» و المعارج المصاعد و المراد الأفلاك التسعة المرتّبة بعضها فوق بعض أي له مواضع العروج و منه الأعرج لارتفاع إحدى رجليه عن الاخرى.

[تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ] المأمورون بالنزول و الصعود [وَ الرُّوحُ أي جبرئيل أفرده بالذكر لتميّزه و فضله [إِلَيْهِ أي يعرجون من مسقط الأمر إلى عرشه فجعل عروجهم إلى العرش عروجا إلى الربّ لأنّ منه تبتدء الأحكام و إلى حيث شاء اللّه تهبط الملائكة بأمور بني آدم [فِي يَوْمٍ متعلّق بتعرج [كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ ممّا يعدّه الناس و قوله: «خمسين» خبر كان و المعنى كمقدار خمسين ألف سنة اختلف في معناه:

فقيل: تعرج الملائكة إلى الموضع الّذي يأمرهم به في يوم كان مقداره من عروج غيرهم خمسين ألف سنة و ذلك من أسفل الأرضين إلى فوق السماوات السبع و قوله تعالى في سورة السجدة: (1) «في يوم كان مقداره ألف سنة» هو لما بين السماء السماء الدنيا و الأرض خمسمائة في النزول و المراد أنّ الآدميّين لو احتاجوا إلى قطع هذا المقدار الّذي قطعته الملائكة في يوم واحد لقطعوه في هذه المدّة.

و قيل: إنّه يعني يوم القيامة و إنّه سبحانه يفعل فيه من الأمور و يقضي فيه من الأحكام بين العباد ما لو فعل في الدنيا لكان مقداره خمسين ألف سنة عن الجبّائيّ و قتادة و عكرمة. و روى أبو سعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللّه: ما أطول هذا اليوم! فقال:

ص: 242


1- الآية: 5.

و الّذي نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ من صلاة مكتوبة في الدنيا. و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: لو ولّى الحساب غير اللّه لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرقوا و اللّه سبحانه يفرغ عن ذلك في ساعة و عنه أيضا قال: لا ينتصف ذلك اليوم حتّى يقبل أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار.

و قيل: معناه إنّ أوّل نزول الملائكة في الدنيا و أمره و نهيه و قضائه بين الخلائق إلى آخر عروجهم إلى السماء و هو القيامة هذه المدّة فيكون مقدار الدنيا خمسين ألف سنة لا يدري كم مضى و كم بقي و إنّما يعلمه اللّه.

و قال الزجّاج: يجوز أن يكون المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة و ذلك العذاب يقع يوم القيامة.

و في الكافي مقطوعا أنّ قوله: «سأل سائل بعذاب واقع للكافرين» نزلت للكافرين بولاية عليّ قال: هكذا و اللّه نزل بها جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هكذا هو و اللّه مثبت في في صحف فاطمة عليه السّلام. القمّي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في معنى قوله: «يعرج الملائكة و الروح» في صبح ليلة القدر إلى محلّ أمره سبحانه من عند النبيّ و الوصيّ.

و اليوم يوم كالآن و هو أدنى ما يطلق عليه و منه يمتدّ الكلّ و هو المشار إليه بقوله تعالى: «كلّ يوم هو في شأن (1)» فسمّي الزمن الفرد يوما لأنّ الشأن يحدث فيه و هو أصغر الأزمان و يوم كألف سنة و هو اليوم الإلهيّ كما قال: «و إنّ يوما عند ربّك كألف سنة (2)» و قال تعالى: «يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض في يوم كان مقداره ألف سنة ممّا تعدّون (3)» للصعود و الهبوط خمسمائة من سماء الدنيا إلى الأرض و خمسمائة إلى السماء للملائكة المأمورين و يوم كخمسين ألف و هو أوّل أيّام الآخرة و هو يوم القيامة و يوم أهل الجنّة و النار إلى ما لا يتناهى.

و إنّ للقيامة خمسين موقفا يسأل العبد في كلّ موقف منها عن أمر من امور

ص: 243


1- الرّحمن: 29.
2- الحج: 47.
3- حم السجدة: 5.

الدين فإن لم يقدر على الجواب وقف كلّ موقف بمقدار اليوم الإلهيّ الّذي هو ألف سنة ثمّ لا ينتهي اليوم إلى ليل لأنّ زمان أهل الجنّة كالنهار أبدا و زمان أهل النار كالليل أبدا.

و بالجملة في الآية تنبيه و تذكير على أنّ أيّام الآخرة إذا كان يومه و أوّل يومه مقدار خمسين ألف فالويل للعاصي و طوبى للمطيع.

و قيل: المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره كذا و الباء بمعنى عن فيكون قوله: «تعرج الملائكة» معترضة بين الظرف و متعلّقه انتهى.

[فَاصْبِرْ] يا محمّد [صَبْراً جَمِيلًا] على أذاهم و تكذيبهم إيّاك لأنّ سؤالهم كان عن استهزاء و تكذيب و ذلك ممّا يضجره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [إِنَّهُمْ أي المكذّبين و أهل مكّة [يَرَوْنَهُ العذاب الواقع يزعمونه [بَعِيداً] أي يستبعدونه بطريق المحالية كما كانوا يقولون: «أ إذا متنا و كنّا ترابا، الآية» يقول المرء لخصمه: هذا بعيد أي لا يكون [وَ نَراهُ أي نعلمه [قَرِيباً]. و المراد من القرب قرب الإمكان كما أنّ مرادهم من البعد بعد الإمكان لا بعد الزمان أو من باب كلّ ما هو آت قريب:

هل الدنيا و ما فيهما جميعاسوى ظلّ يزول مع النهار

و في الحديث ما الدنيا فيما مضى و ما بقي إلّا كثوب شقّ باثنين و بقي خيط واحد و كاد ذلك الخيط قد انقطع.

و من عجب الأيّام أنّك قاعدعلى الأرض في الدنيا و أنت قسير

فسيرك يا هذا كسير سفينه بقوم قعود و القلوب تطير

[يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ و هو هاهنا خبث الحديد و نحوه ممّا يذاب على مهل و تدريج أو درديّ الزيت لسيلانه على مهل لثخانته قال ابن مسعود: كالفضّة المذابة في تلوّنها أو كالقير و القطران في سوادهما و الظرف متعلّق بقريبا أو متعلّق بمقدّر مؤخّر عن الظرف أي يوم تكون السماء كالمهل تكون من العذاب و الأحوال ما لا يوصف.

[وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ العهن الصوف المصبوغ أي تكون الجبال كالصوف المصبوغ ألوانا فإذا لفّت و طيّرت في الجوّ أشبهت العهن المنفوش إذا طيّرته الريح

ص: 244

و أوّل ما تتغيّر الجبال تصير رملا مهيلا ثمّ عهنا منفوشا ثمّ هباء منثورا.

[وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً] أي لا يسأل قريب قريبا عن أحواله و لا يتكلّمه لابتلاء كلّ منهم بشغله عن ذلك و إذا كان حال القريب هكذا فكيف الأجنبىّ؟ و التنكير للتعميم.

[سورة المعارج (70): الآيات 11 الى 44]

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ (12) وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15)

نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)

وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (25)

وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)

فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)

فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)

عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)

[يُبَصَّرُونَهُمْ استيناف لبيان معنى كأنّه قيل: لعلّه لا يبصره فكيف يسأل عن حاله فقيل: يبصّرونهم و الضمير الأوّل لحميم الأوّل و الثاني للثاني و جمع الضميرين لعموم الحميم و يعدّى بصر إلى المفعول الثاني بالباء و قد تخذف الباء و إذا نسبت الفعل للمفعول به حذفت الجارّ و قلت: بصرت زيدا و يعدّى بالتضعيف إلى ثان و يقوم الأوّل مقام الفاعل لكنّ الشائع تعديته إلى الثاني بحرف الجرّ يقال: بصرته به، لكنّ الآية من قبيل الأوّل.

[يَوَدُّ الْمُجْرِمُ أي يتمنّى الكافر و قيل: كلّ مذنب [لَوْ يَفْتَدِي لو بمعنى التمنّي [مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ] بكسر الميم في يومئذ لإضافة العذاب إلى يوم و قرئ أيضا بالفتح بناء على أنّ الاضافة إلى غير متمكّن أي يتمنّى الكافر أو المذنب أن يفتدي [بِبَنِيهِ بأولاده أصله بنين سقطت نونه بالإضافة و جمعه.

[وَ صاحِبَتِهِ زوجته الّتي يصاحبها [وَ أَخِيهِ الّذي كان ظهيرا له و المراد أنّ اشتغالهم بنفسهم في العذاب بلغ إلى حيث يتمنّى أن يفتدي بأقرب الناس إليه حتّى ينجو فضلا عن أن يهتمّ بشأنهم [وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ الفصيلة في الأصل القطعة المفصولة من الجسد و الجسم و تطلق على الآباء الأقربين و الأولاد. و المراد في الآية الآباء الأقربون لأنّ الأولاد قد ذكروا لقوله: «و بنيه» و معنى «تؤويه» أي تضمّه إليها في النسب، آوى إلى كذا: انضمّ إليه و لاذ بها عند الشدائد أي كانوا في الدنيا ملاذهم و كهفهم.

[وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً] من الثقلين و الخلائق [ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف على يفتدي أي يودّ أن يفتدي بهم ثمّ ينجيه الافتداء و ثمّ لاستبعاد الإنجاء و هيهات أن ينجيه! [كَلَّا] للمجرم المتمنّي و تصريح بامتناع الافتداء و فائدته و في الحديث يقول اللّه سبحانه لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أنّ لك ما في الأرض من شي ء أ كنت

ص: 245

تفتدي به؟ فيقول: نعم فيقول اللّه: أردت منك أهون من هذا و أنت في صلب آدم أن لا تشرك بي.

[إِنَّها لَظى أي النار المدلول عليها بقرينة العذاب «لظى» علم للدرك الثاني من جهنّم منقول من اللهب الخالص الّذي لا يخالطه دخان فيكون في غاية الإحراق لقوّة حرارته الناريّة بالصفاء و هو خبر «إنّ» و المراد إنّ النار الّتي تتمنّون أن تفدون عنها لهب خالص.

[نَزَّاعَةً لِلشَّوى النزع جذب الشي ء و قلعه من مقرّه و الشوى جمع شواة و هي جلدة الرأس فالنار تقشّرها عنه، و الشوى الأطراف و الأعضاء فالنار قلّاعة و نزّاعة لها بقوّة الإحراق ثمّ تعود كما كانت و هكذا أبد الآباد.

[تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى عن الحقّ و معرفته و تجذب النار إلى نفسها مجاز عن إحضارهم لأنّها تدعوهم فتحضرهم من مسافة ما بين سنة كالمغناطيس و تقول لهم: إليّ إليّ يا كافر و يا منافق و يا زنديق فإنّي مستقرّك أو المراد أنّ النار تدعوهم بلفظ فصيح بأسمائهم ثمّ تلتقطهم مثل التقاط الطير الحبّ أو تدعو زبانيتها المعرضين عن الطاعة و الإيمان و المقبلين على الكفر و الدنيا.

[وَ جَمَعَ فَأَوْعى و جمع المال حرصا فجعله في وعاء و كنزه و لم يؤدّ حقوقه الواجبة فيه و تشاغل به عن الدين و تكبّر باقتنائه و ذلك لطول أمله و انعدام شفقته على عباد اللّه و في الآية تنبيه على قباحة البخل و أنّه لا يليق بالمؤمن و في الخبر أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بصق عليه السّلام يوما في الأرض و وضع عليها إصبعه ثمّ قال: يقول اللّه لا بن آدم: تعجزني و قد خلقتك من مثل هذه حتّى إذا سوّيتك و عدلتك مشيت بين بردين و للأرض منك وئيد أي صوت شديد فجمعت و منعت حتّى إذا بلغت التراقي قلت: إنّي أتصدّق و أنّى أو ان الصدقة؟

[إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً] أي جنس الإنسان خلق حالكونه هلوعا مبالغة هالع أي سريع الجزع عند مسّ المكروه و سريع المنع عند مسّ الخير يقال: ناقة هلوع حريص سريعة السير.

ص: 246

[إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ] إذا ظرف لجزوعا أي وصل إليه الفقر أو المرض و نحوهما [جَزُوعاً] مظهرا للجزع و هو ضدّ الصبر قال ابن عطا: الهلوع الّذي عند الموجود يرضى و عند المفقود يسخط.

[وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً] أي الصحّة و الخير و السعة مبالغ في الإمساك و المنع أي منوع عند الجدة و جزوع لدى الشدّة قال مقاتل: الهلوع دابّة وراء جبل قاف تأكل كلّ يوم كلاء سبعة أودية و تشرب مياه سبعة أبحر و مع ذلك لا تطيق الحرّ و القرّ و تضطرب لأكل غدها و الأوصاف الثلاثة و هي هلوعا و جزوعا و منوعا امور يتعلّق بها الذمّ و ليست هذه الأوصاف مع أنّها طبائع جبّل الإنسان عليها لا يمكنه أن يفارقها بل يجب عليه تنزيه نفسه عنها لأنّها ليست من اللوازم الماهيّة للوجود بل إنّما حصولها فيه بوضع اللّه و جعل ما يزيلها أيضا بالأسباب الّتي سبّبها في كتب الأخلاق و ليس الإنسان مجبورا في ارتكابها لأنّها كبرودة الماء و حرارته بل هي صفات تتغيّر في مراتبها كزيد و القائم و النائم و زيد هو هو و واحد، فصفة السبعة أو الملكيّة ليست جزء ذات زيد كملازمة الجسميّة لماهيّة زيد و لك الخيار في الصفات فيختار واحد السلمانيّة و الآخر الأباجهليّة قال المتنبّي:

الظلم من شيم النفوس فإن تجدذا عفّة فلعلّه لا يظلم

و الحكمة في وضع هذه الأمور في الطبيعة كخلق الشهوة ليصحّ التكليف و يحارب نفسه و شيطانه فيستحقّ به الثواب إذ لا يحصل الترقي إلّا بالمحاربة فأصل النفس أمّارة لكن لا يظهر أثرها في الكاملين و الممتثلين لأوامر الإلهيّة كما يظهر للناقصين.

[إِلَّا الْمُصَلِّينَ استثناء من الإنسان أي المطبوعين على الصفات الرذيلة مستمرون عليها «إلا المصلّين» فإنهم بدلوا تلك الطبائع و اتّصفوا بأضدادها [الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ لا يشغلهم عنها شاغل فيواظبون على أدائها قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أوّل ما افترض اللّه على امّتي الصلاة الخمس و أوّل ما يرفع من أعمالها الصلاة الخمس و أوّل ما يحاسب به العبد صلاته و إنّه آخر ما يجب عليه رعايته فإنّه يؤخّر الصوم في المرض دون الصلاة و كان آخر ما أوصى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به الصلاة و ما ملكت أيمانكم.

ص: 247

[وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ أي و إلّا الّذين في أموالهم نصيب معيّن يجعلونه تقرّبا إلى اللّه من الزكاة المفروضة و الصدقة [لِلسَّائِلِ للّذي يسأل [وَ الْمَحْرُومِ الفقير الّذي يتعفّف و لا يسأل قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الحقّ المعلوم ليس من الزكاة و هو الشي ء الّذي تخرجه من مالك للفقير.

[وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ و يتعبون أبدانهم و أنفسهم في الطاعة لتصديقهم بيوم الجزاء فمجرّد التصديق بالجنان و اللسان و إن كان ينجي من الخلود في النار لكن لا يؤدّي إلى أن يكون صاحبه مستثنى من المطبوعين بالأحوال المذكورة.

[وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون على أنفسهم مع مالهم من الأعمال الفاضلة استصغارا لها و استعظاما لجنابه تعالى و علامة الخوف الاجتناب عن المعاصي و الملاهي و المؤمن الكامل خوفه من أن لا يقبل حسناته [إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ لا يمكن الأمن من عذابه و الآية بيان أنّه لا ينبغي لأحد أن يأمن من عذابه بل يكون بين الخوف و الرجاء لأنّه لا يعلم أحد عاقبته.

[وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ فرج الرجل و المرأة سوآتهما و الجارّ متعلّق بقوله: «حافظون» عن مباشرة الحرام و حفظ الفرج كناية عن العفّة.

[إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ و على بمعنى «من» أي إلّا من نسائهم المنكوحات و مضيّ مدّة الاستبراء و إيراد ما ملكت الأيمان يدلّ على أنّ المراد من الحافظين إلّا على ملك اليمين هذا الاستثناء خاصّ بالذكور دون الإناث بمعنى أنّ المرأة تملك يمينها لا يجوز لها أن لا تحفظ نفسها عن مملوكها بل واجب عليها صون نفسها عن مملوكه [فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ أي لا تؤاخذون في موارد الاستثناء في الدنيا و لا في الآخرة.

[فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ الّذي ذكر [فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ فالمبتغون بغير ما شرع اللّه هم المتعدّون حدوده الكاملون في العدوان و التجاوز عن الحد و حدّ النكاح أربع من الحرائر و لكن عقد التمتّع و ملك اليمين لا حدّ له و دخل في المنع حرمة وطء الذكران و البهائم و الزنا و الاستمناء روي أنّ العرب كانوا يستمنون في الأسفار

ص: 248

فنزلت الآية.

و في الحديث و من لم يستطع التزويج فعليه بالصوم فلو كان الاستمناء مباحا لكان الإرشاد إليه أسهل لكنّ الحنابلة و بعض الحنفيّة يجوّزونها لكنّه هذا رأي فاسد حتّى عند علماء السنّة و الجماعة قال ابن عطا: سمعت أنّ قوما يحشرون حبالى و أظنّهم هؤلاء قال البغويّ: و الآية دليل على حرمة الاستمناء و الواجب على فاعله التعزير كما قال سعيد بن جبير: عذّب اللّه قوما كانوا يعبثون بمذاكيرهم و يجب العمل بالإرشاد النبويّ الّذي هو الصوم حين التوقان و الحقّ أحقّ أن يتّبع.

[وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ و الأمانة اسم لجنس ما يؤتمن الإنسان عليه سواء كان من جهة الباري و هي أمانات الدين و الشرائع أو من جهة الخلق و هي الودائع و نحوها و قد جعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الخيانة عند الائتمان و الكذب عند التحديث و الخلف عند المعاهدة و الفجور عند المخاصمة من خصال المنافق، قال بعض الكبار: من اتّصف بالأمانة كاملا و كتم الأسرار سمع كلام الموتى و عذابهم و نعيمهم كما سمعت البهائم عذاب أهل القبور لعدم نطقها.

[وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ و الجمع باعتبار أنواع الشهادة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا علمت مثل الشمس فاشهد و إلّا فدع و تخصيصها بالذكر مع اندراجها في الأمانات للتأكيد بها لأنّ في إقامتها إحياء الحقوق و في كتمها تضييعها و إبطالها و لا يحلّ أخذ اجرة عليها بالاتّفاق.

[وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ تقديم الجارّ و المجرور تفيد الاختصاص أي يراعون شرائطها و سننها و يحفظونها من الإحباط باقتران الذنوب و القيام بأوقاتها و إنّهم إذا حافظوا عليها فهي يحفظهم أيضا كما قال سبحانه: «إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر (1)» و في الحديث من حافظ عليها كانت له نورا و برهانا و نجاة يوم القيامة و من لم يحافظ عليها لم تكن له نور و لا برهان و لا نجاة و كان يوم القيامة مع قارون و فرعون و هامان و ابيّ بن خلف و هو الّذي ضربه النبيّ في غزوة احد برمح في

ص: 249


1- العنكبوت: 45.

عنقه فمات منه في طريق مكّة و كان أشدّ و أطغى من أبي جهل دلّ على ذلك كونه مقتولا بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يقتل بيده غيره.

[أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ الموصوفون مكرمون بالثواب الأبديّ مستقرّون في جنّات لا يقادر قدرها و لعلّ تقديم الجنّات لمراعاة الفواصل أو المعنى مكرمون كائنين في جنّات.

[فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا] ما استفهاميّة للإنكار في موضع الرفع بالابتداء و «الّذين كفروا» خبرها أي أيّ شي ء للّذين كفروا بتوحيد اللّه و ما بالهم و ما حملهم على ما فعلوا [قِبَلَكَ عندك يا محمّد [مُهْطِعِينَ مسرعين إليك أي ناظرين إليك بالعداوة مبادي أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك.

[عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ الجارّ متعلّق بعزين مفترقين فرقا شتّى و الأصل عزوه من العزو بمعنى الانتساب كان كلّ فرقه تعتزي إلى غير من يعتزي إليها الاخرى و كان المشركون يتحلّقون حول رسول اللّه حلقا حلقا و فرقا فرقا و يستهزءون بكلامه و يقولون: إن دخل هؤلاء الجنّة كما يقول محمّد فلندخلنّها قبلهم فنزلت.

[أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ من هؤلاء المهطعين [أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ليس فيها إلّا التنعّم [كَلَّا] ردع لهم عن ذلك الطمع القارع أي اتركوا هذا الطمع و في تنكير جنّة إشعار بأنّه لا يدخلون في كلّ جنّة [إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ العلم بالنشأة الاولى من حال النطفة ثمّ العلقة ثمّ المضغة.

[فَلا أُقْسِمُ أي اقسم أي ليس الأمر كما يقولون، اقسم [بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ المراد مشرق كلّ يوم من السنة و مغربه فيكون مائة و ثمانون مشرقا و مغربا أو المعنى مشرق كلّ كوكب و مغربه أو أنواع الهدايات و الخذلانات.

[إِنَّا لَقادِرُونَ جواب القسم [عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ و حذف المفعول الأوّل أي نبدّلهم خيرا منهم و خيرا مفعوله الثاني بمعنى التفضيل على فرض التسليم إذ لا خير في المشركين و قد قيل: إنّ اللّه بدّل بهم الأنصار و المهاجرين [وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ و مغلوبين إن أردنا ذلك لكن حكمتنا اقتضت تأخير عقوبتهم و عدم إهلاكهم.

ص: 250

[فَذَرْهُمْ و خلّهم لشأنهم يخوضوا و يشرعوا في باطلهم و يلعبوا في الدنيا بالاشتغال بما لا ينفعهم و هذه الآية منسوخة بآية السيف [حَتَّى يُلاقُوا] من المعاينة [يَوْمَهُمُ هو يوم البعث و الإضافة لأنّه يوم كلّ الخلق و هم منهم أو لأنّ يوم القيامة يوم الكفّار من حيث العذاب و يوم المؤمنين من حيث الثواب فكأنّه يومان: يوم للكافر و يوم للمؤمن [الَّذِي يُوعَدُونَ .

[يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ بدل من يومهم و الأجداث جمع جدث و هو القبر [سِراعاً] جمع سريع حالكونهم مسرعين إلى جانب الداعي و صوته و هو إسرافيل [كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ هو كلّ ما نصب فعبد من دون اللّه و قيل: النصب شبكة يقع فيها الصيد فيسارع إليها صاحبها، و نصب و احد الأنصاب و كان للعرب حجارة تعبدها و تذبح عليها قال الأخفش: نصب جمع كرهن و رهن و الأنصاب جمع الجمع [يُوفِضُونَ أي يسرعون أيّهم يستلمه و في الآية تهكّم بهم بذكر جهالتهم الّتي اعتادوها من الإسراع إلى ما لا يملك نفعا و لا ضرّا.

[خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ حال من فاعل يوفضون و المعنى أبصارهم ذليلة و وصف أبصارهم بالخشوع مع أنّ الدلالة شاملة لهم لغاية ظهورها فيها [تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ] أي تغشاهم حقارة عظيمة و يحيط بهم [ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي ذلك اليوم المذكور بهذه الكيفيّات الّتي سيقع، مبتدء و خبره اليوم الّذي و عدوا به على ألسنة الرسل تمّت السورة بحمد اللّه.

ص: 251

سورة النوح عليه السّلام (مكية)

اشارة

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الّذين تدركهم دعوة نوح.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا تدع أن يقرء سورة إنّا أرسلنا فأي عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة أسكنه اللّه مساكين الأبرار و أعطاه ثلاث (؟) مع جنّته، كرامة من اللّه و زوّجه مائة حوراء و أربعة آلاف ثيّب.

ص: 252

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة نوح (71): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)

قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)

النون نون العظمة و الإرسال يقابل بالإمساك أرسل نوح عليه السّلام و اسمه عبد الغفّار سمّي نوحا لكثرة نوحه على نفسه أو هو سريانيّ معناه الساكن لأنّ الأرض سكنت إليه لأنّها طهرت به من خبث الكفّار و هو أوّل اولي العزم من الرسل على قول الأكثرين و كان قومه يعبدون الأصنام و أوّل من عذّبت امّته و هو شيخ المرسلين، بعث ابن أربعين سنة أو ثلاثمائة و خمسين أو أربعمائة و ثمانين و لبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما و عاش بعد الطوفان تسعين سنة.

قال بعض المفسّرين: إنّ في الآية دلالة على أنّه لم يرسل إلى أهل الأرض كلّهم لأنّه تعالى قال: «إلى قومه» فلو أرسل إلى الكلّ لقيل: إلى الخلق أو ما يشابهه كما قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و ما أرسلناك إلّا كافّة للناس (1)» و لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

كان نوح النبيّ بعث إلى قومه خاصّة و بعثت إلى الناس عامّة.

ص: 253


1- سبا: 28.

ثمّ قال: إن قيل: فما جريمة غير قومه حتّى عمّم الناس في الدعاء عليهم فقال:

«لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا»؟ فإنّه إذا لم يرسل إليهم لم يكن كلّهم مخالفا لأمره حتّى يستحقّوا الدعاء أجيب بأنّه تحقّق أنّ الناس في زمانه في الكفر على سجيّة واحدة يستحقّون بذلك و لمّا أخبر بأنّه لا يؤمن منهم إلّا من آمن معه دعا على من عدا باستيصال العذاب لهم.

و قال بعضهم: إنّه كان مرسلا لجميع أهل الأرض لأنّه لو لم يكن مرسلا للجميع ما دعا عليهم لقوله تعالى: «و ما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولا (1)».

فإن قلت: إذا كانت رسالته عامّة لجميع الناس فكانت مساوية لرسالة نبيّنا فما معنى قول النبيّ: إنّ نوحا بعث إلى قومه خاصّة و بعثت إلى الناس عامّة؟

فالجواب إنّ رسالة نوح عامّة في زمنه و رسالة نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عامّة لجميع من في زمنه و من يوجد بعد زمنه إلى يوم القيامة فلا مساواة فحينئذ سقط السؤال و في الكلام بيان آخر و هو أنّ هذا العموم الّذي حصل له بعد الطوفان لم يكن من أصل بعثته بل طرأ بعد الطوفان بخلاف رسالة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ و خوّفهم بالنار على عبادة الأصنام كي ينتهوا عن الشرك و أن مفسّرة لما في الإرسال من معنى القول [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ من اللّه عاجل كالطوفان أو آجل كعذاب الآخرة لئلّا يبقى لهم عذر.

[قالَ يا قَوْمِ و أصله قومي، خاطبهم بإظهار الشفقة على قومه [إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ] منذر من عاقبة الكفر و أفرد الإنذار مع كونه بشيرا لأنّ الإنذار أقوى في تأثير الدعوة و هو مقدّم كما قال لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قم فأنذر» و الإنذار متعلّق بالكافر كما أنّ التبشير متعلّق بالمؤمن و قومهم كانوا كفرة و لا يستحقّون حال الكفر التبشير [مُبِينٌ أي موضح لكم أمركم بلغة تعرفونها.

[أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي بأن اعبدوا اللّه و الأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات و الأحكام من الأفعال القلوب و الجوارح [وَ اتَّقُوهُ يتناول الزجر و المنع عن جميع

ص: 254


1- الإسراء: 15.

المحظورات [وَ أَطِيعُونِ في أخلاقي و صفاتي و أضاف الإطاعة إلى نفسه لأنّ طاعة الرسول طاعة اللّه و إن كانت تقع له عليه السّلام في الظاهر.

[يَغْفِرْ لَكُمْ جواب الأمر [مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم هو ما سلف في الجاهليّة لا ما تأخّر عن الإسلام فإنّه يؤاخذ به و لا يكون مغفورا بسبب الإيمان لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله [وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى بالحفظ من عذاب الاستيصال و استحقاق العذاب إلى زمان مقدّر عند اللّه أي لا يصيبكم في هذه المقدّرة هلاك بسبب كفركم إذا آمنتم.

[إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ] و هو الأجل الّذي قدّر لكم على تقدير بقائكم على الكفر و هو الأجل القريب الّذي استحققتم بسبب الكفر [لا يُؤَخَّرُ] فبادروا إلى الإيمان قبل وقوعه [لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شيئا لسارعتم إلى ما أمرتكم به.

[قالَ أي نوح مناجيا لربّه و حاكيا له و هو أعلم بحال ما جرى بينه و بين قومه من القيل و القال بعد ما بذل مجهوده في الدعوة و ضاقت عليه الحيل: [رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى الايمان [لَيْلًا وَ نَهاراً] أي دائما بلا فتور فهما ظرفان لدعوت أراد على الدوام لأنّ الزمان منحصر فيهما و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأتي بالليل على أبوابهم و يرد على جماعتهم بالنهار فيقرع الباب؟ فيقول صاحب البيت: من على الباب؟ فيقول أنا نوح: قل لا إله إلّا اللّه.

[فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً] ممّا دعوتهم إليه [وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان [لِتَغْفِرَ لَهُمْ بسبب قبول الدعوة [جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ و سدّوا مسامعهم قصدا إلى عدم الاستماع [وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ الاستغشاء التقنّع و التغطّي باللباس و بالغوا في التغطّي بثيابهم لئلّا يبصروا نوحا كراهة منه فإنّ المبطل يكره رؤية المحقّ و لئلّا يعرفهم و يدعوهم [وَ أَصَرُّوا] و أقاموا على الكفر و المعاصي و أكبر الإصرار السعي في طلب الأوزار و قيل: في معنى الإصرار في الآية أن يعتقد بقلبه أنّه متى قدر على الذنب فعله [وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً] تعظّموا عن طاعتي و أخذتهم العزّة لأنّهم قالوا: «أ نؤمن لك و اتّبعك الأرذلون».

ص: 255

[ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً] أظهرت لهم الدعوة علنا و الجهر ظهور الشي ء بإفراط لحاسّة البصر و السمع [ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً] إشارة إلى ذكر عموم الحالات بعد ذكر جميع الأوقات أي دعوتهم على وجوه متخالفة و أساليب متفاوته و ثمّ لتفاوت الوجود.

و في بعض التفاسير أنّ نوحا عليه السّلام لمّا آذوه بحيث لا يوصف حتّى كانوا يضربونه في اليوم مرّات قلّ صبر نوح فسأل اللّه أن يواريه عن أبصارهم بحيث يسمعون كلامه و لا يرونه ينالونه بمكروه ففعل اللّه ذلك به فدعاهم كذلك زمانا فلم يؤمنوا فسأل أن يعيده إلى ما كان و هو قوله: «أعلنت لهم و أسررت لهم إسرارا».

[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي قلت لهم عقيب الدعوة عطف على قوله: «دعوت» اطلبوا المغفرة منه لأنفسكم بالتوبة عن الكفر و المعاصي [إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً] للتابئين و المراد من كونه غفّارا في الأزل كونه مريدا للمغفرة في وقتها المقدّر و هو وقت وجود المغفور له و في الحديث من اعطي الاستغفار لا يمنع المغفرة لأنّه قال: «استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا» و لذا كان أمير المؤمنين يقول: ما ألهم اللّه عبدا الاستغفار و هو يريد أن يعذّبه و الغفّار أبلغ من الغفور و الغفر الستر و التغطية و منه قيل لجنّة الرأس «المغفر» لأنّه يستر الرأس و المغفرة من اللّه سترة للذنوب و عفوه عنها بفضله و رأيت في بعض الأخبار من كتب أهل السنّة عبدي لو أتيتني بتراب الأرض ذنوبا لغفرتها لك ما لم تشرك بي.

حكي أنّ شيخا حجّ مع شابّ فلمّا أحرم الشيخ قال: لبّيك اللّهم لبّيك فقيل له: لا لبّيك فقال الشابّ للشيخ: أ ما تسمع هذا الجواب؟ فقال: كنت أسمع هذا الجواب منذ سبعين سنة قال، فلأيّ شي ء تتعب نفسك؟ فبكى الشيخ فقال: فإلى أيّ باب ألتجئ؟

فقيل له: قد قبلناك.

[يُرْسِلِ السَّماءَ] أي المطر كما قال الشاعر: «إذا نزل السماء بأرض قوم» و قيل: حذف المضاف أي ماء السماء [عَلَيْكُمْ حالكونه [مِدْراراً] كثير الدّرور و السيلان و الانصباب و في الإرسال مبالغة بالنسبة إلى الإنزال و كذا

ص: 256

المدرار صيغة مبالغة و مفعال ممّا يستوي فيه المذكّر و المؤنّث و يرسل جواب شرط محذوف و التقدير: إن تستغفروا يرسل السماء و لمّا طالت الدعوة و ما نفعت و كذّبوه حبس اللّه عنهم القطر و أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة و قيل: سبعين سنة فوعدهم إن آمنوا أن يرزقهم اللّه الخصب و يدفع عنهم ما كانوا فيه.

[وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ و يعط لكم المدد و القوّة بهما [وَ يَجْعَلْ لَكُمْ و ينشئ لكم [جَنَّاتٍ بساتين ذوات أشجار و أثمار [وَ يَجْعَلْ لَكُمْ فيها [أَنْهاراً] جارية تزيّنها بالنبات.

[ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً] أي أيّ سبب حصل لكم في أنّكم غير معتقدين للّه عظمة موجبة لتوحيده و الطاعة له و الرجاء بمعنى الاعتقاد و الظنّ و كذلك لا تخشون منه عقابا و لا ترجون منه ثوابا.

[وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً] يقال: عدا طوره أي تجاوز حدّه و المعنى و الحال أنّه تعالى خلقكم تارات حالا بعد حال عناصر ثمّ أغذية ثمّ أخلاطا ثمّ نطفا ثمّ علقة ثمّ مضغا ثمّ عظاما و لحوما ثمّ أنشأكم خلقا آخر و قيل: المراد خلقكم صبيانا و شبابا و شيوخا و طوالا و قصارا و أقوياء و ضعفاء مختلفين في الخلق و الخلق فحينئذ التقصير في توقير من هذه قدرته ممّا لا يكاد يصدر من العاقل.

[سورة نوح (71): الآيات 15 الى 28]

أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)

لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (23) وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)

مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)

[أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ الرؤية يمكن أن يكون بمعنى العلم لأنّ ذلك علم بالسماع من أهله أو بمعنى الإبصار و المراد مشاهدة الصنع الدالّ على العلم كيف خلق هذه السماوات المرفوعة حالكونها [طِباقاً] مطابقا بعضها فوق بعض.

[وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً] أي جعله منوّرا لوجه الأرض في ظلمة الليل و نسبة إلى الكلّ مع أنّه في السماء الدنيا لأنّ كلّ واحدة من السماوات شفّافة لا تحجب ما وراءها فيرى الكلّ كأنّها سماء واحدة، و من ضرورة ذلك أن يكون ما في واحدة منها كأنّه في الكلّ على أنّه ذهب جماعة مثل ابن عبّاس و وهب بن منبّه إلى أنّ الشمس و القمر و النجوم وجوهها ممّا يلي السماء و ظهورها ممّا يلي الأرض و لفظ السراج يقتضي ذلك لأنّ ارتفاع نوره في طرف العلوّ و لو لا ذلك لأحرقت جميع ما في الأرض

ص: 257

لشدّة حرارتها و نورها فجعلها اللّه نورا و سراجا لأهل الأرض و السماوات على أن لو كان في واحدة منهنّ يجوز أن يقال: فيهنّ كما يقال: أتيت بني تميم و إنّما أتى بعضها.

[وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً] أي مصباحا يضي ء لأهل الأرض فهي سراج العالم كما أنّ المصباح سراج الإنسان هي في السماء الرابعة و قيل: في الخامسة و قيل: في الشتاء في الرابعة و في الصيف في السابعة و لو أضاءت من الرابعة أو من سماء الدنيا لم يطق لها شي ء لكنّ الجمهور على أنّها في الرابعة لا يختلف و قوله تعالى: «سراجا» من باب التشبيه البليغ و كذلك شبّه اللّه نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالسراج قال: «و سراجا منيرا» لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أزال ظلمة الكفر و أنار الخلق بنور التوحيد.

[وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً] أي إنباتا عجيبا بواسطة إنشاء أبيكم آدم منها أو إنشاء الكلّ منها من حيث إنّه خلقهم من النطف المتولّدة من الأغذية المتولّدة من النبات المتولّدة من الأرض استعير الإنبات للإنشاء لكونه أول التكوين و الحدوث و وضع نباتا موضع إنباتا مصدر بحذف الزوائد و قيل: نباتا حال لا مصدر.

[ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها] في الأرض بالدفن [وَ يُخْرِجُكُمْ منها عند البعث [إِخْراجاً] محقّقا لا ريب فيه لمجازاة الأعمال [وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ كرّر الاسم الجليل للتعظيم [الْأَرْضَ بِساطاً] مبسوطة متّسعة كالفراش تتقلّبون عليها تقلّبكم على بسطكم.

[لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً] من السلوك و هو الدخول لا من السلك و هو الإدخال طرقا واسعة جمع سبيل و فجّ هو الطريق الواسع و جعل صفة لسبلا. و يستعمل في الطريق الواسع أي لتسلكوا متّخذين من الأرض سبلا فتتصرّفوا فيها مجيئا و ذهابا و جعلها مبسوطة للسلوك و العيش كالنوم و الاستقرار و الحرث و الفرش و السلوك جسمانيّ و روحانيّ كطلب العلم و الحجّ و المعرفة و التجارة و الطرق الموصلة إلى الكمال و الأحوال كالعبادة و الزهد و السلوك الروحانيّ لا يحصل إلّا بالسلوك الجسمانيّ كما كان معراجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالبدن.

[قالَ نُوحٌ أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربّه فهو بدل من «قال» الأوّل و لذا ترك العطف أي قال مناجيا لربّه: أي [رَبِ بحذف الياء [إِنَّهُمْ عَصَوْنِي

ص: 258

و داموا على عصياني مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة [وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً] استمرّوا على اتّباع رؤسائهم الّذين أبطرتهم أموالهم و أولادهم و صارت سببا لخسارتهم في الآخرة فصاروا أسوة لهم في الخسار و اتّبعوهم لوجاهتهم بسبب المال و الأولاد لما شاهدوا فيهم من شبهة مصحّحة للاتّباع كما قالت قريش: لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فجعلوا إقبال الدنيا سببا مصحّحا للاتّباع.

[وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً] أي الكبرياء منهم مكروا مكرا كبيرا في الغاية و الكبّار نحو الطوّال بالتشديد أبلغ من الكبار بالتخفيف و مكرهم الكبير احتيالهم في منع الناس عن اتّباع نوح و تحريص الناس على أذيّة نوح، و لمّا كان التوحيد أعظم المراتب كان المنع منه أعظم الكبائر و لذا وصف بالكبائر.

[وَ قالُوا] أي الرؤساء للأتباع و السفلة: [لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً] أي لا تتركوا عبادتها [وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً] جرّد يغوث و يعوق عن حرف النفي إذ بلغ التأكيد نهايته و خصّ عبادة هؤلاء بالذكر فهو من باب عطف الخاصّ على العامّ لأنّها كانت أكبر أصنامهم و أعظم ما عندهم و قد انتقلت هذه الأصنام عنهم إلى العرب فكان ودّ لكلب بدومة الجندل و لذلك سمّت العرب بعبد ودّ.

قال الراغب: الودّ صنم سمّي عند العرب لاعتقادهم أن بينه و بين اللّه مودّة و كان سواع لهمدان قبيلة باليمن و يغوث لمذحج كمجلس و عنه كانت العرب تمسّي عبد يغوث و يعوق لمراد أبو قبيلة سمّي به لأنّه تمرّد عن قبيلته و نسر لحمير موضع غربيّ صنعاء اليمن و انتقلت أسماء هذه الأصنام إلى العرب فاتّخذوا أمثالها فعبدوها.

و قيل: إنّها أعيان تلك الأصنام و الطوفان دفنها و غمرها في ساجل جدّة فلم تزل مستورة حتّى أخرجها العين لمشركي العرب نظيره ما روي أنّ آدم عليه السّلام كتب اللغات المختلفة في طين و طبخه فلمّا أصاب الأرض الغرق بقي مدفونا ثمّ وجد كلّ قوم كتابا مكتوبة فأصاب إسماعيل الكتاب العربيّ.

و قيل: إنّ الأصنام أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم و نوح ماتوا فحزن الناس عليهم حزنا شديدا و اجتمعوا حول قبورهم لا تكادون يفارقونها و ذلك بأرض بابل فلمّا رأى

ص: 259

إبليس فعلهم ذلك جاء إليهم في صورة إنسان و قال لهم: هل لكم أن اصوّر لكم صورهم إذا نظرتم إليها ذكرتموهم و استأنستم و تبرّكتم بهم قالوا: نعم فصوّر لهم صورهم من صفر و رصاص و نحاس و خشب و حجر و سمّى الصور بأسمائهم ثمّ لما تقادم الزمن و انقرضت الآباء و الأبناء و أبناء الأبناء قال اللعين لهم: إنّ من قبلكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوها في زمان مهلاييل بن قينان ثمّ صارت سنّة في العرب في الجاهليّة.

و قيل: إنّ المؤسّس لعبادة الأصنام في العرب عمر بن لحيّ بن قمعة علّمه جنيّ كان تابعه فقال له: اذهب إلى جدّة و ائت منها بالآلهة الّتي تعبد في زمن نوح و إدريس و هي ودّ، فذهب و أتى بها إلى مكّة و دعا إلى عبادتها فانتشرت عبادة الأصنام في العرب و عاش عمر و ثلاثمائة و أربعين سنة و رأى من ولده و ولد ولده ألف مقاتل و مكث هو و ولده في ولاية البيت خمسمائة سنة ثمّ انتقلت الولاية إلى قريش مكثوا فيها خمسمائة سنة اخرى فكان البيت بيت الأصنام ألف سنة.

و ذكر الشعرانيّ أنّ أصل وضع الأصنام إنّما هو من قوّة التنزيه من العلماء الأقدمين فإنّهم نزّهوا اللّه عن كلّ شي ء و أمروا بذلك عامّتهم فلمّا رأوا أنّ بعض عامّتهم صرّح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام و كسوها الديباج و الحليّ و الجواهر و عظّموها بالسجود و غيره ليتذكّروا بها الحقّ الّذي غاب عن عقولهم و غاب عن أولئك العلماء الجهلاء أنّ ذلك لا يجوز إلّا بإذن اللّه و إنّ ما أمروا به يفضي إلى هذا الأمر الشنيع.

و قيل: إنّ هذا الأمر سرى من الهند إلى أرض العرب، و ودّ كان على صورة رجل و سواع على صورة امرأة و يغوث على صورة أسد و يعوق على صورة فرس و نسر على صورة نسر.

[وَ قَدْ أَضَلُّوا] الرؤساء أو الأصنام و الجملة حاليّة [كَثِيراً] جمعهم جمع العقلاء لعدّهم آلهة [وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ بالإشراك فإنّ الشرك ظلم عظيم [إِلَّا ضَلالًا] الجملة عطف على قوله: «رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي» أي قال: ربّ إنّهم عصوني و قال: «و لا تزد الظالمين إلّا ضلالا» من غير أن يعطف أحدهما على الآخر فحكى اللّه أحد قولي نوح بتصديره بلفظ «قال» و حكى قوله الآخر بعطفه على قوله الأوّل بالواو النائبة عن لفظ «قال»

ص: 260

و لا يلزم عطف الإنشاء على الإخبار.

و المراد من الضلال في الآية الضياع و الهلاك و الضلال في تمشية مكرهم بالإهلاك لا في أمر دينهم حتّى يقال: إنّ هذا الدعاء يتضمّن الرضى بكفرهم و قد بعث ليصرفهم عن الضلال فكيف يليق أن يدعو اللّه في ضلالهم و إن كان يمكن أن يجاب عن هذا الإيراد بأنّه بعد ما اوحي إليه أنّه لا يؤمن من قومك إلّا من قد آمن و نظيره دعاء موسى بقوله:

«وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» (1) و من أحبّ عذاب الكافر و أحبّ موت الشرير بالطبع على الكفر حتّى ينتقم اللّه منه لا ضرر فيه فيؤول المعنى «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» و غيّا ليزدادوا عقابا نظير قوله: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» (2) و قد دعا عليه السّلام بهذا الدعاء بعد أن دعا الأبناء بعد الآباء بلغوا سبعة قرون فلمّا آيس من إيمانهم و اخبر أنّهم لا يؤمنون دعا عليهم.

[مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من أجل خطيئات قوم نوح و كفرهم و معاصيهم و ما زائدة بين الجارّ و المجرور لتأكيد الحصر المستفاد من تقديم الظرف أي إغراقهم بالطوفان لم يكن إلّا من أجل خطيئاتهم تكذيبا لقول المنجّمين من أنّ ذلك كان لاقتضاء الأوضاع الفلكيّة و هذا القول كفر لكونه مخالفا لتصريح هذه الآية و لزيادة «ما» الإبهاميّة فائدة غير التأكيد و هي تفخيم خطيئاتهم العظيمة و من لم ير زيادتها جعلها نكرة و جعل خطيئاتهم بدلا منها [أُغْرِقُوا] في الدنيا بالطوفان [فَأُدْخِلُوا ناراً] تنكير النار لتعظيمها أو المراد عذاب القبر عقيب الإغراق و إن كانوا في الماء فإنّ منّ مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع أو الطير أصابه ما يصيب المقبور من العذاب:

لا تعجبنّ لأضداد إذا اجتمعت فاللّه يجمع بين الماء و النار

أو المراد من النار نار جهنّم و التعقيب لتنزيله منزلة المتعقّب لاقترابه و تحقّقه [فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً] و فيه تعريض باتّخاذهم آلهة من دون اللّه و بأنّها غير قادرة على نصرهم [وَ قالَ نُوحٌ بعد أن قنط من اهتدائهم بالأمارات و بإخبار اللّه إيّاه

ص: 261


1- يونس: 88.
2- المائدة: 32.

[رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ و لا تترك [مِنَ الْكافِرِينَ بك [دَيَّاراً] يدور في الأرض و يتحرّك فيذهب و يجي ء أي فأهلكهم بالاستيصال.

و قال بعض: إنّ معنى الدّيار ليس من الدور بل من الدار و أصله ديوار و قد فعل به ما فعل بأصل «سيد» و المراد لا تذر ممّن ينزل الدار و يسكنها إذ لو كان بمعنى الدوران كما فسّرنا لم يبق على وجه الأرض جنّي و لا شيطان و إنّما أراد صلّى اللّه عليه أهل كلّ ساكن دار من الكفّار أي كلّ إنسيّ. لكن هذا القول: ضعيف لأنّ نوح ما كان الجنّ و الشيطان من امّته إذ لم يكن نوح مبعوثا إلى الثقلين فهذا الدليل الّذي قال: لم يبق على وجه الأرض جنّي و لا شيطان غير موجّه على أنّه ليس ديّار فعالا من الدار و إلّا لقيل: دوّار لأنّ أصل دار دور فقلبت واوه ألفا فلمّا ضعّفت عينه كان دوّارا بالواو المشدّدة و لا وجه لقلبها ياء.

[إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ عليها كلّا أو بعضا بيان لوجه دعائه عليهم و إظهار بأنّه كان من الغيرة في الدين لا لغلبة غضب النفس لهواها [يُضِلُّوا عِبادَكَ عن طريق الحقّ و يصدّوهم عن السبيل لأنّ الرّجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح عليه السّلام فيقول له: احذر هذا فإنّه كذّاب و إنّ أبي حذّرنيه و أوصاني بمثل هذه الوصيّة فيموت الكبير و ينشأ الصغير على ذلك.

[وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً] و الفجور شقّ ستر الديانة [كَفَّاراً] مبالغة في الكفر أي لا يلدون و لا ينتجون إلّا من سيفجر و يكفر و إنّما قاله بالوحي لقوله في سورة هود: «وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» و هذا الدعاء كان في الأواخر.

[رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ أبو نوح اسمه لمك بن متوشلخ على وزن متدحرج و امّه سمخاء بنت أنوش كانا مؤمنين قال ابن عبّاس: لم يكفر لنوح أب ما بينه و بين آدم و في إشراق التواريخ امّه قسوس بنت كابيل و قيل: هيجل بنت لاموس و كانا مسلمين على ملّة إدريس و قيل: المراد بوالديه آدم و حوّاء [وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ أي منزلي و قيل:

مسجدي و قيل: سفينتي فإنّها له بمنزلة البيت [مُؤْمِناً] حالكون الداخل مؤمنا و

ص: 262

بهذا القيد خرجت امرأته واعلة و ابنه كنعان و [لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ خصّ أوّلا من يتّصل به نسبا و دينا ثمّ عمّ المؤمنين و المؤمنات.

و في الحديث ما الميّت في قبره إلّا كالغريق المتنوّث ينتظر دعوة يلحقه من أب أو أخ أو صديق فإذا لحقته كانت أحبّ إليه من الدنيا و ما فيها و إنّ اللّه ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الأرض أمثال الجبال و إنّ هديّة الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم.

[وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً] أي هلاكا و التبر دقاق الذهب قال عليه السّلام في الأوّل: «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» لأنّه وقع بعد قوله: «و قد أضلّوا كثيرا» و في الثاني «إلّا تبارا» لأنّه وقع بعد قوله: «و لا تذر على الأرض» فذكر في كلّ مكان ما شاكل معناه و ما اقتضاه فاستجيب دعاؤه و عمّهم الطوفان بالغرق و أهلكهم عن آخرهم و ما نقل عن بعض المنجّمين من أنّه أراد جزيرة العرب فوقع الطوفان عليهم دون غيرهم فذلك كلام فاسد مخالف للقرآن و السنّة و تفسير العلماء و أصحاب التواريخ.

و أمّا صبيانهم قيل: إنّ اللّه أعقم أرحام نسائهم و أيبس أصلاب رجالهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنّة فلم يكن معهم صبيّ و لا مجنون حين غرقوا لأنّ اللّه قال: «و قوم نوح لمّا كذّبوا الرسل أغرقناهم» (1) و لم يوجد التكذيب من الأطفال و المجانين و قيل:

غرق معهم صبيانهم أيضا لكن لا على وجه العقوبة لهم بل لتشديد عذاب آبائهم و امّهاتهم بإراءة إهلاك أطفالهم الّذين كانوا أعزّ عليهم من أنفسهم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يهلكون مهلكا واحدا و يصدرون مصادر شتّى، و عن الحسن أنّه سئل عن ذلك فقال: علم اللّه سرايتهم فأهلكهم بغير عذاب و كم من صبيان يموتون بالغرق و الحرق و سائر أسباب الهلاك و اللّه أعلم بمصالح الحكمة تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 263


1- الفرقان: 37.

سورة الجن (مكية)

اشارة

ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و من قرء سورة الجنّ اعطي بعدد كلّ جنّي و شيطان صدّق بمحمّد و كذّب به عتق رقبته.

و قال الصادق عليه السّلام: من أكثر قراءة قل اوحي لم يصبه في حياة الدنيا من أعين الجنّ و لا من نفثهم و لا من كيدهم و سحرهم و كان مع محمّد و آله.

ص: 264

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً (3) وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)

وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (8) وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)

وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)

[قُلْ يا محمّد لقومك: [أُوحِيَ إِلَيَ و القي عليّ بطريق الوحي و أخبرت بأعلام من اللّه و الإيحاء إعلام في خفاء [أَنَّهُ بالفتح لأنّه فاعل اوحي و الضمير الشأن و الحديث [اسْتَمَعَ أي القرآن أو طه أو اقرأ و المفعول محذوف لدلالة ما بعده عليه و المستمع من كان قاصدا للسماع مصغيا إليه و السامع من اتّفق سماعه من غير قصد إليه [نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ جماعة منهم ما بين الثلاثة و أقل من العشرة و الجنّ واحده جنّي كروم و روميّ.

قال ابن عبّاس: انطلق رسول اللّه في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ فأدركهم وقت صلاة الفجر و هم بنخلة فأخذ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي بأصحابه صلاة الفجر فسحر عليهم نفر من الجنّ و هم في الصلاة فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له و فيه دليل على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ير الجنّ حينئذ إذ لو رآهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي و كذا لم يشعر بحضورهم و باستماعهم و لم يقرء عليهم و إنّما اتفق حضورهم في قراءة فسمعوها فأخبر اللّه بذلك.

و الجنّ أجسام رقاق في صورة تخالف صورة الملك و الجنّ عاقلة مدركة كالإنس خفيّته عن الأبصار لا يظهرون لهم و لا يكلّمونهم إلّا صاحب معجزة و يغلب عليهم الناريّة

ص: 265

و الهوائيّة و المركّبات كلّها من العناصر فما يغلب عليهم للناريّة فناريّ كالجنّ و ما يغلب فيه الهواء فهوائيّ كالطير و ما يغلب فيه الماء فمائيّ كالسمك، و ما يغلب فيه التراب فترابيّ كالإنسان و سائر الحيوانات الأرضيّة.

[فَقالُوا] لقومهم عند رجوعهم إليهم: [إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً] أي كتابا مقروّا على لسان الرسول [عَجَباً] مصدر بمعنى العجيب وضع موضع العجيب للمبالغة أي بديعا مباينا لكلام الناس.

و فيه إشارة إلى أنّهم كانوا من أهل اللسان؛ قال عيزار بن حريث: كنت عند عبد اللّه بن مسعود فأتاه رجل فقال له: كنّا في سفر فإذا بحيّة جريحة تتشحّط في دمها فقطع رجل قطعة من عمامته فلفّها فيها فدفنها فلمّا أمسينا و نزلنا أتانا امرأتان من أحسن نساء الجنّ فقالتا: أيّكم صاحب عمرو، أي الحيّة الّتي دفنتموها؟ فأشرنا لهما إلى صاحبها فقالتا: إنّه آخر من بقي ممّن استمع القرآن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بين كافري الجنّة و مسلميهم قتال فقتل فيهم فإن كنتم أردتم به الدنيا عوّضناكم، فقلنا: لا إنّما فعلنا ذلك للّه، فقالتا: أحسنتم و ذهبتا فقال: إنّ اسم الّذي لفّ الحيّة صفوان بن معطّل المراديّ.

[يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ] إلى الحقّ و صلاح الدين و الدنيا، و الرشد كالقفل خلاف الغيّ، و الرشد كالذهب يقال في الأمور الاخرويّة فقط [فَآمَنَّا بِهِ أي بذلك القرآن [وَ لَنْ نُشْرِكَ بعد اليوم [بِرَبِّنا أَحَداً] و لا نعبد غيره.

[وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا] أي و أنّ الشأن ارتفع عظمة ربّنا مستعار من الجدّ الّذي معناه الحظّ و البخت و الغنى [مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً] أي لم يختر لنفسه لكمال تعاليه زوجة و لا ابنا و لا بنتا لأنّهم بعد ما سمعوا القرآن و وقفوا للتوحيد تنبّهوا للخطاء فيما اعتقده كفرة الجنّ من تشبيه اللّه بخلقه فاستعظموه و نزّهوه عن هذه النقيصة و لوازم الإمكان و الحدوث.

[وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا] و جاهلنا و مردة الجنّ [عَلَى اللَّهِ شَطَطاً] و تجاوزا عن الحدّ في الظلم و وصف القول بالمصدر للمبالغة في التجاوز في الظلم و هو نسبة الشريك

ص: 266

و الصاحبة و الولد إليه.

[وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً] اعتذارهم من تقليدهم لسفيههم أي كنّا نظنّ أنّ الشأن و القصّة: لن يكذب على اللّه أحد أبدا و لذلك اتّبعنا قولهم فلمّا سمعنا القرآن علمنا أنّهم كذبوا عليه تعالى، و «كذبا» مصدر مؤكّد لتقول.

[وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ أي و أنّ الشأن كان في الجاهليّة رجال كائنون من الإنس يلتجئون و يتعلّقون برجال من الجنّ قال أهل التفسير كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر في بعض مسائره و خاف على نفسه يقول:

أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه فيبيت في أمن و جوار حتّى يصبح فإذا بذلك استكبروا و قالوا: سدنا الإنس و الجنّ و ذلك قوله تعالى: [فَزادُوهُمْ رَهَقاً] أي فزاد الرجال العائذون الإنسيّون الجنّ رهقا و تكبّرا و عتوّا و سفها و الرهق محرّكة يجي ء على معان: منها السفه و ركوب الشرّ و الظلم، و يجوز أن يكون المراد من الرجال العائذين رجال الجنّ زادوا الأنس ظلما و ضلالة.

[وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً] اختلف في معناها قيل: إنّ هذه الآية بقيّة من حكاية قول مؤمني الجنّ لكفّارهم إنّ الكفّار الّذين يعوذون برجال من الجنّ الكفرة في الجاهلية حسبوا كما حسبتم أن لن يبعث اللّه رسولا بعد موسى و عيسى و قيل: هذه الآية ما قبلها اعتراض من كلام اللّه و معناه إنّ الجنّ ظنّوا كما ظننتم معاشر الإنس أنّ اللّه لا يحشر أحدا يوم القيامة و لا يحاسبه أو لن يبعث اللّه أحدا رسولا.

[وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ] أي طلبنا و التمسنا قرب السماء لاستراق السمع أو طلبنا الصعود إلى السماء فعبّر باللمس مجازا [فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً] أي حفظة من الملائكة شدادا [وَ شُهُباً] و الشهب جمع شهاب و هو نور يمتدّ من السماء كالنار أي ملئت السماء من الحرس و الشهب.

[وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ لاستراق السمع أي كان يتهيّأ لنا فيما قبل القعود في مواضع الاستماع فنسمع منها بعض كلام الملائكة و من أحاديث البخاري

ص: 267

عن عائشة عن رسول اللّه أنّ الملائكة تنزل في العنان بالفتح و هو السحاب فتذكّر الأمر الّذي قضى في السماء فتسترق الشياطين السمع و تسمعه ثمّ توحيه إلى الكهّان فيكذبون معه مائة كذبة من عند أنفسهم.

[فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ في مقعد من المقاعد و الآن أي في هذا الزمان و بعد البعث [يَجِدْ لَهُ جواب للشّرط أي يجد لنفسه [شِهاباً رَصَداً] أي شهابا راصدا لأجله و مترقّبا له يصدّه عن الاستماع بالرجم أو ذوي شهاب راصدين ليرجموا المستمع بما معهم من الشهب فلمّا رأى الجنّ ذلك قالوا: ما هذا إلّا لأمر أراده اللّه بأهل الأرض و ذلك قولهم:

[وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء منّا [أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً] خيرا و صلاحا، و في بيان الآية أدب أدّب اللّه الخلق لأنّ نسبة الخير في الآية إلى اللّه و نسب الشرّ مجهولا.

[سورة الجن (72): الآيات 11 الى 20]

وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً (13) وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)

وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)

ثمّ قال في تمام الحكاية عن الجنّ الّذين آمنوا عند سماع القرآن: [وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ و هم الّذين عملوا الصالحات المخلصون [وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ أي دون الصالحين في الرتبة و [كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً] أي فرقا شتّى و متباينة كلّ فرقة تباين صاحبتها كما يبيّن المقدود بعضه من بعض و الجنّ أمثال الإنس فمنهم قدريّة و مرجئة و شيعة و خوارج و صفت الطرائق بالقدد لدلالتها على التقطّع و الاختلاف.

[وَ أَنَّا ظَنَنَّا] أي علمنا الآن بالاستدلال [أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ و لن نفوته إذا أراد بنا أمرا [وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً] و أنّه تعالى يدركنا حيث كنّا.

ص: 268

[وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي القرآن [آمَنَّا بِهِ من غير تأخير و تردّد [فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ و بما أنزله من الهدى [فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً] نقصا في الجزاء و لا ترهقه و تغشاه ذلّة و ظلم فلا يخاف نقصا في حسناته و لا زيادة في سيّئاته أو لا يخاف نقصا قليلا و لا كثيرا و ذلك أنّ أجره و ثوابه موفّر و هذا حكاية عن قوّة إيمان الجنّ و صحّة إسلامهم.

ثمّ قالوا: [وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ الّذين انقادوا للحقّ [وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون عن طريق الحق الّذي هو الإيمان و القاسط الجائر لأنّه عادل عن الحق و المقسط العادل لأنّه عادل إلى الحق يقال: قسط إذا جار و أقسط إذا عدل.

قال صاحب تفسير روح البيان: و قد غلب هذا الاسم على حزب معاوية و منه الحديث خطابا لعليّ عليه السّلام: تقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين، فالناكثون أصحاب عائشة فإنّهم الّذين نكثوا البيعة و استنزلوا عائشة و ساروا بها إلى البصرة على جمل اسمه عسكروا لذا سمّيت الوقعة يوم الجمل، و القاسطون أصحاب معاوية لأنّهم قسطوا و جاروا حين حاربوا الإمام الحقّ و الواقعة تعرف بصفّين، و المارقون الخوارج فإنّهم الّذين مرقوا و خرجوا من دين اللّه و استحلّوا القتال مع خليفة رسول اللّه و هم عبد اللّه بن وهب الراسبيّ و حرقوص بن زهير البجليّ المعروف بذي الثديّة و تعرف تلك الواقعة بيوم النهروان هي من أرض العراق على أربعة فراسخ من بغداد انتهى كلامه.

[فَمَنْ أَسْلَمَ يجوز أن يكون من بقيّة كلام الجنّ و يجوز أن يكون مخاطبة من اللّه لرسوله [فَأُولئِكَ إشارة إلى من أسلم و الجمع باعتبار المعنى [تَحَرَّوْا رَشَداً] التحرّي طلب الأليق أي طلبوا الهداية العظيمة.

[وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ الجائرون عن سنن الهدى [فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً] أي هم حطب توقد بهم في جهنّم.

[وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا] أن مخفّفة من المثقّلة أي أنّ الشأن: لو استقام الجنّ أو الإنس أو كلاهما على طريقة الإسلام [لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً] الإسقاء و السقي بمعنى و قيل: السقي و السقيا هو أن تعطيه ماء ليشرب و الإسقاء أن تجعل له ذلك حتّى يتناوله

ص: 269

كيف شاء و غدق إذا غزر وصف الماء به في غزارته كرجل عدل و تخصيص الماء الكثير بالذكر لأنّه أصل السعة و المعنى لأعطيناهم مالا كثيرا و عيشا رغدا.

[لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ و لنعاملهم معاملة المختبر في ذلك التوسيع أ يشكرونه أم يكفرون به و فيه إشارة إلى أنّ المرزوق يجب عليه القيام بشكره و ذلك لوظائف الطاعات و العبادات و الواجبات.

[وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ و وحيه [يَسْلُكْهُ يدخله [عَذاباً صَعَداً] أي شاقّا صعبا يعلو المعذّب و يعذّبه على أنّه مصدر وصف العذاب به للمبالغة ثمّ إن كان إعراضه عن الوحي و الذكر بعدم التصديق كان عذاب التأبيد و إلّا فبقدر جرعة إن لم تغفر له و روي أنّ «صعد» جبل في النار إذا وضع عليه يديه أو رجليه ذابتا و إذا رفعهما عادتا و قيل:

«صعد» جبل أملس في جهنّم و يكلّف الوليد بن المغيرة صعوده أربعين عاما فيجذب في أعلاه بالسلاسل فإذا انتهى إلى أعلاه انحدر إلى أسفله ثمّ يكلّف ثانيا و هكذا يعذّب أبد الآباد.

[وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ عطف على قوله: «استمع» أي و اوحي إليّ أنّ المساجد مختصّة باللّه و بعبادته خصوصا المسجد الحرام فالمراد بالمساجد المواضع الّتي بنيت للصلاة و العبادة كمسجد رسول اللّه و مسجد بيت المقدس و أمثالها و حاصل المعنى أن لا تذكروا مع اللّه في المواضع الّتي بنيت للعبادة أحدا على وجه الإشراك في عبادته كما يفعل النصارى في بيعهم و المشركون في الكعبة قال الحسن: و من السنّة عند دخول المساجد أن يقال:

لا إله إلّا اللّه لا أدعو مع اللّه آخر.

و قيل: المراد من المساجد مواضع السبعة في السجود من الإنسان و هي الجبهة و الكفّان و أصابع الرجلين و عينا الركبتين و هي للّه فلا ينبغي أن يسجد بها إلّا اللّه و روي أنّ المعتصم سأل أبا جعفر محمّد بن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام عن قوله: «و أنّ المساجد للّه» فقال: هي الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها.

و قيل: إنّ المراد بالمساجد البقاع كلّها و ذلك لأنّ الأرض كلّها جعلت للنبيّ مسجدا قال سعيد بن جبير: قالت مؤمنو الجنّ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف لنا أن تأتي المسجد

ص: 270

و نشهد معك الصلاة و نحن نامون عنك؟ فنزلت الآية و يروى عن كعب أنّه قال: إنّي لأجد في التوراة أنّ اللّه يقول: إنّ بيوتي في الأرض المساجد و إنّ المسلم إذا توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ أتى المسجد فهو زائر اللّه و حقّ على المزور أن يكرم زائره و لعلّ الحكمة في إيجاب السجود على هذه الأعضاء أنّ هذه الأعضاء الّتي عليها مدار الحركة هي المفاصل الّتي تنفتح و تنطبق و السعي و يحصل بها اجتراح السيّئات و ارتكاب موجبات الشهوات فشرع اللّه بها السجود للتكفير و التطهير و محو الذنوب.

[وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي و اوحي إليّ أنّ الشأن و القصّة: لمّا قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لذا جعلوه في أسمائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه هو العبد الحقيقيّ لمّا قام يدعو يقول: لا إله إلّا اللّه و يقرء القرآن [كادُوا] يعني قريشا [يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً] جمع لبدة بالكسر مثل قربة و قرب، و هي ما تلبّد بعضه على يعض و تراكب و تلاصق و منها لبدة الأسد و هي الشعر المتراكب بين كتفيه.

و المعنى أنّ قريشا و مشركي العرب يتراكمون و يزدحمون للإنكار و يتعاونون عليه، عن الحسن و قتادة.

و قيل: الضمير في كادوا راجع إلى الجنّ من ازدحامهم عليه تعجّبا ممّا رأوا من قراءته و عبادته عن ابن عبّاس و الضحّاك.

و قيل: هو بيان قول النفر من الجنّ: لأصحابهم حين رجعوا إليهم و مرادهم أنّ أصحاب النبيّ يتزاحمون عليه لاستماع القرآن منه يودّ كلّ واحد منهم أن يكون أقرب من صاحبه فيتلبّد بعضهم على بعض فعلى هذا المعنى هذا الكلام حكاية اللّه حال النفر من الجنّ و ليس من جملة ما أوحى اللّه إلى النبيّ.

و بالجملة إذا كان المراد من الآية ما ذهب إليه ابن عبّاس و أكثر المفسّرين، فالازدحام و التلبّد من النفر القليل يمكن أن يراد منه أنّ النفر لم يزالوا يدنون من جهة واحده حتّى كانوا عليه لبدا أو بأن يتجوّز في النفر و هم أكثر من النفر و حينئذ تعيين العدد على ما فعله بعضهم بلا معنى قال ابن مسعود: وقع الازدحام في المجنون بعدّ العود من نخلة.

ص: 271

[قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً] و ذلك أنّ قريش قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إنّك جئت بأمر عظيم لم نسمع مثله فارجع عنه فأمره سبحانه قل لهم: إنّما أدعو ربّي و معنى هذه يعضد قول الحسن: حيث ردّ ضمير كادوا إلى قريش.

[سورة الجن (72): الآيات 21 الى 28]

قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)

عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً (28)

ثمّ خاطب نبيّه فقال:

[قُلْ يا محمّد: للناس لا أقدر على دفع الضرر عنكم و لا إيصال الخير إليكم و إنّما القادر على ذلك هو اللّه تعالى و هذا اعتراف بالعبوديّة و إضافة الحول و القوّة إليه.

ثمّ قال: [قُلْ يا محمّد لهم: [إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ] و لا يمنعني أحد ممّا قدّره اللّه عليّ و لا يخلّصني من اللّه إن خالفت أمره أحد [وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً] يقال: التحد فيه أي مال عنه و يقال للملتجأ: الملتحد أي لن أجد عند الشدائد ملتجأ غيره و إذا لا أملك لنفسي شيئا فكيف أملك لكم شيئا.

[إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ استثناء متّصل من قوله: «لا أملك» و فائدة الاستثناء المبالغة في توصيف نفسه بالتبليع للدلالة على أنّه لا يدع التبليغ الّذي يستطبعه و قوله: «من اللّه» صفة بلاغا أي بلاغا كائنا منه و بلاغا واقع موقع التبليغ كما يقع السلام و الكلام موقع التسليم و التكليم و المعنى لا أملك شيئا سوى تبليغ وحي اللّه [وَ رِسالاتِهِ الّتي أرسلني بها و جمع الرسالة باعتبار تعدّد ما أرسل هو به.

[وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي خالف أمره في التوحيد و ارتكب الكفر و المعاصي

ص: 272

[فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً] جزاء على ذلك و الجمع باعتبار المعنى و قوله:

«أبدا» دفع لأن يراد بالخلود المكث الطويل.

[حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ غاية لمحذوف يدلّ عليه الحال من استضعاف الكفّار له و لأنصاره و لاستقلا لهم لعددهم حتّى قالوا هم بالإضافة إلينا كالحصاة من جبال كأنّه قيل: لا يزالون على ما هم عليه حتّى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب في الآخرة [فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ عند حلول العذاب بهم [مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً] أهم أم المؤمنون؟ و ناصرا و عددا منصوبان على التمييز و حمل بعضهم ما توعدون على ما رأوه يوم بدر و أيّا ما كان ففيه دلالة على أنّ الكفّار مخذولون و إن كثروا عددا لأنّ الكافرين لا مولى لهم و الواحد على الحقّ هو السواد الأعظم فإنّ نصره ينزل من العرش.

[قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً] أي ما أدري، «أ قريب» خبر مقدّم لقوله: «ما توعدون» أو يكون ما توعدون فاعلا لقريب سادّ مسدّ الخبر لوقوعه بعد همزة الاستفهام و ما موصولة و العائد محذوف أي ما أدري أ قريب الّذي توعدونه أم غاية تطول مدّتها و الأمد و إن كان يطلق على القريب إلّا أنّ المقابلة تخصّصه بالبعيد و الفرق بين الزمان و الأمد أنّ الأمد يقال باعتبار الغاية و الزمان عامّ في المبدء و الغاية و حاصل المعنى أنّ الموعود كائن لا محالة و أمّا وقته فما أدري لأنّ اللّه لم يبيّنه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة.

فإن قيل: أليس قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بعثت أنا و الساعة كهاتين؟ فكان عالما بقرب وقوع القيامة فكيف قال هاهنا: لا أدري أ قريب أم بعيد؟

فالجواب أنّ المراد بقرب وقوعه هو أنّ ما بقي من الدنيا أقلّ ممّا انقضى فهذا القدر من القرب كان معلوما عنده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمّا قربه بمعنى كونه يتوقّع ساعته و يعرف زمانه فغير معلوم عنده و عند غيره، على أنّ كلّ آت قريب.

[عالِمُ الْغَيْبِ وحده أي هو عالم لجميع ما غاب عن الخلق و اللام للاستغراق [فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً] أي لا يطلع على الغيب أحدا من عباده.

ثمّ استثنى فقال: [إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعني الرسل فإنّه يستدلّ على

ص: 273

نبوّتهم بأن يخبروا بالغيب لتكون آية معجزة لهم فمن اختار للرسالة فإنّه يطّلعه على ما شاء من غيبه على حسب ما يراه من المصلحة و هو قوله:

[فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً] أي يدخل و يثبت قدّام الرسول المختار المرتضى و من جوانب الرسول عند إظهاره له على الغيب حرسا من الملائكة يحرسونه من بعض الشياطين و لمّا أظهره عليه من الغيوب المتعلّقة برسالته يعني إنّ جبرئيل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يسمع الجنّ الوحي فيلقونه إلى كهنتهم فتخبر به الكهنة قبل الرسول فيختلط على الناس أمر الرسالة هذا كما جرّب عادة الملوك بأن يضمّوا إلى الرسول جماعة من خواصّهم تشريفا له كما روي أن سورة الأنعام نزلت و معها سبعون ألف ملك، و الراصدون هم الراقبون من الملائكة لهذا الأمر.

و قيل: معنى الآية أنّ اللّه يجعل لرسوله المختار للرسالة رصدا و طريقا إلى علم ما كان قبله من الأنبياء و السلف و علم ما يكون بعده.

[لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ليعلم الرسول أنّ الملائكة قد أبلغوا قال سعيد بن جبير: ما نزل جبرئيل بشي ء من الوحي إلّا و معه أربعة من الملائكة حفظة فيعلم الرسول قد أبلغ الرسالة على الوحي الّذي قد امر به. و قيل: ليعلم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ الرسل قبله قد أبلغوا جميع رسالات ربّهم كما أبلغ أو كانوا محروسين محفوظين بحفظ اللّه.

و قيل: ليعلم اللّه أن قد أبلغوا لا أنّه سبحانه ما كان يعلم قبل وقوعه قبل الإبلاغ بل المعنى ليظهر المعلوم على ما كان سبحانه عالما به و يعلمه واقعا كما كان يعلم أنّه سيقع و قيل: المعنى ليبلغوا فجعل بدل ذلك ليعلم إبلاغهم توسّعا.

[وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي أحاط سبحانه علما بما لدى الأنبياء و الخلائق و هم لا يحيطون إلّا بما يطّلعهم اللّه عليه ممّا هو عند اللّه.

[وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً] أي عرف عدد ما خلق لم يفته علم شي ء حتّى مثاقيل الذرّ و الخردل و لا شي ء يعلمه عالم أو يذكره ذاكر إلّا و هو تعالى عالم و إن حمل الإحصاء على العلم تناول جميع المعلومات و إن حمل على العدّ تناول الموجودات.

ص: 274

و الآيه صريحة على أنّ علمه بالأشياء ليس على وجه كلّي إجماليّ بل على جزئيّ تفصيليّ و أيضا يستدلّ من الآية على أنّ المعدوم ليس بشي ء لأنّه لو كان شيئا لكانت الأشياء غير متناهية و كونه أحصى عددها يقتضي كونها متناهية لأنّ الإحصاء إنّما يكون في المتناهي فيلزم الجمع بين كونها متناهية و غير متناهية و ذلك محال تمّت السورة بعون اللّه

ص: 275

سورة المزمل

اشارة

مكّيّة و قيل: مدنيّة و قيل: بعضها مكّيّ و بعضها مدنيّ. قال رسول اللّه: و من قرء سورة المزّمّل دفع عنه العسر في الدنيا و الآخرة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)

وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)

[يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ و المتلفّف بثيابه و المتغطّي بها، أدغمت التاء في الزاي لقرب المخرج و لأنّه أبدى إلى المسموع من التاء فقيل: المزمّل بتشديدين، كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نائما بالليل في قطيفة فأمر أن يترك التزمّل إلى التشمّر للعبادة و يختار التهجّد على الجهود قال ابن عبّاس: أوّل ما جاءه جبرئيل خافه فظنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسّا من الجنّ فرجع من جبل حراء إلى بيت خديجه مرتعدا و قال: زمّلوني فبينما هو كذلك إذ جاء جبرئيل و قال: [يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ و عن عكرمة أنّ المعنى يا أيّها الّذي زمّل أمرا عظيما و حمله و الزمل الحمل و ازدمله احتمله.

قال السهيليّ: ليس المزّمّل من أسمائه و إنّما المزّمّل مشتقّ من حالته الّتي كان عليها وقت الخطاب و كذا المدّثّر و في هذا الخطاب الملاطفة فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب سمّوه باسم مشتقّ من حالته الّتي هو عليها كقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ حين وقعت معاتبة بينه و بين فاطمة فأتاه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ نائم قد لصق بجبينه التراب

ص: 276

فقال له: قم يا أبا تراب، ملاطفة له و كذلك قوله لحذيفة: قم يا نومان و كان حذيفة نائما و إنّما خوطب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا الخطاب في بدو الوحي و لم يكن قد بلغ شيئا ثمّ خوطب بعد ذلك بالنبيّ و الرسول.

[قُمِ اللَّيْلَ أي لا تزمّل و ترقد و دع هذه الحال لما هو أفضل منها و قم إلى الصلاة في الليل و حذف «في» و أوصل الفعل إلى الظرف فنصب لأنّ عمل الجرّ لا يكون في الفعل و النصب أقرب إليه من الرفع و من ذلك قال بعضهم: هو مفعول نظرا إلى الظاهر في الاستعمال [إِلَّا قَلِيلًا] استثناء من الليل.

[نِصْفَهُ بدل من الليل بدل البعض من الكلّ أي قم نصفه و التعبير عن المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتناء بشأن النصف المقارن للقيام و الإيذان بفضله و كون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب بمعنى أنّه يجوز أن يوصف النصف المستثنى بكونه قليلا بالنسبة إلى النصف المشغول بالعبادة مع أنّهما متساويان في المقدار حيث إنّ النصف الفارغ لا يساويه بحسب الفضيلة و الشرف فالاعتبار بالكيفيّة لا بالكمّيّة.

[أَوِ انْقُصْ مِنْهُ أي انقص القيام من النصف إلى الثلث [قَلِيلًا] أي نصفا قليلا أو مقدارا قليلا [أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي على النصف إلى الثلثين بمعنى أن قم و صلّ ثلثي الليل الليل و نم ثلثه قال الصادق عليه السّلام القليل النصف. أو انقص من القليل قليلا أو زد على القليل قليلا و قيل: معنى الآية قم نصف الليل إلّا قليلا من الليالي و هي ليالي العذر كالمرض و غلبة النوم و علّة العين و نحوها أو انقص من النصف قليلا أ وزد عليه و بالجملة خيّر اللّه سبحانه نبيّه في هذه الساعات للقيام بالليل و جعله موكولا إلى رأيه.

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير و شقّ ذلك عليهم و كان الرجل منهم لا يدري كم صلّى و كم بقي من الليل فكان يقوم الليل كلّه مخافة أن لا يحفظ قدر الواجب حتّى خفّف عنهم بآخر هذه السورة.

و عن سعيد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول اللّه فقالت: أ لست تقرء يا أيّها المزّمّل؟ قلت: بلى قالت: فإنّ اللّه أفرض قيام الليل في أوّل هذه السورة فقام النبيّ و أصحابه حولا و أمسك اللّه خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتّى أنزل

ص: 277

اللّه في آخر هذه السورة التخفيف بقوله تعالى: «فاقرءوا ما تيسّر من القرآن» فصار قيام الليل تطوّعا بعد أن كان فريضة.

و قيل: كان بين أوّل السورة و آخرها الّذي نزل فيه التخفيف عشر سنين، و القائل سعيد بن جبير، و قيل: هذا كان بمكّة قبل فرض الصلوات الخمس ثمّ نسخ بالخمس و قيل:

هذا التخيير في القيام بين نصف الليل أو أقلّ منه أو أزيد منه في الآية على حسب طول الليل و قصره فالنصف إذا استوى الليل و النهار و النقص منه إذا قصر الليل و الزيادة إذا طال الليل.

[وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا] أي بيّنه بيانا و اقرأه على هنيئتك و لا تنثره نثر الرمل و اقرأه بالتئيب و النظم و التوالي و التؤدة و توفّ حقّها في أداء الحروف و لا تغيّر لفظا و لا تقدّم مؤخّرا و هو مأخوذ من ترتّل الأسنان إذا استوت و أحسن انتظامها يقال: ثغر رتل إذا كانت أسنانه مستوية لا تفاوت فيها.

و بالجملة رتّله ترتيلا بليغا في قراءتك في القيام و غيره بحيث يتمكّن السامع من عدّها و لذا نهى ابن مسعود عن التعجيل و قال: لا يكن همّ أحدكم آخر السورة و لذا قيل: شرّ القراءة الهذرمة أي السرعة و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجوّد القرآن، و تجويده تحسين ألفاظه بإخراج الحروف من مخارجها و إعطاء حقوقه من صفاته كالجهر و الهمس و اللين و نحوها بغير تكلّف من التمطيط و التجاوز عن الحدّ و كان ينبغي للقاري أن يحذر عن الإدماج و التخليط بحيث يلفّ بعض الكلمات في بعض الكلمات في بعض آخر لزيادة السرعة كالبياض إن قلّ صار سمرة و إن كثر صار برصا و ما فوق الجعودة فهو القطط.

قال النبيّ: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرء القرآن أقلّ من ثلاث لم يفهمه و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم عشرين مرّة و كان له كلّ مرّة فهم و في كلّ كلمة علم و قد كان بعض الأصحاب يقول: كلّ آية لا أفهمها و لا يكون قلبي فيها لم أعدّ لها ثوابا و إذا قرء سورة لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية.

قال بعض العلماء: لكلّ آية ستّون ألف فهم و ما بقي من فهمها أكثر و المقصود

ص: 278

من إنزال القرآن فهم الحقائق و العمل بالفحاوي شرّع الإنصات لقراءة القرآن وجوبا عند بعض و ندبا عند بعض أو وجوبا في القراءة في الصلاة و ندبا في غيرها على الاختلاف بين العامّة و الخاصّة و للقاري أجر و للمستمع أجران.

قال صاحب روح البيان ختم القرآن في ركعة واحدة أربعة: تميم الدارميّ و عثمان ابن عفّان و سعيد بن جبير و أبو حنيفة و كان همسر بن المنهال يختم في الشهر تسعين ختمة و ما لم يفهم رجع فقرء مرّة اخرى. و في القاموس: و أبو الحسن عليّ بن عبد اللّه ابن ساوان ختم في النهار أربع ختمات إلّا ثمنا مع إفهام التلاوة.

و في الخبر طيّبوا طرق القرآن من أفواهكم باستعمال السواك، و الصلاة بعد السواك تفضل على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفا.

و فيما روى أبو عبيد القاسم بن سلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن قال السيّد المرتضى في الغرر و الدرر: معناه أراد أن يستغني بالقرآن تقول العرب تغنّيت تغنّيا و تغانيت تغانيا قال ابن مسعود: من قرأ سورة آل عمران فهو غنيّ أي مستغن قال الأعشى:

و كنت امرءا زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغنّ

و في حديث: نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل. و في حديث آخر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا ينبغي لحامل القرآن أن يظنّ أنّ أحدا اعطي أفضل ممّا ممّا اعطي لأنّه لو ملك الدنيا بأسرها لكان القرآن أفضل ممّا ملكه و لو كان معنى ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن الترجيع و حسن الصوت لعظمت المحنة على أكثر الناس بذلك.

و ذكر الأنباريّ وجها آخر في الخبر و هو أنّ المراد من لم يتلذّذ بالقرآن و لم يستحله و لم يستعذب تلاوته كاستحلاء أصحاب الطرب للغناء و التذاذهم به و سمّي ذلك تغنّيا توسّعا نظير قولهم: العمائم تيجان العرب و الحبى حيطان العرب و الشمس حمّامات العرب انتهى.

[إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا] أي سنرمي إليك قولا ثقيلا و هو القرآن العظيم المنطوي على تكاليف شاقّة ثقيلة بالنسبة إلى عدم التكليف و الثقل حقيقة في الأجسام ثمّ

ص: 279

يقال: للمعاني باعتبار اللازم منه أو ثقيلا حين إلقائه عليه كما سئل رسول اللّه كيف تأتيك الوحي؟ قال: يأتيني مثل صلصلة الجرس أحيانا و هو أشدّ عليّ فيفصم و يقلع عنّي و قد وعيت ما قال و أحيانا تمثل إلى الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول: قالت عائشة:

و لقد رأيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينزّل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إنّ جبينه ليترشّح عرقا.

و قوله «إنّا سنلقي، الآية» اعتراض بين الأمر و هو «قم الليل» و تعليله و هو [إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ لتسهيل ما كلّفه من القيام و عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه قالا:

«الناشئة» هي القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل و قيل: معناه ساعات الليل لأنّها تنشأ ساعة بعد ساعة أي إنّ ساعات الليل الناشئة و قيل: الناشئة بالجنسيّة قيام الليل.

[هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً] أي كلفة و ثقلا مصدر وطئ الشي ء أي داسه برجله لأنّ العبادة في تلك الساعات أثقل على الإنسان من العبادة في النهار و المقصود بيان أفضليّة العبادة في ذلك الوقت و قد جعل اللّه الليل لباسا يستر الناس و يمنعهم عن الاضطراب و الحركة و أقدامهم للعبادة أثبت بخلاف النهار فإنّهم فيه مباشرون امور معاشهم.

[وَ أَقْوَمُ قِيلًا] اسم من القول بمعناه فقلب الواو ياء أي أزيد في الاستقامة في المقال و الطبع أفرغ فيه و قيل: الناشئة أن تكون بعد النوم فلو لم يتقدّمها نوم لم تكن ناشئة.

[إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا] أي تقلّبا و تصرّفا في مهمّاتك كتردّد السائح في الماء و مشتغلا بشواغلك فلا تستطع أن تنفرغ كاملا في العبادة و قيل: المعنى إن فاتك من الليل شي ء من العبادة فلك فراغ في النهار فتداركه فيه حتّى لا ينقص شي ء من حظّك من العبادة لربّك.

و في بعض كلمات المحقّقين: من فاته نافلة من النوافل أو ورد من الأوراد استحبّ له فعل مثله متى ذكره لا على وجه القضاء في الأوراد و لكن على سبيل التدارك و رياضة النفس كيلا تعتاد الرخص و أمّا في النوافل لا بأس على وجه القضاء بتداركها.

[وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ و دم على ذكره تعالى ليلا و نهارا على أيّ وجه كان من

ص: 280

تسبيح و تهليل و تحميد و صلاة و قراءة قرآن و دراية علم خصوصا بعد صلاة الغداة و قبل غروب الشمس فإنّهما من ساعات الفتح و الفيض قلبا لسانا أركانا قياما و قعودا لأنّ العبد بسبب دوامه و اشتغاله بهذا الفيض الأعظم و هذه المناسبة يغلب قدسه على دنسه إن كان من أهل الدنس و تصير مناسبا لعالم القدس و إن كان أهل السعادة فحينئذ يترقّى مقامه من مرتبة إلى مرتبة و هلمّ جرّا و يفيض عليه من العلوم ما شاء اللّه.

[وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا] أي انقطع إلى ربّك انقطاعا بالعبادة و التوجّه الكلّيّ و إخلاص النيّة و جرّد نفسك عن امور الصادّة عن مراقبة اللّه و اقطع العلائق عمّا سواه و ليس هذا منافيا لقوله: لا رهبانيّة و لا تبتّل في الإسلام فإنّ التبتّل هنا هو الانقطاع عن النكاح و منه قيل لمريم: البتول، أي المنقطعة عن الرجال و أمّا إطلاق البتول على فاطمة عليه السّلام فلكونها شبيهة بمريم في أنّها سيّدة نساء بني إسرائيل في الانقطاع عمّا سوى اللّه لا عن النكاح.

و قيل: تبتيلا مكان تبتّلا لأنّ معنى التبتّل بتّل نفسه، فجي ء على معناه مراعاة لحقّ الفواصل أو من قبيل قوله: «و اللّه أنبتكم من الأرض نباتا» تقديره أنبتكم منها إنباتا فنبتم نباتا و كذا هنا التقدير تبتّل إليه تبتّلا بتبتّلك عمّا سواه تبتيلا.

فإن قيل: إنّ التبتّل و الانقطاع الكلّي ينافي معه قوله: «إنّ لك في النهار سبحا طويلا».

فالجواب أنّ عمل الظاهر لا يقع الكامل عن ذكره و مراقبته فمن مستنفل و من ذاكر و ذلك بحسب اختلاف الأحوال و الأشخاص و قد يكون مشاغله الظاهرة في حكم العبادة و الانقطاع.

[رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ أي هو ربّهما و خالقهما يريد به جنس المشارق و المغارب في الشتاء و الصيف [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] استيناف لبيان ربوبيّته بنفي الألوهيّة عمّا سواه [فَاتَّخِذْهُ لمصالح دينك و دنياك، و الفاء لترتيب الأمر و موجبة على اختصاص الربوبيّة [وَكِيلًا] مفوّضا إليه موكولا له لإصلاحها و استرح أنت.

و اعلم يا أخي أنّ من جعل اللّه و كيلا لزمه أيضا أن يكون و كيلا للّه على نفسه

ص: 281

في استحقاق حقوقه و فرائضه و كلّ ما يلزمه فيخاصم نفسه في ذلك ليلا و نهارا لا يقصر لحظة و لا يقصر طرفة قال الزورقي: خاصيّة الاسم نفي الحوائج و المصائب فمن خاف ريحا أو صاعقة أو نحوهما فليكثر منه فإنّه يصرف عنه السوء و يفتح له أبواب الرزق.

[وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ يعني قريشا من الخرافات و الهذيانات في حقّ اللّه من الشريك و الصاحبة و الولد و في حقّك من الساحر و الشاعر و الكاهن و المجنون و في حقّ القرآن من أنّه أساطير الأوّلين و نحو ذلك.

[وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا] تأكيد للأمر بالصبر أي و اتركهم تركا حسنا بأن تجانبهم بقلبك و هواك و الهجر و الهجران مفارقة الإنسان غيره و ذلك يكون بالبدن أو باللسان أو بالقلب و قوله: «و اهجرهم» يحتمل للثلاثة.

[سورة المزمل (73): الآيات 11 الى 13]

وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَ جَحِيماً (12) وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً (13)

[ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أي دعني و إيّاهم و كل أمرهم إليّ و لا تشتغل قلبك بمجازاتهم. و الآية للتهديد كما يقول القائل: دعني و إيّاه. و «ذر» أمر من و ذر لكن لم يجعلوا له ماضي مثل دع لم يجعلوا و دع لأنّ الابتداء بالواو يستكرهونه و لذلك أبدلوا في بعض الموارد الواو بالهمزة أو التاء مثل اقّتت و تراث و تخمة، و المكذّبين مفعول معه و يجوز على العطف أي دعني على أمري ودع المكذّبين.

[أُولِي النَّعْمَةِ] صفة للمكذّبين بين أي أرباب التنعّم و الترفّه قريشا لا سيّما بني المغيرة. و النعمة بفتح النون التنعّم و بكسرها الإنعام و ما أنعم به عليك و بالضمّ السرور و التنعّم استعمال ما فيه النعومة و اللين من المأكول و الملبوس و معلوم أنّ متعلّق الذمّ ليس نفس النعمة و الرزق بل المتنعّم كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن واليا: إيّاك و التنعّم فإنّ عباد اللّه ليسوا بالمتنعّمين، و فيه تسلية للفقراء فإنّهم يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.

[وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا] و المهل التؤدة و السكون أي مهّلهم زمانا قليلا و أجلا يسيرا و لا تعجل فإنّ اللّه سيعذّبهم في الآخرة إذ عمر الدنيا قليل و كلّ آت قريب.

ص: 282

[إِنَّ لَدَيْنا] في الآخرة [أَنْكالًا] أي قيودا ثقالا يقيّد بها أرجل المجرمين إهانة لهم و تعذيبا لا خوفا من فرارهم جمع نكل بالكسر و هو القيد الثقيل بيان الاقتدار على الانتقام منهم و مضادّة على تنعّمهم الباطل في الدنيا بكفران النعمة [وَ جَحِيماً] و هي كلّ نار عظيمة في مهواة شديدة الحرّ و الاتّقاد.

[وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ] هو ما ينشب في الخلق و يعلّق من عظم و غيره فلا ينساع لا هو نازل و لا هو خارج كالضريع و الزقوم و هما في الدنيا من النباتات و الأشجار سمّان قاتلان للحيوان الّذي يأكلهما مستكرهان فما ظنّك بضريع جهنّم و زقّومها؟

[وَ عَذاباً أَلِيماً] و نوعا آخر من العذاب مؤلما لا يقادر قدره كما يدلّ عليه التنكير. في التفسير: إنّه لمّا نزلت هذه الآية خرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مغشيّا عليه.

قيل: إنّ حسن البصريّ أمسى صائما فاتي بطعام فعرضت له هذه الآية فقال:

ارفعه و وضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال: ارفعه و كذلك الثالثة فأخبر ثابت البنانيّ و يزيد الضبيّ و يحيى البكّاء فجاءوا فلم يزالوا حتّى شرب شربة من سويق.

[سورة المزمل (73): الآيات 14 الى 19]

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)

إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)

[يَوْمَ تَرْجُفُ ظرف للاستقرار من الأنكال و الجحيم و الرجفة الزلزلة و الزعرة الشديدة أي تضطرب بهيبة اللّه ليكون علامة القيامة و أمارة لجريان حكم اللّه في مؤاخذة العاصي و أفرد الجبال بالذكر لعظمتها و غلظ أجسامها و هي أوتاد فإذا تزلزلت الأوتاد لم يبق للأرض قرار و أيضا زلزلة العلويّات أظهر من زلزلة السفليّات و من زلزلتها تبلغ القلوب الحناجر خوفا من الوقوع.

[وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا] من شدّة الرجفة مع صلابتها مثل رمل هبل هبلا و اسيل و نثر بحيث لو حرّك من أسفله امهال من أعلاه و مهيل اسم مفعول من هال و أصله مهيول كمبيع و الحاصل أنّ الأرض و الجبال يدقّ بعضها ببعض فتصير الجبال

ص: 283

كالمجموعة من الرمل المهيل ثمّ ينسفها الريح فيصير هباء منبثّا و تبقى الأرض مكانها ثمّ تبدل.

[إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا] أيّها الناس، يعني محمّدا [شاهِداً عَلَيْكُمْ في الآخرة يشهد بما يكون منكم وقع في الدنيا [كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ بمصر [رَسُولًا] يعني موسى بن عمران [فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ و تخصيص فرعون لأنّه الرئيس و الباقي تبع فعصى فرعون المعلوم حاله تنعّما و كبرا الرسول الّذي أرسلناه إليه فعصيتم أنتم رسولكم كما كذّب فرعون و قومه موسى [فَأَخَذْناهُ بسبب عصيانه [أَخْذاً] ثقيلا [وَبِيلًا] لا يطاق و أذهبناهم من طريق الماء إلى النار و الوبيل الثقيل الغليظ و منه الوابل للمطر العظيم.

[فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إن كفرتم كأنّه قيل: هبوا أنّكم لا تؤخذون في الدنيا أخذة فرعون فكيف تتّقون أنفسكم، اتّقى بمعنى وقى المتعدّي إلى مفعولين [إِنْ كَفَرْتُمْ أي بقيتم على الكفر [يَوْماً] أي عذاب يوم مفعول به لتتّقون [يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً] من شدّة هوله و الوالدان جمع وليد يقال: و يستعمل في من يقرب عهده بالولادة و إن كان يستعمل فيمن بعد عهده منها تجوّزا «شيبا» و شيوخ جمع أشيب و هو بياض الشعر.

قال الزمخشريّ: رأيت في بعض الكتب أنّ رجلا أمسى فاحم الشعر كحلك الغراب و أصبح هو أبيض الرأس و اللحية كالثغامة بياضا و هو نبت أبيض قال: رأيت القيامة و الجنّة و النار و رأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار فمن ذلك أصبحت كما ترون.

و قال أحمد الدورقيّ: مات رجل من جيراننا شابّا فرأيته و قد شاب فقلت: و ما قصّتك قال: دفن رجل في مقبرتنا فزفرت جهنّم زفرة شاب منها كلّ من في المقبرة كما في فصل الخطاب.

فإن قلت: إيصال الضرر و الألم إلى الصبيان غير جائز لكونهم غير مكلّفين.

أجابوا أنّه إذا كان في القيامة من هيبة المقام ما يجثو به الأنبياء على الركب فما ظنّك بغيرهم؟ النهاية أنّ هذا المكروه لهم لعلّ لوجوب الاستحقاق للنعيم الدائم لهم لأنّهم ليس لهم عمل أو أنّه محمول على التمثيل، و سرعة الشيب موجبها الهموم و الأحزان

ص: 284

لأنّ الهمّ إذا تفاقم على المرء ضعفت قواه لأنّه يوجب انعصار الروح إلى داخل القلب و ذلك الانعصار يوجب انطفاؤها الحرارة الغريزيّة و ضعفها و انطفائها يوجب بقاء الأجزاء الغذائيّة غير تامّة النضج و ذلك يوجب بياض الشعر لعدم استعداد بصلة الشعر كاملا من منبته فيسرع الشيب و قيل: يجوز ذلك أن يكون وضعا لليوم بالطول يعني على الكناية بأنّه في طوله بحيث يبلغ الأطفال فيه أوان الشيخوخيّة و الشيب لا أنّه تقدير حقيقيّ من هو لا ينقضي بعد بل يمتدّ إلى حيث يكون مقداره خمسين ألف سنة.

[السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ السماء مبتدء خبره منفطر به أي منشقّ بسبب ذلك اليوم فذكر سبحانه من هول ذلك اليوم هذا الانفطار فإذا انفطرت السماوات و انشقّت على عظمتها بسبب ذلك الهول فما ظنّك بغيرها من الخلائق؟ فالباء للسببيّة أي بسبب الهول و الشدّة و يجوز أن يكون الباء بمعنى في أي في ذلك اليوم، قال المكّيّ في قوت القلوب: حرف العوامل يقوم بعضها مقام بعض و استشهد بهذه الآية و قيل: الباء للاستعانة مثل فطرت العود بالقدوم فالمعنى السماء منفطر باستعانة شدّة ذلك اليوم و هذا المعنى الآخر ركيك جدّا لأنّ اتّخاذ الآلة و الاستعانة لا يليق بجنابه تعالى.

[كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا] الضمير راجع إلى اللّه تعالى و إن لم يجر له ذكر، للعلم به و المصدر مضاف إلى فاعله أي كان وعده كائنا متحقّقا أو الضمير راجع لليوم و المصدر مضاف إلى مفعوله و الفاعل مقدّر و هو اللّه، قال في الصحاح: الوعد يستعمل في الخير و الشرّ فإذا أسقطوا الخير و الشرّ قالوا في الخير: الوعد و العدة و في الشرّ: الإيعاد و الوعيد.

[إِنَّ هذِهِ إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة [تَذْكِرَةٌ] موعظة لمن يطلب الخير لنفسه و كيف لا و القرآن موعظة للمتّقين طريق للسالكين و نجاة للهالكين و بيان للمستبصرين و شفاء للمتحيّرين و أمان للخائفين و أنيس للعابدين و نور للعارفين و هدى لمن أراد الطريق إلى ربّ العالمين.

[فَمَنْ شاءَ] من المكلّفين [اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا] بالتقرّب إليه بالإيمان و القبول.

ص: 285

[سورة المزمل (73): آية 20]

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

. ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ يا محمّد إنّك تقوم أقلّ من ثلثي الليل و أقلّ من نصفه و أقلّ من ثلثه و الهاء تعود إلى الليل أي نصف الليل و ثلث الليل فحاصل المعنى يكون إنّك تقوم في بعض الليالي قريبا من الثلثين و في بعضها قريبا من نصف اللّيل و في بعضها قريبا من ثلث اللّيل و قيل: إنّ الهاء تعود إلى الثلثين أي أقرب من نصف الثلثين و من ثلث الثلثين و لكن إذا قرئت نصفه و ثلثه بالنصب فالمعنى تقوم نصفه و ثلثه و إطلاق الأدنى على الأقلّ مجاز مرسل من قبيل إطلاق الملزوم على اللازم لأنّ المسافة بين الشيئين إذا دنت قلّ ما بينهما من الأحياز و الحدود و إذا بعدت كثر ذلك.

روي أنّه تعالى افترض قيام اللّيل في أوّل هذه السورة فقام النبيّ و أصحابه حولا مع مشقّة عظيمة من حيث إنّه يعسر عليهم تمييز القدر الواجب حتّى قام أكثر الصحابة اللّيل كلّه خوفا من الخطاء في أصابة المقدار المفروض و صاروا بحيث انتفخت أقدامهم و اصفرّت ألوانهم و أمسك اللّه خاتمة السورة من قوله: «إنّ ربّك إلخ» اثنى عشر شهرا في السماء حتّى أنزل اللّه في آخر السورة التخفيف فنسخ تقدير القيام بالمقادير المذكورة مع بقاء فريضة أصل التهجّد حسبما تيسّر ثمّ نسخ نفس الوجوب أيضا بالصلوات الخمس.

[وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ مرفوع معطوف على الضمير في «تقوم» أي و يقوم معك طائفة من أصحابك و تبايعك و هم عليّ و أبو ذرّ كما قال ابن عبّاس: [وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ] يعلم مقادير اللّيل و النهار فيعلم القدر الّذي يقومونه من اللّيل و العالم بمقادير ساعات اللّيل و النهار و مكوّرهما على الحقيقة هو اللّه و أنتم تعلمون ذلك

ص: 286

بالتحرّي و الاجتهاد الّذي يقع فيه الخطاء أحيانا.

[عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ و لا تطيقوا المداومة و معرفة الساعات و يقع منكم التقصير فيه لا يحصل لكم العلم الحقيقي بتقدير اللّيل و أوقاته [فَتابَ عَلَيْكُمْ و خفّف بأن جعله تطوّعا بعد و رفع التبعة عن الحكم الوجوبيّ كرفع التبعة عن التائب و لم يلزمكم إثما كالتائب لا يلزمه إثم بعد التوبة فاستعمل لفظ المشبّه به فيه ثمّ اشتقّ منه فقال:

«فتاب» أي فرخّص و سهّل لكم ترك القيام بنفي الوجوب و العزيمة و جعل الحكم رخصة و ندبا.

[فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي فصّلوا ما تيسّر لكم من صلاة اللّيل غير مقدّرة بكونها هذا المقدار أو نحوه و لو قدر حلب شاة و قيل: معنى الآية فاقرءوا في صلاة الليل ما تيسّر من القرآن و عبّر عن الصلاة بالقرآن لأنّها تتضمّنه و من قال: إنّ المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة فهو محمول على الاستحباب عند الأكثرين دون الوجوب و لكن فسّر أبو مسلم بالقيام لقراءة القرآن لا غير و الّذين حملوا المعنى على قراءة القرآن استحبابا.

اختلفوا في القدر الّذي تضمّنه هذا الأمر من القراءة فقال سعيد بن جبير: خمسون آية و قال ابن عبّاس: مائة آية قال الحسن: و من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن و قال كعب: من قرأ مائة آية كان من القانتين و قيل: مائتا آية و القائل السدّيّ و قال جويبر: ثلث القرآن لأنّ مقدار الثلث متيسّر.

و الظاهر أنّ المراد من معنى ما تيسّر مقدار ما أردتم و حصل لكم اليسر في قراءته قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه ليبغض كلّ جعظريّ أي الفظّ الغليظ جوّاظ أي الضخم المختار سخّاب بالأسواق أي شديد الصوت جيفة باللّيل حمار بالنهار عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة و بالجملة فللعاجز لمرض أو ضعف أو عذر آخر يقرء بالآيتين من سورة البقرة في ليلة و المراد «آمن الرسول إلخ» و الأعجز منه قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرّات يقوم مقامه ختمه.

[عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى استيناف داع إلى الترخيص و التخفيف

ص: 287

[وَ آخَرُونَ أي و منكم قوم آخرون [يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يسافرون فيها للتجارة ابتغاء الرزق و طلب الأرباح و تحصيل العلم طلب رزق الأرواح كما أنّ طلب الربح في الأموال طلب رزق الأجسام و في حديث أبي ذرّ أنّه قال: حضور مجلس العلم يعني علم آداب الشريعة أفضل من صلاة ألف ركعة و أفضل من شهود ألف جنازة و من عيادة ألف مريض.

[وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ الأعداء [فِي سَبِيلِ اللَّهِ عطف على مرضى كالجهاد و في الآية إشعار بأنّ المكتسب للمال الحلال للنفقة على نفسه و عياله و للإنفاق في سبيل اللّه للفقراء و ذوي الحاجات بمنزلة الجهاد له من الثواب كما يفصح من هذا المعنى ما رواه عبد اللّه بن مسعود قال: إنّما رجل جلب شيئا من مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند اللّه من الشهداء.

[فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي إذا كان الأمر كما ذكر و تعاضدت المعاذير فاقرءوا ما تيسّر من القرآن من غير تحمّل المشاقّ.

[وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ] المفروضة [وَ آتُوا الزَّكاةَ] الواجبة و قيل: المراد من هذه الزكاة هي زكاة الفطرة إذ لم يكن بمكّة زكاة غيرها و إنّما وجبت الزكاة المفروضة بعدها و من فسّرها بالزكاة المفروضة جعل الآية مدنيّة [وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً] و القرض القطع و سمّي ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط ردّ بدله قرضا لأنّه مقطوع من ماله أريد من معنى القرض في الآية الإنفاقات في سبيل اللّه و في الآية حثّ على التطوّع دون المفروض كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ في المال حقّا سوى الزكاة على أحسن وجه و معنى أحسن الوجه إخراجها من أطيب المال لأنّ اللّه تعالى طيّب و لا يقبل إلّا الطيّب و لا بدّ أن ينفق المنفق للفقراء بحسن النيّة و صفاء الخاطر إلى أحوج الصلحاء و شروط أخر و قوله: «قرضا حسنا» يشعر بهذه الشروط و تسمية الإنفاق لوجه اللّه اقتراضا استعارة تشبيها له بالإقراض من حيث إنّ ما أنفقه يعود عليه مع زيادة.

[وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ] ما شرطيّة [تَجِدُوهُ جواب الشرط أي أيّ خير كان ما ذكر و ما لم يذكر تقدّموا لغدكم من الأمور الخيريّة المشروعة تجدوا ثوابه

ص: 288

[عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً] من الّذي تؤخّرونه إلى الوصيّة عند الموت لأنّ أجر ما قدّمت تعطى بغير حساب، في الحديث: اعلموا أنّ كلّ امرئ على ما قدّم قادم و على ما خلّف نادم قال الشاعر:

قدّم لنفسك قبل موتك صالحاو اعمل فليس إلى الخلود سبيل

[وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أي سلوا اللّه المغفرة لذنوبكم في جميع أوقاتكم و كافّة أحوالكم.

و استحبّ الاستغفار على الأسماء من القرآن مثل أن يقول: أستغفر اللّه إنّه كان توّابا أستغفر اللّه إنّه غفور رحيم أستغفر اللّه إنّه كان غفّارا [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] للذنوب [رَحِيمٌ يبدّل السيّئات حسنات للمؤمنين.

و في بعض المجامع أنّ من كتب هذا الاستغفار و جرّعه لمن صعب عليه.

الموت انطلق لسانه و سهل عليه الموت و هو قوله: «اللّهم أنت ربّي لا إله إلّا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شرّ ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ و أبوء بذبني فاغفر لي إنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت» تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 289

سورة المدثر

اشارة

(مكية) قال أبو جعفر عليه السّلام: من قرأ في الفريضة سورة المدّثرّ كان حقّا على اللّه أن يجعله مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يدركه شقاء في الحياة الدنيا.

ص: 290

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)

عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

المدّثّر بتشديدين أصله المتدثّر و هو لابس الدثار و هو ما يلبس فوق الشعار الّذي يلي الجسد و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الأنصار شعار و الناس دثار.

روي عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: كنت على جبل حراء فنوديت يا محمّد إنّك رسول اللّه فنظرت عن يميني و عن يساري و لم أر شيئا فنظرت فوقي فإذا به قاعدا على عرش بين السماء و الأرض يعني الملك الّذي ناداه فرعبت و رجعت إلى خديجة فقلت: دثّروني دثّروني و صبّوا عليّ ماء باردا فنزل جبرئيل و قال:

[يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ] و إنّما تدثّر بناء على اقشعرار جلده و ارتعاد فرائصه رعبا من الملك النازل من حيث إنّه رأى ما لم يره قبل [قُمْ من مضجعك [فَأَنْذِرْ] الناس جميعا من عذاب الدنيا إن لم يؤمنوا، و أفرد الإنذار بالذّكر مع أنّه أرسل بشيرا لأنّ التخلية قبل التحلية و كان الناس عاصين مستحقّين للتخويف فكان أوّل الأمر هو الإنذار.

[وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ] و خصّص ربّك بالتكبير اعتقادا و عملا و عظّمه عمّا يقول فيه عبدة الأوثان و سائر الظالمين و يروى أنّه لمّا نزل قال رسول اللّه: اللّه أكبر فكبّرت خديجة و أيقنت أنّه الوحي لأنّ الشيطان لا يأمر بالتكبير و الفاء لمعنى الشرط كأنّه قيل: أيّ شي ء حدث فلا تدع تكبيره و وصفه تعالى بالكبرياء، فأمره أوّلا أن ينزّه ربّه عمّا لا يليق به من الشرك.

[وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ] أي طهّر لباسك ممّا ليس بطاهر للصلاة بحفظها و صيانتها عن النجاسات و غسّلها بالماء الطاهر بعد تلطّخها فإنّه قبيح بالمؤمن الطيّب أن يحمل

ص: 291

خبيثا أو بتقصيرها أيضا فإنّ طولها يؤدّي إلى جرّ الذيول على القاذورات فيكون التطهير كناية عن التقصير لأنّه من لوازم التطهير و حدّ التقصير أن يكون إلى أنصاف الساقين أو إلى الكعب فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعل غاية طول الإزار إلى الكعب و توعّد على ما تحته بالنار.

قال عليّ عليه السّلام: قصّر ثوبك فإنّه أتقى و أنقى و أبقى، و أمر به من رفض العادات المذمومة فإنّ المشركين ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات للكبر و عدم الاستنجاس و الدين بني على الطهارة و لا يدخل الجنّة إلّا طاهر نظيف و اللّه يحبّ الناسك النظيف.

و من المعلوم أنّه كما يجب تطهير الجسم عن النجاسة يجب تطهير النفس عن الشرك و المعاصي و تنزيهها عن المعائب، و منه الحديث: يحشر المرء في ثوبيه اللّذين مات فيهما أي عمليه الخبيث و الطيّب.

[وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ] أي اهجر الأصنام و الأوثان عن ابن عبّاس و الزهريّ و مقاتل و قتادة من قبيل إيّاك أعني و قيل: المعنى اجتنب المعاصي قال الكسائيّ: الرجز بالكسر العذاب و بالضمّ الصنم و المراد اهجر ما يؤدّي إلى العذاب أو جانب الفعل القبيح و الخلق الذميم.

[وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ] أي و لا تعط مستكثرا أي يكون ما تعطيه بنظرك كثيرا أو المعنى طالبا للكثير و هو أن يهب شيئا هو يطمع أن يتعوّض من الموهوب له أكثر ممّا أعطاه و هذه النهي إمّا للتحريم و هو خاصّ بالرسول لعلوّ منصبه في الأخلاق الحسنة و لشرفه أو النهي للتنزيه، و لأمّته و قيل: و لا تمنن حسناتك على اللّه مستكثرا لها فينقّصك ذلك عند اللّه و قيل: هو نهي عن الرباء المحرّم و قيل: لا تمنن بإبلاغ الرسالة على امّتك عن الجبّائيّ.

[وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ] أي و لوجه ربّك فاصبر على أذى المشركين و على ما حمّلت من الأمور الشاقّة.

[فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ] بمعنى ما ينقر فيه و هو القرن الّذي ينفخ فيه إسرافيل مرّة للإصقاع و اخرى للإحياء فاعول من النقر بمعنى التصويت و أصله القرع الّذي هو سبب الصوت و المراد هذا النفخ إذ هو نوع ضرب للهواء الخارج من الحلقوم

ص: 292

أي فإذا نفخ في الصور و الفاء للسببيّة كأنّه قيل: اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم و تلقى عاقبة صبرك عليه.

[فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ أي عسر الأمر على الكافرين من جهة العذاب و سوء الحساب و ذلك إشارة إلى وقت النقر و هو مبتدء و يومئذ بدل منه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكّن و هو إذ و التقدير إذ نقر فيه و الخبر يوم عسير فيوم النقر يوم عسير على الكافرين [غَيْرُ يَسِيرٍ] خبر بعد خبر و تأكيد يفسّر ذلك اليوم و المراد به يوم النفخة الثانية إذ هي الّتي يختصّ عسرها بالكافرين جميعا و في الحديث: كيف أنتم و صاحب القرن قد التقم قرنه ينظر متى يؤمر أن ينفخ فيه؟ فقيل له: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف نصنع؟ قال: قولوا حسبنا اللّه و نعم الوكيل.

[سورة المدثر (74): الآيات 11 الى 31]

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَ بَنِينَ شُهُوداً (13) وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)

كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)

ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)

وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ ما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)

[ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً] أي ذرني وحدي معه فإنّي أكفيكه في الانتقام منه حال من الياء أو حال من التاء في خلقت أي خلقته وحدي أو حال من العائد المحذوف أي و من خلقته وحيدا فريدا لا مال له و لا ولد نزلت في الوليد بن المغيرة المخزوميّ و كان يلقّب في قومه بالوحيد زعما منهم أنّه لا نظير له في وجاهته و لا في ماله و كان يفتخر أيضا فسمّاه اللّه بالوحيد تحكّما به كقوله: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» و كان الوليد زنيما و ملحقا بالقوم و ليس منهم.

[وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً] أي مبسوطا كثيرا و هو ما كان له بين مكّة و طائف من صنوف الأموال و من النقد كان له ألف ألف دينار [وَ بَنِينَ شُهُوداً] و أعطيته ولدا حضورا معه بمكّة يتمتّع بمشاهدتهم لا يفارقونه لتجارة و عمل لأنّ لهم من به الكفاية لوفور نعمهم و خدمهم و كانوا معه حاضرين في الأندية لوجاهتهم و اعتبارهم و كان للوليد عشرة بنين أسلم منهم ثلاثة خالد و هشام و عمارة و لكن إسلام عمارة غير موجّه بل قتل كافرا يوم بدر أو في الحبشة و لكن قالوا: أسلم خالد بن الوليد الّذي يقال له «سيف اللّه» و الوليد بن الوليد و هشام بن الوليد.

[وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً] أي و بسطت له الجاه و الرياسة فأتممت عليه النعمة في

ص: 293

الدنيا و لذا كان يلقّب بريحانة قريش [ثُمَّ يَطْمَعُ و يرجو [أَنْ أَزِيدَ] على ما آتيته من المال و الولد و ثمّ استبعاد و استنكار مطمعه و حرصه.

[كَلَّا] ردع له عن طمعه و قطع لرجائه [إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً] و العناد و المجانبة و المعارضة بالخلاف و العنيد بمعنى المعاند كالجليس بمعنى المجالس لأنّ إنكار الآيات القرآنيّة مع وضوحها هو المعاندة و إنّما اوتي ما اوتي من المال استدراجا قيل: ما زال يعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله حتّى هلك و هو فقير.

[سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً] رهقه الأمر غشيه بقهر و الصعود العقبة الشاقّة و يستعار لكلّ مشاقّ و صعود فعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكّر و المؤنّث فيكون من قبيل تسمية المحلّ باسم الحالّ أو باعتبار معنى الطريق و حاصل المعنى سأكلّفه كرها ارتقاء عقبة شاقّة المصعد و تغشاه حالة تصعد فيها نفسه النزع و لم يتعقّبه موت أو الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثمّ يهوي كذا أبدا و المراد من الخريف العام لأنّ الخريف آخر السنه فيه تتمّ الثمار و تدرك فصار لهذه المناسبة كأنّه العام كلّه.

[إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ] تعليل للوعيد أي فكّر و عمل فكره في حقّ القرآن ما يصنع به من التكذيب و الطعن فيه و قدّر في نفسه ما يقوله و هيّأه.

[فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ] تعجيب من تقديره أي هذا الّذي هيّأه و ذكره من أنّ القرآن سحر في غاية الركاكة.

و بيان ذلك أنّ الوليد مرّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقرء حم السجدة أو حم المؤمن فقال لبني مخزوم: و اللّه لقد سمعت من محمّد كلاما ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجنّ إنّ له لحلاوة و إنّ عليه لطلاوة أي حسنا و قبولا و إنّ أعلاه لمثمر و إنّ أسفله لمغدق أي ريّان، شبّه القرآن بالشجرة الغضّة الطريّة الّتي استحلم أصلها بكثرة الماء و أثمرت فروعها في السماء و أثبت له أعلى و أسفل و لأعلاه الثمار و لأسفله الأغداق على طريق الاستعارة التخييليّة ثمّ قال الوليد: و إنّه يعلو و لا يعلى، فقالت قريش: صبأ و اللّه الوليد و لتصبأنّ قريش كلّهم بمتابعته لكونه رئيس القوم، فقال ابن أخيه أبو جهل:

أنا أكفيكموه فقعد عنده حزينا و كلّم وليدا ما أغضبه و قال له: توقّر محمّدا و تعظم كلامه

ص: 294

لأن تأكل من فضل طعامه و تنتفع منه إن كان هذا مقصودك فليجتمع قريش و يجمعون لك من المال ما يغنيك فغضب الوليد من كلامه و قال: ألم تعلم قريش أنّي من أكثرهم مالا و ولدا و أصحاب محمّد لم يشبعوا؟ ثمّ قام الوليد و قام أبو جهل و وردا على قريش في مجتمعهم فقال الوليد: اعلموا أنّ أمرّ محمّد قد انتشر في العرب و الموسم قريب فإن اجتمعت العرب لمناسكهم و سألتكم عن حال محمّد فما ذا تقولون؟ تزعمون أنّه مجنون فهل رأيتموه يختنق؟ لأنّ العرب كانت تعتقد أنّ الشيطان يختنق المجنون و يتخبّطه، أو تقولون إنّه كاهن فهل رأيتموه يتكهّن؟ أو تزعمون أنّه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قطّ؟ أو تزعمون أنّه كذّاب فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا في كلّ ذلك:

اللّهم لا. ثمّ قالوا: فما هو و ما تقول في حقّه؟ ففكّر فقال: ما هو إلّا ساحر أما رأيتموه يفرّق بين المرء و أهله و ولده و مواليه و ما الّذي يقوله إلّا سحر يأثر عن مسيلمة و عن أهل بابل فارتج الناس فرحا و تفرّقوا معجبين بقوله.

[ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ] تكرير للتعجّب للمبالغة في التشنيع و ثمّ للدلالة على أنّ الفكرة الثانية في التعجيب أبلغ من الاولى.

[ثُمَّ نَظَرَ] في القرآن و تأمّل فيه [ثُمَّ عَبَسَ و قلب وجهه و قطب لمّا لم يجد فيه مطعنا و كره كالمهتمّ المتفكّر [وَ بَسَرَ] أي قبض بين عينية من السوء و اسودّ وجهه منه و إمّا إتباع لعبس و حاصل المعنى قاتله اللّه كيف قدّر في آياتنا ما قدّر مع وضوح الحجّة! [ثُمَّ أَدْبَرَ] عن الحقّ و لم يقرّ به و استكبر عن اتّباعه [فَقالَ بعد تولّيه عن الحقّ: [إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ] أي ما هذا القرآن الّذي يقرؤه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا سحر مأثور و منقول ينقله يقال: آثرت الحديث إذا حدّثت به عن قوم ينقله خلف عن سلف.

[إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ] إن نافية تأكيد لما قبله و لذا أخلى عن العاطف قاله اللعين تمرّد احسبما شرّح في صدر الجملة من شرح حاله و أراد يسار أو جبر أو أبا فكيهة أمّا الأوّلان فكانا عبدين من بلاد فارس و كانا بمكّة و كان النبيّ يجلس معهما و أمّا أبو فكيهة فكان غلاما روميّا يتردّد إلى مكّة من طرف مسيلمة الكذّاب من اليمامة فلو كان

ص: 295

سحرا كما قال أو كلام البشر فهلّا أتوا بمثله؟

[سَأُصْلِيهِ سَقَرَ] أي أدخله جهنّم، و سقر اسم من أسماء النار أو طبقة من جهنّم طبقته السادسة يقال: سقرته الشمس إذا آذته و آلمته، و سمّيت سقر لإيلامها. قوله:

«سأصليه سقر» بدل من «سأرهقه صعودا» بدل الاشتمال.

[وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ] «ما» الاولى مبتدء و أدراك خبره و ما الثانية خبر لقوله:

«سقر» لأنّها المفيدة لما قصد من التهويل و المعنى أيّ شي ء أعلمك ما سقر؟ يعني خارج عن دائرة إدراك العقول شدّتها.

[لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ] أي لا تبقي شيئا تلقى فيها إلّا أهلكته بالإحراق و إذ أهلك لم تذره هالكا حتّى يعاد خلقا جديدا و تهلكه إهلاكا ثانيا كما قال: «نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» و لا تبقي و لا تذر لأنّها خلقت من غضب الجبّار.

[لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ] لاحت النار الشي ء إذا أحرقته و سوّدته أي مغيّرة للجلود حتّى أشدّ سوادا من الليل. فإن قيل: وصف الجلود بتسويد البشر مع قوله: «لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ» كيف يطابق؟ فالجواب إنّ لمراتب العذاب درجات و ليس في الآية دلالة على أنّها تفنى بالكلّيّة و لو دلّ على الفناء فيكون بعد التسويد و قيل: المعنى في «لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ» أي لائحة للناس و هي للبشر من مسيرة خمسمائة عام فهو في المعنى كقوله: «وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ»* فيصل إلى الكافر سمومها و حرورها كما يصل إلى المؤمن ريح الجنّة و نسيمها من مسيرة خمسمائة عام.

[عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ] أي على جهنّم و سقر تسعة عشر ملكا يتولّون أمرها و هم مالك و ثمانية عشر معه أعينهم كالبرق الخاطف و أنيابهم كالصياصى و أشعارهم تمسّ أقدامهم يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة نزعت منهم الرحمة يأخذ أحدهم سبعين ألفا في كفّه و يرميهم حيث أراد من جهنّم و هذه التسعة عشر عدد الرؤساء و النقباء و أمّا جملة أشخاصهم فكما قال: «وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ».

[وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ] أي المدبّرين لأمرها القائمين بتعذيب أهلها و تقدير

ص: 296

الآية. و ما جعلنا خزنة أصحاب النار فحذف المضاف [إِلَّا مَلائِكَةً] جعلنا شهوتهم في تعذيب أهل النار و ليخالفوا جنس المعذّبين من الثقلين و الملائكة أقوم بحقّ اللّه و الغضب له تعالى و أشدّهم بأسا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقوّة أحدهم مثل قوّة الثقلين يسوق أحدهم الامّة و على رقبته جبل فيرمي بهم في النار و يرمي الجبل عليهم، و يسع كفّ أحدهم مثل ربيعة و مضر.

و يروى أنّه لمّا نزل قوله تعالى: «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» قال أبو جهل: أ يعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأسود الجمحيّ- و كان شديد البطش و القوّة حتّى كان من قوّته أنّه إذا قام على أديم و اجتمع جماعة على إزالة رجليه عنه لم يقدروا عليه فكانوا يشدّون و يجرّون الأديم حتّى ينقطع قطعا و رجلاه على حالهما-:

أنا أكفيكم سبعة عشر عنهم فاكفوني أنتم اثنين فنزلت الآية أي و ما جعلنا هم رجالا من جنسكم يطافون فمن ذا الّذي يغلب الملائكة و الواحد منهم له من القوّة ما يقلّب جملة من الأرض فيجعل عاليها سافلها و الواحد منهم يأخذ أرواح جميع الخلق.

[وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا] أي و ما جعلناهم على هذه العدد إلّا محنته و تشديدا في التكليف للكفّار و الجاحدين بوحدانيّته حتّى يتفكّروا فيعلموا أنّه القادر الحكيم لأنّهم إذا رجعوا عقولهم لعلموا أنّ من سلّط ملكا واحدا على كافّة بني آدم لقبض أرواحهم فلا يغلبونه قادر على سوق بعضهم إلى النار فهم ما تدبّروا بعقولهم هذا الأمر بل استبعدوا لتولّي هذا العدد القليل أمر الجمّ الغفير و تحقّق افتتانهم باستقلالهم للعدد.

[لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى أنّه حقّ و أنّ محمّدا صادق و ليكتبوا اليقين بنبوّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صدق القرآن لما شاهدوا ما فيه موافقا لما في كتبهم حيث أخبر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما هو في كتبهم من غير قراءة لها [وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً] بما رأوا من تسليم أهل الكتاب و تصديقهم أنّه في كتبنا كذلك [وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ تأكيد لما قبله من الاستيقان و ازدياد الإيمان أي و لئلا يشكّ أهل الكتاب لأنّ العدد المذكور في كتابهم فليستيقن من لم يؤمن

ص: 297

بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من آمن بصحّة نبوّته إذا تدبّر.

[وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا] اللّام لام العاقبة أي عاقبة أمر الّذين في قلوبهم من الأمراض الباطنة من قبيل الشكّ و النفاق و الكافرون الجازمون في التكذيب: أيّ شي ء أراد بهذا العدد المخصوص و ممثّلا به؟ و قيل:

المعنى: و لأن يقولوا: ماذا أراد اللّه بهذا الوصف و العدد فتدبّروه فيؤدّي بهم التدبّر في ذلك إلى الإيمان.

[كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ] ذلك إشارة إلى ما قبله من المذكور من جعل خزنة النار ملائكة ذوي عدد معيّنة محنة و اختبارا ليظهر الضلال و الهدى و أضافهما إلى نفسه لأنّ سبب التكليف و هو من جهته تعالى فالاختبار من جانبه تعالى و الاختيار من جانبهم و ليس المعنى أنّه تعالى أضلّهم و إنّما وقع الضلال بعنادهم و إنكارهم الحقّ و ذلك بصرف اختيارهم السوء كأبي جهل و أصحابه لكنّ اللّه لمّا علم بعلمه الأزليّ أنّه سيمتحن و يكفر بآياته كتبه في الأشقياء و ذلك بإحاطة علمه المعلومات أي هو عالم بأنّ هذا الأمر سيقع و قيل: معنى يضلّ اللّه عن طريق الجنّة و الثواب من يشاء و يهدي من يشاء إليه كهداية أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكما أنّه تعالى ما أجبر أصحاب أبي جهل على الضلالة كذلك ما أجبر أصحاب محمّد على الهداية.

[وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ أي جموع خلقه الّتي من جملتها الملائكة و لم يجعل خزنة النار تسعة عشر لقلّة جنوده بل بهم الكفاية و الحكمة اقتضت هذا العدد و هذا الكلام جواب أبي جهل حيث قال: ما لمحمّد أعوان إلّا تسعة عشر أو المعنى و ما يعلم عدّة الملائكة الّذين خلقهم اللّه لتعذيب أهل النار إلّا اللّه لكن هؤلاء التسعة عشر رؤساؤهم و لهم من الأعوان و الجنود [إِلَّا هُوَ].

ثمّ رجع إلى ذكر سقر فقال: [وَ ما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ] أي السقر و ذكر صفتها ما هي إلّا موعظة و تذكرة و إنذار للبشر بسوء عاقبة الكفر و تخصيص الإنس مع أنّها تذكرة للجنّ أيضا لأنّهم هم الأصل في القصد بالتذكرة.

و قيل: الضمير راجع إلي نار الدنيا إلّا تذكرة للبشر من نار الآخرة حتّى

ص: 298

يتفكّروا فيها و يحذروا نار الآخرة أو المراد ما هذه التسعة عشر إلّا عبرة للخلق فليستدلّوا بذلك على كمال قدرة اللّه.

في الكافي عن الكاظم عليه السّلام يعني ولاية عليّ ذكرى للبشر كما في قوله تعالى:

«إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ» قال: المراد الولاية و كذلك في قوله: «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» يعني من تقدّم إلى ولايتنا أخّر عن سقر و من تأخّر عن ولايتنا تقدّم إلى سقر، و الاستثناء في قوله «إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ» قال عليه السّلام: اليمين أمير المؤمنين فأصحاب اليمين شيعته، و قد حرّفوا فلا تصغ إلى كلّ ناعق.

[سورة المدثر (74): الآيات 32 الى 56]

كَلاَّ وَ الْقَمَرِ (32) وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)

لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)

ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)

حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَ ما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

ثمّ أقسم سبحانه على عظيم ما ذكر من الوعيد فقال:

[كَلَّا] ردع لمن أنكر سقر أي ارتدع عن إنكارها أيّها المنكر فإنّها حقّ [وَ الْقَمَرِ] مقسم به مجرور بواو القسم تنبيه على عجائب القمر في حركاتها المختلفة على نظام واحد لا يختلّ و قيل: بحذف المضاف أي بخالق القمر، و القمر الهلال بعد ثالثه [وَ اللَّيْلِ معطوف على القمر و كذا الصبح أي و بالليل و بالصبح [إِذْ أَدْبَرَ] و إذا ظرف للماضي أي انصرف و ذهب [وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ] إذا ظرف لما يستقبل من الزمان و استعمل إذا نظرا إلى تأخّره عن الليل من وجه أسفر أي أضاء و انكشف و الصبح الفجر أو أوّل النهار و الصبح و الصباح بمعنى واحد و هو انفجار شعاع الشمس من الفلك الأسفل إذا ظهرت.

ص: 299

[إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ] جواب للقسم و «الكبر» جمع الكبرى، و المعنى إنّ سقر لإحدى الدواهي الكبر مثل ركبة و ركب و ألف التأنيث مثل تائه أو المعنى أنّ آيات القرآن لإحدى الكبر في الوعيد.

[نَذِيراً لِلْبَشَرِ] أي منذرا مخوّفا و نصب نذيرا إمّا على التمييز أو على الحال و النذير مصدر كالنكير و على التمييز فالمعنى لإحدى الكبر إنذارا و على الحال أي إنّها لإحدى الكبر منذرة و حذف التاء مع أنّ فعيلا بمعنى فاعل يفرق بين المذكّر و المؤنّث لكون ضمير إنّها أو النذير بمعنى ذات إنذار على معنى النسب كقولهم امرأة لابن و تامر و طاهر أي ذات طاهر طهارة [لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ] بدل من للبشر أي نذيرا لمن شاء منكم أن يسبق إلى الجنّة و الطاعة فبهداية اللّه أو لم يشأ ذلك و يتأخّر بالمعصية فيضلّه عن طريق الجنّة و في الآية بيان أنّ لكسب العبد دخلا في حصول المرحوميّة.

[كُلُّ نَفْسٍ من نفوس الجنّ و الإنس المكلّفين [بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ] مرهونة عند اللّه بكسبها محبوسة ثابتة و أرهنته أي تركته مقيما و ثابتا عنده، و نفس المكلّف محبوسة عند اللّه بما أوجبه عليه من التكاليف الّتي هي حقّ خالص له تعالى فإن أدّاها المكلّف كما وجبت عليه فكّ رقبته و خلّص نفسه و إلّا بقيت محبوسة.

و قال بعضهم: الرهينة اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم و الياء للنقل من الوصفيّة إلى الاسميّة أو التاء للمبالغة و ليس أي الرهينة صفة و إلّا لقيل رهين لأنّ فعيلا بمعنى مفعول لا يدخله التاء بل يستوي فيه المذكّر و المؤنّث إلّا أن يحمل على الفاعل فإنّه يؤتى في مؤنّثه بالتاء كما قال الراغب: إنّه بمعنى الفاعل أي ثابتة و مقيمة.

[إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ استثناء متّصل من النفوس، و أصحاب اليمين أهل الأعمال الصالحة من المؤمنين فإنّهم فاكّون رقابهم بحسن أعمالهم [فِي جَنَّاتٍ أي كائنون في جنّات و التنكير لبيان أنّ الجنّات لا يوصف وصفها.

[يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ يسأل بعضهم بعضا و قيل: المعنى فمن يتساءلون

ص: 300

عن المجرمين عن حالهم و عن ذنوبهم الّتي استحقّوا بها النار [ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ] أي أيّ شي ء أدخلكم فيها من قوله: سلكت الخيط في الإبرة و ذلك السؤال توبيخا لهم.

[قالُوا] أى المجرمين مجيبين للمسائلين: [لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ للصلاة الواجبة بعدم إقرارنا بفرضيّة الصلاة و عدم أدائها سلكنا فيها [وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ على معنى استمرار نفي الإطعام لا على نفي استمرار الإطعام، و المراد الإطعام الواجب مثل الزكاة و كانوا يقولون (1): «أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» و في الآية دلالة على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع [وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أي كنّا نشرع في الباطل مع الشارعين فيه و المراد ذمّ النبيّ و أصحابه بقولهم بأنّه: شاعر أو ساحر و الخوض الشروع في القبيح و الباطل و ما لا ينبغي [وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ و الجزاء حتّى [أَتانَا الْيَقِينُ أي الموت و سمّي باليقين لأنّه أمر متيقّن لا شكّ في إتيانه.

[فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ أي لو فرض هذا الأمر المحال لو اجتمع الأنبياء و الملائكة على شفاعتهم لا تنفعهم تلك الشفاعة و ليس المراد أنّهم يشفعون لهم إذ الشفاعة موقوفة بالإذن و قابليّة المحلّ، فلو وقعت من المأذون للقابل قبلت و الكافر ليس بقابل لها فلا إذن في الشفاعة له، و لا شفاعة فلا نفع في الحقيقة.

و في الآية دلالة على صحّة الشفاعة و نفعها للعصاة من المؤمنين و إلّا لما كان لتخصيصهم بعدم منفعة الشفاعة وجه قال ابن مسعود: تشفع الملائكة و النبيّون و الشهداء و الصالحون و جميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلّا أربعة ثمّ تلا قوله: «لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلى قوله بِيَوْمِ الدِّينِ» و قال ابن عبّاس: إنّ محمّدا يشفع ثلاث مرّات ثمّ تشفع الملائكة ثمّ الأنبياء ثمّ الآباء ثمّ الأبناء ثمّ يقول اللّه: بقيت رحمتي و لا يدع في النار إلّا من حرمت عليه الجنّة و يقول الرجل من أهل النار لواحد من أهل الجنّة: يا فلان أما تعرفني أنا الّذي سقيتك شربة و يقول آخر، أنا الّذي وهبت لك وضوء و يقول آخر:

أطعمتك لقمة، و آخر: كسوتك خرقة و على هذا فيشفع له فيدخله الجنّة إمّا قبل دخول النار أو بعده.

ص: 301


1- سورة يس: 47.

[فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أي أيّ شي ء تسبّب لهم و لم أعرضوا و تولّوا و لم يؤمنوا بالقرآن؟ و التذكرة التذكير بمواعظ القرآن و لم نفروا عنه؟ [كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ] حال من ضمير معرضين و حمر جمع حمار و هو معروف و يكون وحشيّا و هنا هو المراد كأنّهم حمر وحشيّة هاربة من الأسد لأنّها إذا عاينت الأسد هربت منه كذلك هؤلاء الكفّار إذا سمعوا النبيّ يقرء القرآن هربوا منه و قيل: القسورة الرماة و رجال القنص أو حبالهم و القسورة فعولة من القسر و هو القهر و الغلبة لأنّه يغلب السباع و يقهرها. و في الآية من تهجين حالهم حيث كانوا يهربون من استماع القرآن شبّه سبحانه حالهم بحال الحمير النافرة قيل: إنّ واحدا من العلماء كان يعظ الناس في مسجد جامع و حوله جماعة كثيرة فرأى ذلك رجل من الحمقاء و كان قد فقد حماره فنادى للواعظ و قال إنّي فقدت حماري فاسأل هذه الجماعة لعلّ واحدا منهم رآه فقال له الواعظ: اقعد مكانك حتّى أدلّك عليه فقعد الرجل فإذا واحد من أهل المسجد قام و أخذ في أن يذهب فقال الواعظ للرجل: خذ هذا فإنّه حمارك فإنّه فرّ من تذكرة الملك العلّام.

[بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً] عطف على مقدّر يقتضيه المقام كأنّه لا يكتفون و لا يرضون بتلك التذكرة بل يريد كلّ واحد منهم كتبا من السماء تنزل بأسمائهم أن: يا فلان آمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و ذلك أنّ أبا جهل بن هشام و عبد اللّه بن اميّة و أصحابهما قالوا لرسول اللّه:

لن نتّبعك حتّى تأتي كلّ واحد منّا بكتب من السماء أو يصبح عند رأس كلّ رجل منّا أوراق منشورة عنوانها: من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان، نؤمر فيها باتّباعك.

و قيل: المعنى أنّهم يريدون من اللّه البراءة من العقوبة و إسباغ النعمة حتّى يؤمنوا و إلّا أقاموا على كفرهم و قيل: يريد كلّ واحد منهم أن يكون رسولا يوحى إليه خصوصا و أنف أن يكون تابعا.

[كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ] ردع عن اقتراحهم فإنّهم إنّما اقترحوه لا هدى و إرشادا بل لأجل عدم خوفهم من عذاب الآخرة بسبب عدم عقيدتهم بها و مستهلكين في محبّة الدنيا.

ص: 302

[كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ليس الأمر كذلك إنّ القرآن مذكّر و الضمير في إنّه و في ذكره راجع إلى التذكرة و التذكير لأنّها بمعنى الذكر و هو مذكّر أي تذكير للحقّ و عدل إليها للفاصلة فمن شاء أن يتّعظ به و يتذكرّ منه و جعله نصب عينيه قبل الحلول في القبر فإنّه ممكن ذلك.

[وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هذه المشيّة في قوله: «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» غير المشيّة الاولى إذ لو كانت واحدة لتناقض الكلام فالاولى مشيّة اختبار و الثانية مشيّة إجبار و المعنى أنّ هؤلاء الكفّار لا يذكرون إلّا أن يجبرهم اللّه تعالى على ذلك و ذلك مناف للتكليف [هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ] أي هو تعالى حقيق أن يتّقى عقابه و محارمه و أهل أن يغفر الذنوب.

قال أنس: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلا هذه الآية فقال: قال اللّه سبحانه:

أنا أهل أن اتّقى فلا تجعل معي إلها، فمن اتّقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له تمّت السورة بعون اللّه

ص: 303

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.