مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر المجلد 8

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

اشارة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

سورة الفرقان

اشارة

مكية إلّا ثلاث آيات نزلت بالمدينة من قوله: «وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ- إلى قوله- غَفُوراً رَحِيماً». سبع و سبعون آية.

فضلها:

عن ابيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة الفرقان بعث يوم القيامة و هو يؤمن أنّ الساعة آتية لا ريب فيها و أنّ اللّه يبعث من في القبور و دخل الجنّة بغير حساب.

و روى إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: يا ابن عمّار لا تدع قراءة تبارك فإنّ من قرأها في كلّ ليلة لم يعذّبه اللّه أبدا و لم يحاسبه و كان منزله في الفردوس الأعلى.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفرقان (25): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً (3) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (4)

وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)

تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)

[تَبارَكَ تفاعل من البركة و البركة كثرة الخير و ثبوته أي تزايد و تكاثر خيره عن كلّ شي ء في ذاته و صفاته و جلّ بوجوب وجوده و قدمه عن جواز الفناء و التغيّر و منزّه أن يكون علمه كسبيّا أو تصوّريّا و تعالى شأنه من أن يكون قدرته محتاجة إلى مادّة أو مدّة و مثال و أصل الكلمة من بروك الإبل بمعنى الثبوت و البقاء أي باق سبحانه في ذاته أزلا و أبدا يمتنع التغيّر و التبدّل.

و لمّا قال سبحانه: «تَبارَكَ» و معناه كثرة الخير و البركة فذكر عقيب هذه الكلمة أمر القرآن للدلالة على أنّ القرآن منشأ الخيرات و أعمّ البركات و هو المنبع للعلوم

ص: 3

و المعارف فالعلم بأحكام اللّه أشرف المخلوق و أعظم الأشياء خيرا و بركة [الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ و الفرقان هو القرآن وصف بذلك لأنّ به يفرق بين الحقّ و الباطل و الصواب و الخطاء. و المراد بالعبد محمّد صلّى اللّه عليه و آله ليكون هذا العبد بالقرآن نذيرا لأهل العالم، و على قول من قال: إنّ الضمير في «يكون» راجع إلى الفرقان فأضاف الإنذار إلى الفرقان كما أضاف الهداية إليه في قوله: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي» (1) و هو بعيد لأنّ الإنذار و المنذر من صفة الفاعل و إذا وصف به القرآن فهو مجاز و حمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن هو الواجب.

ثمّ قالوا: إنّ الآية تدلّ على امور: الأوّل أنّ العالم كلّ ما سوى اللّه و يتناول جميع المكلّفين من الجنّ و الإنس و الملائكة و يبطل بهذا قول من قال: إنّه كان رسولا إلى بعض دون بعض فرسالته على الخلق عامّة و بقوله: «وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» (2) خاتميّته إلى يوم القيامة.

قالت المعتزلة: دلّت الآية على أنّه سبحانه أراد من الكلّ الإيمان و فعل الطاعات لأنّه إنّما بعثه إلى الكلّ فيكون نذيرا للكلّ فأراد من الكلّ الاشتغال بالحسن و الإعراض عن القبيح.

ثمّ وصف سبحانه نفسه فقال: [الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً] كما زعمت اليهود و النصارى و المشركون [وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ فيشاركه فيما خلق و يمنعه عن مراده [وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ] ممّا يطلق عليه اسم المخلوق [فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً] فيما اقضته الحكمة. و التقدير تبيين مقادير الأشياء بأن كتبها على مقاديرها في اللوح.

و قيل: معناه قدّر طوله و عرضه و لونه و مدّة كونه و بقائه.

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار فقال: [وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي دون اللّه [آلِهَةً] من الأصنام و الأوثان و وجّهوا عبادتهم إليها.

ثمّ وصف آلهتهم بما ينبئ عن عدم الاستحقاق للعبادة فقال: [لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ

ص: 4


1- الإسراء: 9.
2- الأحزاب: 40.

أي هي غير خالقة بل مخلوقة مصنوعة [وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا] فيدفعونه عن أنفسهم [وَ لا نَفْعاً] فيجرّونه إلى أنفسهم [وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً] أي لا يستطيعون إماتة و لا إحياء [وَ لا نُشُوراً] و لا إعادة بعد الموت فإنّ جميع هذه الأمور يختصّ اللّه بالقدرة عليه فكيف يعبدون من لا يقدر على شي ء من ذلك و يتركون عبادة ربّهم الّذي يملك ذلك كلّه.

ثمّ أخبر سبحانه عن تكذيبهم بالقرآن فقال: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ أي ما هذا القرآن إلّا كذب اختلفه محمّد من تلقاء نفسه [وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قالوا: أعان محمّدا على هذا القرآن عداس مولى حويطب بن عبد العزّى و يسار غلام العلاء بن الحضرميّ و جبير مولى عامر و كانوا من أهل الكتاب، و قيل: قالوا: أعانه قوم من اليهود [فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً] أي فقد قالوا شركا و كذبا حين زعموا أنّ القرآن ليس من اللّه.

و متى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم؟ قلنا: إنّه لمّا تقدّم التحدّي و عجزهم عن الإتيان بمثله اكتفى بالتنبيه على ذلك.

[وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها] قالوا: هذا حديث المتقدّمين و ما سطروه في كتبهم انتسخها و استكتبها محمّد [فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا] أي هذه الأحاديث تقرأ عليه طرفي نهاره حتّى يحفظها صبحا و عشيّا.

[قُلْ أنزل القرآن [الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً] فإن قيل: كيف يكون هذا الكلام جوابا عن كلامهم؟ لأنّ القرآن مشتمل على الأخبار عن الغيوب و ذلك لا يتأتّى إلّا من العالم بكلّ المعلومات، و أيضا أنّ القرآن جامع لنظام مصالح العباد و ذلك لا يكون إلّا من العالم بالمصلحة كما قال سبحانه: «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (1) فلمّا دلّ القرآن من هذه الوجوه على أنّه ليس القرآن إلّا كلام اللّه لا جرم هذا البيان صار بيانا لهم و جوابا شافيا قوله «قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و من جملة ما تسرّونه أنتم المنافقون من الكيد لرسوله.

ص: 5


1- النساء: 81.

و إنّما ذكر سبحانه في هذا المواضع «الغفور الرحيم» تنبيها على أنّهم استوجبوا بكيدهم أن يصبّ عليهم العذاب صبّا و لكن صرف ذلك عنهم بكونه سبحانه غير مستعجل في العقوبة غفور رحيم يمهل بهم بإرسال الرسل إليهم.

ثمّ أوردوا شبهة اخرى في نبوّته و هي أركك من الاولى بل شبهات ركيكة أوردوها بزعمهم أنّها تخلّ بالرسالة:

احداها قولهم: [ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ .

و ثانيتها: [وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ يعني إنّه لمّا كان كذلك فمن أين له الفضل علينا و هو مثلنا في هذه الأمور؟

و ثالثتها: [لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً] أي هلّا انزل إليه ملك يصدّقه و يشهد له؟

و رابعتها: [أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ] أي من السماء فينفقه و لا يحتاج إلى طلب المعاش.

و خامستها: [أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها] و قرئ نأكل منها بالنون و المعنى إن لم يكن له كنز فلا أقلّ من أن يكون كواحد من الدهاقين فيكون له بستان يأكل و يعيش منه.

و سادستها: [إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً] أي ما تتّبعون إلّا رجلا قد سحر فغلب على عقله أو المفعول بمعنى الفاعل أي ساحرا و ذا سحر.

قوله تعالى: [انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا] انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال و النسب الّتي نسبوها إليك و لا فائدة فيها لهم لأنّ مثل هذه الأمور الّتي زعموها قدحا لك في نبوّتك فاسد و لا تقدح في معجزة كتابك و لا في نبوّتك و إنّهم أرادوا القدح و ما وجدوا إلى طريق قدح نبوّتك سبيلا و ضلّوا لإلزامك إيّاهم بنبوّتك الحجّة عليهم و ما أوردوا عليك حجّة في إبطال أمرك.

قوله تعالى: [تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ أي تقدّس الإله الّذي إن أراد جعل لك خيرا من ذلك الّذي ذكروه من نعم الدنيا كالكنز و الجنّة.

ص: 6

ثمّ فسّر ذلك الخير بقوله: [جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً] و حاصل المعنى أنّه قادر على أن يعطي الرسول كلّ ما ذكروه و لكنّه يدبّر عباده بحسب المصلحة أو على وفق المشيئة فيفتح على واحد أبواب المعارف و العلوم و يسدّ عليه أبواب الدنيا، و في حقّ الآخر بسبب استحقاقه بالعكس و الثاني يقع بسوء اختيار المكلّف، و قد عيّره المشركون بفقد جنّة واحدة و هو قادر بإعطائك جنّات كثيرة.

و قال قوم «إن» هاهنا بمعنى «إذن» أي قد جعلنا لك في الآخرة جنّات و بنينا لك قصورا و إنّما ادخل «إن» تنبيها للعباد على أنّه لا ينال ذلك إلّا برحمته و أنّه خلق على محض مشيئته.

و في مصحف ابيّ و ابن مسعود: «تبارك الّذي إن شاء يجعل».

و عن ابن عبّاس و طاوس قال: بينا رسول اللّه جالس و جبرئيل عنده قال جبرئيل:

هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربّه في زيارتك فلم يلبث إلّا قليلا إذ جاء الملك و سلّم على رسول اللّه و قال: إنّ اللّه يخيّرك بين أن يعطيك مفاتيح كلّ شي ء لم يعطها أحدا قبلك و لا يعطيه أحدا بعدك من غير أن ينقصك ممّا ادّخر لك شيئا فقال صلّى اللّه عليه و آله: بل يجمعها جميعا لي في الآخرة فنزل قوله: «تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ» الآية.

و عن ابن عبّاس قال صلّى اللّه عليه و آله: عرض عليّ جبرئيل بطحاء مكّة ذهبا فقلت: شبعة و ثلاث جوعات و ذلك أكثر لذكري و مسألتي لربّي. و في رواية اخرى: أشبع يوما و أجوع ثلاثا فأحمدك إذا شبعت و أتضرّع إليك إذا جعت.

و عن الضحّاك لمّا عيّر المشركون رسول اللّه بالفاقة نزل جبرئيل معزّيا له و قال: إنّ اللّه يقرؤك السّلام و يقول: و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلّا إنّهم ليأكلون الطعام قال: بينما جبرئيل و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يتحدّثان إذ فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك ثمّ قال: أبشر يا محمّد هذا رضوان خازن الجنّة قد أتاك بالرضا من ربّك فسلّم عليه و قال: إنّ ربّك يخيّرك بين أن تكون نبيّا ملكا و بين أن تكون نبيّا عبدا و معه سفط من نور يتلألأ ثمّ قال: فهذه مفاتيح خزائن الدنيا فاقبضها من غير أن ينقصك اللّه ممّا أعدّ لك في الآخرة جناح بعوضة فنظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى جبرئيل كالمستشير فأومأ بيده أن تواضع فقال رسول

ص: 7

اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بل نبيّا عبدا فكان صلّى اللّه عليه و آله بعد ذلك لم يأكل متّكئا.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 11 الى 20]

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (12) وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً (15)

لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لا نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

ثمّ شرح حال المكذّبين نبوّته و ما أعدّه لهم على قبيح أقوالهم و عقائدهم فقال:

سبب تكذيبهم إيّاك ليس لأنّك تأكل الطعام و تمشي في الأسواق بل لأنّهم لم يقرّوا بالبعث و النشور و الثواب و العقاب و لهذا أنكروا نبوّتك و ما قبلوا ما أمرتهم و لهذا قال:

[بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا] أي و هيّأنا [لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً] أي نارا تتلظّى. و في الآية دلالة صريحة على أنّ جهنّم مخلوقة موجودة معدّة.

ثمّ وصف ذلك السعير فقال: [إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً] و نسب الرؤية إلى النار و إنّما يراها الكفّار لأنّ ذلك أبلغ كأنّها تراهم رؤية الغضبان الّذي يزفر غيظا من مسيرة مائة عام.

هذا قول الطبرسيّ، و أمّا ما قاله الرازيّ في المفاتيح قال: مذهب أصحابنا أنّ البنية ليست شرطا في الحياة فالنار على ما هي عليه يجوز أن يخلق الحياة و النطق فيها فيجب إجراؤه على الظاهر لأنّه لا امتناع في أن تكون النار حيّة رائية مغتاظة على الكفّار، و عند المعتزلة ذلك غير جائز و ليس لهم في هذا الإنكار حجّة إلّا استقراء العادات و هذا الكلام

ص: 8

لا يليق إلّا بأصول الفلاسفة فالمعتزلة احتاجوا إلى التأويل و ذكروا فيه وجوها: أحدها معنى رأتهم ظهرت لهم من قولهم: دورهم تتراءى و تتناظر. قال عليه السّلام: إنّ المؤمن و الكافر لا تتراءى ناراهما أي لا تتقابل لما يجب من مخاطبة المؤمن الكافر و المشرك. و يقال دور فلان متناظرة أي متقابلة.

و قال الجبّائيّ: انّ اللّه تعالى ذكر النار و أراد الخزنة الموكّلة بتعذيب أهل النار كقوله: «و اسأل القرية (1)» أراد أهلها. و لو قيل: إنّ التغيّظ عبارة عن شدّة الغضب و ذلك لا يكون مسموعا فكيف قال:

«سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً»؟

فالجواب أنّ التغيّظ و إن لم يسمع و لكن يسمع ما يدلّ عليه من الصوت كقولهم:

رأيت غضب الأمير على فلان إذا رأى ما دلّ عليه أي سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيّظ.

و الجواب الثاني ما قاله الزجّاج، المعنى: علموا لها تغيّظا و سمعوا لها زفيرا كقول الشاعر: «متقلّدا سيفا و رمحا» و الروح ما يتقلّد. روي عن عبيد بن عمر: إنّ جهنّم لتزفر زفرة لا يبقى أحد إلّا و ترعد فرائصه حتّى أنّ ابراهيم عليه السّلام يجثو على ركبتيه و يقول: نفسي نفسي.

قوله تعالى: [وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً] لمّا وصف حال الكفّار حال يكونون بالبعد من جهنّم وصف حالهم في هذه الآية عند ما يلقون فيها نعوذ باللّه منها بما لا شي ء أبلغ منه قال بعضهم: إنّ جهنّم لتضيق على الكافر كضيق الزجّ (2) على الرمح و سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك فقال: و الّذي نفسي بيده انّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط.

و قال الكلبيّ الأسفلون يرفعهم اللّهيب، و الأعلون يحفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب الضيّقة، و كما أنّ اللّه سبحانه جمع الأهل الجنّة أنواع الملاذّ كذلك

ص: 9


1- يوسف: 82.
2- الحديدة في أسفل الرمح.

جمع لأهل النار أنواع العذاب و ضمّ إليها الضيق الشديد مقرّنين في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم قيل: يقرن مع كلّ كافر شيطانه في سلسلة و في أرجلهم الأصفاد، و مقرّنين حال من مفعول «أُلْقُوا»، حين ما يشاهدون هذا النوع من العقاب الشديد دعوا بالثبور أي بالهلاك:

هذا أوان حضورك.

و روى أنس مرفوعا: أوّل ما يكتسى حلّة من النار إبليس فيعضّها على جانبيه و يسحبها من خلفه ذرّيّته و هو يقول: يا ثبوراه و ينادون يا ثبورهم حتّى يردوا النار.

أمّا قوله: [لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً] أي هلاككم أكبر من أن تدعونه مرّة واحدة و لا ينفعكم هذا النداء و إن كثر منكم.

[قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ] قل يا محمّد: ذلك العذاب الموصوف خير أم جنّة الخلد؟ فإن قيل: كيف بهذا الكلام و هل يجوز أن يقول الإنسان: السكّر أحلى من الصبر؟ (1) نعم هذا الكلام يحسن عند التقريع كما إذا أعطى السيّد عبده مالا فتمرّدو استكبر فيضربه المولى ضربا وجيعا و يقول له في معرض التوبيخ و التقريع: هذا أطيب أم ذاك؟ [الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي كانت تلك الجنّة لهم موعودين بها جزاء على أعمالهم [وَ مَصِيراً] مستقرّا و مرجعا [لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ و يشتهون من المنافع و اللّذات [خالِدِينَ مؤبّدين لا يفنون فيها [كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا] و في قوله تعالى «مسؤولا» ذكروا وجوها:

أحدها: أي من يكون مسؤولا لأنّه حقّ واجب إمّا بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة أو بحكم الوعد على قول أهل السنّة.

الثاني: أنّ المكلّفين سألوه بقولهم: «رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ» (2).

و الثالث: أنّ الملائكة سألوا اللّه تعالى ذلك بقولهم: «رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ» (3).

فإن قيل: قوله «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ» إذا شاهد أهل الدرجات النازلة أهل

ص: 10


1- صمغ مر يعالج به.
2- آل عمران: 193.
3- المؤمن: 8.

الدرجات الرفيعة لا بدّ و أن يريدوها فإذا سألوها ربّهم فإن أعطاهم إيّاها لم يبق بين الناقص و الكامل تفاوت في الدرجة و إن لم يعطها قدح ذلك في قوله «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ».

و أيضا فالأب إذا كان ولده في دركات النيران و أشدّ العذاب إذا اشتهى أن يخلصه اللّه من ذلك العذاب فلا بدّ أن يسأل ربّه أن يخلصه منه فإن فعل اللّه ذلك قدح في أنّ عذاب الكافر مخلّد و إن لم يفعل قدح ذلك في قوله: لكم فيها ما تشتهي أنفسكم.

فالجواب أنّ اللّه يزيل ذلك الأمر عن قلوب أهل الجنّة بل كون اشتغال كلّ واحد منهم بما فيه من اللذّات شاغلا عن الالتفات إلى حال غيره و من شرط نعيم الجنّة أن يكون دائما و لم يكن مشوبا بالكدورات قال المتنبّي:

أشدّ الغمّ عندي في سرورتيقّن عند صاحبه انتقالا

و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله: من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه و لم يرزق فقيل: و ما هو يا رسول اللّه؟ فقال: سرور يوم.

قوله تعالى: [يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي و يوم يجمعهم و ما يعبدون غير اللّه يعني عيسى و عزيز عليه السّلام و الملائكة و قيل: يعني الأصنام فيقول اللّه لهؤلاء المعبودين: [أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي طريق الجنّة و الحسنة و النجاة.

[قالُوا] يعني المعبودين من الملائكة و الإنس و الأصنام أن أحياهم اللّه و أنطقهم:

[سُبْحانَكَ أي تنزيها لك عن الشريك و عن أن يكون معبودا سواك [ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ] أي ليس لنا أن نوالي أعداءك بل أنت وليّنا من دونهم و ما كان يحقّ لنا أن نأمر أحدا بأن يعبدنا و لا يعبدك [وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ] و لكن طوّلت أعمارهم و أعمار آبائهم و متّعتهم بالأموال و الأولاد بعد موت الرسل حتّى نسوا الذكر المنزل على الأنبياء و تركوه [وَ كانُوا قَوْماً بُوراً] أي هلكى فاسدين، هذا تمام الحكاية عن قول المعبودين في عبدتهم.

[فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أي كذّبكم المعبودون أيّها المشركون [بِما تَقُولُونَ أي بقولكم:

إنّهم آلهة شركاء [فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً] أي فما يستطيع المعبودون صرف العذاب عنكم

ص: 11

[وَ لا نَصْراً] لكم يدفع العذاب عنكم، و من قرأ بالتاء أي فما تستطيعون أيّها المتّخذون الشركاء صرف العذاب عن أنفسكم.

قوله تعالى: [وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نفسه بالشرك و ارتكاب المعاصي [نُذِقْهُ في الآخرة عَذاباً كَبِيراً] أي شديدا عظيما.

ثمّ رجع سبحانه إلى مخاطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: [وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا محمّد من المرسلين [إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ هذا ردّ عليهم بقولهم: «ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» أي فقل لهم: كذلك كان من خلا من الرسل فكيف يكون محمّد بدعا منهم؟ و جعلنا بعضكم لبعض فتنة أي امتحانا و ابتلاء و هو افتتان الفقير بالغنيّ يقول: لو شاء اللّه لجعلني مثله غنيّا و الأعمى بالبصير يقول: لو شاء اللّه لجعلني مثله بصيرا و السقيم بالصحيح، و قيل: معناه ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الّذين اتّبعوا محمّدا من موالينا و رذالنا، فقال اللّه لهؤلاء الفقراء: أ تصبرون أيّها الفقراء على الأذى و الاستهزاء؟

[وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً] إن صبرتم، و قيل: معناه: أ تبصرون أيّها الفقراء على فقركم و لا تفعلون ما يؤدّي إلى مخالفتنا؟ أ تصبرون أيّها الأغنياء فتشكرون و لا تفعلون ما يؤدّي إلى مخالفتنا؟ فيغتني من أوجبت الحكمة إغناءه و يفتقر من أوجبت الحكمة إفقاره و هو بصير بمن يصبر و بمن يجزع.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 21 الى 30]

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)

ص: 12

هذه شبهة لمنكري نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و حاصلها: [قالَ الَّذِينَ لا يأملون لقاء جزائنا و قيل: معناه: لا يخافون لقاءنا، و هي لغة تهامة هذيل يضعون الرجاء موضع الخوف إذا كان معه جحد لأنّ من رجا شيئا خاف فوته فإنّه إذا لم يخف كان يقينا و من خاف شيئا رجا الخلاص منه فوضع أحدهما موضع الآخر و الحاصل أنّ منكري البعث و المعاد أوردوا هذا الكلام: هلّا انزل الملائكة ليخبرونا بأنّ محمّدا نبيّ؟ [أَوْ نَرى رَبَّنا] فيخبرنا بذلك و يأمرنا باتّباعه و تصديقه.

ثمّ أقسم اللّه عزّ اسمه فقال: [لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا] بهذا القول السخيف [وَ عَتَوْا] و بغوا بهذا الكبر و التجبّر بغير حقّ و عاندوا [عُتُوًّا كَبِيراً] و تمرّدوا في ردّ أمر اللّه.

ثمّ أعلم سبحانه أنّ الوقت الّذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة و أنّ اللّه قد حرّم البشرى لهم في ذلك اليوم فقال: [يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أي لا بشارة لهم بالجنّة و الثواب و المراد من الملائكة هاهنا ملائكة الموت أو العذاب و يقول الملائكة لهم: [حِجْراً مَحْجُوراً] حراما محرّما عليكم سماع البشرى كقولهم:

موت مائت و ذبل ذابل. و «محجورا» صفة لتأكيد معنى الحجر أي منعا ممنوعا من الخير و البشارة، و قيل: إنّ القائل هم الكفّار لأنّهم كرهوا لقاء الملائكة لعذابهم إيّاهم و لأنّهم لا يلقونهم إلّا بما يكرهونه فيقولون عند رؤيتهم هذا الكلام. و قيل: إنّ الكفّار يوم القيامة إذا شاهدوا ما يخافونه فيعوذون منه و يقولون: حجرا محجورا.

قوله: [وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً] أي و قصدنا و عمدنا إلى عمل الكفّار في الدنيا ممّا رجوا به النفع و طلبوا به الثواب و البرّ مثل إعتاقهم و صدقاتهم و ما كانوا يتقرّبون به إلى الأصنام فجعلناه هباء منثورا و هو الغبار يدخل الكوّة من شعاع الشمس أو ما تسفيه الرياح و تذريه من التراب، و قيل: الماء المهراق، و هذا مثل و المعنى:

يذهب أعمالهم باطلا و لم ينتفعوا بها من حيث عملوها لغير اللّه.

في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: إن كانت أعمالهم لأشدّ

ص: 13

بياضا من القباطيّ (1) فيقول: كن هباء منثورا، و ذلك أنّهم كانوا إذا شرع لهم الحرام أخذوه و في رواية: لم يدعوه.

و القميّ عن الباقر عليه السّلام قال: يبعث اللّه يوم القيامة قوما ما بين أيديهم نور كالقباطيّ ثمّ يقال له: كن هباء منثورا ثمّ قال: أما و اللّه إنّهم كانوا يصومون و يصلّون و لكن كانوا إذا عرض لهم الحرام أخذوه و إذا ذكر لهم من فضل أمير المؤمنين أنكروه. و في البصائر عن الصادق عليه السّلام: سئل عن هذه الآية فقال: أعمال مبغضينا و مبغضي شيعتنا.

قوله تعالى: [أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا] لمّا بيّن حال الكفّار و خيبتهم شرح حال أهل الجنّة فقال: أصحاب الجنّة يومئذ أي يوم القيامة أفضل منزلا في الجنّة و أحسن مقيلا، موضع القائلة هي الاستراحة نصف النهار إذا اشتدّ الحرّ و إن لم يكن مع ذلك نوم و لذلك في الجنّة لا نوم فيها، قال ابن مسعود و ابن عبّاس: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتّى يقيل أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار. و قيل:

خير في نفسه لا بمعنى أفعل التفضيل كقوله تعالى: «وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» (2) و كقوله: اللّه اكبر لا بمعنى أكبر من شي ء غيره لأنّه لا يقال: العسل أحلى من الخلّ.

فلو قيل: دلّت الآية على أنّ المستقرّ لهم غير مقيلهم؛ قالوا: إنّهم يقيلون في الفردوس ثمّ يعودون إلى مستقرّهم. و قيل: إنّ بعد الفراغ من المحاسبة و الذهاب إلى الجنّة يكون وقت القيلولة و نصف النهار. و قال مقاتل: يخفّف الحساب على أهل الجنّة حتّى يكون بمقدار نصف يوم من أيّام الدنيا ثمّ يقيلون من يومهم ذلك في الجنّة.

فلو قيل: إنّ اليوم لا يحصل لأهل الجنّة و لا لأهل النار فكيف؟

فالجواب هذا كقوله: «وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا» و الغرض بيان أنّ مواضع الجنّة أطيب المواضع.

قوله: [وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ و أصله تتشقّق أبدلت و أدغمت التاء في الشين

ص: 14


1- جمع القبطية: ثياب من كتان.
2- الروم: 27.

أي يوم يرون تتشقّق السماء و عليها غمام، و قوله: «بِالْغَمامِ» كقوله: ركب الأمير بجنده و سلاحه يعني معه سلاحه و إنّما تتشقّق السماء لنزول الملائكة [وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا] قال ابن عبّاس: تتشقّق السماء الدنيا فينزل أهلها و هم أكثر من أهل الأرض من الجنّ و الانس ثمّ تنشق السماء الثانية فينزل أهلها و هم أكثر من أهل السماء الدنيا و الجنّ و الإنس ثمّ كذلك إلى السماء السابعة و أهل كلّ سماء يزيدون على أهل السماء الّتي قبلها ثمّ ينزل الكروبيّون و حملة العرش و يصيرون سبع صفوف.

و لو قيل: كيف بذلك و قد ثبت أنّ الأرض بالنسبة إلى السماء الدنيا كحلقة في فلاة فكيف بالكرسيّ و العرش؟ و كيف تتّسع لهم الأرض جميعا؟ فيمكن أنّ اللّه يزيد في طول الأرض و عرضها و يبلغها مبلغا تتّسع لهم الأرض جميعا و من المفسّرين قالوا: الملائكة يكونون في الغمام و اللّه تعالى يسكن الغمام فوق أهل القيامة و يكون ذلك الغمام مقرّ الملائكة.

و الصفة الاخرى لذلك اليوم قوله [الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ قيل: الحقّ صفة للملك و تقديره: الملك الحقّ يومئذ للرحمن أي ذلك اليوم لا مالك سواه لا في الصورة و لا في المعنى فتخضع له الملوك و تذلّ له الجبابرة و تعفر له الوجوه [وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً] عسر اليوم عليهم لشدّته و يهون على المؤمنين كأدنى صلاة صلّوها في دار الدنيا و في هذا بشارة للمؤمنين حيث خصّ بشدّة ذلك اليوم الكافرين.

قوله تعالى: [وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا] ندما و تأسّفا قيل: المراد هو عقبة بن أبي معيط و قيل: هو عامّ في كلّ ظالم و نادم يوم القيامة و كلّ خليل يخالّ غيره في غير ذات اللّه. قال عطا: يأكل يديه حتّى تذهبا إلى المرفقين ثمّ لا يزال هكذا كلّما أنبتت يده أكلها ندامة على ما فعل يقول: [يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا] أي ليتني اتّبعت محمّدا و اتّخذت معه سبيلا إلى الهدى.

قوله: [يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا] و قرئ بالياء «يا ويلتي» يقول و ينادي: الويل احضري هذا أوان حضورك. و إنّما قلّب الياء ألفا مثل عذارى و صحارى.

ليتني لم أتّخذ فلانا؛ قيل: أراد به الشيطان أو الظالم أي نوع الظالم و كلّ خليل يضلّ

ص: 15

عن الدين و لو كان يقول مثلا: فرعون أو هامان و إبليس لطال الكلام فقال: فلانا حتّى يتناول كلّ مضلّ في الدين [لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ] أي عن القرآن و الإيمان [بَعْدَ إِذْ جاءَنِي الذكر و تمكّنت منه، و تمّ الكلام ثمّ قال اللّه: [وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا] لأنّه يتبرّأ منه في الآخرة و يسلّمه إلى الهلاك و لا يغني عنه شيئا.

قوله تعالى: [وَ قالَ الرَّسُولُ يعني محمّد صلّى اللّه عليه و آله يشكو قومه: [يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً] يعني هجروا القرآن و هجروني و كذّبوني و جعلوه متروكا لا يسمعونه و لا يتفهّمونه. قال أكثر المفسّرين: إنّ هذا القول واقع من الرسول و يؤيّد هذا القول قوله: «وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ» (1) لأنّ ما ذكره اللّه تعالى من قوله: «وَ كَذلِكَ جَعَلْنا» كلام في مقام التسلية للرسول و لا يليق إلّا إذا كان وقع ذلك القول منه.

و قال أبو مسلم: بل المراد أنّ الرسول يقوله في القيامة و هو كقوله: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (2) و القول الأوّل أولى.

بيان: و في قوله «يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ» قال ابن عبّاس: نزلت الآية في عقبة بن أبي معيط و ابيّ بن خلف و كانا متخالّين و ذلك أنّ عقبة كان لا يقدم من سفر إلّا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه و كان يكثر مجالسته للرسول فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما فلمّا قرّبوا الطعام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أنا بآكل من طعامك حتّى تشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، فبلغ ذلك ابيّ بن خلف فقال: صبأت (3) يا عقبة؟ قال: لا و اللّه ما صبأت و لكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلّا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي و لم يطعم فشهدت له فطعم، فقال: إنّي ما كنت براض عنك أبدا حتّى تأتيه فتبزق في وجهه ففعل ذلك عقبة و ارتدّ و أخذ رحم دابّة فألقاها بين كتفيه فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا ألقاك خارجا من مكّة إلّا علوت

ص: 16


1- الفرقان: 31.
2- النساء: 40.
3- صبأ: خرج من دين الى آخر.

رأسك بالسيف فضرب عنقه يوم بدر صبرا. و أمّا ابيّ بن خلف فقتله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم احد في المبادرة. و قال الضحّاك: لمّا بزق عقبة في وجه رسول اللّه عاد بزاقه في وجهه فأحرق خدّيه و كان أثر ذلك فيه حتّى مات أو قتل، هذا قول ابن عبّاس.

و قيل: نزلت في كلّ كافر أو ظالم تبع غيره في الكفر أو الظلم.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ليس رجل من قريش إلّا و قد نزلت فيه آية أو آيتان تقوده إلى جنّة أو تسوقه إلى نار، انتهى.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 31 الى 40]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً (31) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (34) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35)

فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَ كُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَ كُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)

المعنى: ثمّ عزّى اللّه نبيّه: كما جعلنا لك عدوّا من مشركي قومك [جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍ من كفّار قومه لأنّ الأنبياء كانوا مأمورين من اللّه أن يدعون قومهم إلى الإيمان به و ترك ما ألفوه من دين آبائهم و إلى ترك عبادة الأوثان و كانت هذه أسبابا داعية إلى العداوة فإذا أمرهم اللّه بهذا فقد جعلهم عدوّا لهم [وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً] أي حسبك اللّه هاديا إلى الحقّ و ناصرا لأوليائه.

[وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً] أي قال الكفّار لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هلّا آتيتنا بالقرآن جملة واحده كما أنزلت التوراة و الإنجيل و الزبور جملة واحدة؟

ص: 17

قال اللّه: [كَذلِكَ أي أنزلناه كذلك متفرّقا [لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لنقوّي به قلبك فتزداد بصيرة و ذلك أنّه إذا كان يأتيه الوحي متجدّدا في كلّ حادثة و كلّ أمر كان ذلك أقوى لقلبه و أزيد في بصيرته، و قيل: إنّما أنزلت الكتب جملة واحدة لأنّها نزلت على الأنبياء يكتبون و يقرءون فنزلت عليهم مكتوبة و القرآن إنّما نزل على نبيّ امّيّ لا يكتب و لا يقرء و لذلك نزل متفرّقا (1). و أيضا فإنّ في القرآن الناسخ و المنسوخ و فيه ما هو جواب لمن سأله عن امور و فيه إنكار لما هو كان الحكمة إنزاله متفرّقا.

[وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا] أي بيّنّاه تبيينا بعضه إثر بعض روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: يا ابن عبّاس إذا قرأت القرآن فرتّله ترتيلا قال: و ما الترتيل؟ قال: بيّنه تبيينا و لا تنثره نثر الرمل؛ قفوا عند عجائبه و حرّكوا به القلوب و لا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة.

قوله تعالى: [وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ من الجنس الّذي تقدّم ذكره من الشبهات [إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ الّذي يبطله و يدحضه أي لا يأتيك المشركون بمثل يضربونه لك و اعتراض في نبوّتك إلّا أبطلناه بالحقّ و هو القرآن [وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً] أي و بأحسن تفسيرا ممّا أتوا به من المثل بيانا و كشفا.

قوله: [الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي يسحبون على وجوههم إلى النار و هم كفّار مكّة و ذلك أنّهم قالوا: لمحمّد (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه هم شرّ خلق اللّه، فقال اللّه:

ص: 18


1- و هذا القول يستلزم أمورا لا يتفوه بها مسلم: منها كون سائر الأنبياء أفضل من نبينا صلى اللّه عليه و آله و امتيازهم عنه بعلم الكتابة و القراءة و منها عدم اطلاعه صلى اللّه عليه و آله على الآيات قبل نزولها، و هو تعالى يقول: «وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» (طه: 114) الدال على أنه صلى اللّه عليه و آله كان يقرء الآيات الى آخرها قبل ان يلقيها عليه روح القدس. و منها انه صلى اللّه عليه و آله لم يكن متمكنا من الكتابة و القراءة مع ان عدم الكتابة لا يلازم عدم التمكن بل السر فيه ازالة ريب التعلم على ما أشار اليه في قوله تعالى: «وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» (العنكبوت: 48) و ليت شعري ما اجرا الإنسان بربه الكريم و نبيه العظيم؟

[أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً] أي منزلا و مصيرا [وَ أَضَلُّ سَبِيلًا] أي دينا و طريقا من المؤمنين و التفاضل المذكور في الآية واقع على هذا التقدير الّذي فرضتموه أنتم بقولكم: أصحاب محمّد شرّ خلق اللّه أي أنتم على هذا الفرض شرّ منهم و المشي على الوجه.

قال أكثر المفسّرين: إنّهم يمشون في الآخرة مقلوبين وجوههم إلى القرار و أرجلهم إلى فوق. روي ذلك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ الّذين أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم. و قال آخرون: يحشرون و يحسبون على وجوههم، و هذا مرويّ عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله ثمّ ذكر سبحانه حديث الأنبياء تسلية للرسول و تبصرة لأمّته:

القصّة الاولى: قوله تعالى: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً] لمّا قال سبحانه «وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ» أتبعه بذكر جماعة من الأنبياء و عرّف نبيّه محمّدا بما نزل عليهم من أممهم و تكذيبهم إيّاهم فقال: «وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» أي لست يا محمّد باوّل من أرسلناه فكذّب و آتيناه الآيات فردّ فقد آتينا موسى التوراة و قوّينا عضده بأخيه هارون و مع ذلك فقد ردّ [فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً] و قلنا لموسى و هارون: اذهبا إلى القوم المكذّبين يعني فرعون و قومه، و في الكلام حذف و تقديره: فذهبا إليهم فلم يقبلوا منهما و جحدوا نبوّتهما فدمّرناهم تدميرا أي أهلكناهم إهلاكا بأمر فيه اعجوبة.

[وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً] أي و أغرقنا قوم نوح بالطوفان و هو مجي ء السماء بماء منهمر و يفجّر الأرض عيونا و المراد بتكذيب الرسل لأنّ من كذّب نبيّا كذّب تمام الأنبياء و جعلناهم للناس آية أي هلاكهم عبرة و عظة و أعتدنا و هيّأنا للظالمين عذابا أليما سوى ما حلّ بهم في الدنيا.

قوله: [وَ عاداً وَ ثَمُودَ] أي أهلكنا عاد و ثمود [وَ أَصْحابَ الرَّسِ و الرسّ بئر رسّوا فيها نبيّهم و ألقوه فيها، عن عكرمة. و قيل: إنّهم كانوا أصحاب مواش و لهم بئر يقعدون عليها و كانوا يعبدون الأصنام فبعث اللّه إليهم شعيبا فكذّبوه فانهار البئر و انخسفت بهم

ص: 19

الأرض فهلكوا. و قيل: الرسّ قرية باليمامة يقال لها: فلج، قتلوا نبيّهم فأهلكهم اللّه، عن قتادة. و قيل: كان لهم نبيّ يسمّى حنظلة فقتلوه فاهلكوا، عن سعيد بن جبير و الكلبيّ. و قيل: الرسّ بئر بأنطاكية فقتلوا فيها حبيب النجّار فنسبوا إليها، و قيل:

أصحاب الرسّ كان نساؤهم سحّاقات، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

قوله: [وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً] أي و أهلكنا أيضا قرونا كثيرا بين عاد و أصحاب الرسّ على تكذيبهم.

و قيل: المراد من البين بين نوح و أصحاب الرسّ و القرون سبعون سنة، و قيل:

أربعون.

[وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي و كلّا منهم بيّنّا أنّ العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا أو بيّنّا لهم الأحكام في الدين و الدنيا و ما يضرّهم و ما ينفعهم [وَ كُلًّا] لمّا لم يؤمنوا [تَبَّرْنا] هم [تَتْبِيراً] و أهلكناهم إهلاكا مثل كسارة الذهب و الفتيت.

قوله: [وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ] أي و لقد أتوا كفّار مكّة على قرية «سدوم» من قرى قوم لوط و كانت خمسا أهلك اللّه أربعا بأهلها و بقيت واحدة و مطر السوء الحجارة و المعنى: إنّ أهل مكّة مرّوا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية الّتي أهلكت بالحجارة من السماء أ فلم ينظروا إلى آثار عذاب اللّه و نكاله فيعتبروا [أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها] ثمّ قال: [بَلْ كانُوا] قوما كفرة [لا يَرْجُونَ نُشُوراً] أي لا يعتقدون و يتوقّعون البعث و لا يأملون ثوابا و لا يخافون عقابا فركبوا المعاصي و الكفر.

قوله: [سورة الفرقان (25): الآيات 41 الى 44]

وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)

المعنى: لمّا بيّن مبالغة المشركين في إنكار نبوّته و في إيراد الشبهات بيّن أنّهم

ص: 20

إذا رأوا الرسول لم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء و الاستحقار و يقول بعضهم لبعض: [أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا] أي إذا رأوك قالوا مستهزئين: أبعث اللّه هذا رسولا؟ و «إن» الاولى نافية و الثانية مخفّفة من المثقّلة، و اللام هي الفارقة بينهما. و كانوا يقولون فيه: لقد كاد يصرفنا عن عبادة آلهتنا أي قد قارب أن يضلّنا و يهلكنا [لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها] و الجواب محذوف مقدّر أي لو لا نقيم على عبادة آلهتنا لهلكنا، فقال متوعّدا سبحانه لهم: [وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الّذي ينزل بهم عيانا [مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا] و أخطأ الطريق الحقّ هم أم المؤمنون؟ ثمّ عجّب نبيّه بكلمة: [أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ في الكلام تعجيب من جهل هؤلاء الّذين اتّخذوا إلههم هواهم يعنى اتّخذ ميله و هواه إلهه.

قال سعيد بن جبير: كان الرجل من المشركين يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه و اتّخذ الآخر و عبده [أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا] أي مثل هذا الجاهل تكون تحفظه من اتّباع هواه؟ يعني لست كذلك نحو قوله: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (1) و «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» (2).

قوله: [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ثمّ قال للنبيّ: أم تحسب- و أم منقطعة- أنّ أكثرهم يسمعون ما تقوله سماع طالب إفهام و يعقلون ما تقرأ عليهم؟ لا تظنّ بذلك [إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ما هم إلّا كالبهائم الّتي تسمع النداء و لا تعقل [بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا] من البهائم لأنّهم مكّنوا من المعرفة و الأنعام لم يمكّنوا من المعرفة و لأنّ الأنعام عرفت أكثر منافعها و مضارّها و لا تفعل ما يضرّها و هؤلاء يسعون في إهلاك أنفسهم و تجنّبوا سبيل نجاتهم فهم أضلّ منها.

ص: 21


1- الغاشية: 22.
2- البقرة: 256.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 45 الى 50]

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً (49)

وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50)

الخطاب للنبيّ و المراد به سائر المكلّفين أي [أَ لَمْ تَرَ] و تعلم [إِلى فعل [رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ و تقديره: ألم تر إلى الظلّ كيف مدّه ربّك معنى الظلّ من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس و جعله ممدودا لأنّه لا شمس معه كما قيل في ظلّ الجنّة:

ممدودا؛ إذ لم يكن معه الشمس. قال أبو عبيدة: و الظلّ ما نسخته الشمس و هو بالغداة و الفي ء ما نسخ الشمس و هو بعد زوال الشمس و سمّي فيئا لأنّه فاء من جهة الشرق إلى جانب الغرب. و قيل: مدّ الظلّ من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوعها فيكون الظلّ بالليل لأنّه ظلّ الأرض.

[وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً] أي مقيما دائما لا يزول و لا ينسخه الشمس يقال: فلان يسكن بلد فلان إذا أقام به و هو مثل قوله: «أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» (1) في المعنى.

و في هذا إشارة إلى أنّه قادر على تسكين الشمس حتّى يبقى الظلّ ممدودا بخلاف ما يقوله الفلاسفة. و اعلم أنّ الظلّ الممدود هو الأمر المتوسّط بين الضوء الخالص و بين الظلمة الخالصة و كذا الكيفيّات الحاصلة داخل السقف و أفنية الجدران و هذه الحالة أطيب الأحوال لأنّ الظلمة الخالصة يكرهها الطبع و ينفر عنها الحسّ و كذلك الضوء الخالص و هو الكيفيّة الفائضة من الشمس فهي لقوّتها تبهر العين و تفيد السخونة القويّة و هي مؤذية لو دامت فإذن أطيب الأحوال هو الظلّ فهو من النعم العظيمة و إذا طلعت الشمس و وقع ضوؤها على الجسم زال ذلك الظلّ و لو لا وقوع الشمس على الأجرام لما عرف أنّ للظلّ وجودا و ماهيّة و لو لا الظلمة لما عرف النور، فحينئذ ظهر للعقول أنّ الظلّ كيفيّة زائدة على الجسم فلهذا قال سبحانه: [ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا] أي خلقنا الظلّ أوّلا بما فيه من المنافع و اللذّات ثمّ أطلعنا الشمس فصارت الشمس دليلا على وجود هذه النعمة.

[ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً] أي أزلنا الظلّ لا دفعة واحدة بل يسيرا يسيرا،

ص: 22


1- القصص: 71.

فإنّه كلّما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظلّ في جانب الغرب و لمّا كانت الحركات النوريّة المكانيّة لا توجد دفعة واحدة بل يسيرا يسيرا كذلك زوال الظلّ لا يكون دفعة واحدة بل يسيرا يسيرا.

و المراد من القبض الإعدام و الإزالة و لو حصل دفعة واحدة لاختلّت المصالح و بالتدريج يفيد أنواعا من المصالح الزرعيّة و الخلقيّة. و قيل: المراد من القبض عند قيام الساعة و ذلك بقبض أسبابها و هي الأجرام الّتي بسببها يقع الظلّ و لا يخفى أنّ الظلّ ليس أمرا عدميّا محضا بل هو أضواء مخلوطة بظلم و عبارة عن الضوء الحاصل من هذه الأضواء المخلوطة و هو أمر وجوديّ و يتطرّق التغيّر عليه فلا بدّله من وجوده بعد- العدم و عدمه بعد الوجود من صانع مقدّر فحصول الظلّ إمّا أن يكون واجبا أو جائزا أمّا الواجب لا يتغيّر فثبت تغيّره و إمكانه فحينئذ احتاج إلى مدبّر قاهر يقدّره بسبب الأجرام العلويّة فصحّ الاستدلال قوله تعالى: [وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً] أي جعل الليل غطاء ساترا للأشياء بالظلام كاللباس الّذي يشمل على لابسه:

فهو سبحانه ألبسنا الليل و غشّانا به لنسكن و نستريح من كدّ الأعمال كما قال في موضع آخر: «لِتَسْكُنُوا فِيهِ»* (1) «وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» (2) و راحة و تعطيلا لأعمالكم، و الانقطاع عن الحركة في الروح هو السبات.

[وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً] لانتشار الروح باليقظة في النهار مأخوذ من نشور البعث و لأنّ الناس ينشرون في النهار لطلب معايشهم فيكون النشور هنا بمعنى التفرّق في الأرض لابتغاء الرزق.

[وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قرئ بالنون أي الرياح ناشرات للسحاب و بالباء الموحّدة أي مبشّرات بين يدي رحمته استعارة لطيفة أي الرياح مبشّرة قدّام المطر [وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً] و أنزلنا الماء من السماء طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره مزيلا للأحداث و النجاسات و، في الآية نصّ على أنّه تعالى نزل الماء من السماء لا من الحساب و قول من يقول: السحاب سماء ضعيف؛ لأنّ ذاك بحسب الاشتقاق و أمّا بحسب وضع اللغة فالسماء اسم لهذا السقف المعلوم فصرفه عنه ترك للظاهر،

ص: 23


1- يونس: 67.
2- النبأ: 9.

و الطهور ما يتطهّر به كالفطور ما يفطر به و السحور ما يتسحّر به.

قوله: [لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً] قد مات بالجدب، و أراد بالبلدة البلد أو المكان أي لنخرج بالماء النبات و الثمار [وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً] أي و لنسقي من ذلك الماء أنعاما جمّة و أناسا كثيرة.

و لقد صرفنا المطر [بَيْنَهُمْ يدور في الجهات و قسّمناه بينهم فلا يدوم على مكان فيفسد و لا ينقطع بالكلّيّة عن مكان فيهلك و يزيد لقوم و ينقص لآخرين على حسب المصلحة [لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً] ليتفكّروا و يستدلّوا به على قدرتنا و يعلمون أنّه لا يجوز العبادة لغير المنعم فأبى أكثر الناس بتصديق النعمة و زادوا جحودا و كفورا بالبعث و النشر فيقولون: مطرنا بنوء كذا و كذا، على طريقتهم الخبيثة حيث كانوا يستندون الأمطار إلى الأنواء و قال ابن عبّاس: ما عام بأكثر من عام و لكن يصرفه في الأرض ثمّ قرأ هذه الآية. و روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما من عام بأمطر من عام و لكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل اللّه ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف اللّه ذلك إلى الفيافي.

و قال الكعبيّ: قوله: «وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا» حجّة على من زعم أنّ القرآن وبال على الكافرين و أنّه تعالى لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا لأنّ قوله: «لِيَذَّكَّرُوا» عامّ في الكلّ لأنّه لا يجوز أن يقال: أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلّا كفورا.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 51 الى 60]

وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (53) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً (60)

ص: 24

[وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً] ينذرهم و لكن بعثناك يا محمّد إلى القرى كلّها رسولا لعظيم منزلتك لدنيا و النذير هو الداعي إلى ما يؤمن معه الخوف من العقاب أي لو شئنا لقسمنا بينهم النذر كما قسمنا بينهم الأمطار و لكنّا نفعل ما هو الأصلح لهم و الأنفع في دينهم و دنياهم فبعثناك إليهم كافّة.

[فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك إليه من المداهنة [وَ جاهِدْهُمْ في اللّه [بِهِ أي بالقرآن [جِهاداً كَبِيراً] أي تامّا شديدا و في الآية دلالة على أنّ أعظم الجهاد جهاد المتكلّمين في حلّ شبهة الملحدين و المبطلين و أعداء الدين و يمكن أن يتأوّل عليه قوله: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، و حاصل المعنى: أمر اللّه نبيّه بسبب كونه نذيرا لكافّة القرى و الأمصار و الناس جهادا كبيرا جامعا.

قوله تعالى: [وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ هذا هو النوع الرابع من الدلائل الدالّة على القدرة و التوحيد. مرج البحرين أي خلّاهما و أرسلهما، مرجت الدابّة إذا أرسلتها و خلّيتها ترعى، و أصل المرج الإرسال و الخلط و المعنى: سمّى الماءين الكبيرين الواسعين بحرين أي أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل. و قوله: [هذا عَذْبٌ فُراتٌ البالغ في العذوبة و الأجاج نقيضه و الآخر [مِلْحٌ أُجاجٌ و أنّه سبحانه بقدرته يفصل بينهما و يمنعهما التمازج و جعل من عظم قدرته برزخا حائلا مع أنّهما متجاورين متلاصقين. و قيل: المراد بالبحر العذب النهر العظيم و بالمالح البحر العظيم و بالبرزخ ما بينهما من الأرض فيكون أثر القدرة في اختلاف الصفة مع أنّ مقتضى طبيعة كلّ عنصر التشابه في الكيفيّة.

[وَ حِجْراً مَحْجُوراً] و هذه كلمة يقوله المتعوّذ و هي هاهنا على سبيل المجاز كأنّ كلّ واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه و يقول له: حجرا محجورا كما قال: «لا يَبْغِيانِ» (1)

ص: 25


1- الرحمن: 2.

أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة فانتفاء البغي كالتعوّذ و هي من أحسن الاستعارات، و قيل: معنى حجرا محجورا أي منع ممتنع و حرام محرّم أن يفسد الملح العذب.

[وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً] أي خلق من النطفة إنسانا، و قيل: أراد آدم عليه السّلام فإنّه خلق من التراب الّذي خلق من الماء، و قيل: المراد أولاد آدم فإنّهم مخلوقون من الماء [فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً] قيل في معناه: النسب الّذي لا يحلّ نكاحه، و الصهر النسب الّذي يحلّ نكاحه كبنات العمّ و الخال. و قيل: النسب سبعة أصناف و الصهر خمسة ذكرهم في قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» و قد تقدّم بيانه في سورة النساء (1) و قيل: النسب البنون و الصهر البنات اللّاتي يستفيد الإنسان بهنّ الأصهار فكأنّه قال: فجعل منه البنين و البنات.

و قال ابن سيرين: نزلت في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عليّ بن أبي طالب زوّج فاطمة عليّا فهو ابن عمّه و زوج ابنته فكان نسبا لأنّه ابن عمّه و صهرا لأنّه زوج فاطمة.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام، و القميّ عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: إنّ اللّه تعالى خلق آدم من الماء العذب و خلق زوجته من سنخه فبرأها من أسفل أضلاعه فجرى بذلك الضلع بينهما سبب و نسب ثمّ زوّجها إيّاه فجرى بينهما بسبب ذلك صهر قوله: «نَسَباً وَ صِهْراً» فالنسب ما كان بسبب الرجال و الصهر ما كان بسبب النساء.

و في المعاني عن الباقر عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: ألا و إنّي مخصوص في القرآن بأسماء، احذروا في أن تغلبوا عليها فتضلّوا في دينكم أنا الصهر لقول اللّه تعالى:

«وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً».

و في الأمالي بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: قلت له: يا رسول اللّه عليّ أخوك؟ قال: نعم، عليّ أخي، قلت: يا رسول اللّه صف لي كيف عليّ أخوك؟ قال:

إنّ اللّه عزّ و جلّ خلق ماء تحت العرش قبل أن يخلق آدم عليه السّلام بثلاثة آلاف عام، و أسكنه في لؤلؤة خضراء في غامض علمه إلى أن خلق آدم فلمّا خلق آدم نقل ذلك الماء من اللؤلؤة

ص: 26


1- الآية: 22.

فأجراه في صلب آدم إلى أن قبضه ثمّ نقله إلى صلب شيث فلم يزل ذلك الماء ينقل من ظهر إلى ظهر حتّى صار في صلب عبد المطّلب ثمّ شقّه نصفين فصار نصفه في صلب أبي عبد اللّه و نصفه في صلب أبي طالب فأنا من نصف الماء و عليّ من النصف الآخر فعليّ أخي في الدنيا و الآخرة ثمّ قرأ رسول اللّه الآية. و أيضا في روضة الواعظين يذكر حديثا يشمل هذا البيان انتهى.

[وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً] أي قادرا على ما أراد.

ثمّ أخبر عن حال الكفّار فقال: [وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ من الأصنام و الأوثان [وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً] أي الكافر معينا للشيطان على ربّه بالكفر و المعاصي لأنّه يعاون الشيطان على عداوة اللّه و معصيته لأنّ عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان معادة اللّه تعالى، و قيل: المعنى: كان الكافر على ربّه ظهيرا أي الكافر عند اللّه متروك و مستخفّ به و منه قوله: «وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» (1). و قيل: المراد بالكافر أبو جهل لأنّ الآية نزلت فيه، و الأولى حمله على العموم لأنّ خصوص السبب لا يقدح في عموم اللّفظ.

قوله تعالى: [وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً] و وجه تعلّق الآية بما تقدّم هو أنّ الكفّار كانوا يطلبون العون على اللّه و الرسول و اللّه بعث رسوله إليهم ليبشّرهم على الطاعة و ينذرهم على المعصية فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرغ جهده في إصلاح مهمّاتهم دينا و دنيا و لا يسألهم عليه أجرا.

[قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على القرآن أجرا و على تبليغ الوحي [مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا] بإنفاق ما له في طاعة اللّه و المعنى: إنّي لا أسألكم أجرا و لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضات اللّه.

قوله: [وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ أي لمّا لم يقبلوا قولك فوّض أمورك إلى الحيّ الّذي لا يموت فلن يفوته الانتقام [وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي احمد منزّها له عمّا لا يليق به من الصفات مثل أن تقول: الحمد للّه ربّ العالمين، الحمد للّه على نعمه و إحسانه

ص: 27


1- هود: 92.

الّذي لا يقدر عليه غيره الحمد للّه عظيم المنزلة و ما أشبه ذلك. قوله: [وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً] أي عليما فيحاسبهم و يجازيهم بها فحقيق بأن يخافوه و يراقبوه.

[الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما] أي ما بين هذين الصنفين [فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فإن قيل: إنّ الأيّام عبارة عن حركات الشمس في السماوات فقبل السماوات لا أيّام؛ المراد: في مدّة مقدارها هذه المدّة لو كانت.

و من الناس من قال: في ستّة أيّام من أيّام الآخرة و كلّ يوم ألف سنة و هو بعيد لأنّ التعريف يكون بأمر معلوم.

و لو قيل: لم قدّر الخلق و الإيجاد بهذا التقدير و لم يخلقها في لحظة واحدة و هو قادر عليه؟

فالجواب أنّه سبحانه العالم بالأصلح و يجب على الإنسان أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة فإنّه لا ساحل لها، و ذلك مثل تقدير الملائكة الّذين يعذّبون أصحاب النار بتسعة عشر و حملة العرش بالثمانية و شهور السنة باثني عشر و السماوات بالسبع و كذا الأرض و كذا القول في عدد الصلوات و مقادير النصب في الزكوات و كذا مقادير الحدود و الكفّارات فالإقرار بأنّ كلّ ما قاله اللّه حقّ هو الدين و ترك البحث عن هذه الأشياء هو الواجب.

و لعلّ الجواب في هذا الموضوع ما قاله سعيد بن جبير أنّه خلقها في ستّة أيّام و هو يقدر أن يخلقها في لحظة تعليما لخلقه الرفق و التأنّي و التثبّت و هو سبحانه خلق الأشياء على تؤدة و تدرّج.

قوله: [ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ و من المعلوم أنّه لا يجوز حمله على الاستيلاء و القدرة لأنّ الاستيلاء و القدرة في أوصاف اللّه لم يزل و لا يصحّ دخول «ثُمَّ» فيه و كذلك الاستقرار غير جائز لأنّه يقتضي التغيّر الّذي هو دليل الحدوث و التركيب و كلّ ذلك محال على اللّه فالمعنى: ثمّ خلق العرش و رفعه و هو مستول مثل قوله: «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ» (1) فإنّ المراد حتّى يجاهد المجاهدون و نحن بهم عالمون.

ص: 28


1- محمد: 31.

فإن قيل: فعلى هذا التفسير يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السماوات و ليس كذلك لقوله: «وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ».

فالجواب أنّ كلمة «ثمّ» ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السماوات.

قوله: [الرَّحْمنُ خبر لقوله «الَّذِي خَلَقَ» أو صفة للحيّ أو خبر مبتدء محذوف أي هو الرّحمن.

قوله: [فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً] اختلف في تفسيره فقيل: إنّ المعنى فأسأل عنه خبيرا و الباء بمعنى «عن» و الخبير هاهنا هو اللّه، و أنشد في قيام الباء مقام «عن» قوله علقمة بن عبدة:

فإن تسألوني بالنساء فإنّني خبير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله فليس له من ودّهنّ نصيب

و قيل: إنّ الباء على أصلها و المعنى: فاسأل بسؤالك أيّها الإنسان خبيرا يخبرك بالحقّ و روي أنّ اليهود حكوا عن ابتداء الخلق بخلاف ما أخبر اللّه عنه فقال سبحانه: «فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» أي سلني عنه و قيل: إن الخبير هنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و المعنى: ليسأل كلّ منكم عن اللّه محمّدا فإنّه الخبير العارف به و يؤيّد هذا المعنى آية البعد في قوله: «وَ مَا الرَّحْمنُ».

قوله: [وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أي و إذا قيل لهؤلاء المشركين:

اسجدوا للرحمن قالوا: و أيّ شي ء الرحمن إنّا لا نعرف الرحمن قال بعض المفسّرين: إنّ أبا جهل قال: إنّ الّذي يقول محمّد شعر. فقال صلّى اللّه عليه و آله: الشعر غير هذا إن إلّا كلام الرحمن، فقال أبو جهل: بخ بخ لعمري إنّه لكلام الرحمن الّذي هو يعلّمك فقال صلّى اللّه عليه و آله:

الرحمن هو إله السماء و من عنده يأتيني الوحي. فقال أبو جهل: يا آل غالب من يعذرني من محمّد يزعم أنّ اللّه واحد و هو يقول: اللّه يعلّمني و الرحمن، ألستم تعلمون أنّهما إلهان؟ ثمّ قال: ربّكم اللّه الّذي خلق هذه الأشياء و الرحمن فهو مسيلمة.

و كانوا يقولون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: [أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا] بسجوده و نحن لا نعرف الرحمن أيّ شي ء و قرئ يأمرنا بالياء أي كان بعضهم يقول لبعض هذا القول [وَ زادَهُمْ نُفُوراً] أي و زادهم ذكر الرحمن نفورا و تباعدا عن الحقّ و قبول قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و صيغة «الرحمن»

ص: 29

فعلان بناء من أبنية المبالغة؛ تقول: رجل ريّان و عطشان في النهاية من الريّ و العطش و فرحان كذلك.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 61 الى 70]

تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً (61) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً (64) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65)

إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (66) وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)

[تَبارَكَ و ثبت بالبركة و الدوام الإله [الَّذِي جَعَلَ و خلق [فِي السَّماءِ] منازل للنجوم الكبار أو السبعة السيّارة و هي زحل و المشتري و المرّيخ و الشمس و القمر و الزهرة و عطارد و هي اثنا عشر برجا: الحمل و الثور و الجوزا و السرطان و الأسد و السنبلة و الميزان و العقرب و القوس و الجدي و الدلو و الحوت و سمّيت بروجا مأخوذا من القصور العالية و أنّها كالمنازل و الاشتقاق من البرج و الظهور.

[وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً] و المراد من السراج الشمس لقوله تعالى: «وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» (1) و قرى «سراجا» و هي الشمس و الكواكب الكبار [وَ قَمَراً مُنِيراً] أي مضيئا بالليل إذا لم تكن شمس.

[وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً] أي يخلف واحد منهما صاحبه في ما يحتاج أن يعمل فيه فمن فاته عمل اللّيل استدركه بالنهار و من فاته عمل النهار استدركه بالليل قوله: [لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ] أي أراد شكر ربّه و يستدلّ بذلك على أنّ لهما مدبّرا و خالقا و مصرّفا [أَوْ أَرادَ شُكُوراً] يقال: شكر شكرا و شكورا. و قيل في معنى:

ص: 30


1- نوح: 16.

«لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ» روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: تقضى صلاة النهار باللّيل و صلاة اللّيل بالنهار.

الصفة الاولى قوله: [وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً] و عباد الرحمن مبتدء و خبره في آخر السورة: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ» و يجوز أن يكون خبره «الَّذِينَ يَمْشُونَ ... هَوْناً» و هذا وصف سيرتهم بالنهار أي هينون، و الهون الرفق أي مشيهم في لين و سكينة و وقار و تواضع و لا يضربون أقدامهم أشرا و بطرا و لا يتبخترون لأجل الخيلاء و يمشون بسجيّة الرحمة.

الصفة الثانية: [وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً] أي يظهرون العلم في مقابلة الجهل لأنّ الإغضاء عن السفهاء و ترك المقابلة مستحسن في العقل و الشرع و سبب للورع.

الصفة الثالثة قوله: [وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً] و معنى «يبيتون لربّهم أن يكونوا في لياليهم مصلّين. قال أهل اللغة: كلّ من أدركه الليل فقد بات؛ نام أم لم ينم. و حاصل المعنى: أنّ المؤمنين إذا انتشروا في النهار مشيهم مشي الهون و ليلهم خير ليل إذا خلّوا فيما بينهم و بين ربّهم في القيام و السجود.

الصفة الرابعة: [وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً] قال ابن عبّاس: يقولون في سجودهم و قيامهم هذا القول و خشعوا بالنهار و تعبوا بالليل فرقا من عذاب جهنّم و قوله «غراما» أي هلاكا و خسرانا ملحّا لازما و منه الغريم لإلحاحه و إلزامه و فلان مغرم بالنساء أي مولع بهنّ و قيل في الغرام: إنّه تعالى سأل الكفّار ثمن نعمته فما أدّوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النّار [إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً] إشارة إلى كونه مضرّة خالصة دائمة و بئس المقرّ و المقام جهنّم.

الصفة الخامسة: [وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا] و السرف مجاوزة الحدّ في النفقة، و الإقتار التقصير عما لا بدّ منه روى عن معاذ: أنّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك فقال: من أعطى في غير حقّ فقد أسرف و من منع من حقّ فقد قتر و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: ليس في المأكول و المشروب سرف و إن كثر. و في الكافي عن الصادق عليه السّلام إنّما

ص: 31

الإسراف فيما أفسد المال و أضرّ بالبدن قيل: فما الإقتار؟ قال: أكل الخبز و الملح و أنت تقدر على غيره فما القصد؟ قال: الخبز و الملح و اللبن و الخلّ تقدر على غيره، قيل و السمن مرّة هذا و مرّة هذا. و عنه عليه السّلام أنّه تلا هذه فأخذ قبضه من حصى و قبضها بيده فقال: هذا الإقتار الّذي ذكره اللّه في كتابه ثمّ قبض قبضة اخرى فأرخى كفّه كلّها ثمّ قال: هذا الإسراف ثمّ أخذ قبضة اخرى فأرخى بعضها و أمسك بعضها و قال: هذا القوام.

الصفة السادسة قوله: [وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] أي لا يجعلون للّه سبحانه شريكا بل يوجّهون عبادتهم إليه [وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها [إِلَّا بِالْحَقِ و النفس المحرّم قتلها نفس المسلم و المعاهد و المستثناة قتلها نفس الحربىّ و من يجب قتلها على وجه القود و الارتداد و الزنا بعد الإحصان و للسعي في الأرض بالفساد [وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً] بفتح الهمزة و الزنا هو الفجور بالمرأة في الفرج.

و في هذا دلالة على أنّ أعظم الذنوب بعد الشرك القتل و الزنا و روى البخاريّ و مسلم في صحيحهما بالإسناد عن عبد اللّه بن مسعود قال: سألت رسول اللّه أيّ الذنب أعظم؟

قال: إن تعجل للّه ندّا فهو خلقك قال: قلت: ثمّ أيّ؟ قال: ان تقتل و لدك مخافة أن يطعم معك قال: ثمّ أيّ؟ قال: أن تتزانى حليلة جارك فأنزل اللّه تصديقها بقوله: «وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ» الآية.

قوله: [وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً] أي عقوبة و جزاء لما فعل قال الفرّاء:

أثمه اللّه يأثمه إثما و أثاما أي جازاه جزاء الإثم و قيل: إنّ أثاما واد في جهنّم ثمّ فسّر سبحانه لقي الأثام بقوله: [يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ] قيل: معناه: إنّه يستحقّ على كلّ معصية منها عقوبة فيضاعف عليه العقاب [وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً] و يدوم في العذاب و إنّما قال: ذلك لأنّه عزّ اسمه قد يوصل الآلام إلى بعض المكلّفين لا على وجه الإهانة.

قوله تعالى: [إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] قال الرازيّ: دلّت الآية على أنّ التوبة مقبولة و الاستثناء لا يدلّ على ذلك لأنّه سبحانه أثبت أنّه يضاعف له العذاب ضعفين فيكفى في صحّة الاستثناء أن لا يضاعف العذاب للتائب و إنّما الدالّ على ذلك قوله:

ص: 32

«فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» نقل عن ابن عبّاس أنّه قال: توبة القاتل غير مقبولة و زعم أنّ هذه الآية منسوخة بقوله: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً» و قالوا: نزلت الغليظة بعد الليّنة بمدّة يسيرة و قيل: بثمان سنين و اختلفوا في المراد بالتبديل فقال جماعة كابن عبّاس و مجاهد و مقاتل: إنّ التبديل إنّما يكون في الدنيا فيبدّل اللّه قبائح أعمالهم من المعاصي و الكفر بمحاسن الأعمال في الإسلام فيبدّلهم بالكفر إيمانا و بالزنى عفّة و إحصانا فيستوجبوا بها الثواب و قيل: يبدّلهم معناه:

يمحو السّيئة عن العبد و يثبت له بدلها الحسنة، عن سعيد بن المسيّب و مكحول و عمرو بن ميمون، و احتجّوا بالحديث الّذي رواه مسلم في الصحيح مرفوعا إلى أبي ذرّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرض عليه صغار ذنوبه و محي عنه كبارها فيقول: عملت يوم كذا و كذا و كذا و كذا و هو مقرّ لا ينكر و هو مشفق من الكبائر فيقال: أعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة فيقول: أنّ لي ذنوبا ما أراها هاهنا، قال: و لقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضحك حتّى بدت نواجده. و الحاصل أنّ قوما قالوا: أنّ السيّئة تمحى بالتوبة و الإيمان و العمل الصالح و تكتب الحسنة مع التوبة و الكافر يحبط اللّه عمله و يثبت عليه السيّئات.

[وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] معاصي التائبين رحيما و منعما عليهم بالرحمة و الفضل.

و في الأمالي عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال عليه السّلام: يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتّى يوقف بموقف الحساب فيكون اللّه تعالى هو الّذي يتولّى حسابه لا يطّلع على حسابه أحد من خلقه حتّى إذا أقرّ بسيّئاته قال اللّه للكتبة:

بدّلوها حسنات و أظهروها للناس فيقول الناس حينئذ: ما كان لهذا العبد سيّئة واحدة ثمّ يأمر اللّه به إلى الجنّة فهذا تأويل الآية و هي للمذنبين من شيعتنا خاصّة. و عن الرضا عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حبّنا أهل البيت يكفّر الذنوب و يضاعف الحسنات و إنّ اللّه ليتحمّل من محبّينا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد إلّا ما كان منهم على إضرار و ظلم للمؤمنين فيقول للسيّئات: كوني حسنات.

و في العيون عنه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه: إذا كان يوم القيامة

ص: 33

تجلّي اللّه تعالى لعبده المؤمن فيقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثمّ يغفر له لا يطلع اللّه على ذلك ملكا مقرّبأ و لا نبيّا مرسلا و يستر عليه ما يكره أن يقف عليه أحد ثمّ يقول لسيّئاته: كوني حسنات. و القميّ عنه عليه السّلام قال: إذا كان يوم القيامة أوقف اللّه عزّ و جلّ العبد بين يديه و عرض عليه عمله فينظر في صحيفته فأوّل ما يرى من سيّئاته فيتغيّر لذلك لونه و ترتعد فرائصه ثمّ تعرض عليه حسناته فيفرح لذلك و يبدّل اللّه سيّئاته حسنات و يظهرها للناس فيقول الناس: أما كان لهؤلاء سيّئة واحدة و هو قوله تعالى: «يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و في حديث أبي إسحاق اللّيثيّ عن الباقر عليه السّلام الّذي ورد في طينة المؤمن و طينة الكافر ما معناه أنّ اللّه تعالى يأمر يوم القيامة بأن تؤخذ حسنات أعدائنا فتردّ على شيعتنا و تؤخذ سيّئات محبّينا فتردّ على مبغضينا.

قال: و هو قوله تعالى: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» يبدّل اللّه سيّئات شيعتنا حسنات يبدّل اللّه و حسنات أعدائنا سيّئات.

و في روضة الواعظين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما جلس قوم يذكرون اللّه إلّا نادى بهم مناد من السماء قوموا فقد بدّل اللّه سيّئاتكم حسنات.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 71 الى 77]

وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً (73) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً (75)

خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)

و من أقلع عن معاصيه و ندم عليها و تدارك بالعمل الصالح فإنّ التائب بهذه الصورة برجع إلى اللّه مرجعا عظيما جميلا و فرّق جماعة بين التوبة المذكورة في الآية السابقة و هذه الآية و لو لا الفرق لكان هذا تكريرا و قالوا: التوبة الاولى التوبة من القبيح لقبحه و الرجوع عن الشرك و المعاصي و التوبة المذكورة في هذه الآية الرجوع و الانقطاع إلى اللّه

ص: 34

لطلب رضائه فإنّ من انقطع إلى خدمة بعض الملوك فقد أحرز شرفا فكيف المنقطع إلى اللّه؟

و قيل في تأويل الآية: إنّ من تاب و أتى بتوبة صحيحة في الماضي على سبيل الإخلاص فقد وعده اللّه بأنه سيوفّقه للتوبة في المستقبل و هذا من أعظم البشارات.

الصفة السابعة [وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ] أي لا يشهدون شهادة الكذب أقيم المضاف إليه مقام المضاف و قيل: المعنى: لا يشهدون مواضع الكذب و يحتمل أن يكون المراد حضور كلّ موضع يجري فيه ما لا ينبغي فيدخل فيه أعياد المشركين و مجامع الفسّاق لأنّ من خالط أهل الشرّ و حضر مجامعهم فقد شاركهم في تلك المعصية بل قد يكون حضوره سببا لوجود تلك المعصية و الزيادة فيها لأنّ الذي حملهم على فعله استحسان النظّارة و رغبتهم في النظر إليه. قال محمّد بن الحنفيّة: الزور، الغنا و كلّ هذه الوجوه محتملة و لكن استعماله في الكذب أكثر.

[وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً] و قيل في اللغو: كلّ ما يجب أن يتّقى و يترك.

و منهم فسرّ اللغو بكلّ ما ليس بطاعة، و هو ضعيف؛ لأنّ المباحات لا تعدّ لغوا أي إذا مرّوا بأهل اللغو يكرمون أنفسهم عن مثل حال اللغو و إكرامهم بالإعراض عن اللغو و بترك المعاونة عليه و يدخل في اللغو جميع ما لا ينبغي و أصل الكلمة مأخوذة من قولهم:

ناقة كريمة إذا كانت لا تبالي بما يحلب منها للغزارة فاستعير ذلك للصفح عن الذنب.

و قيل: مرورهم كراما هو أن يمرّوا بمن يسبّهم فيصفحون عنه و قيل: هم الّذين إذا أرادوا ذكر الفرج كنّوا عنه.

الصفة الثامنة قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً] قال صاحب الكشّاف: الآية ليس بنفي للخرور و إنّما هو إثبات له و نفي للصمم و العمى كما يقال: لا يلقاني زيد مسلما هو نفي للإسلام لا للّقاء. و المعنى أنّهم إذا ذكّروا بالآيات أكبّوا عليها حرصا على استماعها مقبلين على من يذكّر بها.

و حاصل المعنى أنّهم إذا وعظوا بالقرآن و الأدلّة نظروا فيها و تفكّروا في مقتضياتها و لم يقعوا عليها كالأصمّ و الأعمى بحيث لا ينتفع منها كالمنافقين.

الصفة التاسعة قوله: [وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا

ص: 35

قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً] و قرئ «ذرّيّتنا» و المراد أنّهم سألوا أزواجا و ذرّيّة يكون لهم قرّة أعين في الدين لا في الدنيا فأحبّوا أن يكونوا معهم في التمسّك بطاعة اللّه فتمّ سرورهم بذلك في الجنّة، أي هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من الطاعة و الصلاح.

[وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً] أي اجعلنا ممّن يقتدي بنا المتّقون و طلبوا العزّ بالتقوى لا بالدنيا و يحتمل أن يكون المعنى و اجعل لنا المتّقين إماما فحينئذ اللام و إن ورد على كلمة المتّقين و لكن في المعنى: على كلمة «نا» و لكن الأقرب أنّهم سألوا اللّه أن يبلغهم في الطاعة و العبادة المبلغ الّذي يشار إليهم و يقتدى بهم.

و في الآية على هذا المعنى ما يدلّ على أنّ الرياسة في الدين أمر مرغوب فيه و ينبغي أن يطلب كما قال الخليل: «وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» (1).

قوله تعالى: [أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا] أي الموصوفين بهذه الصفات يجزون الغرفة و الغرفة في اللغة العلية و كلّ بناء عال فهو غرفة و المراد أنّ لهم الدرجات العالية في الجنّة بسبب صيرهم و ذكر الصبر و لم يذكر المصبور عنه ليعمّ كلّ نوع من المشاقّ من ترك الشهوات و من مشاقّ الطاعات و أذيّة الجهلة من الناس و مشاقّ الجهاد و الفقر و رياضة النفس و المكاره في سبيل اللّه.

[وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً] و التحيّة الدعاء بالتعمّر و السلام الدعاء بالسلامة و حاصل التحيّة كونهم دائمين على نعيم الجنّة في مقابلة قوله «يلق أثاما» [خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً] فبيّن سبحانه أنّ الموصوفين مؤبّدون في هذه النعم أي حسنت الغرفة من حيث الاستقرار و المقام.

قوله: [قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي قل يا محمّد: ما يصنع بكم ربّي؟ أو لا يبالي بكم (2) عن أبي عمرو بن العلا و ما لا يعبأ به فوجوده و عدمه سواء و المعنى: قل للمشركين: أيّ نفع له سبحانه فيكم؟ و أيّ ضرر يعود اليه من عدمكم؟ و أيّ قدرتكم عند اللّه حتّى يدعوكم إلى الإيمان؟ لكنّ الواجب في الحكمة دعاؤكم إلى الدين و إرسال الرسول و قد فعل و قيل: معناه: لو لا عبادتكم له و إيمانكم به و توحيدكم إيّاه، عن الكلبيّ

ص: 36


1- الشعراء: 84.
2- و عليه ما فتكون «ما» نافية.

و مقاتل و مجاهد فيكون الدعاء بمعنى العبادة و على هذا المعنى الآية تدلّ على أنّ من لا يعبد اللّه و لا يطيعه فلا وزن له عند اللّه و قيل: معناه: لو لا دعاؤكم له إذا مسّكم ضرّ أو أصابكم سوء رغبة و خضوعا له، روى العيّاشيّ بإسناده عن بريد بن معاوية العجليّ قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: كثرة القراءة أفضل أم كثرة الدعاء؟ قال عليه السلام: كثرة الدعاء أفضل و قرأ هذه الآية.

قوله: [فَقَدْ كَذَّبْتُمْ الخطاب لأهل مكّة أي إنّ اللّه دعاكم بواسطه الرسول إلى توحيده و عبادته فقد كذّبتم الرسول [فَسَوْفَ يَكُونُ العذاب [لِزاماً] أي فسوف يكون عقابه على تكذيبكم رسوله لازما لكم و واقعا بكم لا محالة أو المعنى: ما خلقتكم و بي إليكم حاجة إلّا أن تسألونى فأعطيكم و تستغفروني فأغفر لكم و أعلمتكم أنّ حكمي أنّي لا أعتدّ بعبادي إلّا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم و مخالفتكم و هو عذاب الآخرة و نظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه:

إنّ من عادتي أن احسن إلى من أطاعني و قد عصيت فسوف ترى ما يحلّ بك من عصيانك.

فإن قيل: الخطاب إلى من يتوجّه؟ فالخطاب يتوجّه إلى المكلّف على الإطلاق و ترك اسم «كان» للعلم به لأنّ بسبب التكذيب يكون العذاب لازما. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 37

سورة الشعراء

اشارة

مكية إلّا قوله «وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» إلى آخر السورة فإنّها مدنيّة.

فضلها: عن أبيّ بن كعب: قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح و كذّب به و هود و شعيب و صالح و إبراهيم و بعدد من صدّق بمحمّد و كذّب بعيسى.

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء اللّه و أسكنه اللّه في جنّة عدن وسط الجنان مع النبيّين و المرسلين و الوصيّين الراشدين و لم يصبه في الدنيا بؤس أبدا و اعطي من الأجر في الآخرة حتّى يرضى و فوق رضاه و زوّجه اللّه مائة حوراء من الحور العين.

ص: 38

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الشعراء (26): الآيات 1 الى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

قرأ بعض مثل حمزة بإظهار النون بعد السين و الآخرون بالإدغام. قد ذكر معاني الحروف المقطّعة في أوّل البقرة. و قال بعض: إنّ «طس» و «طسم» من أسماء القرآن و قال ابن عبّاس في رواية الوالبيّ: «طسم» قسم و هو من أسماء اللّه. و قال القرطبيّ: أقسم اللّه بطوله و سنائه و ملكه. و روي عن محمّد بن الحنفيّة عن عليّ عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

لمّا نزلت «طسم» قال: الطاء طور سيناء و سين الإسكندريّة و الميم مكّة. و قيل:

الطاء شجرة طوبى و السين سورة المنتهى و الميم محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

[تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أشار بتلك إلى ما ليس بحاضر لكنّه متوقّع فهو كالحاضر لحضور المعنى في النفس و التقدير: تلك الآيات الّتي و عدتم بها هي آيات القرآن الّذي يبيّن الحقّ من الباطل.

[لَعَلَّكَ باخِعٌ تهلك [نَفْسَكَ و قاتل نفسك ب [أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بأن يقيموا على الكفر. و إنّما قال سبحانه ذلك تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و تخفيفا عن اغتمامه. البخع أن يبلغ بالذبح النخاع و هو الخرم النافذ في ثقب الفقرات و ذلك أقصى حدّ الذبح و كلمة «لعلّ» للإشفاق.

فإن قيل: إنّ القوم لمّا كانوا كفّارا فكيف يكون الآيات مبيّنة لهم ما يلزمهم و إنّما تبيّن بذلك الأحكام؟

ص: 39

قلنا: ألفاظ القرآن من حيث تعذر عليهم أن يأتوا بمثله يستدلّ به على أنّه كلام خالقهم فبيّن به التوحيد و دليله و كذلك لعجزهم بالإتيان يبيّن و يثبت النبوّة و إذا ثبت هذا فصارت آيات القرآن كافية في كلّ الأصول و الفروع أجمع ثمّ بيّن سبحانه أنّه قادر على أن ينزّل آية يذلّون عندها و يخضعون.

فإن قيل: كيف صحّ مجي ء «خاضعين» خبرا عن الأعناق لأنّها وصفت بالخضوع الّذي هو صفة للعقلاء؟

قيل: «خاضعين» مثل قوله: «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» (1) أو المراد جماعات الناس تقول:

جاء عنق من الناس أي فوج فحينئذ معناه: أصحاب الأعناق، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقام المضاف لدلالة الكلام عليه و قد يوصف ما لا يعقل بصفة من يعقل في كلام العرب.

و ذكر أبو حمزة الثماليّ في هذه الآية أنّ الآية صوت يسمع من السماء في النصف من رمضان و تخرج له العواتق من البيوت.

و قال ابن عبّاس: نزلت فينا و في بني اميّة قال: سيكون لنا عليهم الدولة فتخضع لنا أعناقهم بعد صعوبتها و تلين، و هي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر.

و في الإرشاد قال المفيد عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: سيفعل اللّه ذلك بهم قيل: و من هم؟ قال: بنو اميّة و شيعتهم، قال: و ما الآية؟ قال: ركود الشمس ما بين زوال الشمس إلى وقت العصر و خروج صدر و وجه في عين الشمس يعرف بحسبه و نسبه و ذلك في زمان السفيانيّ و عندها يكون بواره و بوار قومه. و في الإكمال عن الرضا عليه السّلام في حديث يصف فيه القائم قال: و هو الّذي ينادي مناد من السماء يسمعه جميع أهل الأرض بالدعاء إليه يقول: ألا إنّ حجّة اللّه قد ظهرت عند بيت اللّه فاتّبعوه فإنّ الحقّ معه و فيه و هو قول اللّه تعالى: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ» الآية.

قوله تعالى: [وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أخبر سبحانه عن حال الكفّار أنّه لا يأتيهم ذكر جديد يعني القرآن كما: قال «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» (2) إلّا أعرضوا عنه و لم يتدبّروا فيه [فَقَدْ كَذَّبُوا

ص: 40


1- يوسف: 4.
2- الحجر: 9.

فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يوم القيامة فنبّه تعالى بأنّه مع قدرته على أن يجعلهم ملجئين بالإيمان بسبب الآية المنزلة رحيم بهم من حيث يأتيهم حالا بعد حال بالقرآن و هو الذكر و يكرّر عليهم و هم مع ذلك على حدّ واحد من الإعراض و التكذيب و الاستهزاء فلذلك زجرهم بقوله: «فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» و هو كقوله «وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» (1) ثمّ إنّه سبحانه بيّن أنّ مع إنزاله القرآن حالا فحالا لتدبّرهم قد أظهر أيضا أدلّة تحدث حالا بعد حال لتعقّلهم في القادر الحكيم فقال: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ و الزوج هو الصنف و الكريم صفة لكلّ ما يرضى و يحمد في بابه يقال: وجه كريم إذا كان مرضيّا في حسنه و جماله و كتاب كريم إذا كان مرضيّا في فوائده و معانيه و النبات الكريم المرضيّ في منافعه، و إنّه وصفه بالكريم لأنّه ما أنبت شيئا إلّا و فيه فائدة عظيمة و إن غفل عنها الغافلون.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً] و دلالة في ذلك الإنبات على قدرتنا و وحدانيّتنا [وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي لا يصدّقون و لا يعترفون به إمّا عنادا و تقليدا لأسلافهم و هربا من مشقّة التكليف قال سيبويه: «كانَ» هنا زائدة [وَ إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد [لَهُوَ الْعَزِيزُ] أي الغالب القادر الّذي لا يعجز، المنعم [الرَّحِيمُ على عباده بأنواع النعم.

ص: 41


1- ص: 87.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 10 الى 30]

وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)

قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)

قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)

قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)

قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30)

المعنى: و اتل يا محمّد عليهم الوقت الّذي و اقصص لهم النداء الّذي نادى ربّك موسى [أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ و سجّل سبحانه هذا الاسم عليهم لأنّهم ظلموا أنفسهم بالكفر و ظلموا بني إسرائيل بالعذاب و لا شك عندنا أي الإماميّة و المعتزلة أنّ النداء الّذي سمعه موسى عليه السّلام من جنس الحروف و الأصوات حلافا للأشاعرة فإنّ عندهم المسموع هو الكلام القديم و قالوا: كما أنّ ذاته تعالى منزّه لا تشبه سائر الأشياء مع أنّها معلومة فكذا كلامه منزّه عن مشابهة الحروف و الأصوات مع أنّه مسموع.

و بالجملة أمره سبحانه أن يأت فرعون و قومه فقال: [قَوْمَ فِرْعَوْنَ و هو عطف بيان للقوم الظالمين و قوله [أَ لا يَتَّقُونَ قرئ بكسر النون عوضا عن الياء و قرئ بالخطاب لأنّ الأهمّ في بدء البعثة لكلّ رسول أن ينهي قومه عن الشرك و عن القبائح و لذا قال سبحانه: ألا يتّقون عن الشرك و الظلم؟

فإن قيل: على كون الضمير للخطاب و الالتفات فما الفائدة و المخاطبون كانوا غائبين؟

قلنا: اجري ذلك في تكليم موسى في معنى إجرائهم بالحضرة كما يقال: ألا تستحي من الناس؟

[قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فطلب موسى أن يبعث معه هارون فذكر الأمور الداعية له في ذلك الطلب فقال: أخاف أن ينسبون إليّ الكذب و ذلك موجب لضيق صدري و قلبي و ذلك سبب لتغيّر الكلام على من يكون في لسانه رثّة و حبسة.

و أما هارون فليس كذلك [فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ. وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أراد قتله القبطيّ و المراد أنّ لهم عليّ ذنب بزعمهم لا أنّه أذنب بهذا القتل [فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ خاف أن

ص: 42

يقتلوه بذلك القتل.

قال اللّه: [كَلَّا] أي لا يكون ذلك و لن يقتلوك به فإنّي لا أسلّطهم عليك [فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أي فاذهب أنت و أخوك نحن نحفظكم و سامعون ما يجري بينكم، و «مستمعون» هنا بمعنى سامعون لأنّ الاستماع لا يجوز عليه سبحانه.

قوله: [فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فإن قيل: هلّا ثنّي الرسول كما ثنّي في قوله «فَقُولا» و لم يقل: «رسولا ربّ العالمين»؟ لأنّ الرسول قد يكون لمعنى الجمع قال الهذليّ:

ألكني إليها و خير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر

أو المعنى ذو رسالة أو الرسول اسم للماهيّة من غير بيان أنّ تلك الماهيّة واحدة أو كثيرة و الماهيّة محمولة على الواحد و على الأكثر فصحّ قوله: «إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ».

[أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي أمرك اللّه بأن أطلق بني إسرائيل من الاستعباد و خلّ عنهم. و في الكلام حذف تقديره: إنّهما أتيا فرعون و بلّغا الرسالة.

[قالَ فرعون أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً] و التربية تنشئة الشي ء حالا بعد حال معناه:

ألم تكن فينا وليدا صبيّا صغيرا فربّيناك؟ [وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي أقمت سنين كثيرة عندنا و هي قيل: ثمانية عشر. و قيل: ثلاثين سنة، و قيل: أربعين سنة. و أظهر لؤمه حيث ذكر صنائعه.

[وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني قتل القبطيّ [وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ لنعمتنا و تربيتنا، أو المعنى: أنت من الكافرين حيث لا تعبدنا [قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي فعلت هذه و أنا من الجاهلين بأنّ هذه الوكزة موجبة للقتل لأنّي ما تعمّدته و إنّما وقع منّي على وجه الخطأ كمن يرمي طائرا و أصاب إنسانا [فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً] أي نبوّة و جعلني نبيّا و هو الّذي يدعو إليه الحكمة من التوراة و العلم بالشرائع [وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ و نبيّا من الأنبياء.

[وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ قيل فيه أقوال:

ص: 43

أحدها أنّ همزة التوبيخ مضمر و المعنى: أو تلك نعمة تمنّها عليّ أن عبّدت قومي بني إسرائيل و لم تعبّدني؟

و الثاني أنّ المعنى: أ تمنّ عليّ بأن ربّيتني و استعبدت بني إسرائيل فهذه ليست بنعمة يريد أنّ اتّخاذك بني إسرائيل الّذين هم قومي أحبط نعمتك.

و الثالث أنّ معناه أنّك لو كنت لا تستعبد بني إسرائيل و لا تقتل أبناءهم لكانت امّي مستغنية عن قذفي في التابوت و إنّك تمنّ عليّ بما كان بلاؤك سببا و لو لم تعبّدهم لكفلني أهلي و «تلك» إشارة إلى خصلة مبهمة يفسّرها: أن عبّدت بني إسرائيل.

[قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ لأنّ موسى و هارون قالا: إنّا رسول ربّ العالمين، قال: أيّ جنس ربّ العالمين الّذي تدعوني إلى عبادته؟ [قالَ موسى في جوابه: [رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي مبدعهما و خالقهما [وَ ما بَيْنَهُمَا] و المراد جهتيهما- و لذا أتى بالتثنية- من الحيوان و النبات و الجماد [إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنّ الربّ من كان بهذه الصفة أو موقنين بأنّ هذه الأشياء محدثة و المحدث لا بدّ له من محدث، و لم يشتغل موسى عليه السّلام بالجواب عمّا سأله فرعون لأنّ اللّه تعالى ليس بجنس بل اشتغل ببيان صفاته و ربوبيّته و الحجّة الدالّة على وحدانيّة من خلقه الّذي يعجز المخلوقون عن مثله.

[قالَ فرعون: [لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ يريد ألا تستمعون مقالة موسى؟ أو ألا تصغون إليه و تفهمون ما يقوله؟ تعجّبا من قوله. يريد: انظروا إلى هذا الرجل أسأله عن شي ء فيجيب غيره فأجاب موسى في الرفق و تأكيد الحجّة [قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ تأكيدا لما قبله من الحجّة لأنّ فرعون يدّعي الربوبيّة على أهل عصره فبيّن موسى أنّ المستحقّ للربوبيّة من هو ربّ كلّ عصر فعند ذلك موّه عليهم بهذا الكلام.

[قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ لأنّه لا يوافق جوابه سؤالي كما يفعل المجنون فلمّا سمع موسى منه هذه النسبة أكّد الحجّة و [قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ .

فلمّا طال الاحتجاج على فرعون [قالَ مهدّدا لموسى: [لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ و كان إذا سجن أحدا لم يخرجه حتّى يموت فلمّا توعّده

ص: 44

بالسجن قال موسى: [أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ معناه: أ تسجنني و لو جئتك بشي ء و أمر ظاهر تعرف صدقي عن كذبك و حجّة ظاهرة تدلّ على نبوّتي و إنّما قال: «لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» إشارة إلى أنّي جاعلك واحدا من جملتهم في سجوني و كان سجنه أشدّ من القتل و آخره الموت أو القتل و كان من عادته أن يأخذ من يريد أن يسجنه فيطرحه في بئر عميقة فردا لا يبصر فيها و لا يسمع. و الواو في قوله «أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ» و او الحال دخلت عليها همزة الاستفهام معناه: أ تفعل بي ذلك و لو جئتك بشي ء ظاهر.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 31 الى 50]

قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35)

قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40)

فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45)

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50)

قال فرعون لموسى عليه السّلام: هات ما ادّعيته من المعجزات إن كنت صادقا [فَأَلْقى موسى حينئذ عصاه [فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ حيّة عظيمة أو الذكر من الحيّات العظام [مُبِينٌ لا شبهة فيه، روي أنّه لمّا انقلبت العصا حيّة ارتفعت في السماء قدر ميل ثمّ انحطّت مقبلة

ص: 45

إلى فرعون و جعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، و يقول فرعون: يا موسى أسألك بالّذي أرسلك ألّا أخذتها فعادت عصا.

ثمّ إنّ موسى لمّا أتى بهذه الآية قال له فرعون: هل غيرها؟ قال: نعم، فأراه يده ثمّ دخلها في جيبه ثمّ أخرجها فإذا هي بيضاء تضي ء الوادي من شدّة بياضها من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس و هذا قوله: [وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجّة على قومه [قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ و كان الزمان علم السحر كثير عندهم و روّج هذا القول عليهم بأنّه [يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ و هذا يجري مجرى التنفير عنه لئلّا يقبلوا قوله، و معلوم أنّ مفارقة الوطن المألوف أمر صعب ينفّرهم عنه بذلك.

ثمّ قال: [فَما ذا تَأْمُرُونَ فأظهر من نفسه أنّي متّبع لرأيكم و بهذا الكلام جذب قلوبهم إلى نفسه و أبعدهم عن موسى فعند هذه الكلمات اتّفقوا على جواب واحد [قالُوا أَرْجِهْ أو أرجئه بالهمز و التخفيف لغتان أي أخّره و مناظرته لوقت اجتماع السحرة، و قيل: معناه: احبسه. روي أنّ فرعون أراد قتله و لم يكن يصل إليه فقالوا له:

لا تفعل فإنّك إن فعلته أدخلت على الناس شبهة و لكن أرجه [وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ بإنفاذ [حاشِرِينَ و جامعين يجمعون السحرة من جميع البلدان فيأتون لك بكلّ عالم في السحر فحشروهم [فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي لوقت معيّن اختاروه و هو يوم عيدهم يوم الزينة [وَ قِيلَ لِلنَّاسِ أي لأهل مصر: [هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي إنّهم بعثوا على الحضور من الناس ليشاهدوا ما يكون من الجانبين لعلّنا نتّبع السحرة أي إنّا نرجو أن يكون الغلبة للسحرة فنتّبعهم و كان ذلك الأمر مطلوب موسى لتظهر حجّته.

[فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. قالَ نَعَمْ فابتدءوا بطلب الجزاء و هو إمّا المال أو الجاه فبذل لهم ذلك و أكّده بقوله: [وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ لأنّه نهاية مقصود هم المال و رفع المنزلة.

[قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ قال للسحرة: ألقوا ما أنتم هيّأتم من

ص: 46

أموركم و هذا بصورة الأمر و لكنّ المراد به التحدّي [فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فطرحوا ما كان من الحبال و العصيّ المموّهة بالسحر المعمولة بالزيبق و بعض الأدوية المركّبة المعدّة لهذا الفنّ و أقسموا بعزّة فرعون و المراد من العزّة القوّة الّتي تمتنع بها من لحاق ضيم لعلوّ منزلتها و كان هذا القول قسم منهم و إن كان غير مبرور [فَأَلْقى عند ذلك [مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي إنّ العصا؟؟ لقفت و تناولت و خلست جميع ما موّهوا به في أوجز مدّة من الزمان.

[فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ و قد بهرهم ما أظهره موسى و علموا أنّ ذلك من عند اللّه إذ كانوا أساتيد في علم السحر و عرفوا أنّ أحدا من البشر لا يقدر على مثل ذلك [قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ بعد ذلك قال فرعون مهدّدا لهم:

أ صدقتمو فيما يدعو إليه [قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في تصديقه؟ [إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيما بعد فيما أفعله بكم من العقوبة ثمّ فسّر لهم بقوله:

[لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ يعني قطع اليد من جانب و الرجل من الجانب الآخر بقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى [وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ مع ذلك على الجذوع و لا أترك أحدا منكم لا تناله عقوبتي.

[قالُوا] في جوابه عن ذلك: [لا ضَيْرَ] أي لا ضرر علينا في ما تفعله يقال: ضاره يضيره ضيرا و ضرّه يضرّه ضرّا [إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي إلي ثواب ربّنا راجعون و لا يضرّنا قطعك و صلبك فإنّه ألم ساعة ثمّ إلى النعيم الدائم.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 51 الى 68]

إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55)

وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (57) وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)

فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

ص: 47

قوله [إِنَّا نَطْمَعُ إشارة إلى الكفر و السحر منهم و الطمع في هذا الموضع يحتمل أن يكون اليقين كقول إبراهيم: «وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (1) و يحتمل أن يكون بمعنى الظنّ لأنّ المرء لا يعلم ما سيجي ء من بعد و أمّا قوله: [أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فالمراد: لأنّا كنّا مؤمنين من الجماعة الّذين حضروا ذلك الموقف. و قرئ «إن» على معنى الشرطيّة و أنّهم أوّل من آمن لموسى في ذلك اليوم من أهل الموقف عند فرعون و أنّ بني إسرائيل كانوا مصدّقين بموسى من قبل.

قوله: [وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي و أسرى و سرى لغتان فحينئذ يجوز بهمزة القطع و الوصل. و لمّا ظهر أمر موسى عليه السّلام أمره اللّه بأن يخرج ببني إسرائيل و هم الّذين من قوم موسى و آمنوا به و أراد سبحانه تخليصهم من يد فرعون و تمليكهم بلاد فرعون و ما يؤدّي إلى استيصال قوم فرعون و هو عليه السّلام أسرى بهم، ثمّ إنّ قوم موسى قالوا لقوم فرعون: إنّ لنا في هذا الليلة عيدا ثمّ استعاروا منهم حليّهم و حللهم بهذا السبب فخرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر.

فلمّا سمع فرعون ذلك [أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يحشرون و يجمعون إليه الناس و أمر أن يجمعوا له الجيش ليقبضوا على موسى و قومه. فلمّا اجتمع الناس عنده قال فرعون لهم: [إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ و الشرذمة عصبة قليلة من عصب كثيرة أي عصابة قليلة قوم موسى. قال المفسّرون: الشرذمة الّذين قلّلهم فرعون ستّمائة ألف و لا يحصى عدد أصحاب فرعون فأطمع فرعون أصحابه بقلّة أصحاب موسى و وصفهم بالقلّة ثمّ قال: [وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ يعني يفعلون أفعالا تغيّظنا و تضيّق صدورنا و اختلفوا في تلك الأفعال على وجوه:

أحدها: ما تقدّم من أمر الحليّ، و ثانيها: خروج بني إسرائيل عن عبوديّة فرعون و استقلالهم في الدين و لم يتّخذوا فرعون إلها. قوله: [وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ و قرئ «حذرون» و الحاذر الحذر المستعدّ و الحذر المتيقظ أي إنّا شاكو السلاح و مستعدّون و ذو و قوّة.

ص: 48


1- السورة: 82.

ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة إهلاكهم بقوله: [فَأَخْرَجْناهُمْ يعني آل فرعون [مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتين [وَ عُيُونٍ جارية [وَ كُنُوزٍ] أي أموال مخبأة و دفائن [وَ مَقامٍ كَرِيمٍ قيل:

المراد منابر تخطب عليها الخطباء، عن ابن عبّاس، و قيل: هو مجالس الأعيان و الأمراء الّتي كان تحفّ بها الأتباع، و قيل: المنازل الحسان الظريفة الّتي كانوا مقيمين فيها في كرامة و عزّة. و قيل: مرابط الخيل لتفرّد الرؤساء بارتباطها.

[كَذلِكَ أي أمرهم كما وصفنا لك [وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ و ذلك أنّ اللّه ردّ بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون و قومه و أعطاهم جميع ما كان لفرعون و قومه من الأموال و المساكن و العقار و الديار.

[فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ يعني قوم فرعون أدركوا موسى و أصحابه حين شرقت الشمس و ظهر ضوؤها و ذلك [فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ و تقابلا بحيث يرى كلّ فريق صاحبه [قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي سيد ركنا جمع فرعون و لا طاقة لنا بهم [قالَ موسى ثقة بنصر اللّه [كَلَّا] لن يدركونا و لا يكون ما تظنّون فانتهوا عن هذا القول [إِنَّ مَعِي رَبِّي بنصره [سَيَهْدِينِ أي سيرشدني إلى طريق النجاة و سيكفيني.

[فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ] و هو نهر النيل ما بين أيلة و مصر، و قيل: هو بحر قلزم ما بين مكّة و اليمن إلى مصر، و فيه حذف أي فضرب [فَانْفَلَقَ أي فانشقّ البحر و ظهر فيه اثنا عشر طريقا و قام الماء عن يمين الطريق و يساره كالجبل العظيم و ذلك قوله: [فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي فكان كلّ قطعة من البحر كالجبل العظيم و الفرق الاسم لما انفرق.

روي عن ابن عبّاس أنّ موسى عليه السّلام لمّا انتهى إلى البحر مع بني إسرائيل أمرهم أن يخوضوا البحر فامتنعوا إلّا يوشع بن نون فإنّه ضرب دابّته و خاض في البحر حتّى عبر ثمّ رجع إليهم فأبوا أن يخوضوا فقال موسى للبحر: انفرق لي فقال ما أمرت بذلك و لا يعبر عليّ العصاة فقال موسى: يا ربّ قد أبى البحر أن ينفرق فقيل له: اضرب بعصاك البحر فضربه به ما نفرق و صار فيه اثنا عشر طريقا لكلّ سبط منهم طريق فقال: كلّ سبط:

قتل أصحابنا فعند ذلك دعا موسى ربّه فجعلها مناظر كهيئة الطبقات حتّى نظر بعضهم

ص: 49

إلى بعض على أرض يا بسة.

و عن عطاء السائب: إنّ جبرئيل كان بين بني إسرائيل و بين آل فرعون و كان يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأوّلكم، و يستقبل القبط فيقول: رويدكم ليلحق آخركم.

و الطود الجبل المتطاول.

قوله: [وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي و قرّبنا ثمّ أي حيث انفلق البحر للآخرين قوم فرعون و الحاصل: قرّبنا إلى البحر فرعون و قومه حتّى أغرقناهم، عن ابن عبّاس. و قيل: معناه: جمعنا في البحر فرعون و قومه. و قيل: معناه: و قرّبنا هم إلى المنيّة لمجي ء وقت إهلاكهم حيث انفلق البحر للآخرين قوم فرعون و جمعناهم حتّى لا ينجو منهم أحد. و من الناس من قال: و «أزلفنا» أي حبسنا فرعون و قومه عند طلبهم موسى بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم فوقفوا حيارى. و قرئ «أزلقنا» بالقاف أي أزللنا أقدامهم و أذهبنا عزّهم، و يحتمل أن يجعل اللّه طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبسا و أزلقهم.

و هاهنا بحث و هو أنّه تعالى أضاف ذلك الإزلاف إلى نفسه مع أنّ اجتماعهم هنا لك كفر؛ و أجيب عنه بأنّ قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل و بنو إسرائيل إنّما فعلوا ذلك بأمر اللّه فلمّا كان مسيرهم بتدبيره و هؤلاء تبعوا ذلك أضافه إلى نفسه توسّعا و هذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيقول: أتعبني الغلام؛ لأنّه حدث ذلك التعب عند فعله.

و أجيب أيضا أي أزلفنا هم إلى الموت لأجل أنّهم في ذلك الوقت قربت آجالهم قال الشاعر:

و كلّ يوم مضى أو ليلة سلفت فيها النفوس إلى الآجال تزدلف

و أجاب الكعبيّ من هذه الشبهة أنّه تعالى لمّا حلم عنهم و ترك البحر يبسا و طمعوا في عبوره جازت الإضافة كالرجل يسفه عليه صاحبه مرارا فيحلم عنه فإذا تمادى في السفه و أراد قدرته عليه قال له: أنا أحوجتك إلى هذا و صبّرتك بحلمي، لا يريد بذلك أنّه أراد ما فعل، أو جمعهم ليعاقبهم و يغرقهم للاستحقاق. و هذا الجواب أكمل من جملة الأجوبة.

ص: 50

قوله تعالى: [وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ يعني بني إسرائيل أنجينا هم من الغرق و الهلاك [ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي فرعون و جنوده.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً] أي إنّ الّذي حدث من هذه الأمور في البحر و إهلاك فرعون و قومه و نجاة موسى و قومه آية عجيبة من الآيات العظيمة الدالّة على القدرة و لمّا كان ما وقع مصلحة في الدين و الدنيا و على صدق موسى و لاعتبار المعترين فيكون تحذيرا من الإقدام على مخالفة أمر اللّه تعالى و أمر رسوله و يكون فيه عبرة لامّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ قال عقيب ذلك: [وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ و في ذلك تسلية لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله لأنّه قد كان يغتمّ بتكذيب قومه فنبّهه اللّه تعالى بهذا البيان على أنّ له أسوة بموسى فإنّ الّذي ظهر على موسى من هذه المعجزات العظام الّتي تبهر العقول لم يمنع من أكثرهم كذّبوه و كفروا به مع مشاهدتهم لما شاهدوه في البحر و غيره فكذلك أنت يا محمّد لا تعجب من تكذيب قومك أكثرهم لك و اصبر على إيذائهم فقد جرى العادة في أسلافهم من إنكار الحقّ و قبول الباطل، و السبب في تكرّر بيان هذه القصص في القرآن لأنّها من عظائم الأمور الواقعة من الأمم فيكرّرها سبحانه تعالى ليتسلّى بها رسوله صلّى اللّه عليه و آله و لئلّا يضيق صدره.

[وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ] الغالب سلطانه [الرَّحِيمُ بخلقه.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 69 الى 73]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)

فقد ذكر سبحانه في هذه الآية قصّة إبراهيم عليه السّلام ليعرف محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنّ حزن إبراهيم كان بسبب عدم إيمان قومه و هو كان حزنه مثل حزنك على قومك و أيّ حزن أعظم من أن يرى الإنسان أقاربه في النار و هو لا يتمكّن من إنقاذهم إلّا بالدعوة و لا يفيد الدعوة.

فقال لهم: [ما تَعْبُدُونَ و كان يعلم إبراهيم أنّهم عبدة الأصنام و لكنّه سألهم

ص: 51

لإلقاء الحجّة عليهم فأجابوا بقولهم: [قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ و العكوف الإقامة على الشي ء و إنّما قالوا: نظلّ، لأنّهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل و غرضهم بهذا البيان من الابتهاج و الافتخار بهذه العبادة و إلّا لكان يكفيهم في الجواب بقولهم:

«نَعْبُدُ أَصْناماً».

[ف قالَ إبراهيم منبّها على فساد طريقتهم: [هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ و في الكلام حذف و التقدير: هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون، و الحاصل أنّ الّذين تعبدونهم هل يسمعون دعاءكم فيستجيبون لكم في بذل منفعة أو دفع مضرّة.

[سورة الشعراء (26): آية 74]

قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74)

. و هذا إخبار منهم عن تقليدهم صرفا آباءهم في عبادة الأصنام من غير نفع أو ضرّ فقال إبراهيم منكرا لهم على التقليد:

[سورة الشعراء (26): الآيات 75 الى 77]

قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77)

أي أ نظرتم و تأمّلتم ما كنتم تعبدونه أنتم و القدماء من أسلافكم و آبائكم أحقّ أم باطل؟ و مقصوده أنّ الباطل لا يتغيّر بأن يكون قديما أو حديثا أو يكون فاعلوه كثيرين أو قليلين.

[فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ معناه أنّ عبّاد الأصنام مع الأصنام عدوّ لي، و غلب من يعقل على ما لا يعقل في الضمير و لذا أتى بجمع العقلاء لمّا وصفها بالعداوة الّتي لا تكون إلّا من العقلاء و جعل الأصنام كالعدوّ في الضرر من جهة عبادتها فاستثنى من المعبودين إلّا اللّه فقال: [إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ .

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 78 الى 104]

الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ (79) وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)

يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)

مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ (94) وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97)

إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَ ما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

ص: 52

قوله: [الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ و لمّا قال إبراهيم «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ»- و العدوّ و الصديق يجيئان في الواحد و الجمع- و بيان العداوة من الجماد أنّه تعالى يحيي ما عبدوه من الأصنام حتّى يقع منهم البراءة عن عابديهم و التوبيخ منهم عابديهم كما قال سبحانه في سورة مريم في الأوثان قوله: «كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» (1) فأطلق إبراهيم لفظ العدوّ عليها على هذا المعنى أو بسببهم يقع الضرر من العذاب، و هذا فعل العدوّ، فاستثنى إلّا ربّ العالمين و هذا الاستثناء منقطع أي لكن ربّ العالمين ثمّ وصف ربّه بما يستحقّ العبادة فأثنى عليه بأنّه خلقه و هداه و بهما يحصل جميع المنافع.

و هاهنا نكتة و هو أنّ قوله: «الَّذِي خَلَقَنِي» ذكره بلفظ الماضي «ثمّ يَهْدِينِ» بلفظ المستقبل و السبب في ذلك أنّ خلق الذات لا يتجدّد في الدنيا بل لمّا وقع بقي إلى الأمد المعلوم و أمّا هدايته فهي يتكرّر كلّ حين و أوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدينيّة أو الدنيويّة و ذلك بأن يحكم العقل بتميّز الحقّ عن الباطل و الخير عن الشرّ فخلقه في الماضي دفعة و الهداية إلى مصالح الدين بالدنيا بضروب الهدايات كلّ لحظة و لمحة.

و البيان الثاني من قول إبراهيم: [وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ و قد دخل فيه كلّ ما يتّصل بمنافع الرزق و ما يوجب كونه سببا لبقاء النعمتين أعني الخلق و الهداية إذ لو لم يكن معه ما يتمكّن معه الإنسان من الاغتذاء به نحو الشهوة و القوّة و التميّز لم تكمل النعمة للحاجة في البقاء إليه.

ص: 53


1- الآية 83.

[وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ و إنّما قال: «إِذا مَرِضْتُ» و ما قال: أمرضني؛ لأنّ كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في المطعم و المشرب و من ثمّ قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم. و إنّ المرض يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض و ذلك الاستيلاء غالبا يحصل بسبب عدم بقاء الأخلاط على اعتدالها الطبيعيّ من شره النفس و سوء التدبير في الغذاء فيقع التنافر فحينئذ ما أضاف الأمراض إلى اللّه، و لكنّ الصحّة يحتاج إلى إعادة الاعتدال في الطبع بسبب قاهر يقهرها على العود و دفع التنافر فأضاف إلى اللّه القاهر و ما أضاف المرض إليه و لو أنّ بعض الأمراض منه لكن لمّا كان الغالب ليس منه فما أضاف، على أنّ مقصود إبراهيم تعديد النعم و لمّا لم يكن الأمراض في الأذهان من النعم و لكنّ الشفاء من اصول النعم أضافه إليه سبحانه.

فإن نقضته بالإماتة حيث يقول عليه السّلام: [وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ .

فالجواب أنّ الموت ليس بضرر إنّما الضرر في مقدّماته و هو المرض و قد عرفت أنّ الأرواح إذا كملت في المعارف و العلوم و الأخلاق فإبقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر و خلاصها عنها عين السعادة.

[وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ و الطمع هاهنا اليقين و هو المرويّ عن بعض المفسّرين. و قال بعض المفسّرين: إنّما ذكره على هذا الوجه تعليما منه لأمّته كيفيّة الدعاء و على سبيل الانقطاع إلى اللّه لا على سبيل أنّ له خطيئة يحتاج أن يغفر له يوم القيامة لأنّ عندنا الإماميّة لا يجوز أن يقع من الأنبياء شي ء من القبائح و عند جميع أهل العدل و إن جوّزوا عليهم الصغائر فإنّها تقع عندهم محبطة مكفّرة فليس شي ء غير مغفور فيحتاج إلى أن يغفر يوم القيامة. و قيل معناه: أطمع أن يغفر لمن يشفّعني فيه فأضافه إلى نفسه كقوله لنبيّه: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ» (1) و الوجه الأقوم في معنى الآية أنّ هذا الكلام منة عليه السّلام استغفار لما عسى يندر منه من خلاف الأولى و عبّر بالخطيئة هضما لنفسه و منه: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

ص: 54


1- الفتح: 2.

فلو قيل: لم علّق مغفرة الخطيئة بيوم الدين و إنّما تغفر في الدنيا؟ لأن أثر الغفران يظهر ذلك اليوم.

فإن قيل: ما فائدة «لي» في قوله «يَغْفِرَ لِي»؟ أمّا الفائدة أنّه إذا عفى الأب عن ولده أو السيّد عن عبده في أكثر الأمر إنّما يكون طلبا للثواب أو رقّة عن العقاب أو طلبا للمحمدة و الثناء فلا بدّ أن يكون نفعا راجعا إلى العافي و المعفوّ عنه أمّا الإله سبحانه فمنزّه من أن تحدث له صفة كمال أو نفع لم يكن له و إنّه كامل لذاته و إذا كان كذلك فغفرانه له راجع لرعاية حال المعفوّ عنه لا لأجل رعاية حال العافي و لهذا قال: «لي».

قوله: [رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ فبعد أن أثنى على اللّه سبحانه ذكر مسألته و ذلك تنبيه على أنّ تقديم الثناء على الدعاء من المهمّات.

و تحقيق الكلام فيه أنّ هذه الأرواح البشريّة من جنس الملائكة فكلّما اشتغل بذكر اللّه و كان اشتغالها بمعرفة اللّه و محبّته و الانجذاب إلى عالم القدس أشدّ كانت مشاكلتها للملائكة أتمّ فكانت أقوى على التصرّف في أجسام هذا العالم و كلّما كان اشتغالها بلذّات هذا العالم و استغراقها في ظلمات هذه الجسمانيّات أشدّ كانت مشاكلتها للبهائم أشدّ فكانت أكثر عجزا و ضعفا و أقلّ تأثيرا في هذا العالم فمن أراد أن يشتغل بالدعاء يجب أن يقدّم على الدعاء ثناء اللّه و ذكر عظمته و كبريائه حتّى بسبب ذلك الذكر يصير قريبا في المشاكلة إلى الملائكة فتحصل له بسبب تلك المشاكلة قوّة ملكيّة سماويّة فيصير مبدءا لحدوث مطلوبه من دعوته و هذا تحقيق قوله: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما اعطي السائلين.

فإن قال قائل: لم لم يقتصر إبراهيم عليه السّلام على الثناء مع أنّه مرويّ عنه أنّه قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي؟

فالجواب أنّه عليه السّلام اشتغل بالدعاء لأنّ الشارع لا بدّ له من تعليم الخلق و حين كان مشتغلا بدعوة الخلق كان مشتغلا بالثناء ثمّ الدعاء و أمّا حين ما خلا بنفسه و لم

ص: 55

يكن غرضه تعليم الخلق بالآداب كأن يقتصر على قوله: «حسبي من سؤالي علمه بحالي».

و كان من سؤالاته امور:

المطلوب الاول «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً» قيل: منعاه النبوّة، و ردّ بأنّه حينئذ كان نبيّا و تحصيل الحاصل محال بل المراد كمال القوّة العلميّة و النظريّة أي زدني علما إلى علمي، «وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» و ذلك بإدراك الحقّ كاملا و كمال القوّة العملية و ذلك بأن أكون عاملا في الخير.

و إنّما قدّم قوله «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً» لأنّ القوّة النظريّة مقدّمة على القوّة العمليّة ذاتا و شرفا و العلم صفة الروح و العمل صفة البدن و كما أنّ الروح أشرف من البدن كذلك العلم أشرف من العمل و إنّما عبّر معرفة الأشياء بالحكم لأنّ الإنسان لا يعرف حقائق الأشياء إلّا إذا استحضر في ذهنه صور الماهيّات ثمّ نسب بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات و تلك النسبة بالوقوع أو اللّاوقوع هي الحكم و هذا معنى:

«اللّهمّ أرني الأشياء كما هي» فمثل هذا الإدراك و القوّة يسمّى حكمة و حكما، و أمّا قوله: «وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» أمّا الصلاح فهو كون القوّة العاقلة متوسّطة بين رذيلتي الإفراط و التفريط و ذلك لأنّ الإفراط في أحد الجانبين تفريط في الجانب الآخر و بالعكس فالصلاح لا يحصل إلّا بالاعتدال و لمّا كان الاعتدال الحقيقيّ شيئا واحدا لا يقبل القسمة البتّة و الأفكار البشريّة في هذا العالم قاصرة عن إدراك أمثال هذه الأشياء لا جرم لا ينفكّ البشر عن الخروج عن ذلك الحدّ و لو أنّ خروج المقرّبين عنه بعيد جدّا و يكون في القلّة بحيث لا يحسّ به و خروج غيرهم متفاحش جدّا و لذا أظهر إبراهيم احتياجه إلى أن قال: «وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» فاستمدّ من اللّه سبحانه في تحصيل هذه القوّة بهذا القول. و من هذا البيان ظهر لك المراد من قوله: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

المطلوب الثاني لإبراهيم عليه السّلام قوله تعالى: [وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ فطلب الذكر الجميل في الملّة الحنيفيّة الحقّة الباقي على وجه الدهر كما أنّه

ص: 56

بقي ملّة أبيكم إبراهيم و قيل: سأل ربّه أن يجعل من ذرّيّته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى الحقّ و ذلك محمّد صلّى اللّه عليه و آله فالمراد من قوله: «وَ اجْعَلْ لِي» بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هذا المعنى الثاني يؤول إلى المعنى الأوّل، و أعطاه اللّه ذلك لأنّك لا ترى أهل دين إلّا و يتوالون إبراهيم.

المطلوب الثالث قوله: [وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ و لمّا طلب من ربّه معرفته و السعادة في الدنيا و الدين طلب ما هو سعادة الآخرة و هي جنّة النعيم و عبّر بالإرث لأنّه لا مانع من الإرث.

المطلوب الرابع [وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ - و فيه وجوه- و قوله:

«إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» أي من الذاهبين عن الصواب و وصفه بكونه ضالًّا يدلّ على أنّه كان كافرا كفر جهالة لا كفر عناد.

و من الوجوه أنّ المغفرة مشروطة بالإسلام و طلب المشروط متضمّن لطلب الشرط فقوله «وَ اغْفِرْ لِأَبِي» معناه يرجع إلى أنّه عليه السّلام دعا لأبيه بالإسلام.

الوجه الثاني أنّ أباه وعده بالإسلام كما قال تعالى: «و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدة وعدها» (1) أي وعد ابنه أن يستسلم فدعا له إبراهيم لهذا الشرط و لا يمتنع الدعاء للكافر على هذا الشرط فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للّه تبرّأ منه.

الثالث أنّ أباه قال له: إنّه على دين إبراهيم باطنا و على دين نمرود ظاهرا تقيّة و خوفا فدعا له لاعتقاده أنّ الأمر كذلك فلمّا تبيّن له خلاف ذلك تبرّأ منه.

المطلوب الخامس قوله: [وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ الخزي هو الهوان. فلو قيل: إنّ إبراهيم كان يعلم بالضرورة هذا الأمر و هو قوله تعالى: «إنّ الخزي اليوم و السوء علي الكافرين» (2) و يعلم أنّ الخزي نصيب الكفّار فقط فكيف يخافه المعصوم؟

فالجواب كما أنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين فكذا درجات الأبرار دركات المقرّبين و خزي كلّ واحد بما يليق به. و الضمير في «يبعثون» راجع إلى العباد أو الضالّين.

و بالجملة المعنى أنّه لا تفضحني و لا تعيّرني بقصور يوم يحشر الخلائق، و هذا الدعاء

ص: 57


1- التوبة: 115.
2- النحل: 27.

كان منه على وجه الانقطاع إلى اللّه لما بيّنّا أنّ القبيح لا يجوز وقوعه من الأنبياء.

ثمّ فسّر ذلك اليوم بأن قال: [يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ أي لا ينفع المال و البنون أحدا إذ لا يتهيّأ لذي مال أن يفتدي من شدائد ذلك اليوم به و لا يتحمّل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه [إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشرك، و قيل: من الفساد و المعاصي. و إنّما خصّ القلب بالسلامة لأنّه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد من حيث إنّ الفساد بالجارحة لا يكون إلّا عن قصد بالقلب الفاسد. و روي عن الصادق أنّه قال:

هو القلب سلم من حبّ الدنيا، و يؤيّده قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة.

و الحاصل فقوله: «إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» أي خاليا و سالما عن العقائد الفاسدة و الميل إلى شهوات الدنيا و لذّاتها، و قيل في تأويل الآية: إنّ السليم هو اللّديغ من خشية اللّه.

قوله تعالى: [وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أي إنّ الجنّة قد تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها و يفرحون بأنّهم المحشورون إليها و النار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم يتحسّرون على أنّهم المسوقون إليها فقال:

[وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ الضالّين و إنّما يفعل اللّه ذلك ليكون سرورا معجّلا للمؤمنين و غمّا عظيما للكافرين أي كشف العطاء و أظهرت الجحيم للضالّين عن طريق الحقّ [وَ قِيلَ لَهُمْ على وجه التوبيخ في ذلك اليوم [أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام و الأوثان و أين آلهتكم هل يمنعونكم [هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بنصرتهم لكم بدفع العذاب عنكم [أَوْ يَنْتَصِرُونَ أي يمتنعون من العذاب.

[فَكُبْكِبُوا فِيها] و الكبكبة تكرير الكب مرّه بعد مرّة حتّى يستقرّ في قعرها.

في الكافي و القميّ عن الصادق. «هم» قوم و صفوا عدلا بألسنتهم ثمّ خالفوا إلى غيره. و في خبر آخر: «هم» بنو اميّة و الغاوون بنو العبّاس. أي جمعوا و طرح بعضهم على بعض يعني الآلهة الّتي تعبدونها [وَ الْغاوُونَ يعني العابدون، و الحاصل أنّ العابد و المعبود يطرح في النار [وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ أي و كبكب جنود الشيطان، يريد من تبعه من ولده و ولد آدم.

ص: 58

[قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ. تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ قالوا و هم أي قال هؤلاء و هم في النار و الآية حكاية حالهم كأنّه قيل:

ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل؟ قال العبدة و هم في النار معترفين بخطئهم في انهماكهم في الضلالة و الحال أنّهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم مخاطبين لمعبوديهم بعد أن يجعل اللّه الأصنام صالحة للاختصام بأن يعطيها القدرة على الفهم و النطق: تاللّه إن كنّا لفي ضلال مبين إذ سوّيناكم في العبادة بربّ العالمين.

و «إن» في قوله: «إِنْ كُنَّا» مخفّفة من المثقّلة و معناه لقد كنّا في الضلالة.

ثمّ قالوا: [وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي إلّا أوّلنا الّذين اقتدينا بهم و إنّهم أجرموا فاقتدينا هم عن الكلبيّ. و قيل: إلّا الشياطين. و قيل: الكافرون الّذين دعونا إلى الضلال.

ثمّ أظهروا الحسرة فقالوا: [فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ يشفعون لنا في أمرنا كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة و النبيّين [وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ من الّذين كنّا نعدّهم أصدقاء، و الحميم من الاحتمام و هو الاهتمام و هو الّذي يهمّه ما يهمّك، أو من الحامة بمعنى الخاصّة و هو الصديق الخالص، و إنّما جمع الشفعاء و وحّد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة و قلّة الصديق فإنّ الرجل التحق و هو في الأزهاق قد ينهض جماعة وافرة في تخليصه رحمة له و أمّا الصديق فهو أعزّ من بيض الأنوق، أو يريد بالصديق أيضا معنى الجمعيّة.

ثمّ إنّه سبحانه حكى قولهم عنهم بقوله: [فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأنّهم تمنّوا الرجعة إلى الدنيا، و كلمة «لو» في مثل هذا الموضع في معنى التمنّي كأنّه قيل: فليت لنا رجوع في الدنيا، و بين «لو» و «ليت» في المعنى قرب و يجوز أن يكون على أصل معناها و حذف الجواب تقديره: لفعلنا كيت و كيت. و هذا القول إخبار عن عزمهم تلك الساعة و ليس خبرا عن إيمانهم لأنّه سبحانه أخبر على خلاف ذلك بقوله: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» (1) و قوله: [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي إنّ في ما قصصناه

ص: 59


1- الانعام: 28.

دلالات لمن نظر فيها و اعتبر بها و ما كان أكثرهم مؤمنين، تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله [وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي قادر على تعجيل الانتقام لكنّه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا تذييل: في قوله: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ» في المحاسن عن الصادق عليه السّلام: الشافعون الأئمّة عليه السّلام و الصديق المؤمنون. و القميّ عنهما عليه السّلام: و اللّه لنشفعنّ في المذنبين من شيعتنا حتّى يقولوا أعداؤنا إذا رأوا ذلك: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام و إنّ الشفاعة لمقبولة و ما تقبل في ناصب و إنّ المؤمن ليشفع لجاره و ما له حسنة فيقول: يا ربّ جاري كان يكفّ عنّي الأذى فيشفّع فيه فيقول اللّه تعالى: أنا ربّك و أنا أحقّ بمن كافى عنك، فيدخله اللّه الجنّة و ما له حسنة و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنسانا فعند ذلك يقول أهل النار: فما لنا من شافعين.

و في الخبر المأثور عن جابر بن عبد اللّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ الرجل يقول في الجنّة ما فعل صديقي فلان و صديقه في الجحيم فيقول اللّه تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة فيقول من بقي في النار: فما لنا من شافعين.

و روي بالإسناد عن عمران بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا حتّى يقول الناس: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ إلى قوله- فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». و في رواية اخرى: حتّى يقول عدوّنا.

و عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفّع فيهم حتّى يبقى خادمه فيقول و يرفع سبّابتيه يا ربّ خويدمي كان يعينني الحرّ و البرد فيشفّع فيه. انتهى.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 105 الى 122]

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (108) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (110) قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)

إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)

ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

ص: 60

و لمّا قصّ سبحانه على محمّد خبر موسى و إبراهيم لتسليته فيما يلقاه من أذى قومه بيّن له نبأ نوح ممّا لقي من قومه و كان نبؤه أعظم لأنّه كان يدعوهم ألف سنة إلّا خمسين عاما و مع ذلك كذّبه قومه فقال سبحانه:

[كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ و إنّما قال: كذّبت و لو أنّ القوم مذكّر لأن تصغيرها قويمة و باعتبار الجماعة و حكي عنهم أنّهم كذّبوا المرسلين لأنّ قوم نوح كذّبوا جميع [الْمُرْسَلِينَ لأنّهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة و أيضا تكذيب نبيّ يلزم تكذيب جميع الأنبياء لأنّ كلّ رسول يأمر بتصديق جميع الرسل قال أبو جعفر عليه السّلام: يعني بالمرسلين نوحا و الأنبياء الّذين كانوا بينه و بين آدم.

[إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ أي في النسب لا في الدين، ألا تتّقون عذاب اللّه في تكذيبي و مخالفتي؟ ثمّ وصف شأنه لهم فقال: [إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ و ذلك لأنّه كان فيهم مشهورا بالأمانة كمحمّد صلّى اللّه عليه و آله في قريش كأنّه قال: كنت أمينا من قبل فكيف تتّهموني اليوم؟ [فَاتَّقُوا اللَّهَ بطاعته و عبادته [وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم به من الإيمان [وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على هذه الدعوة [مِنْ أَجْرٍ] و مال، و «من» زائدة [إِنْ أَجْرِيَ ما ثوابي و جزائي [إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ و خالق الخلائق أجمعين، ثمّ كرّر عليهم قوله:

[فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ لاختلاف المعنى، لأنّ التقدير: فاتّقوا اللّه و أطيعون لأنّي رسول أمين و اتّقوا اللّه و أطيعون لأنّي لا أسألكم عليه أجرا فتخافوا ضرر أموالكم به؟ و كلّ واحد من هذين المعنيين يقوّي الداعي إلى قبول الحقّ و بعد عن موضع التهمة و لا تكرار فيه كما تقول: ألا تخاف اللّه و قد ربّيتك صغيرا؟ ألا تخاف اللّه و قد أتلفت لك مالي؟

ثمّ بعد ذلك جاوبوه بقولهم: [أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ أي و أتباعك الأرذلون و

ص: 61

قرئ «أتباعك» و إنّما استرذلوهم لقلّة نصيبهم من الدنيا و كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحجامة و السكافة و الحياكة. و هذه الشبهة في غاية الركاكة لأنّ نوحا بعث إلى الخلق كافّة فلا يختلف في ذلك بسبب الفقر و الغنى و شرف الصنعة و دناءتها.

فأجابهم نوح بالحقّ و هو قوله: [وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لست أعلم صنائعهم و لم اكلّف ذلك و إنّما كلّفت أن أدعوعم إلى اللّه و قد أجابوا إليه [إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي ليس حسابهم إلّا على الّذي خلقني و خلقهم لو تعلمون ذلك ما عيّبتهم بصنائعهم [وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ و في الآية كالدلالة على أنّ القوم سألوه عن إبعادهم لكي يتّبعوه، فبيّن أنّ الّذي يمنعه عن طردهم أنّهم آمنوا به و لست مكلّفا بهذا الأمر [إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ .

ثمّ إنّ نوحا لمّا تمّم هذا الجواب لم يكن منهم إلّا التهديد [ف قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ و المعنى أنّهم خوّفوه بأن يقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السّلام من فلاحهم [قالَ نوح: [رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً] و ليس الغرض منه إخبار اللّه بالتكذيب لعلمه أنّ عالم الغيب و الشهادة أعلم و لكنّه أراد أنّي لا أدعو عليهم لمّا آذوني و إنّما أدعو لأجل دينك و لأنّهم كذّبوني في وحيك و رسالتك فافتح بيني و بينهم و احكم، و الفتاحة الحكومة و الفتّاح الحاكم لأنّه يفتح المستغلق و المراد من هذا الحكم إنزال العقوبة لأنّه عليه السّلام عقّبه [وَ نَجِّنِي و لو لا أنّ إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى حيث قال: و نجّنى [وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .

[فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ من أهل دينه [فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي المملوء، و الفلك السفينة الواحد على وزن قفل و الجمع على وزن اسد [ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ أي أغرقنا بعد نجاة أصحاب نوح و نوح، الباقين الخارجين من السفينة الكافرين به [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً] و علامة واضحة على معرفة القادر [وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ] في إهلاك قوم نوح بالغرق [الرَّحِيمُ بالمؤمنين حيث نجّاهم.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 123 الى 140]

كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (126) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)

أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (131) وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)

أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ (133) وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)

وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)

ص: 62

أخبر سبحانه عن عاد أي قبيلة عاد، و فاتحة هذه القصّة نوح واحدة و مستغنى عن إعادة التفسير ثمّ إنّ سبحانه ذكر الأمور الّتي تكلّم هود فيها مع قومه و هي ثلاثة:

فأولها قوله: [أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ و الريع بالكسر و الفتح المكان المرتفع و الآية العلم. عن ابن عباس: إنّهم كانوا يبنون بكلّ ريع علما يعبثون فيه بمن في الطريق إلى هود. و الثاني أنّهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخرا على الفقراء فنهوا عنه. و الثالث أنّهم كانوا ممّن يهتدون بالنجوم في أسفارهم فاتّخذوا في طريقتهم أعلاما طوالا فكان ذلك عبثا لأنّهم أغناهم اللّه بالنجوم و كان ذلك أمر لغو و سرف.

و الرابع أنّهم بنوا بكلّ ريع بروج الحمّام.

و ثانيها من كلمات هود قوله: [وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ المصانع مآخذ الماء و قيل القصور المشيّدة، لعلّكم ترجون الخلود في الدنيا أو تشبيه حالكم حال من يخلد و لا يموت، و في مصحف ابيّ كأنّكم، و قرئ «تخلدون» بضمّ التاء مخفّفا و مشدّدا.

و ثالثها قوله: [وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ البطش الأخذ باليد أي إذا أردتم إنزال عقوبة بأحد عاقبتم عقوبة المتجبّر يريد التجبّر بارتكاب العظائم. و قيل: معناه: إذا عاقبتم

ص: 63

قتلتم؛ فمعنى الجبّار القّتال بغير حقّ و حاصل المعنى: أنّهم أحبّوا العلوّ و الكبر و البقاء، و هذه الصفات ممتنعة الحصول للعبد و إذا استغرق الإنسان فيها فيخرج عن حدّ العبوديّة و يحوم حول ادّعاء الربوبيّة.

ثمّ بعد أن ذكر هذه الأمور الثلاثة قال: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ زجرا لهم عن حبّ الدنيا بالأمر بالتقوى ثمّ نبّههم على نعم اللّه إجمالا أوّلا بقوله: [وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ ثمّ فصّل بقوله: [أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ. وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فحينئذ بلغ في دعوتهم بالوعظ و الترغيب و الترهيب.

فكان جوابهم: [قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أي لا نقبل نصحك على كلّ حال و حصول الوعظ منك و عدمه مستويان عندنا، ثمّ بيّنوا السبب لعدم اكتراثهم بكلامه و هو أنّ ما جئت به اختلاق الأوّلين و تخرّصهم و لست بنبيّ و هذا المعنى على قراءة «خلق الأولين» أو المعنى أنّ خلقنا هذا مثل خلق القرون الماضية نحيى كحياتهم و نموت كمماتهم و لا بعث و لا نشور و لا حساب، و من قرأ «خُلُقُ» بضمّتين أو واحدة فمعناه: ما هذا الّذي نحن عليه من الدين إلّا عادة الأوّلين و نحن بهم مقتدون.

قيل: المعنى: إنّ هذا الّذي نحن عليه من تشيّد البناء و اتّخاذ المصانع و البطش الشديد من عادة من قبلنا [وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما تدّعيه لا في الدنيا و لا في الآخرة.

[فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ بعذاب الاستيصال [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ مرّ تفسيره.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 141 الى 159]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (144) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)

أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (147) وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (150)

وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)

وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

ص: 64

و اعلم أنّ صالحا عليه السّلام خاطب قومه بأمور:

أحدها قوله: [أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي أ تظنّون أنّكم تتركون فيما أعطاكم اللّه من الخير في هذه الدنيا آمنين من الزوال و الموت و العذاب أي لا يبقى ما أنتم فيه من النعم و إنّها ستزول عنكم. ثمّ عدّد بعض نعمهم الّتي كانوا فيها فقال: [فِي جَنَّاتٍ أي بساتين مستورة بالشجر [وَ عُيُونٍ جارية [وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ و الطلع هو الّذي يطلع من النخلة كنصل الصيف في خوخة شماريخ، و الهضيم اللطيف و قيل: معنى الهضيم هاهنا النضيج أي نخل قد أرطب ثمره و أصلح.

و الثاني قوله [وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ أي تنحتون و أنتم نشّاط و أقوياء.

و ثالثها قوله: [فَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته [وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم به ثمّ [لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ من رؤسائكم و هم تسعة رهط من ثمود عقروا الناقة ثمّ وصفهم فقال: [الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ فإن قيل: ما فائدة قوله «وَ لا يُصْلِحُونَ»؟ فالمراد أنّ فسادهم خالص من الصلاح.

ثمّ إنّ القوم أجابوه [قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ و المسحّر هو الّذي سحر كثيرا حتّى غلب على عقله. و قيل: المعنى من المسحّرين أي من له بطن يأكل و يشرب و حاصل المعنى أنّك تأكل كما نأكل و تشرب كما نشرب فلم صرت أولى منّا بالنبوّة؟ [ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا] أو من مثلنا [فَأْتِ بِآيَةٍ] بمعجزة يدلّ على صدقك [إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ هذِهِ ناقَةٌ] و هي الناقة الّتي أخرجها اللّه من الصخرة عشراء ترغو (1) على ما اقترحوه روي أنّهم قالوا: نريد ناقه عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقيا فقعد صالح يتفكّر فقال له جبرئيل: صلّ ركعتين و سل ربّك ناقة، ففعل فخرجت الناقة و بركت بين

ص: 65


1- الآية: 22.

أيديهم و حصل لها سقب مثلها في العظم.

و وصّاهم صالح بأمرين: الأوّل قوله: [لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ و قرئ شرب بالضمّ، و كانت الناقة يوم شربها شربت ماءهم كلّه و يوم شربهم لا تشرب هي. و الثاني من وصيّة صالح لهم قوله: [وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي لا تصيبوها بضرب أو عقر أو إيذاء فحينئذ يأخذكم عذاب عظيم و «عَظِيمٍ» صفة العذاب أو صفة اليوم بحلول العذاب فيه. حكي أنّهم عقروها. روي أنّ مصدعا ألجأها إلى مضيق فرماها بسهم فسقطت ثمّ ضربها قدار بن سالف.

قوله: [فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فإن قيل: لم أخذهم العذاب و قد ندموا؟

فالجواب من وجهين: الأوّل: أنّه لم يكن ندمهم ندم التائبين لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل. الثاني: أنّ الندم و إن كان ندم التائبين و لكن كان ذلك في غير وقت التوبة بل عند معاينة العذاب و قال اللّه تعالى: «وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ» الآية (1).

[فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ و الألف و اللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 160 الى 175]

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (163) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)

أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)

فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)

هذه هي القصّة السادسة: شرح سبحانه تكذيب قوم لوط نبيّهم و الأنبياء لأنّ من كذّب نبيّا كذّب تمام الأنبياء و بلّغ لوط قومه ما بلّغ الأنبياء قبله مثل نوح و

ص: 66


1- النساء: 17.

هود و صالح فلم يقبلوا منه ثمّ قال لهم و وبّخهم على الأمر القبيح فقال: اخترتم الذكران من الناس و تركتم أزواجكم الّتي خلقها اللّه [مِنْ أَزْواجِكُمْ يمكن أن يكون «من» للتبيين لما خلق و أن يكون للتبعيض و يراد بما خلق العضو المباح منهنّ و المعنى:

أ تركبون هذه المعصية العظيمة [بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ في جميع المعاصي فهذه المعصية من جملة ذاك، أو المعنى: أنتم أحقّاء بان توصفوا بالعدوان و التجاوز من الحدود.

فقالوا له: [لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي إذا ما انتهيت من نهيك لتكوننّ في جملة من أخرجناه من بلدنا و لعلّهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوء الأحوال.

فقال لهم لوط: [إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ القلي البغض الشديد كأنّه بغض يقلي الفؤاد و الكبد و هذا القول أبلغ من أن يقول: أنا لعملكم قال، أي من الكاملين في قلاكم و بغضكم.

ثمّ قال تعالى: [فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ من عقوبة عملهم [إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ و أراد سبحانه بالعجوز امرأة لوط لأنّها كانت تدلّ على أهل القرية بالفساد على الأضياف فكانت من الباقين في العذاب و هلكت فيما بعد مع من خرج من القرية بما أمطره اللّه من الحجارة و الغابر الباقي في قلّة كالتراب الّذي يذهب بالكنس فيبقى غباره و الغبر بقيّة من اللبن في الأخلاف قال الحارث بن حلّزة:

لا تكسح الشول بأغبارهاإنّك لا تدري من الناتج

و المراد من الأهل أهليّة الزواج لا الشركة في الدين.

قوله: [ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم بالخسف و قيل: بالانقلاب ثمّ أمطر على من كان غائبا منهم بالحجارة من السماء و هو قوله: [وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس و اشتدّ مطر الكافرين مطرهم و المخصوص بالذّم محذوف و هو مطرهم.

و هاهنا تحقيق و هو أنّ قوله تعالى: «وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ» تدلّ على بطلان الجبر لأنّه لا يقال: تذرون إلّا مع القدرة على خلافه و لذلك لا يقال للمرء: لم تذر الصعود إلى السماء؟ كما يصحّ أن يقال له: لم تذر الدخول و الخروج.

ص: 67

ثمّ إنّ اللّه سبحانه قال: «ما خَلَقَ لَكُمْ» و لو كان خلق الفعل للّه لكان الّذي خلق لهم ما عاقبهم و ما كانوا ملومين بقوله: «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» لأنّه تعالى إن كان خلق فيهم ما كانوا يعملون فكيف ينسبون إلى أنّهم تعدّوا؟ و هل يقال للأسود: إنّك متعدّ في لونك؟

إذ هو في اللون مقهور لأنّه وضع السواد في جسمه و لا يلومه أحد في سواده انتهى.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 176 الى 191]

كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (179) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)

أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)

وَ ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

المعنى: ثمّ أخبر سبحانه عن أصحاب الأيكة الّذين بعث إليهم شعيب و ما كانوا من قومه و لذلك ما قال: أخوهم شعيب، و كان شعيب أخا مدين أرسل إليهم و إلى أصحاب الأيكة و قرئ بدون الألف و اللام. و بالجملة الأيكة الغيضة الملتفّة بالشجر، و قيل:

شجرهم كان شجر المقل فأمرهم شعيب بأشياء:

أحدها قوله: [أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ و ذلك لأنّ الكيل على ثلاثة أضرب واف و زائد و طفيف فأمر بالواجب الّذي هو الإيفاء و نهى عن المحرّم الّذي هو التطفيف بقوله: «وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ» و لم يذكر الزائد لأنّه إن لم يفعلوا فلا إثم عليهم و بعد أن أمر بالإيفاء بيّن أنّه كيف يفعل فقال: [وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ و قرئ مضموما و مكسورا في القاف و هو الميزان، و قيل: القرسطون.

الثاني قوله: [وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تمنعوا حقوقهم و لا تنقصوها.

ص: 68

الثالث: [وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ و العثي أشدّ الفساد بالخراب نحو قطع الطريق و الغارة و إهلاك الزرع و كانوا يفعلون ذلك مع توليتهم أنواع الفساد.

الرابع: [وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ و قرئ الجبلّة بوزن ابلّة و المراد: اتّقوا الربّ الّذي خلقكم و خلق الخلقة المتقدّمة عليكم ممّن لو لا خلقهم لما كنتم مخلوقين.

فأجابوا [قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. وَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا] مرّ تفسيره قبيل هذه [وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي و إنّا نظنّك كاذبا من جملة الكاذبين و «إن» هذه مخفّفة من المثقّلة و لذلك لزمها اللام في الخبر [فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ] أي قطعة من السماء أي السحاب، و هم إنّما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فظنّوا أنّه إذا لم يقع ظهر كذبه.

فعنده قال شعيب: [رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ و فوّض الأمر إلى اللّه فلمّا استمرّوا على التكذيب أنزل اللّه عليهم العذاب على نحو ما اقترحوا من عذاب الظلّة، روي أنّه حبس عنهم الريح سبعا و غشيتهم سحابة فلمّا خرجوا إليها طلبا للبرد من شدّة الحرّ أمطرت عليهم نارا فأحرقتهم فكان من أعظم الأيّام في الدنيا عذابا و ذلك قوله [إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و معنى الظلّة هاهنا السحابة الّتي أظلّتهم.

[سورة الشعراء (26): الآيات 192 الى 212]

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)

أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)

فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206)

ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ (211)

إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

ص: 69

ثمّ بيّن سبحانه أمر القرآن بعد قصص الأنبياء المذكورين و اتّصل بها حديث نبيّنا فقال:

[وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي إنّ القرآن منزل من ربّ العالمين [نَزَلَ اللّه بالقرآن [الرُّوحُ الْأَمِينُ يعني جبرئيل و هو أمين اللّه لا يغيّره و لا يبدّله و سمّاه روحا لأنّه يحيي به الدين أو يحيي به الأرواح بما ينزل من البركات أو لأنّه جسم روحانيّ [عَلى قَلْبِكَ يا محمّد لأنّ اللّه يسمعه جبرئيل فيحفظه و ينزل جبرئيل به على الرسول و يقرؤه على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيحفظه بقلبه و هذا معنى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» و جعل اللّه قلبه وعاء له [لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ لتخوّف به الناس و تنذرهم بآيات اللّه.

[بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ بلغة العرب مبين للناس ما بهم إليه الحاجة في دينهم و إنّما جعله عربيّا لأنّ المنزّل عليه عربيّ و لأنّه تحدّى بفصاحته العرب، و قد تضمّنت هذه الآية تشريف هذه اللغة و لذلك اختارها لأهل الجنّة.

[وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي في كتب الأوّلين ذكر القرآن و خبره على وجه البشارة به و بمحمّد لا بمعنى أنّ اللّه أنزله على غير محمّد صلّى اللّه عليه و آله و قيل: معنى الآية أنّه أنزل على سائر الأنبياء من الدعاء إلى التوحيد و العدل و الاعتراف بالبعث مثل الّذي نزل في القرآن.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ المراد من الآية ذكر الحجّة على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و تقريره أنّ جماعة من علماء بني إسرائيل أسلموا و نصّوا على مواضع في التوراة و الإنجيل ذكر سبحانه فيها الرسول صلّى اللّه عليه و آله. بصفته و نعته و قد كان مشركو قريش يذهبون إلى اليهود و يتعرّفون منهم هذا الخبر، و هذا دليل ظاهر على نبوّته لأنّ تطابق الكتب الإلهيّة على نعته و صفته دليل قطعيّ على نبوّته. و قرئ «يكن» بالتذكير و «آية» بالنصب على أنّها خبره فحينئذ «أن يعلمه» اسمه و قرئ «تكن» بالتأنيث و «آية» اسمه و «أن يعلمه» خبره.

قوله: [وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ القميّ

ص: 70

عن الصادق عليه السّلام: لو نزّلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب لفرط استنكاف العرب من اتّباع العجم و قد نزل على العرب فآمنت به العجم. أقول: فهذه فضيلة العجم.

و قال الرازيّ: يعني إنّا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربيّ بلسان عربيّ مبين فسمعوه و فهموه و عرفوا فصاحته و أنّه معجز لا يعارض بكلام مثله و انضمّ إلى ذلك بشارة كتب اللّه السالفة به فلم يؤمنوا و جحدوه و سمّوه شعرا تارة و سحرا اخرى فلو نزّلناه على بعض الأعجمين الّذي لا يحسن العربيّة لكفروا به أيضا لجحودهم و استنكافهم لاتّباع العجم لكنّا أنزلناه على أفصح رجل منهم من أشرف بيت ليدّبّروا فيه و ليكون أدعى إلى اتّباعه و تصديقه و مع ذلك ما آمنوا به.

قوله تعالى: [كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي كما أنزلنا القرآن مبيّنا و واضحا أمررناه و أدخلناه في قلوب الكافرين بأن أمرنا نبيّنا حتّى قرأه عليهم و بيّنه لهم و فهموا فصاحته و معانيه و أنّه خارج عن القوى البشريّة حيث لم يأتوا بمثله من حيث النظم و من حيث الإخبار بالغيب و انضمام تصديق علماء بني إسرائيل.

قوله: [لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ جملة مستأنفة أي مع ذلك لا يتأثّرون بأمثال تلك الأمور و لا يؤمنون به حتّى يعاينوا العذاب الأليم الملجئ إلى الإيمان حتّى لا ينفعهم [فَيَأْتِيَهُمْ العذاب [بَغْتَةً] فجأة [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بمجيئه [فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ فيقولون تحسّرا و تأسّفا أي هل مؤخّرون لنؤمن و لنصدّق كما يستغيث المرء عند تعذّر الخلاص، و إنّهم علموا أن لا ملجأ لهم.

قوله: [أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ لمّا أوعدهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالعذاب استعجلوا العذاب تكذيبا له فقال اللّه سبحانه: «أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ» و استعجالهم بقولهم «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (1) و قولهم «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا»* (2) و نحوهما، هذا كان قولهم و حالهم عند نزول العذاب طلبوا النظرة.

ثمّ قال سبحانه: [أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ ثمّ بيّن تعالى أنّ استعجال العذاب على وجه التكذيب

ص: 71


1- الأنفال: 32.
2- الأعراف: 69.

إنّما يقع منهم ليتمتّعوا في الدنيا إلّا أنّ ذلك جهل منهم لأنّ مدّة التمتّع في الدنيا متناهية قليلة و مدّة العذاب غير متناهية و ليس بجائز ترجيح لذّات متناهية قليلة على آلام غير متناهية.

عن ميمون بن مهران: أنّه لقى بعض الأكابر في الطواف فقال له: عظني، فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت.

و حاصل معنى الآية: لم يغن عنهم تمتّعهم المتطاول في دفع العذاب و تخفيفه. في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منامه بني اميّة يصعدون منبره من بعده يضلّون الناس عن الصراط إلى القهقرى فأصبح كئيبا حزينا فهبط جبرئيل فقال:

يا رسول اللّه مالي أراك حزينا؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أميّة في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلّون الناس عن الصراط، فقال: و الّذي بعثك بالحقّ نبيّا إنّ هذا شي ء ما اطّلعت عليه، فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآيتين من القرآن يؤنسه بهما و الآية الاولى هذه «أ فرأيت» و الثانية «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» حيث جعل اللّه ليلة القدر لنبيّه خيرا من ألف شهر ملك بني اميّة.

و بالجملة أ رأيت و أبصرت إن أنظرناهم و أخّرناهم سنين و متّعناهم بشي ء من حطام الدنيا ثمّ أتاهم العذاب لم يغن عنهم ما متّعوا به في تلك السنين من النعيم لازديادهم في الآثام و اكتسابهم من المعاصي و هو استفهام في معنى التقرير.

قوله: [وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ أي نهلكهم بعد إقامة الحجّة عليهم بتقديم الإنذار و إرسال الرسل. قوله: [ذِكْرى وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ أي أنذرناهم تذكرة، و أنذر و ذكر متقاربان كأنّه قيل: مذكورون تذكرة، و لسنا ظلمنا هم بإصرارهم على الكفر و العناد.

و هذه الآية تكذيب لمن زعم أنّ كلّ ظلم و كفر في الدنيا و هو من خلقه و إرادته.

و غاية الظلم أن يعاقب عباده على شي ء هو خلقه فيهم و أراده منهم، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

قوله تعالى: [وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ* وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ كان

ص: 72

الكفّار يقولون: لم لا يجوز أن يكون القرآن من إلقاء الجنّ و الشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة من جانب الشياطين؟ فأجاب اللّه سبحانه بأنّ ذلك لا يتسهّل للشياطين لأنّهم مرجومون بالشهب ممنوعون عن ذلك معزولون عن استماع كلام أهل السماء.

فإن قيل: إنّ قبول امتناع الشياطين لا يحصل إلّا بواسطة قول النبيّ و القرآن و هم لم يقبلوا هذا الأمر بأنّه صادق فيما ادّعى فكيف بهذا الدليل؟

فالجواب أنّ العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك ليس منحصرا بإخبار النبيّ حتّى يقع الدور بل نحن نعلم بالضرورة أنّ الاهتمام بشأن الصديق أقوى من الاهتمام بشأن العدوّ، و أيضا نحن نعلم بالضرورة أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان يلعن الشياطين كما أنّ كتابه ينطق بلعنه و كان صلّى اللّه عليه و آله يأمر الناس بلعنهم فلو كان هذا الغيب إنّما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفّار أولى بأن يحصل لهم هذا الغيب و هذا العلم فكان يجب اقتدارهم على مثل هذا الغيب و مثل هذا البيان أولى فلمّا لم يكن كذلك علمنا أنّ الشياطين ممنوعون عن ذلك و أنّهم معزولون عن تعرّف الغيوب.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 213 الى 220]

فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)

الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

خاطب نبيّه و المراد به سائر المكلّفين فقال: [فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ بسبب ذلك [مِنَ الْمُعَذَّبِينَ و إنّما أفرده بالخطاب ليعلم أنّ العظيم الشأن إذا أوعد فكيف حال من دونه؟ و هذا لعظم الحكم فإذا حذّر الكبير فغيره أولى بالتحذير.

[وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أي رهطك الأدنين و أنذرهم من غير تليين بالقول، و إنّما خصّهم بالذكر تنبيها على أنّه ينذر غيرهم و أنّه لا يداهنهم لأجل القرابة ليقطع طمع الأجانب عن المداهنة في الدين، و امر صلّى اللّه عليه و آله بأن يبدأ بهم في الإنذار و الدعوة

ص: 73

إلى اللّه ثمّ بالّذين يلونهم كما قال: «قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ» (1) و كذلك يقتضي حسن الترتيب.

و في الخبر المأثور عن البراء بن عازب أنّه قال: لمّا نزلت هذه الآية جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني عبد المطّلب و هم يومئذ أربعون رجلا الرجل منهم يأكل الجذعة أو المسنّة و يشرب العسّ من اللبن. و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآية صعد الصفا فنادى الأقرب منه فالأقرب، و قال: يا بني عبد المطّلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عبّاس عمّ محمّد يا صفيّة عمّة محمّد! إنّي لا أملك لكم من اللّه شيئا سلوني من المال ما شئتم و روي أيضا أنّه جمع بني عبد المطّلب و هم يومئذ أربعون رجلا على رجل شاة و قعب من لبن و كان الرجل منهم يأكل الجذعة و يشرب العسّ فأكلوا و شربوا ثمّ قال: يا بني عبد المطّلب لو أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أ تصدّقوني؟ قالوا: نعم، فقال: إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

و في المجمع: فأمر صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام برجل شاة فأدمها ثمّ قال: ادنوا باسم اللّه فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتّى صدروا ثمّ دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثمّ قال: اشربوا باسم اللّه فشربوا حتّى رووا فبدر أبو لهب و قال: هذا ما سحركم به الرجل، فسكت صلّى اللّه عليه و آله يومئذ و لم يتكلّم ثمّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام و الشراب ثمّ أنذرهم صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا بني عبد المطّلب إنّي أنا النذير إليكم من اللّه و البشير فأسلموا و أطيعوني تهتدوا ثمّ قال: من يؤاخيني و يؤازرني و يكون وليّي و وصيّي بعدي و خليفتي في أهلي و يقضي ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا كلّ ذلك فسكت القوم و يقول عليّ عليه السّلام أنا، فقال في المرّة الثالثة: أنت، فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب:

أطع ابنك فقد امّر عليك، أورده الثعلبيّ في تفسيره.

و روي عن أبي رافع أنّه صلّى اللّه عليه و آله جمعهم في الشعب و صنع لهم رجل شاة فأكلوا حتّى تضلّعوا و سقاهم عسّا فشربوا كلّهم حتّى رووا ثمّ قال: صلى اللّه عليه و آله إنّ اللّه أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين و أنتم عشيرتي و رهطي، و إنّ اللّه لم يبعث نبيّا إلّا جعل له من أهله أخا و وزيرا و وصيّا و خليفة في أهله فأيّكم يقوم و يبايعني على أنّه أخي و وارثي

ص: 74


1- التوبة: 134.

و وزيري و يكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي فسكت القوم فقال:

ليقومنّ قائمكم أو ليكوننّ في غير كم ثمّ لتندمنّ ثمّ أعاد الكلام ثلاث مرّات، فقام عليّ عليه السّلام فبايعه و أجابه ثمّ قال ادن منّي فدنا منه ففتح فاه و مجّ في فيه من ريقه و تفل بين كتفيه و ثندوتيه فقال صلّى اللّه عليه و آله أبو لهب: فبئس ما حبوت به ابن عمّك أن أجابك فملأت فاه و وجهه بذاقا فقال صلّى اللّه عليه و آله: ملأته حكمة و علما.

و عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت الآية صعد رسول اللّه على الصفا فقال: يا صباحاه! فاجتمعت قريش فقالوا: مالك؟ فقال: أ رأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقوني؟ قالوا: بلى، قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب:

تبّا لك أ لهذا دعوتنا جميعا؟ فأنزل اللّه «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ» إلى آخر السورة.

قوله: [وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ألن جانبك و تواضع لهم و حسّن أخلاقك معهم [فَإِنْ عَصَوْكَ يعني أقاربك إن عصوك بعد الإنذار و خالفوك فيما تدعوهم إليه [فَقُلْ لهم إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من أعمالكم القبيحة و عبادتكم الأصنام.

[وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي فوّض أمرك إلى العزيز المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه يكفيك كيد أعدائك [الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ الّذي يبصرك حين تقوم من مجلسك أو فراشك إلى الصلاة وحدك أو في الجماعة. و قيل: المراد بالقيام للصلوات فقط، أو حين تقوم للإنذار و أداء الرسالة [وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي و يرى تصرّفك بالركوع و السجود و القيام و القعود. و قيل: المراد انتقالك في أصلاب الموحّدين من نبيّ إلى نبيّ حتّى أخرجك نبيّا، و هو المرويّ عن أبى جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام قالا: في أصلاب النبيّين نبيّ بعد نبيّ حتّى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه السّلام [إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع ما تتلو في صلاتك و يعلم ما تضمر فيها.

قوله: [سورة الشعراء (26): الآيات 221 الى 227]

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)

وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

ص: 75

لمّا أخبر اللّه أنّ القرآن ليس ممّا ينزل الشياطين و إنّه وحي من اللّه عقّبه بذكر من تنزّل عليه الشياطين فقال: [هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِ كذّاب فاجر عامل بالمعاصي و هم الكهنة، و قيل: طليحة و مسيلمة. و لست بكذّاب أنت يا محمّد و لا أثيم فلا يتنزّل عليك الشياطين و إنّما يتنزّل عليك الملائكة.

[يُلْقُونَ السَّمْعَ معناه: إنّ الشياطين يلقون ما يسمعونه إلى الكهنة و يخلطون به كثير من الأكاذيب و يوحونه إليهم [وَ أَكْثَرُهُمْ و أكثر الكهنة أو أكثر الشياطين [كاذِبُونَ قيل: هم الّذين يسترقون السمع من الملائكة فيلقون إلى الكهنة، و هذا قبل أن أوحي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعد ذلك «فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» (1).

قوله: [وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال ابن عبّاس: يريد شعراء المشركين. و ذكر مقاتل أسماء هم فقال: منهم عبد اللّه بن الزبعرى و السهميّ و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب و هبيرة بن وهب المخزوميّ و منافع بن عبد مناف الجمحيّ و أبو غرّة عمرو بن عبد اللّه كلّهم من قريش و اميّة بن أبي الصلت الثقفيّ تكلّموا بالكذب و قالوا: نحن نقول مثل ما قال محمّد، و قالوا الشعر، و اجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم و يروون عنهم حين يهجون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه بالشعر فذلك قوله تعالى: «يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» أي الضالّون.

و قيل: أراد بالشعراء الّذين غلبت عليهم الأشعار حتّى اشتغلوا بها عن القرآن و السنّة. و قيل: هم الشعراء الّذين إذا غضبوا سبّوا و إذا قالوا كذبوا و الشعر يدعوه إلى الكذب و وصف الإنسان بما ليس فيه من الفضائل و الرذائل. و قيل: إنّهم القصّاصون الّذين يكذبون في قصصهم و يقولون ما يخطر ببالهم. و في تفسير عليّ بن إبراهيم: إنّهم الّذين يغيّرون دين اللّه و يخالفون أمره. و روى العيّاشيّ بالإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: هم قوم تعلّموا و تفقّهوا بغير علم فضلّوا و أضلّوا.

قوله تعالى: [أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ أي في كلّ فنّ من الكذب يتكلّمون و في كلّ حديث يخوضون: يمدحون بالباطل و يذمّون بالباطل، و هذا المعنى المراد من هيمائهم كالبهائم من أقاويلهم اللغويّة و الغلوّ في المدح و الذمّ [وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ

ص: 76


1- الجن: 9.

ما لا يَفْعَلُونَ أي يحثّون على أشياء لا يفعلونها و ينهون عن أشياء يرتكبونها.

ثمّ استثنى من جملتهم فقال: [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و هم شعراء المؤمنين مثل عبد اللّه بن رواحة و كعب بن مالك و حسّان بن ثابت و سائر شعراء المؤمنين الّذين مدحوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ردّوا هجاء من هجاه و أتوا بأشعار الحكمة كقولهم (1):

ألا كلّ شي ء ما خلا اللّه باطل و كلّ نعيم لا محالة زائل

و لمّا وصف اللّه تعالى الشعراء بهذه الأوصاف الخسيسة بأنّهم يرغّبون الناس بالجود و هم يرغبون عنه، و ينفّرون عن البخل و هم مصرّون عليه، و بيّن أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله على خلاف ذلك و أنّه دعا الناس بتوحيد اللّه ثمّ دعا بالأقرب فالأقرب من عشيرته و كلّ ذلك على خلاف طريقة الشعراء، و قدح الشعراء بأنّهم يقولون ما لا يفعلون فاستثنى عنهم الموصوفين بهذه الصفات الأربع و هو قوله: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا». و الثاني: العمل الصالح.

و الثالث. [وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً] أن يكون شعرهم في التوحيد و النبوّة و دعوة الخلق إلى الحقّ أو لم يشغلهم الشعر عن ذكر اللّه. و الرابع أن لا يذكروا هجوا واحدا [وَ انْتَصَرُوا] من المشركين للرسول و للمؤمنين أي و ردّوا على المشركين ما كانوا يهجون به رسول اللّه و المؤمنين [مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا] و هو كقوله: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» (2).

ثمّ هدّد الظالمين بقوله تعالى: [وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أي سوف يعلم الّذين يظلمون الرسول و المؤمنين أيّ مرجع يرجعون من النار و إنّ منصرفهم إلى النار. تمّت السورة بحمد اللّه.

ص: 77


1- البيت من لبيد بن ربيعة.
2- النساء: 147.

سورة النمل

اشارة

(مكية)

فضلها:

قال أبيّ بن كعب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ «طس» كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان و كذّب به و هود و شعيب و صالح و إبراهيم و يخرج من قبره و هو ينادي: لا إله إلّا اللّه.

ص: 78

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النمل (27): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)

أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)

[طس مرّ بيانه في المقطّعات و الرموز، عن الصادق معناه: أنا الطالب المتمتّع [تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ تلك إشارة إلى ما وعدوا به من القرآن و مجيئه إضافة الآيات إلى القرآن و آيات القرآن هي القرآن فهو كقوله «إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ» (1) و القرآن و الكتاب معناها واحد وصفه بالصفتين ليفيد أنّه ممّا يظهر بالقراءة و يظهر بالكتابة و هو تارة بمنزلة الناطق و غير الناطق بما فيه من الأمرين و وصفه بقوله «مبين» تشبيها له بالناطق بكذا من البيان أي إنّ اللّه بيّن فيه أمره و نهيه و حلاله و حرامه، و البيان هو الدالّة الّتي تبيّن بها الأشياء و المبين المظهر لذلك.

[هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي هدى من الضلالة إلى الحقّ بالبيان الّذي فيه و باللطف فيه من جهة الاستحكام و الإعجاز و بشارة للمؤمنين بالجنّة و الثواب، و يجوز بالنصب على الحاليّة أي هاديا و مبشّرا و بالرفع على الخبريّة أي هو هدى و بشرى

ص: 79


1- الحاقة: 51.

ثمّ وصف المؤمنين فقال سبحانه: [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ] بحدودها و واجباتها و أوقاتها [وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ] و يخرجون ما يجب عليهم من أموالهم إلى من يستحقّها [وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ] بالنشأة الآخرة و البعث و الجزاء [هُمْ يُوقِنُونَ و لا يشكّون، فيه و تكرار الضمير لأنّ الجملة اعتراضيّة كأنّه قيل: و هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات من إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الإتيان بالأعمال الصالحة هم الموقنون بالآخرة هم المؤمنون حقّ الإيمان و مهتدون بالقرآن.

ثمّ وصف من خالفهم قال سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ اختلف في معناه فقيل: المراد: إنّا زيّنّا لهم أعمالهم بأن جعلناها محبوبة لأنفسهم فهم يعمهون عنها و يتحيّرون عنها و لا يدركون ما يتبعها أي زيّنّا أعمالهم الّتي أمرناهم بها بأحسن الوجوه و الترغيب فهم يتحيّرون بالذهاب عنها، عن الحسن و الجبّائيّ و أبي مسلم. و قيل: معناه: زيّنا لهم أعمالهم بأن خلقنا فيهم شهوته القبيحة الداعية إلى فعل المعاصي ليجتنبوا المشتهي فهم عن هذا المعنى يعمهون و يتردّدون في الحيرة. و قيل: معناه:

حرمناهم التوفيق عقوبة على كفرهم فتزيّنت أعمالهم في أعينهم و حليت في صدورهم.

[أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ و شدّته و صعوبته [وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي لا أحد أخسر صفقة منهم لأنّهم يخسرون الثواب و يحصل لهم بدلا منه العقاب.

[وَ إِنَّكَ يا محمّد [لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي لتعطى [مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ في أمره [عَلِيمٍ بمصالح خلقه، و قوله «عليم» مبالغة في أنّه عالم و يفيد أنّه متى يصحّ معلوم فهو عالم كما أنّ سميعا يفيد أنّه متى وجد مسموع فهو سامع له.

قوله: [إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ أي اذكر قصّة موسى حين قال لامرأته و هي بنت شعيب: [إِنِّي آنَسْتُ ناراً] أي أبصرت و أحسست نارا، و منه اشتقاق الإنس لأنّ المأنوس به مرئيّ [سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ] أي ألزموا مكانكم لعلّي آتيكم من هذه النار بخبر الطريق لأنّهم كانوا ضلّوا الطريق و كانت ليلة شاتية باردة مظلمة [أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ و قبس النار المقبوسة أي بشعلة من النار، و الشهاب نور كالعمود من النار و كلّ نور يمتدّ مثل العمود يسمّى شهابا، و إنّما قال لامرأته: آتيكم على لفظ خطاب الجمع أقامها

ص: 80

مقام الجماعة بسبب أنسه معها في الأمكنة الموحشة [لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي لكي تستدفئوا بها.

[فَلَمَّا جاءَها] أي جاء موسى إلى المكان الّذي ظنّ أنّها النار و هي نور [نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها] قال وهب: لمّا رأى موسى النار وقف قريبا منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة لا تزداد النار إلّا اشتعالا و لا تزداد الشجرة إلّا خضرة و حسنا فلم تكن تحرق النار الشجرة و لا الشجرة برطوبتها تطفئ النار فعجب منها و أهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها فمالت إليه فخافها فتأخّر عنها ثمّ لم يزل تطمعه و يطمع فيها إلى أن نودي و المراد به نداء الوحي و «إن» هي المفسّرة يعنى القول أي قيل له: أن بورك من في النار و من حولها أي بورك فيمن في النار و هم الملائكة و فيمن حولها يعني موسى؛ و ذلك أنّ النور الّذي رأى موسى و ظنّ أنّه نار كان فيه ملائكة بهم زجل بالتسبيح و التقديس و من حولها هو موسى و كان بالقرب منها و لم يكن فيها، قال: بارك اللّه على من في النّار و عليك يا موسى.

و قيل: المعنى بورك من في النار سلطانه و برهانه، و تأويله تبارك من نوّر هذا النور و من حولها يعني موسى و الملائكة. و قيل: معناه: بورك من في طلب النار، و هو موسى و بحذف المضاف، و هذا تحيّة من اللّه لموسى بالبركة كما حيي إبراهيم عليه السّلام بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: «رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» (1).

ثمّ نزّه سبحانه ذاته فقال: [وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي تنزيها له عمّا لا يليق بصفاته عن أن يكون جسما يحتاج إلى جهة أو عرضا يحتاج إلى محلّ أو يكون ممّن يتكلّم بآلة.

ثمّ أخبر سبحانه عن نفسه و تعرّف إليه بصفاته فقال: [يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إنّ الّذي يكلّمك هو اللّه العزيز الغالب الّذي لا يمتنع عليه شي ء الحكيم في أفعاله المحكم لتدابيره و السبب الّذي لأجله بوركت البقعة و بورك من فيها حدوث تكليم اللّه موسى عليه السّلام و وقوع نبوّته في ذلك المكان و لهذا جعل اللّه أرض الشام موسومة

ص: 81


1- هود: 73.

بالبركات في قوله «وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» (1) و حقّت أن تكون كذلك فهي مبعث الأنبياء و مهبط الوحي و كفّلتهم أحياء و أمواتا.

قوله تعالى: [وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ] و في الكلام حذف تقديره: فألقاها فصارت حيّة فلمّا رآها متحرّكة تتحرّك كما يتحرّك الجانّ و هو الحيّة الّتي ليست بعظيمة، و إنّما شبّهها بالجانّ في خفّة حركتها مع أنّها كانت عظيمة أو صارت عظيمة فهاله ذلك حتّى [وَلَّى مُدْبِراً] و رجع موسى من ورائه [وَ لَمْ يُعَقِّبْ و كلّ راجع معقّب أي هرب و لم يقف و لم يلتفت.

فقال اللّه سبحانه: [يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ و هذا تسكين من اللّه لموسى و نهي له عن الخوف يقول: إنّك مرسل و المرسل لا يخاف لأنّي أمرتهم بإظهار أمر و معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلّق بإظهار ذلك و إلّا فالمرسل قد يخاف لا محالة.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 11 الى 14]

إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

و قيل في هذا الاستثناء: إنّه متّصل، و على قول من قال: متّصل محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل و الأولى و قالوا تعريض لطيف لموسى عليه السّلام في وكزه القبطيّ أمّا ما عليه جمل المفسّرين أنّه استثناء منقطع و المعنى: لكن من ظلم نفسه بفعل القبيح من غير المرسلين لأنّ الأنبياء لا يقع منهم قبيح لكونهم معصومين من الذنوب فيكون هذا الاستثناء منقطعا و إنّما حسن ذلك اجتماع الأنبياء و غيرهم في معنى و هو التكليف.

قوله: [ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً] و قرئ حسنا، أي بدّل توبة و ندما على ما فعله من القبيح و

ص: 82


1- الأنبياء: 71.

عزما على عدم العود [فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ساتر لذنبه و رحيم البتّة به و قرئ في الآية «ألا من ظلم» بحرف التنبيه فحينئذ بيان مستأنف و الكلام جملة معترضة.

[وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ] و أعطاه آية و قد سبق بيانها [فِي تِسْعِ آياتٍ أى مع تسع آيات أخر أنت مرسل بها إلى فرعون و قومه و كانت الآيات إحدى عشر: ثنتان منها اليد و العصا و التسع الفلق و الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم و الطمسة و الجدب في بواديهم و النقصان في مزارعهم و لكنّ الصحيح أنّ العصا و اليد من التسع و الأخيرين واحد و الفلق لا يعدّ منها و في قوله «أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» قيل:

لأنّه كان لموسى عليه السّلام مدرعة صوف لا كمّ لها. و قيل: الجيب القميص لأنّه يجاب عنه و يقطع، أو المعنى: «فِي تِسْعِ آياتٍ» معناه: من تسع آيات أي اظهر هاتين الآيتين من جملة تسع آيات.

[إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن طاعة اللّه إلى أقبح وجوه الكفر.

[فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا] أي حججنا و معجزاتنا [مُبْصِرَةً] أي واضحة بيّنة على من أبصر أنّها خارجة عن قدرة البشر و هو مثل قوله: «وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً» (1) [قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي سحر ظاهر.

[وَ جَحَدُوا بِها] و أنكروا المعجزات و لم يقرّوا بأنّها من عند اللّه، و الباء زائدة قال العجّاج:

«نضرب بالسيف و نرجو بالفرج» [وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي عرفوها و علموها يقينا بقلوبهم و إنّما جحدوها بألسنتهم ظلما على بني إسرائيل [ظُلْماً وَ عُلُوًّا] طلبا للعلوّ و الرتبة و تكبّرا عن أن يؤمنوا بما جاء موسى [فَانْظُرْ] يا محمّد أو أيّها السامع [كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ في الأرض بالمعاصي؟

ص: 83


1- الإسراء: 59.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 15 الى 19]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

المعنى: ثمّ عطف سبحانه على قصّة موسى قصّة داود و سليمان فقال:

[وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً] بالقضاء بين الخلق و بكلام الطير و الدوابّ [وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أي اختارنا من بين الخلق بأن جعلنا أنبياء و الملوك و بالمعجزات الّتي أعطى لنا من إلانة الحديد و تسخير الشياطين و الجنّ و الإنس.

[وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ] و في الآية دلالة على أنّ الأنبياء يورّثون المال كتوريث غيرهم [وَ قالَ سليمان مظهرا لنعم اللّه: [يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ] فإن قيل:

كيف: قال علّمنا و أوتينا، و هو من كلام المتكبّرين؟ فالجواب أنّ هذه يقال ليهابون الواحد المطاع و قد يتعلّق بتعظيم الملك مصالح.

قال أهل العربيّة: لا يطلق النطق على غير بني آدم و إنّما يقال الصوت لأنّ النطق عبارة عن الكلام و لا كلام للطير إلّا أنّه لمّا فهم سليمان معنى صوت الطير سمّاه منطقا مجازا، و قال عليّ بن عيسى: إنّ الطير كانت تكلّم سليمان معجزة له كما أخبر عن الهدهد، و منطق الطير صوت يتفاهم به معانيها على صيغة واحدة بخلاف منطق الناس الّذي يتفاهمون به المعاني على صيغ مختلفة، و كذلك لا نفهم عنها مع طول مصاحبتها و لا تفهم هي عنّا لأنّ أفهامها مقصورة على تلك الأمور المخصوصة، و لمّا جعل اللّه سليمان يفهم عنها كان قد علم منطقها.

[وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ] يؤتى الأنبياء و الملوك، و قيل: من كلّ شي ء يطلبه طالب لحاجته إليه و انتفاعه به. روى الواحديّ بالإسناد عن محمّد بن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه السّلام قال اعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض و مغاربها فملك سبع مائة سنة و ستّة أشهر ملك أهل الدنيا كلّهم من الجنّ و الإنس و الشياطين و الدوابّ و الطير و السباع و اعطي علم كلّ شي ء و منطق كلّ شي ء و في زمانه صنعت الصنائع العجيبة و ذلك قوله تعالى: «عُلِّمْنا

ص: 84

مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ».

[إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي هذا فضل اللّه الظاهر الّذي لا يخفى على أحد و هذا قول سليمان على وجه الشكر و الاعتراف، و يحتمل من قول اللّه على وجه الإخبار.

[وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ] قال المفسّرون: كان سليمان إذا أراد سفرا أمر فجمع له طوائف من هؤلاء أي الجنّ و الإنس و الطيور على بساط ثمّ يأمر الريح فتحملهم بين السماء و الأرض.

قال محمّد بن كعب: بلغنا أنّ سليمان بن داود كان معسكره مائة فرسخ خمسة و عشرون منها للإنس و خمسة و عشرون للجنّ و خمسة و عشرون للوحش و خمسة و عشرون للطير و كان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة و سبعمائة سرّيّة و قد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب و أبريسم فرسخا في فرسخ و كان يوضع منبره في وسطه و هو من ذهب فيقعد عليه و حوله ستّمائة ألف كرسيّ من ذهب و فضّة فيقعد الأنبياء عليه السّلام على كراسيّ الذهب، و العلماء على كراسيّ الفضّة و حولهم الناس و حول الناس الجنّ و الشياطين و تظلّه الطير بأجنحتها حتّى لا تقع عليه الشمس و ترفع ريح الصبا البساط فيسير به مسيرة شهر.

و يروى أنّه كان يأمر الريح العاصف تحمله و يأمر الرخاء تسيره فأوحى اللّه إليه و هو يسير بين السماء و الأرض: إنّي قد زدت في ملكك لا يتكلّم أحد بشي ء إلا ألقته الريح في سمعك فيحكى أنّه مرّ بحرّاث فقال: لقد اوتي آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح في اذنه فنزل و مشى إلى الحرّاث و قال: إنّما مشيت إليك لئلّا تتمنّى ما لا تقدر عليه ثمّ قال سليمان: لتسبيحة واحدة يقبلها اللّه تعالى خير ممّا اوتي آل داود.

و هاهنا نكتة و هي أنّ العمل الصالح و لو تسبيحة كيف يترجّح إذا كان مقبولا عند اللّه من ملك آل داود مع هذه البسطة الّتي ما اتّفقت لأحد حتّى علم أصوات الحيوانات.

و يحكى أنّه مرّ على بلبل في شجرة يحرّك رأسه و يميل ذنبه فقال سليمان لأصحابه: أ تدرون ما يقول؟ قالوا: اللّه و رسوله أعلم، قال: يقول: إذا أكلت نصف تمرة

ص: 85

فعلى الدنيا العفا. و صاحت فاختة فأخبر أنّها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا. و صاح طاوس فقال، يقول: كما تدين تدان. و صاح هدهد فقال: يقول: استغفروا اللّه يا مذنبين.

و صاح طيطوى فقال: يقول: كلّ حيّ ميّت و كلّ جديد بال. و صاح خطّاف فقال:

يقول: قدّموا تجدوه. و صاح قمريّ فأخبر أنّه تقول: سبحان ربّي الأعلى. و صاحت رخمة فقال: تقول: سبحان ربّي الأعلى مل ء سمائه و أرضه و قال الحداءة: كلّ شي ء هالك إلّا اللّه و القطاة تقول: من سكت سلم. و الببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همّه. والديك يقول:

اذكروا اللّه يا غافلين. و النسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. و العقاب يقول: في البعد انس. و الضفدع يقول: سبحان ربّي القدّوس.

قوله: [فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يمنع أوّلهم على آخرهم أي كلّ صنف من جنوده وزعة تردّ أوّلهم على آخرهم ليترتّبوا و يتلاحقوا و لا يتفرّقوا كما أنّ الجيوش يتوزّعون و يترتّبون و لا يختلف نظمهم.

[حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ أي سار سليمان و جنوده حتّى إذا أشرفوا على واد و هو بالطائف و قيل: هو بالشام [قالَتْ نَمْلَةٌ] أي صاحت بصوت خلق اللّه لها، و لمّا كان الصوت مفهوما لسليمان عبّر عنه بالقول، و قيل كانت النملة رئيسة النمل: [يا أَيُّهَا النَّمْلُ قرئ بضمّ النون و الميم و قرئ بضمّ الميم و كان الأصل النمل بوزن الرجل لكنّ الاستعمال النمل كالنحل تخفيفا فالمعنى: أنّها تكلّمت بصوتها، و هذا غير مستبعد أن يخلق اللّه فيها العقل و النطق.

و عن قتادة أنّه دخل الكوفة فالتفّ عليه الناس فقال: سلوا عمّا شئتم فسأله غلام حدث عن نملة سليمان أ كانت ذكرا أم أنثى؟ فأفحم، فقال الغلام: كانت أنثى، فقيل له:

من أين عرفت؟ فقال الغلام: من كتاب اللّه و هو قوله «قالَتْ نَمْلَةٌ» و لو كان ذكرا لقال:

«قال نملة» و ذلك لأنّ النملة مثل الحمامة و الشاة في وقوعها على الذكر و الأنثى و لا بدّ أن يميّز بينهما بعلامة نحو قولهم: حمامة ذكر و حمامة أنثى أو هو و هي.

و بالجملة صاحت النملة يا أيّها النمل لا يكسرنّكم [سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بحطمكم و وطئكم و هذا يدلّ على أنّ سليمان و جنوده كانوا ركبانا و مشاة

ص: 86

على الأرض و لم تحملهم الريح بين السماء و الأرض لما خافت النمل أن يطأها بأرجلهم، أو كان هذه القصّة قبل تسخير اللّه الربح لسليمان عليه السّلام.

فإن قيل: كيف عرفت النملة سليمان و جنوده حتّى قالت هذه المقالة؟

فالجواب: إذا كانت مأمورة بطاعته فلا بدّ أن يخلق لها من الفهم ما تعرف به و لا يمتنع أن يكون لها من الفهم ما يستدرك به ذلك و قد علمنا أنّها تشقّ ما تجمع من الحبوب بنصفين مخافة أن يفسده الندى فتنبت إلّا الكزبرة فإنّها تكسرها بأربع قطع لأنّها تنبت إذا شقّت بنصفين فمن هداها إلى هذا؟ فإنّه جلّ جلاله هداها إلى تميّز ما يحطمها. و قيل: إنّها كانت معجزة لسليمان عليه السّلام قال ابن عبّاس: فوقف سليمان بجنوده حتى دخل النمل مساكنه.

[فَتَبَسَّمَ سليمان [ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها] أي تبّسم شارعا في الضحك و تجاوز حدّ التبسّم إلى حدّ الضحك و ذلك أنّ الإنسان إذا رأى ما لا عهد به فعجب و ضحك. و قيل:

إنّ الريح أطارت كلامها إليه من ثلاثة أميال حتّى سمع ذلك فانتهى إليها و هي تأمر النمل بالمبادرة فتبسّم من حذرها.

[وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ قال الزمخشريّ: حقيقة «أَوْزِعْنِي» اجعلني أزع شكر نعمتك عندي و أكفّه عن أن ينقلب عنّي حتّى أكون شاكرا لك أبدا و الحاصل: ألهمني و وفّقني أن أشكر نعمتك بأن علّمتني منطق النمل و أسمعتني صوتها من بعيد حتّى أمكنتني الكفّ و أكرمتني بالنبوّة و الملك [وَ عَلى والِدَيَ فأكرمته بالنبوّة و فصل الخطاب و ألنت له الحديد و أنعمت على والدتي بأن زوّجتها نبيّك [وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً] أي وفّقني للعمل الصالح في المستقبل [تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ قال ابن عبّاس: يعني إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و من بعد هم من النبيّين عليه السّلام أي أدخلني في جملتهم و أثبت اسمي في أسمائهم. و قيل في عبادك أي مع عبادك.

ص: 87

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 20 الى 26]

وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)

أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

ثمّ أخبر سبحانه عن سليمان فقال:

[وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ] و تعرّف فلم يجد فيها الهدهد و كان سليمان إذا قعد على كرسيّه جاءت جميع الطير الّتي سخّرها اللّه له فتظلّ الكرسيّ و البساط بجميع من عليه عن الشمس فغاب عنه الهدهد من بين الطير فوقع الشمس من موضعه في حجر سليمان فرفع رأسه [فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ] أي ما للهدهد لا أراه؟ تقول العرب: ما لي أراك كئيبا، معناه:

ما لك كئيبا، و هو من القلب الّذي يوضحه المعنى.

و اختلف في سبب تفقّده الهدهد فقيل: بسبب المذكور و هو وقوع الشمس على رأسه من خلوّ مكان الهدهد. و قيل: إنّه احتاج إليه في سفره ليدلّه على الماء لأنّه يقال: إنّه يرى الماء في بطن الأرض كما يراه في القارورة، عن ابن عبّاس. و روى العيّاشيّ بالإسناد قال: قال أبو حنيفة لأبي عبد اللّه عليه السّلام كيف تفقّد سليمان الهدهد بين الطير؟ قال عليه السّلام:

لأنّ الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم الدهن في القارورة، فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه و ضحك، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما يضحكك؟ قال: ظفرت بك جعلت فداك، قال: و كيف ذلك؟ قال: الّذي يرى الماء في بطن الأرض لا يرى الفخّ (1) في التراب حتّى يؤخذ بعنقه؟ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا نعمان أما علمت أنّه إذا نزل القدر أغشى البصر؟ و بالجملة و قيل: السبب في تفقّده للإخلال بنوبته في الخدمة.

فقال عليه السّلام: [أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أ تأخّر عصيانا أم غاب لعذر و حاجة؟ و قيل:

«أم» هنا هي المنقطعة. قال المبرّد: لمّا تفقّده و لم يره على تقدير أنّه مع جنوده و هو لا يراه

ص: 88


1- آية يصاد بها.

ثمّ أدركه الشكّ في غيبته ثمّ قال: أم كان أي بل هو من الغائبين.

ثمّ أوعده على غيبته فقال: [لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً] معناه: بنطف ريشه و إلقائه في الشمس، عن ابن عبّاس و جماعة. و قيل: بأن أجعله مع أضداده، و كما صحّ نطق الطير و تكليفه في زمانه جازت معاتبته على ما وقع منه من تقصير فإنّه كان مأمورا بطاعته فاستحقّ العقاب على غيبته [أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أي لأقطعنّ حلقه عقوبة على عصيانه [أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجّة واضحة تكون له عذرا صحيحا في سبب غيبته.

و اعلم أنّ الملاحدة طعنت في هذه القصّة من وجوه: منها أنّ سليمان كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك الساعة من الشام إلى اليمن ثمّ رجع إليه؟ و كيف خفي على سليمان حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال أنّ الجنّ و الإنس كانوا في طاعته و أنّه ملك الدنيا بالكلّيّة و كان تحت راية بلقيس جماعة كثيرة و كان أولو مشورتها- على ما قيل- ثلاثمائة و اثني عشر قيلا (1) كلّ قيل منهم تحت رايته ألف مقاتل مع أنّه يقال: إنّه لم يكن بين سليمان و بين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلّا مسيرة ثلاثة أيّام؟ و منها: من أين حصل للهدهد معرفة اللّه و وجوب السجود له و إنكار سجودهم للشمس من دون اللّه و إضافته إلى الشيطان و تزيينه؟

و الجواب عن الكلّ أنّ الإيمان و التصديق بافتقار الخلق و العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك و البنية ليست شرطا في القدرة فإذا أراد اللّه بأمر حصل فيه ما أراد فحينئذ يمكن أن يكون يصدر من الهدهد امور عقلانيّ لا يصدر عن مثل ألف فيثاغورث و أفلاطون و يكون عرش بلقيس في وسط بساط سليمان و هو عليه السّلام لا يحسّ به إلّا إذا أراد اللّه.

و بالجملة قوله تعالى: [فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ] أي لم يلبث سليمان إلّا زمانا يسيرا حتّى جاء الهدهد أو المعنى: فلبث الهدهد في غيبته قليلا ثمّ رجع، فيجوز أن يكون التقدير: فمكث الهدهد في مكان غير بعيد فأتاه الهدهد بحجّة [فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي اطّلعت بما لم تطّلع عليه [وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ بخبر صادق عن

ص: 89


1- بالفتح: كل قائد من قواد اليمن.

سبأ و هي مدينة بأرض اليمن، و قيل: إنّ اللّه بعث إلى سبأ اثني عشر نبيّا، و سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن سبأ فقال: هو رجل ولد له عشرة من العرب تيامن منهم ستّة و تشاءم أربعة فالّذين تشاءموا: لخم و جذام و غسّان و عاملة، و الّذين تيامنوا: كندة و الأشعرون و الأزد و مذحج و حمير و أنمار، و من الأنمار خثعم و بجيلة. و إذا كان اسم مدينة لا ينافي هذا الكلام لأنّها مسمّاة باسم هذا الرجل.

قوله: [إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ] و هو خبر بلقيس قال:

وجدت امرأة تتصرّف بالسلطنة فيهم بحيث لا يعترض عليها أحد و لها من سعة مالها و ملكها كلّ شي ء يحتاج إليه الملوك من زينة الدنيا و هي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ. قيل:

إنّ امّها جنّيّة ولدها أربعون ملكا آخرهم أبو هاشم شرحبيل من ملوك حجر [وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ أي و لها سرير عظيم و كان مرصّعا بالياقوت الأحمر و الزمرّد الأخضر مكلّل بألوان الجواهر، و عليه سبعة أبيات على كلّ بيت باب مغلق.

[وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي عبادتهم للشمس و لا يعبدون اللّه [فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي صرفهم الشيطان عن سبيل الحقّ [فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ غير مهتدين و في الضلالة.

و قال بعض علماء الاعتزال مثل الجبّائيّ و أمثاله: لم يكن الهدهد عارفا باللّه و إنّما أخبر بذلك كما يخبر مراهقو صبياننا لأنّه لا تكليف إلّا على الملائكة و الإنس و الجنّ فيرانا الصبيّ على عبادة اللّه فيتصوّر الصبيّ أنّ ما خلاها باطل فكذلك الهدهد تصوّر أنّ ما خالف فعل سليمان باطل.

و لكن ردّ هذا القول بأنّ هذا الّذي ذكره الجبّائيّ خلاف ظاهر القرآن لأنّه لا يجوز أن يفرق بين الحقّ الّذي هو السجود للّه و بين الباطل الّذي هو السجود للشمس و أنّ أحدهما قبيح و الآخر حسن إلّا العارف باللّه سبحانه و بما يجوز و بما لا يجوز مع نسبة أعمالهم و صدّهم عن طريق الحقّ إلى الشيطان و هذه مقالة من يعرف العدل و أنّ القبيح على اللّه غير جائز.

ص: 90

قوله تعالى: [أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ قرئ بالتخفيف على أنّه الأمر و التنبيه على السجود و معناه: ألا يا قوم اسجدوا اللّه، و الجملة معترضة اعترضت في الكلام، و على قراءة التشديد فالمعنى زيّن لهم الشيطان ضلالتهم لئلّا يسجدوا للّه. و على قراءة التخفيف «ألا» حرف التنبيه و «يا» حرف النداء و المنادى محذوف و يجوز أن يكون لا مزيدة و يكون المعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا، و في قراءة عبد اللّه بن مسعود و الأعمش بقلب الهمزة هاء أي هلّا تسجدون للّه، على الخطاب.

[الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و الخب ء المخبوء و هو كلّ ما غاب عن الإدراك و ما يوجده اللّه فيخرجه من العدم إلى الوجود، و قيل: المراد من خب ء السماوات المطر و من خب ء الأرض النبات و هو يتناول جميع أنواع الأرزاق و الأشياء حتّى النطفة في الأصلاب و يعمّ إشراق الشمس بعد استتارها.

و في الآية دلالة على الردّ فيمن يعبد الشمس لأنّها ليست كذلك فليست قابلة للمعبوديّة و الإلهيّة لأنّ الإله هو القادر على إخراج الخب ء و عالما بالخفيّات و الشمس جسم متناه في الذات و كلّما كان متناه في الذات متناه في الصفات.

و ذكر القرّاء أنّ قراءة «أَلَّا يَسْجُدُوا» بالتشديد لا يوجب سجدة التلاوة. قال الطبرسيّ:

و هذا غير صحيح لأنّ الكلام قد تضمّن الذّم على ترك السجود فيكون فيه دلالة على وجوب السجود لأنّه كقوله: «وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ» (1).

و هذا الكلام قيل من اللّه اعترض في الكلام، و قيل: إنّه من كلام الهدهد قاله لقوم بلقيس حين وجدهم يسجدون لغير اللّه. و قيل: قاله سليمان عند عود الهدهد إليه استنكارا لما وجدهم عليه.

قال الرازيّ: و على القراءتين أي تشديدا و تخفيفا فالسجدة في الآية واجبة خلافا للزجّاج حيث إنّه يقول في وجوب السجدة على قراءة التخفيف دون التشديد. و قال الرازيّ: إنّ أصحابنا اتّفقوا على أنّ سجدات القرآن أربع عشرة سجدة و هذا واحد منها و لأنّ مواضع السجدة إمّا أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذمّ لمن تركها و على هذه الصورة

ص: 91


1- الفرقان: 60.

إحدى القراءتين أمر بالسجود و الاخرى ذمّ للتارك.

قوله [وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ أي يعلم السرّ و العلانية [اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ إلى هاهنا تمام الحكاية لما قاله الهدهد، و يحتمل أن يكون أوّل إخبار اللّه تعالى، و العرش سرير الملك الّذي عظّمه اللّه و رفعه فوق السماوات السبع و جعل الملائكة تحفّ به و ترفع أعمال العباد إليه و تنشأ البركات من جهته فهو عظيم الشأن و هو أعظم خلق اللّه.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 27 الى 31]

قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

لمّا سمع سليمان ما اعتذر به الهدهد قال عند ذلك: [سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ في قولك الّذي أخبرتنا به [أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ثمّ كتب سليمان كتابا و ختمه بخاتمه و دفعه إليه فذلك قوله تعالى: [اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ يعني أهل سبأ [ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي استتر عنهم قريبا منهم بعد إلقاء الكتاب إليهم [فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ أي ما يردّون من الجواب، و في الكلام حذف تقديره: فمضى الهدهد بالكتاب و ألقاه إليهم.

قال قتادة: أتى الهدهد إلى بلقيس فوجدها نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها و كانت لها كوّة مستقبلة للشمس تقع الشمس عند ما تطلع فيها فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد إلى الكوّة سدّها بجناحه فارتفعت الشمس و لم تعلم فقامت تنظر فرمى الكتاب إليها فلمّا أخذت الكتاب جمعت الأشراف و هم يومئذ ثلاثمائة و اثنا عشر قيلا فقالت لهم:

[إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ و إنّما سمّته كريما لأنّه كان مختوما و يؤيّد هذا المعنى الحديث حيث يقول: إكرام الكتاب ختمه. و قيل: و صفته بالكريم لأنّه صدّره ببسم اللّه الرحمن الرحيم. و قيل: لحسن خطّه وجودة لفظه و بيانه. و قيل: لأنّه عن من يملك الإنس و الجنّ و الطير و قد كانت سمعت بخبر سليمان.

ص: 92

[إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ أي إنّ الكتاب من سليمان و [إِنَّهُ و إنّ الكتاب مكتوب فيه [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ و «أن» في هذا الموضع بمعنى أي نحو قوله: «وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا» أي امشوا و الحاصل أي لا تترفّعوا و لا تتكبّروا عليّ و أتوني منقادين طائعين أو مسلمين مؤمنين باللّه و كذا كانت عادة الأنبياء كتبهم موجزة مقصورة على الدعوة إلى اللّه من غير بسط.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 32 الى 37]

قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)

ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (37)

المعنى: و لمّا وقفت بلقيس على كتاب سليمان قالت لأشراف قومها: [يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي أشيروا عليّ و أظهروا لي الحكم فجعلت المشورة هنا فتيا [ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تحضروني أي إلّا بحضرتكم و مشورتكم [قالُوا] لها في الجواب عن ذلك:

[نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ] و أصحاب قدرة و أهل عدد [وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ] أي نحن ذو شجاعة شديدة [وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ مفوّض في القتال و غيره [فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ أي ما الّذي تأمريننا به لنمتثله.

[قالَتْ مجيبة لهم عن التعريض بالقتال: [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها] أي إذا دخلوها عنوة و غلبة خربوها و أهلكوها [وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً] أي أهانوا أشرافها و كبراءها كي يستقيم لهم الأمر و حذّرتهم مسير سليمان إليهم و دخوله بلادهم يصدّق اللّه سبحانه كلامها بقوله تعالى: [وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ و قيل: الكلام متّصل بعضه ببعض و هو من كلامها.

[وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي باعثة إلى سليمان و قومه بهديّة أصانعه بذلك عن ملكي فمنتظرة بم يرجع المرسلون بقبول أم ردّ، و إنّما

ص: 93

فعلت ذلك لعادة الملوك في حسن موقع الهدايا عندهم و كان غرضها أن يتبيّن لها بذلك أنّه ملك أو نبيّ فإن قبل الهديّة تبيّن أنّه ملك و إن ردّها فتبيّن أنّه نبيّ. و اختلف في الهديّة فقيل: أهدت إليه و صفاء و وصائف ألبستهم لباسا واحدا حتّى لا يعرف ذكر من أنثى عن ابن عبّاس. و قيل: أهدت مأتي غلام و مائتي جارية ألبست الغلمان لباس الجواري و الجواري لباس الغلمان و أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية من الديباج.

فلمّا بلغ ذلك سليمان أمر الجنّ أن يموّهوا له الآجرّ بالذهب ثمّ أمر به فالقي في الطريق فلمّا جاءوا رأوه ملقى في الطريق في كلّ مكان فلمّا رأوا ذلك صغر في أعينهم ما جاءوا به، عن ثابت البنانيّ.

و قيل: إنّها عمدت إلى خمس مائة غلام و خمسمائة جارية فألبست الجواري الأقبية و المناطق و ألبست الغلمان في سواعدهم أساور من ذهب مرصّع و في أعناقهم أطواقا من ذهب بالجواهر و في آذانهم أقراطا و حملت الجواري على خمسمائة رمكة و الغلمان على البرازين و على كلّ فرس لجام من ذهب مرصّع بالجواهر و بعثت إليه خمسمائة ألبسة من ذهب و كذلك من الفضّة و تاجا مكلّلا بالجواهر و عمدت إلى حقّة فجعلت فيها درّة يتيمة غير مثقوبة و خرزة مثقوبة معوّجة الثقب و ودعت رجلا من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمرو و ضمّت إليه رجالا من قومها أصحاب عقل و رأي و كتبت إليه كتابا نسخة الهديّة و قالت: إن كنت نبيّا فميّز بين الوصفاء و الوصائف و أخبر بما في الحقّة قبل أن تفتحها و اثقب الدّرة ثقبا مستويا و أدخل الخرزة خيطا من غير علاج إنس و لا جنّ. و قالت للرسول: انظر إليه إن دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنّه ملك فلا يهولنّك أمر فإنّا أعزّ منه، و إن نظر إليك نظر لطف فاعلم أنّه نبيّ مرسل.

فانطلق الرسول بالهدايا و أقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان و أخبره الخبر فأمر سليمان الجنّ أن يضربوا لبنات (1) الذهب و الفضّة و أن يجعلوها حول الميدان حائطا من الذهب و الفضّة ففعلوا، ثمّ أمرهم أن يبسطوا من موضعه الّذي هو فيه إلى بضع فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب و الفضّة، ثمّ قال للجنّ: عليّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم

ص: 94


1- جمع لبنة: المضروب من الطين مربعا للبناء.

على يمين الميدان و يساره ثمّ قعد سليمان في مجلسه على سرير و وضع له أربعة آلاف كرسيّ عن يمينه و مثله عن يساره و أمر الشياطين أن يصفّوا صفوفا فراسخ و أمر الوحوش و السباع و الهوامّ و الطير فاصطفّوا فراسخ عن يمينه و شماله.

فلمّا دنا القوم من الميدان و نظروا إلى ملك سليمان فتقاصرت أنفسهم و رموا بما معهم من الهدايا فلمّا وقفوا بين يدي سليمان نظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق و قال: ما وراءكم؟

فأخبره رئيس القوم بما جاءوا له و أعطاه كتاب الملكة فنظر إليه و قال: أين الحقّة فاتي بها فحرّكها و جاءه جبرئيل فأخبره بما في الحقّة فقال: إنّ فيها درّة غير مثقوبة و خرزة مثقوبة معوجّة الثقب فقال الرسول: صدقت فاثقب الدرّة و أدخل الخيط في الخرزة فأرسل سليمان إلى الأرضة فجاءت فأخذت شعرة في فيها و دخلت الثقب حتّى خرجت من الجانب الآخر ثمّ قال سليمان: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط فقالت دودة بيضاء: أنا لها فأخذت الدودة الخيط و دخل في الثقب و خرج من الجانب الآخر. ثمّ ميّز بين الجواري و الغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم و أيديهم فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثمّ تجعله على اليد الآخر ثمّ تضرب به في الوجه، و الغلام كان يأخذ من الآنية يضرب به وجهه و كانت الجارية تصبّ على باطن ساعدها و الغلام على ظهر الساعد و كانت الجارية تصبّ الماء صبّا و كان الغلام يحدر الماء على يده حدرا فميّز بينهنّ بذلك هذا كلّه مرويّ عن وهب و غيره.

و قيل: إنّها أنفذت مع هدايا عصا كان يتوارثها ملوك حمير و قالت: أريد أن تعرّفني رأسها من أسفلها، و بقدح و قالت: تملؤه ماء ليس من الأرض و لا من السماء فأرسل سليمان العصا إلى الهواء و قال: أيّ الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها و أمر بالخيل فأجريت حتّى عرقت و ملأ القدح من عرقها.

[فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ فلمّا جاء الرسول سليمان بالهدايا [قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ أي تزبدوننى مالا؟ و هذا استفهام إنكار [فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي ما أعطاني اللّه من الملك و النبوّة و الحكمة خير ممّا أعطاكم من الدنيا و أموالها [بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ

ص: 95

تَفْرَحُونَ إذا هدى بعضكم إلى بعضكم و أمّا أنا فلا أفرح بها، إشارة إلى قلّة اكتراثه بأموال الدنيا.

ثمّ قال للرسول [ارْجِعْ إِلَيْهِمْ بما جئت به من الهدايا [فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها] لا قدرة لهم على دفعها [وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً] أي من تلك المملكة و من أرضها و ملكها [وَ هُمْ صاغِرُونَ ذليلون صغير و القدر إن لم يأتوني مسلمين.

فلمّا ردّ سليمان الهديّة و ميّز بين الغلمان و الجواري إلى غير ذلك علموا أنّه نبيّ مرسل و أنّه ليس كالملوك الّذين يغترّون بالمال.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 38 الى 44]

قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ (42)

وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)

القصة: فلمّا رجع الرسول و عرّفها أنّه نبيّ و أنّها لا تقاومه فتجهّزت للمسير إليه و أخبر جبرئيل سليمان أنّها خرجت من اليمن مقبلة إليه فقال سليمان لأماثل جنده و أشراف عسكره: [يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ؟ يعني آتوني بعرشها، و اختلف في السبب الّذي خصّ به العرش بالطلب فقيل: أراد أن يختبر عقلها و يختبر فطنتها هل تعرفه أو تنكره؟ و قيل: أراد أن يجعل ذلك دليلا و معجزة على صدق نبوّته لأنّها خلّفته في دارها و وكّلت به ثقات قومها يحرسونه و يخطفونه. و قال ابن عبّاس:

كان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدأ بكلام حتّى يكون هو الّذي يسأل عنه فخرج يوما فجلس على سريره فرأى رهجا قريبا منه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسول اللّه بلقيس و قد

ص: 96

نزلت منّا بهذا المكان و كان ما بين الحيرة و الكوفة على قدر فرسخ فقال: أيّكم يأتيني بعرشها.

و في قوله «مسلمين» فيه و جهان: أحدهما أنّه أراد مؤمنين موحّدين أو مستسلمين منقادين.

[قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ أى مارد قويّ داهية: [أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي من مجلسك الّذي تقضي فيه [وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ أي على حمله لقويّ و على الإتيان به و في هذه المدّة قادر و على ما فيه من الذهب و الجواهر أمين، و في هذا دلالة على أنّ الاستطاعة و القدرة قبل الفعل لأنّه أخبر بأنّه قويّ عليه قبل أن يجي ء به، و كان سليمان يجلس في مجلسه للقضاء غدوة إلى نصف النهار.

فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك فعند ذلك [قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ و هو آصف بن برخيا و كان ابن اخت سليمان و وزيره و كان صدّيقا يعرف اسم اللّه الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب. و قيل: إنّ ذلك الاسم اللّه و الّذي يليه الرحمن. و قيل: هو يا حيّ يا قيّوم و بالعبرانيّة آهيا شراهيا. و قيل: هو يا ذا الجلال و الإكرام. و قيل: إنّه قال: يا إلهنا و إله كلّ شي ء إلها واحدا لا إله إلّا أنت.

و في البصائر و الكافي عن الباقر عليه السّلام: إنّ اسم اللّه الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا و إنّما كان عند آصف بن برخيا حرف واحد فتكلّم به فخسف به الأرض ما بينه و بين سرير بلقيس حتّى تناول السرير بيده ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، و عندنا نحن من الاسم الأعظم اثنان و سبعون حرفا و حرف عند اللّه استأثر به في علم الغيب عنده و لا حول و لا قوّة باللّه العليّ العظيم.

و في رواية اخرى في الكافي عن الهادي عليه السّلام قال: فتكلّم به فانخرقت له الأرض فيما بينه و بين سبأ فتناول عرش بلقيس حتّى صيّره إلى سليمان ثمّ انبسطت الأرض في أقلّ من طرفة عين و قال عليه السّلام: و لم يعجز سليمان عليه السّلام عن معرفة ما عرف آصف لكنّه أحبّ أن يعرف الجنّ و الإنس أنّه الحجّة بعده.

و قيل: إنّ الّذي عنده علم من الكتاب هو جبرئيل أذن اللّه له في طاعة سليمان بأن يأتيه بالعرش الّذي طلبه. و قيل: هو سليمان قال ذلك للعفريت ليريه نعمة ربّه، و هذا قول بعيد لم يؤثر عن أهل التفسير.

ص: 97

و الكتاب قيل: إنّه اللوح المحفوظ. و قيل: المراد الجنس من كتب اللّه المنزلة على أنبيائه و ليس المراد به كتابا بعينه و الجنس قد يعرّف بالألف و اللام.

قوله: [أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ اختلف في معناه فقيل: يريد قبل أن يصل من كان منك على قدر مدّ البصر. و قيل: معناه: قبل أن يبلغ طرفك مداه و غايته و يرجع إليك. و قال سعيد بن جبير: قال لسليمان: انظر إلى السماء فما طرف حتّى جاء به فوضعه بين يديه و المعنى: حتّى يرتدّ إليك طرفك بعد مدّه إلى السماء. و قيل:

معنى ارتداد الطرف إدامة النظر حتّى يرتدّ طرفه خاسئا. فعلى هذا معناه: أنّ سليمان مدّ بصره إلى أقصاه و هو يديم النظر فقبل أن ينقلب بصره إليه حسيرا يكون قد أتي بالعرش.

و ذكر العلماء في ذلك وجوها: أحدها أنّ الملائكة حملته بأمر اللّه، و الثاني أنّ الريح حملته، و الثالث أنّ اللّه خلق فيه حركات متوالية، و الرابع أنّه انخرق في مكانه حيث هو هناك ثمّ تبع بين يدي سليمان، و الخامس أنّ الأرض طويت له، و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام. و السادس أنّه أعدمه اللّه في موضعه و أعاده في مجلس سليمان، و هذا لا يصحّ على مذهب أبي هاشم و يصحّ على مذهب أبي عليّ الجبّائيّ فإنّه يجوز فناء بعض الأجسام دون بعض.

و بالجملة [فَلَمَّا] حضر العرش و [رَآهُ سليمان [مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي أي هذا من نعمته و إحسانه عليّ بتيسّره و تسخيره مع صعوبته [لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ] ليخبرني هل أقوم بشكر هذه النعمة أم أكفر بها [وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنّ عائد شكره له دون غيره [وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ غنيّ عن شكر العباد، متفضّل عليهم شاكرهم و كافرهم، عاصيهم و مطيعهم.

[قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها] قال سليمان: غيّروا سريرها إلى حال تنكّرها إذا رأته، و أراد بذلك اعتبار عقلها [لننظر أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أي أ تهتدي إلى معرفة عرشها بعد التغيّر أم لا تهتدي إلى ذلك. و قيل: المعنى: أ تستدلّ بعرشها على قدرة اللّه

ص: 98

و صحّة نبوّته و تهتدي إلى طريق الإيمان و التوحيد أم لا، و غيّروه فما كان على العرش من الجواهر و الفصوص أحمر جعلوا مكانه أخضر و ما كان أخضر جعلوا مكانه أحمر و زيد و نقص فيه.

[فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ] فلم تثبته و لم تنكره و ذلك لعقلها وجودة ذهنها حيث لم تقل: لا، إذ كان يشبه سريرها، و لم تقل: نعم، إذ وجدت فيه ما غيّر و لأنّها خلّفته في بيتها و حمله في تلك المدّة إلى ذلك الموضع غير داخل في قدرة البشر و كانت خلّفته وراء سبعة أبواب لمّا خرجت.

ثمّ قالت: [وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ بصحّة نبوّة سليمان [مِنْ قَبْلِها] أي من قبل الآية في العرش [وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ طائعين لأمر سليمان، و قيل: إنّه من كلام سليمان يعني و أوتينا العلم باللّه و قدرته على ما يشاء من قبل هذه المرّة و كنّا مخلصين للّه. و قيل: و أوتينا العلم بإسلامها و مجيئها طائعة.

[وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي و منعها عبادة الشمس عن الإيمان باللّه. و قيل: معناه: و صدّها سليمان عمّا كان تعبدها دون اللّه و منعها عنها ثمّ استأنف فقال:

[إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أي من عبدة الشمس قد كبرت و نشأت فيهم فلم تعرف إلّا عبادة الشمس.

[قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ و ذلك أنّ سليمان لمّا أقبلت صاحبة السبأ أمر الشياطين ببناء الصرح و هو كهيئة السطح من قوارير اجري تحته الماء و جمع في الماء الحيتان و الضفادع و دوابّ البحر ثمّ وضع له فيه سرير فجلس عليه، و قيل: إنّه قصر من زجاج كلّه كأنّه الماء بياضا، و كلّ بناء من زجاج أو صخر أملس موثّق فهو صرح، و إنّما أمر سليمان بالصرح لأنّه أراد أن يختبر عقلها لأنّ الجنّ و الشياطين خافت أن يتزوّجها سليمان فلا ينفكّون من تسخير ذريّة سليمان بعده لو تزوّجها و ذلك لأنّ امّها على ما قالوا كانت جنّيّة فأساءوا الثناء عليها عند سليمان لأن لا يميل سليمان إليها و قالوا لسليمان:

إنّ في عقلها شيئا و إنّ رجلها كحافر الحمار و لذلك قال سليمان لها: ادخلي الصرح.

و قيل: ذكر لسليمان أنّ على رجليها شعرا.

ص: 99

[فَلَمَّا رَأَتْهُ أي رأت بلقيس الصرح [حَسِبَتْهُ لُجَّةً] و اللجّة معظم الماء [وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها] لدخول الماء، و قيل: إنّها لمّا رأت الصرح قالت: ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلّا الغرق و أنفت أن ينسب إليها الجبن و لم يكن من عادتهم لبس الخفاف، فلمّا كشف عن ساقيها [قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ] قال لها سليمان: إنّه قصر مملّس من قوارير و ليس بماء و لمّا رأت سرير سليمان و الصرح [قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .

و قيل: إنّها لمّا جلست دعاها سليمان إلى الإسلام فأجابته و أسلمت لما رأت من الآيات، و اختلف في أمرها بعد ذلك فقيل: إنّه تزوّجها و أقرّها على ملكها. و قيل: إنّه زوّجها من ملك يقال له تبّع و ردّها إلى أرضها و أمر ذريعة أمير الجنّ باليمن أن يعمل لها و يطيعها و صنع لها الصنائع أو المصانع باليمن. و قيل: إنّ سليمان قال لها: اختاري من قومك من ازوّجك منه، فقالت: مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال: النكاح من الإسلام، فقالت: إن كان كذلك فزوّجني ذا تبّع ملك اليمن فزوّجها إيّاه. و من قال: إنّ سليمان تزوّجها ليس له سند صحيح و ذكر في الكتاب و لا في خبر مقطوع بصحّته.

[سورة النمل (27): الآيات 45 الى 53]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (49)

وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (53)

المعنى: ثمّ عطف سبحانه على قصّة سليمان قصّة صالح فقال:

[وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ في النسب [صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي أمرناه بأن يأمرهم

ص: 100

أن يعبدوا اللّه وحده [فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي مؤمنون و كافرون يقول كلّ فريق:

الحقّ معي.

[قالَ صالح للفريق المكذّب [يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ] أي بالعذاب قبل الرحمة أي لم قلتم: إن كان ما آتيتنا به حقّا فائتنا بالعذاب، و سمّي العذاب سيّئة لما فيه من الآلام و لأنّه جزاء على السيّئة لأنّ السّيئة هي الخصلة الّتي تسوء صاحبها [لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ أي هلّا تطلبون مغفرته من الشرك بأن تؤمنوا [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فلا تعذّبون في الدنيا، و ذلك أنّ صالحا لمّا رأى أنّ قومه كذّبوه فوعّدهم بالعذاب فقالوا: «ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (1) على وجه الاستهزاء فجاوبهم صالح بهذا القول و هو قوله «لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ» و قال: هلّا تستغفرون اللّه قبل نزول العذاب و استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ.

و لمّا قرّر صالح هذا الكلام أجابوه بكلام فاسد و هو قولهم: [اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ أي تشأّمنا بك يعني الّذي يصيبنا من الشدائد أو القحط فهو لشؤمك و بشؤم من معك، و إنّما استعير الشؤم بلفظ الطير لأنّ الرجل يخرج مسافرا فيمرّ بطائر فيزجره فإن مرّ صالح تيمّن و إن مرّ بارح تشأّم فلمّا نسبوا الخير و الشرّ إلى الطائر استعير لما كان للخير و الشرّ.

فأجاب صالح: [ف قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي السبب الّذي يجي ء منه نفعكم و ضرّكم عند اللّه إن شاء رزقكم و إن شاء حرمكم. ثمّ قال: «أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» فيحتمل أنّ غيرهم دعاهم إلى هذا القول و يحتمل أن يكون مراده أنّ الشيطان أوقعكم في الفتنة بوسوسته، و ذلك أنّ قوم صالح أصابهم قحط المطر و جاعوا و لهذا اطّيّروا به. و قيل:

معنى: «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» تبتلون بالطاعة و المعصية و تختبرون بالخير و الشرّ.

[وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ] الّتي بها صالح و هي الحجر [تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ و المراد من الرهط الجمع إذا المتبادر من الرهط الجماعة لا الواحد و يمكن المراد من الرهط

ص: 101


1- العنكبوت: 29.

النفر الواحد لكنهم من قبائل متعدّدة، و دخلوا تحت العدد لاختلاف أحوالهم و طوائفهم فبيّن سبحانه أنّهم يفسدون في الأرض و لا يخلطون بفسادهم صلاح، و هم غواة قوم صالح و هم الّذين سعوا في عقر الناقة [وَ لا يُصْلِحُونَ و لا يطيعون اللّه، و ذكر ابن عبّاس أسماءهم و هم قدار بن سالف و مصدع و دهمي و دهيم و دعمي و دعيم و أسلم و قتال و صداف.

[قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أي قالوا فيما بينهم: أحلفوا باللّه على معنى الأمريّة أو على معنى الخبريّة [لَنُبَيِّتَنَّهُ أي لنقتلنّ صالحا و أهله بياتا [ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي لرحمه و صاحب دمه إن سألنا عنه: [ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي ما حضرنا هلاكهم أو وقت هلاكهم أو مكان هلاكهم فضلا أن نتولّى إهلاكهم، و مقصودهم إنّا ما كنّا شاهدين بل كنّا مباشرين مثل و لك: ما رأيت رجلا ثمّة بل رجلين [وَ إِنَّا لَصادِقُونَ و عزموا على هذا الأمر و المكر [وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً] أي جازيناهم جزاء على مكرهم بتعجيل عقوبتهم [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بمكر اللّه لهم فإنّهم دخلوا على صالح عليه السّلام ليقتلوه و قالوا:

زعم صالح إنّه يفرغ منّا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه و من أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب و قالوا: إذا جاء يصلّي قتلناه ثمّ رجعنا إلى أهله فقتلناهم. فبعث اللّه صخرة فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب و هلكوا و هلك الباقون بالصيحة و شبّه سبحانه فعله بهم بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. و قيل: جاءوا بالليل شاهرين سيوفهم فأرسل اللّه الملائكة مل ء دار صالح فدفعوهم بالحجارة يرون الأحجار و لا يرون راميا فذاك مكر اللّه. و قيل:

إنّ اللّه أخبر صالحا بمكرهم فتحرّز عنهم فذاك مكر اللّه في حقّهم.

[فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ و كان عاقبة أمرهم أنّا أهلكناهم و قومهم بصيحة جبرئيل [فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ فانظر إليها فارغة خالية [خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا] بسبب ظلمهم و شركهم باللّه [إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إهلاكهم [لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لعبرة لمن اعتبر بها و هذه البيوت بوادي القرى بين المدينة و الشام.

[وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا به وَ كانُوا يَتَّقُونَ قالوا: إنّهم أربعة آلاف خرج بهم صالح

ص: 102

إلى حضرموت و سمّي حضرموت لأنّ صالحا لمّا دخلها مات.

[سورة النمل (27): الآيات 54 الى 59]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)

وَ اذكر [لُوطاً] و أرسلنا لوطا، قوله: [أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ] على وجه التنكير و إن كان بلفظ الاستفهام أبلغ، قوله: [وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ لأنّهم ما كانوا يتحاشون من إظهار هذا الأمر القبيح و لا يتكاتمون أو المراد بصر القلب أي تعلمون أنّها قبيحة و لم يسبقكم أحد في هذا الأمر القبيح و إنّ اللّه لم يخلق الذكر للذكر فهي مضادّة للّه في حكمته.

ثمّ بيّن الفاحشة الّتي يأتونها فقال: [أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أي تفعلون أفعال الجهّال من عاقبة العصيان [فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ عن إتيان الرجال في أدبارهم، و إنّما قالوا ذلك على وجه الهزء.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه ينجّي لوطا و أهله إلّا امرائة و أهلك الباقين بقوله: [فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها] أي جعلناها [مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في العذاب [وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً] فهو الحجارة [فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي الّذين أبلغهم لوط النذارة و أعلمهم بموضع المخافة ليتّقوها فخالفوا و قد تقدّم شرح عذابهم.

[قُلِ يا محمّد: [الْحَمْدُ لِلَّهِ شكرا على نعمه بأن وفّقنا للإيمان، و قيل: الحمد للّه على هلاك الأمم الكافرة [وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى اصطفاهم اللّه و اجتباهم على بريّته. و قيل: هم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و معنى السلام عليهم أنّهم سلموا ممّا عذّب اللّه به الكفّار.

قوله: [آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ مخاطبا للمشركين من أهل مكّة و عبدة الأصنام

ص: 103

و هذا إلزام الحجّة على المشركين بعد ذكر هلاك أولئك الفسقة بأنّ اللّه ينجّي عابديه من الهلاك و الأصنام لم تغن شيئا من عابديها عند نزول العذاب.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 60 الى 65]

أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)

قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)

المعنى: و لمّا أمر سبحانه محمّدا بالحمد و الشكر لربّه في مقابلة هذه النعمة أنّ اللّه لم يعذّب قومه كعذاب سائر الأمم و أنّ عذاب الاستيصال مرتفع عن قومه و بكت المشركين بأنّهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة اللّه و هو الخالق لأصول النعم و فروعها و مع هذا كيف تحسن عبادة ما لا منفعة منه؟

فذكر أنواعا من النعم فبيّن أنّه الّذي اختصّ بأن خلق السماوات و الأرض و جعل السماء مكانا للماء و الأرض للنبات و ما يتحصّل منها من الحدائق البهجة المونقة و لا يقدر على هذا الإنبات و الإيجاد إلّا اللّه فالمختصّ بهذه الخلقة و هذا الإنعام يجب أن يختصّ بالعبادة دون غيره و هذا معنى قوله:

[أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها] و «أم» متّصلة في صدر الآية، و مع ذلك [أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ عن هذا الحقّ الظاهر، و قيل: معناه: يعدلون باللّه سواه. و إنّما أتى بضمير الالتفات في قوله «فأنبتنا» لئلّا يتوهّم أنّ ملقي البذر هو منبت الشجرة، تقول:

أنا منبت الشجرة حيث أسقيها و اربّيها و أسعى في تشمّسها، و فاعل السبب فاعل للمسبّب

ص: 104

فإذن أنا القائم بالأمر فقال سبحانه: «ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها» فلهذه النكتة حسن الالتفات.

النوع الثاني: [أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً] و ذلك أنّه دحاها و سوّاها للاستقرار و جعلها متوسّطة في الصلابة و الرخاوة فليست في الصلابة كالحجر الّذي يتألّم الإنسان بالاضطجاع عليها و ليست في الرخاوة كالماء الّذي يغوص فيه. و الثالث جعلها كثيفة غبراء ليستقرّ عليها النور و لو كانت لطيفة لما استقرّ النور عليها و لو لم يستقرّ النور عليها لصارت من شدّة بردها بحيث يموت الحيوانات. الرابع أنّه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكلّ بحيث تبعد تارة و تقرب اخرى من سمت الرأس و لو لا ذلك لما اختلف الفصول و لما حصلت المنافع الأرضيّة من الربيعيّة و الصيفيّة و الخريفيّة و الشتائيّة. و الخامس أنّه سبحانه جعل الأرض ساكنة فإنّها لو كانت متحرّكة لم يحصل الانتفاع بالسكنى عليها. السادس يطرح عليها كلّ قبيح و يخرج منها كلّ مليح.

قوله: [وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً] و جعل في الأرض أنهارا.

اعلم أنّ المياه المنبعثة عن الأرض أربعة: الأوّل: ماء العيون السيّالة و هي تنبعث من أبخرة كثيرة المادّة قويّة الاندفاع تفجر الأرض بقوّة ثمّ لا يزال يستتبع جزء منها جزءا. الثاني: ماء العيون الراكدة و هي تحدث من أبخرة بلغت من قوّتها أن اندفعت إلى وجه الأرض و لم تبلغ من قوّتها و كثرة مادّتها أن يطرد تاليها سابقها. الثالث: مياه القنى و الأنهار و هي متولّدة عن أبخرة ناقصة القوّة عن أن تنشقّ الأرض فإذا ازيل عن وجهها ثقل التراب صادفت حينئذ تلك الأبخرة منفذا تندفع إليه بأدنى حركة. الرابع:

مياه الآبار و هي نبعيّة كمياه الأنهار إلّا أنّه راكد و ليس له ميل إلى موضع يسيل إليه و نسبة الفنى إلى الآبار نسبة العيون السيّالة إلى العيون الراكدة فلو لا صلابة الأرض لما اجتمعت الأبخرة في باطن الأرض و لو لا اجتماع الأبخرة في باطنها لما حدثت هذه العيون في ظاهرها.

قوله تعالى: [وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ هذه المنفعة الثالثة للأرض و المراد من الرواسي الجبال أثبتت بها الأرض لئلّا تميد و فيها منافع أخر من العيون و السحب و المعدنيّات أمّا

ص: 105

العيون لأنّ الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع قدر يعتدّ به فالأبخرة النافعة لا تجتمع إلّا في الأرض الصلبة و الجبال أصلب الأرض فلا جرم كانت أقواها على حبس هذا البخار حتّى يجتمع ما يصلح أن يكون مادّة للعيون فمستقرّ الجبل أملأ ماء و يكون الجبل في حقن الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعدّ للتقطير و يمنع تحليل البخار بصلابته و الأرض الّتي تحت الجبل كالقرعة و العيون كالأذناب و البخار كالمادّة و لذلك ترى أكثر العيون يتفجّر من الجبال و أقلّها في البراريّ و ذلك الأقلّ لا يكون إلّا إذا كانت الأرض صلبة بالنسبة و أمّا أنّ أكثر السحب تكون في الجبال لأنّ في باطن الجبال من النداوات ما لا يكون في باطن الأرضين الرخوة و أنّ الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء و الثلوج ما لا يبقى على سائر الأرضين و السبب المحلّل و هو الحرّ أقلّ فلذلك أثر السحاب في الجبال أكثر.

المنفعة الرابعة للأرض قوله: [وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً] المراد أن لا يفسد بالاتّصال كالمؤمن في قلبه بحران بحر الإيمان و الحكمة و بحر الطغيان و الشهوة و هو بتوفيقه جعل بينهما حاجزا لكي لا يفسد أحدهما بالآخر.

قال بعض أهل المعرفة في قوله تعالى: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» (1) قال: عند عدم البغي «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ» (2) يخرج و يظهر الإيمان و الشكر في القلب فإن قيل: لم جعل البحر ملحا قلنا لو لا ملوحته لأجّ و انتشر فساد أجوجته في الأرض و أحدث الوبا العامّ فلمّا بيّن أنّه المختصّ بالقدرة على خلق الأرض الّتي فيها مثل هذه المنافع العظيمة وجب أن يكون هو المختصّ بالإلهيّة و المعبوديّة.

[أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ و لا يشعرون بالذهاب و التعمّق في هذه الأمور.

قوله: [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ و الاضطرار الحالة المحوجة إلى الالتجاء و هو الّذي أحوجه أمر أو نازلة من نوازل الدهر أو مرض أو فقر إلى التضرّع إلى اللّه لدفعه.

و قيل: الّذي لا حول و لا قوّة له. و قيل: المذنب إذا استغفر.

ص: 106


1- الرحمن: 20، 22.
2- الرحمن: 20، 22.

فإن قيل: قد عمّ المضطرّين بهذا القول و كم من مضطرّ يدعو فلا يجاب له؟ فجوابه قد ذكر في اصول الفقه أنّ المفرد المعرّف لا يفيد العموم و إنّما يفيد الماهيّة فقط و الحكم المثبت للماهيّة يكفي في صدقه ثبوته في فرد من أفراد الماهيّة على أنّه تعالى وعد بالاستجابة و لم يذكر أنّه يستجيب في الحال.

و أمّا قوله: [وَ يَكْشِفُ السُّوءَ] فهو كالتفسير للاستجابة فإنّه لا يقدر على كشفه إلّا القادر الّذي لا يعجزه أمر.

[وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ يخلف كلّ قرن منكم القرن الّذي قبله فيهلك قرنا و ينشئ قرنا. و قيل: يجعلكم خلفاء من الكفّار بنزول بلادهم و طاعة اللّه تعالى بعد شركهم [أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي قليلا ما تتّعظون، و «ما» زائدة للتأكيد.

[أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أم من يرشدكم إلى القصد و السمت في البرّ و البحر بما نصب لكم من الدلالات و العلامات من الكواكب و القمر إذا ضللتم و جنّ عليكم اللّيل مسافرين في البرّ و البحر و من يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته؟ فإنّه سبحانه هو الّذي يحرّك الرياح فتثير السحاب ثمّ تسوقه إلى حيث يشاء.

فإن قيل: إنّ الفلاسفة قالت: الرياح إنّما يتولّد عن الدخان و ليس الدخان كلّه هو الجسم الأسود المرتفع ممّا احترق بالنار بل كلّ جسم أرضيّ يرتفع بتصعيد الحرارة سواء كانت الحرارة حرارة النار أو حرارة الشمس فهو دخان. و قالوا: و تولّد الرياح من الأدخنة بسبب صعود الأدخنة إلى فوق فعند وصولها إلى الطبقة الباردة ينكسر حرّها بسبب برد ذلك الهواء لا محالة فينزل فيحصل من نزولها تموّج الهواء فتحدث الريح و ربّما أو جبت هيئة صعود تلك الأدخنة من تحت مانعا للأدخنة النازلة من فوق إلى أن يغفل ذلك فلأجل هذا السبب يتحرّك إلى سائر الجوانب فتحدث رياحا متفرّقة.

و اعلم أنّ أهل الإسلام أوردوا على فساد هذه العلّة وجوها: الأوّل أنّ الأجزاء الدخانيّة أرضيّة فهي أثقل من الأجزاء البخاريّة المائيّة و أجزاء البخاريّة لمّا يبرد ينزل

ص: 107

على الخطّ المستقيم مطرا فالدخان لمّا يبرد فلما ذا لم ينزل على الخطّ المستقيم بل يذهب يمنة و يسرة؟

فإن قلت: لو لا مصادفة صعود بعض الأدخنة حين نزول الأدخنة النازلة من فوق كان يلزم أن ينزل إلى خطّ مستقيم و لكن هذا التصادف يذهب به يمنة و يسرة.

فالجواب أنّ حركة تلك الأجزاء إلى أسفل طبيعيّة و حركتها يمنة يسرة عرضيّة، و الطبيعيّة أقوى من العرضيّة، و إذا لم يكن طبيعيّة أقوى من العرضيّة فلا أقلّ من المساوات ثمّ إنّ الريح عند حركتها يمنة و يسرة ربّما تقوى على قلع الأشجار و رمي الجدار بل الجبال فتلك الأجزاء الدخانيّة عند ما تحرّكت حركتها الطبيعيّة الّتي و هي الحركة إلى السفل وجب أن تهدم السقوف و نحن نرى الغبار نزل من الهواء و لا يحسّ بنزوله من أن يهدم شيئا فثبت فساد ما ذكروه في علّة الرياح.

على أنّه يقول هب إنّ الأمر كما ذكروه و لكنّ الأسباب الفاعليّة و القابليّة لها مخلوقة للّه فإنّه لو لا الشمس و تأثيرها في تصعيد الأبخرة و الأدخنة و لو لا طبقات الهواء لما حدثت هذه الأمور و معلوم أنّ من وضع أسبابا أدّت إلى منافع عجيبة و حكمة بالغة فذلك الواضع هو الّذي فعل تلك المنافع فهو الّذي يرسل الرياح و الأمطار و يوجد بأمره ما يحتاج إليه خلقه فسبحان المتفرّد بالإيجاد و لا يشاركه أحد من العباد.

قوله تعالى: [أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أمّن يبدأ و يخترع الخلق و ينشئه على غير مثال و احتذاء ثمّ يميته فيعيده بعد الإماتة. فإن قيل:

كيف يقال لهم: «ثمّ يعيده» و هم منكرون للإعادة؟ لأنّهم كانوا معترفين بالابتداء و دلالة الابتداء على الإعادة دلالة قويّة.

[أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ مع أنّه أنشأكم و ما أنشأكم غيره و رزقكم من السماء و الأرض قل لهم إذا كان لكم في شريكي برهان: [فاتوا به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ لمّا بيّن أنّه المختصّ بالقدرة و الإيجاد فكذلك بيّن أنّه المختصّ بعلم الغيب. فلو قيل: معنى الاستثناء أن يكون سبحانه من الّذين في السماوات و الأرض و ذلك يوجب كونه في المكان و هو منزّه عن مثل

ص: 108

هذه الأمور بل معناه أنّه في كلّ مكان على أنّه محيط بكلّ مكان و علمه في الأماكن كلّها لا أنّه متحيّز في مكان من السماوات و الأرض.

قل يا محمّد لا يعلم من في السماوات و الأرض من الملائكة و الإنس و الجنّ الغيب- و الغيب ما هو غائب علمه عن الخلق ممّا يكون في المستقبل- إلّا اللّه وحده و من أعلمه اللّه «وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» أي ما يعلمون أهل السماوات و لا أهل الأرض أيّان أي متى، و كلمة أيّان مركّبة من أيّ و أن و هو الوقت أي أيّ وقت يحشرون فصار علم الساعة علم الغيب.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 66 الى 75]

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (74) وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)

و في «ادّارك» لغات و اللفظ بصيغة الماضي و المراد به الاستقبال أي يتدارك علمهم و يستحكم و يتكامل علمهم و حاصل المعنى: أنّه سيدرك علمهم في الآخرة بوقوع القيامة حين لا ينفعهم اليقين. و قيل: معناه: أدرك هذا العلم جميع العقلاء لو تفكّروا و نظروا لأنّ العقل يقتضي أنّ الإهمال قبيح فلا بدّ من تكليف و التكليف يقتضي الجزاء و إذا لم يكن ذلك في الدنيا فلا بدّ من دار الجزاء.

و قيل: إنّ الآية إخبار عن ثلاث طوائف: طائفة أقرّت بالبعث، و طائفة شكّت فيه، و طائفة تفقّه كما قال سبحانه في الطائفة الشاكّة: [بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها] و في الثالثة:

[بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ .

و قيل: على كونهم موصوفين بتتابع العلم تهكّم بهم كما تقول لأجهل الناس: ما

ص: 109

أعلمك! على سبيل الهزء و ذلك حيث شكّوا في إثبات ما هو الطريق إليه واضح ظاهر، و المراد بالعمى عمى القلب و عمون جمع عمى لتركهم التدبّر و النظر.

قوله: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] بإنكارهم البعث [أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ فحكى اللّه سبحانه عنهم أنّهم تعجّبوا من إخراجهم أحياء و قد صاروا ترابا و طعنوا بقولهم:

[لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي هذا كلام كما قيل لنا قيل لآبائنا من قبل أن يقال لنا [إِنْ هذا] الكلام أي ليس [إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يريدون قصصا غير صحيحة [قُلْ يا محمّد: [سِيرُوا ... فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي كيف أهلك اللّه المكذّبين بآياته و خرّب بلادهم و أبادهم.

قوله [وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على تكذيبهم و تركهم الإيمان [وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ و و هو ما يضيق به الصدر [مِمَّا يَمْكُرُونَ أي يدبّرون في أمرك بأنّ اللّه تعالى يحفظك و ينصرك عليهم.

[وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ] الّذي تعدنا يا محمّد من العذاب: [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنّه يكون [قُلْ يا محمّد [عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ أي قرب لكم؟ فأجابهم اللّه عسى و قرب لكم [بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ و هو عذاب يوم بدر، و اللام زائدة للتأكيد كالباء في «وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ» (1) أو ضمّن معنى فعل يتعدّى باللام نحو و دنى لكم و أزف لكم و معنى ردف لكم تبعكم و لحقكم، و عسى و لعلّ في وعد الملوك و وعيدهم يدلّان على صدق الأمر و إنّما يعنون بذلك أظهار وقارهم و لأنّهم لا يعجلون بالانتقام لوثوقهم بأنّ الطلب من عدوّهم لا يفوتهم.

ثمّ إنّه سبحانه بيّن السبب في عدم تعجيل العذاب فقال: [وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يتفضّل عليهم بتأخير العقوبة [وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ و لا يعرفون هذا النعمة و هذه الآية تبطل قول القائل بأنّه لا نعمة للّه على الكفّار.

ثمّ بيّن أنّه سبحانه مطّلع بما قلوبهم فقال: [وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ و قدّم ما تكنّه لأنّ ما يكنّه الصدور هو الدواعي و أسباب و معدّات لما يعلنون

ص: 110


1- البقرة: 195.

من أفعال الجوارح، و العلم بالعلّة علّة للعلم بالمعلول، و حاصل المعنى أنّه عالم بالظاهر و الباطن بما يخفون من النفاق و الكيد في حقّ النبيّ.

[وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ التاء في غائبة كالتاء في العافية و العاقبة و النطيحة و الذبيحة في أنّها أسماء غير صفات و يجوز أن تكون تاؤها للمبالغة كالراوية مثل قولهم ويل للشعر من راوية السوء كأنّه قال سبحانه: و ما من شي ء شديد الغيبوبة و الخفاء إلّا و علمه اللّه و أحاط به و أثبته في اللوح المحفوظ، و المبين الظاهر البيّن لمن ينظر فيه من الملائكة.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 76 الى 85]

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)

وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85)

لمّا تمّ الكلام في المبدأ و المعاد شرع بما فيه إثبات للنبوّة و لمّا كانت العمدة في إثبات نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله القرآن بيّن أنّ الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة لما كانت مذكورة في التوراة و الإنجيل (1) مع العلم بأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان امّيّا و لم يخالط أحدا من العلماء و لم يشتغل بالاستفادة و التعلّم فإذن لا يكون ذلك إلّا من قبل اللّه و [هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ] مختلفاتهم من حديث مريم و عيسى و النبيّ المبشّر به في التوراة حيث قال بعضهم: هو يوشع، و قال بعضهم: لا، بل هو منتظر لم يأت بعد.

[وَ إِنَّهُ أي القرآن [لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ و ذلك لأنّه لمّا تأمّلنا القرآن

ص: 111


1- بل هو الأصل القويم الذي يصحح هفوات الكتابين به، فان الموجود بيد أهل الكتاب لم يكن الا المحرف الذي نسب فيه اشنع الاتهام الى الأنبياء الكرام.

فوجدنا فيه من الدلائل العقليّة على التوحيد و المعاد و النبوّة و الشرائع الّتي موافقه لنظام العالم و مبرّء عن شائبة الانتقاد و التصرّف بحيث لا يتمكّن أحد أن يقول: لو كان هذا الحكم الّذي في القرآن لو تبدّل بهذا الحكم لكان أحسن أو حسن و هذا معنى الهداية و الرحمة و النعمة.

[إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ يريد بين المختلفين في الدين يوم القيامة فلو قيل:

إنّ القضاء و الحكم بمعنى واحد أي قضاؤه بعد له لأنّ حكمه لا يقتضي إلّا العدل و قرئ بحكمه جمع حكمة [وَ هُوَ الْعَزِيزُ] الغالب على أمره [الْعَلِيمُ بكلّ شي ء.

ثمّ أمر نبيّه بعد ظهور نبوّته و إظهار حججه بأن يتوكّل على اللّه و لا يلتفت إلى أعداء اللّه فقال سبحانه: [فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثمّ علّل ذلك أمرين: أحدهما قوله: [إِنَّكَ عَلَى الْحَقِ الظاهر [الْمُبِينِ و من حقّ المحقّ التوكّل و الانتظار لنصرة اللّه و الثاني قوله:

[إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى لأنّهم لا يلتفتون إلى شي ء من الدلائل [وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ] و الأصمّ لا يسمع الدعوة. قوله: [إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ تأكيد لبيان حال الأصمّ لأنّه إذا تباعد عن الداعي بأن تولّى عنه مدبّرا كان أبعد عن إدراك صوته فحال أولئك مثل حال الميّت الأصم المدبر و الحاصل أنّ إسماعك إيّاهم ما يجدي لهم نفعا.

قوله: [وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ في الدين بالآيات الدالّة على الهدى إذا أعرضوا عنها كما لا يمكنك أن تهدي الأعمى إلى قصد الطريق فجعل سبحانه الجهل بمنزلة العمى لأنّه يمنع عن إدراك الحقّ كما يمنع العمى عن إدراك المبصرات. قوله: [إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي ما تسمع إلّا من يطلب الحقّ بالنظر في آياتنا فهم منقادون و مستسلمون.

قوله: [وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أي إذا وجب العذاب عليهم و ذلك عند خروج القائم و أنّ نزول العذاب بهم عند اقتراب الساعة فيسمّى المقول قولا كما يقال: جاء الخبير الّذي قلت و يراد به المخبر قال أبو سعيد الخدريّ و ابن عمر: و ذلك إذا لم يأمروا بالمعروف و لم ينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم و أخذوا بمبادئ العذاب أخرجنا لهم دابّة من الأرض و ذلك من أشراط الساعة يخرج بين الصفا

ص: 112

و المروة فتخبر المؤمن بأنّه مؤمن و الكافر بأنّه كافر و عند ذلك يرتفع التكليف و لا تقبل التوبة حينئذ. و قيل: لا يبقى مؤمن إلّا مسحته و لا يبقى منافق إلّا حطيّته يخرج ليلة جمع و الناس يسيرون إلى منى. و روى محمّد بن كعب القرطبيّ قال: سئل عليّ عليه السّلام عن الدابّة فقال: أما و اللّه ما لها ذنب و إنّ لها اللحية. و في هذا البيان إشارة إلى أنّها من الإنس.

و روي عن ابن عبّاس أنّها دابّة من دوابّ الأرض لها زغب (1) و ريش و لها قوائم أربع. و عن حذيفة قال: دابّة الأرض ستّون ذراعا لا تدركها طالب و لا يفوتها هارب فيتّسم المؤمن بين عينيه و يكتب بين عينيه مؤمن و تسم الكافر بين عينيه كافر و معها عصا موسى و خاتم سليمان فتجلو وجه المؤمن بالعصا و تختم أنف الكافر بالخاتم حتّى يقال: يا مؤمن و يا كافر.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه يكون للدابّة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى المدينة فيفشو ذكرها في البادية و لا يدخل ذكرها القرية يعني مكّة ثمّ تمكث زمانا طويلا ثمّ تخرج خرجة اخرى قريبا من مكّة فيفشو ذكرها في البادية و يدخل ذكرها القرية يعني مكّة ثمّ سار الناس يوما في أعظم المساجد على اللّه حرمة و أكرمها على اللّه يعني المسجد الحرام و لم ترعهم إلّا و هي من ناحية المسجد تدنو كذا و كذا ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم فيرفض الناس عنها و يثبت لها عصابة عرفوا أنّهم لن يعجزوا اللّه فخرجت عليهم ببعض رأسها من التراب فمرّت بهم فجلّت عن وجوههم حتى تركها كأنّها الكوكب الدرّيّة ثمّ ولّت في الأرض لا يدركها طالب و لا يعجزها هارب حتّى أنّ الرجل ليقوم فيتعوّذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفة فيقول: يا فلان الآن تصلّي؟ فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه. و قرئ تكلّمهم بغير التشديد من الكلم لا من الكلام بمعنى الجرح.

و القميّ عن الصادق عليه السّلام- و هو أصحّ الأقوال- قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو نائم في المسجد قد جمع رملا و وضع رأسه عليه فحرّكه صلّى اللّه عليه و آله برجله ثمّ قال له: قم يا دابّة الأرض فقال رجل من أصحابه: يا رسول اللّه أ يسمّي بعضنا بعضا بهذا الاسم فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا و اللّه ما هو إلّا له خاصّة و هو دابّة الأرض الّذي ذكر اللّه في كتابه فقال عزّ و جلّ: «وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ» الآية، ثمّ قال: يا عليّ إذا كان

ص: 113


1- صغار الشعر و الريش.

آخر الزمان أخرجك اللّه في أحسن صورة و معك ميسم تسم به أعداءك.

و عنه عليه السّلام قال: قال رجل لعمّار بن ياسر: يا أبا اليقظان إنّ آية في كتاب اللّه قد أفسدت قلبي و شكّكني، فقال: و أيّة آية هي؟ قال: قوله تعالى: «وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ» الآية، فأيّة دابّة هذه؟ قال عمّار: و اللّه ما أجلس و لا آكل و لا أشرب حتّى أريكها فجاء عمّار مع الرجل إلى أمير المؤمنين و هو يأكل تمرا فقال عليّ عليه السّلام: يا أبا اليقظان! هلمّ فأقبل عمّار و جلس يأكل معه فتعجّب الرجل منه فلمّا قام عمّار قال الرجل: سبحان اللّه إنّك حلفت أن لا تأكل و لا تشرب و لا تجلس حتّى تريني الدابّة، قال: قد أريتك إن كنت تعقل. و في المجمع أنّه روى العيّاشيّ هذه القصّة بعينها عن أبي ذرّ أيضا.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و لقد أعطيت الستّ:

علم المنايا و البلايا و الوصايا و فصل الخطاب و إنّي لصاحب الكرّات و دولة الدول و إنّي لصاحب العصا و الميسم و الدابّة الّتي تكلّم الناس.

و في الإكمال عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث بعد أن يذكر الدجّال و من يقتله قال: ألا إنّ بعد ذلك الطامّة الكبرى قيل: و ما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: خروج دابّة الأرض من عند الصفا معها خاتم سليمان و عصا موسى تضع الخاتم على وجه كلّ مؤمن فيستطبع فيه: هذا مؤمن حقّا و يضعه على وجه كلّ كافر فيكتب: هذا كافر حقّا، حتّى ينادي المؤمن الويل لك حقّا يا كافر، و أنّ الكافر ينادى طوبى لك يا مؤمن و وددت أنّى كنت مثلك فأفوز فوزا عظيما. و يرفع الدابّة رأسها من بين الخافقين بإذن اللّه و ذلك بعد طلوع الشمس من مغربها فعند ذلك ترفع التوبة فلا تقبل توبة و لا عمل ينفع و يرفع و لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ثمّ قال عليه السّلام لا تسألون عمّا يكون بعد هذا فإنّه عهد إليّ حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن لا اخبر به غير عترتي.

قوله: [تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ تكلّم الدابّة بما يسوؤهم و يتحدّثهم بأنّ هذا مؤمن و هذا كافر، و على هذا المعنى قوله: «أَنَّ النَّاسَ كانُوا» من كلام اللّه، و قيل: من كلام دابّة الأرض تكلّمهم بأن تقول لهم: إنّ الناس كانوا بآياتنا، معناها بكلامها و خروجها لا يوقنون. و قرأ ابن مسعود: تكلّمهم بأنّ الناس. و بإنّ المكسورة

ص: 114

حكاية لقول الدابّة و إذا كان حكاية قول اللّه بيّن به أنّه أخرج الدابّة لهذه العلّة أنّهم ما كانوا يوقنون بآياتنا.

فإن قيل: إذا كانت حكاية لقول الدابّة فكيف يقول: بآياتنا؟ على معنى بآيات ربّنا أو كما يقول بعض خاصّة الملك: خيلنا و بلادنا، و إنّما هي خيل مولاه و بلاده. هذه على قراءة «إن الناس» بالكسر و على قراءة الفتح فعلى حذف الجارّ أي تكلّمهم بأنّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.

قوله: [وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يدفعون أو يحسبون و «من» الاولى للتبعيض و الثانية للتبيين.

و استدلّ الإماميّة بهذه الآية على صحّة الرجعة و قالوا: إنّ دخول «من» في الكلام يوجب التبعيض فدلّ ذلك على أنّ اليوم المشار إليه في الآية يحشر فيه قوم دون قوم و ليس ذلك صفة يوم القيامة الّذي يقول فيه سبحانه: «وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً» (1) و قد تظاهرت الأخبار عن أئمّة الهدى من آل محمّد من أنّ اللّه تعالى سيعيد عند قيام المهديّ قوما ممّن تقدّم موتهم من أوليائه و شيعته ليفوزوا بثواب نصرته و معونته و يبتهجوا بظهور دولته و يعيد قوما من أعدائه لينتقم منهم و ينالوا بعض ما يستحقّونه من العقاب في القتل على أيدي شيعته و يرون الذلّ و الخزي بما يشاهدون من علوّ كلمته، و لا يشكّ عاقل أنّ هذا الأمر مقدور للّه تعالى غير مستحيل في نفسه و قد فعل اللّه مثل ذلك في الأمم الخالية و نطق به القرآن في عدّة مواضع مثل قصّة عزير و غيره على ما فسّر في موضعه و صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قوله: سيكون في امّتي كلّ ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة حتّى لو أنّ أحدهم دخل في جحر ضبّ لدخلتموه.

و لو أنّ جماعة من الإماميّة تأوّلوا ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة و الأمر و النهي و الشوكة للمهديّ صلّى اللّه عليه و آله دون رجوع الأشخاص و إحياء الأموات و أوّلوا الأخبار الواردة في هذا الباب لما ظنّوا أنّ الرجعة تنافي التكليف و ليس كذلك لأنّه ليس فيها ما يلجئ إلى فعل الواجب و يلجئ إلى الامتناع من القبيح و إذا كان الأمر

ص: 115


1- الكهف: 48.

كذلك فالتكليف يصحّ معها كما كان يصحّ مع ظهور المعجزات الباهرة و الآيات القاهرة كفلق البحر و انقلاب العصا ثعبانا و ما أشبه ذلك.

و بالجملة فهذا المعنى الّذي بيّنّا على أنّ المراد من هذا الحشر في الرجعة المهدويّة صلوات اللّه عليه، و أمّا على قول من قال: المراد به يوم القيامة قال: المراد بالفوج الجماعة من الرؤساء و المتبوعين في الكفر حشروا و جمعوا لإقامة الحجّة عليهم.

[حَتَّى إِذا جاؤُ] إلى موقف الحساب قال اللّه تعالى لهم: [أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي أي كذّبتم بأنبيائي و دلالاتي الدالّة على ديني [وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً] و لم تطلبوا معرفة ديني و لم تبنوا ما أوجب اللّه عليكم فيها، و الواو حاليّة جملة مفيدة لزيادة شناعة التكذيب أي أجمعتم بين التكذيب و عدم الإحاطة في التدبّر بالآيات [أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي أيّ شي ء كنتم تعملون غير ذلك بمعنى أنّه لم يكن لهم عمل غير ذلك و لم يخلقوا إلّا لهذا الأمر و هو المعرفة و الطاعة و هم عكسوا القصّة كأنّهم لم يخلقوا إلا للكفر و المعصية فيخاطبون بهذا الكلام تبكيتا ثمّ يكبّون في النار و ذلك قوله: [وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ يريد أنّ العذاب الموعود يغشاهم بسبب التكذيب فيشغلهم عن النطق و الاعتذار، هذا البيان على المعنى الثاني و أمّا على المعنى الأوّل المراد بالتكذيب بالآيات تكذيب الأئمّة الطاهرين.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 86 الى 93]

أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

ص: 116

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه قدرته على الإعادة و البعث بما احتجّ به على الكفّار فقال: [أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ عن التعب و الحركات [وَ النَّهارَ] أي يبصر فيه و يمكن التصرّف فيه لضيائه و يدرك بنوره جميع الأشخاص كما يدرك بنور البصر و جعل الإبصار للنهار و هو لأهله تنبيها على أنّ هذه الصفة فيه [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .

[وَ] اذكر [يَوْمَ يُنْفَخُ إسرافيل بأمر اللّه [فِي الصُّورِ] و يجوز أن يكون على حذف في الكلام و التقدير: و يوم ينفخ في الصور يكون النشأة الثانية. و اختلف في معنى الصور فقيل: هو صور الخلق جمع صورة، و قيل: هو قرن ينفخ فيه شبه البوق و قد ورد ذلك في الحديث.

[فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي ماتوا لشدّة الخوف و الفزع يدلّ عليه قوله في موضع آخر: «فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ» (1) الآية و قيل: هي ثلاث نفخات: الاولى نفخة الفزع، و الثانية نفخة الصعق، و الثالثة نفخ القيام لربّ العالمين [إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ من الملائكة الّذين يثبت اللّه قلوبهم و هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل، و قيل: يعني الشهداء فإنّهم لا يفزعون في ذلك اليوم.

[وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ أي كلّ من الأحياء الّذين ماتوا يأتونه في المحشر أذلّاء صاغرين، و إنّما أتى سبحانه بلفظ الماضي في قوله «فَفَزِعَ و أَتَوْهُ» و لم يقل يفزع، للإشعار بتحقيق الأمر و ثبوته و أنّه كائن لا محالة لأنّ فعل الماضي يدلّ على وجود الفعل و كونه مقطوعا به. و قيل في الاستثناء: المراد الحور و خزنة النار و حملة العرش، و عن جابر: أنّ موسى منهم لأنّه صعق مرّة، و قرئ «أتاه داخرين» و الدخير الصاغر.

قوله: [وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ هذه العلامة الثالثة و هي تسيير الجبال و الوجه في حسبانهم أنّها جامدة فلأنّ الأجسام الكبار إذا تحرّكت حركة سريعة على نهج واحد في السمت و الكيفيّة ظنّ الناظر إليها أنّها واقفة مع أنّها تمرّ مرّا حثيثا و يتخيّل الرائي أنّها واقفة مكانها لا تسير و لا تتحرّك في مرأى العين و في مثل هذا

ص: 117


1- الزمر: 68.

المعنى قول النابغة الجعديّ يصف جيشا:

بار؟؟ عن مثل الطود تحسب أنّهم وقوف لحاج و الركاب تمهّج

أي تحسب أنّهم وقوف لكثرتهم فكذلك الجبال إنّك لا ترى سيرها لبعد أطرافها كما لا ترى السحاب إذا انبسط و تراكم.

[صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ أي جعل هذا الصنع من جملة الأشياء الّتي أتقنها و أتى بها على الحكمة و الصواب، و في الآية دلالة على أنّ القبائح ليست من خلقه و إلّا وجب وصفها بأنّها متقنة «إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» أي عليم بما يفعل أعداؤه من المعصية و بما يفعل أولياؤه من الطاعة.

ثمّ أخبر سبحانه (؟) الجزاء على أفعال الفريقين فقال: [مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها] أي من أتى بكلمة التوحيد، و قيل: بالإيمان و وافى يوم القيامة فله الخير من تلك الحسنة و يصل الخير إليه بسبب تلك الحسنة و هو الثواب و الأمن من العقاب. و «خير» اسم ليس صيغة التفضيل [وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ قيل: إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها و أهل الحسنة آمنون من ذلك الفزع.

[وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ] أي المعصية الكبيرة الّتي هي الكفر و الشرك، عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين [فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ] أي القوا في النار على وجوههم [هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني يقال لهم: إنّ هذا جزاء فعلكم و ليس بظلم.

حدّثنا (1) السيّد أبو الحامد مهديّ بن نزار الحسينيّ بحذف الأسانيد في تفسير هذه الآية قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الحسنة حبّنا أهل البيت و السيّئة بغضنا. و أيضا حدّثنا أبو الحامد بحذف الأسانيد من صاحب هذه النسجة عن جابر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

يا عليّ لو أنّ امّتي صاموا حتّى صاروا كالحنايا ثمّ أبغضوك لأكبّهم اللّه على مناخرهم في النار.

قوله تعالى: [إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ] كأنّه قيل لنبيّه: قل لهم:

إنّما أمرت أن أعبد ربّ مكّة، و قيل: هي منى [الَّذِي حَرَّمَها] أي جعلها حرما آمنا

ص: 118


1- منقول من المجمع.

يحرم فيها ما يحلّ في غيرها لا ينفر صيدها و لا يقتصّ فيها [وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ] و مالك كلّ شي ء ممّا أحلّه و حرّمه فيحرّم ما شاء و يحلّ ما شاء [وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المخلصين للّه بالتوحيد [وَ] أمرت [أَنْ أَتْلُوَا] عليكم [الْقُرْآنَ و أدعوكم إلى ما فيه.

[فَمَنِ اهْتَدى إلى الحقّ و العمل بما فيه [فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ و راجع نفعه إليه و جزاؤه يصل إليه [وَ مَنْ ضَلَ و جار و لم يعمل بما فيه و لم يهتد إلى الحقّ [فَقُلْ له يا محمّد [إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ الّذين يخوّفون بعقاب اللّه و لا أقدر على إكراههم على الإيمان و الدين [وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ اعترافا بنعمته إذ اختارني لرسالته [سَيُرِيكُمْ آياتِهِ يوم القيامة [فَتَعْرِفُونَها] و تعرفون حينئذ أنّها على ما أخبرتم بها في الدنيا و رأوا ذلك حين عجلوا بهم إلى النار [وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بل هو عالم بجميع ذلك فيجازيكم عليها. و إنّما يؤخّر عقابكم إلى وقت يقتضيه الحكمة. تمّت السورة.

ص: 119

سورة القصص

اشارة

(مكية)

فضلها:

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ طسم القصص اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى و كذّب به و لم يبق ملك في السماوات و الأرض إلّا شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقا أنّ كلّ شي ء هالك إلّا وجهه.

لمّا أمر سبحانه في خاتمة تلك السورة بتلاوة القرآن بيّن في هذه السورة أنّ «طسم» من تلك الآيات القرآن فقال:

ص: 120

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القصص (28): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)

[طسم معناه كسائر الفواتح من السور و قد تقدّم فيها، و [تِلْكَ إشارة إلى [آياتُ السورة، و [الْكِتابِ الْمُبِينِ هو إمّا اللوح و إمّا الكتاب الّذي وعد اللّه إنزاله على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و حاصل المعنى أنّ آيات هذه السورة هي آيات ذلك الكتاب و وصفه بأنّه مبين لأنّه بيّن فيه الحلال و الحرام أو لأنّه بفصاحته و إعجازه بيّن أنّه من كلام الخالق دون الخلق أو لأنّه بيّن خبر الأوّلين و الآخرين.

قوله تعالى: [نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِ أي نتلو على لسان جبرئيل لأنّه كان يتلو على محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيحفظه، بعض خبر [مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بالحقيقة [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنّهم المنتفعون بمواعظ اللّه و لو أنّ غيرهم مأمورون بالانتفاع.

قوله: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ و قرئ بضمّ الفاء، استكبر و تجبّر في أرض مملكته أرض مصر و توابعها [وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً] أي فرقا فرقا و فرّق بين القبط و بين بني إسرائيل أكرم أقواما من القبط و أذلّ آخرين من بني إسرائيل بالاستعباد و الاستعمال في الأعمال الشاقّة و أغرى بينهم العداوة ليكونوا له أطوع.

[يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ أي يستخدم بني إسرائيل و [يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ و يبقي [نِساءَهُمْ و السبب في ذلك أنّ كاهنا قال له: يولد مولود في بني إسرائيل في ليلة كذا يذهب

ص: 121

ملكك على يده فولد تلك اللّيلة اثنا عشر غلاما فقتلهم أجمع و بقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين متطاولة. قال وهب: قتل القبط في طلب موسى عليه السّلام خوفا من قول الكاهن تسعين ألفا من بني إسرائيل. و قيل: إنّ السبب على إقدام فرعون على قتل بني إسرائيل أنّ فرعون رأى في منامه أنّ نارا قبلت من بيت المقدس و اشتملت على مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل فسأل عن رؤياه، فقالوا: يخرج من هذا البلد الّذي جاء منه بنو إسرائيل رجل يكون على يده هلاك مصر فأمر بقتل الذكور. و قيل: السبب في ذلك أنّ الأنبياء الّذين كانوا قبل موسى بشّروا بمجي ء موسى و كان فرعون قد سمع ذلك فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل.

[إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بسبب القتل.

[وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ المعنى: إنّ فرعون كان يريد إهلاك بني إسرائيل و إفناءهم و نحن نريد أن نمنّ عليهم، و «نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ» جملة معطوفة على قوله «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ» و أريد به حكاية حال ماضية و يجوز أن يكون حالا من يستضعف أي يستضعفهم فرعون و نحن نريد أن نمنّ عليهم.

[وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ و نجعلهم قادة و رؤساء في الخير و الدين يقتدى بهم و نجعلهم الوارثين لديار فرعون و قومه و أموالهم، و قد صحّت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: و الّذي فلق الحبّة و برأ النسمة لتعطفنّ علينا الدنيا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها و تلا عقيب هذا الحديث: «وَ نُرِيدُ أَنْ» الآية، و روى العيّاشيّ بالإسناد عن أبي الصباح الكنانيّ قال: نظر أبو جعفر إلى أبي عبد اللّه عليهما السّلام قال: هذا و اللّه من الّذين قال اللّه تعالى: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ» الآية. و قال سيّد العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام: و الّذي بعث محمّدا بالحقّ بشيرا و نذيرا إنّ الأبرار منّا أهل البيت بمنزلة موسى و شيعته و إنّ عدوّنا و أشباههم بمنزلة فرعون و أشياعه. و في المجالس عنه عليه السّلام في هذه الآية قال: هي لنا أو فينا. و في الإكمال و الغيبة: إنّ القائم لمّا تولّد نطق بهذه الآية.

و القميّ: أخبر اللّه نبيّه بما لقي موسى و أصحابه من فرعون من القتل و الظلم ليكون

ص: 122

تعزية له فيما يصيبه في أهل بيته، ثمّ بشّره أنّه يتفضّل عليهم بعد ذلك و يجعلهم خلفاء في الأرض و أئمّة على امّته و يردّهم إلى الدنيا مع أعدائهم حتّى ينتصفوا منهم فقال:

«وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ» الآية.

قوله: [وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي و نمكّن لبني إسرائيل في أرض مصر [وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل [ما كانُوا يَحْذَرُونَ لأنّهم يخافون ذهاب ملكهم على يد رجل من بني إسرائيل و قد أريناهم ما كانوا يتخوّفون منه. قال الضحّاك: عاش فرعون أربعمائة سنة و كان قصيرا دميما (1) و هو أوّل من خضب بالسواد.

و عاش موسى مائة و عشرين سنة.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 7 الى 9]

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)

لمّا قال سبحانه «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ» ابتدأ في هذه الآية بذكر نعمه في هذا الباب و كيف دبّر في إهلاك فرعون فقال:

[وَ أَوْحَيْنا] أي قذفنا في قلبها و ليس بوحي نبوّة، و قيل: أتاها جبرئيل بذلك.

و قيل: كان هذا الوحي رؤيا منام عبّرها من علماء بني إسرائيل [أَنْ أَرْضِعِيهِ ما لم تخافي عليه الطلب من فرعون [فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من القتل [فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ في النيل [وَ لا تَخافِي عليه الضيعة [وَ لا تَحْزَنِي من فراقه [إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب [وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ و الأنبياء.

فائدة: الخوف غمّ يحصل بسبب مكروه يتوقّع حصوله في المستقبل و الحزن غمّ يلحق بسبب مكروه حصل في الماضي.

قال وهب بن منبّه: لمّا حملت امّ موسى بموسى كتمت أمرها عن جميع الناس فلم

ص: 123


1- الحقير القبيح المنظر.

يطّلع على حملها أحد من خلق اللّه و ذلك شي ء ستره اللّه و لم ينبت بطنها و لم يظهر لبنها فلمّا كانت السنة الّتي يولد فيها موسى بعث فرعون القوابل و أمرهنّ أن يفتّشن النساء تفتيشا صعبا شديدا و كانت القوابل لا يعرض لها لأنّها ما كانت ممّن يظنّ بها الحبل و لمّا كانت اللّيلة الّتي ولد موسى عليه السّلام ولدته امّه و لا رقيب عليها و لا قابلة و لم يطّلع عليها أحد إلّا اخت موسى اسمها مريم أو كلثمة.

و لكن قال ابن عبّاس: لمّا قربت ولادة امّ موسى و كانت قابلة من النساء اللّاتي وكّلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل صديقة لأمّ موسى فلمّا ضربها الطلق أرسلت إليها فجاءت فعالجتها فلمّا ولد موسى رأت نورا بين عينيه فارتعش كلّ مفصل منها و دخل حبّ موسى في قلبها ثمّ قالت: يا هذه ما جئت إليك إلّا من ورائي قتل لأنّه أمر ربّي بقتل مولودك و لكن وجدت لابنك هذا حبّا ما وجدت حبّ شي ء مثل حبّه فاحفظي ابنك فإنّي أراه هو عدوّنا فما خرجت القابلة من عندها أبصرتها جواسيس فرعون و عيونه فجاءوا ليدخلوا على امّ موسى فقالت مريم: يا امّاه هذه الحرّس بالباب فلفّت موسى في خرقة و طاش (1) عقلها فوضعته في تنّور مسجور و لم تعقل ما تصنع فدخلوا فإذا التنوّر مسجور و رأوا امّ موسى و فتّشوا فلم يجدوا شيئا فخرجوا من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لاخت موسى: أين الصبيّ؟ قالت: لا أدري، فسمعت بكاء في التنوّر فانطلقت إليه و قد جعل اللّه النار عليه بردا و سلاما فأخذته.

ثمّ إنّ امّ موسى لمّا رأت فرعون جدّ في طلب الولدان خافت على ابنها فقذف اللّه في قلبها أن تتّخذ له تابوتا ثمّ تقذف التابوت في النيل فذهبت إلى نجّار من أهل مصر فاشترت منه تابوتا فقال لها النجّار: ما تصنعين به؟ فقالت: ابن لي أخشى عليه كيد فرعون أخبؤه فيه، و ما عرفت أنّه يفشي الخبر و إنّما قالت ذلك خوفا من الكذب فلمّا انصرفت ذهب النجّار ليخبر به الذبّاحين فلمّا جاءهم أمسك اللّه لسانه و جعل يشير بيده فضربوه و طردوه حملا بفعله السفاهة و الجنون فلمّا عاد إلى دكّانه ردّ اللّه عليه لسانه فذهب مرّة اخرى ليخبرهم فأخرسه اللّه فضربوه و طردوه فلمّا عاد إلى موضعه ردّ اللّه عليه نطقه فذهب مرّة

ص: 124


1- اى ذهب.

ثالثة فأخذ اللّه بصره و لسانه فجعل للّه تعالى: إن ردّ عليه بصره و لسانه يتوب، فعلم اللّه منه الصدق فردّ اللّه عليه بصره و لسانه.

و بالجملة انطلقت امّ موسى و ألقت التابوت في النيل و كان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها و كان لها كلّ يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها و كان بها برص شديد و كان فرعون شاور الأطبّاء و السحرة في أمرها فقالوا لها: إنّها لا تبرأ إلّا من قبل البحر يوجد منه طفل فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك و ذلك في يوم كذا في شهر كذا حتّى تشرق الشمس فلمّا كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل و معه آسية بنت مزاحم و أقبلت فرعون في جواريها حتّى جلست على الشاطئ إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأمواج و تعلّق بشجرة فرأى فرعون و قال: ائتوني به فابتدروه بالسفن من كلّ جانب حتّى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح التابوت فلم يقدروا عليه و عالجوا كسره فلم يقدروا عليه فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت فعالجته ففتحته فإذا بصبيّ صغير في التابوت و نور بين عينيه فالقى اللّه محبّته في قلوب القوم و عمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها لمّا كانت سامعة هذا الخبر من الكهنة قبل ذلك فبرئت فضمّته إلى صدره، فقالت الغواة من قوم فرعون: إنّا نظنّ أنّ هذا هو الّذي نحذر منه رمي في البحر فرقا (1) منك فهمّ فرعون بقتله فاستوهبته آسية امرأة فرعون و و تبنّته فترك قتله.

و الحاصل [فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً] و الالتقاط إصابة الشي ء من غير طلب، و المراد بآل فرعون جواريه و اللام في «ليكون» لام العاقبة و معناه أنّهم ما التقطوه إلّا ليكون قرّة عين و راحة و لكن آل و انتهى هذا الالتقاط لهم بالحزن و العداوة عليهم و على ملكهم مثل قوله: «وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ» (2) و قول الشاعر: «لدوا للموت و ابنوا للخراب» و معلوم أنّه لا يلد أحد لأن يموت و لا يبني أحد لأن يخرب و لكن يؤول إلى الموت و الخراب، و قرئ حزنا بضمّ الحاء و سكون الزاي و هما لغتان مثل السقم و السقم.

[إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ فيما كانوا عليه من الكفر و الظلم، و قيل:

ص: 125


1- أى خوفا و فزعا.
2- الأعراف: 178.

المراد من الخطاء لا من الخطيئة لأنّهم ما شعروا أنّه الّذي يذهب بملكهم.

[وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ و لمّا أراد فرعون قتله بعد أن حذّروه قالت آسية: «لا تقتله عسى أن يكون قرّة عين لي و لك» فقال فرعون: أن يكون لك و أمّا أنا فلا حاجة لي فيه، قال ابن عبّاس: لمّا قال فرعون: و أمّا أنا فلا حاجة لي فيه قال: و الّذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون قرّة عين له كما أقرّت آسية لهداه اللّه كما هداها [أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً].

أمّا قوله: [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ابتداء كلام من اللّه أي لا يشعرون أنّ هلاكهم بسببه و على يده و إنّه هو الّذي يطلبونه.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 10 الى 15]

وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)

وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)

. أي أصبح خاليا قلبها من كلّ شي ء إلّا من ذكر موسى و قيل: فارغا من الحزن لعلمها بأنّ ابنها نجى سكونا و وعدا من اللّه. و قيل: فارغا من الوحي الّذي اوحي إليها و نسيت ما وعدها اللّه [إِنْ كادَتْ أي أنّها فربت تبدي بذكر موسى و تصيح يا ابناه من شدّة الغمّ و الوجد. و قيل: لمّا دعوها للإرضاع بولدها همّت بأن تقول: أنا امّه لشدّة سرورها به لمّا رأته.

و قيل: المعنى أنّها كادت تبدي بالوحي [لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها] بالصبر و اليقين، و الربط على القلب إلهام الصبر لمّا سمعت أنّه وقع بيد فرعون من شدّة الجزع و الخوف على ابنه، و قرئ فرغا أي هدر و خلى و بطل قلبها من شدّة ما ورد عليها و ذلك حين رأت يرفع تابوته و يضع [لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من المصدّقين بوعد اللّه.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 11 الى 15]

وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)

ص: 126

[وَ قالَتْ امّ موسى لاخت موسى و اسمها كلثمة: [قُصِّيهِ أي اتّبعي أثره و لعلّ تعرفي خبره [فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ و في الكلام حذف و اقتصار و تقديره فذهبت كلثمة فوجدت آل فرعون أخرجوا التابوت و أخرجوا موسى فبصرت به و رأت أخاها عن بعد و عن جانب تنظر إليه كأنّها لا تريده عن مكان جنب بعيد [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ و آل فرعون لا يشعرون أنّها أخته، و كرّر سبحانه هذا القول و هو عدم شعورهم بأنّه لو كان إلها لكان يشعر بمثل هذا الأمر.

[وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ أي لا تؤتى بمرضع فيقبلها أي منعناهنّ منه و بغضناهنّ إليه. و قيل: هو جمع مرضع بمعنى الرضاع أي منعناه عن الرضاع، و مرضع موضع الرضاع أي الثدي [مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن رددناه إلى امّه و من قبل مجي ء أخته و من قبل ولادته في حكمنا و قضائنا فعند ذلك لشدّة محبّة فرعون لموسى طلب له المراضع و كان موسى لا يقبل ثدي واحدة منهنّ بعد أن أتت مرضع بعد مرضع فلمّا رأت اخت موسى حبّهم له و رقّتهم عليه [قالت لهم هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ و يحسنون تربيته [وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ يشفقون عليه و النصح إخلاص العمل من شائبة الفساد. قيل: إنّها لمّا قالت: و هم له ناصحون. قال هامان: قد عرفت هذا الغلام فدلّينا على أهله، قالت: ما أعرفه و لكنّي إنّما قلت هم للملك ناصحون ليزول شغل قلبه.

قوله: [فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ فانطلقت كلثمة اخت موسى إلى امّها فجاءت بها إليهم فلمّا وجد موسى أمّه قبل ثديها و سكن بكاؤه. قال الضحّاك:

إنّ موسى لمّا قبل ثدي امّه تعجّب فرعون و هامان و قالا: إنّك لأمّه؟ قالت: لا، قال:

فما بالك قبل ثديك من بين النسوة؟ قالت أيّها الملك إنّي امرأة حلوة اللبن ما ارتضع صبيّ ثديي إلّا قبل فلم يبق أحد من آل فرعون إلّا أهدى إليها و أتحفها بالذهب و الجواهر.

ص: 127

[وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ و المراد بالوعد قوله تعالى: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ». قوله تعالى:

[وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ تحقيق وعد اللّه.

قوله تعالى: [وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى و قيل في معنى بلوغ الأشدّ و الاستواء: إنّهما واحد و هو استكمال القوّة و اعتدال المزاج و البنية. و قيل: المراد من بلوغ الأشدّ عبارة عن كمال القوّة الجسمانيّة و الاستواء عبارة عن كمال القوّة العقليّة. قال ابن عبّاس: الأشدّ ما بين ثمانية عشر سنة إلى الثلاثين ثمّ من الثلاثين إلى الأربعين يبقى سواء من غير زيادة و لا نقصان فلهذا السرّ اختار اللّه هذا السنّ للوحي. و الأشدّ قيل: مفردة شدّة كما أنّ واحدة الأنعم نعمة، و قيل: لم يسمع لهذا الجمع مفرد.

و الحاصل: لمّا وصل موسى إلى هذه الدرجة [آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً] أعطينا النبوّة و العلم و أنّ موسى حين كبر كان يركب مراكب فرعون و يلبس ما يلبس و يدعى ابن فرعون و كان قد علم أنّ فرعون و قومه على الباطل و كان عليه السّلام يتكلّم بالحقّ و يعيب دينهم و اشتهر ذلك منه حتّى آل الأمر إلى أن أخافوه و خافهم و لمّا كان صغيرا ضرب يوما رأس فرعون بالعصا و نتف لحيته فقال فرعون: لا أقتله و لكن أخرجوه عن الدار و البلد فاخرج و لم يدخل عليهم حتّى كبر و القوم نسوا ذكره.

و ما كان موسى عليه السّلام من خوفه يدخل مدينة فرعون إلّا خائفا فدخلها يوما [عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها] و دخلها نصف النهار وقت ما هم قائلون، و قيل: بين المغرب و العشاء.

قوله تعالى: [فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ يختصمان أحدهما إسرائيليّ و الآخر قبطيّ يسخّره الإسرائيليّ ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون. قيل:

أحدهما مسلم من شيعته و من متابعي موسى و القبطيّ كافر من متابعي فرعون فاستغاث بموسى [الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ و استنصره الإسرائيليّ لينصره عليه. روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: ليهنّئكم الاسم، قال: قلت: و ما الاسم؟ قال: الشيعة، أما سمعت قول اللّه يقول: «فاستغاثه الّذي من شيعته على الّذي من عدوّه»؟ [فَوَكَزَهُ مُوسى أي دفع صدره بجمع

ص: 128

كفّه، و قيل: ضربه بعصاه [فَقَضى عَلَيْهِ أي مات المدفوع [قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ .

و اجتحّ الطاعنون في عصمة الأنبياء من وجوه:

أحدها: إنّ ذلك القبطيّ إمّا أن يكون مستحقّ القتل أو لم يكن كذلك فإن كان الأوّل فلم قال «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» و لم قال «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ» و لم قال في سورة اخرى: «فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» (1)؟ و إن كان الثاني و هو أنّ ذلك القبطيّ لم يكن مستحقّ القتل كان قتله معصية و ذنبا.

و ثانيها: أنّ قوله «وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ» على أنّه كان كافرا حربيّا فكان دمه مباحا فلم استغفر عنه و الاستغفار عن الفعل المباح غير جائز لأنّه يوهم في المباح كونه حراما.

و ثالثها أنّ الركز لا يقصد به القتل ظاهرا فكان ذلك القتل قتل خطأ فلم استغفر منه؟

و الجواب عن الأوّل لم لا يجوز أن يقال: إنّه كان لكفره مباح الدم أمّا قوله «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» لعلّ اللّه و إن أباح قتل الكافر إلّا أنّه قال: الأولى تأخّر قتلهم إلى زمان آخر فلمّا قتل فقد ترك المندوب فقوله: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان. و ثانيها أنّ قوله «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» إشارة إلى المقتول لا إلى عمل نفسه أي عمل هذا المقتول من عمل الشيطان و إنّه من جند الشيطان فقال فلان من عمل الشيطان أي من حزبه أمّا قوله «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي» فعلى نهج قول آدم عليه السّلام بقوله «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» و هو إمّا على سبيل الانقطاع إلى اللّه و الاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه و إن لم يكن هناك ذنب أو من حيث حرّم نفسه الثواب بترك المندوب أي فاغفر لي ترك هذا المندوب.

و قيل في تأويل هذه الآية وجه آخر و هو أن يكون مراده ربّي إنّي ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الملعون و لو عرف ذلك فرعون، لقتلني به فاغفر لي أي فاستره عليّ حتّى

ص: 129


1- الشعراء: 20.

لا يصل خبر هذا القتل إلى فرعون، و يؤيّد هذا التأويل أنّه عقّبه بهذا الكلام حيث قال:

«رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» و لو كانت إعانة المؤمن الإسرائيليّ سببا للمعصية لما قال عليه السّلام ذلك.

و أمّا قوله: «فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» فليس مراده عليه السّلام أنّي صرت بذلك القتل ضالًّا و لكن فرعون لمّا نسب إليه الكفر بسبب القتل نفي عن نفسه الكفر و قال: كنت متحيّرا لا أدري ما يجب عليّ و أمّا استغفاره عن قتله على كونه كافرا حربيّا قلنا لعلّ بسبب اختلاف الشرائع كان الأولى عدم قتله في ذلك الوقت.

و بالجملة قال الرازيّ: على أنّ لو فرضنا و سلّمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية لكنّا بيّنّا أنّه لا دليل البتّة على أنّه كان رسولا في ذلك الوقت فيكون ذلك صادرا منه قبل النبوّة و ذلك لا نزاع فيه (1).

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 16 الى 20]

قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

ثمّ حكى سبحانه أنّ موسى حين قتل القبطيّ ندم على ذلك و قال: [رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي في هذا القتل فإنّهم لو علموا بذلك يقتلوني. قال المرتضى: إنّما قاله على سبيل الانقطاع إلى اللّه و الاعتراف بالتقصير عن أداء حقوق نعمه أو من حيث حرّم نفسه الثواب المستحقّ بفعل الندب [فَاغْفِرْ لِي و قبول الاستغفار و التوبة قد يسمّى غفرانا [فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بهم المنعم عليهم.

ص: 130


1- و هذا يصح على مذهبهم، اما الامامية فلا يفرقون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بين زمن النبوة و قبله.

[قالَ موسى: [رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ من المغفرة و صرف بلاء الأعداء عنّي [فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ أي فلك عليّ أن لا أكون مظاهرا للمشركين. و قيل: المراد بما أنعمت عليّ يعني من القوّة حتّى قتلت رجلا خطاء بوكزة فلن أكون ظهيرا للمجرمين بل اجاهدهم بهذه القوّة في سبيلك حتّى ترضى.

قوله: [فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فبعد موت ذلك الرجل القبطيّ من الوكز أصبح موسى من غد ذلك اليوم خائفا من أن يظهر أنّه هو القاتل فيطلب به و خرج على استتار [فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ و هو الإسرائيليّ بالأمس يطلب نصرته بصياح و صراخ [قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ يجوز أن يكون فعيل بمعنى المفعل أي أنت مغو فإنّي وقعت فيما وقعت فيه بسببك، و يجوز أن يكون بمعنى الفاعل يعني أنت الغاوي، و إنّما سمّاه غويّا لأنّ من تكثر منه المخاصمة على وجه يتعذّر عليه دفع خصمه و مع ذلك يطلب الخصومة فهو ضالّ عن طريق الرشد و لم يرد الغواية في الدّين.

قوله تعالى: [فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما] المعنى: فلمّا أخذته الرقّة على الإسرائيليّ و أراد أن يدفع القبطيّ الّذي هو عدوّ لموسى و الإسرائيليّ عنه و يبطش به أي يأخذه بشدّة فظنّ الإسرائيليّ أنّ موسى قصده لأنّه قال له: إنّك لغويّ مبين فقال: [يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ و قيل: هذا من كلام القبطيّ لا الإسرائيليّ و الظاهر هذا الوجه الثاني و يؤيّد هذا القول أنّه عقّب قوله بأن قال:

[إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ و هذا القول لا يليق إلّا بأن يكون قولا للكافر، و الجبّار هو الّذي يفعل ما يريد من الضرب و القتل و الظلم [وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ .

و بالجملة فأكثر المفسّرين على أنّ هذا الكلام و هو قوله: «أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي الآية» من قول الإسرائيليّ و لمّا قال الإسرائيليّ ذلك علم القبطيّ أنّ قاتل القبطيّ أمس موسى و لم يكن أحد يعلم بذلك فانطلق القبطيّ إلى فرعون و أخبر به فأمر فرعون بقتل موسى و طلبه.

ص: 131

قوله: [وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ] أي من آخر المدينة و اختار طريقا قريبا حتّى سبق خدمة فرعون و أتى إلى موسى [يَسْعى و يسرع و أخبره بذلك و كان الرجل حزقيل ابن عمّ فرعون، و قيل: شمعون [قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ] أي الأشراف من آل فرعون [يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي يتشاورون في قتلك أو يأمر بعضهم بعضا [لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ من أرض مصر [إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ .

قوله: [سورة القصص (28): الآيات 21 الى 25]

فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

ثمّ خرج موسى من مصر [خائِفاً] من أن يطلب فيقتل [يَتَرَقَّبُ الطلب، قال ابن عبّاس:

خرج موسى متوجّها نحو مدين و ليس له علم بالطريق إلّا حسن ظنّه بربّه [قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بغير زاد و لا حذاء و لا ظهر و كان لا يأكل إلّا حشيش الصحراء حتّى بلغ ماء مدين.

[وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ و التوجّه صرف الوجه إلى تلك الجهة، قال الزجّاج:

معناه: و لمّا سلك في الطريق الّذي يلقى مدين منها و هي على مسيرة ثمانية أيّام من مصر نحو ما بين البصرة إلى الكوفة و لم يكن له علم بالطريق و لذلك قال: [عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي يرشدني السبيل المؤدّي إلى النجاة، و قيل: إنّه عليه السّلام لم يقصد موضعا بعينه و لكنّه أخذ في طريق مدين. و من الناس من قال: جاءه جبرئيل و علّمه الطريق.

و قيل: جاءه ملك على فرس و بيده عنزة و علّمه الطريق، و قوله: «عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي» (1)

ص: 132


1- القصص: 22.

نظير قول جدّه إبراهيم حيث قال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (1) و هكذا الخلف الصدق للسلف الصالح صلوات اللّه عليهم أجمعين.

[وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ و هو الماء الّذي يسقون منه و كان بئرا [وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ وجد على شفير البئر و مستقاه جماعة كثيرة من أناس مختلفين [وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم [امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ تدفعان أغنامهما و تحبسان أغنامها عن السقي و كانتا تكرهان المزاحمة على الماء لأنّ على الماء من كان أقوى منهما و لئلّا يخلط أغنامهما بأغنامهم و لئلّا تختلطا بالرجال.

[قالَ موسى: [ما خَطْبُكُما] و شأنكما و ما مقصود كما من الذياد؟ فقالتا: [لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ] أي إنّا لا نطيق السقي فننتظر فضول الماء و انصراف الناس و أبونا لكبره و ضعفه لا يتمكّن أن يتولّى السقي، و إنّما قالتا ذلك تعريضا للطلب من موسى أن يعينهما على السقي [فَسَقى لَهُما] أي سقى موسى غنمهما الماء و رفع حجرا عن البئر ما كان يقدر على رفع ذلك الحجر عنها إلّا عشرة رجال و سألهم أن يعطوه دلوا فناولوه دلوا و قالوا له: انزح إن أمكنك فكان لا ينزحها إلّا عشرة فنزحها وحده و سقى أغنامهما و لم يستق إلّا ذنوبا واحدا حتّى رويت الغنم.

[ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ فانصرف إلى ظلّ سمرة فجلس تحتها من شدّة الحرّ و الواصب و الجوع. قيل: إنّه عليه السّلام ذهب يحفى رجليه من المشي في الطريق لأنّه ما كان له حذاء. و بالجملة فوقف في ظلّ الشجرة [فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] يعنى أي شي ء أنزلته إليّ من خير جلّ أو قلّ فقير له و محتاج إليه، و لتضمّن كلامه معنى السؤال و الطلب جي ء بلام الدعامة لتقوية العمل، و الجارّ و المجرور متعلّق بفقير و حاصل المعنى: إنّي فقير لأيّ شي ء أعطيتني جليلا كان أو حقيرا قال: ابن عبّاس: سأل نبيّ اللّه فلق خبز يقيم به صلبه. و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و اللّه ما سأله إلّا خبزا يأكله لأنّه كان يأكل بقلة الأرض و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله و تشذّب لحمه.

و بالجملة قال ابن إسحاق: فرجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها فأنكر

ص: 133


1- الصافات: 99.

شأنهما و سألهما فأخبرتاه الخبر، فقال لإحداهما: عليّ به، فرجعت الكبرى إلى موسى لتدعوه. و ذلك قوله تعالى: [فَجاءَتْهُ إِحْداهُما] و هي صفوراء [تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ] أي أنّها مستحيية غطّت وجهها بكمّ درعها (1). و قيل: المراد أنّها كانت تمشي عادلة عن الطريق و كانت من الخفرات (2) اللاتي لا يحسنّ المشي بين أيدي الرجال و ما كانت ولّاجة و لا خرّاجة.

[قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا] و يكافيك على سقيك لغنمنا، و قال أكثر المفسّرين: إنّ أباها شعيب. و قيل: هو بيرون ابن أخي شعيب و كان شعيب مات قبل ذلك بعد ما كفّ بصره و دفن بين المقام و زمزم. و لمّا قالت صفوراء هذا الكلام لموسى كره موسى لذلك و أراد أن لا يتبعها و لم يجد بدّا من أن يتبعها لأنّه كان في أرض مسبعة (3) و خوف فخرج معها و كانت الريح تضرب ثوبها فتبيّن وجهها فجعل يعرض موسى عنها تارة و يغضّ اخرى فناداها: يا أمة اللّه كوني خلفي و أريني السمت بقولك.

فلمّا دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيّأ فقال له شعيب: اجلس يا شاب فتعشّ، فقال له موسى: أعوذ باللّه، قال: شعيب و لم ذلك أ لست بجائع؟ قال: بلى و لكن أخاف أن يكون هذا عوضا للمعروف الّذي صنعت و إنّا أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بمل ء الأرض ذهبا فقال له شعيب: لا و اللّه يا شابّ و لكنّها عادتي و عادة آبائي نقري الضيف و نطعم الطعام، فجعل موسى يأكل و ذلك قوله: [فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي جاء موسى شعيبا و قصّ عليه أمره أجمع من أوّل ما التقطه فرعون إلى قتل القبطيّ [قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي من فرعون و قومه نجوت و لا سلطان له على أرضنا و لسنا في مملكته.

ص: 134


1- درع المرأة: قميصها.
2- المرأة المستحيية أشد الحياء.
3- ذات سباع ضارية.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 26 الى 30]

قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30)

ثمّ ذكر سبحانه أمر موسى في مدين و انصرافه عنه:

[قالَتْ إِحْداهُما] و هي صفورياء و هي الّتي تزوّج بها: [يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي اتّخذه أجيرا [إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي أحسن من استعملت من يكون قويّا على العمل و يكون أمينا، و لمّا قالت البنت هذا القول قال شعيب: و ما علمك بأمانته و قوّته؟

قالت: أمّا قوّته فلأنّه رفع حجرا عن البئر لا يرفعه كذا و كذا من الرجال، و أمّا أمانته فإنّه قال: امشى خلفي فأنا أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك.

فلمّا ذكر البنت من حاله زاده رغبة فيه [قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ و ازوّجك [إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أي تكون أجيرا لي و تستخدمني ثمان سنين [فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أميل (1) [عَلَيْكَ و ذلك تفضّل منك و ليس بواجب إتمام العشر فزوّجه ابنته بمهر و استأجره للرعي و لم يجعل ذلك مهرا و إنّما شرط ذلك عليه [سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة و لين الجانب و الوفاء.

[قالَ ذلِكَ أي قال موسى ذلك الّذي وصفت و شرطت عليّ فلك و ما شرطت لي من تزويج بنتك فلي و تمّ الكلام، ثمّ قال موسى: [أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ من الثماني و العشر [قَضَيْتُ و أتممت فَلا عُدْوانَ عَلَيَ بأن اكلّف أكثر منها و أطالب بالزيادة عليها [وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي شهيد فيما بيني و بينك، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: أيّ الأجلين قضى

ص: 135


1- اى أجور و اظلم، من الميل بمعنى الخروج عن العدل و الاستواء.

موسى؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: أو فاهما و أبطأهما. و في رواية أنّه سئل أيّ الابنتين تزوّج موسى؟

فقال: الصغرى و هي الّتي جاءت و قالت: «يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ» و هي الّتي قالت لموسى: إنّ أبي يدعوك، قيل: فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: قبل انقضائه، قيل له: فالرجل يتزوّج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين أ يجوز ذلك؟ قال: لا.

و في الكافي و الفقيه عن عليّ عليه السّلام قال: لا يحلّ النكاح اليوم في الإسلام بإجارة بأن أعمل عندك كذا و كذا سنة على أن تزوّجني أختك أو ابنتك، قال: هو حرام لأنّه ثمن رقبتها و هي أحقّ بمهرها و إنّما كان ذلك لموسى بن عمران لأنّه علم أنّه يفي.

[فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ و قضى بأوفاهما و لمّا زوّجها منه أمر الشيخ أن يعطى موسى عصا يدفع السباع عن غنمه بها و هذه العصا لم يزل الأنبياء يتوارثونها حتّى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى. و قيل: كانت تلك العصا استودعها شعيبا ملك في صورة رجل فأمر شعيب ابنته أن تأتيه بعصا فدخلت و أخذت العصا فأتته بها فلمّا عرفها الشيخ قال:

لا، ايته بغيرها فألقتها و أرادت أن تأخذ غيرها فكانت لا تقع في يدها إلّا هي و فعلت ذلك مرارا فأعطاها موسى.

قوله: [وَ سارَ بِأَهْلِهِ فمكث موسى عند شعيب بعد انقضاء الأجل عشرا اخرى و بقي عنده عشرين سنة ثمّ استأذنه في العود إلى مصر ليزور والدته و أخاه فأذن له فسار بأهله. و قيل: لمّا قضى الأجل سار بأهله أي بامرأته و بالغنم الّتي كانت له و كانت قطيعا فأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام و امرأته في شهرها فسار في البرّيّة فألجأه المسير إلى جانب الطور الأيمن في ليلة مظلمة شديد البرد و أخذ امرأته الطلق و ضلّ الطريق و تفرّقت ماشيته فأصابه المطر فبقي لا يدري أين يتوجّه.

فبينا هو كذلك [آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الأيمن ناراً] أي أبصر من طرف الطور نارا [قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها] أي من أهل النار بخبر من الطريق الّذي أريده [أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي أو آتيكم بقطعة و درنة من النار تستدفئون بها.

[فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ نودي موسى من الجانب الأيمن

ص: 136

للوادي [فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ] و هي البقعة الّتي قال اللّه فيها: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» (1) و إنّما كانت مباركة لأنّها معدن الوحي و الرسالة و كلام اللّه، و سمع موسى كلام اللّه من الشجرة و جعل اللّه الشجرة محلّ الكلام و كان كلامه سبحانه: [أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي إنّ المتكلّم لك هو اللّه ربّ العالمين أي خالق الكلام لك و خالق الخلق أجمعين تعالي من أن يحلّ في محلّ أو يكون في مكان لأنّه ليس بعرض و لا جسم.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 31 الى 35]

وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)

و في بعض الأخبار أنّ موسى عليه السّلام لمّا عقد العقد مع شعيب و أصبح من الغد و أراد الرعي قال له شعيب: اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك و لا تأخذ على يمينك و إن كان الكلاء بها أكثر فإنّ بها تنّينا عظيما فأخشى عليك و على الأغنام منه فذهب موسى بالأغنام فلمّا بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يستردّها فلم يقدر فسار على أثرها فرأى عشبا كثيرا ثمّ إنّ موسى عليه السّلام نام و الأغنام ترعى و إذا بالتنّين قد جاء فقامت عصا موسى فقاتلته حتّى قتلته و عادت إلى جنب موسى و هي دامية فلمّا استيقظ موسى رأى العصا دامية و التنّين مقتولا فارتاح لذلك و علم أنّ لموسى و عصاه شأنا.

فعاد موسى إلى شعيب و كان ضريرا فمسّ الأغنام فإذا هي أحسن حالا ممّا كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى بالقصّة ففرح بذلك فأراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما وصلة لابنته فقال: إنّي وهبت لك من السخال الّتي تضعها أغنامي في هذه

ص: 137


1- طه: 12.

السنة كلّ أبلق و بلقاء فأوحى اللّه إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء الّذي تسقي الغنم منه ففعل فما أخطأت واحدة منهنّ إلّا وضعت حملها ما بين أبلق و بلقاء فعلم شعيب أنّ ذلك رزق ساقه اللّه إليه.

و بالجملة قوله: [وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ اعلم أنّ اللّه سبحانه كرّر هذه القصّة تقريرا للحجّة على أهل الكتاب و استمالة بهم إلى الحقّ و إنّ أهل التوراة كانوا يحبّون موسى و من أحبّ شيئا أحبّ ذكره و لا يخلو التكرار من مزيد فائدة، و في الآية حذف تقديره:

فألقاها فانقلب بإذن اللّه ثعبانا.

[فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ أي في سرعة حركتها مع غاية عظمها و كبر جثّتها كالحيّة الصغيرة تتحرّك بسرعة [وَلَّى موسى عليه السّلام [مُدْبِراً] إلى عقبه من الخوف [وَ لَمْ يُعَقِّبْ أي لم يرجع إلى موضعه فنودي [يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من ضررها و في انقلاب العصا حيّة دلالة على أنّ البنية ليست بشرط في الإيجاد، و الأجسام و الجواهر متماثلة و لا حال أبعد من حال الحيوان و الخشب فلمّا صحّ قلب الخشب إلى الحيوان صحّ قلب الأسود إلى الأبيض.

قوله: [اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي أدخلها في جيبك [تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ] مثل البرص أو عيب و ذلك أنّ موسى عليه السّلام كان شديد السمرة فلمّا أخرج يده بعد ما أدخلها في جيبه فأضاءت له الدنيا، قيل: المعنى فإن أهالك أمر يدك لما تبصر من شعاعها [وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي ضمّ يدك إلى صدرك إن كنت خائفا فحينئذ لا خوف عليك، و قيل: معنى الخوف في الآية لا من اليد البيضاء بل من الحيّة عند معاينتها، أمره سبحانه أن لا يتّقي بيده عن الحيّة لأنّه عليه السّلام بسط يده كالمتّقي فقال له: لا تبسط يدك خوف الحيّة، فإنّ من هاله أمر أزعجه حتّى كأنّه يطير و آلة الطيران الجناح فسكن خوفه سبحانه بأن ضمّ منشور جناحك و أسكن.

[فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ قرئ مخفّفا و مشدّدا إشارة إلى العصاء و اليد فالتخفيف مثنّى ذاك و التشديد مثنّى ذلك أي حجّتان نيّرتان. و «برهان» فعلان أبره الرجل إذا أتى بالبرهان و بره الرجل إذا ابيض و يقال للمرأة البيضاء: برهاء، و هذا المعنى مأخوذ

ص: 138

من الظهور و الوضوح كالجسم الأبيض الواضح كما أنّ السلطان مأخوذ من السليط لإنارتها و الحاصل أنّه أعطاه هاتين المعجزتين قبل لقاء فرعون.

ثمّ أمره بالذهاب إلى فرعون و قال: [إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي اذهب إلى فرعون و أشراف قومه إنّهم خارجين من طاعة اللّه إلى أعظم المعاصي و هو الكفر.

[قالَ موسى: [رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بتلك النفس [وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً] و إنّما قال ذلك لأنّه كانت عقدة في لسانه و قد مرّ ذكر سببها [فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي فأرسله معي معينا على تبليغ رسالتك، و الردء الناصر [إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ و قيل لكي يصدّقني فرعون.

[قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ قال اللّه: سنجعله معك و نقرنه إليك في النبوّة و ننصرك به [وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً] و حجّة و قوّة [فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا] أي لا يصل فرعون و قومه إلى الإضرار بكما بسبب ما نعطيكم من الآيات و المعجزات و يخاف فرعون منكما بسبب الآيات.

ثمّ أخبر سبحانه أنّ الغلبة لكما عليهم فقال: [أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ على فرعون و قومه، و هذه الغلبة بالقهر لا بالبرهان و الدليل و ذلك حين هلك فرعون و قومه و ملك موسى و قومه.

و روي عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث طويل قال: فلمّا رجع موسى إلى امرأته قالت من أين جئت؟ قال موسى: من عند ربّ تلك النار فغدا إلى فرعون لكأنّي أنظر إليه طويل الباع ذو شعر آدم عليه جبّة من صوف في كفّه عصا مربوط حقوه بشريط نعله من جلد حمار شراكها من ليف فأتى على باب فرعون فقيل لفرعون: إنّ على الباب فتى يزعم أنّه رسول ربّ العالمين فقال فرعون لصاحب الأسود: حلّ سلاسلها و كان إذا غضب على رجل خلّاها، فخلّاها فقرع موسى الباب الأوّل و كانت تسعة أبواب فلمّا قرع الباب الأوّل انفتحت له الأبواب التسعة فلمّا دخل جعلن يتبصبصن تحت رجليه كأنّهن جراء فقال فرعون لجلسائه: أرأيتم مثل هذا الساحر قطّ؟ فلمّا أقبل إليه موسى عليه السّلام انتبه فرعون

ص: 139

فقال: «أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً» إلى قوله: «وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» (1) فقال فرعون لرجل من أصحابه قم فخذ بيده و قال للآخر: اضرب عنقه فضرب جبرئيل بالسيف حتّى قتل ستّة من أصحابه فقال فرعون: خلّوا عنه فأخرج يده فإذا هي بيضاء قد حال شعاعها بينه و بين وجه فرهون ثمّ ألقى العصا فإذا هي ثعبان فالتقمت الأيوان بلحييها فدعاه أن يا موسى أقلني (2) إلى غد ثمّ كان من أمره ما كان.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 36 الى 42]

فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

قوله تعالى: [فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى التقدير: بعد أن مضى موسى إلى فرعون و قومه و أتاهم و أراهم بالمعجزات الواضحات فوصفوا الآيات و حملوها على السحر المختلق و قالوا: [ما] هذه المعجزات [إِلَّا سِحْرٌ] و كذب [وَ ما سَمِعْنا بِهذا] الّذي يقوله موسى و يدّعيه [فِي آبائِنَا] الّذين كانوا قبلنا، و المعنى أنّ هذا الّذي يقوله موسى ما صدّقوا به آباؤنا و لا دانوا به، و ليس المعنى أنّه ما سمعنا بالدعوة إلى توحيد اللّه و كيف يكون لم يسمعوا بهذا الأمر و قد اشتهر قصّة نوح و هود و صالح و غيرهم من النبيّين الّذين يدعون الخلق إلى طاعة اللّه؟

[وَ قالَ مُوسى مجيبا لهم: [رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ أي ربّي شاهد و عالم بأنّي جئت بهذه الآيات الدالّة على الهداية فهو شاهد لي على ذلك إن

ص: 140


1- الشعراء: 20.
2- اى أمهلني.

كذّبتموني و يعلم أنّ العاقبة الحميدة لنا و لأهل الحقّ، و هذا الكلام كما يقال: اللّه أعلم بالمحقّ منّا و المبطل [إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ و لا يفوز بالخير من ظلم نفسه بالشرك و عصى ربّه بالمخالفة.

[وَ قالَ فِرْعَوْنُ منكرا لما أتى به موسى عليه السّلام لمّا عجز اللعين عن جواب موسى و حججه [يا أَيُّهَا الْمَلَأُ] يريد أشراف قومه [ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ بيان ذلك أنّ موسى عليه السّلام لمّا دعا فرعون إلى الإيمان باللّه قال فرعون لموسى و هارون: من ربّكما؟ قال: ربّ السماوات و الأرض، فأوهم الخبيث في هذا البيان أنّه أمّا في الأرض فليس إله غيري و لأجل أنّ موسى يدّعي أن اللّه ربّ السماوات موّه على أغمار الناس و أمر وزيره هامان بأن اتّخذ ألبانا (1) و أوقد عليها و ابن منها صرحا عاليا و قصرا متطاولا حتّى نرى أنّ موسى هل يصدق أو يكذب و نطّلع على حال ربّه و ما أظنّ أن يصدق بل أظنّه من الكاذبين في ادّعائه إلها غيري و أنّ موسى رسوله.

و اختلفوا في أنّ فرعون هل بنى هذا الصرح فقال قوم: قد بنى و جمع هامان العمّال حتّى اجتمع خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع و الأجراء و أمر بطبخ اللبن و الجصّ و نجر الخشب و ضرب المسامير فشيّدوه حتّى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق فبعث اللّه جبرئيل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع: قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل و قطعة وقعت في البحر و قطعة وقعت في المغرب و لم يبق أحد من عمّاله إلّا و قد هلك. و قد روي في هذه القصّة أنّ فرعون ارتقى فوقه و رمى نشابة نحو السماء فأراد اللّه أن يفتنهم فردّت إليهم و هي ملطوخة بالدم، فقال: قد قتلت إله موسى! فعند ذلك بعث اللّه جبرئيل لهدمه.

و من الناس من قال: إنّه لم يبن ذلك الصرح لأنّه يبعد من العقلاء أن يظنّوا أنّهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأنّ من علا أعلى الجبال الشاهقة يرى السّماء كما كان يراها حين كان على قرار الأرض و هكذا القول فيما يقال في كيفيّة السهم.

قال الرازيّ في المفاتيح: لا يليق بالعقل و الدين حمل القصّة الّتي حكاها اللّه في

ص: 141


1- جمع لبنة: الآجرّ.

القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل فيصير ذلك مشرعا قويّا لمن أحبّ الطعن في القرآن و الأقرب أنّه كان أو هم البناء و لم يبن أو بنى على سبيل المغالطة و التعمية من تتمّة قوله: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي».

قوله: [لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى و هذا تلبيس منه و إبهام على العوامّ [وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ أي رفع فرعون و جنوده أنفسهم في الأرض بالظلم و الباطل و أنفوا و تعظّموا عن قبول الحقّ [وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ أي أنكروا البعث و شكّوا فيه.

[فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ و طرحناهم في البحر و أهلكناهم بالغرق و عنى باليمّ نيل مصر، و قيل: بحر من وراء مصر يقال له أساف و أظنّ أنّه المراد من بحر سوف المذكور في دعاء السمات غرقهم اللّه فيه [فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي تدبّر بعين قلبك كيف و خامة عاقبة الظلم.

[وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ] و قد تمسّك بظاهر الآية الأشاعرة في كونه خالقا للخير و الشرّ و أجاب العدليّة و المعتزلة بأنّ المراد من الجعل في الآية التسمية أي سمّيناهم به و منه قوله: «وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» (1) و قال الكعبيّ:

و جعلناهم أئمّة من حيث خلّى بينهم و بين ما فعلوه و لم يمنعهم بالقهر. و قال أبو مسلم: معنى الإمامة التقدّم فلمّا عجّل اللّه تعالى لهم العذاب صاروا متقدّمين لمن وراءهم من الكافرين و هذا معنى الإمامة في الآية و معنى دعوتهم إلى النار دعوتهم إلى موجباتها من الكفر و المعاصي فإنّ أحدا لا يدعو إلى النار و إنّما جعلهم اللّه أئمّة في هذا الباب لأنّهم بلغوا في الكفر أقصى النهايات و من بلغ إلى هذا الحدّ استحقّ أن يكون إماما يقتدى به في ذلك الباب.

قوله: [وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ و لا ينصر بعضهم بعضا كما كانوا يتناصرون في الدنيا.

[وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي لهم في الدنيا بعد

ص: 142


1- الزخرف: 19.

عن الرحمة و الخير و ألزمناهم اللّعنة و أمرنا المؤمنين بلعنهم و يوم القيامة من المشوّهين في الخلقة بسواد الوجه و زرقة العين و من الممقوتين المغضوبين.

قوله: [سورة القصص (28): الآيات 43 الى 50]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

ثمّ ذكر سبحانه من أخبار موسى ما فيه دلالة على معجزة نبيّنا فقال:

[وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة [مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا] الجموع الّتي كانت قبل موسى من الكفّار مثل قوم نوح و عاد و ثمود، و يجوز أن يريد بالقرون قوم فرعون لأنّه سبحانه أعطى موسى التوراة بعد إهلاكهم بمدّة و وصف التوراة بأنّه [بَصائِرَ لِلنَّاسِ من حيث يستبصر به في باب الدين [وَ هُدىً من حيث يستدلّ به و أنّه [رَحْمَةً] لمن عمل به لأنّ كتابه رحمة و نعمة على من تعبّد به، و روى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما أهلك اللّه قرنا من القرون بعذاب من السماء و لا من الأرض منذ أنزل اللّه التوراة غير أهل القرية الّتي مسخها قردة.

قوله: [لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ المعنى: لكي يتذكّروا. قال القاضي عبد الجبّار الهمدانيّ:

و ذلك يدلّ على إرادة اللّه التذكّر من كلّ مكلّف سواء اختار ذلك التذكّر أو لم يختره،

ص: 143

و فيه إبطال مذهب المجبّرة الذين يقولون ما أراد التذكّر إلّا ممّن يتذكّر فأمّا من لا يتذكّر فقد كره ذلك و نصّ القرآن دافع لهذا القول.

قوله تعالى: [وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ و الجانب الغربيّ المكان الواقع في شقّ الغرب و هو المكان الّذي وقع فيه ميقات موسى من الطور، و الأمر المقضيّ إلى موسى الوحي الّذي اوحي إليه، و الخطاب في قوله «و ما كنت» للرسول صلّى اللّه عليه و آله يقول سبحانه: و ما كنت حاضرا المكان الّذي أوحينا فيه إلى موسى و لا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه.

فلو قيل لمّا ثبت قوله: «و ما كنت» ثبت أنّه لم يكن شاهدا لأنّ الشاهد لا بدّ و أن يكون حاضرا فما الفائدة في إعادة قوله: «وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ»؟ قال ابن عبّاس: التقدير:

و لو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع.

أمّا قوله: [وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً] و هذا الاستدراك ما وجهه و كيف يتّصل؟ فالوجه أنّا أنشأنا بعد عهد موسى إلى عهدك قرونا كثيرة [فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ] و هو القرن الّذي أنت فيه و اندرست العلوم فوجب إرسالك إليهم و عرّفناك أحوالهم و لأنّه طال عهدهم بالمهلكين قبلهم و فترة النبوّة فحملهم ذلك على الاغترار فأرسلناك للناس رسولا كما جعلنا موسى رسولا و قيل: إنّ المعنى: خلقنا كثيرا عهدنا إليهم في نعتك و صفتك و أمرنا الأوّل بالإبلاغ إلى الطبقة الثانية و هكذا فامتدّ بهم الزمان فنسوا عهدنا إليهم فيك.

[وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي ما كنت مقيما في قوم شعيب [تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا] و لم تشهدهم فتقرأ على أهل مكّة خبرهم و لم تشاهد الأنبياء و قصصهم و ما تلوت من أخبارهم شيئا و لكنّا أوحينا إليك و قصصناها عليك حتّى تخبر قومك بهذه الأخبار فيدلّ ذلك العلم على صحّة نبوّتك و لو لا الوحي لما علمت ذلك [وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ إيّاك أي أرسلناك إلى أهل مكّة و غيرها و أنزلنا عليك هذه الأخبار لتتلو عليهم هذه الأخبار [وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ في كلّ زمان رسولا أرسلنا إلى أهل مدين شعيبا و أرسلناك لتكون خاتم الأنبياء و تتلو عليهم الأخبار ليصدّقوا نبوّتك.

[وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا] يريد مناداة موسى ليلة المناجاة و تكليمه أي و لم تك يا محمّد حاضرا بناحية الجبل الّذي كلّمنا عليه موسى و ناديناه يا موسى خذ الكتاب

ص: 144

بقوّة. و قيل: المراد المرّة الثانية الّتي كلّم اللّه فيها موسى حين اختار من قومه سبعين رجلا يسمعوا كلام اللّه [وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي و لكن أعلمك و عرّفك رحمة من ربّك و هو أن بعثك نبيّا و أخبرك هذه الأخبار لتكون معجزة لصدق نبوّتك [لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أي لتنذر الّذين لم يأتهم رسول في زمن الفترة لكي يتفكّروا و ينزعوا عن المعاصي.

قال الفيض في الصافي: و نقل الرازيّ عن وهب و جملة من المفسّرين في قوله: «إِذْ نادَيْنا وجوها:

أحدها: إذ نادينا أي قلنا لموسى: «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ- إلى قوله- أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

و ثانيها: قال ابن عبّاس: إذ نادينا امّتك في أصلاب آبائهم يا امّة محمّد أجبتكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم قبل أن تسألوني و غفرت لكم قبل أن تستغفروني قال: و إنّما قال اللّه ذلك حين اختار موسى عليه السّلام سبعين رجلا لميقات ربّه.

و ثالثها: قال وهب: لمّا ذكر اللّه لموسى فضل امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله قال: ربّ أرنيهم قال: إنّك لن تدركهم و إن شئت أسمعتك أصواتهم. قال: بلى يا ربّ فقال سبحانه: يا امّة محمّد، فأجابوه من أصلاب آبائهم فأسمعه اللّه أصواتهم ثمّ قال اللّه سبحانه: أجبتكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم قبل أن تسألوني و غفرت لكم قبل أن تستغفروني. و روى سهل بن سعد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قوله: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا» قال صلّى اللّه عليه و آله: كتب اللّه كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثمّ وضعه على العرش ثمّ نادى يا امّة محمّد إنّ رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني و غفرت لكم قبل أن تستغفروني من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا عبده و رسوله أدخلته الجنّة. انتهى بيان الرازيّ.

و في العيون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لمّا بعث اللّه موسى بن عمران و اصطفاه نجيّا و فلق له البحر و نجّى بني إسرائيل و أعطاه التوراة و الألواح رأى مكانته من ربّه فقال: ربّ لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحدا من قبلي، فقال اللّه تعالى: يا موسى أما علمت أنّ محمّدا أفضل عندي من جميع ملائكتي و جميع خلقي؟ قال موسى: يا ربّ فإن كان محمّد أكرم م- 9-

ص: 145

عندك من جميع خلقك فهل في آل الأنبياء من أكرم عندك؟ قال اللّه: يا موسى أما علمت أنّ فضل آل محمّد على جميع آل النبيّين كفضل محمّد على جميع المرسلين؟ فقال موسى: يا ربّ فإن كان آل محمّد كذلك فهل في امم الأنبياء أفضل عندك من امّتي؛ ظلّلت عليهم الغمام، و أنزلت عليهم المنّ و السلوى، و فلقت لهم البحر؟ فقال جلّ جلاله: يا موسى أما علمت أنّ فضل أمّة محمّد على جميع الأمم كفضله على جميع خلقي؟ قال موسى: ليتني كنت أراهم فأوحى اللّه: يا موسى لن تراهم و ليس هذا أو ان ظهورهم و لكن سوف تراهم في الجنان جنّات عدن و الفردوس بحضرة محمّد في نعيمها ينقلبون، أ تحبّ يا موسى أن أسمعك كلامهم؟

قال: نعم يا إلهي، قال اللّه جلّ جلاله: قم بين يديّ و اشدد مئزرك قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل ففعل ذلك موسى عليه السّلام فنادى سبحانه يا امّة محمّد فأجابوه كلّهم و هم في أصلاب آبائهم و أرحام امّهاتهم بلبّيك، اللّهم لبّيك لا شريك لك لبّيك إنّ الحمد و النعمة لك و الملك، لا شريك لك، قال: فجعل اللّه تلك الإجابة شعار الحجّ.

ثمّ نادى ربّنا عزّ و جلّ يا امّة محمّد إنّ قضائي عليكم أنّ رحمتي سبقت غضبي و عفوي قبل عقابي فقد استجبت لكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم من قبل أن تسألوني من لقيني بشهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أنّ محمّدا عبده و رسوله صادق في أقواله محسن في أفعاله و إنّ عليّ بن أبي طالب أخوه و وصيّة من بعده و وليّه و يلزم طاعته كما يلزم إطاعة محمّد و إنّ أولياءه المصطفين الطاهرين المطهّرين المثابين بعجائب آيات اللّه و دلائل حجج اللّه من بعدها أولياء و من تولّاهم ادخله جنّتي و إن كانت ذنوبه مثل زبد البحر، قال: فلمّا بعث اللّه عزّوجل محمّدا قال: يا محمّد و ما كنت بجانب الطور إذ نادينا امّتك بهذه الكرامة، ثمّ قال اللّه لمحمّد. قل الحمد للّه ربّ العالمين على ما اختصّنا به من هذه الفضائل.

قوله تعالى: [وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و جواب لو لا محذوف أي لو لا قولهم إذا أصابتهم عقوبة و عذاب بسبب كفرهم: ربّنا هلّا أرسلت إلينا يبلّغنا آياتك فنتّبعها و نكون من المصدّقين ما أرسلناك و أرسلناك قطعا لعذرهم و إلزاما للحجّة عليهم. قال صاحب الكشّاف:

ص: 146

«لو لا» الاولى امتناعيّة و جوابها محذوف و الثانية تحضيضيّة و حاصل المعنى و لو لا أنّهم قائلون إذا عذّبوا بسبب إقدامهم على الشرك و المعاصي: لم ما أرسلت إلينا رسولا علينا؟ لما أرسلنا الرسول.

و احتجّ الكعبيّ بهذه الآية على أنّ اللّه يقبل حجّة العباد و ليس الأمر كما يقوله أهل السنّة و ظهر بهذا أنّه ليس المراد من قوله «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ» (1) ما يظنّه أهل الجماعة، و إذا ثبت أنّه يقبل الحجّة وجب أن لا يكون فعل العبد بخلق اللّه و إلّا لكان للكافر أعظم حجّة على اللّه.

قال القاضي: في الآية إبطال القول بالجبر من جهات: إحداها أنّه إذا خلق الكفر فيهم و أراد لوجب حصوله سواء أرسل الرسل أم لا فما الفائدة في هذا البيان و أيّ فائدة لإرسال الرسل و الكتب؟ و إذ كان إيمانهم و كفرهم موقوفا بخلق اللّه و إرادته فإرسال الرسل و إنزال الكتب و عدمها سواء و ليس لهذه الآية معنى و هي «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (2) فثبت أنّ العبد قادر و مختار على قبول الإيمان كما هو قادر على قبول الكفر.

أمّا قوله [فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا] أي محمّد و القرآن و الإسلام [قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ أي هلّا اعطي محمّد [مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من فلق البحر و اليد البيضاء و العصا، و قيل:

المراد منهم: هلّا اوتى كتابا جملة واحدة مثل التوراة. و ذلك القول من المشركين بتعليم اليهود فاحتجّ اللّه عليهم بقوله [أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ و قد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمّد [و قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا] يعنون التوراة و القرآن، و من قرأ «ساحران» فمعناه أنّهم قالوا: تظاهر موسى عليه السّلام و محمّد صلّى اللّه عليه و آله [وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ من التوراة و القرآن.

قال بعض المفسّرين: و كانت هذه المقالة حين بعثوا الرهط منهم إلى رؤساء اليهود بالمدينة في عيد لهم فسألوهم عن محمّد فأخبروهم بنعته و صفته في كتابهم التوراة فرجع الرهط

ص: 147


1- الأنبياء: 23.
2- النساء: 164.

إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود فقالوا عند ذلك: سحران تظاهرا.

[قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي قل يا محمّد لكفّار قومك: فأتوا بكتاب هو أهدى و أجمع و أنفع من التوراة و القرآن حتّى اتّبعه إن صدقتم في أنّ التوراة و القرآن سحران. و قيل: المعنى: فأتوا بكتاب من عند اللّه لم يكذّب به طائفة من الناس.

ثمّ قال لنبيّه: [فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي إن لم يأتوا بمثل التوراة و القرآن، و قيل:

فإن لم يستجيبوا لك إلى الإيمان مع ظهور الحقّ [فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ و يميل إليه طباعهم و يطاوعون مشتهيات أنفسهم و لا حجّة لهم بما اعترضوا.

ثمّ ذمّهم فقال: [وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أضلّ ممّن يتّبع هواه بغير رشاد من اللّه [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى طريق الجنّة و لا يحكم اللّه بهدايتهم إذا لم يهتدوا بهداية اللّه.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 51 الى 55]

وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)

التوصيل صيرورة الشي ء بعضه يلي بعضا بيّن سبحانه صفة القرآن بقوله: [وَ لَقَدْ وَصَّلْنا] أي فصّلنا لهم القول و آتينا بآية بعد آية و بيان بعد بيان و أخبرناهم بأخبار الأنبياء و المهلكين من أممهم ليتذكّروا و يتفكّروا و يتّعظوا.

قوله: [الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل مبعثه اثنان و ثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدمه و ثمانية قدموا من الشام منهم بحيراء الراهب و أبرهة و الأشرف و عامر و أيمن و إدريس و نافع و تميم. المعنى: الّذين آتيناهم الكتاب من قبل محمّد

ص: 148

هم بمحمّد يؤمنون. و قيل: من قبل القرآن هم بالقرآن يؤمنون.

[وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن [قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قبل نزول القرآن [مُسْلِمِينَ به و ذلك أنّ ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و القرآن كان مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل فهؤلاء لم يعاندوا.

فأثنى اللّه عليهم بقوله: [أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا] مرّة بسبب تمسّكهم بدينهم حتّى أدركوا محمّدا مثل عبد اللّه بن سلام و تميم الدارميّ و الجارود العبديّ و سلمان الفارسيّ و مرّة بإيمانهم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و قيل: بما صبروا و عملوا بالكتاب الأوّل و على الكتاب الثاني [وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] أي يدفعون بالكلام الحسن الكلام القبيح الّذي يسمعونه من الكتاب و يمنعون بالمعروف المنكر إن أمكنهم و بالحلم الجهل و بالمداراة مع الناس أذاهم عن أنفسهم [وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فمدحهم اللّه بالطاعات الماليّة.

ثمّ بيّن كيفيّة إعراضهم عن الجهّال فقال: [وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ و لم يقابلوه بمثله [وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لا نسأل نحن عن أعمالكم و لا تسألون أنتم عن أعمالنا بل كلّ يجازى على عمله أو المعنى لنا ديننا و لكم دينكم و لنا عملنا و لكم سفهكم [سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي أمان و سلامة منّا لكم أن نقابل لغوكم بمثله و نحن لا نطلب مجالسة الجاهلين و إنّما نبتغي الحكماء و العلماء.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 56 الى 60]

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى أَ فَلا تَعْقِلُونَ (60)

المعنى: لمّا تقدّم ذكر الرسول و القرآن فبيّن في هذه الآية فقال:

ص: 149

[إِنَّكَ يا محمّد ليس عليك الإجبار على الاهتداء و لا تقدر على ذلك و قيل: المعنيّ و المراد من الهداية هنا اللطف الّذي يختار عنده الإيمان فإنّه لا يقدر عليه إلّا اللّه [وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي القابلين للهدى فيدبّر الأمور على علمه.

و هاهنا مسالة و هي أنّه قيل: نزلت هذه الآية في أبي طالب قال الزجّاج: أجمع المسلمون على أنّها نزلت في أبي طالب و ذلك أنّ أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني عبد مناف أطيعوا محمّدا و صدّقوه تفلحوا و ترشدوا فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا عمّ تأمرهم بالنصح لأنفسهم و تدعها لنفسك؟ قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة فإنّك في آخر يوم من أيّام الدنيا أن تقول: لا إله إلّا اللّه أشهد لك بها عند اللّه، قال: يا ابن أخي قد علمت أنّك صادق و لكنّي أكره أن يقال: جزع عند الموت، و لو لا أن يكون عليك و على بني أبيك غضاضة و مسبّة بعدي لقلتها و لكنّي سوف أموت على ملّة الأشياخ عبد المطّلب و هاشم و عبد مناف. انتهى كلام الزجّاج.

أقول: و الحق أنّ من عيّره و سمّاه بالزجّاج ما أخطأ لأنّه لو كان جوهريّا لعرف من هذه المقالة- أي مقالة أبي طالب- أنّه أوّل من آمن باللّه و لو لم يؤمن لمّا تكلّم بهذه الكلمات و ما كان يتكفّل لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله مثل هذا التكفّل الّذي أربى على الوالد الشفيق و كيف يتعقّل أنّ الإنسان يفعل هذا الصنيع بمن هو أعدى عدوّ دينه. و على فرض أنّه على زعمكم ما أقرّ بهذه الكلمة لمصلحة تقوية أمر النبيّ كما ينبئ عن هذا المعنى قوله:

«و لو لا أن يكون عليك و على بني أخيك غضاضة و مسبّة». على أنّ أهل البيت أجمعوا على أنّ أبا طالب مات مسلما و تظاهرت الروايات بذلك و قد أشرنا إليه في سورة الأنعام و من المعلوم أنّ كلّ كلام يخالف إجماع أهل البيت فذلك كبندق فارغ خلّي من المعنى و لكن يقلقل.

و لنذكر شرذمة من امور تدلّ على إسلامه:

القميّ: قال نزلت قوله تعالى: «إِنَّكَ لا تَهْدِي» الآية في أبي طالب، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا عمّ قل: لا إله إلّا اللّه أنفعك بها يوم القيامة فيقول: يا ابن أخي أنا أعلم بنفسي فلمّا مات شهد العبّاس بن عبد المطّلب عند رسول اللّه أنّه تكلّم بها عند الموت فقال

ص: 150

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمّا أنا فلم أسمعها منه و أرجو أن أنفعه يوم القيامة و قال صلّى اللّه عليه و آله: لو قمت المقام المحمود لشفعت في امّي و أبي و عمّي و أخ لي كان مؤاخيا لي.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف؛ أسرّوا الإيمان و أظهروا الشرك فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين.

أقول: و إنّما أسرّ الإيمان ليكون أقدر على نصرة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كما يستفاد هذا المعنى من كلمات أبي طالب و أخبار أخر.

و عن الصادق عليه السّلام قيل له: إنّهم يزعمون أنّ أبا طالب كان كافرا فقال عليه السّلام كذبوا كيف يكون كافرا و هو يقول:

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّدانبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

و المراد من أوّل الكتاب اللّوح المحفوظ.

و في حديث آخر: كيف يكون أبو طالب كافرا و هو يقول:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

و عن الصادق عليه السّلام: قال: لمّا توفّي أبو طالب نزل جبرئيل على رسول اللّه فقال:

يا محمّد اخرج من مكّة فليس لك بها ناصر و ثارت قريش بالنبيّ فخرج هاربا حتّى جاء إلى جبل يقال الجحون فصار إليه قال: فنزل جبرئيل عليه و قال: إنّ ربّك يقرؤك السلام و يقول: إنّي حرّمت النار على صلب أنزلك و بطن حملك و حجر كفلك فالصلب صلب أبيه عبد اللّه بن عبد المطّلب و البطن بطن آمنة بنت و هب و الحجر حجر أبي طالب. و زاد في رواية:

فاطمة بنت أسد.

و في كتاب بشارة المصطفى عنه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: كان ذات يوم جالسا بالرحبة و الناس مجتمعون فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنّك بالمكان الّذي أنزلك اللّه به و أبوك يعذّب بالنار؟ فقال له عليه السّلام مه! فضّ اللّه فاك و الّذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّا لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه اللّه تعالى فيهم ليعذّب أبي بالنار و ابنه قسيم الجنّة و النار؟ ثمّ قال و الّذي بعث محمّدا بالحقّ أنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفى ء أنوار الخلق في المحشر إلّا نور محمّد و نور عليّ و نور فاطمة و نور الحسن و نور الحسين

ص: 151

و أنوار الأئمّة من ولد الحسين عليهم السّلام.

و بالجملة فمن نظر إلى أشعار أبي طالب في مديح النبيّ و هو أهل النظر عرف أنّه موحّد مصدّق بنبوّته و ليست بقصيدة و لا عشرة بل استيفاء جميعه لا يستطيع الطوامير و أنّه لو صحّ عدم مجاهرة الأعداء في أمر إقراره استصلاحا لأمر النبيّ و حسن تدبيره في كيدهم عن الرسول شفقة عليه لئلّا يلجئوا الرسول ما ألجؤوه إليه بعد موته.

قوله تعالى: [وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا] نزلت في قريش حين دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الإسلام و الهجرة قال الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّا لنعلم أنّ قولك حقّ و لكن أن نتّبع الهدى معك و نؤمن بك نخاف أن يتخطّفنا العرب من أرضنا و لا طاقة لنا بالعرب فنخرج منها فأنزل اللّه هذه الآية رادّا عليهم:

[أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي أو لم نجعل لهم في أمن و أمان قبل هذا و دفعنا ضرر الناس عنهم فكيف يخافون زواله لو آمنوا بل حالة الإيمان و الطاعة أولى بالأمن و السلامة من حالة الكفر و يجتمع فيه ثمرات كلّ أرض و بلدة بالتجارة و المسافرات [رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا] و أعطاه منّا جاريا عليهم [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ جهلة لا يتفطّنون.

[وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها] أي و ربّ أهل قرية و بلدة كانت حالهم كحالكم في الأمن و خفض العيش حتّى أشروا و طغوا و بغوا فدمّر اللّه عليهم و خرب ديارهم [فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا] و تلك إشارة إلى ما يعرفونه من ديار عاد و ثمود و لوط لأنّهم كانوا يمرّون عليها و هي خاوية و خربة غير مسكونة إلّا قليل منها كالمسافر ساعة أو ساعتين فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف و هو موضع بين اليمن و الشام و ديار ثمود بواد القرى و ديار قوم لوط بسدوم و كانوا في تجاراتهم يمرّون بها [وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ أي المالكين لديارهم.

ثمّ خاطب نبيّه بقوله: [وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا] كأنّ سائلا يسأل لمّا ذكر سبحانه أنّه أهلك تلك القرى بسبب بطر

ص: 152

أهلها لما ذا ما أهلك اللّه الكفّار و المشركين مع بطرها و طغيانها بمكّة فأجاب سبحانه: و ما كان ربّك يا محمّد مهلك القرى أي أهل القرى حتّى يبعث في امّها و أصلها و كرسيّها رسولا لإلزام الحجّة و قطع المعذرة فوجب أن لا يجوز إهلاكهم إلّا بعد البعثة أو المعنى إنّما ما عذّبنا أهل مكّة و الأعراب الّتي حولها لأنّه لا بدّ و إن نبعث في امّ القرى و هي مكّة و أصل الأرض رسولا و هو محمّد يتلو عليهم آياتنا و يؤدّي و يبلّغ عنّا.

[وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ بالشرك و المعاصي فإن قيل: فلم ما أهلك أهل مكّة؟ لأنّ أهل مكّة بعضهم قد آمن و بعضهم قد علم اللّه أنّه سيؤمن و آخرون علم اللّه أنّهم و إن لم يؤمنوا لكنّه يخرج من نسلهم من يكون مؤمنا أو لشرافة النبيّ رفع اللّه سبحانه عن امّته عذاب الاستيصال.

قوله تعالى: [وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ] أي ما أعطيتم من شي ء [فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا] أي هو شي ء تتمتّعون به في الدنيا و تتزيّنون به يوما أو عشرا [وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب و نعيم الآخرة [خَيْرٌ] من هذه النعم [وَ أَبْقى لأنّها فانية و نعيم الآخرة باقية [أَ فَلا تَعْقِلُونَ حتّى تميّزوا بين الباقي و الفاني.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 61 الى 66]

اشارة

أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)

فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)

النزول:

قيل: نزلت «أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ الآية» في رسول اللّه و أبي جهل. و قيل: نزلت في حمزة و علىّ بن أبي طالب عليه السّلام و في أبي جهل. و قيل: نزلت في عمّار و الوليد بن المغيرة، و الأولى أن يكون عامّا في كلّ من يكون بهذه الصفة.

المعنى: لمّا ذكر من اوتي من زينة الدنيا عقّب بالفرق بين هاتين النعمتين فقال:

ص: 153

[أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً] من ثواب الحسنة جزاء على طاعته [فَهُوَ لاقِيهِ و واصل إليه و مدرك تلك النعمة لا محالة كمن متّعناه متاع الحياة الدنيا من الأموال و غيرها [ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للجزاء و العقوبة و قيل: المعنى من المحضرين في النار و الحاصل أنّ حالهما لا يكون سواء.

[وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ و اذكر يوم ينادي تعالى الكفّار و هو يوم القيامة و هذا نداء تبكيت و تقريع [فَيَقُولُ اللّه سبحانه: [أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ شركائي في الإلهيّة و تعبدونهم و تحسبون أنّهم ينفعونكم.

[قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي حقّ عليهم الوعيد بالعذاب من الجنّ و الشياطين و الّذين أغووا من الإنس و المراد من القول في الآية هو قوله: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ»* (1) أي حقّ مقتضى القول [رَبَّنا هؤُلاءِ] مبتدء و «الَّذِينَ أَغْوَيْنا» صفة للمبتدأ من هؤلاء الموصوفين بالغيّ «أغويناهم» خبر للمبتدأ فغووا كما غوينا و المراد أنّه كما أنّ غيّنا باختيارنا فكذا غيّهم باختيارهم و إغوائنا ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين بالإقدام على تلك العقائد الفاسدة، و مثل هذا المعنى قد حكى اللّه عن الشيطان حيث قال: «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ» (2).

ثمّ قال الّذين حقّ عليهم القول [تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم و من أفعالهم و يتبرّأ بعض من بعض و صاروا أعداء [ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي لم يكونوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون الشيطان الّذين زيّن لهم عبادتنا.

قوله: [وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي و يقال للأتباع: ادعو الّذين عبدتموهم من دون اللّه و زعمتم أنّهم شركاء ليدفعوا عنكم العذاب و إنّما نسب الشركاء إليهم لأنّه لا يجوز أن يضاف إلى اللّه شريك و لكنّهم كانوا يزعمون أنّها شركاء اللّه [فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا] أي فيدعونهم فلا يجيبونهم إلى ملتمسهم [وَ رَأَوُا الْعَذابَ أي و يرون العذاب [لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ

ص: 154


1- هود: 119.
2- ابراهيم: 22.

أي لو أنّهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب و اعتقدوا انّ العذاب حقّ في الدنيا و ما أنكروا القيامة.

قوله تعالى: [وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ و من الأمور التي يسأل اللّه الكفّار في ذلك اليوم فيقول اللّه لهم ما الّذي أجبتم من دعوة المرسلين و ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيّين و هذا سؤال تقرير بالذنب فإنّ الرسل كانوا يدعون بالعلم و العمل كأنّه يقال لهم ماذا علمتم و ما الّذي عملتم.

[فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ] فخفيت عليهم طرق الجواب يومئذ كالأعمى لانسداد طرق الأخبار عليهم كما تنسدّ طرق الأرض على الأعمى و ألبست عليهم الحجج فلا ينطقون بالحجّة [فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله لشغله بنفسه، و قيل: لا يسأل بعضهم بعضا عن أن يحمل عنه ذنوبه.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 67 الى 70]

فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (69) وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

ثمّ لمّا بيّن حال المعذّبين من الكفّار أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيبا في التوبة و زجرا عن الثبات على الكفر فقال:

[فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ و في عسى وجوه:

أحدها أنّه من الكرام تحقيق و اللّه أكرم الأكرمين. و ثانيها أن يراد ترجّي التائب و طمعه كأنّه قال: فليطمع في الفلاح. و ثالثها عسى أن يكونوا كذلك إن داموا على التوبة و الإيمان لجواز أن لا يدوموا. و إنّما أتى سبحانه بلفظة «عسى» مع أنّه مقطوع بفلاحه لأنّه على رجاء أن يدوم على ذلك فيفلح و قد يجوز أن يزلّ في ما بعد فيهلك على أنّه قد قيل: إنّ «عسى» من اللّه سبحانه لفظة وجوب في جميع القرآن.

قوله: [وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ] و في الآية ردّ على المشركين

ص: 155

حيث أو ردوا شبهة و قالوا: «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (1) فاختاروا عظيما من مكّة و هو الوليد بن المغيرة و من الطائف عروة بن مسعود الثقفيّ فأجاب اللّه سبحانه بقوله: «وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ» لهم ما هو الأصلح «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» و «ما» في الآية بمعنى الّذي أي و يختار الّذي لهم الخيرة، و الخيرة اسم من الاختيار أقيم مقام المصدر و حاصل المعنى أنّ الاختيار له و ليس لغيره. و قيل: «ما» نافية فيكون الوقف في الآية حينئذ على قوله: «و يختار».

قوله: [سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تقدّس و تنزّه عن أن يكون له شريك و اختيار لأحد من دونه.

ثمّ أقام البرهان على صحّة اختياره بقوله [وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ أي هو العالم بما يخفونه و ما يظهرونه فإليه الاختيار و أمّا الّذي لا يعلم فلا اختيار له لأنّه غير قابل بعلم الأصلح [وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] و هذا الموصوف اللّه ليس إله غيره [لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ] و له الثناء و المدح و التعظيم على ما أنعم به على خلقه في الدنيا و العقبى [وَ لَهُ الْحُكْمُ بينهم بما يميّز به الحقّ و الباطل: يحكم لأهل طاعته بالفضل و المغفرة و لأهل معصية بالشقاء و الويل [وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و إلى حكمه مرجعكم.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 71 الى 75]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (72) وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)

المعنى: [قُلْ يا محمّد لقومك و الّذين عبدوا الآلهة تنبيها على خطائهم و بيانا لموجبات الحمد الّذي ذكره في الآية السابقة حيث قال: «لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ»

ص: 156


1- الزخرف: 31.

فنبّه سبحانه بأنّ اللّيل و النهار نعمتان يتعاقبان لأنّ الإنسان لا بدّ و أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه و لا يتمّ له ذلك لو لا ضوء النهار و الاجتماعات ليتمكّن الإنسان من المعاملات و أيضا لا يتمّ هذا الأمر لو لا الراحة و السكون باللّيل فلا بدّ منهما فقال:

[أَ رَأَيْتُمْ إذا بقي اللّيل من غير النهار من [يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ] و نهار و لا قادر على ذلك إلّا اللّه [أَ فَلا تَسْمَعُونَ ما بيّنه لكم من الأدلّة على التوحيد و تتفكّرون فيه، و كذلك [إِنْ جَعَلَ اللَّهُ النهار من غير ليل تسكنون فيه للراحة و يكون دائما النهار من غير ليل من [يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تستريحون فيه من النصب و الحركة غير اللّه [أَ فَلا تُبْصِرُونَ و تتبصّرون من البصيرة أو من المشاهدة فتعلموا أنّهما من صنيع مدبّر حكيم.

ثمّ قال: [وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي و من رحمته و إحسانه إليكم جعل اللّيل للسكونة و الراحة و النهار لابتغاء المعاش و الكسب و الفضل [وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ من نعم اللّه عليكم و تعرفون حقّه [وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مضى تفسيره كرارا و إنّما كرّر ذكر النداء للمشركين بأين شركائي تقريعا لهم بعد تقريع، أو أنّ النداء الأوّل في الآية السابقة لتقرير إقرارهم على أنفسهم بالغيّ و الثاني للتعجيز عن إقامة البرهان بحضرة الأشهاد.

[وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً] أي و أخرجنا من كلّ امّة من الأمم رسولها الّذي يشهد عليهم بالتبليغ و بما كان صدر منهم و هم عدول الآخرة و لا يخلو كلّ زمان منهم يشهدون على الناس بما علموا ليكون ذلك زائدا في غمّهم، و الشهداء الّذين يشهدون يعمّ الأنبياء و المؤمنين في أيّام الفترات فعلم الكفّار حينئذ [أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَ و غاب وضاع مفترياتهم من الباطل و الكذب.

قوله تعالى:

[سورة القصص (28): الآيات 76 الى 82]

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)

فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)

ص: 157

اعلم أنّ نصّ القرآن يدلّ على أنّ قارون كان من قوم موسى عليه السّلام و ظاهر ذلك يدلّ على أنّه ممّن قد آمن بموسى، و لا يبعد أيضا حمله على القرابة؛ و اختلفوا في كيفيّة القرابة قيل: إنّه كان ابن عمّ موسى عليه السّلام لأنّه كان قارون بن يصهر بن فاهث بن لاوي و موسى ابن عمران بن فاهث بن لاوي. و قيل: إنّه كان عمّ موسى لأنّ موسى ابن عمران ابن يصهر بن فاهث، و قارون ابن يصهر بن فاهث. و قال ابن عبّاس: إنّه كان ابن خالته.

ثمّ قيل: إنّه كان يسمّى المنوّر لحسن صورته و كان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلّا أنّه نافق كما نافق السامريّ.

أمّا قوله: [فَبَغى عَلَيْهِمْ قيل: إنّه بغى بسبب ماله و بغيه أنّه استخفّ بالفقراء و لم يرع لهم حقّ الإيمان و لا عظّمهم مع كثرة أمواله. و قيل: كان بغيه من الظلم ملّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم و بغى عليهم و طلب الفضل عليهم و جعلهم تحت يده.

و قيل: طغى عليهم و استطال فلم يوافقهم في أمر و قيل: بغيه عليهم أنّه زاد عليهم في الثياب شبرا للتكبّر.

و قيل: إنّ بغيه عليهم أنّه حسد هارون عليه السّلام على الحبورة (1)؛ يروى أنّ موسى عليه السّلام لمّا قطع البحر و أغرق اللّه فرعون جعل الحبورة لهارون عليه السّلام فخلصت له النبوّة و الحبورة و كان صاحب القربان و المذبح و كان لموسى عليه السّلام الرسالة فوجد قارون من ذلك

ص: 158


1- بالضم: الامامة.

في نفسه فقال: يا موسى لك الرسالة و لهارون الحبورة و لست في شي ء و لا أصبر أنا على هذا، فقال موسى: و اللّه ما صنعت ذلك لهارون و لكنّ اللّه جعله له. فقال: و اللّه لا اصدّقك أبدا حتّى تأتيني بآية أعرف بها أنّ اللّه جعل ذلك لهارون، قال: فأمر موسى عليه السّلام رؤساء بني إسرائيل أن يجي ء كلّ رجل منهم بعصاه فجاءوا بها فألقاها موسى عليه السّلام في قبّة له و كان ذلك بأمر اللّه فدعا ربّه أن يريهم بيان ذلك فباتوا يحرسون عصيّهم فأصبحت عصا هارون عليه السّلام تهتزّ، بها ورق أخضر و كانت من شجر اللوز فقال موسى عليه السّلام: يا قارون أما ترى ما صنع اللّه لهارون؟ فقال: و اللّه ما هذا بأعجب ممّا تصنع من السحر، فاعتزل قارون بأتباعه و كان كثير المال و التبع من بني إسرائيل فما كان يأتي موسى عليه السّلام و لا يجالسه.

و روى أبو أمامة الباهليّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: كان قارون من السبعين المختارة الّذين سمعوا كلام اللّه.

أمّا قوله: [وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ] ففيه أبحاث، فإن قيل: إنّ اللّه لا يعطي الحرام فكيف أضاف اللّه مال قارون إلى نفسه بقوله «و آتيناه» فأجيب بأنّه لا حجّة في أنّه حرام و لعلّ أنّه قد وصل إليه بعضه بالإرث و بعضه بالتكسّب، و قيل إنّه أصاب كنزا من كنوز يوسف.

و بالجملة «وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» و «ما» هذه موصولة أي أعطيناه من الأموال المدّخرة قدر الّذي نوّأ مفاتحه بالعصبة، و المفاتح المراد الخزائن مثل قوله: «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» (1) أي خزائن، من قول أكثر المفسّرين و ابن عبّاس. و قيل: هي المفاتح الّتي تفتح بها الأبواب. و قيل: كانت مفاتيح قارون من جلود و كلّ مفتاح مثل الإصبع. و اختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر. و قيل: إلى أربعين. و قيل: أربعون رجلا و العشرة عصبة بدليل قوله تعالى في إخوة يوسف: «وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ»* (2) و كانوا عشرة لأنّ يوسف و أخاه لم يكونا معهم.

ص: 159


1- الانعام: 59.
2- يوسف: 8 و 14.

و بالجملة «لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ» أي تنوء و تعجز العصبة بها، و ناءت العصبة بها، و الباء لتعدّي الفعل و لكثرة هذه الأموال أو المفاتيح تتعب القائمين عليها أن يحفظوها و يحملوها.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه كان في قوم قارون من وعظه بأمور:

أحدها قوله: [إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ و المراد أن لا تبطر بالنعمة و لا يلهيك المال عن الآخرة لأنّ من يعلم أنّه سيفارق الدنيا لم يفرح بها.

و ثانيها قوله: [وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ] و الظاهر أنّه كان مقرّا بالآخرة.

و ثالثها: [وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا] أي لا بأس بوجوه التمتّع التمتّع المباحة، أو المراد الإنفاق في طاعة اللّه فإنّ ذلك هو نصيب المرء من الدنيا قال صلّى اللّه عليه و آله: فليأخذ العبد من نفسه لنفسه و من دنياه لآخرته و من الشبيبة قبل الكبر و من الحياة قبل الموت فو الّذي نفس محمّد بيده ما بعد الموت من مستعتب و لا بعد الدنيا دار إلّا الجنّة و النار.

و رابعها: [وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ و يدخل فيه وجوه الخير و الإعانات [وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ و المراد ما كان عليه من الظلم و البغي. و قيل: إنّ هذا القائل هو موسى. و قيل: القائل بل مؤمنو قومه لكن أبي أن يقبل بل زاد قارون بكفر النعمة فقال:

[إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي إنّ المال حصل لي على علم عندي بوجوه المكاسب و بأمور لا يتهيّأ لأحد أن يكتسبه من التجارات و الزراعات، و قيل: على علم عندي بصنعة الذهب و هو علم الكيمياء، حكي أنّ موسى علّم قارون الثلث من صنعة الكيمياء و علّم يوشع الثلث منها و علّم كالب بن هارون الثلث منها فخدعهما قارون حتّى علم ما عندهما و عمل بالكيمياء فكثرت أمواله فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضّة و النحاس فيجعله ذهبا.

فأجاب اللّه عن كلامه بقوله: [أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً] و المراد أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم أنّ اللّه قد أهلك قبله من القرون من هو أغنى منه و أقوى، و ذلك لأنّه قرأه في التوراة و اخبر به و سمعه

ص: 160

من الأحبار. و المراد من قوله: «أكثر جمعا» أكثر جمعا للمال أو أكثر جماعة في العدد.

و أمّا قوله: [وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أي إذا جاء و نزل العذاب فالاغترار بالمال الكثير و العدد العظيم لا ينفع و يدخلون النار و الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا يسألون عنهم لعلامتهم و يأخذونهم بالنواصي و الأقدام فيصيّرونهم إلى النّار و هذا كقوله «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ» (1) فأمّا قوله: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (2) فإنّما ذلك سؤال تقريع و توبيخ لا ليعلم ذلك.

قوله [فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ فقوله «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ» يدلّ على أنّه خرج بأطهر زينة و أكملها و ليس في القرآن إلّا هذا القدر إلّا أنّ الناس ذكروا وجوها كثيرة في كيفيّة تلك الزينة قال مقاتل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب و معه أربعة آلاف فارس على الخيول و عليها الثياب الأرجوانيّه و معه ثلاثمائة جارية بيض عليهنّ الحليّ و الثياب الحمر على البغال الشهب. و قال بعضهم: في تسعين ألفا هكذا. و الأولى ترك هذه التقريرات لأنّها متعارضة.

ثمّ إنّ الناس لمّا رأوه على ذلك الزيّ و الزينة قال من كان يرغب منهم في الدنيا:

«يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ» من هذه الأموال و الأمور و أمّا أهل الدين فقالوا للّذين تمنّوا هذا: [وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ] من هذه النعم لأنّه دائم، و كلمة ويلك أصله الدعاء بالهلاك ثمّ يستعمل في الزجر و الردع [وَ لا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ أي لا يوفّق لها، و الضمير إلى الكلمة أي كلمة ثواب اللّه خير إلّا الصابرون أو الضمير راجع إلى الإيمان و العمل الصالح أي لا يؤتيها إلّا الصابرون في الطاعة و الرضا بما قسم اللّه لهم.

و قوله: [فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ أي إنّ قارون لمّا أشر و بطر خسف اللّه به و بداره جزاء على عتوّه، و الفاء تدلّ على هذا المعنى لأنّ الفاء تشعر بالعلّيّة. قيل: إنّ قارون كان يؤذي موسى عليه السّلام كلّ وقت و هو يتحمّل عنه للقرابة الّتي بينهما حتّى نزلت التوراة و آية الزكاة فصالحه موسى عن كلّ ألف دينار على دينار و عن كلّ ألف درهم على درهم فاستكثره قارون بعد ما حسبه فشحّت نفسه فجمع بني إسرائيل و قال: إنّ موسى يريد أن

ص: 161


1- الرحمن: 39.
2- الحجر: 92.

يأخذ أموالكم فقالوا: أنت سيّدنا و كبيرنا فمرنا بما شئت قال: نبرطل (؟) فلانة البغيّ حتّى تنسبه إلى نفسه فرفضه بنو إسرائيل فجعل لها طستا مملوءا من الذهب.

فلمّا كان يوم عيد قام موسى فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه و من زنى و هو غير محصن جلدناه و إن أحصن رجمناه فقال قارون: و إن كنت أنت؟ قال: و إن كنت أنا.

قال: فإنّ بني إسرائيل يقولون: إنّك فجرت بفلانة! فأحضرت فناشدها موسى باللّه الّذي فلق البحر و أنزل التوراة أن تصدق فتداركها اللّه فقالت: كذبوا، بل جعل قارون لي جعلا على أن أقذفك بنفسي فخرّ موسى ساجدا للّه يبكي و قال يا ربّ: إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى اللّه إليه أن مر الأرض بما شئت فإنّها مطيعة لك.

فقال: يا بني إسرائيل إنّ اللّه بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه و من كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعا غير رجلين ثمّ قال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق؛ و قارون و أصحابه يتضرّعون إلى موسى و يناشدونه باللّه و الرحم و موسى لا يلتفت إليهم ثمّ قال موسى: يا أرض خذيهم، فانطبقت الأرض عليهم، فأوحى اللّه إلى موسى: استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم أما و عزّتي لو دعوني مرّة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا.

و نقل صاحب المجمع هذه الرواية عن السدّيّ مع اختلاف يسير في العبارة قال: دعا قارون امرأة من بني إسرائيل بغيّا فقال: إنّي أعطيك ألفين على أن تجيئين غدا إذا اجتمعت بنو إسرائيل عندي فتقولي: يا معشر بني إسرائيل مالي و لموسى قد آذاني؟ قالت: نعم فأعطاها خريطتين عليهما خاتمه فلمّا جاءت إلى بيتها ندمت و قالت: يا ويلتى قد عملت كلّ فاحشة فما بقي إلّا أن أفتري على نبيّ اللّه و كليمه فلمّا أصبحت أقبلت و معها الخريطتان حتّى قامت بين بني إسرائيل فقالت: إنّ قارون قد أعطاني هاتين الخريطتين على أن أقول هكذا و معاذ اللّه أن أفتري على نبيّ اللّه و هذه دراهمه عليها خاتمه فعرف بنو إسرائيل خاتم قارون فغضب موسى فدعا اللّه إلى آخر القصّة.

و قيل: لمّا صبّ قارون على رأس موسى رمادا قد خلط بالماء دعا عليه.

قال مقاتل: و لمّا أمر موسى الأرض فابتلعته قال بنو إسرائيل: إنّما فعل موسى

ص: 162

ذلك ليرثه لأنّه كان ابن عمّه فخسف بداره بعد ثلاثة أيّام.

قوله: [فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ و ما أفاده جمعه و لا ماله و ما تمكّن أحد أن ينصره من عذاب اللّه [وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ و الممتنعين من عذاب اللّه و كان يعذّب و يجلجل في طبقات الأرض إلى أن لاقى و سمع تسبيح يونس في بطن الحوت و سأله عن قومه و ترحّم عليهم فرفع اللّه عنه العذاب في الدنيا إلى آخر القصّة قوله: [وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ حين خرج عليهم في زينته [يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ] و في كلمة «وي كأنّ» أقوال من أئمّة النحاة و أهل اللغة: قال ابن جنّي: في «وي كأنّه» ثلاثة أقوال منهم من جعلها كلمة واحدة فلم يقف على وي، و منهم من وقف على «وي». و منهم من قال: «ويك» أي أعجب و الكاف للخطاب مثل ذلك فالمعنى أعجب أنّه لا يفلح الكافرون و اعجب أنت أنّه يبسط الرزق لمن يشاء، و على كون كلمة «وي» مفصولة عن «كأن» فهي مستعملة عند التنبّه للخطأ و إظهار التندّم فالمعنى في الآية: إنّهم لما قالوا: يا ليت لنا مثل ما اوتي قارون ثمّ شاهدوا الخسف تنبّهوا لخطائهم فقالوا: وي، ثمّ قالوا: كأنّ اللّه يبسط الرزق بحكمته لا لكرامته عليه و يضيق على من يشاء لا لهوانه عليه.

و قيل: «ويلك» أنّه بحذف اللام و جاز هذا الحذف لكثرتها في الكلام و أنّه مفتوحة بعدها بفعل مضمر كأنّه قال: ويك أعلم أنّه يبسط الرزق و يقدر.

قوله: [لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ثمّ قالوا: لو لا أن منّ اللّه علينا لخسف بنا و كنّا مثله وي كأنّه لا يفلح الكافرون لما قبله.

و النظم في قصّة قارون في الآيات لأنّ اللّه سبحانه قال: «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى فأكّد هذا البيان بحديث قارون و حاله.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 83 الى 88]

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)

وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

ص: 163

[تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ] الّتي سمعت خبرها و بلغك وصفها [نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا] و غلبة [فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً] و ظلما على الناس. في المجمع عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه كان يمشي في الأسواق و هووال يرشد الضالّ و يعين الضعيف، و يمرّ على البقّال و البيّاع و يقرء هذه الآية و يقول: نزلت في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة. و عنه عليه السّلام قال: إنّ الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية. يعني إنّ من تكبّر على غيره بلباس يعجبه فهو ممّن يريد علوّا في الأرض.

و عنه عليه السّلام أنّه قال لحفص بن غياث: يا حفص ما منزلة الدنيا من نفسي إلّا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها يا حفص إنّ اللّه علم ما العباد عاملون و إلى ما هم صائرون فحلم عنهم عند أعمالهم السيّئة لعلمه السابق فيهم فلا يغرنّك حسن الطلب ممّن لا يخاف الفوت ثمّ تلا «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ» الآية و جعل يبكي و يقول: ذهبت و اللّه الأمانيّ عند هذه الآية، فاز و اللّه الأبرار أ تدري منهم هم الّذين لا يؤذون الذرّ، كفى بخشية اللّه علما و كفى بالاغترار جهلا، الحديث.

قوله: [وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الّذين اتّقوا المعاصي و عقاب اللّه بأداء فرائضه.

قوله: [مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها] لمّا بيّن أنّ الدار الآخرة للمتّقين بيّن لهم ما يحصل فقال: من أتى بحسنة فله قد حصل خير من تلك الحسنة فيزوّد ثوابا [وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يزادوا على ما يستحقّون، ثبت أنّ في الحسنات مزيد الفضل و الثواب و لا يجزى بالسيّئة إلّا مثلها.

فلو قيل. كيف لا تجزى السيّئة إلّا بمثلها مع أنّ المتكلّم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذّب أبد الآباد؟

فالجواب أنّه كان على عزم أنّه لو عاش أبدا كان القائل بذلك فعومل بمقتضى عزمه و قصده كما أنّ الكافر لو كان مؤبّدا في الدنيا لكان مؤبّدا في كفره فيكون مؤبّدا في عذابه.

ص: 164

قوله: [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ] النزول: قيل: لمّا نزل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالجحفة في مسيره إلى المدينة مهاجرا اشتاق إلى مكّة فأتاه جبرئيل فقال: أ تشتاق إلى بلدك و مولدك؟ فقال: نعم، قال جبرئيل: فإنّ اللّه يقول: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ» الآية، أي إنّ الّذي أوجب عليك القرآن بما تضمّنه من الأحكام لرادّك إلى مكّة و يعيدك إليها كما كنت فيها و هذا أحد الدلالات على كونه نبيّا لأنّه تعالى أخبره عن الغيب و قد وقع كما أخبر فكان معجزا و صار المخبر مطابقا للخبر. و قيل: المعنى إلى المرجع يوم القيامة و يعيدك بعد الموت كما بدأك.

ثمّ ابتدأ بكلام آخر فقال سبحانه: [قُلْ يا محمّد [رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى الّذي يستحقّ الثواب [وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي لا يخفى عليه الضالّ و المهتدي و المؤمن و الكافر، و التأويل أنّي قد جئتكم بالهدى من عنده و إنّكم في ضلال و سينصرني عليكم.

ثمّ ذكر سبحانه النعم الّتي أنعم اللّه على نبيّه فقال: [وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي و ما كنت يا محمّد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه إليك و يشرّفك بهذه الشرافة العظيمة من إنزال الكتاب عليك [إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ و إلّا في الآية قيل للاستداراك أي ما كنت ترجوا هذا الأمر العظيم لكن تداركتك رحمة عظيمة من اللّه خصّصت بها.

ثمّ أمره بأمور:

أحدها: بأن لا يكون مظاهرا للكفّار فقال [فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ و هذا الخطاب و أمثاله و إن كان للنبيّ لكنّ المراد قومه روي عن ابن عبّاس أنّه كان يقول:

القرآن كلّه إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.

و ثانيها: قال سبحانه: [وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ الميل إلى المشركين و ذلك حين دعوه إلى دين طائفته ليزوّجوه و يقاسموه شطرا من أموالهم أي لا تلتفت إلى ما يقولون و لا تركن إليهم فيصدّوك عن اتّباع آيات اللّه.

و ثالثها: [وَ ادْعُ إِلى دين [رَبِّكَ و أراد التشدّد في دعوة الكفّار و المشركين فقال: [وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لأنّ من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم، و المراد الامّة و إن كان الخطاب إليه و هو للتعظيم.

ص: 165

و رابعها: قوله [وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] فإن قيل: إنّ الرسول كان معلوما منه أن لا يفعل شيئا من ذلك البتّة فما الفائدة في هذا النهي؟ و الجواب ما قاله ابن عبّاس و قد ذكرناه قبيل ذلك.

قوله: [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] أي لا تستدع حوائجك من غيره لا معبود إلّا هو.

[كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ و بائد و فان إلّا ذاته و هذا كما يقال: هذا وجه الرأي و وجه الطريق و وجه العمل، و في هذا دلالة على أنّ الأجسام تفنى ثمّ تعاد.

و قيل: معنى «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» يعني ما أريد به وجهه فإنّ ذلك يبقى ثوابه و هذا المعنى اختيار جماعة من المفسّرين مثل ابن عبّاس و أبي العالية و الكلبيّ. قال الفرّاء:

أستغفر اللّه ذنبا لست محصيه ربّ العباد إليه الوجه و العمل أي إليه اوجّه العمل.

و كلّ عمل مشروع أريد به وجه اللّه فهو باق و ثابت حتّى أنّ العيد يشرب من الماء فيستوجب الجنّة؛ قال الصادق عليه السّلام: إنّ الرجل يشرب الماء فيقطعه ثمّ ينحي الإناء و هو يشتهيه فيحمد اللّه ثمّ يعود فيه و يشرب ثمّ ينحّيه و هو يشتهيه فيحمد اللّه ثمّ يعود فيشرب فيوجب اللّه له بها الجنّة، و كذلك في البسملة يفعل كما فعل في التحميد يدخل به الجنّة.

[لَهُ الْحُكْمُ أي القضاء النافذ في خلقه و الفصل بين الخلائق في الآخرة [وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و تردّون. و النظم في الآيات أمّا قوله: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ» بما قبله على معنى أنّه سبحانه كما حرّم نعم الدنيا عليهم بالهلاك كذلك حرّم عليهم نعم الآخرة.

و أمّا وجه النظم في قوله «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ الآية» بما قبله فقد ذكر فيه من حمل المعاد على البعث أنّه اتّصل بقوله «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ» و من حمله على العود إلى مكّة قال:

إنّه سبحانه لمّا بيّن وعده لأمّ موسى و رجوعه إلى امّه كذلك وعده ربّه العود إلى مكّة مع الشرف العظيم و قد أنجز وعده كما أنجز وعده هناك.

تمّت السورة

ص: 166

سورة العنكبوت

اشارة

(مكية كلها و قيل: مدنية و قيل: بعضها مكية و بعضها) (مدنية. عدد آيها تسع و ستون آية)

فضلها:

ابيّ بن كعب عن النبيّ عليه السّلام قال: من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ المؤمنين.

و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ سورة العنكبوت و الروم في شهر رمضان ليلة ثلاث و عشرين فهو و اللّه يا أبا محمّد من أهل الجنّة و لا أستثني فيه أبدا و لا أخاف أن يكتب اللّه عليّ في يميني إثما و إنّ لهاتين السورتين من اللّه مكانا.

ص: 167

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العنكبوت (29): الآيات 1 الى 5]

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)

مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)

النزول:

قيل: نزلت الآية في عمّار بن ياسر و كان يعذّب في اللّه و كذلك عيّاش ابن ربيعة و الوليد بن الوليد و سلمة بن هشام و كانوا يعذّبون بمكّة. و قيل: إنّها نزلت في أقوام بمكّة هاجروا و تبعهم الكفّار فاستشهد بعضهم و نجا الباقون.

[أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا] يعني أ ظنّوا أنّهم يتركون بمجرّد قولهم آمنّا و هم لا يمتحنون بالفرائض البدنيّة كالجهاد و العبادات و الماليّة كالزكاة و أمثالها، لأنّ الإنسان إذا قال: آمنت باللّسان فقد ادّعى محبّة اللّه في القلب و لا بدّ له من شهود فإذا استعمل الأركان في الإتيان بما عليه حصل له على دعواه شهود كما أنّه إذا بذل في سبيل اللّه نفسه و ماله و زكّى، بترك ما سواه أعماله زكّى شهوده، فيثبت في جرائد المحبّين اسمه و يقرّر في دفتر المؤمنين و إليه الإشارة بهذه الآية أي دعوى بلا شهود و شهود بلا تزكية غير مقبول و هي أدنى درجات العبوديّة فإنّ ما دونه دركات الكفر.

و اعلم أنّ المستخدمين عند الملوك على أقسام: منهم من يكون ناهضا في شغله ماضيا في فعله فيترقّى من خدمة إلى خدمة أعلى منها مرتبة، و منهم من يكون كسلانا متخلّفا فينتقل من خدمة إلى خدمة أدنى منها، و منهم من يترك على شغله من غير تغيير، و منهم من يقطع اسمه بسبب الخيانة و يمحى عن الجرائد اسمه فكذلك العباد قد يكون العبد مقبلا على العبادة مقبولا للسعادة و هي درجة المقرّبين و منهم من يكون قليل الطاعة مشتغلا بالخلاعة فينتقل إلى مرتبة العصاة و منزلة الفسّاق و قد يكون يزيد على هذا الأمر

ص: 168

و يستصغر العيوب و يستكثر الذنوب فيصير محروما و يلحق بأهل العناد مرجوما. و الحاصل أنّ الإنسان بمجرّد قوله «آمنت» غير متروك و لا بدّ أن يفتن.

قوله: [وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ثمّ أقسم سبحانه فقال: و لقد ابتلينا الّذين من قبل امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله من سالف الأمم بالفرائض الّتي فرضناها عليهم و بالشدائد و المصائب مثل إبراهيم خليل الرحمن و قوم كانوا معه و من بعد إبراهيم نشروا بالمناشير على دين اللّه فلم يرجعوا عنه و مثل قوم بني إسرائيل ابتلوا بفرعون يسومونهم سوء العذاب.

«فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ» أي ليميّزنّ اللّه الّذين صدقوا من الّذين كذّبوا بالجزاء و المكافاة و عبّر عن الجزاء و التميّز بالعلم و أقام السبب مقام المسبّب و الملزوم مقام اللّازم و مثله من إقامة السبب مقام المسبب قوله تعالى «كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» (1) فهذا سبب قضاء الحاجة فكنّى بذكره عنها و الفائدة في اختلاف الصيغة بالماضي في صدقوا و بالفاعل في الكاذبين أنّ اسم الفاعل يدلّ على الثبوت و الاستمرار و الفعل لا يدلّ على الاستمرار لأنّه لا يفهم من معنى الفعل التكرار كما يقال: فلان شرب الخمر و شارب الخمر، و لمّا كانت الآية وقت نزولها حكاية عن قوم قريبي العهد في الإسلام و عن قوم مستديمي الكفر مستمرّين عليه فلهذه العلّة قال سبحانه في حقّ المؤمنين الّذين صدقوا بصيغة الفعل أي وجد منهم الصدق و قال في حقّ الكافر بالصيغة الفاعل المنبئة عن الثبوت.

و أمّا قوله [أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ «أم» هذا استفهام منقطع عمّا قبله و ليست الّتي معادلة الهمزة و المعنى: بل أحسب الّذين يفعلون الكفر و القبائح أن يفوتونا و يعجزونا فلا نقدر على أخذهم و الانتقام منهم بئس الأمر الّذي يحكمون و يعتقدون، و حاصل المعنى: أنّ من امتحن بأمر و كلّف و لم يأت به إن لم يعذّب في الحال يعذّب في الاستقبال و لا يفوتنا عذابه و لا يتخيّلون أنّ الإمهال يفضي إلى الإهمال و التعجيل في العقوبة شغل من يخاف الفوت.

قوله: [مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ و بالعكس

ص: 169


1- الزمر: 68.

إنّ الّذين يعترفون بالآخرة و يعملون لها، و فسّر بعض الرجاء في الآية بمعنى الخوف و المراد من قوله «أجل اللّه» الموت أو الحياة الثانية بالحشر و لعلّ المراد من ذكر إتيان الأجل وقوع وعد المطيع من الثواب و وعيد العاصي من العقاب و حاصل المعنى: من كان يرجو الثواب و يخشى البعث و الحساب فليبادر بالطاعة قبل الأجل فإنّه لآت لا محالة.

و اعلم أنّ أكثر آيات القرآن لا ينفصل عن ذكر الأصول كما أنّ في هذه الآيات قد ذكر الأصول الثلاثة: و الأوّل الإيمان بوحدانيّته كما بيّن «أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا» و فيه إشارة إلى الأصل الأوّل و الأصل الثاني و هو إرسال الرسل و النبوّات و تصديقهم، كما أشار بقوله: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ» بالأصل الثاني و أشار بأصل الثالث في قوله: «مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ».

أمّا قوله: «وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» و لم يذكر في المقام صفة غيرهما لأنّه قد سبق في الآية ذكر القول بقوله «أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا» و سبق ذكر الفعل بقوله: «لا يُفْتَنُونَ» و مناسبة الإدراك في القول السّمع و في العمل العلم فقال: و هو السّميع لأقوالهم و العليم بأفعالهم و أصناف حسنات العبد ثلاثة: أحدها نيّته و قلبه في التصديق و هو لا يرى و لا يسمع و إنّما يعلم، و الثاني عمل لسانه و هو يسمع و عمل أعضائه و جوارحه و هو يرى فإذا أتى العبد بهذه الأمور الثلاثة جعل لمسموعه ما لا اذن سمعت و لمرئيّه ما لا عين رأت و لعمل قلبه ما لا خطر على قلب بشر، كما ذكر في الحديث في وصف الجنّة.

و بالجملة [سورة العنكبوت (29): آية 6]

وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6)

و لمّا بيّن سبحانه أنّ التكليف واقع و عليه وعد و وعيد ليس لهما دافع بيّن أن طلب اللّه ذلك من المكلّف ليس لنفع يعود إليه سبحانه فإنّه غنيّ مطلق فمن سعى في تكليف فقد سعى لنفسه و طلب أمرا يرجع نفعه إلى نفسه فليكن الإنسان دأبه أن يجاهد الشيطان بمخالفته و يدفع وسوسته عن نفسه و إغوائه و يجاهد أعداء الدين لإحيائه و يجاهد مع نفسه في شهواتها و كل ذلك نفع و فائدة للمكلّف و اللّه غنيّ عن جميع العوالم و أهلها و الآية تدلّ على أنّه ليس في مكان لا على العرش و لا على غيره فإنّه من العالم و هو غنيّ عنه.

ص: 170

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 7 الى 10]

اشارة

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10)

مسألة الإيمان هو التصديق كما قال: «وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا» (1) أي مصدّق لنا، و اختصّ في استعمال الشرع بالتصديق بجميع ما قال اللّه و الرسول إن علم على سبيل التفصيل أنّه قول اللّه أو قول الرسول أو على سبيل الإجمال فيما لم يعلم، و الأعمال الصالحة كاشفة عن وقوع التصديق و لا يتمّان إلّا معا و الأعمال داخلة فيما هو المقصود من الإيمان لأنّ تكفّر السيّئات و الجزاء بالأحسن معلّق على الأعمال و هي ثمرة الإيمان و مثاله شجرة مثمرة لا شكّ في أنّ عروقها و أغصانها منها و الماء الّذي يجري عليها و التراب الّذي حواليها غير داخل فيها لكنّ الثمرة لا تحصل إلّا بذلك الماء و التراب الخارج فكذلك العمل الصالح مع الإيمان، و أيضا الشجرة لو احتفّت بها الحشائش المفسدة و الأشواك المضرّة ينقص ثمرة الشجرة و إن غلبتها عدمت الثمرة بالكلّيّة و فسدت فكذلك الذنوب تفعل بالإيمان.

ثمّ إنّ العمل الصالح باق لأنّ الصالح في مقابلة الفاسد و الفاسد هو الهالك التالف يقال: فسد الزرع إذا هلك أو خرج عن حدّ الانتفاع به، و العمل كيف بنفسه يبقى مع أنّه عرض فلا يبقى إلّا بالعامل و العامل أيضا لا يبقى لأنّه هالك كما قال: «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ» فبقاء العمل لا بدّ و أن يكون بشي ء باق لكنّ الباقي هو وجه اللّه بقوله: «إِلَّا وَجْهَهُ» فإذا كان العمل لوجهه فباق و ما لا يكون من العمل لوجهه لا يبقى لا بنفسه و لا بالعامل و لا بالمعمول له لأن الكل فان فالإخلاص لوجهه سبب لبقاء العمل و هو المرفوع و المقبول لقوله: «وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» لكنّه لا يرتفع إلّا بالكلم الطيّب كما قال: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ»

ص: 171


1- الحاقة: 51.

و هو يرفع العمل، فالعمل من غير المؤمن لا يقبل و لهذا تقدّم الإيمان في الذّكر على العمل.

قوله تعالى: [لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ و لمّا ذكر من أعمال العبد نوعين الإيمان و العمل الصالح فذكر في مقابلتها أمرين فتكفير السيّئات في مقابلة الإيمان و الجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح و التكفير الستر و الإبطال.

و مقتضى ظاهر الآية أنّ المؤمن العاصي لا يخلد في النار لأنّ بإيمانه تكفّر سيّئاته فلا يخلّد في العذاب.

قوله تعالى: [وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً] و قرئ إحسانا و هو أنّ اللّه تعالى وصّى الإنسان بأن يفعل مع والديه حسن التأنّي بالفعل و القول و نكّر حسنا للعموم و للدلالة على الكمال و التكثّر مثل قولك إنّ لزيد مالا.

و هذا القول في الآية دليل على أنّ متابعتهم في الكفر لا يجوز و بيان ذلك أنّ الإحسان بالوالدين وجب و حسن بأمر اللّه فلو ترك العبد عبادة اللّه بقول الوالدين لترك طاعة اللّه و اتّباع العبد أبويه لأجل الإحسان إليهما يفضي إلى ترك الإحسان إليهما و ما يفضي وجوده إلى عدمه باطل فالاتّباع باطل.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما] أي و إن جاهداك أبواك أيّها الإنسان و ألزماك في دعوتهم إيّاك في الشرك على عبادتي و ليس لك و لأحد به علم و حجّة و دليل فلا يحسن اعتقاده فأمر سبحانه إطاعتهما في الواجبات و المباحات و نهى عن طاعتهما في المحذورات و من امور معرّاة من الأدلّة و غير صحيحة.

[إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي مآلكم و عاقبتكم إليّ و إن كان اليوم مخالطتكم مع الآباء و الأقارب فأخبركم بأعمالكم أي أنا حاضر و لست غائب عنكم و عالم بأعمالكم.

النزول:

روي عن سعد بن أبي وقّاص قال: كنت رجلا بارّا بامّي فلمّا أسلمت قالت:

يا سعد ما هذا الدين الّذي أحدثت لتدعنّ دينك هذا أولا آكل و لا أشرب حتّى أموت فتعيّربي فيقال فيك: يا قاتل امّه فقلت: لا تفعلي يا امّه إنّي لا أدع ديني هذا لشي ء فمكثت يوما

ص: 172

لا تأكل و ليلة ثمّ مكثت يوما آخر و ليلة، قال سعد: فلمّا رأيت ذلك قلت: يا امّه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي و اشربي و إن شئت فلا تأكلي و لا تشربي فلمّا رأت ذلك أكلت، فنزلت هذه الآية. و امّه كانت جمنة بنت أبي سفيان بن اميّة ابن عبد شمس.

و روي عن بهر بن حكيم عن أبيه عن جدّه قال: قلت: للنبيّ: يا رسول اللّه من أبرّ؟ قال أمّك، قلت: ثمّ من؟ قال أمّك، قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب.

قال أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: الجنّة تحت أقدام الأمّهات.

أمّا قوله: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرتهم و جملتهم في الجنّة.

قوله: [وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ لمّا ذكر حال خيار المؤمنين عقّبه بذكر المنافقين و الضعفاء في الدين أي بعض الناس يقولون آمنّا باللّه بلسانهم فإذا اوذي في دين اللّه أو في ذات اللّه مثلا إذا أذاه إنسان أو أصابه ضرّا و بليّة دخل في دينهم و يحسب أنّ ما يفعله الناس به هو مثل عذاب اللّه الّذي لا ينقطع فيسوّي بين عذاب فان منقطع و بين عذاب دائم غير منقطع و ذلك لقلّة تميّزه، و المراد من فتنة الناس عذاب الّذي يقع من الناس عليه.

قوله: [وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ يا محمّد من اللّه للمؤمنين و دولة لأولياء اللّه على الكافرين [لَيَقُولُنَ هؤلاء المنافقين [إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ على عدوّكم، و إنّما يقولون ذلك لطمعهم في الغنيمة بأن يشاركوا المؤمنين فيها فكذّبهم اللّه تعالى فقال: [أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإيمان و النفاق.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 11 الى 15]

وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)

ص: 173

و لمّا بيّن أنّه أعلم بما في القلوب بيّن أنّه يعلم المؤمن المحقّ و إن لم يتكلّم و المنافق و إن تكلّم فقال:

[وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ و أكّد هذا المعنى بلام القسم قال الجبّائيّ: معناه: و ليميّزنّ اللّه المؤمن من المنافق، فوضع العلم موضع التميّز توسّعا، و في الآية تهديد للمنافقين و بيّن لهم أن نفاقكم ظاهر عند من يملك الجزاء.

قوله: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] الآية، لمّا بيّن اللّه سبحانه الفرق الثلاثة من المؤمن و الكافر و المنافق و أحوالهم ذكر أنّ الكافر يدعو المؤمن إلى طريقته كأنّه يقول له: لأيّ شي ء تصبر في الذلّ و الإيذاء و لم لا تدفع عن نفسك الذلّ و العذاب بموافقتنا و كان المؤمن يقول و يجاوبه: خوفا من عذاب اللّه على خطيئة مذهبكم، فقال الكافر: لا خطيئة فيه و إن كان فيه خطيئة فعلينا فاتّبعوا طريقتنا و نحن نحمل آثامكم عنكم و قوله: «وَ لْنَحْمِلْ» بصيغة الأمر و فيه معنى الجزاء و تقديره إن تتّبعوا ديننا حملنا خطاياكم عنكم و لنحمل هو المتكلّم به نفسه في مخرج اللفظ و المراد به إلزام النفس هذا المعنى.

فإن قيل: و لنحمل صيغة أمر و المأمور لا بدّ أن يكون غير الأمر فكيف يصحّ أمر النفس من الشخص؟ فإذا كان المعنى معنى الجزاء صحّ أي ليكن منكم الاتّباع بطريقتنا و ليكن منّا الحمل من خطاياكم.

فأخبر اللّه سبحانه بقوله: [وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ] أي لا يمكنهم حمل ذنوبهم عنهم يوم القيامة فإنّ اللّه لا يعذّب أحدا بذنب أحد [إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما ضمنوا.

قوله [وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي يحملون عذاب ضلالتهم بسبب كفرهم و عذاب إضلال غيرهم و هذا كقوله صلّى اللّه عليه و آله: من سنّ سنّة سيّئة الخبر و هذا كقوله «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» (1).

قوله: [وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ و لمّا قالوا: أن تتّبعونا نحمل يوم القيامة خطاياكم يقال لهم فاحملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون لم افتريتم أو المعنى أنّ الكفّار إنّما تعهّدوا بحمل خطاياهم حيث إنّهم ما كانوا يعتقدون الحشر فإذا جاء يوم القيامة ظهر لهم خلاف ذلك فيسألون و يقال لهم: أما قلتم أن لا حشر فلم افتريتم؟ و هذا

ص: 174


1- النحل: 25.

السؤال سؤال تقريع.

قوله: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ النظم: لمّا بيّن أقسام الناس من المؤمن و الكافر و المنافق و بيّن لهم الوعد و الوعيد أراد أن يذكر أنّ هذا التكليف ليس مختصّا بالنبيّ و امّته بل جميع مكلّفون و من جملة من كلّف نوح و قومه و إبراهيم و قومه و لقد أرسلنا نوحا يدعو قومه إلى توحيد اللّه عزّ و جلّ [فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً] فلم يجيبوه و كفروا به و ذكر المدّة لتسلية خاطر النبيّ لأنّه عليه السّلام بسبب عدم دخول الكفّار في الإسلام كان يضيق صدره فقال: أنّ نوحا لبث قريب ألف في الدعوة و لم يؤمن من قومه إلّا قليل و صبر فأنت أولى بالصبر لقلّة مدّة بشك و أيضا أنّ كفّار قوم نوح مع طول هذا المدّة ما نجوا من العذاب فقومك مع هذه المدّة القليلة لا ينبغي أن يغترّوا فإنّ الذلّ يشملهم.

قوله: [فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ جزاء على كفرهم [وَ هُمْ ظالِمُونَ لأنفسهم بما فعلوه من الشرك و العصيان [فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ] فأنجينا نوحا من ذلك الطوفان و الّذي ركبوا معه في السفينة من المؤمنين [وَ جَعَلْناها] أي السفينة [آيَةً لِلْعالَمِينَ علامة للخلائق و الأمم يعتبرون بها إلى يوم القيامة و أنّها كانت آية لأجل أنّه قبل الطوفان أمر اللّه نوحا باتّخاذها و أنبأه بأمر السفينة فلهذا كانت آية و يمكن أن يكون ضمير الهاء راجعة إلى النجاة.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 16 الى 20]

وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)

ثمّ عطف على نوح [إِبْراهِيمَ لمّا أرسلناه [إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أطيعوا اللّه و خافوه باجتناب

ص: 175

معاصيه [ذلِكُمْ أي التقوى [خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما هو خير لكم و ما هو شرّ لكم [إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً] من الحجارة أو غيرها لا تضرّ و لا تنفع و تخلقون و تقدّرون و تفعلون كذبا بأن تسمّون هذه الأوثان آلهة و قرئ تخلّقون بالتشديد من باب التفعيل أو معناه تخلقون بأيديكم و تصنعون أشكالا و تسمّونها آلهة ثمّ ذكر عجز آلهتهم عن رزق عابديها فقال: [إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً] و لا يقدرون أن يرزقوكم و من لا يملك و لا يحسّ كيف يرزق غيره و كيف يستحقّ العبادة؟ [فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي إلى حكمه تصيرون يوم القيامة.

ثمّ خاطب سبحانه العرب من قوم محمّد فقال: [وَ إِنْ تُكَذِّبُوا] محمّدا [فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أنبياءهم الّذين بعثوا إليهم [وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ و ليس على الرسل التبليغ الظاهر البيّن و ليس عليه حمل من أرسل إليه على الإيمان و قيل: الخطاب من قوله: و أن يكذّبوا إلى قوم إبراهيم أيضا.

فإن قيل: كيف يفهم من قوله: فقد كذّب امم مع أنّ إبراهيم لم يسبقه إلّا قوم نوح و هم امّة واحدة؟

فالجواب إنّ قبل نوح كان أقوام كقوم إدريس و شيث و آدم و إنّ نوحا عاش أكثر من ألف و كان القرن يموت و يجي ء أولاده و الآباء كانوا يوصون بالامتناع عن اتّباع نوح أبناءهم و كفى لقوم نوح امما و المراد من البلاغ ذكر الأحكام و المبين إقامة البرهان عليها.

و في الآية دلالة على أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن الرّسول إذا لم يبيّن لم يأت بالبلاغ المبين فلا يكون آتيا بما عليه.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يعني كفّار مكّة الّذين أنكروا البعث و أقرّوا بأنّ اللّه هو الخالق فقال سبحانه: أو لم يتدبّروا و يتفكّروا كيف أبدأ اللّه الخلق بعد العدم كذلك يعيدهم ثانيا إذ أعدمهم بعد وجودهم و المراد الخلق الأوّل في الدّنيا و الخلق الآخر في الآخرة [إِنَّ ذلِكَ الأمر و الخلق بعد العدم [عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ].

ص: 176

[قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ أي إن لم يحصل لكم هذا العلم بإبداء اللّه الخلق و إعدامه و إعادته فسيروا في الأرض و انظروا بالعلم النظريّ و أجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم من الآفاق فيؤدّيكم ذلك إلى العلم بربّكم فحينئذ تعلمون أنّ غير اللّه لا يكون خالقا بل لا يقدر أحد و لا يوجد أحد يدّعي هذا الادّعاء فإذا علمتم أنّه لا خالق إلّا اللّه لزمتكم الحجّة في الإعادة و هو قوله:

[ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ] أي ثمّ اللّه الّذي أنشأ خلقها ابتداء ينشئها ثانية و معنى الإنشاء الإيجاد من غير سبب و النشأة مثل الرأفة منصوبة على المصدريّة [إِنَّ اللَّهَ عَلى الإنشاء و الإفناء و الإعادة و [كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ].

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 21 الى 25]

يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (22) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)

لمّا ذكر النشأة الآخرة ذكر ما يكون فيه و هو تعذيب أهل التكذيب عدلا و حكمة و إثابة أهل الإنابة فضلا و رحمة فقال:

[يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ] أي هو المالك للثواب و العقاب فيعذّب من يشاء ممّن يستحقّ العقاب و يرحم من يشاء ممّن هو مستحقّ للرحمة بأن يغفر له بالتوبة و غير التوبة [وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ و تردّون و ترجعون و القلب هو الرجوع و الردّ و الحاصل إن تأخر عنكم التعذيب و الرحمة فلا تظنّوا أنّه مات فإنّ إليه و عليه حسابكم و لهذا قال بعدها:

[وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ] أي لا يمكنكم الهرب و الفرار في الأرض أو الصعود إلى محلّ السماك في السماء أو إلى السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة اللّه و لا مطمع في الإعجاز بالهرب و ما لكم من دون اللّه من وليّ يشفع أو نصير

ص: 177

يدفع لا بالهرب و لا بالثبات إلى ركن منيع.

قوله: [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي كذّبوا بالقرآن و بأدلّة اللّه في توحيده و بيانه و أنكروا بلقائه أي جحدوا بالبعث بعد الموت فأخبر سبحانه أنّه آيسهم من رحمته و جنّته أو المعنى يجب أن يئسوا من رحمتي [وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم، و في الآية دلالة على أنّ المؤمن باللّه و باليوم الآخر لا يكون ييأس من رحمته.

ثمّ عاد إلى قصّة إبراهيم فقال: [فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ حين دعاهم إبراهيم إلى اللّه و نهاهم عن عبادة الأصنام [إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فإن قيل: كيف سمّي هذا الكلام جوابا؟ لأنّ اللّه أراد أن يبيّن ضلالتهم و هو أنّهم ذكروا في معرض الجواب هذا الكلام مع أنّه ليس بجواب.

[فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ] و هاهنا حذف و تقديره: ثمّ اتّفقوا على إحراقه فأجّجوا نارا فألقوه فيها فأنجاه اللّه منها [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي علامات واضحات و حجج بيّنات [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بصحّة ما أخبرناه به و بتوحيد اللّه و قدرته.

[وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ و لمّا خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفّار و قال إبراهيم لقومه: إنّما اتّخذتم عبادة الأوثان و تركتم عبادة اللّه لأجل مودّة بعضكم بعضا فلا يريد أحدكم أن يفارق طريقة صاحبه و يخالف سيرته، أو بينكم و بين آبائكم مودّة فورثتموه و أخذتم ضلالتهم و جهالتهم و ليس لكم دليل أصلا بل اخترتم هذه العبادة الملعونة لتتوادّوا بها في الحياة الدنيا.

[ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي إذا كان يوم القيامة يتبرّأ القادة من الأتباع و يلعن الأتباع القادة فكلّ خلّة تنقلب ذلك اليوم عداوة إلّا خلّة المتّقين، و مستقرّكم النار و ما لكم من ناصرين يدفعون عنكم عذاب اللّه.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 26 الى 30]

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

ص: 178

قوله: [فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ] و هو ابن اخت إبراهيم يعني لمّا رأى معجزته آمن بنبوّته، و درجة لوط كانت عالية بأن لم يكن مؤمنا إلى ذلك الوقت و إليه الإشارة بقوله: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» و لم يقل: فآمن لوط و أمّا بالوحدانيّة فآمن قبل ذلك.

و بالجملة لمّا بالغ إبراهيم في الإرشاد و لم يهتد قومه و حصل له اليأس الكلّيّ حيث رأى القوم آياته الكبرى و لم يؤمنوا وجبت المهاجرة لأنّه إن لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة فقال: [إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي و أ؟؟؟ لب اللّه [إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ] الغالب يمنع أعدائي عن إيذائي [الْحَكِيمُ لا يفعل إلّا ما هو المقتضي للحكمة.

قوله: [وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ و خرج إبراهيم و معه لوط و سارة امرأة إبراهيم و كانت ابنة عمّه و خرجوا من كوثى قرية من سواد الكوفة إلى أرض الشّام مثل هجرة المسلمين من مكّة إلى أرض الحبشة أوّلا ثمّ إلى المدينة.

فبدّل اللّه جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها فبدّل اللّه عذابه بالنار بالبرد و السلام لمّا عذّبوه و انقلب وحدته بالكثرة حتّى ملأ الدنيا من ذرّيّته و لمّا كان أوّلا أقاربه القريبة ضالّين مضلّين من جملتهم عمّه آزر بدّل اللّه أقاربه بأقارب مهتدين هادين و هم ذرّيّته الّذين جعل فيهم النبوّة و الكتاب، و كثر ماله حتّى كان له من المواشي ما علم اللّه عدده حتّى قيل: إنّه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس لماشيته بأطواق ذهب هذا من الماليّة الدنيويّة و أمّا الجاه فالنبوّة و بقرن الصلاة عليه مع سائر الأنبياء إلى يوم القيامة و قد صار خليل الرحمن و معروفا بشيخ المرسلين بعد أن كان خامل الذكر حتّى قال قائلهم «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» (1) و هذا الكلام لا يقال إلّا في مجهول بين الناس

ص: 179


1- الأنبياء: 6.

و قال اللّه في حقّه: [وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ و معنى الصالح الباقي على ما ينبغي أي ليس هذه المقامات له في الدنيا فحسب كما يكون لمن قدّم له ثواب حسناته أو املي له استدراجا ليكثر من سيّئاته بل له هذه الأمور عجالة و له في الآخرة ثواب الدلالة و الرسالة و غيرها و قد يجمع اللّه لأقوام كرامة الدنيا و الآخرة.

قوله: [وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي و اذكر لوطا أو و أرسلنا لوطا إلى قومه حين قال لهم منكرا لفعلهم إذا قرئ بلفظ الاستفهام أو بلفظ الجرّ: [إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ] و المراد بالفاحشة هاهنا إتيان الذكران [ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ يحتمل أنّ قبلهم لم يأت أحد بهذا القبيح أو أنّ قبلهم ربّما أتى به واحد في الندرة لكنّهم بالغوا فيه فقال لهم: ما سبقكم بها من أحدكما يقال: فلان سبق البخلاء في البخل إذا زاد عليهم.

ثمّ قال: [إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء المشتمل على المصلحة الّتي هي بقاء النوع [وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ] يعني ما كفاكم قبيح فعلكم حتّى تضمّون إليه قبح الإظهار.

و قيل: معنى الآية في قوله: «وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» غير ما ذكر و هو أنّهم يقطعون الناس عن الأسفار و كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم و بالأضياف و كانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالحذف فأيّهم أصابه كان أولى به و يأخذ ماله و ينكحه و كان قاض لهم يقضي بذلك، و قيل: يقطعون الطريق على الناس و يأتون في ناديهم المنكر يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة و لا حياء و يأتون الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا و أنواع المنكرات و القمار و كشف العورات.

قوله: [فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ و لمّا أنكر لوط على قومه من أفعالهم قالوا له هزؤا:

ائتنا بعذاب إن كنت صادقا، و لمّا كرّر لوط لهم نصحه و يئس من إيمانهم طلب النصرة من اللّه عليهم و ما طلب نبيّ من الأنبياء هلاك قوم إلّا إذا علم أنّ عدمهم خير من وجودهم كما قال نوح لمّا علم حال قومه: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (1).

ص: 180


1- نوح: 26.

تحقيق: إنّما سمّي هذا الفعل الشنيع بالفاحشة لأنّ معنى الفاحشة القبيح الظاهر الفاحش قبحه، ثمّ إنّ الشهوة و الغضب صفتا قبيح لو لا مصلحة ما كان يخلقهما اللّه في الإنسان فمصلحة الشهوة الفرجيّة هي بقاء النوع بتوليد الشخص و هذه المصلحة لا تحصل إلّا بوجود الولد و بقائه بعد الأب فإنّه لو وجد و مات قبل الأب كان يفنى النوع بفناء القرن الأوّل لكنّ الزنا قضاء شهوة و لا يفضي إلى بقاء النوع لأنّا بيّنّا أنّ البقاء بالوجود و بقاء الولد بعد الأب لكنّ الزنا و إن كان يفضي إلى الوجود لكن لا يفضي إلى البقاء لأنّ المياه إذا اشتبهت لا يعرف الوالد ولده فلا يقوم بتربيته و الإنفاق عليه فالغالب أن يضيع و يهلك فحينئذ لا يحصل مصلحة البقاء فضلا عن مفاسد أخر.

فإذا الزّنا شهوة قبيحة خالية عن المصلحة الّتي لأجلها خلقت فهو قبيح ظاهر قبحه حيث لا تستره المصلحة فهو فاحشة فإذا كان الزنى فاحشة مع أنّه يفضي إلى وجود الولد و لكن لا يفضي إلى البقاء في الغالب فاللواطة الّتي لا تفضي إلى الوجود أولى بأن يكون فاحشة و قد اشتركت مع الزنا في كونهما فاحشة حيث قال سبحانه: «وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً» (1) و إنّ اللّه عذّب قوم لوط إمطار الحجارة حيث أمطر عليهم و جعل حدّها في الشرع بمن أتى بها الرجم.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 31 الى 35]

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه استجاب دعاء لوط و بعث جبرئيل و معه الملائكة لتعذيب قومه بقوله:

ص: 181


1- الإسراء: 32.

[وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي يبشّرونه بإسحاق و من ورائه يعقوب و من بعد ما بشّروه [قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ] يعنون قرية قوم لوط و هي قرية سدوم و إنّما قالوا: هذه، لأنّ قريتهم كانت قريبة من قرية قوم إبراهيم [إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ أي مشركين مرتكبين للفواحش فلذلك أمرنا اللّه بإهلاكهم و هذا الكلام بيان لحسن الأمر.

ثمّ إنّ إبراهيم لمّا سمع قولهم [قالَ لهم: [إِنَّ فِيها لُوطاً] إشفاقا عليه ليعلم حاله أو قال تعجيبا هذا الكلام لأنّه كان يعلم أنّ اللّه لا يهلك قوما و فيهم رسوله فقالت الملائكة: [نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها] أي نعلم أنّ فيهم لوطا فننجّينّه و أهله و نهلك الباقين و نخلصنّ لوطا من العذاب بإخراجه من القرية و أهله المؤمنين كذلك [إلا امرأته كانت من الغابرين فإنّها تبقى في العذاب و لا تنجو منه و ذلك قوله «كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» أي من الباقين في العذاب و المهلكين، و في استعمال الغابر في المهلك و جهان و ذلك لأنّ الغابر لفظ مشترك في الماضي و في الباقي؛ يقال: فيما غبر من الزمان أي فيما مضى من الزمان. فقالت الملائكة: إنّها من الغابرين أي الماضي ذكرهم لا من الّذين ننجّي منهم أو المعنى أنّها من الفانين الماضين زمانها لا من الناجين الباقين.

[وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ و «أن» زائدة أي ساء لوطا مجي ء الملائكة لمّا رآهم في أحسن صورة لما كان يعلم من سيرة خبيثة قومه أو ساءه هذا الأمر لما علم من عظيم البلاء النازل بهم [وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً] أي جاءه ما ساءه «وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً» كناية عن العجز في تدبيرهم و هو قصير الذراع أي عاجز و يقال: ضاق ذرعه.

فلمّا رأى الملائكة حزنه و انقاضه و خوفه قالوا: [لا تَخَفْ ... إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ الكافرة [كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب.

[إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ و المراد من القرية المعلومة و فيها الماء الأسود اسمها سدوم بين القدس و الكرك قرب جبال لبنان و العذاب الّذي نزل بهم قيل: الخسف، و قيل: الحجارة، و قيل: نار و على هذا فلا يكون عينه من السّماء و المراد أنّ الأمر وقع من السماء.

ص: 182

فلو قيل: إنّ القوم عذّبوا بسبب ما كان يصدر عنهم من الفاحشة و امرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم؟ لأنّ للدّال على الشرّ نصيب كفاعل الشرّ كما أنّ الدالّ على الخير كفاعله و هي كانت تدلّ القوم على ضيوف لوط حتّى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت منهم.

ثمّ علّل الملائكة في سبب العذاب بقولهم: [بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب خروجهم من طاعة اللّه.

[وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي تركنا من تلك القرية عبرة واضحة و دلالة بيّنة و هي الحجارة الّتي أمطرت عليهم و قيل: آثار منازلهم الخربة لقوم يتعقّلون أنّ اختصاص قوم بالعذاب دون قوم و مكان دون مكان و وجود العذاب في زمان دون زمان لا يكون إلّا بأمر آمر قادر.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 36 الى 40]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

قوله [وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ و اختلف المفسّرون في مدين فقيل: إنّه اسم رجل في الأصل و حصل له ذرّيّة فاشتهر في القبيلة مثل تميم و قيس، و قال بعضهم: اسم ماء نسب القوم إليه و اشتهر في القوم، و لعلّ الأوّل أصحّ لأنّ اللّه أضاف الماء إلى مدين حيث قال: «وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ» و لو كان اسما للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقيّة و الأصل في الإضافة التغاير حقيقة. و قوله «أَخاهُمْ» لأنّ شعيبا كان منهم نسبا.

فأمرهم بعبادة اللّه [وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ] و أمّلوا ثواب اليوم الآخر و اخشوا عقابه

ص: 183

بفعل الطاعات و تجنّب السيّئات [وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ و لا تسعوا في الأرض بالفساد. ثمّ إنّ قومه كذّبوه بعد ما بلغ [فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فأخذتهم الزلزلة فأصبحوا باركين على ركبهم ميّتين.

و هنها مسألة و هي أنّه قال في هذه السورة و في الأعراف «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» (1) و قال في هود: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ»* (2) و الحكاية واحدة؟

فالجواب أنّه لا تعارض بينهما فإنّ الصيحة كانت سببا للرجفة إمّا لرجفة الأرض لأنّ جبرئيل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته و إمّا لرجفة الأفئدة فإنّ قلوبهم ارتجفت و تقطّعت منها و ماتوا، و الإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب إذ يصحّ أن يقال: روي فقوي و أن يقال شرب فقوي فكلاهما في صورة واحد.

قوله: [وَ عاداً وَ ثَمُودَ] أي أهلكنا أيضا عادا و ثمود جزاء على كفرهم [وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ معاشر الناس كثير [مِنْ مَساكِنِهِمْ و ظهر لكم يا أهل مكّة من منازلهم بالحجر و اليمن آية في إهلاكهم [وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ و منعهم الشيطان عن طريق الحقّ و كانوا عقلاء يمكنهم التمييز بين الحقّ و الباطل بالاستدلال و الرسل فإنّهم أوضحوا السبيل و لكنّهم أغفلوا و لم يتدبّروا.

[وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ أي و أهلكناهم كما أهلكنا عادا و ثمود و كانوا أيضا مستبصرين بالرسل [وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أي الآيات [فَاسْتَكْبَرُوا] عن عبادة اللّه [فِي الْأَرْضِ و ذلك لأنّ من في الأرض أضعف و من في السماء أقوى و ما استكبروا [وَ ما كانُوا سابِقِينَ و لا يقدرون أن يفوتون اللّه.

ثمّ قال: [فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فذكر اللّه أربعة أشياء: العذاب بالحاصب، و قيل: إنّه كان بحجارة محماة يقع على كلّ واحد منهم و ينفذ من الجانب الآخر فحينئذ هذا العذاب هو عذاب النار، و الثاني

ص: 184


1- الآية: 77.
2- الآية: 73.

العذاب بالصيحة و هو هواء متموّج فإنّ الصوت قيل: سببه تموّج الهواء و وصوله إلى الغشاء الّذي على منفذ الاذن و هو الصماخ فيقرعه فيحسّ. و الثالث العذاب بالخسف و هو الغمر في التراب و الأرض. و الرابع العذاب بالإغراق، فحصل العذاب بالعناصر الأربعة و الإنسان مركّب منها و بها قوامه و بسببها بقاؤه و دوامه و مع ذلك فإذا أراد اللّه إهلاكه جعل ما منه وجوده سببا لعدمه و ما به بقاؤه سببا لفنائه.

ثمّ قال سبحانه: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» يعني لم يظلمهم اللّه بالهلاك و إنّما هم ظلموا أنفسهم بالإشراك و وضعوا أنفسهم في غير موضع الّذي وضعهم اللّه فإنّ موضعهم الكرامة كما قال سبحانه: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» (1) فظلموا أنفسهم بعبادة غير اللّه و اختاروا الدناءة و الخسّة و العذاب.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 41 الى 45]

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)

المعنى: شبّه اللّه تعالى حال الكفّار الّذين اتّخذوا غيره آلهة بحال العنكبوت أي من اتّخذ الأصنام آلهة و يريدون منها النصر و النفع و يرجعون إليها عند الحاجة [كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ و العنكبوت يذكّر و يؤنّث [اتَّخَذَتْ لنفسها [بَيْتاً] لتأوي إليه فكما أنّ بيت العنكبوت لا يغني عنها شيئا لكونه في غاية الوهن و الضعف كذلك الأصنام لا تغني عنها شيئا و لا يقدر الأصنام أن تدفع عذاب ساعة من عذاب العاجل و الآجل و إنّ حكم آلهتهم كحكم العنكبوت و بيته لا يجير آويا و لا يريح ثاويا لأنّ البيت ينبغي أن يكون له امور: حائط حائل و سقف مظلّ و باب يغلق للحفظ عن البرد و الحرّ و غيرهما فإذا

ص: 185


1- الإسراء: 70.

لم يحصل من البيت هذه الأمور فهو كالبيداء و كذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق و الرزق و النفع و دفع الضرر فإن لم يكن كذلك فهو و المعدوم سواء.

على أنّه أدنى مراتب البيت أنّه إذا لم يكن سبب ثبات و ارتفاق فلا أقلّ من أن لا يكون سبب شتات و افتراق لكن بيت العنكبوت يصير سبب انزعاج العنكبوت فإنّ العنكبوت لو دام بيته في زاوية مدّة و اتّخذ بيتا أتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه و الكنس و يقدم بأمور مؤذية لجسم العنكبوت فكذلك العابد للوثن إن دام على عبادته فذلك يوجب له العذاب الدائم.

و إنّما عبّر سبحانه بقوله: «من دون اللّه أولياء» و لم يقل آلهة إشارة إلى الشرك الخفي و فساده فإنّ من عبد اللّه رياء لغيره فقد اتّخذو ليّا غيره فمثله مثل العنكبوت.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ صحّة ما أخبرناهم، و تقدير الآية: لو علموا أنّ اتّخاذهم الأولياء كاتّخاذ العنكبوت بيتا سخيفا لم يتّخذوهم أولياء.

قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هذا زيادة توكيد على التمثّل أي إنّ اللّه يعلم أنّ ما يدعونه ليس بشي ء و يعلم عبادتهم لغيره و هو قادر على إهلاكهم و حكيم في الأمور يمهلهم للمصلحة و وجه النظم مع الآية السابقة هو أنّه لما مثّل أهل عبادة غير اللّه كمثل العنكبوت و الكافر لو يقول أنا لا أعبد هذه الأوثان الّتي أتّخذها و هي تحت تسخيري و إنّما أعبد صورة كوكب أو شخص أنا تحت تسخيره و منه نفعي و ضرري و خيري و شرّي و وجودي و دوامي فله سجودي و إعظامي فقال: إنّ اللّه يعلم أنّ كلّ ما يعبدون من دون اللّه هو مثل بيت العنكبوت لأنّ الكوكب و الملك و الفلك و كلّ ما عدا اللّه لا ينفع و لا يضرّ إلّا بإذن اللّه فعبادتكم للغائب الّذي بزعمكم هو النافع و تزعمون هذا الحاضر الّذي تعبدونه مثال ذلك الغائب و هيكله و لهذا الهيكل تعلّق بذلك الأصل فكلّ هذه المزعومات مثل العنكبوت و لا يستحقّون العبادة.

قوله: [وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ قال الكافرون: كيف يضرب خالق السّماوات و الأرض الأمثال بالحشرات و الهوامّ مثل البعوض و الذباب

ص: 186

و العنكبوت؟ فيقال: الأمثال تضرب للنّاس و إن لم يكونوا كالبهائم يحصل لكم تدبّرو إدراك و التشبيه يؤثّر في النفس مثل تأثير الدليل فإنّ الحكيم إذا قال لمن يغتاب: إنّك بالغيبة كأنّك تأكل لحم ميّت لأنّك وقعت في هذا الرجل و هو غائب لا يفهم ما تقول و لا يسمع حتّى يجيب كمن يقع في لحم ميّت يأكل منه و الميّت لا يعلم و لا يقدر على دفعه فحينئذ ينفر الإنسان بعد هذا التشبيه من الغيبة، و ما يعقلها و ما يفهم هذه الأمثال إلّا العلماء الّذين عقلوا الطاعة عن المعصية فعمل بالطاعة و اجتنب عن المعصية.

ثمّ بيّن ما يدلّ على الهيته فقال: [خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أخرجهما من العدم إلى الوجود و لم يخلقهما عبثا بل خلقهما ليسكنهما خلقه و ليستدلّوا بهما على إلهيته و وحدانيّته [بِالْحَقِ أي حقيقة على وجه الحكمة و الإتقان و لإظهار الحقّ [إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق و الأمر [لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لأنّهم المنتفعون بذلك و لذلك خصّ المؤمنين بالذكر و إلّا أنّهما آية للمؤمن و الكافر و لمّا لم ينتفع الكافر أضيفت إلى المؤمن.

ثمّ خاطب نبيّه فقال: [اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي اقرأ ما اوحي إليك من القرآن على المكلّفين و اعمل بما تضمّنه [وَ أَقِمِ الصَّلاةَ] أي أدّها بحدودها في مواقيتها [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ].

و في الآية دلالة على أنّ فعل الصلاة لطف للمكلّف في ترك القبيح و المعاصي الّتي ينكرها الشرع و العقل فإذا كان أثرها أنّها تنهى عن القبيح يكون توفيقا. و قيل: إنّ الصّلاة بمنزلة الناهي بالقول إذا قال لا تفعل الفحشاء و المنكر و ذلك لأنّ فيها التكبير و التسبيح و القراءة و الوقوف بين يدي اللّه و غير ذلك من صنوف العبادة و كلّ ذلك يدعو إلى شكله و يصرف عن ضدّه لأن شبيه الشي ء ينجذب إليه فحينئذ يكون مثل الآمر و الناهي و مؤدّ إلى الخير و صارف عن الشرّ الّذي ضدّه.

و قيل: تنهى صاحبها عن الفحشاء و المنكر ما دام فيها كقوله: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» (1) و هذا ضعيف لأنّه ليس مدحا للصّلاة بل النوم كذلك.

و قال ابن عبّاس في الصّلاة منهى و مزدجر عن معاصي اللّه فمن لم تنهه صلاته عن

ص: 187


1- آل عمران: 97.

المعاصي لم يزدد من اللّه إلّا بعدا. و قال الحسن و قتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر فليست صلاته بصلاة و هي و مال عليه. و روى أنس بن مالك الجهنيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من اللّه إلّا بعدا. و روي عن أنس بن مسعود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا صلاة لمن لم يطع الصلاة و طاعة الصلاة أن ينتهي المصلّي عن الفحشاء و المنكر فإذا لم ينته عن المعاصي لم تكن صلاته بالصفة الّتي وصفها اللّه بها فإن تاب من بعد ذلك و ترك المعاصي فقد تبيّن أنّ صلاته كانت نافعة له و ناهية و إن لم ينته إلّا بعد زمان.

و روى أنس أنّ فتى من الأنصار كان يصلّي الصلاة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يرتكب الفواحش فوصف ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ صلاته تنهاه يوما. و عن جابر قال:

قيل لرسول اللّه: إنّ فلانا يصلّي بالنهار و يسرق بالليل فقال: إنّ صلاته لتردعه. و روى أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء و المنكر فبقدر ما منعته قبلت منه. انتهى.

و في المسألة تحقيق آخر و هو أنّ من كان من العقلاء و هو مشتغل بخدمة ملك عظيم الشأن كثير الإحسان في حقّه إذا رأى أنّ عبدا من عبيد ذلك الملك جنى جناية عظيمة بحيث طرده الملك طردا لا يتصوّر قبوله وفاته الخير بحيث لا يرجى حصوله فإذا هذا العبد المتقرّب عند الملك كيف يقرّب في طاعة ذلك المطرود و يخالف مولاه فكذلك المصلّي إذا صلّى و قام بين يدي اللّه و ناجى مولاه فكيف يترك طاعة اللّه و يدخل تحت طاعة الشيطان المطرود.

و هناك مثال آخر و هو أنّ من يباشر القاذورات كالزبّال و الكنّاس يكون له لباس نظيف فإذا لبسه لا يباشر معه القاذورات و كلّما كان ثوبه أرفع و أبهى كان امتناعه عن الخبائث أكثر فكذلك العبد إذا صلّى لبس لباس التقوى فكيف مع هذا اللباس يباشر قاذورات الفحشاء و المنكر؟ ثمّ إنّ الصلوات متكرّره واحدة بعد واحدة فيدوم هذا اللبس فيدوم الامتناع.

و في الآية وجه و تحقيق معقوليّ و هو أنّ المراد من قوله: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ

ص: 188

الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» هو أنّها تنهى عن التعطيل و الإشراك و التعطيل هو إنكار وجود اللّه و الإشراك إثبات الوهيّة لغير اللّه فالتعطيل عقيدة فحشاء لأنّ الفاحش هو القبيح الظاهر القبح لكن وجود اللّه أظهر من الشمس و الإشراك منكر و ذلك أنّ اللّه لمّا أطلق اسم المنكر على من نسب نفسا إلى غير الولد حيث قال: «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ» (1) فالمشرك الّذي يقول: الملائكة بنات اللّه، و ينسب الولد إلى من لم يلد كيف لا يكون قوله منكرا؟

فالصلاة تنهى عن الفحشاء أي هذه الفحشاء و هذا المنكر و ذلك لأنّ العبد أوّل ما يشرع في الصلاة يقول: «اللّه أكبر» فبقوله «اللّه» ينفي التعطيل و عقيدة الفحشاء و بقوله «أكبر» ينفي التشريك لأنّ الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فإذا قال «بِسْمِ اللَّهِ» نفى التعطيل و إذا قال «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» نفى الإشراك لأنّ الرحمن من يعطي الوجود بالخلق بالرحمة و الرحيم من يعطي البقاء بالرزق بالرحمة فإذا قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» أثبت بقوله «الحمد» خلاف التعطيل و بقوله «رَبِّ الْعالَمِينَ» خلاف الإشراك فإذا قال «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» نفى التعطيل و الإشراك و كذا بقوله «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» فإذا قال «اهْدِنَا الصِّراطَ» نفى التعطيل لأنّ طالب الصراط له مقصد و المعطّل لا مقصد له و «الْمُسْتَقِيمَ» نفى الإشراك لأنّ المستقيم هو الأقرب و المشرك يعبد الأصنام حتّى أنّه يعبد صورة صوّرها إله العالمين و يظنّون أنّهم يشفعون لهم و عبادة اللّه من غير واسطة أقرب و على هذا إلى آخر الصلاة فيقول: «أشهد أن لا إله إلّا اللّه» فينفي الإشراك و التعطيل و الصلاة أوّلها لفظة اللّه و آخرها لفظة اللّه فيقتضي أنّ المصلّي يكون من أوّلها إلى آخرها حاضر القلب مع اللّه و وجب شهادة الرسالة لمحمّد في الصلاة ليعلم المصلّي أنّه إنّما وصل بهذه المنزلة الرفيعة بأن يخاطب و يناجي ربّه بهداية محمّد صلّى اللّه عليه و آله فلا بدّ أن يذكر إحسان محمّد بالصلاة عليه.

ثمّ إنّ المصلّي إذا رجع من سفر معراجه يسلم أوّلا على نبيّه الّذي به نال هذه المرتبة ثمّ يسلّم على إخوانه المؤمنين. و اعلم أنّ الصلاة هيئة فيها هيبة فإنّ أوّلها وقوف العبد المملوك بين يدي مولاه و آخرها جثوّ كما يجثو بين يدي السلطان كمن

ص: 189


1- المجادلة: 2.

أكرمه السلطان بالشرافة في الجلوس لأنّ العبد بالوقوف في الصلاة و الثناء على اللّه يتكرّم عند اللّه بهذه العبادة فيشرّف بالجلوس ما جلسه و جثا.

و بالجملة [وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ أي و ذكر اللّه إيّاكم برحمته أكبر من ذكركم إيّاه بطاعته عن ابن عبّاس و سلمان و ابن مسعود و جماعة و قيل: ذكر العبد ربّه أفضل و أكبر من سائر أعماله الصالحة و يمكن أن يكون معناه إنّ أكبر شي ء للنهي عن الفحشاء ذكر العبد ربّه فإنّه أقوى لطف يدعو إلى الطاعة و ترك المعصية و هو أكبر من كلّ لطف أي من كان ذاكرا للّه فيجب أن ينهاه ذكره عن الفحشاء و المنكر.

و روى ثابت البنانيّ قال: إنّ رجلا أعتق أربع رقاب فقال رجل آخر و هو فقير:

سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر ثمّ دخل المسجد فأتى حبيب بن أو في السلميّ و أصحابه فقال: ما تقولون في رجل أعتق أربع رقاب و إنّي أقول: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر فأيّهما أفضل؟ فنظروا هنيئة فقالوا: ما نعلم شيئا أكبر و أفضل من ذكر اللّه. و عن معاذ بن جبل قال: ما عمل آدميّ عملا أنجا له من عذاب اللّه من ذكر اللّه عزّوجل قيل: و لا الجهاد في سبيل اللّه؟ قال: و لا الجهاد في سبيل اللّه فإنّ اللّه يقول:

«وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» و عنه: قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أي الأعمال أحبّ إلى اللّه؟

قال: أن تموت و لسانك رطب عن ذكر اللّه و قال: يا معاذ إنّ السابقين الّذين يسهرون و يذكرون اللّه عزّ و جلّ و من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر ذكر اللّه.

و روي عن عطاء بن السائب عن عبد اللّه بن ربيعة عن ابن عبّاس قال: قال عبد اللّه بن عبّاس: أ رأيت قول اللّه: «وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» قال: ذكر اللّه بالقرآن حسن و ذكره بالصلاة حسن و بالتسبيح و التكبير حسن و أحسن من ذلك أن يذكر الرجل ربّه عند المعصية فينحجز عنها فقال ابن عبّاس: لقد قلت قولا عجيبا و أمّا هو كما قلت و لكن ذكر اللّه إيّاكم أكبر من ذكركم إيّاه.

هذا كلّه إذا كان اللفظ بمعنى التفضيل و أمّا إذا كان بمعنى الوصف فمعناه أنّ ذكر اللّه له الكبر لا لغيره كما يقال في الصلاة: اللّه أكبر أي له الكبر لا لغيره، و لعلّ في ترك ذكر المفضّل عليه هذه النكتة و هي أنّه لا يقال: الجبل أكبر من الخردلة و إنّما يقال هذا الجبل

ص: 190

أكبر من ذلك الجبل إذ كلّ كبير و عظيم بالنسبة إلى كبريائه أصغر من الخردلة.

قوله: [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ عالم بصنائعكم من التلاوة و الصلاة و الذكر و جميع ما أنتم صانعون.

قوله: [سورة العنكبوت (29): آية 46]

وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

لمّا بيّن في الآية السابقة طريقة الدعاء و الذكر شرح في هذه الآية طريقة دعوة أهل الكتاب و إرشادهم فقال:

و لا تجادلوهم بالسيف و الخشونة و جادلوهم بالحجّة و الرفق و اللينة لحصول الخير و النفع بها و المراد من أهل الكتاب قيل: نصارى نجران، و قيل: اليهود و النصارى و في الآية دلالة على وجوب استعمال القول الجميل في التنبيه على آيات اللّه.

[إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي إلّا من أبي أن يقرّ بالجزية منهم و نصب الحرب فجادلوا هؤلاء بالسيف حتّى يسلموا أو يعطوا الجزية. و قيل: معنى «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» بالعناد و كتمان صفة بعد العلم به. و قيل: إلّا الّذين ظلموا منهم بالإقامة على الكفر بعد قيام الحجّة. و الأولى أن يكون معناه إلّا الّذين ظلموك في جدالهم أو في غيره ممّا يقتضي الإغلاظ لهم فيجوز أن يسلكوا معهم طريقة الغلظة و قيل: الآية منسوخه بآية السيف و الصحيح أنّها غير منسوخة لأنّ الجدال على الوجه الأحسن هو الواجب الّذي لا يجوز غيره.

[وَ قُولُوا] لهم في المجادلة و الدعوة: [آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي آمنّا بالكتاب الّذي انزل إلينا و بالكتاب الّذي انزل إليكم [وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ] لا شريك له [وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ و طائعون.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 47 الى 50]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

ص: 191

[وَ كَذلِكَ أي و مثل ما أنزلنا الكتاب على موسى و عيسى [أَنْزَلْنا] عليك القرآن [فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي علم الكتاب [يُؤْمِنُونَ بِهِ بالقرآن.

و قيل: المراد مؤمني أهل الكتاب مثل عبد اللّه بن سلام و نظرائه.

و قيل: الضمير في «به» راجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [وَ مِنْ هؤُلاءِ] يعني كفّار مكّة [مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي من أسلم منهم و يحتمل أن هو يريد بقوله: «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» المسلمين و الكتاب القرآن، وَ «مِنْ هؤُلاءِ» يعني و من اليهود و النصارى من يؤمن به [وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ أي و ما ينكر دلائلنا و آياتنا الشاهدة على توحيدنا إلّا الكافرون، القميّ ما يجحد بأمير المؤمنين و الأئمّة إلّا الكافرون.

ثمّ خاطب نبيّه: [وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ أي و ما كنت يا محمّد تقرأ قبل القرآن كتابا أي إنّك لم تكن تحسن القراءة قبل أن يوحي إليك بالقرآن [وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أي و ما كنت أيضا تكتبه بيدك أي و لو كنت تقرأ كتابا أو تكتبه لوجد المبطلون طريقا إلى اكتساب الشكّ و المناقشة في أمرك و إلقاء الريبة لضعفة الناس في نبوّتك و لقالوا: إنّما تقرء علينا ما جمعته من كتب الأوّلين فلمّا ساويتهم في المولد و المنشأ ثمّ آتيتهم بما عجزوا عنه وجب أن يعلموا أنّه من عند اللّه و ليس من عندك.

قال الشريف المرتضى علم الهدى قدّس اللّه روحه: هذه الآية تدلّ على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا بعد النبوّة فالّذي نعتقده في ذلك التجويز يكونه عالما بالكتابة و القراءة و بكونه غير عالم بالقراءة و الكتابة من غير قطع على أحد الأمر بن و ظاهر الآية يقتضي أنّ النفي قد تعلّق بما قبل النبوّة فأمّا ما بعد النبوّة فلا تعلّق له بالريبة و التهمة فيجوز أن يكون قد تعلّم من جبرئيل بعد النبوّة.

ثمّ قال سبحانه: [بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ في الكافي عن الباقر عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية فأومأ عليه السّلام إلى صدره و في حديث آخر و إيّانا عنى

ص: 192

و نحن. و قوله تعالى: «بَلْ هُوَ» يعني أنّ القرآن دلالات واضحات في صدور العلماء و هم النبيّ و الأئمة و المؤمنون حيث إنّ المؤمنين حفظوه و وعوه و رسخ في قلوبهم، و قيل: هم الأئمّة من آل محمّد خاصّة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

قوله: [وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ الّذين ظلموا أنفسهم بترك النظر فيها و العناد لها و قيل: المراد بالظالمين كفّار اليهود أو كفّار مكّة، أو المراد من الظالمين في الآية المشركون الّذين ظلموا أنفسهم بشرك كما قال اللّه: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» قوله: [وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أوردوا شبهة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنّك تقول: إنّه انزل إليك كتاب كما انزل إلى موسى و عيسى و ليس كذلك لأنّ موسى اوتي تسع آيات و أنت ما أوتيت شيئا منها، فأرشد اللّه نبيّه إلى جوابهم بقوله: «قل» يا محمّد لهم: «إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» ينزلها و يظهرها بحسب ما يعلم من مصالح عباده و ينزل على كلّ نبيّ منها ما هو الأصلح لأمّته و له و لذلك لم تتّفق آيات الأنبياء كلّها و إنّما جاء كلّ نبيّ بفنّ منها.

ثمّ إنّه ليس من شرط الرسالة الآية و المعجزة لأنّ الرسول يرسل أوّلا و يدعو إلى اللّه فإن توقّف الخلق في قبوله أو طلبوا منه دليلا فإن أراد اللّه أنزلها و إن لم يرد لا ينزلها و هذا لأنّ ما هو من ضرورات الشي ء إذا خلق اللّه الشي ء لا بّد أن يخلقها كالمكان من ضرورات الإنسان فلا يخلق اللّه إنسانا إلّا و يكون قد خلق مكانا أو يخلقه معه لكنّ الرّسالة و المعجزة ليستا كذا فاللّه إذا خلق رسولا و جعله رسولا ليس من ضروراته أن تعلم له معجزة نعم لا بدّ أن يثبت رسالته بقول من تثبت رسالته فنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله لا حاجة له إلى معجزة لأنّ رسالته علمت بقول من قبله مثل موسى و عيسى فتبيّن بطلان شبهتهم حيث قالوا: «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ».

«وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» أي منذر مخوّف من معصية اللّه مظهر طريق الحقّ و الباطل و قد فعل اللّه سبحانه ما يشهد بصدقه من المعجزات.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 51 الى 55]

أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

ص: 193

لمّا تقدّم طلبهم للآيات أجابهم فقال:

[أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ يا محمّد القرآن [يُتْلى عَلَيْهِمْ و هذا لأنّ القرآن معجزة أتمّ من كلّ معجزة تقدّمتها لوجوه: أحدها أنّ تلك المعجزات وجدت و ما دامت فإنّ قلب العصا ثعبانا و إحياء الميّت لم يبق لنا منه أثر فلو لم يكن واحد يؤمن بكتب اللّه و يكذّب بوجود هذه الأشياء في غير زمان وقوعها لا يمكن إثباتها معه بدون الكتاب و أمّا القرآن فهو باق لو أنكره واحد فيقال له: فائت بآية من مثله.

ثمّ قال سبحانه: [إِنَّ فِي ذلِكَ أي إنّ في القرآن [لرحمة] أي نعمة عظيمة لأنّ من عمل به نال الثواب و فاز بالجنّة [وَ ذِكْرى مصدر أي تذكيرا و موعظة [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدّقون به، و قيل: إنّ قوما من المسلمين كتبوا شيئا من كتب أهل الكتاب فهدّدهم سبحانه في هذه الآية و نهاهم عنه و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: جئتكم بها بيضاء نقيّة.

[قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً] لي بالصدق و الإبلاغ و قد شهد اللّه سبحانه لي بالنبوّة و الصدق و شهادته له قوله: «محمّد رسول اللّه» و هو في كلام معجز قد ثبت أنّه من اللّه [يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فيعلم أنّي على الهدى و أنّكم على الضلالة.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ و صدّقوا بغير اللّه أو بعبادة الشّيطان [وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ و جحدوا وحدانيّته [أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ خسروا ثواب اللّه بارتكاب الجحود و المعاصي؛ فلو قيل: إنّ من آمن بالباطل فقد كفر باللّه فما الفائدة في العطف؟ الفائدة في العطف التأكيد مثل قوله: قم و لا تقعد و اقرب منّي و لا تبعد، على أنّ ذكر الثاني لبيان قبح الأوّل كقول القائل: أتقول بالباطل و تترك الحقّ؟ لبيان أنّ القول بالباطل قبيح.

قوله: [وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ أي يستعجلونك و يسألونك يا محمّد نزول العذاب عاجلا كما قال النضر بن الحارث: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً

ص: 194

مِنَ السَّماءِ» (1) و لو لا وقت قدّره اللّه تعالى أن يعاقبهم فيه و هو يوم القيامة و أجّل أن يبقيهم إلى ذلك الوقت لضرب من المصلحة لجاءهم العذاب الّذي استحقّوه [وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب فجأة [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت مجيئه.

ثمّ ذكر موعد عذابهم فقال: [يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ و قوله تعالى بالأوّل: «وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ» إخبارا عنهم و في الثاني تعجّب منهم [وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يعني إنّ العذاب و إن لم يأتيهم في الدنيا فإنّ جهنّم لتحيطهم و جامعة لهم و هم معذّبون بها لا محالة.

[يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي النار تغشاهم لا أنّه تصل إلى موضع منهم دون موضع فلا يبقى جزء منهم إلّا و هو معذّب في النار [وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و القائل الملك الموكّل بعذابهم ذوقوا جزاء أعمالكم و أفعالكم القبيحة، و هذا إطلاق اسم المسبّب على السبب.

قوله: [سورة العنكبوت (29): الآيات 56 الى 60]

يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

نزلت الآية في المستضعفين و الصعاليك بمكّة؛ أمروا بالهجرة و نزل قوله: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ» الآية، في جماعة كانوا بمكّة يؤذيهم المشركون فأمروا بالهجرة إلى المدينة فقالوا: كيف نخرج إليها و ليس لنا بها دار و لا عقار و من يطعمنا و من يسقينا.

و الحاصل بيّن اللّه سبحانه أنّه لا عذر للعباد في ترك طاعته فقال:

[يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ أي إن تعذّرت العبادة عليكم في بعض البلاد فهاجروا إلى غيرها. و بهذا علم أنّ السكنى في دار لا يمكن العبادة للّه و الكون على الإسلام حرام و الخروج منها واجب.

ص: 195


1- الأنفال: 32.

ثمّ خوّفهم بالموت ليهوّن عليهم الهجرة فقال سبحانه: [كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ يعني كلّ نفس أحياها اللّه بحياة خلقها فيه ذائقة مرارة الموت بأيّ أرض كانت فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت في غيرها [ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ بعد الموت.

ثمّ ذكر سبحانه ثواب من حفظ إيمانه و هاجر فقال: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني المؤمنين المهاجرين [لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي لننزلنّهم [مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً] أي أماكن عاليات و غرف الدرّ و الزبرجد و الياقوت [تَجْرِي من تحت تلك الغرف [الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها] مؤبّدين ببقاء اللّه [نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أجورهم للّه تلك الغرف كما أنّ بئس للكافرين تغشى الكافرين من فوقهم و من تحت أرجلهم.

ثمّ وصف المؤمنين فقال: [الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لم يتركوا دينهم لشدّة تنالهم و أذى يلحقهم و صبروا في مشقّة الطاعات و هم متوكّلون على اللّه في مهمّات أمورهم و مهاجرة دورهم.

قوله تعالى: [وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا] لمّا ذكر سبحانه حال المتوكّلين أي و كم من دابّة لا يكون رزقها مدّخرا معدّا و مع ذلك فاللّه يرزقها و هي لا تدخّر القوت لغدها إلّا قليلا من الدوابّ كالنملة و الفارة و ابن آدم و باقي الحيوانات تأكل بقدر كفايتها فقط.

«و كأيّن» إذا كانت بمعنى «كم» لا تستعمل مع «من» إلّا نادرا و في «كأيّن» لغات: كائن على وزن راع و على أوزان آخر و هي مركّبة من كاف التشبيه و أيّ الّتي تستعمل استعمال «من» و «ما» ركّبتا و جعل المركّب بمعني «كم» و لم تكتب إلّا بالنون للفرق بين «كأيّن» بمعنى «كم» الّتي هي المركّبة و بين «كايّ» الّتي ليست مركّبة و الّتي غير مركّبة لا يجوز إدخال من بعدها.

و بالجملة فمعنى الآية على هذا البيان أنّ الحيوان مع عدم إدراكها الكلّيّ إذا كان لا يدّخر شيئا لقوتها فالإنسان المتوكّل العارف أولى بأن لا يحرص و يدّخر فكما أنّ اللّه يرزقه كذلك يرزقكم فتوكّلوا.

فإن قال قائل: من يقول بأنّ اللّه يرزق الدوابّ من النبات في الصحراء ينبت

ص: 196

يسعى إليه و يرعى.

فالجواب بأنّ اللّه يرزقها من ثلاثة أوجه: نظرا إلى الرزق و إلى المرتزق و إلى مجموع الرزق و المرتزق أمّا بالنظر إلى الرزق فلأنّ اللّه لو لم يخلق النبات لم يكن للحيوان رزق و أمّا بالنظر إلى المرتزق فلأنّ الاغتذاء ليس بمجرّد الابتلاع بل لا بدّ من تشبّثه بالأعضاء حتّى يصير الحشيش عظما و لحما و دما و ما ذاك إلّا بحكمة اللّه تعالى حيث خلق فيه جاذبة و ما سكة و هاضمة و دافعة و غيرها من القوى و ذلك لمحض قدرة اللّه فهو الّذي يرزقها و أمّا بالنظر إلى المرتزق و الرزق فلأنّ اللّه لو لم يهد الحيوان إلى الغذاء ليعرفه من الشمّ ما كان يحصل له الغذاء ألا ترى أنّ من الحيوان ما لا يعرف نوعا من أنواع الغذاء حتّى يوضع في فمه بالشدّة ليذوق فيأكله بعد ذلك فإنّ كثيرا ما يكون البعير لا يعرف الخمير و لا الشعير حتّى يلقم مرّتين أو ثلاثا فيعرفه فيأكله بعد ذلك.

فإن قيل: كيف يصحّ قياس الإنسان على الحيوان فيما يوجب التوكّل و الحيوان رزقه لا يتعرّض إليه إذا أكل منه اليوم شيئا و ترك بقيّة يجدها غدا ما مدّ إليه أحد يدا و الإنسان إن لم يأخذ اليوم لا يبقى له غدا شيئا. و أيضا حاجات الإنسان كثيرة فإنّه يحتاج إلى أجناس اللباس و أنواع الأطعمة و ليس كذلك الحيوان، و أيضا قوت الحيوان مهيّأ و قوت الإنسان يحتاج إلى تكلّف كالزرع و الحصاد و الطحن و الخبز فلو لم يجمعه قبل الحاجة و يهيّأه ما كان يجده وقت الحاجة.

فالجواب أنّه إذا كان حاجات الإنسان كثيرة فمكاسبه أيضا كثيرة فإنّه يكتسب بيده كالخيّاط و النسّاج و برجله كالساعي و بعينه كالناطور و بلسانه كالحادي و المنادي و بفهمه كالمهندس و التاجر و بعلمه كالفقيه و الطبيب ثمّ الأكمل من الكلّ الإدراك الكلّيّ و الحيوان ليس له شي ء من هذه الأمور فالإنسان مع هذه الأسباب أولى بالتوكّل ثمّ إنّ اللّه ملّك الإنسان عمائر الدنيا و جعلها تدخل في ملكه شاء أم أبى حتّى أنّ نتاج الأنعام و ثمار الأشجار تدخل في ملكه و إن لم يرده مالك الأنعام و الأشجار و إذا مات قرن ينتقل ذلك إلى قرن آخر شاءوا أم أبوا و ليس كذلك الحيوان أصلا فإذا الإنسان لو توكّل أقرب للعقل.

ص: 197

و قيل: معنى قوله تعالى: «لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» أي لا تطيق حمل رزقها لضعفها «اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ» يرزق تلك الدابّة الضعيفة الّتي لا تقدر على حمل رزقها و يرزقكم أيضا فلا تتركوا الهجرة بهذا السبب من خوف الفقر.

و عن عطا و غيره عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى دخل بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط التمر و يأكل فقال: يا ابن عمر مالك لا تأكل؟ فقلت: لا أشتهيه يا رسول اللّه قال: لكنّي أشتهيه و هذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما و لو شئت لدعوت ربّي فأعطاني مثل ملك كسرى و قيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت مع قوم يخبؤون رزق سنتهم لضعف اليقين؟ فو اللّه ما برحنا حتّى نزلت الآية «وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ».

[وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم عند مفارقة أوطانكم [الْعَلِيمُ بأحوالكم.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 61 الى 69]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (62) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)

لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

المعنى: عجّب نبيّه و المؤمنين من إيمان المشركين بالباطل مع اعترافهم بأنّ اللّه هو الخالق الفاعل فقال:

[وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمّد هؤلاء المشركين [مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أخرجهما من العدم إلى الوجود و ذلّل الشمس و القمر و سيّرهما في دورانهما على طريقة واحدة لا تختلف [لَيَقُولُنَ في جواب ذلك [اللَّهُ الخالق لذلك لأنّهم كانوا يقولون بحدوث

ص: 198

العالم و النشأة الاولى [فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يقلّبون الأمر و يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره من أشياء الّتي لا تضرّ و لا تنفع.

و إنّما ذكر سبحانه أمرين: أحدهما خلق السماوات و الأرض و الآخر تسخير الشمس و القمر لأنّ الإيجاد قد يكون للذوات و قد يكون للصفات فخلق السماوات و الأرض إشارة إلى إيجاد الذوات، و تسخير الشمس و القمر إشارة إلى إيجاد الصفات و هي الحركة فذكر من القبيلين.

قوله تعالى: [اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي الخلق و الرزق له و هو وليّ الإحسان يبسط لمن يكون صلاحه البسط [وَ يَقْدِرُ] لمن يكون صلاحه القبض فكيف يعبدون غير اللّه! و إنّما خصّ الذكر ببيان الرزق لئلا يتخلّف أهل الهجرة خوف العيلة [إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يعلم مصالح عباده فيرزقهم بحسب المصلحة.

[وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ يا محمّد عند ذلك: [الْحَمْدُ لِلَّهِ على كمال قدرته و تمام نعمته و بيّن سبب الرزق.

ثمّ قال: [بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ توحيد ربّهم مع إقرارهم بأنّه خالق الأشياء و منزّل المطر من السّماء لأنّهم لا يتدبّرون و عن الطريق المفضي إلى الحقّ يعدلون فلذلك لا يعقلون.

[وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ و الفرق بين اللهو و اللعب أنّ المقبل على الباطل لاعب و المعرض عن الحقّ لاه فقال: «وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا» لأنّها تزول كما يزول اللهو و اللعب فيستمتع الإنسان مدّة ثمّ تنصرم و تنقطع و يبقى و بالها.

[وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ] أي الجنّة [لَهِيَ الْحَيَوانُ أي الحياة على الحقيقة لأنّها الدائمة الّتي لا زوال و لا موت فيها أي دار الآخرة ذات الحياة [لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الفرق بين الزائل و الثابت و لو علموا لرغبوا في الباقي و زهدوا في الفاني.

قوله تعالى: [فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ثمّ أخبر اللّه عن حال المقبلين إلى الدّنيا المعرضين عن عبادة اللّه فقال: إنّهم إذا ركبوا في البحر و هاجت به الريح و تلاطمت به الأمواج و خافوا الهلاك

ص: 199

أخلصوا الدعاء للّه مستيقنين أنّه لا يكشف السوء إلّا هو و تركوا شركاءهم فلم يطلبوا منهم إنجاءهم فلمّا نجّاهم إلى البرّ و خلصهم من الهلاك و أمنوا منه عادوا إلى ما كانوا عليه.

[لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إن جعلت اللام للأمر فمعناه التهديد أي ليجحدوا نعم اللّه في إنجائه إيّاهم و ليتمتّعوا بباقي عمرهم «فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، و إن جعلتها لام كي فالمعنى: إنّهم يشركون ليكفرون نعمة الإنجاء و سائر النعم.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وجه تعلّق الآية بما قبلها هو أنّ المراد من الآية أنّكم في أخوف ما كنتم في لجّة البحر دعوتم اللّه على سبيل الإخلاص و في آمن مكان حصل لكم في بيوتكم كفرتم به و رجعتم إلى التوجّه بالأصنام و الحالة أنّ حال الأمن و حصول نعمته أولى بأن تتوجّهون إلى اللّه و تعبدونه.

«أَ وَ لَمْ يَرَوْا» أي أولم يعلم هؤلاء الكفّار «أَنَّا جَعَلْنا» مسكنهم «حَرَماً آمِناً» يأمنون فيه من القتل و الغارة يقتل بعضهم بعضا في ما حولهم من ذئاب العرب و الحالة أنّهم آمنون و لا يصيبهم أذى و هم يبدلون هذه النعمة بالكفران.

ثمّ قال مهدّدا لهم: [أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ .

ثمّ قال: [وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] أي لا ظالم أظلم ممّن أضاف إلى اللّه ما لم يقله من عبادة الأصنام و ما لا يرضاه من أمورهم [أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ بالقرآن.

و قيل: بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله [لَمَّا جاءَهُ الضمير راجع إلى المكذّب [أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ استفهام تقريريّ أي أما لهؤلاء الكفّار المكذّبين مثوى و مقام في جهنّم أي إنجاز هذا الوعيد واجب لهم لأنّ من يكذّب صادقا لا يجوز عليه الكذب أظلم الظالمين فإنّهم قبلوا المتّخذ من خشب منحوت بالإلهيّة و لم يقبلوا ذا حسب منعوت رفيع مبعوث بالرسالة و العجب ممّن يقبل العجل الّذي يساوي قيمته عشرة دراهم بالربوبيّة و لا يقبل موسى بالنبوّة و مثل هذا أظلم من كلّ ظالم و يستحقّ العذاب لا محالة.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ لمّا

ص: 200

فرغ البيان من تقريع الكفّار سلّى سبحانه قلوب المؤمنين أي من جاهد بالطاعة هداه اللّه سبل الجنّة و إنّه مع من أحسن في الطاعة و في معنى المعيّة إشارة زيادة على حسناته كقوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ» (1).

و في الآية معنى حكميّ و هو أي إنّ الّذين نظروا في آياتنا و دلائلنا يحصل فيهم الهداية و العلم كما قال المتكلّمون: إنّ النظر كالشرط للعلم الاستدلاليّ و اللّه يخلق في الناظر علما عقيب نظره، و وافقهم الفلاسفة على هذا المعنى و قالوا: النظر معدّ للنفس لقبول الصورة المعقولة و إذا استعدّت النفس حصل لها العلم من فيض واهب الصور الجسمانيّة و العقليّة فإذا إذا لم ينظروا و لم يجتهدوا لم يهتدوا فالهداية تشمل الّذين يتّقون التعصّب و المخالفة فينظرون فيهتدون.

و قوله: «إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأنّه قد تقسّم الناس ثلاثة أقسام: منهم من يكون بعيدا لا يتقرّب للهداية و هم الكفّار، و منهم من يتقرّب بالسلوك و النظر فيهديهم اللّه و يقرّبهم، و منهم من يكون اللّه معه و يستعلم الأشياء من اللّه و لا يعلمه من النظر و الأشياء و درجته فوق درجة الاستدلال و النظر و صعد عن هذه الدرجة إلى أعلى منها فقوله:

«وَ الَّذِينَ جاهَدُوا» إشارة إلى الثاني من الأقسام و قوله: «وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» إشارة إلى الثالث و اللّه أعلم بأسرار كتابه.

تمّت السّورة

ص: 201


1- يونس: 26.

سورة الروم

اشارة

(مكية الا آية «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ») عن ابيّ بن كعب قال: و من قرأها كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ ملك سبّح للّه ما بين السّماء و الأرض.

ص: 202

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الروم (30): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)

بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)

و قد ذكرنا في سورة البقرة مفتتحات بعض السورة و بيانها في الجملة، و قد قيل:

أيضا إنّ هذه الحروف الّتي في أوائل السور لا يعلم تفسيرها إلّا من انزل عليه لتنبّه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع لأنّ ما بعدها في الأغلب إخبار عن امور سيأتي و هو إخبار بالغيب و معجزة.

و وجه تعلّق هذه السورة بما قبلها أنّ في السورة المتقدّمة قال اللّه و أمر نبيّه بقوله: «وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» و كان صلّى اللّه عليه و آله يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل و عنادهم.

و كان أهل الكتاب يوافقون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الإله كما قال: «وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ» (1) و كانوا يؤمنون ببعض ما يقوله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و شرذمة منهم آمنوا به كما قال سبحانه: «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» (2) فأبغض المشركون أهل الكتاب و تركوا مراجعتهم و كانوا من قبل يراجعونهم في الأمور فلمّا وقعت الكرّة على الروم حتّى قاتلهم الفرس و هم المجوس فرح المشركون بذلك لغلبة الفرس أهل الكتاب فأنزل اللّه هذه الآيات لبيان أنّ الغلبة لا تدلّ على الحقّ و كان ذلك على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 203


1- العنكبوت: 46.
2- العنكبوت: 47.

و ساء ذلك المسلمين و كان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين فدفعهم فارس عنه [فِي أَدْنَى الْأَرْضِ و بيت المقدس قريب بأرض العرب.

قوله تعالى: [وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ «و هم» يعني الروم من بعد مغلوبيّتهم من فارس يصيرون غالبين على فارس في بضع سنين بين مدّة أقلّ من عشرة و لا أنقص من سبع سنة يقع هذا الأمر.

و في هذه الآية دلالة على أنّ القرآن من عند اللّه لأنّ إنباء ما سيكون لا يعلم به إلّا اللّه و قد وقعت بعد السنة التاسعة عام الحديبيّة.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: إنّ لها تأويلا لا يعلمها إلا اللّه و الراسخون في العلم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله؛ إنّ رسول اللّه لمّا هاجر إلى المدينة و أظهر الإسلام كتب إلى ملك الروم كتابا و بعث به مع رسول يدعوه إلى الإسلام و كتب إلى ملك فارس كتابا يدعوه إلى الإسلام و بعثه إليه مع رسوله فأتى ملك الروم فعظّم كتاب رسول اللّه و أكرم رسوله و أمّا ملك فارس فإنّه استخفّ بكتاب رسول اللّه و مزّقه و استخفّ برسوله و كان ملك الروم يومئذ يقاتل ملك فارس و كان المسلمون يهوون أن يغلب ملك الروم ملك فارس فلمّا غلب ملك فارس ملك الروم كره ذلك المسلمون و اغتمّوا به فأنزل اللّه بذلك الآية. و المراد بأدنى الأرض الشامات و ما حولها «وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» و المراد يغلبهم المسلمون «فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ» قال: فلمّا غزا المسلمون فارس و افتتحوها فرح المسلمون بنصر اللّه.

قيل: أليس اللّه يقول: «فِي بِضْعِ سِنِينَ» و قد مضى للمؤمنين سنون كثيرة مع رسول اللّه و في إمارة أبي بكر و إنّما غلب المؤمنون فارس في إمارة عمر فقال: ألم أفل لك إنّ لهذا تأويلا و تفسيرا و القرآن ناسخ و منسوخ أما تسمع لقول اللّه: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ» يعني إليه المشيّة أن يؤخّر ما قدّم و يقدّم ما أخّر في القول إلى يوم تحتّم القضاء بنزول النصر فيه على المؤمنين و ذلك قوله: «وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» أي يوم تحتّم القضاء.

ص: 204

و في تأويل هذه الآية قول آخر: و هو على قراءة «غلبت» بفتح الغين على المعلوم و في «سيغلبون» على المجهول بضمّ حرف المضارعة و فتح اللّام و هذا البيان و القول لابن ميثم قال: لقد روينا من طريق علماء أهل البيت في أسرارهم و علومهم الّتي خرجت منهم إلى علماء شيعتهم أنّ قوما ينسبون من قريش و ليسوا من قريش بحقيقة النسب و هذا ممّا لا يعرفه إلّا معدن النبوّة و ورثة علم الرسالة و ذلك مثل بني اميّة أنّهم ليسوا من قريش و إنّ أصلهم من الروم و فيهم تأويل الآية «الم* غُلِبَتِ الرُّومُ» فمعناه أنّهم غلبوا على الملك و سيغلبهم على ذلك بنو العبّاس.

و بالجملة فالبيان الأوّل في خصوص السنة التاسعة عام الحديبية من غلبة الروم على الفرس يكون تفسير ظاهر الآية و هذه الرواية يكون تأويل الآية.

و تمام القصّة عن الزهريّ قال: كان المشركون يجادلون المسلمين بمكّة يقولون:

إنّ الروم أهل كتاب و قد غلبهم الفرس و أنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الّذي انزل إليكم إلى نبيّكم فنحن المشركون سنغلبكم كما غلبت فارس الروم فأنزل اللّه الآية إلى قوله: «فِي بِضْعِ سِنِينَ» قال: فأخبرني عبد اللّه بن عتبة بن مسعود أنّ أبا بكر ناحب أي خاطر بعض المشركين قبل أن يحرم القمار على شي ء إن لم تغلب فارس في سبع سنين فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لم فعلت؟ فكلّ ما دون العشرة بضع، فكان ظهور فارس على الروم إلى مدّة تسع سنين ثمّ في العاشرة أظهر اللّه الروم على فارس زمن الحديبية ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب.

و روى أبو عبد اللّه الحافظ بالإسناد عن ابن عبّاس في قوله: «الم* غُلِبَتِ الرُّومُ» قال:

قد غلبت فارس على الروم ثمّ غلبت الروم على فارس و لقى رسول اللّه مشركي العرب و التقت الروم و فارس فنصر اللّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من معه من المسلمين على مشركي العرب و نصر اللّه أهل الكتاب على مشركي العجم في تلك السنة ففرح المسلمون بنصر اللّه إيّاهم و نصر أهل الكتاب على العجم. و سألت أبا سعيد الخدريّ عن ذلك فقال: التقينا مع رسول اللّه و مشركو العرب و التقت الروم و فارس فنصرنا اللّه على مشركي العرب و نصر أهل الكتاب على المجوس ففرحنا بذلك لوقوع النصر لنا و لهم.

ص: 205

و روي أنّ الروم استردّوا بيت المقدس من فارس و أنّ ملك الروم مشى إليه شكرا و بسطت له الرياحين فمشى عليها. و قال الشعبيّ: لم تمض تلك المدّة الّتي عقدها أبو بكر مع ابيّ بن خلف حتّى غلبت الروم فارسا و ربطوا خيولهم بالمدائن و بنوا الروميّة فأخذ أبو بكر الخطر من ورثته و جاء به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتصدّق به.

روي أنّ أبا بكر لمّا أراد الهجرة بأهله تعلّق به ابيّ و أخذ ابنه عبد اللّه بن أبي بكر كفيلا فلمّا أراد أن يخرج ابيّ إلى احد تعلّق به عبد اللّه بن أبي بكر و أخذ منه ابنه كفيلا و خرج ابيّ بن خلّف في احد جرحه رسول اللّه و عاد ابيّ بعد الجراحة إلى مكّة فمات من تلك الجراحة. و جاءت الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لفارس نطحة أو نطحتان ثمّ لا فارس بعدها أبدا و الروم ذات القرون كلّما ذهب قرن خلق قرن إلى آخر الأبد انتهى.

قوله: [بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي يوم يغلب الروم فارسا يكون بنصر اللّه ينصر من يشاء من عباده و هو الغالب في الانتقام من أعدائه الرحيم بمن هو أهل الرحمة و من أناب إليه من خلقه.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): آية 7]

يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)

أي [يَعْلَمُونَ منافع الدنيا و مضارّها و متى يزرعون و متى يحصدون و كيف يبنون و كيف يجمعون المال و هم جهّال بالآخرة فعمروا دنياهم و خربوا آخرتهم، قيل: بلغ من علم أحدهم بدنياه أن يقلّب الدرهم و الدينار على ظهره فيخبرك بوزنه حتّى القيراط و يعلم الزجر و النجوم و حركات الأفلاك و ما يحسن أن يصلّى.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 8 الى 10]

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

ص: 206

ثمّ حثّ سبحانه على التفكّر فيما يدل على توحيده من خلق السماوات و الأرض و في قرون الحالية و الأمم الماضية فقال:

[أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا] عند أنفسهم في حال الخلوة لأنّ الإنسان في تلك الحالة يحضر ذهنه و يتمكّن من التدبّر، و قيل: معنى الآية: أولم يتفكّروا في خلق اللّه أنفسهم فيعلموا، و حذف لدلالة الكلام.

قوله: [ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ أي إلّا لإقامة الحقّ و للدلالة على وجود الصانع و معرفته و إطاعته [وَ أَجَلٍ مُسَمًّى أي لوقت معلوم توفّى فيه كلّ نفس ما كسبت و خلقها في أوقات قدّرها اقتضت المصلحة خلقها فيها.

فلو قيل: كيف يعلم المتفكّر في نفسه أنّ اللّه لم يخلق عبثا؟

فالجواب إذا علم بالنظر في نفسه أنّه محدث مخلوق علم أنّ له محدث قديما قبله و يستكشف من خلقة بدنه و تركيبه بهذه الكيفيّة المخصوصة أنّ خالق هذا التركيب قادر حكيم لا يعادل حكمته و قدرته أحد مثلا خلقهم على أحسن تقويم فخلق للإنسان معدة فيها ينهضم غذاؤه لتقوى به أعضاؤه و لها منفذان: أحدهما لدخول الطعام فيه و الآخر لخروج الطعام منه فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرّة و لا بالرشح و تمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجا صالحا ثمّ يخرج من المنفذ الآخر، و خلق تحت المعدة عروقا دقاقا صلابا كالمصفاة الّتي يصفى بها الشي ء فينزل منها الصافي إلى الكبد و ينصبّ الثفل و الدرديّ إلى معى مخلوق تحت المعدة مستقيم متوجّها إلى الخروج و ما يدخل في الكبد من العروق المذكورة يسمّى الماساريقا بالعبريّة و العبريّة عربيّة مفسودة في الأكثر يقال: لموسى ميثا و للإله إيل، إلى غير ذلك فالماساريقا معناها ما ساء ريق، فاشتمل عليه الكبد و أنضجه نضجا آخر و يكون مع الغذاء المتوجّهة من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقّق و ينذرق في العروق الدقاق المذكورة و في الكبد ثمّ يستغني الكبد عن ذلك الماء فيتميّز عنه ذلك الماء و ينصبّ من جانب جذبة الكبد إلى الكلية و معه دم يسير تغتذي به الكلية

ص: 207

و غيرها ثمّ يخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير ثمّ يتشعّب ذلك النهر الكبير إلى جداول و الجداول إلى سواق و السواقي إلى رواضع و يصل بها إلى جميع البدن و هذه حكمة واحدة جزء من ألف جزء و بهذه كفاية لمن أراد أن يعرف خالقه و حكمته و من يكون كذلك لا بدّ و أن يكون واحدا فاعلا مختارا و إلّا لكان عاجزا عند إرادة شريكه ضدّ ما أراده لأنّ الشريك هل هو قادر على إيجاد أمر هو ضدّ ما أراده شريكه أم لا؟ فإن كان قادرا فالأوّل عاجز و إن لم يقدر فالثاني عاجز و العاجز ناقص لا يصلح للإلهيّة.

فبهذا ثبت التوحيد و المبدء و أمّا المعاد لأنّ الإنسان إذا تفكّر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال و أجزائه مائلة إلى الانحلال فله فناء ضروريّ كأبيه و امّه فلو لم يكن له حياة اخرى لكان خلقه على هذا الوجه للفناء عبثا مع هذه المفاسد الّتي باشرها الإنسان في هذه النشأة فلا بدّ و أن يكون له حياة اخرى و عود آخر للجزاء فثبت المعاد، و مع ذلك.

[وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ و بيوم البعث و القيامة جاحدون و غير معترفين به.

ثمّ نبّههم سبحانه تنبيها آخر فقال: [أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم [كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً] فهلكوا و بادوا فيعتبروا بهم لأنّهم إنّما هلكوا بتكذييبهم و كانوا أقوى منهم [وَ أَثارُوا الْأَرْضَ و قلّبوها و حرثوها [وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها] هؤلاء لأنّهم كانوا أكثر أموالا منكم و أطول أعمارا و أعدادا و حفروا الأنهار مثل دجلة و فرات و غرسوا الأشجار و شيّدوا القصور و بنوا الدور ثمّ انتقلوا إلى القبور و إلى الهلاك و الثبور.

[وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و أتتهم رسلهم بالدلالات الواضحات من عند اللّه، و في الكلام حذف تقديره: فجحدوا الرسل و أشركوا في العبادة فأهلكهم اللّه بالعذاب [فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بأن يهلكهم من غير استحقاق [وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بأن جحدوا و كذّبوا بآيات اللّه.

ص: 208

[ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أي أساءوا إلى نفوسهم الخلّة الّتي يسوء صاحبها إذا أدركها و هي عذاب النار [أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ أي لتكذيبهم و استهزائهم بآيات اللّه و رسله استحقّوا العذاب الدائم.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 11 الى 20]

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)

المعنى: ثمّ أكّد سبحانه بيان الإعادة فقال:

[اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يخلقهم ابتداء ثمّ يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا [ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء.

ثمّ بيّن سبحانه ما يكون وقت الرجوع إليه فقال: [وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أي بيّن إبلاسهم و يأسهم و إفلاسهم و معنى «الإبلاس» يأس مع حيرة و مثّلوا حال المجرم و الإبلاس و غرور إبليس بمثال من يكون في بستان و حوله الملاعب و الملاهي و عنده ما يفتخر به و يباهي فيخبره صادق بمجي ء عدوّ قويّ لا يردّه رادّ و لا يعدّه صادّ إذا جاءه لا يبلغه ريقا و لا يترك له إلى الخلاص طريقا و ينبّهه ذلك المخبر الصادق بسلوك طريق الخلاص ثمّ يقول: له طفل أو مجنون أنّ هذه الشجرة الّتي أنت تحتها لنا من الخواص دفع الأعادي عمّن يكون تحتها فيقبل ذلك الغافل على استيفاء ملادّه معتمدا على الشجرة بقول ذلك الطفل: فيجي ء العدوّ و يحيط به فأوّل ما يريه العدوّ قلع تلك الشجرة فيبقى هذا الغافل

ص: 209

متحيّرا آيسا فكذلك المجرم في دار الدنيا أقبل على استيفاء اللّذّات و أخبره النبيّ الصادق بأنّ اللّه يجزيه و يأتيه عذاب يخزيه فقال له النفس الأمّارة و الشيطان: إنّ هذه الأخشاب و الأحجار الّتي تعبدها دافعة عنك كلّ بأس و شافعة لك عند خمود الحواسّ فاشتغل بما هو غيّه و استمرّ على غيّه حتّى إذا جاءته الطامّة الكبرى فأوّل ما يرى إلقاء الأصنام في النار فلا يجد إلى الخلاص من طريق و يحيق عليه عذاب الحريق فييأس أيّ أياس و يبلس أشدّ إبلاس فيكفرون بأصنامهم حينئذ.

ثمّ قال سبحانه: [وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ و «يوم» ظرف «ليتفرّقون» و «يومئذ» بدل منه. ثمّ بيّن سبحانه أمرا آخر و هو التفرّق بعد الإبلاس و تميّز بينهم و يجعل فريق في الجنّة و فريق في السعير و يتفرّقون أصحاب اليمين عن أصحاب الشمال هؤلاء في أعلا علّيّين و هؤلاء في أسفل السافلين و هو قوله:

[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ يسرّون بكلّ مسرّة و منه كلّ حبرة تتبعها عبرة و إنّما أعاد قوله: «وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ» لأنّها أمر هائل فكرّره تأكيدا للتخويف و لذا اعتاد الخطباء تكرير يوم القيامة في الخطب لتذكير أهواله.

«و الروضة» البستان المتناهي منظرا و طيبا.

و قيل: معنى «يحبرون» أي يكرمون. و قيل: يلذّذون بالسماع.

و عن يحيى بن كثير و الأوزاعيّ أخبرنا أبو الحسن عبيد اللّه بن محمّد بن أحمد البيهقيّ قال: أخبرنا جدّي أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقيّ قال: حدّثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد قال: أخبرنا أبو الحسن عليّ بن بندار قال: حدّثنا جعفر بن محمّد بن الحسن القربانيّ قال: حدّثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقيّ قال: حدّثنا خالد بن زيد بن أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أمامة الباهليّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما من عبد يدخل الجنّة إلّا و يجلس عند رأسه و عند رجليه ثنتان من الحور العين تغنّيانه بأحسن صوت ما سمعه الإنس و الجنّ و ليس بمزمار الشيطان و لكن بتمجيد اللّه و تقديسه.

و عن أبي الدرداء قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يذكّر الإنسان فذكر الجنّة و ما فيها من الأزواج و النعيم و في القوم أعرابيّ فجثا على ركبتيه و قال: يا رسول اللّه أهل في الجنّة

ص: 210

من سماع؟ قال: نعم، يا أعرابيّ إنّ في الجنّة نهرا حافتاه الأبكار من كلّ بيضاء يتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها قطّ فذلك أفضل نعيم الجنّة قال الراوي: سألت أبا الدرداء بم يتغنّين؟ قال: بالتسبيح.

و عن إبراهيم: إنّ في الجنّة لأشجارا عليها أجراس من فضّة فإذا أراد أهل الجنّة السماع بعث اللّه ريحا من تحت العرش فيقع في تلك الأشجار فتحرّك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا.

و عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه: الجنّة مائة درجة ما بين كلّ درجتين منها كما بين السماء و الأرض و الفردوس أعلاها سموّا و أوسطها محلّة و منها تنفجر أنهار الجنّة فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه إنّي رجل حبّب إليّ الصوت فهل في الجنّة صوت حسن؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده إنّ اللّه يوحي إلى شجرة في الجنّة أن أسمعوا عبادي الّذين اشتغلوا بعبادتي و ذكري عن عزف البرابط و المزامير فيرفع صوت لم يسمع الخلائق بمثله قطّ من تسبيح الربّ.

و بالجملة ثمّ أخبر سبحانه بعد حال المؤمنين حال الكافرين فقال: [وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي بدلائلنا و بالقيامة «محضرون» و لفظ الإحضار لا يستعمل إلّا فيما يكره الإنسان يقال: احضر فلان مجلس القضاء إذا جي ء به لما لا يؤثره و منه حضور الوفاة.

ثمّ ذكر سبحانه ما يدرك به النجاة و الجنّة فقال: [فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ* وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ و هذا خبر و المراد به الأمر أي فسبّحوه و نزّهوه عمّا لا يليق به أو ينافي تعظيمه من صفات النقص بأن تصفوه بما لا يليق من الصفات و الأسماء، و الإمساء الدخول في المساء و هو مجي ء ظلام اللّيل و الإصباح نقيضه و هو الدخول في الصباح، و له الثناء و المدح في السماوات و الأرض أي هو المستحقّ لمدح أهلها لإنعامه عليهم، و سبّحوا في العشيّ و حين تدخلون في الظهيرة و هي نصف النهار.

و هاهنا بيان في معنى «سبحان» و لفظه أمّا لفظه «فعلان» اسم للمصدر الّذي هو

ص: 211

التسبيح سمّي التسبيح سبحان و جعل علما له، و أمّا المعنى فقال بعض المفسّرين: المراد منه الصلاة أي صلّوا و قالوا: أشار إلى الصلوات الخمس. و قال بعضهم: أراد به التنزيه أي نزّهوه في هذه الأوقات و إنّما خصّ هذه الأوقات بالذكر و الحمد و إن كان حمده واجبا في جميع الأوقات لكنّ الإنسان ما دام في الدنيا لا يمكن أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لكونه محتاجا إلى امور منها الأكل و الشرب و تحصيل المأكول و المشروب فأشار اللّه إلى أوقات إذا أتى العبد بتسبيح اللّه فيها أدرك الأوّل و الآخر و الأوسط فكأنّه لم يفتر مثل الملائكة الّذين ملازمون للتسبيح على الدوام.

و اعلم أنّ في وضع الصلاة في أوقاتها و ركعاتها و هيآتها حكمة بالغة و قد شرحها العلماء في كتب أسرار الصلاة على القول بأنّ الآية تدلّ على الصلوات الخمس فقوله تعالى: «حِينَ تُمْسُونَ» يقتضي المغرب و العشاء الآخرة و قوله: «وَ حِينَ تُصْبِحُونَ» يقتضي صلاة الصبح «و عشيّا» يقتضي صلاة العصر «وَ حِينَ تُظْهِرُونَ» صلاة الظهر، عن ابن عبّاس و مجاهد. و إذا كان المراد من التسبيح و التحميد مطلق ذكر اللّه فهو حسن في كلّ وقت و في هذه الأوقات المخصوصة أحسن.

و في رواية مسندا إلى رواة العامّة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قال وقت منامه مرّة: «سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر» تكتب له ألف حسنة و من قال خلف كلّ صلاة مكتوبة عشر مرّات: سبحان اللّه و عشر مرّات الحمد للّه و عشر مرّات اللّه أكبر اللّه أكبر ادخل الجنّة.

و اعلم أنّ اللّه له صفات لازمة لا من فعله و صفات ثابتة له من فعله:

فالاولى صفات كمال و جلال و خلافها نقص مثلا إذا أدرك المكلّف بأنّ اللّه لا يجوز أن يخفى عليه شي ء لكونه عالما بكلّ شي ء فقد نزّهه عن الجهل و وصفه بضدّه و إذا عرفه بأنّه سبحانه لا يعجز عن شي ء لكونه قادرا على كلّ شي ء فقد نزّهه عن العجز و إذا بان له أنّه لا يسبقه العدم لاتّصافه بالقدم فقد نزّهه و هكذا فحينئذ إذا قال قائل متحضّرا بقلبه: سبحان اللّه، متنبّها لما يقوله من كونه منزّها له عن كلّ نقص فإتيانه بهذا التسبيح على هذا الوجه من الإجمال يقوم مقام إتيانه به على سبيل التفصيل فكأنّه هذا العبد المسبّح

ص: 212

بهذه الكيفيّة مسبّح طول عمره و مدّة بقائه إذا ثبت على هذه العزيمة فيخلع بخلع الكرامة من ربّه الكريم و كما أنّ العبد ينزّه اللّه في أوّل النهار و آخره و وسطه فإنّ اللّه يطهّره في أوّله و هو دنياه و آخره و هو عقباه و في وسطه و هو حالة كونه في قبره و هو مغناه.

و أمّا الثانية و هو صفات الفعل فالإنسان إذا نظر إلى خلق اللّه السماوات يعلم أنّها نعمة و كرامة و رزق فيقول: الحمد للّه، أو رأى الشمس و يعلم أنّها نعمة و عافية للدنيا فيقول:

الحمد للّه، و كذلك القمر و الماء و كلّ حيوان و نبات فيقول: الحمد للّه، و لو أنّ الإنسان لو حمد اللّه على كلّ شي ء على حدة لا يفي عمره به فإذا استحضر في ذهنه النعم الّتي لا تحصى كما قال: «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» (1) و يقول: الحمد للّه، متنبّها بالنعم فهذا الحمد على وجه الإجمال يقوم منه مقام الحمد على سبيل التفصيل فهذا الحامد بهذا الترتيب مع عزمه على دوام الحمد و ثبوته كالمستغرق في الحمد طول دهره و قد وعد اللّه سبحانه الشاكر الحامد بالزيادة له فهو مستغرق في كرامة اللّه و كذلك المتدبّر في صفات الأفعال فكلّ ما يقع عقله من حقيقته فينبغي أن يقول: اللّه أكبر بما أدركه و أتصوّره بعقلي لأنّ عقلي لا يدرك جميع المدركات و عاجز عن إدراكات لا نهاية لها فإذا أراد أن يقول على سبيل التفصيل: اللّه أكبر من هذا الّذي أدركته من هذا الوجه و أكبر ممّا أدركته من ذلك الوجه طول عمره فلا يفي فيقول على وجه الإجمال: اللّه أكبر من كلّ شي ء من مدركاتي و إليه الإشارة بقوله: العجز عن درك الإدراك إدراك، فهذا خاصّيّة التسبيح و الحمد و به الكفاية.

قوله تعالى: [يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ و في تعلّق الآية بما تقدّم أنّ الإنسان عند الإصباح يخرج من شبه الموت و هو النوم إلى شبه الوجود و هو اليقظة و عند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم.

و اختلف المفسّرون في قوله: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» قيل: يخرج الدجاجة من البيضة و البيضة من الدجاجة و كذلك الحيوان من النطفة و النطفة من الحيوان، و قال بعضهم: المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن أو اليقظان من النائم و النائم من اليقظان.

ص: 213


1- النحل: 18.

[وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ و يحيي الأرض بالنبات بعد جدوبها و كما أحيا الأرض بالنبات كذلك يحييكم و تخرجون من قبوركم أحياء.

[وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق آدم الّذي هو أبوكم و أصلكم من تراب ثمّ خلقكم منه [ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ ذرّيّة [بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ من لحم و دم تنبسطون في الأرض و تنصرفون على ظهرها و تتفرّقون في أطرافها فهلّا دلّكم هذا الأمر على أنّه لا يقدر على ذلك غيره و هو مستحقّ أن يعبد لا غيره.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 21 الى 25]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)

المعنى: قوله: [وَ مِنْ آياتِهِ عطف على ما تقدّم من تنبيه العباد على شواهد القدرة و دلائل التوحيد كإخراج الحيّ من الميّت و إحياء الأرض بعد الإمامة و خلق آدم الّذي هو أصلنا من تراب الّذي هو أبعد الأشياء و العناصر عن درجة الأحياء و ذلك من حيث كيفيّته فإنّ التراب بارد يابس و الحياة بالحرارة و الرطوبة و كذلك من حيث لونه فإنّ التراب كدر و الروح نيّر و من حيث فعله فإنّه ثقيل و الأرواح الّتي بها تحصل لها الحياة خفيفة و من حيث السكون فإنّ التراب بعيد عن الحركة غاية و الحيوان متحرّك يمنة و يسرة و خلفا و قدّ اما فثبت أنّ التراب أبعد من قبول الحياة مادّة عن سائر العناصر لأنّ الماء فيه الصفاء و الرطوبة و الحركة و كلّها على طبع الأرواح و النار أيضا أقرب إلى الحياة لأنّها كالحركة الغريزيّة منضجة جامعة مفرّقة و كذا الهوى أقرب إلى الروح و الحياة لخفّته و لطافته فهو سبحانه بقدرته خلق آدم من أبعد الأشياء عن مرتبة الأحياء

ص: 214

حيّا هو في أعلى المراتب من الأجسام و النبات و الحيوان و كيف لا يكون و هو المسبّح و الحامد للّه و قد شابه هذا الخلق الملائكة المسبّحين فهذه آية من شواهد ربوبيّته و وحدانيّته.

و أيضا [مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها] أي جعل لكم شكلكم أنفسكم و جنسكم أزواجا لأنّ الشكل إلى الشكل أميل و قيل: معناه أنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم «لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» أي لتأتلفوا بها و يستأنس بعضكم بعضا.

[وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً] يريد بين المرأة و زوجها فهما يتوادّان و يتراحمان و يحبّ أحدهما الآخر من غير رحم بينهما و نسب و المودّة تفضي إلى الرحمة فإنّ الزوجة قد تخرج عن محلّ الشهوة بكبر أو مرض و يبقى قيام الزوج بها و بالعكس و ليس ذلك إلّا بجعله سبحانه فيهما [إِنَّ فِي ذلِكَ خلق الأزواج بهذه الكيفيّة المطبوعة [لَآياتٍ لأهل التدبّر و الفكر.

[وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و لمّا بيّن سبحانه دلائل الأنفس ذكر سبحانه دلائل الآفاق و أظهر دلائلها خلق السماوات و الأرض فإنّ بعض الكفّار يقول و يناقش في خلق البشر و غيره أنّه بسبب ما في العناصر من الكيفيّات و لكن لا يقدر أن يقول:

خلق السماوات بسبب امتزاج العناصر، لأنّها ليست من العناصر.

[وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ فإنّ واحدا منهم مع كثرة عددهم لا يشتبه بغيره مع أنّ الغير قد حصل له في الخلقة ما حصل لمثله و كذلك اختلاف الألسنة و اختلاف كلامهم فإنّ عربيّين هما أخوان إذا تكلّما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر حتّى أنّ من يكون محجوبا عنهما لا يبصرهما يقول: هذا صوت فلان و هذا صوت فلان الآخر، و فيه حكمة بالغة و ذلك لأنّ الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحقّ من غيره و العدوّ من الصديق و ذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور و قد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات و أمّا اللّمس و الشمّ و الذوق فلا يفيد هذه الفائدة فلا يقع بها التميّز.

ص: 215

و قيل: المراد اختلاف اللّغات كالعربيّة و الفارسيّة و الروميّة و الأوّل أصحّ.

ثمّ قال: [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ .

ثمّ قال: [وَ مِنْ آياتِهِ الدالّة على توحيده [مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ لمّا ذكر بعض العرضيّات اللّازمة و هو الاختلاف ذكر في هذه الآية الأعراض المفارقة و من جملتها النوم باللّيل و الحركة طلبا للرزق بالنهار و ابتغاء الفضل و المعاش و التقدير: و من آياته منامكم و ابتغاؤكم باللّيل و النهار من فضله [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ذلك فيقبلونه و يتفكّرون في الأدلّة.

[وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] ذكر سبحانه في هذه الآية المرضيّات الّتي في الآفاق فيرى الإنسان من العوارض الآفاقيّة أمطارا هاطلة و بروقا هائلة و كما أنّ في إنزال المطر و إنبات الشجر منافع كذلك في تقدّم البرق و الرعد على المطر منفعة و ذلك لأنّ البرق إذا لاح فالّذي لا يكون تحت كنّ (1) يخاف الابتلاء فيستعدّ له خوفا من الصواعق و طمعا في الغيث و الّذي له زرع و يحتاج إلى الماء أو مصنع أو صهريج فيصلح مجاري الماء و يطمع في السقي و أيضا أهل البوادي و العرب منهم لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللّائحة من جانب دون جانب و البرق فيه آية عظيمة لأنّه يخرج من السحاب و ليس في السحاب إلّا ماء و هواء و خروج النار منهما بحيث تحرق الجبال أمر عظيم.

قالت الفلاسفة: السحاب فيه كثافة فإذا هبّت ريح قويّة تخرّق السحاب بعنف فيحدث صوت الرعد و يخرج منه النار كمساس جسم بجسم بعنف و هذا كما أنّ النار يخرج من وقوع الحديد على الحجر.

فالجواب أنّه هب كما يقولون فهبوب الريح القويّة من الأمور الحادثة الّتي لا بدّ من سبب و ينتهي إلى خالق الأسباب فهو آية على قدرة اللّه كيف ما كان.

قوله تعالى: [فَيُحْيِي بِهِ بذلك الماء [الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] بعد انقطاع الماء الأرض و جدوبها [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي للعقلاء المكلّفين.

ص: 216


1- الكن- بالكسر- الستر.

[وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ بلا دعامة تدعمها و لا علاقة تتعلّق بهما بأمره سبحانه لهما بالقيام كقوله: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ».

و قيل: أي بفعله و إمساكه إلّا أنّ أفعال اللّه يضاف إليه بلفظ الأمر لأنّه أبلغ في الاقتدار و معنى القيام الثبات و الدوام يقال: السوق قائمة.

فإن قيل: إنّها تتحرّك في مكانها كالرحى و لكن اتّفق العقلاء على أنّها في مكانها لا تخرج عن مكانها و هذه آية ظاهرة لأنّ كونهما في الموضع الّذي هما فيه و على الموضع الّذي هما عليه من الأمور الممكنة و كونهما في غير ذلك الموضع جائز فكان يمكن أن يخرجا منه فلمّا لم يخرجا كان ذلك ترجيحا للجائز على غيره و ذلك لا يكون إلّا بتقدير فاعل مختار.

[ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ أي من القبر عن ابن عبّاس، يأمر اللّه سبحانه إسرافيل فينفخ في الصور بعد ما يصوّر الصور في القبور فيخرج الخلائق كلّهم من قبورهم [إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ من الأرض أحياء و عبّر ذلك بالدعاء إذ هو بمنزلة الدعاء و بمنزلة «كُنْ فَيَكُونُ»* في سرعة تأتي ذلك و امتناع التعذّر.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 26 الى 30]

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)

و لمّا ذكر الدلائل الّتي مفادها الحشر و هي الأصل الآخر و التوحيد و هو الأصل الأوّل أشار بأنّ له و ملكه كلّ من في السماوات و كلّ من في الأرض و نفس السماوات و الأرض فكلّ منقادون قانتون مطيعون له طوعا و كرها في الحياة و البقاء و الموت و البعثة

ص: 217

و الخلقة و إن عصوا في العبادة و لو كان له شريك لكان الشريك منازعا له و مماثلا و ما كان يحصل اختصاص الملكيّة من السماوات و الأرض له سبحانه.

[وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي يخلقهم إنشاء و يخترعهم ابتداء ثمّ يعيدهم بعد أن يفنيهم ثمّ أكّد بيان الإعادة بعد الإفناء بقوله: «وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» يعني الإعادة هيّن و سهل عنده كقوله: «اللّه أكبر» يعني اللّه كبير لا يدانيه أحد في كبريائه قال للفرزدق:

إنّ الّذي سمك السماء بنى لنابيتا دعائمه أعزّ و أطول

أي عزيزة طويلة. و قيل: المعنى على صيغة التفضيل و معناه أنّ الإعادة أهون من الإبداء فإذا كان الإبداء سهلا فالإعادة أهون و أسهل، و الهيّن هو ما لا يتعب فيه الفاعل.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي و له الصفات العليا في السماوات و الأرض و هي لا إله إلّا هو وحده لا شريك له و له الوصف العجيب الشأن الّذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه أحد. في توحيد الصدوق عن الصادق عليه السّلام: «و للّه المثل الأعلى» الّذي لا يشبهه شي ء و لا يوصف و لا يتوهّم فذلك المثل الأعلى.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: و أنت المثل الأعلى.

و في رواية قال صلّى اللّه عليه و آله في آخر خطبة: نحن كلمة التقوى و سبيل الهدى و المثل الأعلى. و في زيارة الجامعة الجواديّة عليه السّلام: السلام على أئمّة الهدى و مصابيح الدّجى و أعلام التقى و ذوي النهى و اولي الحجى و كهف الورى و ورثة الأنبياء و المثل الأعلى إلى قوله: «وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى .

قوله: [فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني يصفه به ما فيهما أجمع نطقا و دلالة [وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب على أمره الكامل في قدرته.

ثمّ احتجّ على المشركين فقال: [ضَرَبَ لَكُمْ أيّها المشركون [مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي بيّن ذلك المثل شبها لحالكم و أنفسكم [هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من عبيدكم و إمائكم [مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من المال و الأملاك و النعم أي هل يقدرون أن يشاركونكم

ص: 218

فيها؟ [فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ] أي هل أنتم و عبيدكم و إمائكم فيما أعطيناكم سواء.

[تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي هل تخافون أن يشاركونكم هؤلاء العبيد فيما ترثونه من آبائكم و فيما حصل لكم من أموالكم كما تخافون من أحراركم و ذوي قرابتكم؟

لأنّ الرجل يخاف شريكه الحرّ في المال الّذي يكون بينهما أن ينفرد دونه فيه بأمر و كما يخاف الرجل شريكه في الميراث أن يشاركه لأنّه يحبّ أن ينفرد به فهو يخاف شريكه، و معنى «أنفسكم» أي أمثالكم من الأحرار كقوله: «ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً» (1) أي بأمثالهم.

و حاصل المعنى أنّه كما لا يشارك العبد الحرّ كذلك لا يشارك هذه الأصنام المنحوتة المخلوقة الخالق القادر و كما أنّكم لا ترضون في عبيدكم أن يكونوا شركاءكم في أموالكم فكيف تجعلون لربّكم الّذي خلقكم أن يكون له شركاء في العبادة و هذه الآية نزلت بعد تلبية قريش بهذه التلبية الّتي علّمها إبليس و هي: «لبّيك اللهمّ لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك» فأنزل اللّه هذه الآية ردّا عليهم و إنكارا لقولهم فما تدّعون إلهيّته و تعبدونه لا يملك خردلة و لا يعظّم بالعبادة مثل ذلك العبد الّذي لا يشارككم في المال.

[كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كما ميّزنا و بيّنّا لكم نفصّل الأدلّة و البيان لأهل العقل و التدبّر.

ثمّ قال سبحانه مبيّنا: [بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ في الشرك [بِغَيْرِ عِلْمٍ يعلمونه جاءهم من اللّه أو بيان من رسله بل صرف اتّباع هوى أنفسهم و اقتفاء آبائهم [فَمَنْ يَهْدِي أي من يهدي إلى الثواب و الجنّة [مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ عن ذلك.

و قيل: معناه إنّ اللّه الّذي هو خالقهم و رازقهم و المنعم عليهم مع ما نصب لهم من الأدلّة و ما اهتدوا فمن يهديهم بعد ذلك الضلال عن أبي مسلم و هو من قولهم: أضلّ فلان بعيره يعني ضلّ بعيره عنه و هو كقول الشاعر:

هبوني امرءا منكم أضلّ بعيره له ذمّة إنّ الذمام كبير

ص: 219


1- النور: 12.

و إنّما المعنى ضلّ بعيره عنه [وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم و يدفعون عنهم العذاب إذا حلّ بهم.

ثمّ خاطب نبيّه و المراد جميع المكلّفين و قال: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أقم قصدك و توجّهك للدين و كن معتقدا له و دم على الاستقامة و الخلوص [حَنِيفاً] أي مائلا إلى الدين ثابتا عليه لا ترجع فيه إلى غيره.

[فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها] أي الزم فطرة اللّه و هي التوحيد فإنّ اللّه خلق الناس عليه حيث أخذ منهم العهد في ظهر آدم من ذرّاتهم و سألهم: «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى و قيل: معناه اتّبع من الدين ما دلّك عليه فطرة اللّه و هو ابتداء خلقة الأشياء لأنّه خلقهم و صوّرهم على وجه صانع حكيم يستدلّ بهذه الخلقة على صانعها و الفطرة دلّت على هذا المعنى.

[لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا تغيير لدين اللّه الّذي أمر الناس بالثبات عليه من اصول الدّين و قالوا: إنّ «لا» هاهنا بمعنى النهي أي لا تبدّلوا دين اللّه الّذي أمرتم بالثبات عليه و قيل: المراد به النهي عن الخصاء عن ابن عبّاس و عكرمة.

و يحتمل أن يكون المعنى خلق اللّه الخلق لعبادته و هم كلّهم عبيد و لا خروج للخلق عن العبادة و العبوديّة؛ و هذا البيان يفسد قول من يقول: العبادة لتحصيل الكمال و العبد يكمل بالعبادة فإذا كمل لا يبقى عليه تكليف. و كذلك يفسد قول المشركين: إنّ الناقص لا يصلح لعبادة اللّه و إنّما الإنسان عبد الكواكب و الكواكب عبيد اللّه فنحن نعبد الكواكب و الأصنام، و كذلك يفسد قول النصارى: إنّ عيسى عليه السّلام حلّ اللّه فيه و صار إلها فقال سبحانه: لا تبديل لخلق اللّه الّذي خلقهم له و هو أن يعبدوه خاصّة و لا يشركوا به شيئا.

[ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي ذلك هو الدين المستقيم الّذي لا عوج فيه [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لعدولهم عن النظر و التدبّر.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 31 الى 35]

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)

ص: 220

الإنابة الانقطاع إلى اللّه بالطاعة و منه الناب لأنّه قاطع المعنى أي فأقيموا وجوهكم حالكونكم منقطعين و راجعين إلى اللّه لأنّ مخاطبة النبيّ يدخل فيها الامّة و لذا أتى بلفظ الجمع و الدليل عليه قوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» [وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ] أي إذا أقبلتم عليه فلا تأمنوا فتتركوا عبادته بل خافوه و الزموا التقوى و داوموا على العبادة و إقامة الصلاة.

[وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بعد الإيمان و لا تقصدوا بذلك غير اللّه [مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً] و لا تكونوا من الّذين وقع فيهم الاختلاف في دينهم و صاروا ذوي أديان مختلفة فصار بعضهم يعبدوننا و بعضهم يعبد نارا و بعضهم يعبد شمسا إلى غير ذلك [كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي أهل كلّ ملّة بما عندهم من الدين راضون و مسرورون و معجبون يظنّون أنّهم على حقّ. و قوله: «شيعا» يعنى فرقة فرقة و حزبا حزبا.

قوله تعالى: [وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ أي إذا أصابهم مرض أو فقر أو شدّة دعوا اللّه نادوا ربّهم منقطعين و [مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ من الضرّ، و الضمير في «منه» راجع إلى الضرّ [رَحْمَةً] بأن يعافيهم من المرض أو يعافيهم من الفقر و ينجيهم من الشدّة [إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يعودون إلى عبادة غير اللّه و يقابلوا النعم بالكفران.

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم يفعلون ذلك [لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعم إذ قابلوا النعم بالكفران [فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي انتفعوا بنعيم الدنيا كيف شئتم فسوف تعلمون عاقبة كفركم.

و قيل: إنّ اللام في «ليكفروا» للأمر على سبيل التهديد مثل قوله: «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (1).

قوله: [أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ هذا استفهام

ص: 221


1- العنكبوت: 29.

مستأنف أي بل هل أنزلنا عليهم برهانا و حجّة فيسلّطون بذلك البرهان على ما ذهبوا إليه من الشرك و ذلك البرهان كأنّه ينطق بصحّة شركهم و بكون لهم حجّة في هذا الأمر يعني لا يقدرون على تصحيح ذلك و لا يمكنهم ادّعاء برهان بل صرف الضلالة و الهوى منهم.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 36 الى 40]

وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

المعنى: لمّا تقدّم ذكر المشركين شرح أحوالهم من البطر عند النعمة و البأس عند الشدّة بقوله:

[وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ الآية، أي إذا آتيناهم نعمة من عافية و صحّة جسم أو سعة رزق أو أمن [فَرِحُوا بِها] و سرّوا بتلك الرحمة [وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ و إن أصابهم قحط و بلاء و عقوبة بذنوبهم الّتي قدّموها و سمّي ذلك «سيّئة» توسّعا لكونه جزاء على السيّئة أو لأنّها تسوء بصاحبها [إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ و ييئسون من رحمة اللّه و قوله: «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» على التغليب فإنّ أظهر العمل و أكثره باليدين.

ثمّ نبّههم سبحانه على معرفته و توحيده فقال: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ] و يوسّعه أو لم يعلموا أنّ الكلّ من اللّه فالمحقّق العارف ينبغي أن لا يكون نظره على ما يوجد بل إلى من يوجد و يكون فرحه بمن وصل من لطفه إليه.

فإن قيل: الفرح بالنعمة و الرحمة مأمور به حيث يقول: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» و هاهنا ذمّهم على الفرح بالرحمة فكيف ذلك؟

فالجواب أنّ هناك فرحوا برحمة اللّه من حيث إنّها مضافة إلى اللّه و هاهنا فرحوا بنفس

ص: 222

الرحمة و النعمة حتّى مثلا لو كان المطر من غير اللّه لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من اللّه مثاله كما أنّ الملك لو وضع عند أمير رغيفا على السماط أو أمر الغلمان بأن يحطّوا عنده زبديّة طعام أو دجاجة مشويّة يفرح ذلك الأمير به و لو أعطى الملك فقيرا غير ملتفت إليه رغيفا أو زبديّة طعام فيفرح الفقير أيضا لكن فرح الأمير بكون ذلك من الملك و فرح الفقير بكون ذلك رغيفا و زبديّة.

و بالجملة فهو الّذي يبسط و يضيّق و يقدر على حسب ما يقتضيه مصالح العباد [إِنَّ فِي ذلِكَ في بسط الرزق لقوم و تضييقه لقوم آخرين [لَآياتٍ و دلالات [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ باللّه.

ثمّ خاطب فقال: [فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ و أعط يا محمّد ذوي قرباك حقوقهم الّتي جعلها اللّه لهم من الأخماس عن مجاهد و الواقديّ و روى أبو سعيد الخدريّ و غيره أنّه نزلت هذه الآية في حقّ فاطمة عليها السّلام و لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطى فاطمة فدكا و سلّمه إليها و هو المرويّ عن الصادق و الباقر عليهما السّلام «وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ» يعني و آت المسكين و المسافر المحتاج ما فرض اللّه لهم من مالك، و قيل: إنّه خطاب له صلّى اللّه عليه و آله و لغيره و المراد قرابة الرجل و هو أمر بصلة الرحم و لكن لمّا قال سبحانه:

«فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» ثمّ عطف المسكين و ابن السبيل ففي الآية دلالة في تعظيم حقّ ذي القربى بالنسبة إلى المسكين و ابن السبيل و لو أنّ العطف اقتضى التشريك كما إذا قال الملك: خلّ فلانا يدخل يكون في التعظيم فوق ما إذا قال: خلّ فلانا و فلانا يدخلان، و إلى هذا أشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: «بئس خطيب القوم أنت» حيث قال الرجل: من أطاع اللّه و رسوله فقد اهتدى و من عصاهما فقد غوى و لم يقل و من عصى اللّه و رسوله انتهى.

قوله تعالى: [ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ يمكن أن يكون معناه ذلك خير من غيره و يمكن أن يكون خير في نفسه فيكون بمعنى الوصفيّة لا الأفضليّة و معنى الثاني أولى لعدم الاحتياج إلى الإضمار و لكونه أكثر فائدة لأنّ الخير من الغير قد يكون نازل الدرجة كما يقال: السكوت خير من الكذب و قوله: «لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ» إشارة إلى أنّ الاعتبار بالقصد لا بنفس الفعل فإنّ من أنفق جميع أمواله رياء الناس لا ينال درجة

ص: 223

من يتصدّق برغيف للّه، يريدون بذلك وجه اللّه يعني رضاه و لا يطلبون بها المكافاة من أحد غير اللّه [أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هم الفائزون بالجنّة.

قوله تعالى: [وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ قيل:

في الرباء المذكور في الآية قولان: أحدهما إنّه ربا حلال و هو أن يعطي الرجل العطيّة أو يهدي الهديّة ليثاب و ينتفع أكثر منها فليس فيه أجر و لا وزر، عن ابن عبّاس و طاوس و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و القول الآخر أنّه الربا المحرّم فعلى هذا يكون المعنى «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ» قال الرازيّ: يعني إذا طلب منكم واحدا باثنين ترغبون فيه و تؤتونه و ذلك لا يربو عند اللّه و لكنّ الصدقة تنمو عند اللّه كما أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ الصدقة تقع في يد الرحمن فتربو حتّى تصير مثل الجبل فينبغي أن يكون إقدامكم على الصدقة أكثر.

قوله تعالى: [وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي و ما أعطيتموه أهله على وجه الزكاة تريدون بذلك الإعطاء ثواب اللّه و رضاه و لا تطلبون بها المكافاة و العوض فأهلها هم المضعفون يضاعف لهم الثواب و قيل: المضعفون ذوو الأضعاف في الحسنات. و قيل: معناه هم المضعفون للمال في العاجل و الثواب في الآجل لأنّ اللّه سبحانه جعل الزكاة سببا لزيادة المال؛ في الحديث: إنّ الملك يدعو اللهمّ أعط كلّ منفق خلفا و كلّ ممسك تلفا و منه الحديث: ما نقص مال من صدقة و قال أمير المؤمنين: فرض اللّه تعالى الصلاة تنزيها عن الكبر و الزكاة تسبيبا للرزق و الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق أي لتبيّن إطاعتهم و خلوصهم و صلة الأرحام منماة للعدد.

قوله: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ عاد سبحانه إلى دليل التوحيد أي أنشأكم و أوجدكم [ثُمَّ رَزَقَكُمْ و أعطاكم أنواع النعم [ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد ذلك ليصحّ إيصالكم إلى ما عرّضكم له من الثواب الدائم [ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ليجازيكم على أفعالكم [هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ] أي هل من شركائكم الّتي عبدتموها من دونه تقدر على هذه الأمور فيجوز لذلك توجّه العبادة إليه؟

ص: 224

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن أن يشرك معه في العبادة فقال: [سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ .

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 41 الى 45]

ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)

المعنى: لمّا بيّن أنّ الكفّار يشركون في العبادة غير اللّه أخبر سبحانه أنّ إظهارهم الشرك مورث لظهور الفساد و لو فعل بهم ما يقتضيه قولهم و فعلهم لفسدت السماوات و الأرض كما قال: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» و إلى هذا المعنى أشار بقوله: «لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» فذكر ما أصاب الخلق بسبب ترك التوحيد و ارتكاب المعاصي فقال:

[ظَهَرَ الْفَسادُ] أي ظهر قحط المطر و قلّة النبات [فِي الْبَرِّ] حيث لا يجري نهر و البرّ البوادي و أصل البرّ من البرّ لأنّه يبرّ بصلاح المقام فيه و كذلك البرّ لأنّه يبرّ بصلاحه في الغذاء أتمّ صلاح [وَ الْبَحْرِ] و هو كلّ قرية على شاطئ نهر عظيم فعلى هذا المراد: ظهر الفساد في أهل البوادي و أهل الأمصار و ليس المراد «بالبرّ و البحر» في كلّ برّ و بحر في الدنيا و قال الفرّاء: معناه أجدب البرّ و انقطعت مادّة البحر بذنوبهم و شركهم و بما كسبوا من المعاصي و كان ذلك ليذوقوا الشدّة في العاجل و قيل: «البرّ» ظهر الأرض «و البحر» هو المعروف و قيل: فساد البرّ قتل قابيل هابيل و فساد البحر أخذ السفينة غصبا و قيل: ولاة السوء في البرّ و البحر و قيل: فساد البرّ ما يحصل فيه من المخاوف المانعة من سلوكه و يكون ذلك بخذلان اللّه تعالى لأهله و فساد البحر اضطراب أمره و قيل:

البرّ البرّيّة و البحر الرسف و المواضع الخصبة.

قوله: ليصيبهم و [لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي ليرجعوا عنها في

ص: 225

المستقبل أو ليرجع من يأتي بعدهم عن المعاصي إذا سمع ما صنع بمن سلف من آبائهم.

[قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ قل يا محمّد، «سيروا» ليس بأمر و لكنّه مبالغة في العظة أو أمر على سبيل الاستحباب و روي عن ابن عبّاس أنّه قال: من قرأ القرآن و فهمه سار في الأرض لأنّ فيه أخبار الأمم فتدبّروا كيف صنع بهم من قبل من الملوك العاتية و القرون العاصية كيف أهلكهم اللّه و صارت قصورهم قبورهم و محاضرهم مقابرهم.

ثمّ بيّن العلّة أنّه سبحانه فعل بهم لسوء صنيعهم فقال: [كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ و اعلم أنّ العذاب العاجل لم يختصّ بالمشركين حين يقع و قد يكون العذاب بالفسق و المخالفة كما كان على أهل السبت و غيرهم كما قال سبحانه: «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» (1) بل كان على الصغار و المجانين و لكنّ الأغلب في عذاب الاستيصال بسبب الشرك.

قوله تعالى: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ لمّا نهى الكافر عمّا هو عليه أمر المؤمن بما هو عليه و خاطب النبيّ للتشريف و ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلّف به فإنّ هذا التكليف امر به أشرف الأنبياء كما قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين أي استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى الجنّة [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ أي لا يقدر على ردّه أحد «من اللّه» أي يأتي من اللّه [يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أصله يتصدّعون و يتفرّقون فريق في الجنّة و فريق في السعير.

ثمّ أشار إلى التفرّق بقوله تعالى: [مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي عقوبة كفره عليه لا يعاقب أحد بذنبه [وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي بالعمل الصالح يوطّئون لأنفسهم منازلهم يقال: مهّدت لنفسي خيرا. و هذا توسّع و من أصلح عمله فكأنّه فرش لنفسه في القبر و سوى مضجعه و مثواه.

و روى منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمه فراشه.

ص: 226


1- الأنفال: 25.

قوله: [لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ أي ليجزيهم (متعلّق بيصّدّعون) على قدر استحقاقهم و يزيدهم من فضله و بسبب فضله لأنّه تعالى خلقه و هداه و مكّنه [إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لا يريد كرامتهم جزاء على كفرهم.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 46 الى 50]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (50)

أي و من أفعاله الدالّة على معرفته [أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ كأنّها ناطفات بالبشارة بالخير و المطر و منفعة الزرع و صلاح الأهوية و الأحوال فإنّ الرياح لو لم تهب لظهر الفساد و الوباء و العفونات.

[وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي ليبشّركم بالمطر و هذه المنافع المذكورة و يصيبكم من رحمته بالمطر، و عبّر بالإذاقة لأنّ الإذاقة يقال في القليل و لمّا كان مطلق نعم الدنيا و راحتها بالنسبة إلى نعم الآخرة نزر عبّر سبحانه بالإذاقة [وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ و لمّا أسند الفعل إلى الفلك عقّبه بأمره أي الجري بأمره [وَ لِتَبْتَغُوا] الخير [مِنْ فَضْلِهِ أي ابتغاء الخير لا بدّ و أن يكون من فضله و لا استقلال لشي ء بشي ء [وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعم اللّه.

ثمّ خاطب نبيّه تسلية له فقال: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا] و لم يكن لهم شغل غير شغلك و لم يظهر عليهم غير ما ظهر عليك [فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و أتوا لقومهم دلائل على نبوّتهم فمن كذّبهم أصابهم البوار و من آمن بهم كان لهم الانتصار فكان في قومهم كافر و مؤمن كما في قومك.

[فَانْتَقَمْنا مِنَ الكافرين و نصرنا المؤمنين [وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ و هذه

ص: 227

بشارة للمؤمنين الّذين آمنوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و جاءت الرواية عن امّ الدرداء أنّها قالت:

سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلّا كان حقّا على اللّه أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة ثمّ قرأ صلّى اللّه عليه و آله «و كان حقّا علينا نصر المؤمنين».

ثمّ قال سبحانه: مفسّرا لما أجمله في الآية المتقدّمة: [اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً] فمن شواهد القدرة أنّه سبحانه يهيّئ و يرسل الرياح فتهيج سحابا فتزعج السحاب و يجعل من الهواء اللطيف الّذي يشقّه البقّ بسبب التموّج يصير بحيث يقلع الشجر بل الجبل و هو ليس بذاته كذلك بل بفعل فاعل مختار و يحصل من هبوب الرياح إثارة السحب و يبسط السحب و يبسط السحب مسيرة يوم و أكثر و يجريها إلى أيّ جهة شاء.

[و يجعل السحاب [كِسَفاً] أي قطعا متفرّقة أو متراكبا بعضه على بعض و تغلظ بحيث تغطّي ضوء الشمس [فَتَرَى الْوَدْقَ أي القطر [يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من خلال السحاب [فَإِذا أَصابَ بِهِ أي بذلك الودق [مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ و يفرحون و يبشّر بعضهم بعضا [وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ يعني و إنّهم كانوا من قبل إنزال المطر عليهم قانطين و آيسين من نزول المطر و التكرار في «من قبله» قيل: للتأكيد و قيل: من قبل إنزال المطر و «من قبله» أي قبل إرسال الريح.

[فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ حتّى أنبتت شجرا و مرعى و صارت الأرض خصبة مريعة [بَعْدَ مَوْتِها] بعد أن كانت يابسة مواتا و جعل سبحانه الجدوبة و اليبس للأرض بمنزلة الموت و ظهور النبات فيها بمنزلة الحياة توسّعا.

[إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] أي و هو اللّه ليحي الموتى في الآخره بعد كونهم رفاتا و أمواتا و إنّما عبّر بقوله تعالى: «لَمُحْيِ الْمَوْتى باللام المؤكّدة و باسم الفاعل لأنّ الإنسان إذا قال: إنّ الملك يعطيك لا يفيد ما يفيد قوله: إنّه معطيك لأنّ قوله: معطيك يفيد أنّه أعطاك و هو متّصف بالعطاء و قوله: يعطيك يفيد أنّه سيتّصف به كما في قوله:

«إِنَّكَ مَيِّتٌ» آكد من قوله: «إنّك تموت» و الغرض تحقيق وقوع الإحياء بعد الإماتة.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 51 الى 55]

وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55)

ص: 228

المعنى: ثمّ عاب كافر النعمة فقال:

[وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً] مؤدّية إلى الهلاك للزرع باردة فرأوا النبت و الزرع الّذي كان من أثر رحمة اللّه [مُصْفَرًّا] من البرد بعد الخضرة و قيل: إنّ «الهاء» يعود إلى السحاب أي فرأوا السحاب مصفرّا لأنّه إذا كان مصفرّا لم يكن فيه مطر [لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ أي لصاروا من بعد أن كانوا مستبشرين [يَكْفُرُونَ باللّه و بنعمته و لم يرضوا بقضاء اللّه.

و سمّى النافعة الرياح و الضارّة الريح لأنّ الرياح النافعة تهبّ في أغلب الأوقات ليلا و نهارا و أكثر أفرادا و الريح الضارّ كالسموم أو أمثاله أقلّ أفرادا و أيضا إنّ النافعة لا يكون إلّا رياحا فإنّ ما يهبّ مرّة واحدة لا يصلح الهواء و لا ينشئ السحاب و لا يجري السفن و أمّا الضارّة تقتل بنفحة واحدة كريح السموم و لذلك قال في المضرّة: ريح و في النافعة: رياح.

ثمّ بعد أن علّم رسول اللّه أنواع الأدلّة و أصناف الأمثلة و وعد و أوعد و لم يزدهم دعاؤه إلّا فرارا و أبوه إلّا كفرا و إصرارا قال له: [فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ شبّههم في ترك تدبّرهم فيما يدعوهم إليه النبيّ تارة بالأموات و تارة بالصمّ لأنّهم لا يسمعون إذا أعرضوا عن أدلّتنا ذاهبين إلى الضلال.

[وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي لا تقدر على ردّهم عن العمى و الكفر إذ لم يطلبوا الاستبصار [إن تسمع إلّا من يصدّق بآياتنا] فإنّهم المنتفعون بدعائك [فَهُمْ منقادون [مُسْلِمُونَ لأمرك.

ثمّ أعاد ذكر الأدلّة فقال: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي من نطف و قيل:

معناه خلقكم أطفالا لا تقدرون على البطش و المشي و التصرّفات [ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً] و شبابا [ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً] يعني حال الشيخوخة و الكبر [يَخْلُقُ ما يَشاءُ] من ضعف و قوّة [وَ هُوَ الْعَلِيمُ بما فيه مصالح خلقه [الْقَدِيرُ] على فعله.

ثمّ بيّن حال البعث فقال: [وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ أي يحلف المشركون

ص: 229

[ما لَبِثُوا] في القبور [غَيْرَ ساعَةٍ] أو ما لبثوا في الدنيا «غير ساعة» فإن قيل: كيف يحلفون ما مكثوا «غير ساعة» مع أنّ معارفهم في الآخرة ضروريّة؟ لأنّهم استقلّوا الدنيا لما عاينوا من أمر الآخرة و علموا دوامها فكأنّهم قالوا: ما الدنيا في الآخرة إلّا ساعة أو أنّ ذلك القول منهم: قبل أن تصير معارفهم ضروريّة و قبل أن يعرفوا حقيقة الأمر على حسب الكمال و يكمل عقولهم، عن أبي بكر بن الإخشيد.

و للرازيّ بيان لطيف في الآيتين: هذه الآية و ما بعدها و هو أنّ الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل و يزيد تعجيله و الموعود بوعيد إذا ضرب له أجل يستقلّ المدّة و يطلب تأخيرها فالمجرم إذا حشر و علم أنّ النار مصيره يستقلّ المدّة من اللبث و المؤمن إذا حشر علم أنّ مصيره إلي الجنّة فيستكثر المدّة و ذلك قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ» فطال علينا و صبرنا.

[كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي مثل ذلك الكذب كانوا في دار الدنيا يكذبون و يصرفون جهلهم عن الحقّ في الدارين و من استدلّ بهذه الآية على نفي عذاب القبر مردود لأنّه يجوز أنّهم يريدون لم يلبثوا بعد العذاب إلّا ساعة.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 56 الى 60]

وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

ثمّ أخبر سبحانه عن الّذين آتاهم اللّه العلم بما نصب لهم من الأدلّة الموجبة للعلم.

القميّ: هذه الآية مقدّمة و مؤخّرة و إنّما هو: «و قال الّذين أوتوا العلم و الإيمان في كتاب اللّه لقد لبثتم إلى يوم البعث» و معناه: [وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ في كتاب اللّه و هم الّذين يعلمون كتاب اللّه [وَ الْإِيمانَ من الأنبياء و الملائكة للمجرمين: [لَقَدْ لَبِثْتُمْ إلى يوم

ص: 230

البعث [فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الّذي كنتم تنكرونه في الدنيا [وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن.

[فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر [مَعْذِرَتُهُمْ فلا يمكّنون من الاعتذار و لو اعتذروا لم يقبل عذرهم [وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب الإعتاب؛ استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته و الرجوع إلى الحقّ و المراد أنّ التوبة و الرجوع لا تفيد و العتب من شأنه أن يزيل آثار الجرم و كذلك التوبة و لكن لا يطلب منهم و لا يقبل.

ثمّ قال: [وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ إشارة إلى إزالة الأعذار و بيان أنّه لم يبق من جانب الرسول تقصير و بالغنا في البيان للمكلّفين في هذا القرآن الّذي أنزلناه على نبيّنا من كلّ مثل يدعوهم إلى التوحيد و الإيمان.

[وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ] أي معجزة باهرة ممّا اقترحوها منك [لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أي أصحاب أباطيل و هذا إخبار عن عناد القوم و تكذيبهم بالآيات [كَذلِكَ أي مثل ما أنّ قلوب هؤلاء مطبوعة [يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ توحيد اللّه و لا يعرفون.

[فَاصْبِرْ] يا محمّد على أذى هؤلاء الكفّار و إصرارهم على كفرهم [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ بالعذاب و التنكيل لأعدائك و النصر و التأييد لك و لدينك [وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ أي و لا يحملنّك كفر هؤلاء على الخفّة و القلق و العجلة لشدّة الغضب عليهم لكفرهم بآياتك.

تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 231

سورة لقمان

اشارة

(مكية سوى ثلاث آيات)

فضلها:

ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ سورة لقمان كان لقمان له رفيقا يوم القيامة و اعطي من الحسنات عشرا بعدد من عمل بالمعروف و عمل بالمنكر.

و روى محمّد بن جبير الغروميّ عن أبيه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ سورة لقمان في كلّ ليلة وكّل اللّه به في ليلته ثلاثين ملكا يحفظونه من إبليس و جنوده حتّى يصبح و من قرأها بالنهار لم يزالوا يحفظونه من إبليس و جنوده حتّى يمسي.

ص: 232

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة لقمان (31): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)

وجه النصب في «هدى» انتصب عن الاسم المبهم على الحال أي [تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ في حال الهداية و الرحمة و يجوز الرفع على إضمار المبتداء أي هو آياته هدى و رحمة و بيان و نعمة للمطيعين و للّذين يحسنون العمل.

ثمّ وصفهم فقال: المحسنون هم [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ] و غير شاكّين بالبعث و متيقّنين بالآخرة و هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات على سبيل الهداية من ربّهم و مفلحون و ناجون من عذاب اللّه.

ثمّ وصف سبحانه حال من يخالف حاله حال هؤلاء فقال: [وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ نزلت الآية في النضر بن الحارث بن علقمة بن عبد الدار بن قصيّ بن كلاب

ص: 233

كان يتّجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم و يحدّث بها قريشا و يقول لهم: إنّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد و ثمود و أنا احدّثكم بحديث رستم و إسفنديار و أخبار الأكاسرة فيتوجّهون إلى حديثه و يتركون استماع القرآن.

و قيل: نزلت في رجل اشترى جارية تغنّيه ليلا و نهارا و يؤيّده ما رواه أبو امامة عن النبيّ قال: لا يحلّ تعليم المغنّيات و لا بيعهنّ و أثمانهنّ حرام و قد نزل تصديق ذلك في كتاب اللّه: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي» (1) الآية ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: و الّذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته يتغنّى إلّا ارتدفه شيطانان و يضربان أرجلهما على صدره حتّى يسكت.

و بالجملة فأكثر المفسّرين على أنّ المراد بلهو الحديث الغناء و هو قول ابن عبّاس و ابن مسعود و غيرهما، و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و أبي الحسن الرضا عليه السّلام قالوا:

منه الغنا و روي أيضا عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: هو الطعن في الحقّ و الاستهزاء و ما كان أبو جهل و أصحابه يجيئون به إذ قال: يا معشر قريش ألا أطعمكم من الزقّوم الّذي يخوّفكم به محمّد ثمّ أرسل إلى زبد و تمر فقال: هذا هو الزقّوم الّذي يخوّفكم به فعلى هذا فإنّه يدخل فيه كلّ شي ء يلهي عن سبيل اللّه و عن طاعته من الأباطيل و المزامير و الملاهي و المعازف و يدخل فيه السخريّة بالقرآن و اللّغو فيه و الترّهات و البسابس على ما قاله عطاء و كلّ لهو و لعب على ما قاله قتادة و الأحاديث الكاذبة و الأساطير الملهية عن القرآن على ما قاله الكلبيّ و روى الواحديّ بالإسناد عن نافع عن ابن عمر أنّه سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» قال: باللّعب و الباطل كثير النفقة سمح فيه و لا تطيب نفسه بدرهم يتصدّق به و روى أيضا بالإسناد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة قيل: و ما الروحانيّون يا رسول اللّه؟ قال: قرّاء أهل الجنّة انتهى.

قوله: [لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ليضلّ غيره و من أضلّ غيره فقد ضلّ هو قال ابن عبّاس: سبيل اللّه قراءة القرآن و ذكر اللّه [وَ يَتَّخِذَها هُزُواً] أي يتّخذ آيات القرآن

ص: 234


1- البقرة: 207.

و سبيل اللّه هزؤا يستهزئ بها [أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مذلّ يهينهم اللّه به.

[وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا] و قرئ القرآن عليه [وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها] أي أعرض عن سماعه إعراض من لا يسمعه و هو سامع رافعا نفسه فوق مقدارها [كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً] كأن في مسامعه ثقلا يمنعه عن سماع تلك الآيات [فَبَشِّرْهُ يا محمّد [بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم موجع في القيامة فأعلمه بأنّ العذاب المفرط في الإيلام لا حق به لا محالة، و التعبير بالبشارة للتهكّم.

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان لحال المؤمنين إثر بيان حال الكافرين بالآيات أي «الَّذِينَ آمَنُوا» و صدّقوا بآياته «و عملوا» بموجبها [لَهُمْ بمقابلة إيمانهم و أعمالهم [جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي جنان ذات نعمة أو المعنى «نعيم جنّات» فعكس للمبالغة و توحيد العذاب و جمع الجنّات إشارة إلى أنّ الرحمة و الرحمة واسعة أكثر من الغضب و أيضا تنكير العذاب و تعريف الجنّة بالإضافة إلى المعرّف إشارة إلى أنّ الرحيم عرّف النعمة إيصالا للراحة إلى القلب و ما بيّن النقمة بل نبّه عليها تنبيها.

و أكّد الوعد بقوله: [خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا] أي وعد وعدا حقّا لا خلف فيه [وَ هُوَ الْعَزِيزُ] الغالب في انتقامه [الْحَكِيمُ في جميع أفعاله و أحكامه و لا يفعل إلّا ما يقتضيه الحكمة.

ثمّ قال: [خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها] إذ لو كان لها عمد لرأيتموها لأنّها لو كانت كانت أجساما حتّى تصحّ منها أن تقلّ السماوات و لو كانت كذلك لاحتاجت إلى عمد آخر فكان يتسلسل فإذا لا عمد لها.

و قيل: إنّ المراد: بغير عمد مرئيّة و المعنى أنّ لها عمدا لا ترونها، و الصحيح الأوّل.

و اعلم أنّ أكثر علماء الإسلام يقولون: إنّ السماوات مبسوطة كصحيفة مستوية و المهندسون و الغزاليّ قالوا: مستديرة و قالوا: يؤيّد قولنا: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»* و الفلك اسم لشي ء مستدير و على الاختلاف سواء كانت مستديرة أو مصحفة فهي مخلوقة بقدرة اللّه لا موجودة بإيجاب و طبع لأنّ السماء في فضاء و كون السماء في بعض الفضاء

ص: 235

دون بعض ليس إلّا بقدرة مختار متصرّف.

قوله تعالى: [وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي جعل فيها جبالا ثابتة راسخة كراهية أن تتحرّك و تزول عن موضعها بسبب المياه و الرياح و لو خلقها مثل الرمل لما كانت تثبت للزراعة كما ترى الأراضي الرملة ينتقل الرمل الّذي فيها من موضع إلى موضع [وَ بَثَّ فِيها] و فرّق في الأرض [مِنْ كُلِّ دابَّةٍ] تدبّ و تتحرّك على وجهها من أنواع الحيوانات [وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً] أي غيثا و مطرا [فَأَنْبَتْنا فِيها] في الأرض بذلك الماء [مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي من كلّ صنف حسن البنية طيّب الثمرة فسكون الأرض فيه مصلحة و كذلك حركة الدوابّ فأسكنّا الأرض و حرّكنا الدوابّ و لو كانت الأرض متحرّكة و متزلزلة لكانت الدابّة الّتي لا تعيش في موضوع تقع ذلك الموضع فيكون فيه هلاكها، أمّا إذا ا كانت الأرض ساكنة و الحيوانات متحرّكة تتحرّك في المواضع الّتي تناسبها و ترعى فيها و تعيش.

و العدول من المغايبة إلى النفس بقوله: «وَ أَنْزَلْنا» فيه فصاحة لصنعة الالتفات لأن السامع إذا سمع كلاما طويلا من نمط واحد ثمّ ورد عليه نمط آخر يستطيبه ألا ترى أنّك إذا قلت: قال زيد كذا و كذا و قال خالد كذا و كذا و قال عمر كذا و كذا ثمّ إنّ بكرا قال قولا حسنا يستطاب لما قد تكرّر القول مرارا.

[هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني اللّه خالق و غيره ليس بخالق فكيف تتركون عبادة الخالق و تشتغلون بعبادة المخلوق؟

ثمّ قال: [بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ المعنى إنّ العادلين و الظالمين لا يجدون لهذا الكلام جوابا و لا يمكنهم أن يشيروا إلى خالق غيره و هم في ضلالة و قد وضعوا الشي ء في غير موضعه.

قوله تعالى: [سورة لقمان (31): الآيات 12 الى 15]

وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

ص: 236

و لمّا ذكر سبحانه الأدلّة الدالّة على قدرته و حكمته بيّن قصّة لقمان و ما آتاه من الحكمة فقال:

[وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ] أي أعطيناه العقل و إصابة الأمور و اختلف فيه فقيل: إنّه كان حكيما و لم يكن نبيّا عن ابن عبّاس و جماعة من المفسّرين و قال عكرمة و السدّيّ و الشعبيّ: إنّه كان نبيّا و فسّروا الحكمة هنا بالنبوّة و قيل: إنّه كان عبدا حبشيّا أسود غليظ المشافر في زمن داود عليه السّلام و قال: له بعض الناس: أ لست كنت ترعي معنا فقال: نعم قال: فمن أين أوتيت ما أري قال: قدر اللّه و أداء الأمانة و صدق الحديث و الصمت عمّا لا يعنيني و قيل: إنّه كان ابن اخت أيّوب و قيل: كان ابن خالة أيّوب.

و روى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللّه يقول: حقّا أقول لم يكن لقمان نبيّا و لكن كان عبدا كثير التفكّر حسن التدبّر و حسن اليقين أحبّ اللّه فأحبّه و منّ عليه بالحكمة كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك اللّه خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحقّ فأجاب الصوت إن خيّرني ربّي قبلت العافية و لم أقبل البلاء و إن عزم عليّ سمعا و طاعة فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني فقالت الملائكة: بصوت لا يريهم لم يا لقمان؟ قال: لأنّ الحكم أشدّ المنازل و أكدّها يغشاه الظلم من كلّ إن وقى فبالحري أن ينجو و إن أخطأ أخطأ طريق الجنّة و من يكن في الدنيا ذليلا و في الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا و في الآخرة ذليلا و من يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة فتعجّب الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلّم بها ثمّ كان يوازر داود بحكمته فقال له داود عليه السّلام: طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة و صرفت عنك البلوى.

قوله: [أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي قلنا له: أن أشكر للّه على ما أعطاك من الحكمة القمّي عن الصادق عليه السّلام إنه سئل عن لقمان و حكمته الّتي ذكرها اللّه عزّ و جلّ فقال: أما و اللّه ما اوتي لقمان الحكمة بحسب و لا حال و لا أهل و لا بسط في جسم و لا جمال و لكنّه كان

ص: 237

رجلا قويّا في أمر اللّه متورّعا في اللّه ساكتا عميق النظر طويل الفكر مستغن عن الغير لم ينم ليلا قطّ و لا اغتسال لشدّة تستّره و تحفّظه في أمره و لم يضحك في شي ء مخافة الإثم و لم يغضب قطّ و لم يمازح إنسانا قطّ و لم يفرح بشي ء إن أتاه من أمر الدنيا و لا حزن منها على شي ء قطّ و قد نكح من النساء و ولد له الأولاد الكثير و قدّم أكثرهم- أي مات- إفراطا فما بكى على موت أحد منهم و لم يمرّ برجلين يختصمان و يقتتلان إلّا أصلح بينهما و لم يمض عنهما حتّى تحابّا و لم يسمع قولا من أحد استحسنه إلّا سأل عن تفسيره و عمّن أخذه فكان يكثر مجالسة الفقهاء و الحكماء و كان يعشي القضاة و الملوك و السلاطين فيرثى القضاة فيما ابتلوا به و يرحب الملوك و السلاطين لعزّتهم باللّه و طمأنيتهم في ذلك و يعتبر و يتعلّم ما يغلب به نفسه و يجاهد هواه و يحترز به من الشيطان و يداوي قلبه بالتفكّر و العبر فبذلك اوتي الحكمة و منح العصمة فغشي بالحكمة من قرنه إلى قدمه.

قوله تعالى: [وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ بيّن سبحانه أنّ الشكر لا ينتفع به إلّا الشاكر و بيّن أنّ بالكفران لا يتضرّر غير الكافر فقال: [وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] أي اللّه غير محتاج إلى شكر و هو سبحانه في ذاته محمود سواء شكروه الناس أو لم يشكروا.

قوله تعالى: [وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ اذكر إذ قال لقمان لابنه [وَ هُوَ يَعِظُهُ و يؤدّبه و يذكّره: [يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ و لا تعدل باللّه شيئا في العبادة [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ و أصل معنى الظلم النقصان و منع الواجب فمن أشرك باللّه فقد منع ما وجب للّه عليه من معرفة التوحيد و أوبق و ظلم نفسه ظلما عظيما.

[وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ لمّا منعه من العبادة لغير اللّه و الخدمة قريبة من العبوديّة بحسب الصورة بين أنّها غير ممتنعة بل هي واجبة لغير اللّه في بعض الصور مثل خدمة الأبوين.

ثمّ بيّن السبب فقال: [حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً] يعني للّه على العبيد نعمة الإيجاد أبتداء بالخلق و نعمة الإبقاء بالرزق و جعل بحكمة للامّ ماله صورة ذلك و إن لم يكن لها في الحقيقة فإنّ الحمل به يظهر الوجود و بالرضاع يحصل البقاء فقال: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ» أي

ص: 238

صارت بقدرة اللّه سبب وجوده [وَهْناً عَلى وَهْنٍ يعني ضعفا على ضعف؛ ضعف نطفة الوالد على ضعف نطفة الأمّ و قيل: لإنّ الحمل يؤثّر فيها فكلّما ازداد الحمل ازدادت ضعفا على ضعف. و قيل: لأنّها ضعيفة الخلقة فازدادت ضعفا بالحمل و شدّة على شدّة و جهد على جهدا.

[وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي و فطامه من الرضاع في انقضاء عامين لأنّ «العامين» كلّه مدّة الرضاع و المراد أنّها بعد ما تلده ترضعه عامين و تربّيه فتلحقها المشقّة بعد المشقّة بذلك فإذا كان منها ماله صورة الوجود و البقاء وجب عليه الخدمة فإنّ الخدمة لها صورة العبادة في الجملة فوصّى اللّه بالوالدين و ذكر السبب في حقّ الأمّ و خصّ الأمّ بالذكر و في الأب ما وجد في الأمّ فإنّ الأب حمله في صلبه و ربّاه بكسبه سنين فهو أبلغ.

و قوله: [أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ هذا تفسير قوله: «وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ» أي وصّيناه بشكرنا و شكر والديه فشكر اللّه الحمد و الطاعة و شكر الوالدين بالبرّ و الصلة.

ثمّ بيّن الفرق و قال: [إِلَيَّ الْمَصِيرُ] يعني نعمتهما مختصّة بالدنيا و نعمتي في الدنيا و الآخرة فإنّه «إِلَيَّ الْمَصِيرُ» و الجزاء وقت المصير إليّ.

ثمّ قال: [وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً] أي إنّ خدمتهما واجبة لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة اللّه أمّا إذا أفضى إلى الشرك و معصية اللّه فلا.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام في حديث و أمر سبحانه بالشكر له و للوالدين فمن لم يشكر والديه لم يشكر اللّه.

و عن الرضا عليه السّلام قال: من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر اللّه عزّ و جلّ.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام إنّ رجلا أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال يا رسول اللّه: أوصني فقال: لا نشرك باللّه شيئا و إن حرّقت بالنار و عذبت إلّا و قلبك مطمئنّ بالإيمان و والديك فأطعمها و برّهما حيّين كانا أو ميّتين و إن أمراك أن تخرج من أهلك و مالك فافعل فإنّ ذلك من الإيمان و عنه عليه السّلام جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه من أبّر؟ قال:

امّك قال: ثمّ من؟ قال: امّك قال: ثمّ من قال: امّك قال: ثمّ من؟ قال: أباك.

ص: 239

و عن الرضا عليه السّلام قيل له: أ أدعو لوالديّ إن كانا لا يعرفان الحقّ؟ قال: ادع لهما و تصدّق عنهما و إن كانا حيّين لا يعرفان الحقّ فدارهما فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه بعثني بالرحمة لا بالعقوق.

و في العيون عنه عليه السّلام و برّ الوالدين واجب و إن كانا مشركين و لا طاعة لهما في معصية الخالق و لا لغيرهما فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

و في مصباح الشريعة قال الصادق عليه السّلام: برّ الوالدين من حسن معرفة العبد باللّه إذ لا عبادة أسرع بلوغا بصاحبها إلى رضاء اللّه من حرمة الوالدين المسلمين لوجه اللّه تعالى لأنّ حقّ الوالدين مشتقّ من حقّ اللّه إذا كانا على منهاج الدين و السنّة بشرط أن لا يمنعان الولد من طاعة اللّه إلى معصية و من اليقين إلى الشكّ و من الزهد إلى الدنيا و لا يدعوانه إلى خلاف ذلك فإذا كانا كذلك فمعصيتهما طاعة و طاعتهما معصية قال اللّه: «وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» و أمّا في باب العشرة و المرافقة فدارهما و احتمل أذاهما نحو ما احتملا عنك في حال صغرك و لا تضيق عليهما بما قد وسع اللّه عليك في المأكول و الملبوس و لا تحول بوجهك عنهما و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما فإنّ تعظيمها من اللّه و قل لهما بأحسن القول و ألطفه فإنّ اللّه لا يضيع أجر المحسنين.

[وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ أي و اسلك طريقة من رجع إلى طاعتي و اقبل [إِلَيَ بقلبه و هو النبيّ و المؤمنون فإنّه مربّي عقلك كما أنّ الوالدين مربّي جسمك.

ثمّ قال سبحانه: [ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي إلى حكمي مرجعكم و منقلبكم [فَأُنَبِّئُكُمْ و أخبركم [بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الأعمال في الدنيا و اجازيكم عليها بحسبها.

فصل: في ذكر نبذة من حكم لقمان: ذكر في التفسير أنّ مولاه دعاه فقال: له اذبح لي شاة و ائتني بأطيب مضغتين منها فذبح شاة فأتاه بالقلب و اللسان فسأله عن ذلك فقال: إنّهما أطيب شي ء إذا طابا و أخبث شي ء إذا خبثا (1).

و قيل: إنّ مولاه دخل المخرج فأطال الجلوس فيها فناداه لقمان إنّ طول الجلوس على الحاجة يفجع فيه الكبد و يورث منه الباسور و يصعد الحرارة إلى الرأس فاجلس هونا

ص: 240


1- في الرواية سقط و تمامه في البحار.

و قم هونا قال: فكتب حكمته على باب الحشّ (1).

قال عبد اللّه بن دينار: قدم لقمان من سفر فلقى غلامه في الطريق فقال: ما فعل أبي؟ قال:

مات قال لقمان: ملكت أمري قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت قال: جدّد فراشي قال: ما فعلت اختي؟ قال: ماتت قال قد سترت عورتي قال: ما فعل أخي؟ قال: مات قال: انقطع ظهري.

و قيل للقمان: أيّ الناس شرّ قال: الّذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا.

و قيل له: ما أقبح وجهك! قال: تعيب على النقش أو على فاعل النقش؟

و قيل: إنّه دخل على داود و هو يسرد الدرع و قد ليّن اللّه له الحديد كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت فلمّا أتمّها لبسها و قال: نعم لبوس الحرب أنت و قال:

الصمت خير و قليل فاعله.

و في كتاب فقيه من لا يحضر قال لقمان لابنه: يا بنيّ إنّ الدنيا بحر عميق و قد هلك فيها عالم كثير فاجعل سفينتك فيها الإيمان باللّه و اجعل شراعها التوكّل و زادك تقوى اللّه فإن نجوت فبرحمة اللّه و إن هلكت فبذنوبك.

و روى سليمان بن داود المنقريّ عن حمّاد بن عيسى عن الصادق عليه السّلام قال: في وصيّة لقمان لابنه: يا بنيّ سافر بسيفك و خفّك و عمامتك و خبائك و سقائك و خيوطك و تزوّد معك من الأدوية ما تنتفع به أنت و من معك و كن لأصحابك مرافقا إلّا في معصية اللّه يا بنيّ إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك و اكثر التبسّم في وجوههم و كن كريما على زادك بينهم فإذا دعوك فأجبهم و إذا استعانوا بك فأعنهم، و استعمل طول الصمت، و كثرة الصلاة، و سخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد، و إذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم، و اجهد رأيك لهم إذا استشارك ثمّ لا تعزم حتّى تنتظر، و لا تجب في مشورة حتّى تقوم فيها و تقعد و تنام و تصلّي و أنت مستعمل فكرتك في مشورته فإن من لم يمحّض النصيحة لمن استشاره سلبه اللّه رأيه، و إذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم و إذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم و اسمع لمن هو أكبر منك سنّا، و إذا أمروك بأمر و سألوك شيئا فقل: نعم، و لا؛ تقل، لا فإنّ «لا» عيّ و لوم، و إذا تحيّرتم في الطريق فانزلوا، و إذا شككتم في المقصد فقفوا

ص: 241


1- محل قضاء الحاجة.

تؤامروا، و إذا رأيتم شخصا واجدا فلا تسألوه عن طريقكم و لا تسترشدوه فإنّ الشخص الواحد في الفلاة مريب لعلّه يكون من اللصوص أو يكون هو الشيطان الّذي حيّركم، و احذروا الشخصين أيضا إلّا أن ترون ما لا أرى؛ فإنّ العاقل إذا أبصر بعينه شيئا عرف الحقّ، و الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، يا بنيّ إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشي ء صلّها و استرح فإنّها دين و صلّ في جماعة و لو على رأس زجّ و لا تنامنّ على دابّتك فإنّ ذلك سريع في دبرها، و ليس ذلك من فعل الحكماء إلّا أن تكون في محمل يمكنك التمدّد لاسترخاء المفاصل فإذا قربت من المنزل فانزل عن دابّتك و ابدأ بعلفها قبل نفسك فإنّها تقيك، و إذا أردتم النزول فعليكم في بقاع الأرض بأحسنها لونا و ألينها تربة و أكثرها عشبا، و إذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس، و إذا أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب في الأرض، و إذا ارتحلت فصلّ ركعتين ثمّ ودّع الأرض الّتي حللت بها و سلّم على أهلها فإنّ لكلّ بقعة من الأرض أهلا من الملائكة، و إن استطعت أن لا تأكل طعاما حتّى تبتدئ فتصدّق منه فافعل و عليك بقراءة كتاب اللّه مادمت راكبا و عليك بالتسبيح ما دمت عاملا عملا، و عليك بالدعاء مادمت راكبا، و إيّاك أن تسير في أوّل الليل إلى آخره، و إيّاك أن ترفع الصوت في مسيرك.

قوله تعالى: [سورة لقمان (31): الآيات 16 الى 20]

يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)

المعنى: و لأجل أن لا يتوهّم ابنه أنّ ما يفعله في الخفية يخفى على اللّه قال:

[يا بُنَيَّ إِنَّها] أي الحسنة و السيّئة إن كانت في الصغر مثل خردلة و تكون مع ذلك الصغر في موضع حريز كالصخرة لا يخفى على اللّه، و قرئ «مثقال» بالرفع و قد ألحق علامة

ص: 242

التأنيث في الفعل فباعتبار الحسنة و السيّئة أي إن كانت الحسنة مثقال خردلة يعلمها اللّه كقوله: «فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» (1).

و يروى أنّ ابن لقمان سأل أباه أ رأيت الحبّة تكون في قعر البحر أ يعلمها اللّه؟

فقال لقمان: «إنّها» أي الّتي سألتني عنها [إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ] أي جبل أو صخرة عظيمة [أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ذكر السماوات و الأرض بعد ذكر الصخرة و إن كان لا بدّ و أن تكون الصخرة في الأرض على وجه التأكيد كما قال: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» ثمّ قال: «خَلَقَ الْإِنْسانَ» (2).

و قيل: هذه الصخرة ليست في الأرض و هي تحت سبع أرضين و القائل السدّيّ قال:

إنّها صخرة عظيمة عليها الثور و هي لا في الأرض و لا في السماء و قيل: في الآية تقديم الخاصّ و تأخير العامّ و مثل هذا التقسيم جائز أو المراد أنّه خفاء الشي ء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصغر فقوله: «مِثْقالَ حَبَّةٍ» إشارة إلى الصغر و منها أن يكون من وراء حجاب فقوله: «فِي صَخْرَةٍ» إشارة إلى هذا المعنى و منها أن يكون الخفاء بسبب البعد فقوله: «أَوْ فِي السَّماواتِ» إشارة إلى أبعد البعاد و منها أن يكون خفاؤه بسبب الظلمة فقوله: «أَوْ فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى الظلمات فإنّ جوف الأرض أظلم الأماكن.

و قوله: [يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أبلغ من «يعلمها اللّه» لأنّه يدلّ على العلم و القدرة.

[إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] أي نافذ الحكم و القدرة عالم ببواطن الأمور.

[يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ] لمّا منع و حذّر ابنه من الشرك و خوّفه بعلم اللّه بالخفيّات أمره بإظهار التوحيد و هو الصلاة و العبادة لوجه اللّه مخلصا و بهذا يعلم أنّ الصلاة كانت في الملل السابقة غير أنّ هيئتها اختلفت «وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ» أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة اللّه فكمّل غيرك فإنّ شغل الأنبياء و ورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم و يكمّلوا غيرهم.

ص: 243


1- الانعام: 160.
2- العلق: 1- 2.

ثمّ قال: [وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ لأنّ من يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر يؤذى فأمره بالصبر على مكارهه.

و إذا بغى باغ عليك بجهله فاقبله بالمعروف لا بالمنكر

[إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] المعزومة الواجبة و يكون المصدر بمعنى المفعول كما تقول: أكلي خبز أي مأكولي خبز.

قوله تعالى: [وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ] ثمّ نهاه عن التكبّر على الناس و الخيلاء، و لا تكن مفتخرا عليهم. و أصل الصعر داء يأخذ الإبل في رؤوسها و أعناقها و تلوي عنقها بسبب ذلك الداء و حاصل المعنى أنّه لا تمل وجهك من الناس تكبّرا و لا تمش بطريق البطر و الخيلاء إنّ اللّه لا يحبّ كلّ متكبّر فخور على الناس.

[وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ] أي و اجعل في مشيك قصدا مستويا على وجه السكون و الوقار و التواضع و لا تختال فيه بل امش بطريق التوسّط لا بطريق المتكبّرين و لا بطريق المتماوت الّذي يري من نفسه الضعف تزهّدا.

«وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ» و لمّا كان الإنسان محتاجا في أموره كما أنّ الحيوانات كذلك محتاجة في أمورها بالمشي فأقدر اللّه للإنسان المشي و قد تكون يعجز عن إدراك مطلوبه فيحصل له ذلك المطلوب بالصوت و النداء كما أنّ الحيوانات تشارك الإنسان في تحصيل المطلوب بالصوت كالغنم تطلب السخلة و البقر العجل و الناقة الفصيل بالثغاء و الخوار و الرغاء فإذا كان المشي و الصوت مفضيين إلى مقصود واحد فلمّا أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر فقال: «وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ» إشارة إلى التوسّط في الأفعال و الأقوال.

ثمّ قال: «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» لأنّ رفع الصوت يؤذي السامع و يقرع الصماخ بقوّة و آلة السمع على باب القلب و المعنى أنّ أنكر أصوات الحيوانات لصوت الحمير و إلّا فمسّ المنشار بالمبرد و حتّ النحاس بالحديد أشدّ تنفيرا، و «أنكر» أفعل التفضيل من باب أطوع له و أشدّ من أمثاله لأنّ أفعل ليس في باب العيوب و الألوان إلّا ما شذّ. و بالجملة فأقبح الأصوات صوت الحمير أوّله زفير و آخره شهيق.

ص: 244

و قيل: المعنى أراد صوت الحمير من الناس و هم الجهّال شبّههم بالحمير كما شبّههم بالأنعام و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: هي العطسة المرتفعة القبيحة و الرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا إلّا أن يكون داعيا و يقرء القرآن.

ثمّ نبّههم سبحانه نعمه على خلقه للمعرفة بوحدانيّة فقال: [أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ من الشمس و القمر و النجوم و غيرها [وَ ما فِي الْأَرْضِ من الحيوان و النبات و غير ذلك ممّا تنتفعون و تتصرّفون فيه.

[وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ و أوسع لكم و أتمّ عليكم [نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً] فالظاهرة ما لا يمكنكم جحده من خلقكم و إحيائكم و إقداركم على أموركم و خلق الشهوة فيكم و غيرها من ضروب النعم و الباطنة ما لا يعرفها إلّا من أمعن النظر و تدبّر فيها.

و قيل: الباطنة مصالح الدين و الدنيا ممّا يعلمه اللّه و غاب عن العباد علمه.

و في رواية عن ابن عبّاس قال: سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا ابن عبّاس أمّا ما ظهر فالإسلام و ما سوّى اللّه خلقك و أفاض عليك من الرزق و أمّا ما بطن فستر مساوي عملك و لم يفضحك به يا ابن عبّاس إنّ اللّه تعالى يقول: ثلاثة جعلتهنّ للمؤمن و لم تكن له الأولى صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله و الثانية جعلت له ثلث ما له اكفّر به عنه خطاياه و الثالثة سترت مساوي عمله و لم أفضحه بشي ء منه و لو أبديتها لنبذه أهله.

و قيل: الظاهرة تخفيف الشرائع و الباطنة الشفاعة، عن عطا. و قيل: الظاهرة نعم الدنيا و الباطنة نعم الآخرة. و قيل: الظاهرة نعم الجوارح و الباطنة نعم القلب.

و قيل: الظاهرة ظهور الإسلام و الباطنة الإمداد بالملائكة. و قيل: الظاهرة حسن الصورة و امتداد القامة و تسوية الأعضاء و الباطنة المعرفة. و قيل: الظاهرة القرآن و الباطنة تأويله و معانيه و قال الباقر عليه السّلام: النعمة الظاهرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ما جاء به من معرفة اللّه عزّ و جلّ و أمّا النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت و عقد مودّتنا و يجوز حمل الآية على كلّها لأنّ جميعها نعم اللّه.

و في الأمالي عن الباقر عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: قل: ما أوّل نعمة أنعمك اللّه بها؟ قال: قد خلقني و لم أك شيئا مذكورا قال صلّى اللّه عليه و آله: صدقت فما الثانية؟ قال:

ص: 245

أن أحسن إليّ إذ خلقني فجعلني حيّا لا مواتا قال: صدقت فما الثالثة؟ قال: أنشأني في أحسن صورة و أعدل تركيب قال: صدقت فما الرابعة؟ قال: أن جعلني متفكّرا واعيا لا ساهيا قال: صدقت فما الخامسة؟ قال: أن هداني اللّه لدينه و لم يضلّني عن سبيله قال:

صدقت فما السادسة؟ قال: أن جعل لي مردّا في حياة لا انقطاع لها قال: صدقت فما السابعة؟

قال: أن جعلني مالكا لا مملوكا قال: فما الثامنة؟ قال: أن سخّرلي سماءه و أرضه و ما فيهما و ما بينهما من خلقه قال: صدقت فما التاسعة؟ قال: جعلنا ذكرانا قوّاما على حلائلنا لا إناثا قال: صدقت فما بعدها؟ قال: كثرت نعم اللّه يا رسول اللّه فطابت «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» فتبسّم رسول اللّه و قال: ليهنّئك الحكمة و العلم يا أبا الحسن فأنت وارث علمي و المبيّن لأمّتي ما اختلفت فيه من بعدي، الحديث.

قوله: [وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ أي يخاصم [فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بما يقوله [وَ لا هُدىً أي و لا دلالة و حجّة [وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ] يكون من عند اللّه واضح، فالعلم تدخل فيه الأشياء الواضحة الّتي تعلم و الهداية يدخل فيها الّذي يكون في كتاب من اللّه. و حاصل المعنى أنّ المجادل الجاهل يجادل لا بعلم آتيناه من لدنّا كشفا و لا بهدى أرسلناه إليه وحيا و لا بكتاب يتلى عليه وعظا.

و وصف الكتاب «بالمنير» لأنّ المجادل قد يجادل عن كتاب و لكن يحرّفه أو الكتاب محرّف كالتوراة كما أنّ المجوس و النصارى يقولون بالتثنية و التثليث عن كتابهم و هو محرّف و غلط فذلك الكتاب غير منير بل مظلم.

قوله تعالى: [سورة لقمان (31): الآيات 21 الى 25]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25)

بيّن سبحانه أنّ مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القبح فإنّ النبيّ

ص: 246

صلّى اللّه عليه و آله يدعوهم إلى العلم و كتاب اللّه و هم يأخذون بكلام آبائهم و [قالُوا] نترك القول النازل من اللّه و [نَتَّبِعُ ما قال آباؤنا [أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ استفهام على سبيل التعجّب في الإنكار و أدخل على واو العطف همزة الاستفهام على وجه الإنكار، و جواب «لو» محذوف تقديره: هل لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير المشتعل لاتّبعوهم و الشيطان يدعوهم إلى تقليد آبائهم و ترك اتّباع ما جاءت به الرسل و ذلك موجب لهم عذاب النار فهو في الحقيقة يدعوهم إلى النار.

ثمّ قال: [وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ و يخلص دينه للّه و يقصد في أفعاله التقرّب إليه [وَ هُوَ مُحْسِنٌ فيها و يفعلها على موجب العلم و الكتاب و الشرع و الانقياد إلى أمر اللّه هو الإسلام و التسليم و ذلك يوجب العلم و العمل [فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التوحيد و ولاية عليّ عليه السّلام، فقد تعلّق بالوثيقة المحكمة الّتي لا يخشى انفصامها، و الوثقى تأنيث الأوثق [وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ] يعني و عند اللّه ثواب ما صنع.

[وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ لمّا بيّن حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر أي لا تحزن إذا كفر كافر و لا يغمّك يا محمّد ذلك [إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا] و نخبرهم بأعمالهم و نجازيهم بسوء أفعالهم [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] و بمخفيّات الأمور و ما يضمره الصدور [نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا] أي نعطيهم من متاع الدنيا و نعيمها ما يتمتّعون به مدّة قليلة [ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ] نصيّرهم مكرهين إلى عذاب يغلظ عليهم و يصعب و حاصل المعنى أنّ بقاءهم في نعيم الدنيا قليل ثمّ وبال كفرهم و تكذيبهم بأن نسلّط عليهم أغلظ عذاب حتّى يدخلوا بأنفسهم عذابا غليظا فيضطرّون إلى عذاب النار فرارا من العذاب الأغلظ و من الملائكة الغلاظ الشداد الّذين يعذّبونهم بمقامع من نار.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بيّن أنّهم معترفون بأنّ اللّه خالق السماوات و الأرض غير منكرين له فهذا الإقرار يوجب أن يكون الحمد كلّه له لأنّه خالقهما و يحتاج أنّ كلّ ما في السماوات و الأرض أن يعبده و يلزم أن لا يعبد غيره و مع ذلك يشركون غيره معه في العبادة.

[بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ هذا و لا يتعقّلون و ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك

ص: 247

مع أنّهم معترفون بأنّ اللّه خالقهما و هذا الاعتراف تكذيب أنفسهم و تصديقك و مع ذلك لا يعلمون.

[سورة لقمان (31): الآيات 26 الى 30]

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)

ثمّ أكّد بيان خالقيّته و مالكيّته بقوله: [لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لأنّ ما فيهما لمن خلقهما لأنّ من يملك أرضا فكلّ ما حصل من تلك الأرض لصاحب الأرض و هو مالكه فكذلك كلّ ما في السماوات و الأرض و حاصل فيهما و منهما فهو لمالك السماوات و الأرض فتحقّق أنّ العبوديّة له خاصّة.

قوله: [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] أي غير محتاج إلى الحمد و لا ينتفع بحمد الحامدين لكن للحامد منافع، و حميد أي شكور لأنّه يقضي حوائجكم و مصالحكم، و هو حميد أي محمود.

لمّا قال اللّه سبحانه «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و كان ذلك موهما لتناهي ملكه لانحصار ما في السّماوات و ما في الأرض بيّن أنّ ما في قدرته و علمه عجائب لا نهاية لها فقال:

[وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ و يكتب بها و الأبحر مدادا لا تفنى عجائب صنع اللّه و قدرته فالكلمة مفسّرة بالعجيبة لأنّ العجائب بقوله: «كن» كلمة فإطلاق اسم السبب على المسبّب شائع يقول الشجاع لمن يبارزه: أنا موتك، و يقال للدواء في حقّ المريض: هذا شفاؤك. و دليل صحّة هذا هو أنّ اللّه سمّى المسيح «كلمة» لأنّه كان أمرا عجيبا و صنعا غريبا.

النزول: قيل: إنّ الآية نزلت في واحد قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك تقول: «وَ ما

ص: 248

أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» و تقول: «وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» فنزلت الآية دالّة على أنّه خير كثير بالنسبة إلى العباد و أمّا بالنسبة إلى اللّه و علومه قليل و قيل: واردة في اليهود حيث قالوا: اللّه ذكر كلّ شي ء في التوراة و لم يبق شي ء لم يذكره فقال: سبحانه: الّذي في التوراة بالنسبة إلى كلمات اللّه ليس إلّا قطرة من بحار و أنزل هذه الآية.

و لا تنافي بين التفسير الّذي فسّرنا في صدر الآية مع النزول لأنّ الحاصل من الكلّ أن عجائب صنع اللّه لا نهاية لها. و وحّد الشجرة و جمع الأقلام إشارة إلى التكثير يعني و لو أن بعدد كلّ شجرة أقلاما و تعريف البحر «باللام» لاستغراق الجنس و كلّ بحر مداد ثمّ قوله: [يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ] إشارة إلى بحار غير موجودة يعني لو مدّت البحار الموجودة مع سبعة أبحر أخر، و قوله: «سبعة» ليس لانحصارها في سبعة و إنّما الغرض الكثرة و لو بألف بحر و السبعة خصّصت بالذكر من بين الأعداد لأنّها تستعمل في عدد كثير في حصر المعدودات بحسب العادة فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كلّ كثير.

قال قتادة: معنى الآية لو كان شجر الأرض أقلاما و مع البحر سبعة أبحر مدادا إذا لانكسرت الأقلام و نفد ماء البحر قبل أن تنفد عجائب اللّه و خلقه و علمه.

[إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ غالب في اقتداره على جميع ذلك، حكيم يفعل من ذلك ما يليق بحكمته.

ثمّ قال سبحانه: [ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ يا معشر الخلائق [إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ] أي كخلق نفس واحدة في قدرته و لا يشقّ عليه ابتداء جميع الخلق و لا إعادتهم بعد إفنائهم.

قيل في النزول: إنّ كفّار قريش قالوا: إنّ اللّه خلقنا أطوارا نطفة علقة مضغة لحما فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة فنزلت الآية [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع ما يقوله القائلون [بَصِيرٌ] بما يضمرونه.

[أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ] بنقص من اللّيل في النهار و من النهار في اللّيل و كلّ منهما يتعقّب الآخر أي إيلاج اللّيل في زمان النهار أي يجعل زمان اللّيل

ص: 249

في النهار و يوجده في وقت كان فيه النهار.

[وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قال: «يولج» بصيغة المستقبل و قال: في الشمس و القمر بصيغة الماضي لأنّ إيلاج اللّيل في النهار أمر يتجدّد كلّ فصل بل كلّ يوم و تسخير الشمس و القمر أمر مستمرّ أي و ذلّل الشمس و القمر على نسق و وتيرة واحدة مقهورة لا يختلفان «كُلٌّ يَجْرِي» إلى وقت عيّنه قدرة اللّه و جعله.

[وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] و وجه تعلّق هذا الكلام أنّه لمّا كان اللّيل و النهار محلّ الأفعال بيّن أنّ ما يقع في هذين الزمانين اللّذين هما بتصرّف اللّه لا يخفى على اللّه، و قوله تعالى في صدر الآية: «أَ لَمْ تَرَ» لأنّ الغرض من البيان شرح التكليف و الوعظ، و الواعظ يخاطب و لا يعيّن أحدا مثلا يقول لجمع عظيم: يا مسكين اتّق اللّه أو يقول:

يا أيّها الغافل لم تعصي اللّه فهذا الخطاب و أمثاله من هذا القبيل.

قوله: [ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ و لمّا ذكر سبحانه تعالى أوصافه الكماليّة بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» و قوله: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» و «سَمِيعٌ بَصِيرٌ» و بقوله: «ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» و في هذه الصفات إشارة إلى الصفات السلبيّة و الثبوتيّة فقال: [ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ أي ذلك الاتّصاف بأنّه هو الحقّ و الحقّ هو الثبوت و الثابت اللّه و لا زوال له فهو الحقّ و ما عداه الباطل لأنّ الباطل هو الزائل يقال: «بطل ظلّه» إذا زال.

و اعلم أنّ الحكماء جعلوا الأشياء على أربعة أقسام: ناقص و مكتف و تامّ و فوق التمام فالناقص ما ليس له ما ينبغي أن يكون له كالصبيّ و المريض و الأعمى و أمثاله و المكتفي و هو الّذي اعطي ما يدفع به حاجته في وقته كالإنسان و الحيوان الّذي له ما يدفع به حاجته في وقتها لكنّها في التحلّل و الزوال و التامّ ما حصل له كلّ ما جاز له و إن لم يحتج إليه كالملائكة المقرّبين لهم درجات لا تزداد و لا ينقص اللّه منها لهم شيئا كما قال جبرئيل:

لو دنوت أنملة لاحترقت. لقوله تعالى: «وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ» و فوق التمام هو الّذي حصل له ما جاز له من صفات الكمال و نعوت الجلال فهو تامّ و حصّل لغيره كلّ ما ينبغي له و يحتاج إليه فهو سبحانه فوق التمام و إلى هذا المعنى أشار قوله:

ص: 250

[هُوَ الْعَلِيُ أي في صفاته و قوله: [الْكَبِيرُ] أي في ذاته و ذلك ينافي أن يكون جسما في مكان لأنّه يكون حينئذ جسدا مقدّر بمقدار فيمكن فرض ما هو أكبر منه فيكون صغيرا بالنسبة إلى المفروض لكنّه تعالى في ذاته مطلقا أكبر من كلّ ما يتصوّر فهو المستحقّ للإلهيّة.

قوله تعالى: [سورة لقمان (31): الآيات 31 الى 34]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

أي ألم تعلم أيّها الإنسان مثل هذا الأمر الواضح من آيات الأرضيّة و أشار إلى ذكر السبب و المسبّب بأنّ السفائن تجري بسبب نعمة اللّه و هي الريح الّتي يجري بأمر اللّه و تسوق السفينة إلى حيث تقصدون و لو اجتمع خلق كثير ليجروا الفلك في بعض الجهات المخالفة للرياح لما قدروا عليه.

[لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيات قدرته [إِنَّ فِي ذلِكَ أي في تسخير الرياح و الفلك [لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ] أي صبّار على مشاقّ العبوديّة و التكليف، شكور لنعماء اللّه عليه.

و في الآية دلالة على أنّ الصبر على البلاء و الشكر للنعماء أفضل الطاعات كما قيل: الصبر نصف الإيمان و الشكر نصف الإيمان و اليقين كلّه. و في الحديث: الإيمان نصفان: نصف صبر و نصف شكر فالمؤمن يكون صبّارا في الشدّة شكورا في الرخاء فالتكاليف أفعال و تروك و الأفعال شكر و التروك صبر كما قال صلّى اللّه عليه و آله: الصوم صبر و الأفعال شكر على المعروف.

ثمّ قال: [وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ في الآية بيان و هو أنّ البصير العاقل يدرك

ص: 251

آياته و شواهد قدرته و يعترف بإلهيّته و من هو في بصيرته ضعف لا يدركه أوّلا فإذا وقع في شدّة عظيمة مثل أن يغشاه موج و طوفان دعاه مخلصا وحده و يترك كلّ من عداه و ينسى جميع من سواه فإذا نجّاه من تلك الشدّة قد يبقى على تلك الحالة و هو المراد بقوله:

[فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ] و قد يعود إلى الشرك و هو المراد بقوله: [وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ] و الختّار كثير الغدر، و الظلل قيل: معناه كالجبال و قيل: كالسحب و الختّار الكفور في مقابلة الصبّار الشكور و معنى المقتصد قيل: هو الّذي انزجر بعض الانزجار من الكفر أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شي ء من الإخلاص و لم يبق على ما كان عليه من الإخلاص و قيل: معنى قوله: «فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» أي على طريقة مستقيمة و صلاح من الأمر و قيل: ثابت على إيمانه موف بعهده الّذي عاهد في البحر من الخلاص و روي أنّه لمّا كان يوم فتح مكّة أمّن رسول الناس إلّا أربعة نفر قال صلّى اللّه عليه و آله:

اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة و هم عكرمة ابن أبي جهل و عبد اللّه بن بطل و قيس بن ضبابة و عبد اللّه سعد بن أبي سرح فأمّا عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح عاصفة فقال أهل السفينة: أخلصوا فإنّ آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا فقال عكرمة:

لئن لم ينجني في البحر إلّا الإخلاص ما ينجيني في البرّ غيره اللّهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني ممّا أنا فيه أن آتي محمّدا حتّى أضع يدي في يده فلأجدنّه عفوّا كريما فجاء فأسلم.

قوله تعالى: [يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ يعني يوم القيامة لا يغني فيه أحد عن أحد و لا والد يغني عن ولده أولا يقضي الوالد عن ولده على أن يكون الفعل من «جزى» و بالمعنى الأوّل من أجزأ أي أغنى.

قوله: [وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً] كلّ امرئ يهمّه نفسه و المقصود قطع طمع من توقّع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة و لا يقدر أن على الإعانة أو دفع الإهانة بعضهم عن بعض و في قوله «يجزي» و قوله «جاز» إشارة إلى نكتة لطيفة و هي أنّ الفعل يتأتّى و إن كان ممّن لا ينبغي و لا يكون من شأنه مثل أنّ الإنسان إذا كان يخيط شيئا يقال:

أنّه يخيط و لا يقال: إنّه خيّاط و إنّما يقال له: خيّاط إذا كانت الخياطة حرفة إذا علمت هذا

ص: 252

فالابن من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما له عليه من الحقوق لكنّ الوالد يجزي عن ولده لما فيه من الشفقة و ليس عليه بواجب ذلك و لهذا قال سبحانه: في الوالد «لا يجزي» و قال: في الولد «و لا مولود هو جاز».

قوله: [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ أي اخشوا يوما هذا شأنه و هو كائن لوعد اللّه و وعده حقّ لا يتخلّف [فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا] أي لا يغرّنك الإمهال عن الانتقام و كذا الآمال و الأموال عن الإسلام و لا تغترّوا بطول السلامة و كثرة النعمة فإنّها عن قريب إلى الزوال.

[وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ] و الغرور هو الشيطان و يغرّك بالمغفرة من اللّه في عمل المعصية و تترك ما أمرك اللّه به و كلّ شي ء غرّك حتّى تعصي اللّه فهو غرور شيطانا كان أو غيره، و في الحديث، الكيّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و الفاجر من اتّبع نفسه هواها و تمنّى على اللّه. و قرئ «غرور» بضم الغين فيكون المعنى لا يغرّنّكم غرور الدنيا بخدعها الباطلة و بشهواتها الموبقة.

قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ] أي استأثر سبحانه به و لم يطّلع عليه أحد من خلقه فلا يعلم وقت قيام الساعة سواه. قال بعض المفسّرين: المقصود إنّ اللّه نفى علم امور خمسة بهذه الآية عن غيره و هو كذلك لعلّ المقصود من الآية ليس أنّه غير هذه الأمور الخمسة يعلم غيره أو ما يعلمه سبحانه و لا يعلمه غيره مقصورة بهذه الخمسة لأنّ اللّه يعلم الجوهر الفرد الّذي كان في كثيب رمل في زمان الطوفان و نقله الريح من المشرق إلى المغرب كم مرّة و يعلم أنّه أين هو و لا يعلمه غيره فلا وجه لاختصاص هذه الخمسة بالذكر.

و إنّما التحقيق في الآية أنّه لمّا قال: «اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ» و ذكر سبحانه أنّه كائن بقوله: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» فلو قال قائل: فمتى يكون هذا اليوم؟

كما سألوا و قالوا: «مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»* فأجاب اللّه بأنّ هذا العلم ممّا لا يحصل لغير اللّه و لكن هو كائن.

[وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ فيما يشاء من زمان أو مكان و يعلم نزول الغيث في مكانه و زمانه

ص: 253

كما جاء في الحديث: إنّ مفاتيح الغيب لا يعلمهنّ إلّا اللّه و قرأ هذه الآية.

قوله: [وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ من الحوامل أذكر أم أنثى أ صحيح أم سقيم واحد أم أكثر.

[وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً] أي ماذا تكسب في المستقبل و ما يعلم بقاه غدا و ما يعلم تصرّفاته في الأمور.

[وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي في أيّ أرض يكون موته و إذا رفع خطوة لا يدري أنّه يموت قبل أن يضع الخطوة أم لا، و المراد بالأرض المكان، و روي أنّ هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل غيره تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بها [خَبِيرٌ] عنها.

و في الآية بيان أنّك أيّها السائل عن الساعة: أيّان مرساها؟ كيف تستعلم وقتها و أنت لا تعلم من نفسك ماذا تكسب غدا مع أنّه فعلك و شغلك و زمانك و لا تعلم أيّ مكان تموت و لا تعلم ما في بطنك أيّها الإنسان فكيف تستعلم قيام القيامة؟ و في قوله: «خبير» إشارة إلى أنّ علمه ليس علما بظاهر الأشياء فحسب بل هو خبير و علمه واصل إلى بواطن الأشياء.

تمّت السورة

ص: 254

سورة السجدة

اشارة

(مكية) و تسمّى سورة المضاجع.

فضلها:

ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: و من قرأ «الم تَنْزِيلُ» و «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ» الملك فكأنّما أحيا ليلة القدر.

و عن جابر كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا ينام حتّى يقرأهما قال الليث بن أبي الزبير:

ذكرت ذلك لطاوس فقال: فضّلتا على كلّ سورة في القرآن و من قرأهما كتب له ستّون حسنة و محي عنه ستّون سيّئة و رفع له ستّون درجة.

و روى الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ سورة السجدة في كلّ ليلة جمعة أعطاه اللّه كتابه بيمينه و لم يحاسبه بما كان منه و كان من رفقاء محمّد و أهل بيته.

ص: 255

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة السجده (32): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)

«تَنْزِيلُ الْكِتابِ» خبر مبتدء محذوف تقديره: هذا تنزيل الكتاب، أو يجوز أن يكون مبتدء و «لا رَيْبَ فِيهِ» خبره أي هذه الآيات [تَنْزِيلُ الْكِتابِ الّذي وعدتم به [لا رَيْبَ و لا شكّ [فِيهِ أنّه وحي [مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي لا ريب فيه للمهتدين و إن كان قد ارتاب فيه المبطلون، و اللفظ بصورة الخبر و معناه النهي أي لا ترتابوا فيه و الريب أقبح الشكّ.

[أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي أ يعترفون به أم يقولون: هو مفترى؟ و قيل: «أم» منقطعة أي بل يقولون افتراه و ليس الأمر على ما يقولونه [بَلْ هُوَ الْحَقُ نزل عليك من ربّك.

[لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني قريشا إذ لم يأتهم نبيّ قبل نبيّنا و إن أتى غيرهم من قبائل العرب مثل خالد بن سنان العبسيّ. و قيل: المراد أهل الفترة بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله لم يأتهم نبيّ قبل محمّد في هذه المدّة فكانوا كأنّهم في غفلة عمّا لزمهم من حقوق اللّه و العبادة [لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بمعارفهم و ما عليهم من حقوق العبوديّة، و معنى قوله: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» ليس أنّه ما أتاهم من قبل محمّد نذير لهم فإنّهم كانوا من أولاد إبراهيم و جميع أنبياء بني إسرائيل من أولاد أعمامهم لكن لمّا مضت عليهم و على غيرهم السنون المتطاولة و أهل عصرهم ضلّوا بالكلّيّة و لم يبق فيهم من يهديهم و قال سبحانه:

ص: 256

«وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (1) أرسله عليهم و على غيرهم لينذرهم و يمنعهم عن الضلالة و إنذاره ليس مختصّا بهم.

فإن قيل: التخصيص بالذكر يدلّ على الاختصاص.

فنقول: هذا الكلام فاسد لأنّ التخصيص لا يستلزم نفي ما عداه و لأنّ قوله: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (2) لم يفهم منه أنّه لا ينذر غيرهم أو لم يؤمر بإنذار غيرهم و لكن لمّا كان إنذار المشركين أولى لأنّ إنذارهم كان بالتوحيد و الحشر و أهل الكتاب لم ينذروا إلّا بسبب إنكارهم الرسالة فكانوا أولى بالذكر فوقع التخصيص لأجل ذلك كذلك هاهنا.

ثمّ قال سبحانه: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ استدلّ على قدرته على خلق السماوات و الأرض و في الآية إشارة إلى أنّ الرسول عليه الدعوة إلى توحيد الخالق أي هو الّذي خلق و لم يخلقهما غيره فلا خالق و لا إله غيره فهو واحد [وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي فيما لو يقدّر لكان مقداره ستّة أيّام لأنّ قبل الشمس لم يكن ليل و لا نهار لأنّ الإنسان إذا نظر إلي الخلق رآه فعلا و الفعل ظرفه الزمان و الأيّام أشهر الأزمنة.

قوله: [ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ و هاهنا تحقيق شريف و هو أنّ مذهب العلماء في أمثال هذه الآيات المتشابهات على وجهين: أحدهما ترك التعرّض إلى بيان المراد، و الثاني التعرّض إليه، و الأوّل أسلم و إلى الحكمة و السلام أقرب لأنّ من قال: إنّي لا أتعرّض إلى بيان هذا أو لا أعرف المراد في هذا لا يكون حاله إلّا حال من لا يتكلّم عند عدم وجوب الكلام أو لا يعلم شيئا لم يجب علمه مثلا كما في الأصول بأنّ الحشر و الاعتراف به و العلم بوقوعه واجب قطعا لكنّ العلم بأنّه متى يكون غير واجب و كذلك اللّه يجب معرفة وجوده و وحدانيّته و اتّصافه بصفات الجلال و نعوت الكمال على سبيل الإجمال و يجب تعاليه سبحانه عن و صمات الإمكان و الحدوث و صفات النقصان و لكنّ العلم بجميع صفاته كما هي ممّا لا يجب العلم بها فصفة الاستواء في الآية مثلا ممّا لا يجب العلم بها فمن ترك

ص: 257


1- الإسراء: 15.
2- الشعراء: 214.

التعرّض إليه لم يترك واجبا و أمّا من يتعرّض إليه لعلّ أن يخطى فترك التعرّض من هذا القبيل أسلم غاية ما في الباب أنّه لا يعلم أمرا لكنّ المتعرّض لعلّ أن يقع في جهل مركّب و عدم العلم و الجهل المركّب نسبتهما كالسكوت و الكذب و السكوت خير من الكذب.

و ليس لقائل أن يقول بأنّ اللّه بيّن كلّ ما أنزله لأنّ تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز و لعلّ في القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غير نبيّه فبيّن له لا لغيره و هو يعلم و لكن هذا المذهب له شرط و هو أن ينفي بعض ما يعلمه قطعا من امور يوجب نقصا في ذاته كالاستقرار المكانيّ في معنى «ثُمَّ اسْتَوى أو الجلوس مثلا فيجب القطع بنفي ذلك التوقّف هذا بيان مذهب التاركين للتعرّض في مثل هذه الآيات.

و المذهب الثاني خطر و من يذهب إليه فريقان: أحدهما من يقول في معنى الآية:

ظاهر الآية و هو القيام و الانتصاب أو الاستقرار المكانيّ و هو جهل محض بل كفر و بدعة. و ثانيهما:

الاستيلاء و المراد أنّه سبحانه استوى على ملكه و استولى على عرشه كما يقال للرجل المقهور الهارب: فلان هارب لم يبق له مكان مع أنّ المكان واجب له كذلك يقال للقادر القاهر: «هو متمكّن على عرش عظمته و سرير مملكته و سلطانه و له عرش» و إن كان التنزّه عن المكان واجب له.

إذا علمت هذه المقدّمات فعلى هذا يكون معنى «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» أنّ اللّه تعالى خلق السماوات و الأرض ثمّ القصّة فثمّ استعملت للحكاية لا للمحكيّ أي خلق السماوات و الأرض ثمّ هاهنا ما هو أعظم منه استوى على العرش و خلقته فإنّ خلقه أعظم من الكرسيّ و السماوات و الأرض و هذا كما يقول القائل: فلان أكرمني و أنعم عليّ مرارا و يحكي عنه مكارمه ثمّ يقول: إنّه ما يعرفنيّ و أحسن إليّ. و قد جاء «استوى» بمعنى استولى نقلا و استعمالا أمّا النقل فمنقول كثيرا في كتب اللغة منها في ديوان الأدب و غيره ممّا يعتبر النقل عنه و أمّا الاستعمال قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف و دم مهراق

فعلى هذا لا يفيد معنى الآية أنّه سبحانه في مكان.

و في الآية بيان آخر و هو أنّ المراد من الاستقرار على فرض معنى الاستقرار لا يفيد أنّه سبحانه في مكان و ذلك لأنّ الإنسان يقول: استقرّ رأي فلان على الخروج و معلوم

ص: 258

أنّه لا يريد أنّ الرأي في مكان و هو الخروج لما أنّ الرأي لا يتصوّر و لا يجوز فيه أن يقال:

إنّه متمكّن أو هو ممّا يدخل في مكان، إذا علم هذا فحينئذ فهم التمكّن عند استعمال كلمة الاستقرار مشروط بجواز التمكّن حتّى إذا قال: استقرّ زيد على الفلك أو على التخت يفهم منه التمكّن و كونه في مكان و لكن إذا قال القائل: استقرّ الملك على فلان لا يفهم أنّ الملك يحيّز في فلان فقول القائل: «اللّه استقرّ على العرش» لا ينبغي أن يفهم منه كونه في مكان مادام لم يعلم أنّه ممّا يجوز عليه أن يكون في مكان.

و الّذي يدلّ على أنّه لا يجوز كون العرش مكانا له وجوه من القرآن و القرآن يبيّن بعضه بعضا: أحدها «وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ» و كلّ ما هو في مكان فهو في بقائه محتاج إلى مكان لأنّ الحيّز إن لم يكن لا يكون المتحيّز باقيا فالمتحيّز ينتفي عند انتفاء الحيّز و كلّما ينتفي عند انتفاء غيره فهو محتاج إليه. الثاني قوله تعالى: «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (1) فالعرش يهلك و كذلك كلّ مكان فلا يبقى و هو سبحانه يبقى. الثالث قوله: «وَ هُوَ مَعَكُمْ» (2) و وجه التمسّك به هو أنّ «على» إذا استعمل في المكان يفهم منه عليه بالذات كقولنا: فلان على السطح، و كلمة «مع» إذا استعملت في متمكّنين يفهم منها اقترانهما بالذات كقولنا: زيد مع عمرو و إذا استعمل هذا فإن كان اللّه في مكان و نحن متمكّنون فقوله: «إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» و قوله:

«وَ هُوَ مَعَكُمْ» كان ينبغي أن يكون للاقتران و ليس كذلك بل معنى المعيّة في الآية العلم و النصرة و الإعانة فكذلك «عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أي حكمه و نظره عليه.

فإن قيل: كلمة «مع» تستعمل في هذا المعنى أي معنى النصرة و الإعانة يقال: فلان مع الفلان أي ناصره و معينه.

فنقول: إنّ كلمة «على» أيضا تستعمل في الحكم و النظر يقال: لو لا فلان على أملاك فلان لما حصل له شي ء و لا أكل من حاصلها و معناه الإشراف و النظر فكيف لا تقول في «اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» إنّه سبحانه استوى بحكمه كما نقول: معنا بحكمه و نصرته؟

ثمّ إنّك إذا فسّرت قوله: «عَلَى الْعَرْشِ» على الاستقرار و الملكان فأمّا إن حصل

ص: 259


1- القصص: 88.
2- الحديد: 4.

عليه بعد ما لم يكن عليه فقبل الاستقرار و التمكّن إمّا أن يكون في مكان أولم يكن فكان ففي صورة الكون في المكان يلزم أن يكون المكان أزليّا فيلزم القول بتعدّد القديم و كون سماء قديم من السماوات و صاحب هذا القول فلسفيّ لا إسلاميّ و على القول الثاني لا بدّ من القول بالحركة و الانتقال و التغيّر و كلّ هذه يفضي إلى الحدوث و ما ثبت حدوثه ثبت زواله فالقول بالتحيّز باطل إجماعا، انتهى.

قوله تعالى: [ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أي ليس لكم من دون عذابه وليّ و قريب ينفعكم و يردّ عذابه عنكم «وَ لا شَفِيعٍ» يشفع لكم و ناصر ينصركم من دون اللّه [أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ و تتفكّرون فتعلموا صحّة ما بيّنّاه لكم.

قوله: [يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي يدبّر الأمور و يقدّرها على حسب إرادته فيما بين السماء و الأرض و ينزله مع الملك إلى الأرض و لمّا بيّن سبحانه الخلق في قوله: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» بيّن في هذه الآية عالم الأمر كما قال في موضع آخر: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ» و أمره ينزل من السماء على عباده من امور تقديرهم و أحكامهم من امور التكليفيّة و التكوينيّة و ينزله من الملك إلى الأرض.

[ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ الملك إلى المكان الّذي أمره اللّه أن يصعد إليه [فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي يوم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة ممّا يعدّه البشر خمسمائة عام نزوله من السماء إلى الأرض و خمسمائة صعوده إلى السماء.

و حاصل المعنى أنّه ينزل الملك بالأمر و الوحي و التقدير إلى الأرض ثمّ يصعد الملك و يعرج إليه أي إلى الموضع الّذي يكون أن يعرج إليه و عروج الملائكة كذهاب إبراهيم حيث قال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (1) أي إلى أرض الشام الّتي أمرني بالذهاب إليها و كذلك قوله: «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ» (2) يعني إلى المدينة و لم يكن سبحانه بالشام و لا بالمدينة.

ص: 260


1- الصافات: 99.
2- النساء: 99.

و قيل: معناه أنّه يدبّر سبحانه و يقضي أمر كلّ شي ء لألف سنة في يوم واحد ثمّ يلقيه إلى الملائكة فإذا مضى الألف يدبّر أمر ألف سنة اخرى في يوم و كذلك أبدا.

و قيل: معناه يدبّر أمر الدنيا فينزل القضاء و التدبير من السماء إلى الأرض مدّة أيّام الدنيا ثمّ يرجع الأمر و يعود التدبير إليه بعد انقضاء الدنيا و فنائها حتّى ينقطع أمر الأمراء و حكم الحكّام و ينفرد اللّه بالتدبير في يوم كان مقداره ألف سنة و هو يوم القيامة فالمدّة المذكورة مدّة يوم القيامة إلى أن يستقرّ الخلق في الدارين عن ابن عبّاس أيضا.

فأمّا قوله: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» و هو يوم القيامة فإنّه أراد سبحانه على الكافر جعل اللّه ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف فإنّ المقامات في يوم القيامة للطبقات مختلفة.

قوله: [سورة السجده (32): الآيات 6 الى 10]

ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)

و لمّا ذكر سبحانه عالم الأشباح من قبل بقوله: «خَلَقَ السَّماواتِ» و عالم الأرواح بقوله: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» أي ذلك الّذي يفعل و يقدّر هو العالم بما يشاهد و ما لا يشاهد و بما غاب عن الخلق و ما حضر [الْعَزِيزُ] الغالب المنيع في ملكه [الرَّحِيمُ بأهل طاعته ثمّ قال: [الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ و هو سبحانه كذلك لأنّك إذا نظرت إلى الأشياء رأيتها على ما ينبغي صلابة الأرض للنبات و الثبات و لطافة الهواء للاستنشاق و الاسترواح و لقبول الانشقاق و سهولة الاستطراق و حركة النار إلى فوق لأنّها لو كانت مثل الماء في السيلان و الحركة يمنة و يسرة لاحترقت الدنيا فخلقت طالبة لجهة فوق حيث لا شي ء هناك يقبل الاحتراق و في الآية دلالة على أنّ الكفر و القبائح لا يجوز أن يكون من خلقه.

قوله: [وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ أي ابتدأ خلق آدم الّذي هو أوّل البشر

ص: 261

من طين كان ترابا ثمّ صار طينا ثمّ صلصالا ثمّ حيوانا.

[ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي نسل الإنسان الّذي هو آدم يعني ولده من [سُلالَةٍ] و هي الصفوة الّتي تنسلّ من غيرها و يسمّى ماء الرجل سلالة لانسلاله من صلبه [مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي ضعيف حقير «مهان» لا ثمن له و إنّما يصير جليلا إذا صار ذا عمل و علم.

[ثُمَّ سَوَّاهُ أي جعله بشرا سويّا معدّلا و رتّب جوارحه [وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ و إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف و النصارى يفترون على اللّه الكذب و يقولون بأنّ عيسى روح اللّه فهو ابن و لا يعلمون أنّ كلّ أحد روحه روح اللّه بقوله: «وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» (1) أي الروح الّتي ملكي كما يقول القائل: داري و عبدي [وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ و قوله: «وَ جَعَلَ لَكُمُ» مخاطبا و لم يخاطب من قبل لأنّ الخطاب يكون مع الحيّ لأنّ الخطاب وقع بعد نفخ الروح، جعل لكم أيّها الخلق السمع و الأبصار لتسمعوا المسموعات و تبصروا المبصرات و جعل لكم القلوب لتعقلوا بها و مع ذلك «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» «ما» تأكيديّة مثل «هو» فإمّا بيان لكفرهم بتلك النعم بطريق الاعتراض أي شكرا قليلا أو زمانا قليلة تشكرون و يمكن أن يكون القلّة إشعارا للنفي.

قوله: [وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ كلام مسوق لبيان أباطيلهم و عدم شكرهم بتلك النعم فقالوا: «أَ إِذا ضَلَلْنا» و غبنا في الأرض و صرنا ترابا و خلطنا بترابها بحيث لا نتميّز من التراب، و قرئ بالصاد المهملة من صلّ اللحم إذا أنتن و كلّ شي ء غلب عليه غيره حتّى يغيب فيه فقد ضلّ. و قيل: معنى «ضللنا» أي هلكنا.

[أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ] أي أ نبعث و نحيا؟ استفهام بمعنى الإنكار كيف نخلق جديدا و نعاد بعد أن هلكنا و تفرّقت أجسامنا؟

ثمّ قال سبحانه: [بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي هؤلاء الكفّار «بِلِقاءِ رَبِّهِمْ» أي بما وعدهم من الثواب و أوعدهم من العقاب [كافِرُونَ و جاحدون فلهذا قالوا: هذا القول.

ص: 262


1- الحجر: 29.

قوله تعالى: [سورة السجده (32): الآيات 11 الى 15]

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)

ثمّ أمر نبيّه [قُلْ يا محمّد لهم: لا بدّ من الموت تمّ من الحيات بعد الموت و إليه الإشارة بقوله: [إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ و بقوله: «الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» أنّه لا يغفل عنكم و إذا آن أجلكم لا يؤخّركم ملك الموت إذ لا شغل له غير هذا و التوفّي الاستيفاء يقال: استوفى الدين إذا قبضه على كماله و الملك وكّل بقبض أرواحكم عن ابن عبّاس قال: جعلت الدنيا بين يدي ملك الموت مثل جام يأخذ منها ما يشاء إذا قضى عليه الموت من غير عناء و خطوته ما بين المغرب و المشرق.

و قيل: إنّ له أعوانا كثيرة من ملائكة الرحمة و العذاب و يؤيّد هذا القول قوله:

«تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا» (1) و قوله تعالى: «تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ»* (2) فعلى هذا المراد بالملك الجنس و أمّا إضافة التوفّي إلى نفسه سبحانه في قوله: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» (3) فلأنّه خلق الموت.

و روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الأمراض و الأوجاع كلّها بريد الموت و رسل الموت فإذا جان الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال: يا أيّها العبد كم خبر بعد خبر و كم رسول بعد رسول و كم بريد بعد بريد؟ أنا الخبر الّذي ليس بعدي خبر و أنا الرسول أجب ربّك طائعا أو مكروها فإذا قبض روحه و تصارخوا عليه قال: على من تصرخون و على من تبكون؟ فو اللّه ما ظلمت له أجلا و لا أكلت له رزقا بل دعاه ربّه فليبك الباكي على نفسه فإنّ لي فيكم عودات حتّى لا ابقيكم.

ص: 263


1- الانعام: 61.
2- النحل: 28.
3- الزمر: 42.

و بالجملة ثمّ إنّ الروح الزكيّ الطاهر بعد القبض عند الملائكة مثل الشخص عند أهله و الخبيث الفاجر كأسير بين قوم لا يعرفهم و لا يعرف لسانهم و الأوّل ينمو و يزيد صفاؤه و قوّته و الآخر يزداد شقاؤه و كدورته. و الحكماء يقولون: إن الأرواح الطاهرة تتعلّق بجسم سماويّ خير من بدنها و تكمل به و الأرواح الفاجرة لا كمال لها بعد التعلّق الثاني.

قوله: [وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ أي عند رجوعهم إلى ربّهم ترى المجرمين حالهم و استخجالهم لترى عجبا و يمكن أن يكون خطابا للرسول تشفّيا لصدره فإنّهم يؤذونه بالتكذيب و يحتمل أن يكون عاما مع كلّ أحد قوله: [عِنْدَ رَبِّهِمْ أي عند ما يتولّى اللّه حساب خلقه يقولون:

[رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا] أي أبصرنا الرشد و صدق وعدك و سمعنا منك تصديق الرسل أو المعنى أنّا كنّا بمنزلة العمى فأبصرنا و بمنزله الصمّ فسمعنا [فَارْجِعْنا] فارددنا إلى دار التكليف [نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ اليوم لا نرتاب شيئا من الحقّ و الرسالة.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها] بأن نفعل أمرا من الأمور يلجئهم إلى الإقرار بالتوحيد و لكن ذلك يبطل الغرض بالتكليف لأنّ المقصود به استحقاق الثواب و الإلجاء لا يثبت معه استحقاق الثواب، قال الجبّائي: و يجوز أن يكون المراد به و لو شئنا لأجبناهم إلى ما سألوه من الردّ إلى دار التكليف ليعملوا بالطاعات.

[وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أن اجازيهم بالعقاب و لا أردّهم و قيل: معناه و لو شئنا لهديناهم إلى الجنّة [وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ من كلا الصنفين بكفرهم باللّه و كفرانهم نعمته و القول من اللّه بمنزلة القسم فلذلك أتى بجواب القسم و هو قوله: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ» أي وقع القول «منّي» و هو قوله تعالى:

لإبليس «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ» هذا من حيث النقل.

و أمّا بحسب وجه العقل أنّه تعالى لم يفعل فعلا خاليا عن الحكمة و هذا أمر متّفق عليه و الخلاف في أنّه هل قصد الفعل للحكمة أو فعل الفعل و لزمته الحكمة لا بحيث تحمله الحكمة على الفعل و إذا علم أنّ فعله لا يخلو عن الحكمة و حكمة أفعاله بأسرها لا تدرك على سبيل التفصيل فكلّ ضرب يكون في العالم الكون و الفساد يخرج من تقسيم عقليّ إلى ثلاثة و هو أنّ الفعل إمّا أن يكون خيرا محضا أو شرّا محضا أو خيرا مشوبا

ص: 264

بشرّ و القسم الوسط ما خلق أصلا فانحصرت القسمة إلى قسم و هو خير محض كعالم الملائكة و الأنبياء و العالم العلويّ و إلى قسم فيه خير و شرّ و هو عالمنا و هو العالم السفليّ.

ثمّ إنّ العالم السفليّ الّذي هو عالمنا و إن كان الخير و الشرّ موجودين فيه لكنّه من القسم الّذي خيره غالب فإنّك إذا قابلت المنافع بالمضارّ تجد المنافع أكثر و إذا قابلت الشرّ بالخير تجد الخير أكثر حتّى أنّ الكافر لا يمكن أن يكون وجوده شرّا محضا غاية ما في الباب أنّ الكفر يحيط خيره كفره و لا ينفعه و يستحيل أن لا يوجد منه خيرا مثلا لا يسقي العطشان شربة و لا يطعم الجائع لقمة خبز و لا يذكر ربّه في عمره و كيف يكون كذلك و هو في زمن صباه كان مخلوقا على الفطرة المقتضية للخيرات و قد اختار الكافر بسوء اختياره و قلّة تدبّره كفره فقد جعل الشرّ لنفسه لسوء اختيار فإذا الشر الّذي خلط بالخير أو غلب على الخير في الكافر ليس من فعل اللّه فما فعله سبحانه في الكلّ خير محض فيرجع القسم الثاني إلى القسم الأوّل و الفاعل صيّر الخير شرّا فحينئذ ترك الخير الكثير للشّر القليل لا يناسب الحكمة.

فإن قال قائل: فاللّه قادر على تخليص هذا القسم من الشرّ بحيث لا يوجد فيه شرّ.

فالجواب أنّ معنى هذا الكلام أن يكون اللّه مقهورا بدفع ما أفسده أنا و تفسده أنت و يكون يمنع غيره قهرا عن القبيح و هذا خلاف مقتضى عالم التكليف و الخلق و الأمر كما قال سبحانه: «وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» (1).

قوله: [مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ أي حالا مجموعين من الجنّ و الإنس لا من الملائكة و لا يقتضي ذلك دخول الكلّ لأنّ القائل يقول: ملأت الكيس من الدراهم، و لا يلزم أن لا يبقى دراهم خارج الكيس.

قوله تعالى: [فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ يقال لهؤلاء الّذين طلبوا الرجعة إلى دار التكليف إذا جعلوا في العذاب: فذوقوا بما فعلتم فعل من نسي جزاء هذا اليوم فتركتم ما أمر كم اللّه، و النسيان الترك و الإشارة بقوله: [هذا] إشارة إلى العذاب [وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ الّذي لا فناء له بسبب [ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر و المعاصي.

ص: 265


1- الم السجدة: 13.

ثمّ أخبر عن حال المؤمنين فقال: [إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي يصدّق بالقرآن و سائر حججنا الّذين إذا وعظوا بها تذكّروا و اتّعظوا بمواعظها بأن سقطوا على جباههم ساجدين شكرا للّه على أن هداهم بمعرفته و نزّهوه عمّا لا يليق به من الصفات و عظّموه و حمدوه و هم لا يستكبرون عن عبادته و لا يأنفون أن يعفروا وجوههم صاغرين له و من كان قلبه خاشعا و لسانه ذاكرا و لا يستكبر عن عبادة ربّه فهو مؤمن حقّا.

ثمّ بيّن أيضا صفاتهم بقوله تعالى:

[سورة السجده (32): الآيات 16 الى 20]

تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)

التجافي تعاطي الارتفاع عن الشي ء و قال عبد اللّه بن رواحة يصف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

أي ترتفع جنوبهم عن مواضع اضطجاعهم لصلاة الليل و هم المتهجّدون بالليل الّذين يقومون عن فرشهم للصلاة و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و روى الواحديّ بالإسناد عن معاذ بن جبل قال: بينما نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة تبوك و قد أصابنا الحرّ فتفرّق القوم فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقربهم منّي فدنوت منه فقلت: يا رسول اللّه أنبئني بعمل يدخلني الجنّة و يباعدني من النار قال: لقد سألت عن عظيم و إنّه ليسير على من يسّره اللّه تعبد اللّه و لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة المكتوبة و تؤدّي الزكاة المفروضة و تصوم رمضان قال: و إن شئت أنبئتك بأبواب الخير قال: قلت يا رسول اللّه: أجل قال: الصوم جنّة و الصدقة تكفّر الخطيئة و قيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه اللّه ثمّ قرأ هذه الآية.

ص: 266

و بالإسناد عن بلال قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليكم بقيام الليل فإنّه دأب الصالحين قبلكم و إنّ قيام الليل قربة إلى اللّه تكفير للسيّئات و مطردة للداء عن الجسد.

و قيل: هم الّذين يصلّون ما بين المغرب و العشاء الآخرة و هي صلاة الأوّابين. و قيل: هم الّذين يصلّون العشاء و الفجر بالجماعة و في الآية الاولى و هي «إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا» (1) إشارة إلى المرتبة العالية و هي العبادة لوجه اللّه مع الذهول عن الخوف و الطمع و في الثانية إشارة إلى المرتبة الأخيرة و هي العبادة للخوف كمن يخدم ملكا مخافة سطوته أو يخدم الملك الجواد طمعا في برّه.

ثمّ بيّن جزاء فعلهم بقوله: [فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ يعني بما تقرّ العين عنده و لا يلتفت إلى غيره و لا يعلم أحد ما جي ء لهؤلاء الّذين «ذكّروا» قال ابن عبّاس «ما» لا تفسير له فالأمر أعظم و أجلّ ممّا يعرف تفسيره و قد ورد في الصحيح أنّه قال: إنّ اللّه يقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر بل هو ممّا اطّلعتكم هذا عليه اقرءوا إن شئتم «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» رواه البخاريّ و مسلم جميعا.

و قد قيل في فائدة الإخفاء وجوه: أحدها أنّ الشي ء إذا عظم خطره و جلّ قدره لا يستدرك صفاته على كنهه إلّا بشرح طويل و مع ذلك فيكون إبهامه أبلغ، و ثانيها أنّه جعل ذلك في مقابلة صلاة الليل و هي خفيّة فكذلك ما بارأها من جزائها و يؤيّد ذلك ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: ما من حسنة إلّا و لها ثواب مبيّن في القرآن إلا صلاة الليل فإنّ اللّه عزّ اسمه لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها قال: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ الآية» و قرّة العين رؤية ما تقرّ به العين يقال: أقرّ اللّه عينك أي صادف فؤادك ما يرضيك و المستبشر الضاحك يخرج من عيونه دمع بارد و المحزون المهموم يخرج من عينيه دمع حارّ و يقال: فلان سخين العين و فلان قرير العين.

ص: 267


1- الم السجدة: 13.

قوله تعالى: [أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ استفهام إنكاريّ أي أ يكون من هو مصدّق بآيات اللّه على الحقيقة عارف باللّه عامل بما أوجبه اللّه عليه مثل من هو فاسق خارج عن طاعة اللّه مرتكب لمعاصي اللّه «لا يَسْتَوُونَ» لأنّ منزلة المؤمن درجات الجنان و منزلة الفاسق دركات النيران.

ثمّ فسّر سبحانه ذلك بقوله: [أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى يأوون إليها [نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي عطاء و تشريفا ينزله اللّه فيها كما ينزل الضيف يعني إنّهم في حكم الأضياف.

[وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا] و خرجوا من الدين و الطاعة [فَمَأْواهُمُ النَّارُ] و يأوون إلى النار [كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها] و همّوا بالخروج منها لما يلحقهم من ألم العذاب [أُعِيدُوا] و ردّوا [فِيها] بالمقامع.

و قيل لهم: [ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ و تجحدونه و في هذا دلالة على أنّ المراد بالفاسق هنا الكافر المكذّب قال ابن أبي ليلى: نزل قوله: «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً» في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و رجل من قريش و قال: غيره: في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و الوليد بن عقبة فالمؤمن عليّ و الفاسق الوليد و ذلك أنّه قال لعليّ عليه السّلام:

أنا أبسط منك لسانا و أحدّ منك سنانا فقال عليه السّلام: لست كما تقول يا فاسق، قال قتادة:

لا و اللّه ما استووا لا في الدنيا و لا عند الموت و لا في الآخرة.

قوله تعالى: [سورة السجده (32): الآيات 21 الى 25]

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)

ثمّ أقسم سبحانه في هذه الآية فقال:

[وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أمّا العذاب الأكبر فهو عذاب جهنّم في

ص: 268

الآخرة و أمّا العذاب الأدنى ففي الدنيا. و اختلف فيه فقيل: إنّه المصائب و المحن في الأنفس و الأموال عن ابن عبّاس و جماعة و قيل: هو عذاب بدر بالسيف و قيل: هو ما ابتلوا به من الجوع سبع سنين بمكّة حتّى أكلوا الجيف و الكلاب و قيل: هو الحدود و قيل: هو هو عذاب القبر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و الأكثر في الرواية عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّ «الْعَذابِ الْأَدْنى خروج دابّة الأرض و الدجّال.

[لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى الحقّ و يتوبوا من كفرهم و قيل: ليرجعوا الآخرون عن أن يذنبوا مثل ذنوبهم.

فإن قيل: إنّ «لعلّ» للترجّي و اللّه سبحانه محال ذلك عليه؟ معناه لنذيقهم إذاقة الراجين كقوله: إنّا أنسيناكم، يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلا فكذلك هاهنا نذيقهم على الوجه الّذي يفعل بالراجي من التدريج و كلّ فعل يتلوه أمر مطلوب يصحّ تعليل ذلك الفعل بذلك الأمر و لو علم وقوع ذلك المطلوب أو علم سبحانه وقوعه و هذا مثل قوله: «وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ» مع أنّ الجزم به لازم غاية ما في الباب أنّ الرجاء في أكثر الأمر استعمل فيما لا يكون الأمر معلوما فأوهم أن لا تجوز الإطلاق في حقّ اللّه و ليس كذلك بل الترجّي يجوز في حقّ اللّه و لا يلزم منه عدم العلم و إنّما يلزم عدم الجزم بناء على ذلك الفعل و علم اللّه ليس مستفاد من الفعل.

قوله تعالى: [وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها] يعني لنذيقهم و لا يرجعون فيكونون قد ذكّروا بآيات اللّه من النعم أوّلا و النقم ثانيا و لم يؤمنوا فلا أظلم منهم أحد لأنّ من يكفر باللّه ظالم و أنّ اللّه لذوي البصائر ظاهر لا يحتاج المستنير الباطن إلى شاهد يشهد عليه بل هو شهيد على كلّ شي ء كما قال سبحانه: «أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» (1) و لذا قال العارفون: من لم يكفه اللّه فسائر الموجودات كاف في شواهد وجوده سبحانه و قدرته فالأوّل الّذي لا يحتاج إلى غير اللّه هو عدل و الثاني الّذي يحتاج إلى دليل فهو متوسّط، و الثالث الّذي لم تكفه الموجودات الآفاقيّة و الأنفسيّة

ص: 269


1- المائدة: 120.

ظالم، و الرابع الّذي لم تقنعه نعم اذيق العذاب في الدنيا لا يرجع عن ضلالته فلا أظلم منه أصلا فقال: و من أظلم ممّن ذكّر بآيات ربّه ثمّ أعرض عنها جانبا و لم ينظر فيها.

[إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ الّذين يخالفون اللّه [مُنْتَقِمُونَ بأن يحلّ العذاب بهم فكيف بمن كان أظلم من كلّ ظالم؟

قوله: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ و المراد بالكتاب التوراة فلا تشكّ من لقائك موسى كما أنّه صلّى اللّه عليه و آله لقاه ليلة الإسراء به صلّى اللّه عليه و آله عن ابن عبّاس في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ليلة اسري بي رأيت موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنّه من رجال شنوءة و رأيت عيسى رجلا مربوعا المائل إلى الحمرة و البياض سبطا الرأس فعلى هذا قد وعده سبحانه أنّه سيلقى موسى قبل أن يموت.

و قيل: المعنى فلا تكن من لقاء موسى إيّاك في الآخرة.

و قيل: معناه فلا تكن في شكّ من لقاء الأذى كما لقي موسى الأذى، فحينئذ يكون المعنى فلا تك في مرية ممّا تلقى من الأذى كما لقي موسى من قومه فإنّه لقي ما لقيت و اوذي كما أوذيت فعلى هذا اختصاص موسى بالذكر إشعار لمعنى و هو أنّ سائر الأنبياء لم يؤذيه قومه إلّا من لم يؤمن بهم و أمّا الّذين آمنوا فلم يخالفوه غير قوم موسى فإنّ من لم يؤمن به أذاه مثل فرعون و من آمن به من بني إسرائيل أيضا أذاه بالمخالفة و طلبوا منه أشياء مثل طلب الرؤية و غيره.

ثمّ بيّن سبحانه له صلّى اللّه عليه و آله أنّ هدايتك لقومك غير خالية عن المنفعة كما أنه لم تخل هداية موسى فقال: [وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ* وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا] جعل اللّه كتاب موسى هدى و جعل من بني إسرائيل أنبياء و أئمّة في الدين كذلك نجعل كتابك هدى و من ذرّيّتك و امّتك أصحابا يهدون الناس.

ثمّ بيّن ذلك أنّ ذلك يحصل بالصبر فقال: [لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ فكذلك اصبروا و تحمّلوا فإنّ وعد اللّه حقّ [إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] و يحكم بين المؤمن و الكافر و الفاسق في مختلفاتهم من التصديق و التكذيب و من أعمالهم و امور دينهم.

ص: 270

قوله تعالى: [سورة السجده (32): الآيات 26 الى 30]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ (26) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ (27) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

و لمّا أعاد ذكر الرسالة في الآية السابقة أعاد ذكر معرفة التوحيد فقال:

[أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ و فاعل «يهد» مضمر يفسّره و يدلّ عليه «كَمْ أَهْلَكْنا» أي ما هداهم إلى معرفتنا إهلاك من أهلكناه، و الواجب من الهدي ما يؤدّي إلى ما ليس للعبد عنه غني في دينه أي أولم يبصرهم و يتبين لهم إهلاكنا قرونا قبلهم بسبب كفرهم باللّه فهلكوا و أبادهم اللّه و يمشون هؤلاء في مساكنهم و ديارهم و يرون آثارهم. و قيل:

معناه: أنّا أهلكناهم و هم مشاغيل بنفوسهم و كانوا يمشون في مساكنهم و جاءهم العذاب و الهلاك بغتة.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ أي في إهلاكنا إيّاهم دلالات على الحقّ [أَ فَلا يَسْمَعُونَ هؤلاء الكفّار ما يوعظون به من المواعظ.

ثمّ نبّههم على وجه آخر فقال: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا] و يعلموا [أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ] بالمطر و الثلج و الأنهار و العيون و سيلان طبيعة الماء [إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ] و الجرز فيه أربع لغات بضمّ الجيم و الراء و بفتحهما و بضمّ الجيم و إسكان الراء و فتح الجيم و إسكان الراء أي الأرض المقطوع عنها الماء اليابسة الّتي لا نبات فيها [فَنُخْرِجُ بِهِ بسبب سوق الماء منها [زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ من ذلك الزرع [أَنْعامُهُمْ أوّلا [وَ أَنْفُسُهُمْ أي الأرض تنبت ما يأكله الإنسان و الحيوان [أَ فَلا يُبْصِرُونَ نعم اللّه عليهم.

[وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قيل: المراد فتح مكّة و قيل: هو القضاء بعذابهم في الدنيا و هو يوم «بدر» و قيل: هو الحكم بالثواب و العقاب يوم القيامة و كانوا يسمعون المسلمين يستفتحون باللّه عليهم فقالوا: «مَتى هذَا الْفَتْحُ» أي متى هذا الحكم فينا.

ص: 271

[قُلْ يا محمّد: [يَوْمَ الْفَتْحِ يوم [لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ بيّن سبحانه أنّ يوم الفتح يكون يوم القيامة و ذلك اليوم لا ينفع الكافرين إيمانهم [وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤخّر عنهم العذاب كما أنّ الّذين قتلوا يوم بدر لم ينفعهم إيمانهم بعد القتل.

[فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يا محمّد فإنّه لا ينجح الدعاء و الوعظ [وَ انْتَظِرْ] حكم اللّه فيهم و انتظر موعدي لك بالنصر على أعدائك [إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ بك حوادث الزمان من موت أو قتل فيستريحوا منك أو انتظر النصر من اللّه فإنّهم ينتظرون النصر من آلهتهم تمّت السورة

ص: 272

سورة الأحزاب

اشارة

(مدنية)

فضلها:

ابيّ بن كعب قال: و من قرأها و علّمها أهله و ما ملكت يمينه اعطي الأمان من عذاب القبر.

و روى عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و أمر سبحانه نبيّه في تختيم تلك السورة بالانتظار و أمره في مفتتح هذه السورة أن يكون في انتظاره متيقّنا فقال:

ص: 273

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأحزاب (33): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)

ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)

و هاهنا تحقيق و هو أنّ الفرق بين قوله: يا رجل و يا أيّها الرجل أنّ «يا رجل» يدلّ على النداء و «يا أيّها الرجل» يدلّ على النداء أيضا و ينبئ عن خطر خطب الأمر أو تنبيه غفلة المخاطب أو اعلم هذا فلا يجوز حمل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» على غفلته لأنّ قوله سبحانه: النبيّ ينافي الغفلة لأنّ النبيّ خبير فلا يكون غافلا فيجب حمله على خطر الخطب و الأمر و كلمة «أيّ» و كلمة «ها» تأكيد على تأكيد لعظمة المنادى له فقال:

[يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ .

فلو قيل: إنّ الأمر بالشي ء لا يكون إلّا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به إذ لا يصلح أن يقال للجالس: اجلس، و للساكت: اسكت، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان متّقيا فما لوجه فيه؟

فالجواب أنّه امر بالمداومة فإنّه يصحّ أن يقول القائل للجالس: اجلس هنا إلى

ص: 274

أن أجيئك، و للساكت: قد نجوت فاسكت و دم على ما أنت عليه. و تقريره و هو أنّ الملك يتّقي منه عباده على ثلاثة أوجه بعضهم يخاف من عقابه و بعضهم يخاف من قطع ثوابه و ثالث يخاف من احتجابه فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يؤمر بالتقوى بالمعنى الأوّل و لا بالمعنى الثاني و أمّا الثالث فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا و كيف و الأمور الدنيويّة شاغلة و الآدميّ في الدنيا تارة مع اللّه و اخرى مقبل على ما لا بدّ منه و إن كان معه اللّه و إلى هذا إشارة بقوله: «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ»* يعني أنّه يرفع الحجاب عنّي وقت الوحي ثمّ أعود إليكم كأنّي منكم فالأمر بالتقوى يوجب استدامة الحضور.

و بعبارة اخرى إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلّ لحظة كان يزداد علمه و مرتبته حتّى حاله فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه تركا للأفضل فكان له في كلّ ساعة تقوى متجدّدة فقوله:

«اتَّقِ اللَّهَ» على هذا البيان أمر بما ليس فيه و إلى هذا أشار صلّى اللّه عليه و آله بقوله: من استوى يوماه فهو مغبون، و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: ربّ زدني علما، و هذه نكتة استغفاره صلّى اللّه عليه و آله في كلّ يوم سبعين مرّة ليجدّد له مقام فوق مقام كان عليه.

قوله: [وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ يقرّر قولنا: اتّق اللّه تقوى تمنعك من طاعتهم. و سبب النزول: نزلت في أبي سفيان بن حرب و عكرمة بن أبي جهل و أبي أعور السلميّ قدموا المدينة و نزلوا على عبد اللّه بن ابيّ بعد غزوة احد بأمان من رسول اللّه ليكلّموه فقاموا و قام معهم عبد اللّه بن ابيّ و عبد اللّه بن أبي سرح و طعمة بن أبيرق فدخلوا على رسول اللّه فقالوا: يا محمّد ارفض ذكر آلهتنا اللّات و العزّى و مناة و قل: إنّ لها شفاعة لمن عبدها، و ندعك و ربّك فشقّ، ذلك على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال عمر بن الخطّاب:

ائذن لنا في قتلهم فقال: إنّي أعطيتهم الأمان و أمر صلّى اللّه عليه و آله فاخرجوا من المدينة فنزلت:

«وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ».

و قيل: نزلت في أناس من ثقيف قدموا على رسول اللّه فطلبوا منه أن يمتّعهم باللّات و العزّى سنة قالوا: لتعلم قريش مكانتنا منك.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً] أي عليم بما يكون قبل كونه، حكيم فيما يخلقه.

لمّا نهاه عن متابعة الكفّار أمر باتّباع أو امره و نواهيه على الإطلاق فقال: [وَ اتَّبِعْ

ص: 275

ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن و الشرائع فبلّغه و اعمل به [إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً] أي لا يخفى عليه شي ء من أعمالكم فيجازيكم بحسبها إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ.

[وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و فوّض أمرك إليه حتّى لا تخاف غيره و لا ترجو إلّا خيره [وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا] قائما بتدبيرك حافظا لك و دافعا عنك [ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت في أبي معمر الفهريّ و اسمه جميل و كان لبيبا حافظا لما يسمع و كان يقول:

إنّ في جوفي لقلبين أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد فكانت قريش تسمّيه ذا القلبين فلمّا كان يوم بدر هزم المشركون و فيهم أبو معمر و تلقّاه أبو سفيان بن حرب و هو أخذ بيده إحدى نعليه و الاخرى في رجله فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال:

انهزموا قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك و الاخرى في رجلك؟ فقال أبو معمر: ما شعرت إلّا أنّهما في رجلي فعرفوا يومئذ أنّه لم يكن إلّا قلب واحد. و قيل: إنّ المنافقين كانوا يقولون: إنّ لمحمّد قلبين ينسبونه إلى الدهاء فأكذبهم اللّه بذلك و قيل: إنّ رجلا كان يقول: إنّ لي نفسين نفسا تأمرني و نفسا تنهاني فنزل ذلك فيه.

و حاصل المعنى: ليس لأحد قلبان يؤمن بأحد هما و يكفر و إنّما هو قلب واحد فإمّا أن يؤمن و إمّا أن يكفر و نزلت الآية ردّا على قولهم في هذا المعنى صراحة و مطابقة و تفيد التزاما معنى آخر بأنّه كما لا يمكن أن يكون لرجل واحد قلبان لأنّ أمر الرجل الواحد لا ينتظم و معه قلبان و كيف يمكن الجمع بين اتّباع أمرين متضادّين اتّباع الوحي و القرآن و اتّباع الكفر و الطغيان؟ فالاعتقاد ينشئ من فعل القلب فحينئذ لا يجوز أن يحبّ قوما بهذا القلب و يعادي قوما بهذا القلب فإذا كان لا يجوز كون قلبين لرجل واحد كيف يمكن و ينتظم امور العالم و له إلهان و خالقان و معبودان؟

قوله تعالى: [وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ طاهر من امرأته: قال لها: أنت عليّ كظهر امّي، و كانت العرب تطلّق نساءها في الجاهليّة بهذا اللّفظ فلمّا جاء الإسلام نهوا عنه و أوجب الكفّارة عن من ظاهر من امرأته، و المعنى أنّ الزوجة لا تصير امّا فبيّن سبحانه أنّ هذه النسوة اللّاتي ظاهرتموهنّ لسن امّهاتكم فإنّ امّهاتكم

ص: 276

على الحقيقة هنّ اللّائي ولدنكم أو أرضعنكم.

[وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ و «الأدعياء» جمع الدعيّ و هو الّذي يتبنّاه الإنسان فبيّن اللّه سبحانه أنّه ليس بابن على الحقيقة و نزلت في زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبيّ من بني عبد ودّ تبنّاه النبيّ قبل الوحي و كان قد وقع عليه السبي فاشتراه رسول اللّه بسوق عكاظ فدعاه صلّى اللّه عليه و آله إلى الإسلام فأسلم فقدم أبوه إلى مكّة و أتى أبا طالب و قال: سل ابن أخيك فإمّا أن يبيعه و إمّا أن يعتقه فلمّا قال ذلك أبو طالب لرسول اللّه قال: هو حرّ فليذهب حيث شاء، فأبى زيد أن يفارق رسول اللّه فقال حارثة: اشهدوا يا معشر قريش إنّه ليس ابني، فقال رسول اللّه: اشهدوا أنّه ابني، فكان يدعى زيد بن محمّد فلمّا تزوّج النبيّ زينب بنت جحش و كانت تحت زيد بن حارثة قالت اليهود و المنافقون: تزوّج محمّد امرأة ابنه و هو ينهى الناس عنها! فقال اللّه: ما جعل من تدعونه ولدا و هو ثابت النسب من غيركم ولدا لكم.

[ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي إنّ قولكم: «الدعيّ ابن الرجل» شي ء تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له عند اللّه [وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَ الّذي يلزم العمل به [وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ يرشد إلى طريق الحقّ.

[ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الّذين ولّدوهم و أنسبوهم إليهم أو إلى من ولدوا على فراشهم [هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي نسبة الأبناء إلى الآباء أعدل عند اللّه قولا و حكما [فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ و لم تعرفوه بأعيانهم [فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ فهم إخوانكم في الدين و الملّة فتقولوا: يا أخي «و مواليكم» أي بنو أعمامكم. و قيل: المعنى أولياؤكم في وجوب النصرة. و قيل: معناه أي إذا أعتقتموهم من رقّ فلكم و ولاؤهم.

[وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي ليس عليكم حرج في نسبته إلى المتبنّين إذا ظننتم أنّه أبوه و لم تعلموا أنّه ليس بابن له فلا يؤاخذكم اللّه به و لكنّ الإثم و الجناح في ما تعمّدت قلوبكم و قصدتموه من دعائهم إلى غير آبائهم فإنّكم حينئذ تؤاخذون به و قيل: ما أخطأتم قبل النهي و ما تعمّدتم بعد النهي [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً] لما سلف من قولكم [رَحِيماً] بكم.

ص: 277

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 6 الى 10]

اشارة

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)

النزول:

قال الكلبيّ آخى رسول اللّه بين الناس فكان يؤاخي بين الرجلين فإذا مات أحدهما ورثه الثاني منهما دون أهله فمكثوا بذلك ما شاء اللّه حتّى نزلت: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ» فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة و الهجرة و ورث الأدنى فالأدنى من القربات و قال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة و كان لا يرث الأعرابيّ المسلم من المهاجرين شيئا فلمّا نزلت هذه الآية فصارت المواريث بالقرابات.

قوله: [النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي هو أولى بهم منهم بأنفسهم، و قيل:

في معناه وجوه:

أحدهما: أنّه صلّى اللّه عليه و آله أحقّ بتدبيرهم و حكمه أنفذ عليهم من حكمهم على أنفسهم لوجوب طاعته الّتي هي مقرونة بطاعة اللّه.

و ثانيها: أنّه أولى بهم في الدّعوة فإذا دعاهم النبيّ إلى شي ء و دعتهم أنفسهم إلى شي ء كانت طاعته أولى من طاعة أنفسهم و هذا قريب من معنى الأوّل.

و ثالثها: أنّه أولى بهم من أنفسهم فإذا كان هو أحقّ بهم و هو لا يرث امّته مع هذا الحقّ فكيف يرث من توجبون حقّه بالتبنّي؟

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أراد غزوة تبوك و أمر الناس بالخروج قال قوم:

ص: 278

نستأذن آباءنا و امّهاتنا، فنزلت هذه الآية.

و في قراءة ابيّ بن كعب و ابن مسعود أنّهم كانوا يقرءون: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» و هو أب لهم. و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

قال مجاهد: كلّ نبيّ أب لأمّته و لذلك صار المؤمنون إخوة و اشتقاق الأنفس من النفاسة و الجلالة لأنّ هذه الصفة أكرم ما فيه أو من التنفّس الّذي هو التروّح و بمعنى الأوّل فهي خاصّة الحيوان الحسّاسة الدرّاكة.

قوله: [وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ المعنى أنّهن للمؤمنين كالامّهات في الحرمة و تحريم النكاح و لسن امّهات لهم على الحقيقة إذ لو كنّ كذلك لكانت بناته أخوات المؤمنين على الحقيقة فكان لا يحلّ للمؤمن التزويج بهنّ فثبت أنّ المراد به يعود إلى حرمة العقد عليهنّ لا غير لأنّه لم يثبت شي ء بين المؤمنين و بينهنّ من الأمومة سوى هذه الواحدة ألا ترى أنّه لا يحلّ للمؤمنين رؤيتهنّ و لا يرثن المؤمنين كالامّهات و لا يرثهنّ.

[وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ و أولو الأرحام هم ذوي الأنساب و لا توارث إلّا بالولادة و الرحم و المعنى أنّ ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض المؤمنين من الأنصار و المهاجرين الّذين هاجروا من مكّة إلى المدينة و المتؤاخين فصارت هذه الآية ناسخة للتوارث بالهجرة و المؤاخاة و يتعيّن أنّ الميراث بالنسب فمن كان أقرب في قرباه فهو أحقّ بالميراث من الأبعد.

[إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً] هذا استثناء منقطع و معناه لكن إن فعلتم إلى أوليائكم المؤمنين و خلفائكم ما يعرف حسنه و صوابه، قيل: المراد بذلك وصيّة الرجل لإخوانه و أحبّائه في معروف و قيل: لمّا نسخ آية التوارث بالمؤاخاة و الهجرة أباح الوصيّة فيوصي لمن يتولّاه بما أحبّ من الثلث. و فسّروا المعروف بالوصيّة، و حكي عن محمّد بن الحنفيّة و عكرمة و قتادة أنّ معناه الوصيّة لذوي القرابات. الكافرة و قيل: لا يصحّ هذا لأنّه تعالى نهى عن ذلك بقوله: «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ». و قال أصحابنا الإماميّة:

ص: 279

إنّها جائزة للوالدين و الولد.

[كانَ ذلِكَ نسخ الميراث بالهجرة و ردّه إلى اولي الأرحام [فِي الْكِتابِ أي في القرآن أو في اللوح أو في التوراة [مَسْطُوراً] و مكتوبا.

قوله: [وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ و المراد من الميثاق المأخوذ منهم إرسالهم و أمرهم بالتبليغ و خصّ بالذكر أربعة من الأنبياء في الآية لأنّ عيسى و موسى كان لهما في زمان نبيّنا قوم و امّة فذكرهما احتجاجا و بيانا عليهما و إبراهيم كان العرب يقولون بفضله و يتّبعونه في الشعائر بعضها و نوحا لأنّه كان أصلا ثانيا للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان.

فلو قيل: آدم كان أولى بالذكر على هذه الصورة.

فالجواب أنّه في زمان آدم ما كان إهلاك و تعذيب و لكن نوح كان مخلوقا للإنذار و النبوّة.

و بالجملة المعنى: و اذكر يا محمّد حين أخذ اللّه الميثاق و العهد على النبيّين خصوصا بأن يصدّق بعضهم بعضا. و قيل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا اللّه و يدعو إلى عبادة اللّه و أن ينصحوا لأمّتهم.

[وَ مِنْكَ يا محمّد و إنّما قدّمه لفضله و شرفه [وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ و تخصيص ذكرهم مرّ بيانه و لأنّهم أصحاب الشرائع [وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً] أي عهدا شديدا على الوفاء بما حمّلوا من إعباء الرسالة و تبليغ الشرائع، و قيل:

المعنى: أخذنا منهم عهدا على أن يعلنوا أنّ محمّدا رسول اللّه و كذلك يعلن محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنّه لا نبيّ بعده.

ثمّ بيّن سبحانه الفائدة في أخذ الميثاق فقال: [لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي فعلنا ذلك ليسأل اللّه يوم القيامة الأنبياء الّذين صدقوا عهدهم فيظهر صدقهم و يعترفون بأنّا قد بلّغنا قومنا و بيّنّا لهم ما كلّفنا اللّه إبلاغه أو أن يسأل عنهم هل ظلم اللّه أحدا هل نجازي كلّ إنسان بفعله هل عذاب بغير ذنب؟ و نحو ذلك فيقولون: عدل في حكمه و

ص: 280

جازى كلّا بفعله، فهذا حال الصادقين و فيه إشارة إلى تبكيت الكاذب [وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً].

ثمّ خاطب سبحانه المؤمنين فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ذكّرهم عظيم نعمته عليهم في دفع الأحزاب عنهم [إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ] هم الّذين تحزّبوا على رسول اللّه و هم قريش و غطفان و بنو قريظة و بنو النضير أيّام الخندق [فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ ريح الصبا حتى أكفئت قدورهم (1) و نزعت فساطيطهم [وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها] من الملائكة و قيل: إنّ الملائكة لم يقاتلوا يومئذ و لكن كانوا يشجّعون المؤمنين و يخوّفون الكافرين [وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً] من قرء بالتاء وجّه الخطاب إلى المؤمنين و من قرء بالياء وجّه الضمير إلى الكافرين.

قوله تعالى: [إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا] أي و اذكروا حين جاءكم جنود المشركين «من فوقكم» أي من فوق الوادي من قبل المشرق قريظة و النضير و غطفان «وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» أي قبل المغرب من ناحية مكّة أبو سفيان في قريش و من تبعه «وَ إِذْ زاغَتِ» و مالت عن كلّ شي ء فلم ينظر إلّا إلى عدوّها مقبلا من كلّ جانب. و قيل: معناه عدلت الأبصار عن مقرّها من الدهش و الحيرة «وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» و الحنجرة جوف الحلقوم أي شخصت القلوب من مكانها فلو لا أنّه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت، و قوله: «بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» لأنّهم جبنوا و جزع أكثرهم و إنّ الجبان إذا اشتدّ خوفه لا بدّ و أن ينتفخ ريته و إذا انتفخت الريّة دفعت القلوب إلى الحنجرة.

قال أبو سعيد الخدريّ: قلنا يوم الخندق: يا رسول اللّه هل من شي ء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: قولوا: اللهمّ استر عوراتنا و آمن روعاتنا، قال: فقلناها فضرب وجوه أعداء اللّه بالريح فهزموا.

«وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» أي اختلفت الظنون فظنّ بعضكم باللّه النصر و بعضكم آيس و قنط و ظنّوا ظنونا مختلفة و من كان منهم ضعيف الإيمان و القلب ظنّ ما ظنّه المنافقون من أنّ ما وعده من نصرة الدين غرور.

ص: 281


1- جمع القدر- بالكسر- ما يطبخ فيه.

و قصّة غزوة الخندق مختصرها ذكر أصحاب السير كان من حديث الخندق أنّ نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق و حيّ بن أخطب في جماعة من بني النضير الّذين أجلاهم رسول اللّه خرجوا حتّى قدموا على قريش بمكّة فدعوهم إلى حرب رسول اللّه و قالوا: إنّا سنكون معكم عليهم حتّى نستأصلهم فقال لهم قريش: يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الأوّل فديننا خير أم دين محمّد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه و أنتم أولى بالحقّ منه فهم الّذين أنزل اللّه فيهم: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا- إلى قوله- وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» (1) فسرّ قريشا ما قالوا و نشطوا لما دعوهم فأجمعوا لذلك و استعدّوا له ثمّ أتوا أولئك النفر من اليهود حتّى جاءوا غطفان فدعوهم إلى حرب رسول اللّه و أخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه و إنّ قريشا قد بايعوهم على ذلك فأجابوا غطفان و قبلوا فخرجت قريش و قائدهم أبو سفيان بن حرب و خرجت غطفان و قائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاريّ و جماعة من أشجع و حلفائهم من بني أسد و غطفان و بني سليم مددا لقريش.

فلمّا علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضرب الخندق على المدينة و كان الّذي أشار عليه سلمان الفارسيّ و كان أوّل مشهد شهد سلمان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يومئذ حرّ قال: يا رسول اللّه إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون حتّى أحكموه.

فما ظهر من دلائل النبوّة في حفر الخندق ما رواه أبو عبد اللّه الحافظ بإسناده قال:

خطّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعا بين عشرة فاختلفت المهاجرون و الأنصار في سلمان الفارسيّ و كان رجلا قويّا فقال الأنصار: سلمان منّا، و قال المهاجرون:

سلمان منّا، قال عمرو بن عوف: فكنت أنا و سلمان و حذيفة بن اليمان و النعمان بن مقرّن و ستّة من الأنصار نقطع أربعين ذراعا فحفرنا إذا بلغنا الثرى أخرج اللّه صخرة بيضاء مدوّرة من بطن الخندق فكسرت حديدنا و شقّت علينا فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول اللّه و أخبره عن الصخرة فأمّا إن نعدل عنها فإنّ المعدل قريب و أمّا إن نأمرنا فيه بأمره فإنّا

ص: 282


1- النساء: 54.

لا نحبّ أن نجاوز خطّه فرقى سلمان حتّى أتى رسول اللّه و هو مضروب عليه قبّة فقال: يا رسول اللّه خرجت صخرة بيضاء مدوّرة فكسرت حديدنا حتّى ما يحكّ فيها قليل و لا كثير فمرنا فيه بأمرك، فهبط رسول اللّه مع سلمان في الخندق و أخذ المعول و ضرب به ضربة فتألّق منها برقة أضاءت ما بين لابتيها- يعني لابتي المدينة- حتّى لكأنّ مصباحا في جوف ليل مظلم فكبّر رسول اللّه تكبيرة فتح فكبّر المسلمون ثمّ ضرب ضربة اخرى فلمعت برقة اخرى فقال سليمان: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه ما هذا الّذي أرى فقال: أمّا الاولى فإنّ اللّه عزّ و جلّ فتح عليّ بها اليمن و أمّا الثانية فإنّ اللّه فتح عليّ بها الشام و المغرب و أمّا الثالثة فإنّ اللّه فتح عليّ بها المشرق فاستبشر المسلمون بذلك و قالوا: الحمد للّه موعود صادق.

قال: و طلعت الأحزاب فقال المؤمنون: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ» و قال المنافقون:

ألا تعجبون يحدّثكم و يعدكم الباطل و يخبركم أنّه يبصر في يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى و أنّها تفتّح لكم و أنتم تحفرون الخندق و لا تستطيعون أن تبرزوا؟

و ممّا ظهر أيضا من آيات النبوة ما رواه أبو عبد اللّه الحافظ بالإسناد عن عبد الواحد ابن أمين المخزوميّ قال: حدّثني أيمن المخزوميّ قال: سمعت جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: كنّا يوم الخندق نحفر فعرضت فيه كدّانة و هي القطعة من الجبل فقلنا: يا رسول اللّه عرضت فيه كدّانة فقال صلّى اللّه عليه و آله: رشّوا عليها ماء ثمّ قام فأتاها و بطنه معصوب بحجر من الجوع فأخذ المعول أو المسحاة فسمّى ثلاثا ثمّ ضرب فعادت كثبا اهيل فقلت له: ائذن لي يا رسول اللّه إلى المنزل ففعل فقلت: للمرأة هل عندك من شي ء؟ فقالت: عندي صاع من شعير و عناق فطحنت الشعير و عجنته و ذبحت العناق و سلختها و خلّيت بين المرأة و بين ذلك ثمّ أتيت إلى رسول اللّه فجلست عنده ساعة ثمّ أتيت إلى المرأة فإذا العجين و اللّحم قد أمكنا فرجعت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت: إنّ عندنا طعاما فقم أنت يا رسول اللّه و رجلان من أصحابك فقال: و كم هو؟ قلت: صاع من شعير و عناق، فقال صلّى اللّه عليه و آله للمسلمين جميعا: قوموا إلى جابر، فقاموا فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلّا اللّه و قلت: جاء بالخلق على صاع و عناق فدخلت على المرأة و قلت: قد افتضحت جاءك رسول اللّه بالخلق أجمعين فقالت: هل سألك كم

ص: 283

طعامك؟ قلت: نعم، فقالت: اللّه و رسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا فكشفت عنّي غمّا شديدا فدخل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال لها: دعيني من اللّحم فجعل صلّى اللّه عليه و آله يثرّد و يفرّق اللّحم ثمّ يجمّ هذا و يجمّ هذا فما زال يقرب إلى الناس حتّى شبعوا جميعا و يعود التنوّر و القدر على حاله ثمّ قال رسول اللّه: كلي و أهدي قالت: فلم نزل نأكل و نهدي قومنا أجمع، أورده البخاريّ في الصحيح.

و عن البراء بن عازب قال: كان رسول اللّه ينقل معنا التراب يوم الأحزاب و قد وارى التراب بياض بطنه و هو يقول: اللّهمّ لو لا أنت ما اهتدينا، و لا تصدّقنا و لا صلّينا، فأنزلن سكينة علينا، و ثبّت الأقدام إن لاقينا، إنّ الاولى و قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا يرفع بها صوته صلّى اللّه عليه و آله رواه البخاريّ أيضا في الصحيح عن أبي الوليد عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء.

قالوا: و لمّا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الخندق و أقبلت قريش حتّى نزلت بين الجرف و الغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم و من تابعهم من بني كنانة و أهل تهامة و أقبلت غطفان و من تابعهم من أهل نجد حتّى نزلوا إلى جانب احد و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى جعلوا ظهورهم إلى الهلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره و الخلق بينه و بين القوم و أمر بالذراري فرفعوا في الأطام.

و خرج عدوّ اللّه حيّ بن أخطب النضيريّ حتّى أتى كعب بن أسيد القرظيّ صاحب بني قريظة و كان قد وادع رسول اللّه على قومه و عاهد على ذلك فلمّا سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه فاستأذن ابن أخطب عليه فأبى كعب أن يفتح له الباب فناداه يا كعب افتح لي اكلّمك قال: يا حيّ إنّك رجل مشئوم إنّي عاهدت محمّدا و لست بناقض ما بيني و بينه و لم أر منه إلّا وفاء و صدقا، قال: و يحك افتح لي اكلّمك، قال: ما أنا بفاعل قال: ما أغلقت دوني إلّا على جشيشة (الجشيشة طعام يصنع من البرّ و اللّحم و التمر) نكره أن آكل منها معك فاستحيا كعب و فتح الباب فقال حيّ: و يحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر و ببحر طام جئتك بقريش على قادتها و سادتها و بغطفان على سادتها و قادتها قد عاهدوني أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمّدا و من معه فقال كعب: جئتني و اللّه بذلّ

ص: 284

و بجهام قد هراق ماؤه يرعد و يبرق و ليس فيه شي ء فدعني و محمّدا و ما أنا عليه فلم أر من محمّد إلّا صدقا و وفاء فلم يزل بكعب حتّى سمح له على أن أعطاه عهدا و ميثاقا لئن رجعت قريش و غطفان و لم يصيبوا محمّدا أن أدخل معك في حصنك حتّى يصيبني ما أصابك فنقض كعب عهده مع رسول اللّه.

فلمّا انتهى الخبر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعث سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس و هو يومئذ سيّد الأوس و سعد بن عبادة سيّد الخزرج و بعث صلّى اللّه عليه و آله معهما عبد اللّه بن رواحة و خوات بن جبير فقال: انطلقوا حتّى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقّا فالحنوا لنا لحنا نعرفه و لا تفشوه عند الناس و إن كانوا على الوفاء فأجهروا به فخرجوا حتّى أتوهم فوجدوهم على أخبث ممّا بلغهم عنهم قالوا: لا عقد بيننا و بين محمّد و لا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة و شاتموه فقال سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فإنّ ما بيننا و بينهم أعظم من المشاتمة ثمّ أقبلوا على رسول اللّه و قالوا: عضل و القارة، و هما رجلان من قبيلتين دخلا في الإسلام ثمّ رجعا و غدرا فيضرب بهما المثل لغدر عضل و القارة بأصحاب رسول اللّه و هم حبيب بن عديّ و أصحابه أصحاب الرجع فقال رسول اللّه: اللّه أكبر ابشروا يا معشر المسلمين.

و عظم عند ذلك البلاء و اشتدّ الخوف و أتاهم عدوّهم من فوقهم و من أسفل منهم حتّى ظنّ المؤمنون كلّ الظنّ و ظهر النفاق من بعض المنافقين.

فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أقام المشركون عليه بضعا و عشرين ليلة لم يكن بينهم قتال إلّا الرمي بالنبل إلّا أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ أخو بني عامر بن لؤيّ و عكرمة بن أبي جهل و ضرار بن الخطّاب و هبيرة بن أبي وهب و نوفل بن عبد اللّه قد تلبّسوا للقتال و خرجوا على خيولهم حتّى مرّوا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيّأوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان.

ثمّ أقبلوا حتّى وقفوا على الخندق فقالوا: إنّها و اللّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ثمّ يتمسّموا مكانا ضيّقا من الخندق فاقتحموا فجالت خيولهم في فسحة بين الخندق و سلع و خرج عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في نفر من المسلمين حتّى أخذ عليهم الثغرة الّتي اقتحموا

ص: 285

فيها و أقبلت الفرسان نحوهم.

و كان عمرو بن عبد ودّ فارس قريش و كان قد قاتل يوم بدر حتى ارتثّ و أثبته الجراح و لم يشهد أحدا فلمّا كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده و كان يعدّ بألف فارس و كان يسمّى بفارس يليل؛ لأنّه أقبل في ركب من قريش حتّى إذا كانوا بيليل- و هو واد قريب- عرضت لهم بنو بكر في عدّة فقال لأصحابه: امضوا فمضوا فقام في وجوه بني بكر حتّى منعهم من أن يصلوا إليه فعرف بذلك و كان اسم الموضع الّذي حفر فيه الخندق المداد و كان أوّل من طفره عمرو و أصحابه فقيل في حقّه: فارس جزع المداد و كان ينادي: من يبارز؟

و هو مقنّع بالحديد فقام عليّ و قال: أنا له يا رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّه عمرو اجلس و نادى عمرو ألا رجل و هو يؤنّبهم و يوبّخهم و يقول: أين جنّتكم الّتي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها فقام عليّ و قال: يا رسول اللّه أنا له، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّه عمرو فقال عليّ عليه السّلام و إن كان ثمّ نادى الثالثة فقال:

و لقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز و وقفت إذ جبن المشجّع موقف البطل المناجز إنّ السماحة و الشجاعة في الفتى خير الغرائز فقام علىّ و قال: يا رسول اللّه أنا لها فقال: إنّه عمرو فقال عليّ: و إن كان عمروا فاستأذن رسول اللّه فأذن له.

و في ما رواه لنا (1) السيّد أبو محمّد الحسينيّ القائنيّ عن الحاكم أبي القاسم الحسكانيّ بالإسناد عن حذيفة قال: فألبسه رسول اللّه درعه ذات الفضول و أعطاه سيفه ذا الفقار و عمّمه عمامة السحاب تسعة أكوار ثمّ قال له: تقدّم فقال صلّى اللّه عليه و آله لمّا ولّى عليّ: اللّهمّ احفظه من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله و من فوق رأسه و من تحت قدميه. قال ابن إسحاق:

فمشى عليّ عليه السّلام إليه و هو يقول.

لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجزذو نيّة و بصيرة و الصدق منجا كلّ فائز

إنّى لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز قال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا عليّ قال: ابن عبد مناف؟ فقال: أنا عليّ بن أبي طالب

ص: 286


1- الرواية من مجمع البيان.

فقال: غيرك يا بن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك فإنّى أكره أن أريق دمك فقال عليّ عليه السّلام: و لكنّي و اللّه ما أكره أن أريق دمك فغضب و نزل و سلّ سيفه كأنّه شعلة نار ثمّ أقبل نحو عليّ مغضبا فاستقبل عليّ بدرقته فضربه عمرو بالدرقة فقدّها و أثبت فيها السيف و أصاب رأسه فشجّه و ضربه عليّ على حبل العائق فسقط.

و المراد من قولهم ضرب زيد عمروا هذا الخبيث المقتول و المراد من زيد عليّ عليه السّلام لأنّ من أسمائه عليه السّلام زيد؛ كما روى الصدوق في حديث أنّه عليه السّلام قال يوما على المنبر في البصرة: أنا زيد بن عبد مناف فقام ابن الكوّا في المسجد قال: إنّا لا نعرفك إلّا بعليّ بن أبي طالب فقال عليه السّلام: يا لكع إنّ أبي سمّاني زيدا باسم جدّه.

و في رواية حذيفة: و تسيّف على رجليه من أسفل فوقع على قفاه و ثارت بينهما عجاجة فسمع عليّ عليه السّلام يكبّر فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قتله و الّذي نفسي بيده فكان أوّل من ابتدر العجاج عمر بن الخطّاب فإذا يمسح عليّ سيفه بدرع عمرو فكسّر عمر بن الخطّاب و قال: يا رسول اللّه قتله.

فجزّ عليّ عليه السّلام رأسه و أقبل نحو رسول اللّه و وجهه يتهلّل فقال عمر: هلّا سلبته درعه فإنّه ليس للعرب درع أنفس منها؟ فقال عليه السّلام: ضربته فاتّقاني بسوأته فاستحيت أن أستلبه.

قال حذيفة: فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أبشر يا عليّ فلو وزن اليوم عملك بعمل امّة لرجح عملك بعملهم و ذلك أنّه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلّا و قد دخله و هن بقتل عمرو و لم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّا و قد دخله عزّ بقتل عمرو.

و بحذف الأسانيد عن عبد اللّه بن مسعود أنّه كان يقرأ «و كفى اللّه المؤمنين القتال بعليّ». و خرج أصحاب عمرو منهزمين و تبادر المسلمون فوجدوا نوفل بن عبد العزّى جوف الخندق فجعلوا يرمونه بالحجارة فقتله الزبير بن العوّام. و ذكر ابن إسحاق أنّ عليّا طعنه في ترقوته حتّى أخرجها من مرارته فمات في الخندق و بعث المشركون إلى رسول اللّه يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هو لكم لا نأكل ثمن الموتى.

و روي عن أبي بكر بن عيّاش أنّه قال: ضرب عليّ ضربة ما كان في الإسلام أعزّ

ص: 287

منها و ضرب عليه السّلام ضربة ما كان أشأم منها. يعني ضربة ابن ملجم ألجمه اللّه بلجام النار.

و بالجملة فكان الأمر على المسلمين في غاية الشدّة و الخوف بالغا إلى الغاية؛ قال حذيفة بن اليمان و اللّه لقد رأينا يوم الخندق و بنا من الجهد و الجوع و الخوف ما لا يعلمه إلّا اللّه و قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فصلّى ما شاء اللّه من اللّيل ثمّ قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله اللّه رفيقي في الجنّة قال حذيفة: فو اللّه ما قام منّا أحد ممّا بنا من الجوع فلمّا لم يقم أحد دعاني فلم أجد بدّا من إجابته قلت: لبّيك قال: اذهب فجئني بخبر القوم و لا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع قال: و أتيت القوم فرأيت أنّ اللّه خذلهم فإذا ريح اللّه و جنوده يفعل بهم ما يفعل من إرسال ريح باردة عليهم في ليلة شاتية و إرسال الملائكة و قذف الرعب في قلوبهم حتّى كان البعض يلتزق بالبعض من خوف الخيل في جوف الليل و هذا معنى.

قوله تعالى: [فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها] فما يستقرّ لهم عزم و لا تثبت لهم نار و لا يطمأنّ لهم قدر قال حذيفة: فلمّا رأيت الأمر على ذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله ثمّ قال: يا معشر قريش لينظر أحدكم من جليسه قال حذيفة: فبدأت بالّذي عن يميني فقلت: من أنت قال: أنا فلان ثمّ عاد أبو سفيان براحلته فقال: يا معشر قريش و اللّه ما أنتم بدار مقام هلك الخفّ و الحافر و أخلفنا بنو قريظة بسبب دهاء رجل يقال له نعيم بن مسعود الأشجعيّ- و قصّته مشهورة- و هذه الريح لا يستمسك لنا معها شي ء ثمّ عجّل فركب راحلته و إنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلّا بعد ما ركبها قال حذيفة: قلت في نفسي:

لو رميت عدوّ اللّه فقتلته كنت صنعت شيئا فوترت قوسي و وضعت السهم في كبد القوس و أنا أريد أن أرميه فأقتله فذكرت قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع، فحططت القوس و رجعت إلى رسول اللّه و هو يصلّي فلمّا فرغ من صلاته قال: ما الخبر؟ فأخبرته و قد كان دعا عليهم: اللهمّ أنت منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللّهم اهزمهم و زلزلهم.

و عن أبي هريرة قال: كان صلّى اللّه عليه و آله يقول: لا إله إلّا وحده أعزّ جنده، و نصر عبده، و غلب الأحزاب وحده، فلا شي ء بعده.

و عن سليمان صرد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حين أجلي عنه الأحزاب: الآن

ص: 288

نغزوهم و لا يغزونا فكان كما قال: فلم تغزهم قريش بعد ذلك.

و قوله: [وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا] أي كلّ قسم من أقسام الظنون لأنّ عند الأمر العظيم كلّ أحد يظنّ شيئا، و يمكن الألف و اللام للاستغراق و يمكن أن يكون العهد فإنّ المعهود من المؤمن ظنّ الخير باللّه و الكافر ظنّ السوء كما قال تعالى: «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» (1).

فإن قيل: المصدر لا تجمع فما الفائدة في جمع الظنون؟ فالمراد من بيان أقسام ظنون مختلفة بعضهم صائبين و بعضهم مخطئين و بعضهم كاذبين و لو كان يقول: تظنّون ظنّا، ما أفاد هذا المعنى.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 11 الى 20]

هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15)

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)

قوله: [هُنالِكَ يقال: «هنا» للقريب و «هنالك» للبعيد و «هناك» للمتوسّط

ص: 289


1- ص: 27.

بين القريب و البعيد و سبيله سبيل ذا و ذلك و ذاك.

و لمّا وصف سبحانه شدّة الأمر يوم الخندق قال: [هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ و اختبروا ليظهر حسن إيمانهم و صبرهم في جهاد أعدائه فظهر من كان ثابتا قويّا في الإيمان و من كان ضعيفا [وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً] و حرّكوا بالخوف تحريكا شديدا عظيما و ذلك أنّ الخائف يكون قلقا لا يستقرّ على مكانه بل بعض اضطربوا على دينهم أو في دينهم، و هذا الابتلاء ليس لاستبانة الأمر له سبحانه لأنّه عالم بما سيكون بل استحقاق الثواب و العقاب لا يتحقّق إلّا بعد الوقوع و أراد سبحانه إظهار الأمر للملائكة و الأنبياء.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ فسّر الظنون فظنّ المنافقون أنّ ما قال اللّه و رسوله كان زورا و وعدهما كان غرورا حيث قطعوا بأنّ الغلبة الكفّار واقعة.

و اذكر [إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ أي يا أهل مدينة الرسول لا وجه لإقامتكم مع محمّد، و «يثرب» اسم للمدينة و لها أسماء أخر؛ ذكر السيّد المرتضى قدّس اللّه سرّه أنّ من أسماء المدينة طيبة و طابة و الدار و السكينة و جائزة و المحبورة و المحيّة و المحبوبة و العذراء و المرحومة و القاصمة و يندد و ذلك ثلاثة عشر أسماء. أي لا مكان لكم يا أهل يثرب تقومون فيه للقتال إذا فتح الميم [فَارْجِعُوا] إلى منازلكم بالمدينة و القائلون المنافقون من أصحاب الرسول مثل عبد اللّه بن ابيّ و أصحابه أو بنو سالم أو أوس ابن قبطيّ و من وافقه قوله: [وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ صلّى اللّه عليه و آله و استأذنوا من النبيّ و تعلّلوا بأنّ [بُيُوتَنا عَوْرَةٌ] أي فيها خلل لا يأمن صاحبها السارق على متاعه يعني ليست بحصينة أو المعنى، أنّ بيوتنا خالية من الرجال نخشى عليها و لا نأمن على أهلها فكذّبهم اللّه فقال: [وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ] بل حصينة، عن الصادق عليه السّلام. [إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً] أي ما يريدون إلّا هربا من القتال.

[وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها] أي و لو دخل هؤلاء الّذين يريدون القتال و هم العدوّ و الأحزاب على الّذين يقولون: إنّ بيوتنا عورة، و هم المنافقون من أقطار المدينة و نواحيها و البيوتات [ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها] أي ثمّ دعوا هؤلاء إلى الشرك لأشركوا

ص: 290

و المراد بالفتنة الشرك عن ابن عبّاس. [وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً] أي و ما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلّا قليلا أو المعنى و ما أقاموا بالمدينة بعد إعطائهم الكفر و قبولهم إلّا قليلا من الزمان حتّى يعاجلهم اللّه بالعذاب.

ثمّ وبّخهم سبحانه و ذكر عهدهم مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالثبات في المواطن فقال: [وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ الخندق [لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ] و بايعوا و حلفوا له صلّى اللّه عليه و آله أنّهم ينصرونه و يدفعون عنه كما يدفعون عن نفوسهم و لا يرجعون عن مقاتلة العدوّ و لا ينهزمون قال مقاتل: يريد ليلة العقبة. [وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا] يسألون عنه في الآخرة، و إنّما جاء بلفظ الماضي تأكيدا و تحقّقا للوقوع من السؤال.

ثمّ قال: [قُلْ يا محمّد للذين يستأذنوك للرجوع و اعتلّوا بأنّ بيوتنا خالية:

[لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً] في هذه الوقعة [لا تُمَتَّعُونَ في الدنيا [إِلَّا] أيّاما قلائل إن لم يحضركم آجالكم و إن قدّر لكم فالهرب و الفرار لا ينفعكم و لا يزيد في آجالكم و لا تسلمون من القتل أو الموت.

[قُلْ يا محمّد: [مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ و يدفع عنكم قضاء اللّه و يمنعكم من اللّه [إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً] و عذابا و عقوبة [أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً] أي نصرا و عزّا فإنّ أحدا لا يقدر على ذلك [وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا] يلي أمورهم [وَ لا نَصِيراً] يدفع عنهم السوء.

ثمّ قال سبحانه: [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ و هم الّذين يمنعون غيرهم من النصرة و الجهاد مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يثبّطوهم و يشغلونهم لينصرفوا عنه و ذلك لأنّهم كانوا يقولون: ما محمّد و أصحابه إلّا آكلة رأس و لو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان و الأحزاب.

قوله: [وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ يعني اليهود قالوا: لإخوانهم المنافقين [هَلُمَّ إِلَيْنا] أي أقبل إلينا. و أهل الحجاز يقولون للواحد و الاثنين و الجمع و المذكّر و المؤنّث بلفظ الواحد و إنّما هي «لمّ» ضمّت إليها هاء الّتي للتنبيه و حذفت الألف إذ صار شيئا واحدا كقولهم «ويله» و أصله: ويل لأمّه فلمّا جعلوهما شيئا واحدا حذفوا و غيّروا، و أمّا بنو تميم فيصرفونه تصريف الفعل يقولون: هلمّ يا رجل و هلمّا و هلمّوا و هلمّي يا امرأة و هلمن يا نساء إلّا

ص: 291

أنّهم يفتحون آخر الواحد البتّة و بالجملة فالمعنى: تعالوا و أقبلوا إلينا و دعوا محمّدا.

و قيل: القائلون هم المنافقون قالوا لإخوانهم من ضعفة المسلمين: لا تحاربوا و خلّوا محمّدا فإنّا نخاف عليكم الهلاك.

[وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ و لا يحضرون القتال في سبيل اللّه [إِلَّا قَلِيلًا] يخرجون رياء و سمعة قدر ما يوهمون أنّهم معكم و لا يحضرون القتال إلّا كارهين و يكون قلوبهم مع المشركين [أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بأبدانهم و أنفسهم و أموالهم في القتال و في النفقة و بخلاء بالنفقة و النصرة، ثمّ وصف سبحانه جبنهم و جرأتهم [فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي إذا عرض لهم أمر صعب في القتال تشخص أبصارهم و تخار أعينهم من شدّة خوفهم كعين الّذي يغشى عليه و يقع عليه غشوة الموت و هي الحالة الّتي تحدث عند الموت من ذهاب العقل و شخوص البصر فلا تطرف العين حينئذ.

[فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ و الفزع و جاء الأمن و الغنيمة [سَلَقُوكُمْ (و إيّاك و بذاءة اللسان حضورا و غيابا فقد قيل: من لا حاك فقد عاداك و في الحديث: إنّ أوّل ما نهاني ربّي عنه بعد عبادة الأوثان شرب الخمر و ملاحاة الرجال و قيل: من اغتاب خرق و من استغفر رفع و عليك بحفظ اللسان و لو من الطيّب من القول في غير محلّه قال صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم المازحين فاحثوا في أفواههم إنّ البلاء موكّل بالمنطق و شرّ الناس من شرّفوا لبذاءة لسانه مثل عمر و عاص). و آذوكم و خاصموكم [بِأَلْسِنَةٍ] سليطة ذريّة و أيضا [أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ] حتّى أنّهم يبخلون بكلام فيه خير و قيل: معناه: بخلاء بالغنيمة يشاحّون المؤمنين عند القسمة [أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا] أي من تقدّم و صفهم لم يؤمنوا كما آمن غيرهم و إلّا لما فعلوا ذلك [فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] لأنّها لم تقع على وجوه الإخلاص و لم يقصدوا بها وجه اللّه و لا يستحقّ عليها الثواب.

و في هذا دلالة على صحّة مذهبنا في الإحباط لأنّ المنافقين ليس لهم ثواب فيحبط و جهادهم الّذي لم يقارنه إيمان لم يستحقّوا عليه ثوابا.

[وَ كانَ ذلِكَ الإحباط أو ذلك النفاق منهم [عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] هيّنا.

ص: 292

ثمّ وصف سبحانه هؤلاء المنافقين فقال: [يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا] أي يظنّون أنّ الأحزاب الّذين تحزّبوا على رسول اللّه من قريش و غطفان و أسد و اليهود لم ينصرفوا و قد انصرفوا و إنّما ظنّوا ذلك لجبنهم [وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ أي و إن يرجع الأحزاب إليهم ثانية للقتال [يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي يودّ هؤلاء المنافقون أن يكونوا في البادية مع الأعراب يسألون عن أخباركم و لا يكونوا معكم حذرا من القتل تربّصا للدوائر.

[وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا] أي و لو كان هؤلاء المنافقون معكم و فيكم لم يقاتلوا معكم إلّا قدرا يسيرا ليوهموا أنّهم في جملتكم لا لينصروكم.

قوله: [سورة الأحزاب (33): الآيات 21 الى 25]

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)

ثمّ حثّ سبحانه على الجهاد و الصبر عليه فقال:

[لَقَدْ كانَ معاشر المكلّفين [لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ] قدوة صالحة أي لكم برسول اللّه اقتداء لو اقتديتم به في نصرته و الصبر معه في مواطن القتال كما فعل هو يوم أحد إذا انكسرت رباعيّته و شجّ حاجبه و قتل عمّه فواساكم مع ذلك بنفسه فهلّا فعلتم ما فعله؟

و قوله: [لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل من قوله «لكم» و هو تخصيص بعد التعميم للمؤمنين أي إنّما الأسوة برسول اللّه إنّما يكون لمن كان يرجو اللّه و يرجو ما عند اللّه من الثواب و النعيم، أو المعنى: من يخشى اللّه و يخشى البعث الّذي فيه جزاء الأعمال و هو قوله: [وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] أي ذكرا كثيرا و ذلك لأنّ المتذكّر بخلاف الغافل.

ص: 293

ثمّ عاد إلى ذكر الأحزاب فقال: [وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ أي و لمّا عاين المصدّقون باللّه و رسوله الجماعة الّتي تحزّبت على قتال النبيّ مع كثرتهم [قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ و اختلف في معناه على قولين: أحدهما أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان قد أخبرهم أنّه يتظاهر عليهم الأحزاب و يقاتلونهم و وعدهم الظفر بهم فلمّا رأوهم تبيّن لهم مصداق قوله، و كان ذلك معجزا له و القول الثاني: أنّ اللّه وعدهم في سورة البقرة بقوله: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا- إلى قوله- إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» (1) ما سيكون من الشدّة الّتي تلحقهم من عدوّهم.

فلمّا رأوا الأحزاب يوم الخندق قالوا: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ» علما منهم أنّه لا يصيبهم إلّا ما أصاب الأنبياء و المؤمنين قبلهم و زادهم كثرة المشركين يقينا و ثباتا في الحرب و قولهم: «وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ» ليس إشارة إلى ما وقع فإنّهم كانوا يعرفون صدق اللّه قبل الوقوع و إنّما هي إشارة إلى أنّ جميع ما وعد اللّه سيقع مثل فتح مكّة و فتح الروم و فارس.

قوله: [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أي بايعوا أن لا يفرّوا فصدقوا في لقائهم العدوّ [فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ و النحب النذر و العهد و الموت و الخطر أي مات و قتل في سبيل اللّه فأدرك ما تمنّى و فرغ من عمله الّذي يكون أن يعمل و رجع إلى ربّه، و المراد منهم الّذين استشهدوا يوم احد.

روي عن أنس بن النضر أنّ عمّه غاب عن قتال بدر فقال أنس: غبت عن أوّل قتال قاتله رسول اللّه مع المشركين لئن أراني اللّه قتالا للمشركين ليرينّ اللّه ما أصنع فلمّا كان يوم احد انكشف المسلمون و انهزموا فقال: اللّهم إنّي أعتذر إليك بما صنع هؤلاء يعني المسلمين و أبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء يعني المشركين ثمّ تقدّم فلقيه سعد دون احد و قال سعد: أنا معك، قال سعد: و لم أستطع أن أصنع ما صنع فوجد فيه بضع و ثمانون ما بين ضربة بسيف و طعنة برمح و رمية بسهم.

ص: 294


1- البقرة: 214.

و في أصحابه صلّى اللّه عليه و آله نزلت: «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ» [وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ] روى البخاريّ في الصحيح فمنهم من قضى نحبه المراد من استشهد يوم بدر و احد و منهم ينتظر ما وعد اللّه من نصرة أو شهادة من أصحابه صلّى اللّه عليه و آله [وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] أي ما غيّروا العهد الّذي عاهدوا ربّهم كما غيّر المنافقون. قال ابن عبّاس: من قضى نحبه حمزة بن عبد المطّلب و من قتل معه و أنس بن النضر و أصحابه. و في رواية صحيحة بحذف الأسانيد أنّ عليّا عليه السّلام قال: نزلت فينا الآية «رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» فأنا و اللّه المنتظر و ما بدّلت تبديلا.

قوله: [لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي صدق المؤمنون من عهودهم ليجزيهم اللّه بصدقهم [وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ بنقض العهد [إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي إن شاء قبل توبتهم فأسقط عقابهم و إن شاء لم يقبل توبتهم و عذّبهم فإنّ إسقاط العذاب على المذهب الصحيح بالتوبة فضل من اللّه لا يجب عقلا و إنّما علمنا ذلك بالسمع و الإجماع على أنّ اللّه سبحانه يفعل ذلك و الآية قاضية بما يقتضيه العقل من الحكم و يؤيّد ذلك قوله: «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» لأنّ المدح إنّما يحصل إذا رحم سبحانه من يستحقّ العقاب و يغفر ما جاز له المؤاخذة به و لا مدح في مغفرة و رحمة من يجب غفرانه و رحمته و قيل: معناه: و يعذّب المنافقين بعذاب عاجل في الدنيا إن شاء أو يتوبوا.

ثمّ عاد سبحانه إلى تعداد نعمه فقال: [وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا] يعني الأحزاب أبا سفيان و جنوده و غطفان و من معهم من القبائل [بِغَيْظِهِمْ أي بغمّهم الّذي جاءوا به و ما نالوا ما أرادوا و [لَمْ يَنالُوا خَيْراً] أمّلوه و أرادوه من الظفر بالنبيّ و المؤمنين، و إنّما سمّاه خيرا لأنّ ذلك كان عندهم خير، و قيل: أراد بالخير المال لقوله تعالى: «وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» (1).

قوله تعالى: [وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي مباشرة القتال بما أنزل اللّه على المشركين من الريح الشديدة الباردة الّتي أزعجتهم عن أماكنهم و بما أرسل من الملائكة و قذف الرعب في قلوبهم. و قيل: بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام كما أنّه قد قيل: إنّ الآية نزلت

ص: 295


1- العاديات: 8.

«كفى اللّه المؤمنين القتال بعليّ» و ذلك بقتله عليه السّلام عمرو بن عبد ودّ و كان ذلك سبب هزيمة القوم، عن عبد اللّه بن مسعود و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام [وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا] و قادرا على ما يشاء [عَزِيزاً] لا يمتنع عليه شي ء.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 26 الى 27]

وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (27)

ثمّ ذكر سبحانه ما فعل باليهود من بني قريظة فقال: [وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي الّذين عاونوا المشركين من الأحزاب أنزلهم اللّه من قلاعهم [وَ قَذَفَ اللّه [فِي قُلُوبِهِمُ أي أوقع في قلوب بني قريظة [الرُّعْبَ حتّى سلّموا أنفسهم للقتل و أولادهم و نساءهم للسبي [فَرِيقاً تَقْتُلُونَ و هم الرجال [وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً] و هم الصبيان و النسوان، و تقديم المفعول على الفعل في قوله: «فَرِيقاً تَقْتُلُونَ» شدّة الاهتمام ببيان المفعول كما أنّ الإنزال بعد قذف الرعب حصل و لكن لمّا كان بيان الإنزال أهمّ من بيان قذف الرعب قدّم ذكر الإنزال مع أنّ قذف الرعب كان قبل وقوع الإنزال.

ثمّ قال سبحانه: [وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ لأنّ المؤمنين نزلوا أرضهم و استولوا عليها ثمّ أخذوا أموالهم [وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها] بعد، قيل: المراد قلاعهم. و قيل:

المراد الروم و أرض فارس و لمّا ملّكهم تلك البلاد و وعدهم بغيرها دفع استبعاد الضعفاء بقوله:

[وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً].

و روى الزهريّ عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لمّا انصرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع المسلمين عن الخندق و وضع عنه اللامة و اغتسل و استحمّ تبدّا له جبرئيل عليه السّلام غديرك من محارب أراك قد وضعت عنك اللامة و ما وضعناه بعد فوثب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فزعا فعزم على الناس أن لا يصلّوا صلاة العصر حتّى يأتوا قريظة فلبس الناس السلاح فلم يأتوا بني قريظة حتّى كادت الشمس أن تغرب و اختصم الناس فقال بعضهم:

إنّ رسول اللّه عزم علينا أن لا نصلّي حتّى نأتي قريظة فإنّما نحن في عزمة رسول اللّه

ص: 296

فليس علينا إثم و صلّى طائفة من الناس احتسابا و تركت طائفة منهم الصلاة حتّى غربت الشمس فصلّوها حين جاءوا قريظة.

قال عروة: إنّه صلّى اللّه عليه و آله بعث عليّا على المقدّم و دفع عليه اللّواء و أمره أن ينطلق حتّى يقف بهم على حصن بني قريظة ففعل و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على آثارهم فمرّ صلّى اللّه عليه و آله على مجلس من الأنصار في بني غنم ينتظرون رسول اللّه فزعموا أنّه قال: مرّ بكم الفارس آنفا فقالوا: مرّ بنا دحية الكلبيّ على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج فقال رسول اللّه: ليس ذلك بدحية و لكنّه جبرئيل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم و يقذف في قلوبهم الرعب.

قالوا: و سار عليّ عليه السّلام حتّى دنا من الحصن سمع منهم مقالة قبيحة لرسول اللّه فرجع حتّى لقي رسول اللّه بالطريق فقال: يا رسول اللّه عليك أن لا تدنو من هؤلاء، قال: أظنّك سمعت لي منهم أذى فقال: نعم فقال صلّى اللّه عليه و آله: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلمّا دنا رسول اللّه من حصونهم قال: يا إخوة القردة و الخنازير هل أخزاكم اللّه و أنزل بكم نقمة؟

فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا.

و حاصرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمس و عشرين يوما حتّى جهدهم الحصار و قذف اللّه في قلوبهم الرعب و كان حيّ بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت غطفان و قريش فلمّا أيقنوا أنّ رسول اللّه غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم قال كعب بن أسيد: يا معشر يهود قذ نزل بكم من الأمر ما ترون و إنّي عارض عليكم خلالا (1) ثلاثا فخذوا أيّها شئتم قالوا: ما هنّ؟ قال: نبايع هذا الرجل و نصدّقه فو اللّه لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل و أنّه الّذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دمائكم و أموالكم و نسائكم فقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا و لا نستبدل به غيره، فقال: فإذا أبيتم عليّ هذا فهلمّوا فنقتل أبناءنا و نساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد رجالا مصلتين بالسيوف لم نترك وراءنا ثقلا يهمّنا حتّى يحكم اللّه بيننا و بين محمّد فإن نهلك لم نترك و راءنا نسلا يهمّنا و إن نظهر لنجدنّ النساء و الأبناء بعد ذلك فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم عليّ هذه فإنّ الليلة ليلة السبت و عسى أن يكون محمّد و أصحابه قد أمنوا فانزلوا لعلّنا نصيب

ص: 297


1- جمع الخلة- بالفتح- الخصلة.

منهم غيرة (1) فقالوا: نفسد سبتنا و نحدث فيها ما أحدث من كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ، فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته امّة ليلة واحدة من الدهر حازما.

قال الزهريّ: و قال رسول اللّه حين سألوه أن يحكّم فيهم رجلا: اختاروا من شئتم من أصحابي فاختاروا سعد بن معاذ فرضي بذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فأمر رسول اللّه بسلاحهم فجعل في قبّة و أمرهم فكفوا و أوثقوا و جعلوا في دار اسامة و بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى سعد بن معاذ فجي ء فحكم بما هو الأصلح بأن تقتل مقاتليهم و تسبى ذراريّهم و نساءهم و تغنم أموالهم و أنّ عقارهم للمهاجرين دون الأنصار و قال للأنصار:

إنّكم ذوو عقار و ليس للمهاجرين عقار فكبّر رسول اللّه و قال لسعد: قد حكمت فيهم بحكم اللّه عزّ و جلّ. و في رواية: قد حكمت فيهم يا سعد بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة. و «أرقعة» جمع رقيع اسم سماء الدنيا.

فقتل رسول اللّه مقاتليهم و كانوا في ما زعموا ستّمائة مقاتل و سبى سبعمائه و خمسين و روي أنّهم قالوا لكعب بن أسيد و هم يذهب بهم إلى رسول اللّه إرسالا: يا كعب ما ترى يصنع بنا؟ فقال كعب: هو و اللّه القتل. و اتي بحيي بن أخطب عدوّ اللّه عليه حلّة فاختيّة قد شقّقها عليه من كلّ ناحية كموضع الأغلّة لئلّا يسلبها و يداه مجموعة إلى عنقه بحبل فلمّا بصر به رسول اللّه فقال: أما و اللّه ما لمت نفسي على عداوتك و لكنّه من يخذل اللّه يخذل؟ ثمّ جلس فضرب عنقه ثمّ قسّم رسول اللّه نساءهم و أبناءهم و أموالهم على المسلمين و بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بسبايا منهم إلى نجد مع سعد بن الأنصاريّ فابتاع بهم خيلا و سلاحا.

قالوا: فلمّا انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فرجعه رسول اللّه إلى خيمته الّتي ضربت عليه في المسجد و روي عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: جاء جبرئيل؟

إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات؟ فتحت له أبواب السماء و تحرّك و اهتزّ له العرش فخرج رسول اللّه فإذا سعد بن معاذ قد قبض، انتهى.

ص: 298


1- الغيرة. الغارة.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 28 الى 31]

اشارة

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)

النزول:

قال المفسّرون: إنّ أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سألته شيئا من عرض الدنيا و طلبن منه زيادة في النفقة فأبى رسول اللّه منهنّ شهرا فنزلت آية التخيير و هو قوله: «قُلْ لِأَزْواجِكَ» و كنّ يومئذ تسعا عائشة و حفصة و امّ حبيبة بنت أبي سفيان و سودة بنت زمعة و امّ سلمة بنت أبي اميّة فهؤلاء من قريش و صفيّة بنت حيّ بن أخطب الخيبريّة و ميمونة بنت الحارث الهلاليّة و زينب بنت جحش الأسديّة و جويريّة بنت الحارث المصطلقيّة.

المعنى:

[قُلْ يا محمّد [لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ سعة العيش في الدنيا و كثرة المال [فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ أي اعطيكنّ متعة الطلاق بتوفير المهر و اعطيكنّ نحلة [وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا] و السراح الجميل الطّلاق بغير خصومة و مشاجرة.

القميّ: كان سبب النزول أنّه لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غزوة خيبر و أصاب كنز آل أبي الحقيق قلن أزواجه: أعطنا ما أصبت فقال لهنّ النبيّ: قسّمته بين المسلمين على ما أمر اللّه فغضبن من ذلك و قلن: لعلّك ترى أنّك إن طلّقتنا إذا لا نجد الأكفاء من قومنا فأنف اللّه لرسوله فأمره أن يعتزلهنّ فاعتزلهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غرفة امّ إبراهيم تسعة و عشرين يوما حتّى حضن و طهرن.

ثمّ أنزل هذه الآية فلمّا قرأها رسول اللّه فأوّل من قامت منهنّ أمّ سلمة فقالت:

قد اخترت اللّه و رسوله فقمن كلّهنّ فعانقنه و قلن مثل ذلك فأنزل اللّه «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ» (1) قال الصادق عليه السّلام: من آوى فقد نكح و من أرجى فقد طلّق فقوله:

«تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ» مع هذه الآية «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية» و قد أخّرت

ص: 299


1- السورة: 51.

عنها في التأليف و عن الباقر عليه السّلام: إنّ بعض نساء النبيّ قال: أ يرى محمّد أنّه لو طلّقنا إذا لا نجد الأكفاء فغضب اللّه عزّ و جلّ له من فوق سبع سماوات فأمره فخيّرهنّ. و سئل الباقر عليه السّلام عن رجل خيّر امرأته فاختارت نفسها هل تبين؟ قال: لا إنّما هذا كان شي ء لرسول اللّه خاصّة امر بذلك ففعل و لو اخترن أنفسهنّ لطلّقهنّ.

قوله تعالى: [وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ] أي و إن أردتنّ طاعة اللّه و طاعة رسوله و الصبر على ضيق المعاش و الجنّة [فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ العارفات المطيعات له [مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً].

قوله تعالى: [يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ] أي بمعصية ظاهرة فأدّبهنّ اللّه و هدّدهنّ المتوقّي عمّا يسوء النبيّ و أوعدهنّ بتضعيف العذاب فقال سبحانه: [يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ في الآخرة ضعفين أي مثلي ما يكون على غيرهنّ و ذلك لأنّ نعم اللّه عليهنّ أكثر لمكانة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله منهنّ و لنزول الوحي في بيوتهنّ فإذا كانت النعمة عليهنّ أعظم و أوفر كانت المعصية منهنّ أفحش و العقوبة بها أعظم و أكثر.

فالمعنى أنّها يزاد في عذابها ضعف كما زيد في ثوابها ضعف كما في قوله: «نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ» [وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] أي كان عذابها على اللّه هيّنا.

قوله تعالى: [وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً] بيّن سبحانه زيادة في ثوابهنّ كما بيّن زيادة عقابهنّ [نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ في مقابلة قوله تعالى:

«يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» و هاهنا لطيفة و هي عند إتيان الأجر ذكر المؤتي و هو اللّه و عند العذاب لم يصرّح بالمعذّب فقال: «يضاعف» إشارة إلى كمال الرحمة و الكرم.

[وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً] وصف رزق الآخرة بكونه «كريما» مع أنّ الكريم لا يكون إلّا وصفا للرازق لأنّ رزق الدنيا و لو أنّه منه سبحانه لكنّه مقدّر على أيدى الناس مثل أنّ التاجر يسترزق من السوق و الصنّاع من المستعملين و الملوك من الرعيّة و الرعيّة بعضهم من بعض بالأسباب فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه و إنّما هو مسخّر للغير

ص: 300

يمسكه و يرسله و أمّا في الآخرة فلا يكون له مرسل و ممسك فهو الّذي يأتي بنفسه فلذلك يوصف رزق الآخرة بالكريم و بالجملة فمعنى الرزق الكريم ما سلم من كلّ آفة و نقصان.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 32 الى 35]

يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (35)

ثمّ أظهر سبحانه فضلهنّ على سائر النساء بقوله:

[يا نِساءَ النَّبِيِ و لم يقل: كواحدة من النساء لأنّ «أحد» للنفي العامّ أي ليس قدر كنّ كقدر غير كنّ من النساء و أنتنّ أكرم و أنا بكنّ أرحم و ثواب عملكنّ أعظم لمكانتكنّ من رسول اللّه [إِنِ اتَّقَيْتُنَ اللّه و شرط لهنّ هذا الشأن بشرط التقوى فإنّ الأكرم عند اللّه هو الأتقى.

قوله: [فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فأدّبهنّ اللّه عن كلّ قبيح و منعهنّ عن مقدّماته و هي المحادثة مع الرّجال بالرقّة أي لا ترفقن القول و لا تلنّ الكلام مع الرجال و لا تخاطبن الأجانب مخاطبة يؤدّي إلى طمعهم [فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ و فجور و شهوة فإنّ ذلك أبعد من الطمع لأهل الريبة [وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً] مستقيما جميلا بريئا من التهمة موافقا للدين [وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ أمرهنّ بالاستقرار في بيوتهنّ أي أثبتن في منازلكنّ و ألزمنها و إن كانت مادّة الكلمة من وقر يقر فمعناه كنّ من أهل الوقار و السكينة [وَ لا

ص: 301

تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي لا تخرجن على عادة النساء اللّاتي في الجاهليّة و لا تظهرن زينتكنّ كما كنّ يظهرن ذلك.

و «التبرّج» إظهار المرأة محاسنها مأخوذ من «البرج» و هو السعة في العين، و قيل:

التبرّج التبختر و التكبّر في المشي. و قيل: هو أن تلقي الخمار على رأسها و لا تشدّه فتوارى قلائدها و قرطيها فيبدو ذلك منها. و المراد «بالجاهليّة الاولى» ما كان قبل الإسلام و قبل ما كان بين آدم و نوح ثمانمائة سنة و قيل: ما بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و قيل برج الجاهليّة الاولى أنّهم كانوا يجوّزون أن تجمع امرأة واحدة زوجا و خلّا فتجعل لزوجها نصفها الأسفل و تجعل لزوجها و لخلّها نصفها الأعلى يقبّلها و يعانقها.

ثمّ قال سبحانه: [وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ] أي الأداء في أوقاتها و شرائطها [وَ آتِينَ الزَّكاةَ] المفروضة في أموالكنّ [وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يأمركنّ به و ينهاكنّ عنه.

ثمّ قال: [إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] و الرجس عمل الشيطان و ما ليس للّه فيه رضى. و التعريف في «البيت» للعهد و المراد به بيت النبوّة و الرسالة و العرب تسمّي ما ينتسب به بيتا و لهذا سمّوا الأنساب بيوتا فقالوا:

بيوتات العرب يريدون النسب قال الشاعر:

ألا يا بيت بالعلياء بيت و لو لا حبّ أهلك ما أتيت

و قيل: البيت «بيت الحرام» و قيل: البيت مسجد رسول اللّه، و أهله من مكّنه رسول اللّه فيه و لم يخرجه و لم يسدّ بابه.

و قد اجتمعت الامّة بأجمعها على أنّ المراد بأهل البيت في الآية أهل بيت نبيّنا ثمّ اختلفوا فقال عكرمة: أراد أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال أبو سعيد الخدريّ و أنس بن مالك و واثلة بن الأسقع و عائشة و امّ سلمة: إنّ الآية مختصّة برسول اللّه و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام. و إنّما ترك خطاب المؤمنات و خاطب بخطاب المذكّرين بقوله:

«لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ» القميّ قال: ثمّ انقطعت مخاطبة النساء و خاطب أهل بيت الرسول فقال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ الآية».

و عن الباقر عليه السّلام قال: نزلت هذه الآية في رسول اللّه و عليّ و فاطمة و الحسن و

ص: 302

الحسين و ذلك في بيت امّ سلمة زوجة الرسول فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام ثمّ ألبسهم كساء له خيبريّ و دخل معهم فيه ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي الّذين وعدتني فيهم ما وعدتني اللّهمّ أذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، فقالت امّ سلمة: و أنا معهم يا رسول اللّه قال: أبشري يا امّ سلمة فإنّك على خير.

و عن زيد بن عليّ بن الحسين عليه السّلام أنّ جهّالا من الناس يزعمون أنّه إنّما أراد اللّه بهذه الآية أزواج النبيّ و قد كذبوا و أثموا و أيمن اللّه أنّه لو عنى سبحانه أزواج النبيّ لقال: «ليذهب عنكنّ الرجس و يطهّركنّ تطهيرا» و لكان الضمير مؤنّثا كما قال:

«اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ» و لا تبرّجن و لستنّ لأحد من النساء.

و العيّاشيّ عن الباقر ليس شي ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن إنّ الآية ينزل أوّلها في شي ء و أوسطها في شي ء و آخرها في شي ء ثم قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ... وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» من ميلاد الجاهليّة و من الذنوب و المعاصي و يلبسكم خلع الكرامة.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: يعني الأئمّة و ولايتهم من دخل فيها دخل في بيت النبيّ و عنه عليه السّلام عن النبيّ أنّه قال في حديث: اوصيكم بكتاب اللّه و أهل بيتي فإنّي سألت اللّه أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما عليّ الحوض فأعطاني ذلك و قال: لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم و قال: إنّهم لن يخرجوكم عن باب هدى و لن يدخلوكم في باب ضلالة و قال: لو سكت رسول اللّه و لم يبيّن من أهل بيته لادّعاها إلّا فلان و لكنّ اللّه أنزل في كتابه «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ الآية» و كان عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين فأدخلهم رسول اللّه تحت الكساء في بيت امّ سلمة ثمّ قال: اللّهم إنّ لكلّ نبيّ أهلا و ثقلا و هؤلاء أهل بيتي و ثقلي فقالت امّ سلمة: أ لست من أهلك؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّك على خير و لكنّ هؤلاء أهلي و ثقلي و قال: في آخر الحديث: الرجس هو الشكّ و اللّه لا نشكّ في ربّنا أبدا.

و في الخصال في احتجاج عليّ على أبي بكر. فأنشدك باللّه ألي و لأهلي و ولدي نزلت آية التطهير أم لك و لأهل بيتك؟ قال: بل لك و لأهل بيتك قال: فأنشدك باللّه أنا صاحب دعوة رسول اللّه و أهلي و ولدي يوم الكساء حين قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ هؤلاء

ص: 303

أهلي إليك لا إلى النار أنا أم أنت؟ قال: بل أنت و أهل بيتك. و في احتجاجه على الناس يوم الشورى قال: أنشدكم اللّه هل فيكم أحد أنزل اللّه فيه آية التطهير على رسول اللّه فأخذ رسول اللّه كساء خيبريّا فضمّني فيه و فاطمة و الحسن و الحسين ثمّ قال: يا ربّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا غيري قالوا: اللّهمّ بلى.

و في العلل عن الصادق عليه السّلام نزلت هذه الآية في النبيّ و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين فلمّا قبض اللّه نبيّه كان أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين ثمّ وقع تأويل قوله تعالى: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ»* لهم و كان عليّ بن الحسين ثمّ حرت في الأئمّة من ولده الأوصياء فطاعتهم طاعة اللّه و معصيتهم معصية اللّه.

و بالجملة فالروايات في نزول هذه الآية في شأن الخمسة من طريق الخاصّة و العامّة أكثر من أن تحصى، مثل الثعلبيّ. و قد روى في المجمع من طريق العامّة منها ما ذكر من أراده فليطلبه هناك.

و استدلّت الشيعة على اختصاص الآية بهذه الخمسة الطاهرة بأن قالوا: إنّ لفظة «إنّما» محقّقة لما أثبت بعدها نافية لما لم يثبت فإنّ قول القائل: إنّما لك عندي درهم و إنّما في الدار زيد يقتضي أنّه ليس عنده سوى الدرهم و ليس في الدار سوى زيد و إذا تقرّر هذا فلا تخلو الإرادة أن يكون إرادة محضة أو الإرادة الّتي يتبعها التطهير و إذهاب الرجس، و لا يجوز الوجه الأوّل لأنّ اللّه أراد من كلّ مكلّف هذه الإرادة المطلقة و لا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق و المكلّفين و لأنّ هذا القول يقتضى المدح و التعظيم لشأنهم بغير شكّ و شبهة و لا مدح و اختصاص في الإرادة المجرّدة فثبت الوجه الثاني.

و أيضا قد اتّفقوا أنّ هذه الإرادة قد وقعت لأنّ عصمتهم قد ثبتت بالإجماع من جميع القبائح و قد علمنا أنّ من عدا هؤلاء من أهل البيت غير مقطوع في عصمته.

فثبت أنّ الآية مختصّة لهم لبطلان تعلّقها بغيرهم حيث لم يقطع بعصمة غيرهم و متى قيل. إنّ صدر الآية و ما بعدها في الأزواج فالجواب أنّ هذا أمر لا ينكره من عرف

ص: 304

عادة الفصحاء و أهل المحاورة في الكلام فإنّهم يذهبون من خطاب إلى غيره و يعودون إليه و القرآن مملوء من ذلك و كذلك كلام العرب مثل الجمل الواقعة في الكلام انتهى.

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر حكم الأزواج فقال: [وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ] المعنى و اشكرن اللّه تعالى إذ صيّركنّ في بيوت يتلى فيها الوحي و القرآن و السنّة و قيل: المعنى احفظن ما يتلى عليكنّ من القرآن لتعملنّ بموجبه و هذا حثّ لهنّ على حفظ القرآن و السنّة و مذاكرتهنّ بهما و الخطاب و إن كان لهنّ فغيرهنّ يشاركهنّ فيه لأنّ بناء الشريعة على القرآن و السنّة [إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً] بأوليائه [خَبِيراً] بجميع أعمال خلقه فيأمرهم بفعل ما فيه صلاحهم و ينهاهم عن ما فيه فسادهم.

قوله تعالى: [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ النزول: قال مقاتل بن حيّان: لمّا رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: هل نزل فينا شي ء من القرآن؟ قلن لا فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت يا رسول اللّه إنّ النساء لفي خبية و خسار فقال صلّى اللّه عليه و آله: و ممّ ذلك؟ قالت: لأنّهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال فأنزل اللّه هذه الآية «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ» أي إنّ الداخلين في الإسلام خالصا من الرجال و النساء المخلصين منهم و المخلصات أو المعنى المستسلمين و المنقادين من الرجال و النساء لطاعة اللّه.

[وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ أي و المصدّقين بالتوحيد و المصدّقات و عند بعض المفسّرين أنّ الإسلام و الإيمان واحد و إنّما كرّر لاختلاف اللفظين و لكنّ البعض منهم يقولون:

إنّهما مختلفان فالإسلام الإقرار باللسان و الإيمان التصديق بالقلب و يعضد هذا المعنى قوله تعالى: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا» (1) و قيل: الإسلام اسم الدين و الإيمان التصديق به قال البخاري: فسّر رسول اللّه المسلم و المؤمن بقوله صلّى اللّه عليه و آله:

المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه و المؤمن من أمن جاره بوائقه و ما آمن بي من بات شبعان و جاره طاو.

ص: 305


1- الحجرات: 14.

و قوله: [وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ يعني الدائمين على الأعمال الصالحة و الدائمات و الداعين و الداعيات [وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ في أقوالهم و إيمانهم و فيما سرّهم و ساءهم [وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ على الطاعة و على ما ابتلاهم اللّه به [وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ المتواضعين للّه الخاضعين، و قيل: معناه الخائفين و الخائفات [وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ أي المخرجين الصدقات و الزكاة من أموالهم [وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ للّه بنيّة صادقة [وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ من الزنا و الفجور، و حذف لدلالة الكلام عليه.

[وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ و روى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فتوضّأ و صلّيا كتبا من الذاكرين اللّه كثيرا و الذاكرات و قال بعض: لا يكون العبد من الذاكرين حتّى يذكر اللّه قائما و قاعدا و مضطجعا.

و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: من بات على تسبيح فاطمة عليها السّلام كان من الذاكرين كثيرا و الذاكرات.

[أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ لهؤلاء الموصوفين بهذه الصفات و الخصال [مَغْفِرَةً] لذنوبهم [وَ أَجْراً عَظِيماً] في الآخرة و لعلّ المراد أنّهم في جميع هذه الأحوال يذكرون اللّه و يكون إسلامهم و إيمانهم و قنوتهم و صدقهم و صبرهم و خشوعهم و صدقتهم و صومهم بنيّة صادقة متوجّهة إلى قرب اللّه و قد قرّر سبحانه في أكثر المواضع الذكر بالكثرة مثل قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً» (1) و كذلك قال سبحانه: «لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (2) و إنّ الإنسان الأفضل له أن يكثر من الأفعال البدنيّة مثل الصلاة و التسبيح و لكنّه لمّا كان محتاجا إلى الأكل و الشرب و تحصيل مأكوله و مشروبه و ذلك يمنعه أن يشتغل دائما بالصلاة و هو غير ممكن للغالب أو متعسّر و لكن لا مانع له من أن يذكر اللّه و هو آكل و يذكره و هو شارب أو ماش أو بائع أو شار و جعل سبحانه لخلقه هذا الذكر مندوحة للعباد في العبادة و إلى هذا أشار سبحانه بقوله: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ

ص: 306


1- الأحزاب: 41.
2- الأحزاب: 21.

قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ» (1).

ثمّ قال سبحانه:

[سورة الأحزاب (33): الآيات 36 الى 40]

اشارة

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (40)

قوله: [وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ .

النزول:

نزلت في زينب بنت جحش الأسديّة و كانت بنت اميمة بنت عبد المطّلب عمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فخطبها رسول اللّه على مولاه زيد بن حارثة و رأت أنّه يخطبها على نفسه فلمّا عرفت أنّه يخطبها على زيد أبت و أنكرت و قالت: أنا ابنة عمّتك فلم أكن لأفعل و كذلك قال أخوها عبد اللّه بن جحش فنزلت: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ الآية» أي لعبد اللّه و أخته فلمّا نزلت الآية قالت: رضيت يا رسول اللّه و جعلت أمرها بيد رسول اللّه و كذلك أخوها فأنكحها رسول اللّه زيدا فدخل بها و ساق إليها رسول اللّه عشرة دنانير مهرا و خمارا و ملحفة و درعا و إزارا و خمسين مدّا من الطعام و ثلاثين صاعا من تمر.

و قالت زينب: خطبني عدّة من قريش فبعثت اختي حمنة بنت جحش إلى رسول اللّه لتستشيره فأشار صلّى اللّه عليه و آله بزيد فغضبت اختي و قالت: أ تزوّج بنت عمّتك مولاك ثمّ أعلمتني اختي بالأمر فغضبت أشدّ من غضبها فنزلت الآية فأرسلت إلى رسول اللّه و قلت: زوّجني

ص: 307


1- آل عمران: 191.

ممّن شئت فزوّجني من زيد.

و قيل: نزلت في امّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط و كانت و هبت نفسها للنبيّ فقال:

قد قبلت و زوّجتها زيد بن حارثة فسخطت هي و أخوها و قالا: إنّا أردنا رسول اللّه فزوّجنا عبده، فنزلت الآية.

و ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّ رسول اللّه كان شديد الحبّ لزيد و كان إذا أبطأ عليه زيد أتى منزله فيسأل عنه فأبطأ عليه يوما فأتى رسول اللّه منزله فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها قال: فدفع رسول اللّه الباب فلمّا نظر إليها قال:

سبحان اللّه خالق النور تبارك اللّه أحسن الخالقين، و رجع فجاء زيد و أخبرته زينب بما كان فقال لها: لعلّك وقعت في قلب رسول اللّه فهل لك أن اطلّقك حتّى يتزوّجك رسول اللّه فقالت أخشى: أن تطلّقني و لا يتزوّجني. فجاء زيد إلى رسول اللّه إلى تمام القصّة فنزلت الآية: «وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ» الآية.

و بالجملة فمعنى قوله تعالى: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ» أي إذا أوجب اللّه و رسوله أمرا و حكما به لا يكون الاختيار لهم بما شاءوا من أمرهم و ليس لأحد مخالفته و ترك ما امر به إلى غيره.

[وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يختاران [فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً] و ذهب عن الحقّ ذهابا ظاهرا.

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: [وَ إِذْ تَقُولُ و اذكر يا محمّد حين تقول: [لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالهداية و الإيمان [وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعتق و هو زيد و قيل: أنعم اللّه عليه بمحبّة الرسول و أنعم الرسول عليه بالتبنّي [أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعني زوجك زينب و تقول:

لا تطلّقها و احبسها و هذا الكلام يقتضي مشاجرة جرت بينهما حتّى وعظه الرسول و قال له: أمسكها و اتّق اللّه في مضارّتها و مفارقتها [وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ و الّذي أخفاه صلّى اللّه عليه و آله في نفسه هو أنّه إن طلّقها زيد و يزوّجها خشي لائمة الناس أن يقولوا: أعجبته و أمره بطلاقها ثمّ تزوّجها و قيل: إنّ الّذي أخفاه في

ص: 308

نفسه هو أنّ اللّه سبحانه أعلمه أنّها ستكون من أزواجه و أنّ زيدا سيطلّقها فلمّا جاء زيد و قال له: أريد أن اطلّق زينب قال له: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» فقال سبحانه: لم قلت:

«أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» و قد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك؟

و روي ذلك عن عليّ بن الحسين عليه السّلام و هذا التأويل مطابق لتلاوة الآية لأنّه سبحانه أعلم أنّه يبدئ ما أخفاه و لم يبد سبحانه غير التزويج فقال: «زَوَّجْناكَها» فلو كان الّذي أضمره صلّى اللّه عليه و آله محبّتها أو إرادة طلاقها لأظهره اللّه ذلك مع وعده بأنّه يبديه فدلّ ذلك على أنّه صلّى اللّه عليه و آله عوتب على قوله: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» مع علمه بأنّها ستكون زوجته و كتمانه فيما أعلمه اللّه السبب فيه أنّه صلّى اللّه عليه و آله استحيا أن يقول لزيد: إنّ الّتي تحتك ستكون امرأتي أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استحسنها تمنّى أن يفارقها زوجها فيتزوّجها.

و قيل: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يريد أن يتزوّج بها إذا فارقها زيد و لكن عزم أن لا يتزوّجها مخافة أن يطعنوا عليه فأنزل اللّه هذه الآية كيلا يمتنع عن فعل المباح خشية ملامة الناس و لم يرد بقوله: «وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» خشية التقوى لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يخشى اللّه حقّ الخشية و يتّقي حقّ تقاته و لكنّه أراد خشية الاستحياء لأنّ الحياء كان غالبا على شيمته الكريمة كما قال سبحانه: «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ».

و قيل: إنّ زينب كانت شريفة فلمّا زوّجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من زيد مولاه و لحقها بذلك بعض العار فأراد أن يزيدها شرفا بأن يتزوّجها لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان السبب في تزويجها لزيد فعزم أن يتزوّج بها إذا فارقها زيد.

و قيل: إنّ العرب كانوا ينزلون الأدعياء منزلة الأبناء في الحكم فأراد أن يبطل ذلك بالكلّيّة و ينسخ سنّة الجاهليّة فكان يخفي في نفسه تزويجها لهذا الغرض كيلا يقول الناس: إنّه تزوّج بامرأة ابنه و لهذا قال: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» و يؤيّد هذا التأويل قوله: [فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً] و المعنى: فلمّا قضى زيد حاجته من نكاحها فطلّقها و انقضت عدّتها و لم يكن في قلبه ميل إليها و لا وحشة له من فراقها فإنّ معنى القضاء هو

ص: 309

الفراغ من الشي ء على التمام زوّجناكها و أذنّا لك في نكاحها و إنّما فعلنا ذلك توسعة للمؤمنين حتّى لا يكون عليهم إثم و يعلموا جواز أزواج أدعيائهم الّذين تبنّوهم إذا قضى الأدعياء حاجتهم و فارقوهنّ و الغرض بيان حكم أنّ المتبنّي غير الابن من النسب أو الرضاع في تحريم امرأته إذا طلّقها على الأب.

[وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا] كائنا لا محالة و في الحديث إنّ زينب كانت تفتخر على سائر نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تقول: زوّجني اللّه من النبيّ و أنتنّ زوّجكنّ أولياؤكنّ.

و روى ثابت عن أنس بن مالك قال: لمّا انقضت عدّة زينب قال رسول اللّه لزيد:

اذهب فاذكرها عليّ، قال زيد: فانطلقت فقلت: يا زينب ابشري قد أرسلني رسول اللّه بذكرك و جاء رسول اللّه فدخل عليها بغير إذن لقوله تعالى: «زَوَّجْناكَها».

و في رواية اخرى فانطلقت فإذا هي تخبز عجينها فلمّا رأيتها عظمت في نفسي حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أنّ رسول اللّه ذكرها فولّيتها ظهري و قلت:

يا زينب ابشري فإنّ رسول اللّه يخطبك ففرحت بذلك و قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتّى يأمرني ربّي فقامت إلى مسجدها و نزل: «زَوَّجْناكَها» فتزوّجها النبيّ و دخل بها و ما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها؛ ذبح شاة و أطعم الناس الخبز و اللحم حتّى امتدّ النهار. و عن الشعبيّ قال: كانت زينب تقول للنبيّ: إنّي لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك تدلّ بهنّ: جدّي و جدّك واحد، و إنّي أنكحنيك اللّه في السماء، و إنّ السفير لجبرئيل.

و بالجملة ثمّ قال سبحانه: [ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي ما كان على النبيّ من إثم و ضيق فيما أحلّ اللّه له من التزويج بامرأة الابن المتبنّي بل أوجب عليه من التزويج بزينب ليبطل حكم الجاهليّة.

[سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي هذا الحكم و هذه السنّة كسنّة اللّه في الأنبياء الماضين و شريعة اللّه فيهم في زوال الحرج عن هذا الأمر أو في كثرة الأزواج سنّة سنّها اللّه في الأنبياء و أممهم كما فعله داود و سليمان و كان لداود مائة امرأة و لسليمان ثلاثمائة

ص: 310

امرأة و سبعمائة سريّة كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي أو الحديث فمن رغب عنه فقد رغب عن سنّتي.

[وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً] أي كان ما ينزله اللّه على أنبيائه من الأمر الّذي يحكم به قضاء مقضيّا جاريا على مقدار من غير زيادة و لا نقصان.

ثمّ وصف سبحانه الأنبياء الماضين و أثنى عليهم فقال: [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ أي يؤدّونها إلى من بعثوا إليهم و لا يكتمونها [وَ يَخْشَوْنَهُ و يخافون اللّه مع ذلك في ترك ما أوجبه عليهم [وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ فيما يتعلّق بالأداء و التبليغ و في هذا دلالة على أنّ الأنبياء لا يجوز عليهم التقيّة في تبليغ الرسالة.

و متى قيل: فكيف ما قال: لنبيّنا «وَ تَخْشَى النَّاسَ»؟

فالقول و الجواب أنّه لم يكن ذلك فيما يتعلّق بالتبليغ و إنّما خشي المقالة القبيحة فيه و العاقل كما يتحرّز عن المضارّ يتحرّز عن إساءة الظنون به و القول المسي ء به و لا يتعلّق شي ء من ذلك بالتكليف.

[وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً] حافظا لأعمال خلقه و محاسبا مجازيا عليها.

و لمّا تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زينب قال الناس: إنّ محمّدا تزوّج امرأة ابنه فقال سبحانه: [ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ الّذين لم يلدهم فبيّن سبحانه أنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس بأب لزيد فيحرم عليه زوجته فإنّ تحريم زوجة الابن متعلّق بثبوت النسب فمن لا نسب له لا حرمة لامرأته و لهذا أشار إليهم فقال: «مِنْ رِجالِكُمْ» و قد ولد له أولاد ذكور إبراهيم و القاسم و الطيّب و المطهّر فكان أباهم و قد صحّ عنه أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال للحسن و الحسين: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا.

[وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ لا يترك ما أباحه اللّه بقول الجهّال و يجب عليكم طاعته لا بسبب الأبوّة بل بسبب النبوّة الّتي حقّها أعظم من حقّ الأبوّة [وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ أي ختمت النبوّة به فشريعته ناسخة لجميع الشرائع و باقية إلى يوم القيامة و هذه فضيلة اختصّ صلّى اللّه عليه و آله بها من دون الأنبياء و كذلك دينه.

ص: 311

[وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً] لا يخفى عليه شي ء من مصالح العباد و صحّ الحديث عن جابر بن عبد اللّه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّما مثلي في الأنبياء مثل رجل بنى دارا فأكملها و حسّنها إلّا في موضع لبنة فكان من دخلها فيها و نظر إليها قال: ما أحسنها إلّا في موضع هذه اللبنة قال: فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء أورده البخاريّ و مسلم في صحيحيهما.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 41 الى 48]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45)

وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (46) وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)

ثمّ خاطب سبحانه عباده المؤمنين بعد أن أحكم أمر النبيّ فشرع بتأديب المؤمنين فأمرهم بكثرة الذكر و دوامهم عليه و إذا ذكرتموه فينبغي أن يكون ذكركم إيّاه على وجه التعظيم و التنزيه عن كلّ سوء و هو المراد بقوله: [وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا] و قيل:

المراد من التسبيح الصلاة و المراد من البكرة و الأصيل المداومة و ذلك لأنّ مريد العموم قد يذكر الطرفين و يفهم منهما الوسط كقوله صلّى اللّه عليه و آله: لو أنّ أوّلكم و آخركم، و لم يذكر وسطكم و فهم منه المبالغة في العموم.

و روى ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من عجز عن الليل أن يكابده و جبن عن العدوّ أن يجاهده و بخل بالمال أن ينفقه فليكثر ذكر اللّه عزّ و جلّ ثمّ اختلف في الذكر الكثير فقيل: أن لا ينساه أبدا و قيل: أن يذكره بصفاته العليا و أسمائه الحسنى و ينزّهه عمّا لا يليق به و قيل: هو أن يقول: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر على كلّ حال.

و قد ورد عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّهم قالوا: من قالها ثلاثين مرّة فقد ذكر اللّه ذكرا كثيرا و عن زرارة و حمران بن أعين عن الصادق عليه السّلام قال: من سبّح تسبيح فاطمة الزهراء

ص: 312

فقد ذكر اللّه ذكرا كثيرا.

و روى الواحديّ بإسناده عن الضحّاك بن مزاحم عن ابن عبّاس قال: جاء جبرئيل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا محمّد قل: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه عدد ما علم وزنة ما علم و مل ء ما علم فإنّ من قالها كتب اللّه له بها ستّ خصال: كتب في الذاكرين اللّه كثيرا، و كان أفضل من ذكره بالليل و النهار، و جعل له غرسا في الجنّة و تحاتّت عنه خطاياه كما تحاتّ ورق الشجرة اليابسة فينظر اللّه إليه و من نظر اللّه إليه لم يعذّبه.

و قد قيل في قوله: «وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا»: المراد صلاة الصبح و صلاة العصر. و قال الكلبيّ: أمّا «البكرة» فصلاة الفجر و أمّا «الأصيل» فصلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء الأخيرة و سمّي الصلاة تسبيحا لما فيها من التسبيح و التنزيه.

قوله: [هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ و الصلاة من اللّه المغفرة و الرحمة و الكرامة و من الملائكة طلبهم إنزال الرحمة لكم من اللّه [لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ] من الجهل إلى المعرفة و من الضلالة إلى الهدى أو من ظلمات النار إلى نور الجنّة [وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً] و خصّ المؤمنين بالرحمة دون غيرهم لأنّه جعل الإيمان بمنزلة العلّة في إيجاب الرحمة.

[تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ أي يحيّي بعضهم بعضا يوم يلقون كرامة اللّه و ثوابه بأن يقولوا: السلامة لكم. و لقاء اللّه لقاء ثوابه.

و روي عن البراء بن عازب أنّه قال: يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلّا سلّم عليه. فعلى هذا يكون المعنى تحيّة من ملك الموت يوم يلقونه أن يسلّم عليهم و ليس إضمار قبل الذكر لأنّ ملك الموت مذكور في الملائكة [وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً] و ثوابا جزيلا.

قوله: [يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً] على امّتك فيما يفعلونه من طاعة أو معصية و إيمان أو كفر لتشهد عليهم و لهم يوم القيامة و نجازيهم بحسبه [وَ مُبَشِّراً] لمن

ص: 313

أطاعني و أطاعك بالجنّة [وَ نَذِيراً] لمن عصاني و عصاك بالنار.

[وَ داعِياً] و بعثناك داعيا [إِلَى اللَّهِ و الإقرار بوحدانيّته [بِإِذْنِهِ أي بعلمه و و أمره [وَ سِراجاً مُنِيراً] يهتدى بك في الدين كما يهتدى بالسراج «و المنير» الّذي يصدر النور من جهته إمّا بفعله و إمّا لأنّه سبب له فالقمر منير و السراج منير بهذا المعنى.

و قيل: المراد بالسراج المنير القرآن و التقدير: بعثناك ذا سراج منير، و حذف المضاف.

[وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً] زيادة على ما يستحقّونه من الثواب.

[وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ نهى عن المداراة في الدعوة بسبب تصلّبهم أي لا تستعمل لين الجانب في التبليغ و الإنذار، كنّي عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في الزجر و المنع عن المنهيّ عنه [وَ دَعْ أَذاهُمْ أي دع أذاهم إلى اللّه فإنّه يعذّبهم بأيديكم و بالنار.

و بيّن هذا المعنى قوله: [وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا] أي فوّض أمرك إليه و اللّه كاف عبده و اللّه وكيل عباده لعجزهم عن التصرّف.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 49 الى 50]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)

المعنى: لمّا بيّن سبحانه شأن نبيّه و أمره بتقوى اللّه و أدّب عباده المؤمنين بمكارم الأخلاق فذكر في هذه الآية ما يتعلّق بجانب من تحت أيديهم بقوله:

ص: 314

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ و التخصيص في الذكر بالمؤمنات إشعار و إرشاد بأنّ المؤمن ينبغي أن يتزوّج بالمؤمنة فإنّها أشدّ تحصينا لدينه أي إذا تزوّجتم من المؤمنات ثمّ بعد العقد طلّقتموهنّ و لم تقاربوهنّ و تمسّوهنّ لم يثبت لكم عليهنّ عدّة [تَعْتَدُّونَها] و تستوفونها بالعدد و تحصون عليها بالأقراء و الأشهر و أسقط اللّه العدّة عن المطلّقة قبل المسيس لبراءة رحمها فإن شاءت تزوّجت عن يومها.

[فَمَتِّعُوهُنَ قال ابن عبّاس: هذا إذا لم يكن سمّي لها صداقا فإذا سمّي لها صداقا فلها نصفه و لا تستحقّ المتعة و هو المرويّ عن أئمّتنا و العمل عليه فحينئذ الآية عندنا الإماميّة محمولة على الّتي لم يسمّ لها مهرا فيجب لها المتعة أي أن يجعلوا و يعطوها شيئا و نحلة و يحسنون بها إحسانا يليق بها و عند الجماعة فمنهم من قال: يجب مع نصف المهر أيضا المتعة بناء على حمل الأمر للوجوب و منهم من قال: للاستحباب فيستحبّ أن يمتّعها مع نصف الصداق بشي ء.

قوله: [وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا] أي طلّقوهنّ طلاقا للسنّة من غير ظلم عليهنّ و قيل: معناه سرّحوهنّ عن البيت فإنّه ليس عليها عدّة فلا يلزمها المقام في منزل الزوج سراحا بغير أذيّة و قيل: السراح الجميل هو دفع المتعة بحسب الميسرة و المعسرة.

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: [يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ أي اللاتي أعطيت مهورهنّ حلال لك لأنّ المهر أجر على البضع و الإيتاء قد يكون بالأداء و قد يكون بالالتزام، و قيل: هذا الحكم خاصّ للنبيّ دون امّته و المشهور أنّ تقييد الإحلال له عليه السّلام ليس لبيان توقّف الحلّ على إتيان الصداق بل لإيثار الأولى و الأفضل له صلّى اللّه عليه و آله كتقييد إحلال المملوكة المسبيّة في قوله: «وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ».

و بالجملة فذكر سبحانه للنبيّ ما هو الأولى فإنّ الزوجة الّتي أوتيت مهرها أطيب قلبا من الّتي لم تؤت و المملوكة المسبيّة أطيب من الّتي اشتراها الرجل لأنّها لا تدري كيف حالها و هذا معنى [وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء [مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ من الغنائم

ص: 315

و الأنفال و كانت مارية القبطيّة من الغنائم و من الأنفال صفيّة و جويرية أعتقهما و تزوّجهما.

[وَ بَناتِ عَمِّكَ أي و أحللنا لك بنات عمّك [وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ من قريش [وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ من نساء بني زهرة اللاتي [هاجَرْنَ من قريش إلى المدينة و هذا الحكم كان قبل تحليل غير المهاجرات ثمّ نسخ شرط الهجرة في التحليل و عمّ الحكم.

[وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ أي و أحللنا لك امرأة مصدّقة بتوحيد اللّه و هبت نفسها منك بغير صداق أمّا غير المؤمنة إن وهبت نفسها لا يجوز [إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها] أي إذا رغب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في نكاحها تحلّ له و ينعقد النكاح له بلفظ الهبة و تحلّ له و هذا الحكم [خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي لا يشاركك أحد من المؤمنين في هذا الأمر.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدخلت عليه و هو في منزل حفصة و المرأة ملبّسة متمشّطة فدخلت على رسول اللّه فقالت: يا رسول اللّه إنّ المرأة لا تخطب الزوج و أنا امرأة أيّم لا زوج لي منذ دهر و لا ولد فهل لك من حاجة فيّ؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني فقال لها رسول اللّه: خيرا فدعا لها ثمّ قال:

يا اخت الأنصار جزاكم اللّه عن رسول اللّه خيرا فقد نصرني رجالكم و رغبت فيّ نساؤكم فقالت لها حفصة: ما أقلّ حياك و أجرأك و أنهمك للرجال! فقال رسول اللّه: كفّي عنها يا حفصة فإنّها خير منك رغبت في رسول اللّه. ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله للمرأة: انصرفي رحمك اللّه فقد أوجب اللّه لك الجنّة لرغبتك فيّ و تعرّضك لمحبّتي و سروري سيأتيك أمري إن شاء اللّه فأنزل اللّه «وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً» الآية.

و في الخصال عن الصادق قال: تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخمس عشر امرأة و دخل بثلاثة عشر منهنّ و قبض عن تسع فأمّا اللّتان لم يدخل بهما فعمرة و الشنباء، و أمّا الثلاثة عشر اللّواتي دخل بهنّ فأوّلهنّ خديجة بنت خويلد، ثمّ سودة بنت زمعة، ثمّ امّ سلمة و اسمها هند بنت أبي اميّة، ثمّ امّ عبد اللّه ثمّ عائشة بنت أبي بكر، ثمّ حفصة بنت عمر، ثمّ زينب بنت خزيمة بن الحارث امّ المساكين، ثمّ زينب بنت جحش، ثمّ جويرية بنت

ص: 316

الحارث، ثمّ صفيّة بنت حيّ بن أخطب، فالّتي و هبت نفسها للنبيّ خولة بنت حكيم السلمى و كان له سريّتان: مارية القبطيّة و ريحانة الخندقيّة. و التسع الّتي قبض عنهنّ عائشة و حفصة و أم سلمة و زينب بنت جحش و ميمونة بنت الحارث و امّ حبيب بنت أبي سفيان و صفيّة و جويرية و سودة. و أفضلهنّ خديجة بنت خويلد ثمّ امّ سلمة ثمّ ميمونة.

و اختلف في أنّه هل كانت عند النبيّ امرأة و هبت نفسها له أم لا؟ فقيل: لم يكن عنده امرأة و هبت له نفسها. و قيل: كانت عنده ميمونة بنت الحرث و هبت نفسها للنبيّ و زينب بنت خزيمة و قيل: خولة بنت حكيم و لمّا و هبت نفسها للنبيّ قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟ فنزلت الآية فقالت عائشة: ما أرى اللّه إلا يسارع في هواك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و إنّك إن أطعت اللّه يسارع في هواك.

قوله تعالى: [قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ .

المعنى: أنّ ما ذكرنا فرضك و حكمك مع نسائك و أمّا حكم امّتك فعندنا علمه و نبيّنه لهم في أزواجهم و ملك يمينهم و إنّما ذكر هذا البيان لئلّا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّ له صلّى اللّه عليه و آله في النكاح خصائص ليست لغيره و كذلك في السراري.

و حاصل المعنى أنّا قد علمنا ما أخذنا و فرضنا على المؤمنين في أزواجهم من حيث العدد و الحصر و المهر و وضعناه عنك تخفيفا عنك و تشريفا لك و كذلك في ملك اليمين للمؤمنين بأن لا يقع لهم الملك إلّا بوجوه معلومة من الشراء و الهبة و الإرث و أبحنا لك غير ذلك و هو الصفيّ الّذي تصطفيه لنفسك من السبي و إنّما خصّصناك على علم منّا بالمصلحة فيه.

[لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي ليرتفع عنك الحرج و الضيق و الإثم [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] غفورا لذنوب عباده رحيما بك و بهم في مصالحهم و مصالحك.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 51 الى 55]

تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (52) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَ اتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (55)

ص: 317

[تُرْجِي مَنْ تَشاءُ] جاء هذه الكلمة بالهمزة و بغير الهمزة و الإرجاء التأخير و تبعيد وقت الشي ء نزلت الآية حين غار بعض نساء النبيّ على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و طلب منه بعضهنّ زيادة النفقة فهجرهنّ شهرا حتّى نزلت آية التخيير فأمره اللّه أن يخيّرهنّ بين الدنيا و الآخرة و أمره صلّى اللّه عليه و آله أن يخلّي سبيل من اختار الدنيا و يمسك من اختار اللّه و رسوله على أنّهنّ امّهات المؤمنين و لا ينكحن أبدا و على أنّه يؤوي و يضمّ من يشاء منهنّ و يرجي من يشاء منهنّ و على أن يرضين به قسّم لهنّ أو لم يقسّم أو قسّم لبعضهنّ و لم يقسّم لبعضهنّ أو فضّل بعضهنّ على بعض في النفقة و العشرة أو سوّى بينهنّ و الأمر في ذلك إليه يفعل ما يشاء و هذه من خصائصه فرضين بذلك كلّه و اخترنه على هذا الشرط إلّا امرأة منهنّ أراد طلاقها و هي سودة بنت زمعة فرضيت بترك القسم و جعلت يومها لعائشة و مع ذلك فكان صلّى اللّه عليه و آله يسوّي مع هذا بينهنّ.

و قيل: لمّا نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلّقن فقلن: يا رسول اللّه اجعل لنا من مالك و نفسك ما شئت و دعنا على حالنا فنزلت الآية.

و كان ممّن أرجى منهنّ سودة و جويرة و صفيّة و ميمونة و امّ حبيبة فكان يقسّم

ص: 318

لهنّ ما شاء كما شاء و كان ممّن آوى إليه عائشة و حفصة و امّ سلمة و زينب و كان يقسّم بينهنّ على السواء لا يفضّل بعضهنّ على بعض.

و نزلت آية الحجاب لمّا بنى رسول اللّه بزينب بنت جحش و أولم عليها قال أنس: أولم عليها بتمر و سويق و ذبح شاة و بعثت امّي يحيس أمرني رسول اللّه أن أدعو أصحابه إلى الطعام فدعوتهم فجعل القوم يجيئون و يأكلون الطعام و يخرجون قلت: يا نبيّ اللّه قد دعوت حتّى ما أجد أحدا أدعوه فقال: ارفعوا طعامكم فرفعوا و خرج القوم و بقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت فأطالوا المكث فقام صلّى اللّه عليه و آله و قمت معه لكي يخرجوا فمشى حتّى بلغ حجرة عائشة ثمّ رجع و رجعت معه فإذا هم جلوس مكانهم فنزلت هذه الآية و هي «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ الآية».

و عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يريد أن يخلو له المنزل لأنّه كان حديث عهد بالعرس و كان يكره أذى المؤمنين. و قيل: كان يطعم رسول اللّه و معه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة و كانت معهم فكره صلّى اللّه عليه و آله ذلك فنزلت آية الحجاب و نزلت قوله تعالى: «وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ» إلى آخر الآية في رجل من الصحابة قال: لئن قبض رسول اللّه لأنكحنّ عائشة بنت أبي بكر و الرجل هو طلحة بن عبيد اللّه.

و بالجملة قوله: [وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي و إن أردت أن تؤوي إليك ممّن عزلتهنّ و تضمّها إليك فلا سبيل عليك بلؤم و لا إثم عليك و لك أن تردّ المعزولة [ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ المعنى أنّهن إذا علمن أنّ له ردّهنّ إلى فراشه صلّى اللّه عليه و آله بعد ما اعتزلهنّ قرّت أعينهنّ و لم يحزنّ و يرضين بما فعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من التسوية و التفضيل و أطيب لنفوسهنّ إذا علمن أنّ لك الرخصة بذلك من اللّه، و قيل: نزول الرخصة من اللّه أقرّ لعينهنّ و أدنى إلى رضاهنّ لعلمهنّ بما لهنّ من الثواب.

[وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من الميل إلى بعض دون بعض و يعلم من الرضا و السخط [وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] بمصالح عباده [حَلِيماً] عنهم في ترك المعاجلة بالعقوبة.

ص: 319

قوله تعالى: [لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ] أي من بعد النساء اللواتي أحللناهنّ لك في قوله: «إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ» الآية و هنّ ستّة أصناف:

النساء اللاتي آتيت، و بنات عمّه و بنات عمّاته و بنات عمّاته و بنات خاله و بنات خالاته اللاتي هاجرن معه، و من وهبت نفسها له و لا يحلّ له غيرهنّ من النساء و قيل: يريد المحرّمات في سورة النساء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و قيل: المراد اليهوديّات و لا النصرانيّات.

[وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ أي و لا يحلّ لك أن تبدّل المسلمات بالكتابيّات لأنّه لا ينبغي أن يكنّ امّهات المؤمنين إلّا ما ملكت يمينك من الكتابيّات فأحلّ له أن يتسرّاهنّ. و قيل: معناه: لا يحلّ لك النساء من بعد نسائك اللاتي خيّرهنّ اللّه فاخترن اللّه و رسوله و هنّ التسع و صرت مقصورا عليهنّ و ممنوعا من غيرهنّ و من أن تستبدل بهنّ غيرهنّ.

[وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ أي وقع في قلبك حسنهنّ مكافاة لهنّ على اختيارهنّ اللّه و رسوله. و قيل: إنّه منعت من طلاق من اختارته من نسائه كما امر بطلاق من لم يختره فأمّا تحريم النكاح عليه فلا. و قيل: إنّ هذه الآية منسوخة و أبيح له بعد تزويج من شاء فروي عن عائشة أنّها قالت: ما فارق رسول اللّه الدنيا حتّى حلّل له النساء ما أراد.

قوله: «وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ» فقيل: إنّ معناه أنّ العرب كانت تتبادل بأزواجهم فيعطي أحدهم زوجته رجلا فيأخذ بها زوجته منه بدلا عنها فنهي عن ذلك و قيل في معنى قوله:

«وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ» يعني إن أعجبك حسن ما حرم عليك من جملتهنّ و لم يحللن لك و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: إنّما عني بقوله: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» النساء اللاتي حرّم اللّه في هذه الآية و هو «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ إلى آخر الآية» و لو كان الأمر على ما يقولون: كان قد أحلّ لكم ما لا يحلّ له لأنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد و لكنّ الأمر ليس كما يقولون إنّ اللّه أحلّ لنبيّه أن ينكح من النساء كلّما أراد إلّا ما حرّم في هذه الآية الّتي في سورة النساء و مثله عن

ص: 320

الصادق عليه السّلام في عدّة روايات و في بعضها: أراكم تزعمون أنّه يحلّ لكم ما لم يحلّ لرسول اللّه، انتهى.

[وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً] عالما حافظا للأمور.

قوله: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ المعنى: أدّب اللّه عباده المؤمنين فنهاهم عن دخول دار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بغير إذن و هو قوله: «إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» في الدخول إلّا أن يدعوكم إلى طعام فادخلوا غير ناظرين أي منتظرين إدراك الطعام فيطول مقامكم أي لا تدخلوها بغير إذن و قبل نضج الطعام انتظار النضجة فيطول مكثكم و قد ذكرنا شأن نزول الآية في قصّة الوليمة و أنى الطعام يأني أنى مقصورا إذا بلغ حالة النضج.

[وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا] أي إذا أكلتم فتفرّقوا و اخرجوا [وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي و لا تدخلوا فتقعدوا بعد الأكل يحدث بعضكم بعضا.

ثمّ بيّن السبب في المنع فقال: [إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي قعودكم و لبثكم في منزل النبيّ يؤذيه فيمنعه الحياء أن يأمركم بالخروج من منزله [وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ و لا يترك إبانة الحقّ فيأمركم بما هو أدب و صلاح لكم، قال بعض العلماء: هذا أدب أدّب اللّه الثقلاء.

[وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ يعني إذا سألتم أزواج النبيّ شيئا تحتاجون إليه فاسألوهنّ متاعا من وراء ستر قال مقاتل: أمر اللّه المؤمنين ألّا يكلّموا نساء النبيّ إلّا من وراء حجاب.

[ذلِكُمْ أي سؤالكم المتاع إيّاهنّ من وراء الحجاب [أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَ من الريبة و من دسائس الشيطان الّتي تدعو إلى ميل الرجال إلى النساء و النساء إلى الرجال.

[وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ أي ليس لكم إيذاء رسول اللّه بمخالفة ما أمر به في نسائه و لا في شي ء من الأشياء [وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً] أي بعد

ص: 321

وفاته [إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً] أي إيذاء الرسول بما ذكرنا كان ذنبا عظيم الوقع عند اللّه.

قوله: [إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ أي تظهروا أو تضمروا ممّا نهيتم عنه [فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً] من الظواهر و السرائر و هذا تهديد لهم بأنّكم إذا تعزمون على إيذائه أو نكاح أزواجه فهو عليم بذات الصدور.

ثمّ إنّه لمّا أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله: [لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ و في الآية لطيفة و هي أنّ عند الحجاب أمر اللّه الرجل بالسؤال من وراء حجاب فيفهم منه كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى، و قدّم في الآية الآباء لأنّهم أقرب إلى بناتهم و كيف و قد رأوا جميع بدن البنات في الصغر ثمّ الأبناء ثمّ الأبناء ثمّ الإخوة ثمّ بني الإخوة ثمّ بني الأخوات.

[وَ لا نِسائِهِنَ يريد نساء المؤمنين لا نساء اليهود و النصارى فيصفن نساء رسول اللّه و نساء المؤمنين لأزواجهنّ و رجالهنّ إن رأينهنّ. و قيل: جميع النساء.

[وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ من الوصائف أو الوصائف و العبيد قبل البلوغ أو مطلقا.

و إنّما لم يذكر اللّه العمّ و الخال مع أنّهما من المحارم فلم يقل: و لا أعمامهنّ و لا أخوالهنّ لوجهين: أحدهما أنّ ذلك علم من بني الإخوة و من بني الأخوات لأنّ من علم أنّ بني الأخ للعمّات محارم علم أنّ بنات الأخ للأعمام محارم و كذلك الحال في أمر الخال.

و الوجه الثاني أنّ الأعمام ربّما يذكرون بنات الأخ عند أبنائهم و هم غير محارم و كذلك الحال في ابن الخال و هو غير محرم.

و من الأئمّة من قال «في ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ»: من العبيد من كان دون البلوغ.

[وَ اتَّقِينَ اللَّهَ من دخول الأجانب عليكنّ من عقاب اللّه [إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً] أي حفيظا لا يغيب عنه شي ء.

قوله: [سورة الأحزاب (33): الآيات 56 الى 62]

إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60)

مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)

ص: 322

المعنى: لمّا أمر اللّه المؤمنين بالاستيذان في دخول بيته صلّى اللّه عليه و آله احتراما له فبيّن في هذه الآية أنّ شرفه صلّى اللّه عليه و آله في الملأ الأعلى أعظم فقال:

[إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ الآية، و الصلاة الدعاء أي دعاله و هذا المعنى غير معقول في حقّ اللّه لأنّ الدّعاء للغير طلب نفعه من ثالث فمعناه أنّه تعالى يرحمه و يثني عليه بالثناء الجميل [وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عليه و يثنون عليه بأحسن الثناء و يدعون له بأزكى الدعاء.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً] قال أبو حمزة الثماليّ: حدّثني السدّيّ و حميد بن سعد الأنصاريّ و يزيد بن أبي زياد عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجزة قال:

لمّا نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول اللّه هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك قال:

قولوا: اللّهم صلّ على محمّد و آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد و بارك على محمّد و آل محمّد كما باركت على إبراهيم و آل ابراهيم إنّك حميد مجيد.

و عن عبد اللّه بن مسعود قال: إذا صلّيتم على النبيّ فأحسنوا الصلاة عليه فإنّكم لا تدرون لعلّ ذلك تعرض عليه قالوا: فعلّمنا قال: قولوا: اللّهم اجعل صلواتك و رحمتك و بركاتك على سيّد المرسلين و إمام المتّقين و خاتم النبيّين محمّد عبدك و رسولك إمام الدين و قائد الخير و الرسول الرحمة اللهمّ ابعثه مقاما محمودا يغبطه الأوّلون و الآخرون اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.

و عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن هذه الآية فقلت: كيف صلاة اللّه على رسوله؟

فقال: يا أبا محمّد تزكيته له في السماوات العلى فقلت: قد عرفت صلواتنا عليه فكيف التسليم؟ فقال: هو التسليم له في الأمور فعلى هذا يكون معيى قوله: «وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً»

ص: 323

انقادوا لأوامره و ابذلوا الجهد في طاعته و في جميع ما يأمركم به و قيل: معناه سلّموا عليه بالدعاء أي قولوا: السلام عليك يا رسول اللّه.

و عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: دخلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم أره أشدّ استبشارا منه يومئذ و لا أطيب نفسا قلت: يا رسول اللّه ما رأيتك قطّ أطيب نفسا و لا أشدّ استبشارا منك اليوم فقال: و ما يمنعي و قد خرج جبرئيل آنفا من عندي قال: قال اللّه تعالى: من صلّى عليك صلاة صلّيت بها عشر صلوات و محوت عنه عشر سيّئات و كتبت له عشر حسنات.

و فيما ورد عن الصادق عليه السّلام قيل له: كيف نصلّي على محمّد و آله؟ قال: تقولون: صلوات اللّه و صلوات ملائكته و أنبيائه و رسله و جميع خلقه على محمّد و آله و السلام عليه و عليهم و رحمة اللّه و بركاته، قيل: فما ثواب من صلّى على النبيّ بهذه الصلوات؟ قال: الخروج من الذنوب كهيئة يوم ولدته امّه.

و في المحاسن عن الصادق أنّه سئل عن هذه الآية فقال: أثنوا عليه و سلّموا له بالولاية تسليما.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام في مجلسه مع المأمون قال: و قد علم المعاندون منهم أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّه قد عرفنا التسليم عليك فكيف الصلوات عليك؟

فقال: تقولون: اللّهم صلّ على محمّد و آل محمّد كما صلّيت و باركت على إبراهيم و آل ابراهيم إنّك حميد مجيد فهل بينكم معاشر الناس في هذا خلاف؟ قالوا: لا، قال المأمون: هذا ممّا لا خلاف فيه أصلا و عليه إجماع الامّة فهل عندك في الآل شي ء أوضح من هذا في القرآن؟ قال عليه السّلام نعم أخبروني عن قول اللّه: «يس* وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» فمن عني بقوله تعالى: «يس» قال العلماء: «يس» محمّد صلّى اللّه عليه و آله لم يشكّ فيه أحد قال عليه السّلام: فإنّ اللّه أعطى محمّدا و آل محمّد من ذلك فضلا لا يبلغ أحد كنه فضله إلّا من عقله و ذلك أنّ اللّه لم يسلّم على آل أحد من الأنبياء فقال تعالى: «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ» (1) و قال: «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ» (2) و قال: «سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ» (3) و لم

ص: 324


1- الصافات: 79.
2- الصافات: 109.
3- الصافات: 120.

يقل: سلام على آل نوح و لم يقل: سلام على آل إبراهيم و لم يقل: سلام على آل موسى و هارون و لكن قال: «سلام على آل يس» (1) يعني آل محمّد.

و عنه عليه السّلام فيما كتبه في شرائع الدين: و الصلاة على النبيّ واجبة في كلّ وقت يذكر اسمه الشريف.

و في الكافي و الفقيه عن الباقر عليه السّلام: و صلّ على النبيّ كلّما ذكرته أو ذكر ذاكر عندك في أذان و غيره.

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: سمعت رسول اللّه يقول: إنّما أنزلت هذه الآية عليّ في الصلوات بعد قبض اللّه لي.

و روي مرفوعا أنّ موسى لمّا ناجاه اللّه و في مناجاته قد ذكر محمّد فقال اللّه تعالى:

صلّ يا ابن عمران عليه فإنّي أصلّي عليه و ملائكتي.

و في الاحتجاج عن عليّ عليه السّلام قال: لهذه الآية ظاهر و باطن و الظاهر قوله:

«صَلُّوا عَلَيْهِ» و الباطن قوله: «سَلِّمُوا تَسْلِيماً» أي سلّموا لمن وصّاه و جعله النبيّ وصيّا و ما عهد به إليه قال: و هذا ممّا أخبرتك أنّه لا يعلم تأويله إلّا من لطف و صفا ذهنه.

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ قيل: هم المنافقون و الكافرون و الّذين و صفوا اللّه بما لا يليق به و كذّبوا رسله و على هذا يكون معنى «يُؤْذُونَ اللَّهَ» يخالفون أمره و يصفونه بما هو منزّه عنه فإنّ اللّه تعالى لا يلحقه أذى و المخالفة تسمّى إيذاء خوطبنا بما نتعارفه و قيل: معناه: يؤذون رسول اللّه فقدّم ذكر اللّه على وجه التعظيم حيث جعل أذى رسول اللّه أذى له تشريفا و تكريما له فكأنّه سبحانه يقول: لو جاز أن ينالني أذى من شي ء لكان ينالني من هذا.

و اتّصال الآية بما قبلها حيث أمرهم بالصلاة و الثناء عليه و نهاهم عن أذاه فإنّ من من أذاه فهو كافر.

ثمّ أوعد عليه بقوله: [لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ] أي يبعدهم من رحمته و يحلّ

ص: 325


1- الصافات: 130 في قراءة غير مشهورة.

بهم نقمته بحرمان زيادات الهدى في الدنيا و الخلود في النار في الآخرة [وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً] مذلّا لهم.

حدّثني (1) السيّد أبو الحامد قال: حدّثني الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ قال:

حدّثنا أبو عبد اللّه الحافظ قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن أبي دارم قال: حدّثنا عليّ بن أحمد العجليّ قال: حدّثنا عباد بن يعقوب قال: حدّثنا أرطاة بن حبيب قال: حدّثنا أبو خالد الواسطيّ و هو آخذ بشعره قال: حدّثني زيد بن عليّ بن الحسين و هو آخذ بشعره قال:

حدّثني عليّ بن الحسين و هو آخذ بشعره قال: حدّثني الحسين بن عليّ عليه السّلام و هو آخذ بشعره قال: حدّثني عليّ بن أبي طالب قال: حدّثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو آخذ بشعره فقال: يا عليّ من آذى شعرة منك فقد آذاني و من آذاني فقد أذى اللّه و من أذى اللّه فعليه لعنة اللّه و اللعن أشدّ التهديدات و المحذورات لأنّ العبد من اللّه لا يرجى معه خير بخلاف التعذيب بالنار و من أبعده اللّه و طرده فمن الّذي يقرّبه و يمكن أن يكون الطرد جزاء إيذاء اللّه و العذاب جزاء إيذاء الرسول.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا] أي الّذين يؤذونهم بالقول أو بالفعل لسانيّا كانت الأذيّة أو عمليّا و يفعلون بهم ما يتأذّون و قيّد سبحانه بقوله: «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا» أي بغير جناية يستحقّون بها الأذيّة فإنّ أذى المؤمنين يكون بغير حقّ و منه أن يكون بحقّ كحدّ الشارب مثلا و لذلك قيّد الكلام.

فقد احتمل المؤذين [بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً] قيل: إنّ الآية نزلت في الّذين كانوا يؤذون عليّا و يسمعونه ما لا خير فيه و قيل: نزلت في زناه يتّبعون النساء إذا برزن بالليل و كانوا يمشون في الطرقات ليلا فإذا رأوا امرأة غمزوها. و الحاصل أنّ الموصوفين بصفة الإيذاء للمؤمنين فقد فعلوا معصية ظاهرة و تحمّلوا إثم البهتان لأنّ من أذى و سبّ رجلا يتحقّق في نسبته البهتان لا محالة.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: [يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ

ص: 326


1- هذا قول صاحب مجمع البيان

الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ كان في الجاهليّة تخرج الحرّة و الأمة مكشوفات يتبعهنّ أهل الريبة فأمرهنّ باجتناب المواضع الّتي فيها التهم الموجبة للتأذي بالتستّر لئلّا يحصل الإيذاء الممنوع منه لأنّ مثل هذا التهم ممّا يتأذى منه الرجال و النساء خصوصا الأقارب منها فأمر سبحانه بالتجلبب.

[ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ و الحاصل قل يا محمّد لهنّ: أن يسترن موضع الجيب بالجلباب و هو الملأة الّتي تشتمل بها المرأة و قيل: الجلباب مقنعة المرأة أي تغطّين جباههنّ و رؤوسهنّ إذا خرجن للحاجة و قيل: الجلباب ما تستر به المرأة ذلك أقرب أن تعرفن أنّها حرائر و لسن بإماء فلا يؤذيهنّ أهل الريبة فإنّهم كانوا يمازحون الإماء و ربّما كان يتجاوز المزاح إلى ممازحة الحرائر فإذا قيل لهم في ذلك قالوا: حسبناهنّ إماء و الفتيات فقطع اللّه عذرهم. أو المعنى أنّ التستّر أقرب أن يعرفن بالصلاح فلا يتعرّض لهنّ لأنّ المرأة إذا عرفت بالعصمة لا يتعرّض لها الفاسق في الغالب.

[وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] بهم.

ثمّ أوعد سبحانه الفسّاق فقال: [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي فجور و ضعف في الإيمان و لم يمتنعوا من مراودة النساء و إيذاء الناس [وَ] كذلك [الْمُرْجِفُونَ و أصل الإرجاف من الزلزلة لأنّ الأخبار الكاذبة متزلزلة غير ثابتة، و هم المنافقون الّذين يرجفون في المدينة الأخبار الكاذبة المضعّفة لقلوب المسلمين مثل أن يقولوا:

اجتمع المشركون في موضع كذا و عددهم كذا قاصدين لحرب المسلمين و نحو ذلك.

لئن لم يمتنعوا عن مثل هذه الأمور [لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لنسلّطنّك عليهم و أمرناك بقتلهم و قد حصل الإغراء بهم بقوله: «جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ»* و قيل: لم يحصل و لو حصل لقتلوا و شردوا و اخرجوا من المدينة [ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا] أي لا يساكنوك إلّا يسيرا من الزمان و هو ما بين الأمر بالقتل و بين قتلهم.

[مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا] أي في ذلك الزمان القليل الّذي يجاورونك ملعونين مطرودين من رحمة اللّه و إذا أخرجوا أينما وجدوا أخذوا و قتّلوا و لا

ص: 327

يجدون ملجأ بل أينما يكونوا يطلبون.

ثمّ قال: [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا] يعني ليس هذا الأمر دعابكم بل هو سنّة جارية و عادة مستمرّة نفعل بالمكذّبين و ليس هذه السنّة مثل الحكم الّذي يبدّل و ينسخ فإنّ النسخ يكون في الأحكام أمّا في الأخبار فلا تنسخ.

ثمّ قال: [سورة الأحزاب (33): الآيات 63 الى 69]

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)

رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)

المعنى: [يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ القيامة [قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يعلمها غيره [وَ ما يُدْرِيكَ يا محمّد أي أيّ شي ء يعلّمك أمر الساعة و متى يكون قيامها أي أنت لا تعرفه.

ثمّ قال: [لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً] أي قريبا مجيئها و يجوز أن يكون أمر سبحانه أن يجيب كلّ من يسأله عن الساعة بهذا و يقول: ما نستبطئه قريب و ما ننكر كائن و يجوز أن بكون تسلية له صلّى اللّه عليه و آله لضيق صدره باستهزائهم و إنّما أخفاها اللّه لحكم و مصالح منها امتناع المكلّف عن الاجتراء و خوفهم منها في كلّ وقت.

[إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً] أي نارا تستعير و تلتهب [خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً] وليّا ينصرهم و نصيرا يدفع العذاب عنهم.

[يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ] العامل في «يوم» تقلّب و المعنى تقلّب وجوه هؤلاء

ص: 328

السائلين عن الساعة و أشباههم من الكفّار الّذين لم يعتقدوا بها فتسودّ فتصفرّ و تصير كالحة بعد أن لم تكن و تنتقل من جهة إلى جهة في الدنيا بما يصل إليها من العذاب [يَقُولُونَ متمنّين متأسّفين [يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ فيما أمرنا به و نهانا عنه [وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا] فيما دعانا إليه.

[وَ قالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا] فيما فعلنا [سادَتَنا وَ كُبَراءَنا] و أصل السادة سودة مثل قودة قادة و تجمع بالألف و التاء للكثرة و معنى السيّد المالك المعظّم الّذي يملك تدبير السواد الأعظم و الجمع الأكبر و قيل: هم العلماء و الوجه الصحيح أنّ المراد جميع قادة الكفر و أئمّة الضلال، و الألف في «الرسولا» «و السبيلا» للإطلاق [رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ بضلالهم و إضلالهم إيّانا [وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً] مرّة بعد أخرى و زدهم غضبا إلى غضبك و سخطا إلى سخطك.

ثمّ خاطب سبحانه المظهرين للإيمان فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا] أي لا تؤذوا محمّدا كما آذى بنو إسرائيل موسى فإنّ حقّ النبيّ أن يعظّم و يبجّل.

و اختلفوا فيما اوذي به موسى على أقوال:

أحدها أنّ موسى و هارون صعدا الجبل فمات هارون في الجبل فقالت بنو إسرائيل حسده موسى فقتله فأمر اللّه الملائكة فحملته حتّى مرّوا به على بني إسرائيل و تكلّمت الملائكة بموته حتّى عرفوا أنّه قد مات و برّأه اللّه من ذلك عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و ابن عبّاس.

و ثانيها أنّ موسى كان حييّا ستيرا يغتسل وحده فقالوا: ما يستتر منّا إلّا لعيب بجلده إمّا برص أو غيره و قال بعضهم: إنّ قارون يرطّل امرأة فاحشة لتقذفه فألقى اللّه في قلبها و قالت: إنّ قارون يرطلني لأن أنسبه إلى الزنا فبرّأه اللّه.

القول الثالث: قالوا: إنّ موسى ذهب ليغتسل مرّة فوضع ثوبه على حجر فمرّ الحجر بثوبه فطلبه موسى فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرجال خلقا فبرّأه اللّه ممّا

ص: 329

قالوا لكن قيل: إنّ ذلك لا يجوز لأنّ فيه إشهار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إبداء سوأته على رؤوس الأشهاد و ذلك ينفّر عنه في حقّ النبيّ.

و القول الرابع أنّهم نسبوه إلى السحر و الجنون و الكذب فبرّأه اللّه.

[وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً] أي عظيم القدر و رفيع المنزلة يقال: فلان وجيه إذا كان ذا جاه و قدر، قال ابن عبّاس: كان موسى عند اللّه خطيرا لا يسأله شيئا إلّا أعطاه.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 70 الى 73]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)

المعنى: لمّا نهاهم سبحانه عمّا يؤذي الأنبياء و منعهم عن ما لا يصلح لهم في الآية السابقة أردفها في هذه الآية بذكر ما يصلح لهم و أمرهم إلى ما ينبغي أن يصدر منهم و هو ملازمة التقوى و الأقوال الصادقة الحسنة قال بعض المفسّرين: القول السديد كلمة لا إله إلّا اللّه و قيل: [قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً] بريئا من الفساد و الكذب و اللّغو موافق الظاهر للباطن.

و قال جماعة: الكلام متّصل بالنهي عن الإيذاء فالمراد أن لا تنسبوا إلى رسول اللّه ما لا يليق به.

[يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي إن فعلتم ذلك يصلح لكم أعمالكم بأن يلطف لكم فيها حتّى تستقيموا على الطريقة السليمة من الفساد. و قيل: معناه يزكّ أعمالكم و يتقبّل حسناتكم [وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ بسبب استقامتكم في الأقوال و الأفعال [وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الأوامر و النواهي فقد أفلح فلاحا عظيما و ظفر برضوان و كرامة.

قوله: [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ الآية لمّا أرشد اللّه تعالى المؤمنين إلى مكارم الأخلاق و أدّبهم بأحسن الآداب بيّن في هذه الآية أنّ التكليف أمر عظيم فقال:

ص: 330

«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ».

و اختلف في المراد من الأمانة: قيل: هي التكليف و سمّي أمانة لأنّ من قصّر فيه فعليه الغرامة و من أدّاها فله الكرامة و قيل: هو قول لا إله إلّا اللّه و هذا الكلام بعيد لأنّ الملك و الفلك و الجبال و الرمال بألسنتها ناطقة بأنّ اللّه واحد و قيل: المراد الأعضاء فالعين أمانة ينبغي أن يحفظها و الاذن و اليد كذلك و الرجل و الفرج و اللّسان و هكذا و بعض هذه الوجوه متقارب للبعض.

و بعض المفسّرين فسّروا معنى «الحمل» بالخيانة قال الزجّاج: كلّ من خان الأمانة فقد حملها و من لم يحمل الأمانة فقد أدّاها و كذلك كلّ من أثم فهو احتمل الإثم قال اللّه: «وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ» و أنشد بعضهم في حمل الأمانة بمعنى الخيانة قول الشاعر:

إذا أنت لم تبرح تؤدّي أمانةو تحمل اخرى أترحتك الودائع

قال الطبرسيّ: إنّ الظاهر لا يدلّ على ذلك لأنّه يجوز أن يكون المراد بالحمل قبول الأمانة.

و قيل: المعنى في قوله «عَرَضْنَا الْأَمانَةَ» أي عارضنا و قابلنا و الأمانة تكاليف اللّه من إنزال الكتب و إرسال الرسل فالمعنى أنّ هذه الأمانة في جلالة موقعها و عظم شأنها لو قيست بالسماوات و الأرض و الجبال و قوبلت بها لكانت هذه الأمانة أرجح و أثقل وزنا و معنى و السماوات و الأرضين ضعفن عن حملها [وَ أَشْفَقْنَ مِنْها] و الشفقة ضعف القلب و لذلك صار كناية عن الخوف الّذي يضعف عنده القلب.

ثمّ قال سبحانه: هذه الأمانة الّتي صفتها كذلك و أثقل و أعظم من السماوات و الأرض و الجبال تقلّدها الإنسان فلم يحفظها و ضيّعها لظلمه على نفسه و لجهله بمبلغ الثواب و العقاب.

و قيل: المراد من السماوات ليس هي بأعيانها بل أهل السماوات و الأرض و لم يكن إباؤهنّ كإباء إبليس لأنّ السجود كان فرضا و الأمانة عرضا و إباء إبليس كان استكبارا و إباؤهنّ استصغارا.

ص: 331

و قيل: المعنى لو كانت السماوات و الأرض و الجبال عاقلة ثمّ عرضت عليها وظائف التكليف لاستثقلت ذلك مع عظمها و قوّتها و لامتنعت من حملها خوفا من القصور عن أداء حقّها.

[ف حَمَلَهَا الْإِنْسانُ مع ضعف جسمه لجهله و المراد بقوله: «الْإِنْسانُ» لم يرد جميع الناس بل هو مثل قوله: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» (1) «و إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ» (2) و الأنبياء و الأولياء و المؤمنون الماحضون خارجون و لا يجوز أن يكون الإنسان محمولا على آدم لقوله: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ» و كيف يكون من اصطفاه اللّه من بين خلقه موصوفا بالظلم و الجهل و من المعلوم أنّ التكليف هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة و هذا النوع من التكليف ليس في السماوات و لا في الأرض لأنّ الأرض و الجبل و السماء كلّها على ما خلقت عليه فالجبل لا يطلب منه السير و الأرض لا يطلب منها الصعود و لا من السماء الهبوط و لا من الملائكة لأنّ الملائكة و إن كانوا مأمورين بأمور و منهيّين عن امور لكن ذلك لهم كالأكل و الشرب لنا فيسبّحون اللّيل و النهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه و لذلك إذا أطاع الإنسان ما امر به و انتهى عمّا نهي عنه و أعرض عن موجبات ما كره اللّه و انغمر في العبادة فضّل على الملك.

قوله تعالى: [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثمّ بيّن سبحانه الغرض الصحيح في عرض هذه الأمانة يعني بتضييع الأمانة يعذّب المنافقين و المنافقات و المعنى أنّا عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق و شرك المشرك فيعذّبهم اللّه و يظهر إيمان المؤمن فيتوب اللّه عليه إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات لعدم خلعهم ربقة الطاعة بالكلّيّة و يمكن أن يكون اللام للعاقبة أي كان عاقبة أمرها ما كان.

[وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] غفورا لظلوم رحيما على الجهول إن عاد عن الظلم و الجهل كما وعد عباده بغفران الظلم إلّا الظلم العظيم الّذي هو الشرك كما قال تعالى:

ص: 332


1- العصر: 2
2- العاديات: 6

«إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»*.

قال أبو السعود صاحب التفسير: فمجمل تفسير الآية أنّ اللّه تعالى لمّا خلق هذه الأجرام السماويّة و الأرضيّة خلق فيها فهما و قال لها: إنّي فرضت فريضة و خلقت جنّة و نارا لمن أطاعني و عصاني فقلن: نحن مسخّرات لما خلقتنا لا نحتمل فريضة و لا نبغي ثوابا و لا عقابا و الإباء إباء الاستصغار لا إباء الاستكبار مثل إبليس و الأمر و العرض مفهومان متغايران.

تمّت السورة بحمد اللّه.

هنا ينتهي الجزء الثامن من الكتاب و قد جمع بين دفّتيه سور الفرقان، الشعراء النحل، القصص العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة و الأحزاب و من اللّه التوفيق.

ص: 333

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.