مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر المجلد 7

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

اشارة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

سورة مريم

اشارة

(هي مكية)

فضلها

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأها اعطي من الأجر بعدد من صدّق بزكريّا و كذّب به و يحيى و مريم و عيسى و موسى و هارون و إسحاق و يعقوب و إسماعيل عشر حسنات و بعدد من دعا للّه ولدا و من لم يدع له ولدا. و قال الصادق عليه السّلام:

من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتّى يصيب منها ما يغنيه في نفسه و ماله و ولده و كان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم و أعطي من الأجر في الآخرة بمقدار ملك سليمان بن داود في الدنيا.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة مريم (19): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3)

في الإكمال عن الحجّة القائم عليه السّلام في حديث أنّه عليه السّلام سئل عن تأويلها فقال: هذه الحروف من أنباء الغيب اطّلع اللّه عبده زكريّا عليها ثمّ قصّها على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و ذلك أنّ زكريّا سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة الطيّبة فأهبط اللّه جبرئيل فعلّمه إيّاها؛ فكان زكريّا إذا ذكر محمّدا و عليّا و فاطمة و الحسن صلوات اللّه عليهم أجمعين سري عنه همّه و انجلى كربه و إذا ذكر الحسين عليه السّلام خنقته العبرة و وقعت عليه البهرة و الحيرة فقال ذات يوم: إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسلّيت بأسمائهم من الهموم و إذا ذكرت الحسين تدمع عيني و تثور زفرتي؟ فأنبأه تعالى عن قصّته فقال:

[كهيعص] فالكاف اسم كربلا و الهاء هلاك العترة و الياء يزيد لعنه اللّه و هو ظالم الحسين و العين عطشه و الصاد صبره؛ فلمّا سمع بذلك زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام و منع فيها من الدخول عليه الناس و أقبل على البكاء و النحيب و كانت ندبته:

إلهي أ تفجع خير خلقك بولده؟ أ تنزل بلوى هذه الرزيّة بفنائه؟ إلهي أ تلبس عليّا و فاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي أ تحلّ كرب هذه الفجيعة بساحتهم؟ ثمّ كان يقول: إلهي ارزقني ولدا تقرّ به عيني عند الكبر و اجعله وارثي و وصيّي و اجعل محلّه منّي محلّ الحسين فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه ثمّ فجّعني به كما تفجع محمّدا حبيبك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بولده، فرزقه يحيى و فجّعه به؛ و كان حمل يحيى ستّة أشهر و حمل الحسين عليهما السّلام كذلك. و في المناقب عنه عليه السّلام مثله.

و في معاني الأخبار عن الصادق معنى «كهيعص»: أنا الكافي الهادي الوليّ العالم الصادق الوعد و عنه عليه السّلام: كاف لشيعتنا هاد لهم وليّ لهم عالم بأهل طاعتهم صادق لهم

ص: 3

وعده حتّى يبلغ بهم المنزلة الّتي وعدهم إيّاها في بطن القرآن.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال في دعائه: يا كهيعص.

[ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا] أي هذا ذكر رحمة ربّك و بيان رحمته لزكريّا؛ و يعني بالرحمة إجابته إيّاه حين سأله الولد.

و قد اختلف العلماء في حروف المعجم الّتي في القرآن من فواتح السور و قد شرح مفصّلا في سورة البقرة لكنّ الّذي يختصّ بهذا الموضع ما ذكر في حديثين قبيل هذا عن الحجّة عليه السّلام.

و قد روى ابن عبّاس أنّ هذه الكلمات ثناء من اللّه على نفسه؛ و كلّ حرف ينبئ عن معنى مثلا «الكاف» كفاية اللّه عبده مثلا و هكذا. و بعض أنكروا هذا القول و يقولون:

لا يجوز أن يودع في معاني الألفاظ ما لا تدلّ عليه اللغة لا بالحقيقة و لا بالمجاز و يقولون:

ليست دلالة الكاف على الكافي أولى من دلالته على الكريم أو على الكبر فيكون حمله بعضا دون البعض تحكّما إلّا أن يكون ورد هذا المعنى و التأويل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو المعصوم فذلك دليل صحيح قاهر.

و بالجملة ففي كلمة «ذكر» أربعة أوجه و بالوجوه يختلف الاعراب و المعنى في الجملة «ذكر» بصيغة المصدر و بصيغة الماضي مخفّفة أو مشدّدة و بصيغة الأمر، أمّا صيغة المصدر فلا بدّ من ذكر رحمة ربّك على الإضافة و أمّا صيغة الماضي مشدّدة فلا بدّ من نصب رحمة على المفعوليّة و رفع زكريّا على الفاعليّة، و أمّا بصيغة الماضي المخفّف رفع الباء في ربّك على الفاعليّة و نصب زكريّا على المفعوليّة و أمّا صيغة الأمر فلا بدّ من نصب رحمة.

و الحاصل بناء على أنّ «كهيعص» اسم للسورة فالمعنى هذا المعلوم مسمّى «ب كهيعص» فهذه الحروف مرفوعة على الخبريّة تقديره: هذا كهيعص؛ و إنّما صحّت الإشارة إليه مع عدم جريان ذكره لأنّه على جناح الذكر فصار في حكم الحاضر كقولك: هذا ما اشترى فلان و الحال أنّه بعد ما اشترى؛ أو على أنّه مبتدأ و خبره «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ» أي المسمّى به ذكر رحمة ربّك و لكنّ الأوّل أولى؛ و عليك بتعبير

ص: 4

المعنى على الوجوه الأربعة المذكورة؛ فرحمته سبحانه لعبده زكريّا حين دعا ربّه دعاء خافيا سرّا غير جهر في نفسه لا يريد به رياء، و في هذا دلالة على أنّ المستحبّ في الدعاء الإخفاء و أنّ ذلك أقرب للإجابة كما في الحديث: خير الدعاء الخفيّ و خير الرزق ما يكفي.

و قيل: إنّما أخفى دعاءه لئلّا يهزأ به الناس فيقول: انظروا إلى هذا الشيخ الكبير يسأل الولد. و قيل: أسرّه خوفا من مواليه. و قيل: خفي صوته قهرا لضعفه و هرمه كما جاء في صفة الشيخ: صوته خفات و سمعه تارات.

و إن قيل: من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء و خفيّا؟

فالجواب أنّه أتى بندائه أقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلّا أنّ الصوت كان ضعيفا بسبب الكبر؛ فكان نداء بحسب قصده و خفيّا بحسب الواقع.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 4 الى 6]

قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

و قد ذكرنا في الحديث السبب في دعوته الولد و سؤاله من اللّه قال زكريّا في دعائه حال الصلاة: ربّ إنّ عظمي ضعيف. و إنّما أضاف الوهن إلى العظم؛ لأنّ العظم مع صلابته إذا ضعف فكيف باللحم و العصب، و البطش إنّما يكون بالعظم دون غيره [وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً] أي عمّ الرأس البياض من الشعر و هو نذير الموت، و تلألأ الشيب لكثرة بياضه؛ و غرضه إظهار عجزه و تذلّله لا تعريفا.

[وَ لَمْ أَكُنْ] بدعائي إيّاك فيما مضى من الأيّام مخيبا محروما؛ و إنّك عوّدتني بحسن الإجابة و ما خيّبتني فيما سألتك بل استجبت لي و لم أكن محروما؛ يقال:

شقي فلان بحاجته إذا تعب و لم يحصل مطلوبه.

[وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي] الموالي هم الكلالة؛ و قيل: العصبة؛ و قيل:

العمومة و بنو العمّ عن أبي جعفر عليه السّلام و قيل: بنو العمّ و كانوا أشرار بني إسرائيل و قيل:

ص: 5

الورثة و هم الّذين يلونه في النسب. و الموالي يراد به الّذين يخلفون بعده إمّا في السياسة و الدّين أو في المال الّذي كان له. قيل: إنّه خاف منهم بعده على إفساد الدين. و قيل:

خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في ماله لأنّهم ما كانوا صالحين.

[وَ كانَتِ امْرَأَتِي] أي امرأتي في الحال ذا عقر لا تحول ولودا؛ ففي الإخبار عنها بلفظ الماضي لتقادم العهد و إشعارا بهذا المعنى.

[فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا] أي ولدا يلي أمري و يكون أولى بميراثي [يَرِثُنِي] قرئ مجزوما أي إن تهبه لي يرثني؛ و إن قرأته مرفوعا جعلته صفة «لوليّ» و المعنى اجعل لي وليّا وارثا لي غير هؤلاء الموجودين و قيل: طلب من يقوم مقامه ولدا كان أو غيره، و الأقرب هو الأوّل يرثني من مالي [وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ] النبوّة و يرث منّي النبوّة. «يعقوب» هو يعقوب بن ماثان و أخوه عمران بن ماثان أبو مريم امّ عيسى عليه السّلام. و قيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لأنّ زكريّا كان متزوّجا باخت مريم و نسبها يرجع إلى يعقوب؛ لأنّ نسبها من ولد سليمان بن داود و هو من ولد يهودا بن يعقوب. و زكريّا من ولد هارون و هو من لاوي بن يعقوب.

و استدلّ أصحابنا بالآية على أنّ الأنبياء يورّثون المال و أنّ المراد بالإرث المذكور في الآية المال دون العلم و النبوّة؛ لأنّ لفظ الميراث في اللغة و الشريعة لا يطلق إلّا على ما ينتقل من الورّاث إلى الوارث كالأموال و لا يستعمل في غير المال إلّا على سبيل التوسّع و المجاز، و لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة.

و أيضا فإنّ زكريّا عليه السّلام قال في دعائه: [وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا] أي اجعل يا ربّ ذلك الوليّ الّذي يرثني مرضيّا عندك ممتثلا لأمرك؛ و متى حملنا الإرث على النبوّة لم يكن لذلك معنى و كان هذا الكلام لغوا أ لا ترى أنّه لا يحسن أن يقول أحد:

اللّهمّ ابعث لنا نبيّا و اجعله صالحا عاقلا مرضيّا في أخلاقه و إنّ زكريّا كان يخاف الموالي بسبب عدم استحقاقهم بوراثة المال و إلّا فهو أعلم باللّه أنّه سبحانه لا يبعث من ليس بأهل النبوّة.

فإن قيل: إنّ هذا الخوف إضافة الظنّة و البخل إليه.

ص: 6

قلنا: معاذ اللّه لا يمتنع أن يأسي على بني عمّه و أقاربه إذا كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي بل في ذلك غاية الحكمة.

فإذا كان و ثبت أنّ الأنبياء يتوارثون و يتورّثون فمن أين ثبت هذا الخبر المطعون فيه حيث حرموا من حرموا؟ و على أن يكون خوف زكريّا من وراثة النبوّة و العلم و المال فالآية صريحة أيضا بوراثة الأنبياء.

و العجب أنّ الرازيّ استدلّ بأنّ لفظ الإرث يستعمل في وجوه: المال و المنصب و النبوّة و السيرة الحسنة كلّها أمّا في المال لقوله تعالى: «أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ» (1) و أمّا في العلم فلقوله: «وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ» (2) و قوله تعالى: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» (3) و هذا وراثة الملك و النبوّة و العجب من الفاضل أنّه كيف خالط البعض في البعض و الحالة أنّ العلم و السيرة و النبوّة لا تورّث بل يجعلها اللّه حيث يشاء و يكمل بالاكتساب فوجب حمل الإرث على المال و إذا استعمل في غير المال فذلك توسّع و الّذي حمله على هذا المعنى الركيك المخلّ لإيراد ذلك المجعول في مورد الحديث فتأمّل.

و في الصافي في قوله تعالى: «وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» أي ترضاه قولا و فعلا.

القميّ: لم يكن يومئذ لزكريّا ولد يقوم مقامه و يرثه و كانت هذا يا بني إسرائيل و نذورهم للأحبار و كان زكريّا رئيس الأحبار و خوف زكريّا كان من أخلاقهم و فعالهم و إنفاقهم ماله في معصية اللّه.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 7 الى 11]

يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (11)

ص: 7


1- الأحزاب: 27.
2- المؤمن: 53.
3- النمل: 16.

المعنى هاهنا حذف و تقديره: فاستجاب اللّه دعاء زكريّا و أوحى إليه يا زكريّا إنّا نخبرك على ألسنة الملائكة بخبر يرى السرور بذلك الخبر في وجهك و هو أن يولد لك ابن اسمه يحيى، و لم يسمّ أحد قبله باسمه.

و في هذا الكلام تشريف له من وجهين:

أحدهما أنّ اللّه سبحانه تولّى تسميته و لم يكلها إلى الأبوين.

و الثاني باسم لم يسبق إلى ذلك الاسم أحد قبله؛ قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام:

و كذلك الحسين عليه السّلام لم يكن له من سميّ و لم تبك السماء إلّا عليهما أربعين صباحا قيل له: و ما بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء و كان قاتل يحيى ولد زنا و قاتل الحسين ولد زنا.

و روى سفيان بن عيينة عن عليّ بن زيد عن عليّ بن الحسين قال: خرجنا مع الحسين عليه السّلام، فما نزل منزلا و لا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريّا و قال يوما: و من هو ان الدنيا على اللّه عزّ و جلّ أنّ رأس يحيى اهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل! و قيل: إنّ معنى قوله: [لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] لم تلد العواقر مثله ولدا و هو كقوله: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» (1) أي مثلا.

و اختلفوا في المنادى فقيل: هو اللّه و ذلك لأنّ ما قبل الآية يدلّ على أنّ زكريّا إنّما كان يخاطب اللّه و يسأله بقوله: «رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ» و قوله: «وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا» و قوله: «فَهَبْ لِي» فما بعد الآية و ما قبلها يدلّ على أنّه كان يخاطب اللّه فيلزم أن يكون النداء من اللّه للترتيب و النظم.

و قيل: هذا نداء الملك و الدليل قوله تعالى في سورة البقرة: «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى» (2) و كذلك أنّ زكريّا قال: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ» و هذا لا يجوز أن يكون كلام اللّه فوجب أن يكون كلام الملك.

لكن يمكن الجمع بان يقال: حصل النداء أنّ نداء اللّه نداء الملائكة.

ص: 8


1- آل عمران: 39.
2- آل عمران: 39.

و في وجه تسميته عليه السّلام بيحيى ذكر الثعلبيّ وجوها: أحدها عن ابن عبّاس لأنّه أحيا عقر امّه و قيل: أحيا قلبه بالطاعة و الإيمان و اللّه سبحانه سمّى المطيع حيّا و العاصي ميّتا بقوله تعالى: «أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ» (1) و قال: «إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» (2) و إحياؤه بالطاعة حتّى لم يعص و لم يهمّ بمعصية و قيل: استشهد و الشهداء أحياء عند ربّهم و قيل: إنّ يحيى أوّل من آمن بعيسى فصار قلبه حيّا بذلك الأمر و ذلك أنّ امّ يحيى كانت حاملا به فاستقبلها مريم و قد حملت بعيسى فقالت لها امّ يحيى: يا مريم أ حامل أنت؟ فقالت: لما ذا تقولين؟ فقالت: إنّي أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. و لكن هذه الوجوه استحسانات ضعيفة لأنّ أسماء الألقاب لا يطلب فيها وجه الاشتقاق و لهذا قالوا: أسماء الألقاب قائمة مقام الإشارات و هي لا تفيد في المسمّى صفة البتّة.

قوله تعالى: [قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً] قال زكريّا:

من أين لي غلام؟

فلو قيل: كيف تعجّب مع أنّه هو الّذي طلب الغلام و بشّر به فكيف يتعجّب؟

فالجواب أنّه قال ذلك لا على وجه الاستعجاب بل مقصوده الاستخبار عن كيفيّة وقوع الأمر لا أنّه تعجّب من قدرة اللّه أو كان شاكّا في وقوع الأمر بل مقصوده أن يستعلم هل يعادان شابّان أم يرزقان الولد شيخين؟

قوله: «عاقر» لأنّ ما كان على فاعل من صفة خاصّة بالتأنيث ممّا لم يكن للمذكّر أبدا فإنّه لا تدخل فيه الهاء نحو حائض قال الخليل: هذه صفات مذكّرة وصفت بها المؤنّث كما و صفوا المذكّر بالمؤنّث حين قالوا: رجل ملحة و ربعة و غلام بقعة.

قوله: [وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا] و العاقر هو الّذي غيّره طول الزمان إلى اليؤس و ليل عاقر أي طويل و قد بلغت الكبر حال اليبوس و الجفاف. قيل: كان له عليه السّلام تسع و تسعون سنة.

قوله تعالى: [قالَ كَذلِكَ] أي قال اللّه سبحانه: الأمر على ما أخبرتك من هبة

ص: 9


1- الانعام: 122.
2- الأنفال: 24.

الولد على الكبر و ردّ قوّتك [عَلَيَ] أمر [هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً] أي أوجدتك و لم تك شيئا موجودا فإزالة عقر زوجتك و إرجاع قوّتك أيسر في الاعتبار من ابتداء الإنشاء.

[قالَ] زكريّا: [رَبِّ اجْعَلْ لِي] علامة استدلّ بها على وقت كونه قال اللّه:

علامتك [أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ] و أنت سويّ صحيح سالم من غير علّة قال ابن عبّاس: اعتقل لسانه من غير مرض ثلاثة أيّام. قالوا: اعتقل لسانه ثلاثة أيّام من غير بأس و لا خرس فإنّه كان يقرء الزبور و يدعو إلى اللّه و يسبّحه و لكنّه لا يمكنه أن يكلّم الناس. و اختلفوا في معنى «سويّا» فقال بعضهم: هو صفة لليالي الثلاث و لكنّ الأكثر قالوا: صفة لزكريّا.

قوله: [فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا] فخرج زكريّا على قومه قيل: كان له موضع ينفرد فيه بالصلاة و العبادة و لمّا يفرغ من عبادته ينتقل إلى قومه فعند ذلك أوحى و أشار إليهم. و قيل: كان موضعا يصلّي فيه هو و غيره إلّا أنّهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلّا بإذنه و أنّهم اجتمعوا ينتظرون خروجه للإذن فخرج إليهم و هو لا يتكلّم فأوحى إليهم. و المراد بالوحي هاهنا لا يمكن أن يحمل على الكلام بل المراد الرمز و الإشارة لأنّ الكلام كان عليه ممتنعا فعلم يومه أن قد كان ما بشّر به فكما حصل السرور له حصل لهم و ظهر لهم إكرام اللّه تعالى لزكريّا بالإجابة فأشار إليهم و أومأ بيده و قيل: كتب لهم على الأرض أن صلّوا صلاة الفجر و صلاة العصر و يحتمل أن يكون أنّهم كانوا يأتمّون به محرابه في هاتين الصلاتين فلما اعتقل لسانه خرج على عادته و أذن لهم من غير كلام فعرفوا ذلك و إنّما سمّي المحراب محرابا لأنّ المتوجّه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته و الأصل فيه مجلس الأشراف الّذي يحارب دونه ذبّا عن أهله.

و بالجملة فسكت ثلاثة أيّام و السبحة استعملت في الصلاة. و عن عائشة في صلاة الضحى: إنّي لأسبّحها.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 12 الى 15]

يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا (13) وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

ص: 10

وصف سبحانه يحيى في هذه الآية و شرّفه بتشريفات أوّلها كونه مخاطبا من اللّه بقوله:

[يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ] و هذا تشريف عظيم و الكتاب المذكور يحتمل أن يكون هو التوراة الّتي أنعم اللّه بني إسرائيل بها و يحتمل أن يكون كتابا خصّ اللّه يحيى به كما خصّ اللّه كثيرا من الأنبياء بذلك و لكن أطبق المفسّرون أنّ المراد بالكتاب التوراة، و معنى بقوّة أي أنت قادر على أخذه قويّ العمل به و خذه بجدّ و صحّة عزيمة على القيام بما فيه.

[وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا] و المراد من الحكم قيل: الحكم و هو الفهم في التوراة و الفقه في الدين. و قيل: المراد العقل. لكنّ القول الصحيح: المراد من الحكم النبوّة فإنّ اللّه أحكم عقله في حال صباه و أوحى إليه.

و قد بعث سبحانه يحيى و عيسى نبيّا و هما صبيّان و بعث موسى و محمّدا و قد بلغا الأشدّ. و الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره على الإطلاق و ذلك لا يكون إلّا بالنبوّة.

فإن قيل: كيف يعقل حصول العقل و الفطنة و النبوّة حال الصبا.

قيل: إنّ بناء النبوّات على المعجزات فإنّه ليس استبعاد صيرورة الصبيّ عاقلا نبيّا أشدّ من استبعاد انشقاق القمر و انفلاق البحر.

قوله تعالى: [وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا] الحنان أصله من الحنين و هو الجزع للفراق كما يقال: حنين الناقة و هو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها و منه حنّت خشبة الجذع لمّا اتّخذوا له المنبر و تحوّل إلى المنبر فاستعمل التحنّن على التعطّف و الرحمة و الحنان في الآية إمّا صفة للّه أو صفة ليحيى فإن كان صفة للّه فالتقدير: و آتيناه الحكم حنانا و رحمة منّا عليه و قيل: معناه تحنّنا منه على العباد و رقّة قلب عليهم. و هذه صفة يحيى ليدعوهم إلى الطاعة. و قيل: معنى تحنّن اللّه عليه كان كلّما كان يحيى

ص: 11

يقول: يا اللّه، قال اللّه: لبّيك يا يحيى. و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام.

[وَ زَكاةً] أي و آتيناه عملا مزكّى صالحا مهذّبا بحسن الثناء عليه أو العمل لمن قبل دينه زكاة و مقبولا أو وجود يحيى صدقة تصدّق اللّه به على أبويه. و قيل: معناه هو بركة و نماء كما قال عيسى: «وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ» (1).

قوله: [وَ كانَ تَقِيًّا] أي كان يحيى مطيعا متّقيا لما نهى اللّه عنه قالوا: و من تقواه أنّه لم يعمل خطيئة قطّ و لم يهمّ بها و إنّما أضاف اللّه كونه زكاة إلى نفسه و هو كان زكيّا و مطيعا بفعله لأنّه إنّما صار عليه السّلام كذلك في حال الصغر بألطاف اللّه و لذا نسبه إلى نفسه.

قوله: [وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ] أي بارّا محسنا إليهما مطيعا لهما طالبا مرضاتهما [وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً] متكبّرا متطاولا على الخلق و إنّما وصفه بالبرّ بالوالدين لأنّه لا عبادة بعد تعظيم اللّه مثل تعظيم الوالدين كما قال سبحانه: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (2) و إنّما نزّهه عن التجبّر لأنّ رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذلّ و معرفة ربّه بالعظمة فإنّ إبليس لمّا تجبّس تمرّد و صار مبعدا عن الرحمة و الجبّار هو الّذي يعاقب على غضب نفسه من غير حقّ و لا يرى لأحد حقّا على نفسه عن أن يلزمه قضاءه.

و قوله: [عَصِيًّا] مبالغة من العاصي كما أنّ العليم أبلغ من العالم.

قوله: [وَ سَلامٌ عَلَيْهِ] أي سلام عليه منّا قيل: و سلامة و أمان له [يَوْمَ وُلِدَ] من عبث الشيطان و إغوائه إيّاه [وَ يَوْمَ يَمُوتُ] من بلاء الدنيا و من عذاب القبر [وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا] من هول المطّلع و عذاب النار و قوله: «حيّا» تأكيد لقوله: «يبعث» و قيل: يعني أنّه يبعث مع الشهداء لأنّهم و صفوا بأنّهم أحياء.

قال سفيان بن عيينة: أوحش ما تكون الإنسان في ثلاثة مواطن: يوم ولد فرأى نفسه خارجا ممّا كان فيه و يوم يموت فيرى قوما لم يكن رآهم و أحكاما ليس له بها عهد

ص: 12


1- مريم: 31.
2- الإسراء: 23.

و يوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فخصّ اللّه سبحانه يحيى بالكرامة و السلامة في المواطن الثلاثة و السلام الأوّل يوم الولادة بفضل و تشريف و الثاني و الثالث على وجه الثواب و الجزاء و هذا السلام و البشارة يمكن أن يكون من اللّه و أن يكون من الملائكة و على التقديرين فدلالة شرفه و فضله ثابتة لأنّ الملائكة لا يسلّمون إلّا عن أمر اللّه.

و في هذه الآية دلالة على آداب الدعاء أحدها: نداء خفيّا و هو يدلّ على أنّ أفضل الدعاء ما هذا حاله و يؤكّده قوله: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً» (1) و لأنّ رفع الصوت مشعر بالقوّة و إخفاء الصوت مشعر بالانكسار و عجز النفس.

و كذلك يستفاد من الآية أن يذكر في مقدّمة الدعاء عجز النفس و ضعفها كما في قوله تعالى عنه: «وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً».

ثمّ يستفاد من آداب الدعاء أنّه أن يكون الدعاء لأجل شي ء متعلّق بالدين لا لمحض الدنيا كما قال: «وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي» و كذلك أن يكون بلفظ يا ربّ.

و أيضا في هذه القصّة دلالة على أنّ البنية ليست شرطا في الإيجاد و القدرة و الوسائط عند القدرة ملغاة. و أيضا ردّ على الطباعيين.

و في الكافي عنهم عليهم السلام فيما و عظ اللّه عيسى عليه السّلام: و نظيرك يحيى من خلقي و هبته لأمّه بعد الكبر من غير قوّة بها أردت بها بذلك أن يظهر لها سلطاني و تظهر فيك قدرتي.

و في تفسير الإمام في سورة البقرة عند قوله تعالى: «وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» (2) قال: ما ألحق اللّه صبيّا برجال كاملي العقول إلّا هؤلاء الأربعة: عيسى ابن مريم و يحيى بن زكريّا و الحسن و الحسين عليهم السلام.

قوله تعالى:

ص: 13


1- الأعراف: 154.
2- البقرة: 282.

[سورة مريم (19): الآيات 16 الى 20]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)

هذه قصّة ثانية خارجة عن مناهج العادات و إنّما قدّم قصّة يحيى على قصّة عيسى لأنّ خلق الولد من شيخين فانيين أقرب من تخليق الولد من غير أب و أحسن الطريق إلى بيان الأمر الأخذ من الأقرب فالأقرب ثمّ إلى الأصعب فالأصعب فعطف قصّة عيسى على يحيى عليهما السّلام فقال سبحانه:

و لينته علمك يا محمّد في قرآنك هذا حديث [مريم] و ولادتها عيسى و صلاحها في الدين ليقتدي الناس بها و ليكون علمك بأحوالها من غير تعليم معلّم معجزة لك [إِذِ انْتَبَذَتْ] و انفردت [مِنْ أَهْلِها] إلى جهة المشرق و قعدت ناحية منهم و لذا اتّخذت النصارى المشرق قبلة، و فلان خلّى نبذة من الناس أي ناحية أي اتّخذت مكانا للعبادة متباعدة لئلّا تشتغل بكلام الناس، أو تباعدت عن قومها للعبادة حتّى لا يروها.

ثمّ إنّها مع ذلك اتّخذت و جعلت بينها و بينهم [حِجاباً] و حائلا أي جعلت بين نفسها و بينهم سترا. و قيل: إنّها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد المعدّ للعبادة لكي تنتظر الطهر فتغتسل ثمّ تعود إلى مكانها فلمّا طهرت جاءها جبرئيل.

و قيل: قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بستر تستر بها. و قيل: إنّ زكريّا زوج أختها كان رتّب لها محرابا على حدة تسكنه بقربه و تعبد فيه و كان زكريّا إذا خرج أغلق عليها فأرادت مريم أن تجد خلوة في الجبل لتمشط رأسها فانفجر السقف لها فخرجت من المكان إلى المفازة فجلست في المشرقة فتمنّت وراء الجبل فأتاها الملك و المكان الشرقيّ هو الّذي يلي شرقيّ بيت المقدس.

و لمّا جلست ذاك المكان [فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا] يعني جبرئيل و سمّاه اللّه روحا لأنّه روحانيّ و أضافه إلى نفسه تشريفا له كبيتي و عبدي. و قرئ روحنا بالفتح لأنّه سبب لما فيه روح العباد و لا شكّ أنّه من المقرّبين «فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ

ص: 14

وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ» (1) و لا يلزمنا هذه التكلّفات و قد سمّاه اللّه تعالى الروح قال:

«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» (2) ثمّ إنّه قال: «إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا» و لا يليق ذلك لجبرئيل.

و اختلفوا في أنّه كيف ظهر لها أي بصورة أيّ إنسان. قيل: إنّه ظهر لها بصورة شابّ أمرد حسن الوجه سويّ الخلق. و قيل: ظهر لها بصورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس و لا دلالة في اللفظ على التعيين فانتصب بين يديها جبرئيل بصورة آدميّ صحيح لم ينقص منه شي ء فلمّا رأته مريم أنكرته فاستعاذت باللّه منه.

[قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا] أرادت إن كان يرجى منك أن تتّقي اللّه فإنّي عائذة باللّه منك لأنّها علمت أنّ الاستعاذة تؤثّر في التقى كقوله «وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (3) أي شرط الإيمان يوجب هذا. و قيل: معناه إن النافية أي ما كنت تقيّا حيث استحللت النظر إليّ و خلوت في منزلي. و قيل: إنّه كان في ذلك الزمان إنسان فاجر اسمه تقيّ يتبع النساء فظنّت مريم عليها السّلام أنّه هو ذلك التقيّ.

و هاهنا بحث و هو أنّه جاء في الأخبار أنّ جبرئيل عليه السّلام شخص عظيم الجثّة فذلك الشخص العظيم كيف بصر بدنه في مقدار جثّة الإنسان أ بأن تساقطت أجزاؤه و تفرّقت بنيته فحينئذ لا يبقى جبرئيل أو بأن تداخلت أجزاؤه و ذلك توجب تداخل الأجزاء و الأجسام و هو محال فكيف الأمر؟

و الجواب أنّه لا يمتنع أن يكون جبرئيل له أجزاء أصليّة و أجزاء فاضلة و الأجزاء الأصليّة قليلة فيكون متمكّنا من التشبّه بصورة الإنسان و هذا إذا جعلناه جسمانيّا أمّا إذا جعلناه روحانيّا فأيّ استبعاد في أن يبدو تارة بالهيكل العظيم و اخرى بالهيكل الصغير.

و الحاصل فلمّا سمع جبرئيل عليه السّلام منها هذه الاستعاذة [قالَ] لها:

ص: 15


1- الواقعة: 88، 89.
2- الشعراء: 193.
3- البقرة: 278.

[إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ] ولدا طاهرا من الأدناس ناميا في أفعال الخير. و قيل:

يريد نبيّا.

[قالَتْ] مريم: [أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ] و كيف يكون لي ولد؟ [وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ] على وجه الزوجيّة و لم أكن زانية، و إنّما قالت ذلك لأنّ العادة أن يكون الولد من إحدى هاتين الجهتين. و إنّما يقال: للفاجرة بغيّ لأنّها تطلب و تبغي الزنا.

و في هذه الآيات دلالات على جواز إظهار المعجزات لغير الأنبياء خلافا لمن قال:

إنّ المعجزة خاصّة بالنبوّة لأنّ من المعلوم أنّ مريم ليست نبيّة و أنّ رؤية الملك على صورة البشر و بشارة الملك إيّاها و ولادتها من غير وطء من الآيات الّتي آتاها اللّه من أكبر المعجزات.

و أجاب الّذي أنكر المعجزة لغير النبيّ و قالوا: إنّها معجزات لزكريّا.

و ردّ هذا القول: لأنّ المعجز إذا كان مفعولا للنبيّ أو لأجل النبيّ فأقلّ ما فيه أن يكون عليه السّلام عالما به و زكريّا ما كان عنده علم بهذه الوقائع فكيف يجوز جعلها معجزا له؟ بل يمكن إرهاصا لعيسى عليه السّلام أو كرامة لمريم.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 21 الى 30]

قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25)

فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (30)

المعنى: [قالَ] لها جبرئيل حين سمع تعجيبها من هذه البشارة: الأمر [كَذلِكِ] و كما وصفت لك و إحداث الولد من غير زوج للمرأة سهل منّا لا يشقّ عليّ [وَ لِنَجْعَلَهُ

ص: 16

آيَةً] و علامة ظاهرة و آية باهرة [لِلنَّاسِ] و على نبوّته و براءة على فعل مريم و لنجعله نعمة [مِنَّا] على الخلق يهتدون بسببه [وَ كانَ] خلق عيسى [أَمْراً] كائنا لا محالة محتوما قضى اللّه بأنّه يكون.

فحملت مريم بعيسى في الحال. قيل: أخذ جبرئيل ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها و وجدت حسّ الحمل. و قيل: نفخ في كمّها فحملت. و روي عن الباقر عليه السّلام أنّ جبرئيل تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر فخرجت من المستحمّ و هي حامل مثقل فنظرت خالتها فأنكرتها و مضت مريم على وجهها مستحيية من خالتها و من زكريّا و خالتها زوجة زكريّا [فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا] تنحّت بالحمل إلى مكان بعيد حياء من أهلها و خوفا من أن يتّهموها بسوء.

و اختلفوا في مدّة حملها؛ فقيل: ساعة. قال ابن عبّاس: لم يكن بين الانتباذ و الحمل إلّا ساعة واحدة لأنّه تعالى لم يذكر فصلا لأنّه قال: فحملته فانتبذت به فأجاءها المخاض، و الفاء للتعقيب. و قيل: كانت مدّة حملها تسع ساعات و هذا مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و قيل: ستّة أشهر. و قيل: ثمانية أشهر و هذا القول: بعيد. قال ابن عبّاس: نظرت مريم إلى أكمة فصعدت مسرعة إليها فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس بها سعف.

فلمّا ولدت قالت: [يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا] و في التهذيب عن السجّاد عليه السّلام خرجت من دمشق حتّى أتت كربلا في موضع قبر الحسين ثمّ رجعت من ليلتها.

قوله: [فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ] أي ألجأها وجع الولادة إلى جذع النخلة لتستند إليها فلمّا ولدت [قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا] أي شيئا متروكا لم أك في الذكر. قيل: و إنّما تمنّت الموت كراهية أن يظنّوا بها سوءا.

و في علّة الانتباذ قالوا وجوها: أحدها ما رواه الثعلبيّ في العرائس عن وهب قال:

إنّ مريم لمّا حملت بعيسى و كانت ثلاثة عشر سنة أو عشرين سنة و كان قد رأت حيضتين و كان مع مريم ابن عمّ لها يقال له: «يوسف النجّار» و هو يعبد في المسجد الّذي كان

ص: 17

تعبد فيه مريم قرب جبل صهبون و لا يعلم في أهل زمانها أحد أشدّ اجتهادا و عبادة منهما.

و أوّل من عرف حمل مريم يوسف فتحيّر في أمرها فكلّما أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها و عبادتها و أنّها لم يغب عنه ساعة قطّ و أنّها ما فترت عن العبادة وقتا و إذا أراد أن يبرأها رأى الّذي ظهر بها من الحمل فتكلّم يوما و قال: إنّه وقع في نفسي من أمرك يا مريم شي ء أخبريني يا مريم هل نبت الزرع بغير بذر و هل تنبت شجرة من غير غيث و هل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم ألم تعلم أنّ اللّه أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر و هذا البذر إنّما حصل من الذرع الّذي أنبته من غير بذر ألم تعلم أنّ اللّه أنبت الشجرة من غير غيث و بالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كلّ واحد منهما على حدة أو تقول: إنّ اللّه لا يقدر على أن ينبت الشجرة و يخلق الزرع حتّى استعان بالماء و البذر و لو لا ذلك ما كان قادرا؟ فقال يوسف: لا أقول هذا، و لكنّي أقول:

إنّ اللّه قادر على ما يشاء فيقول: كن فيكون. فقالت له مريم: ألم تعلم أنّ اللّه خلق آدم و امرأته من غير ذكر و لا أنثى؟ فعند ذلك البيان زالت الشبهة عن قلب يوسف و كان ينوب عنها في خدمة المسجد بسبب الحمل.

فلمّا دنا نفاسها أوحى اللّه إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلّا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على جماز له فلمّا بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة و ذلك في زمان برد فوضعت عندها.

و الحديث الصحيح أنّها خرجت بأمر اللّه إلى كربلا في ليلة واحدة و وضعت و رجعت في ليلتها.

و قيل: السبب في خروجها أنّها كانت مشهورة في بني إسرائيل بالزهد و تشاحّ الناس في تربيتها ثمّ تكفّل زكريّا بها و لأنّ الرزق يأتيها من عند اللّه و هذه الأمور و المزايا كلّها في نهاية الشهرة استحت من هذه الواقعة فذهبت إلى مكان بعيد لا يراها زكريّا. و هذه الوجوه كلّها محتملة و ليس في القرآن ما يدلّ على شي ء من السبب.

و معنى المخاض تمخّض الولد في البطن و حركته للولادة.

قال في الكشّاف: جذع نخلة يا بسة كانت في الصحراء على اختلاف الصحراء و ليس

ص: 18

لها رأس و لا ثمر و لا خضرة و كان الوقت شتاء و إنّ اللّه أرشدها إلى هذه النخلة ليطعمها منها الرطب و النخلة لا تثمر إلّا عند اللقاح و لا تلقح و لا تطلع إلّا في الربيع و إذا قطع رأسها لم تثمر قطّ و تموت فاللّه سبحانه أرشدها إلى هذه النخلة ليدلّ على جواز ظهور الولد من غير حياة و لقاح و أب كما أنّ الرطب حصل من جذع النخلة.

و بالجملة فلو قيل: لم قالت: «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» مع أنّها كانت تعلم أنّ اللّه بعث جبرئيل إليها و وعد بأن يجعلها و ابنها آية للعالمين؟

الجواب قيل: أنساها كربة الغربة. و قيل: إنّ عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا، قال أمير المؤمنين يوم الجمل: يا ليتني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة.

و عن بلال: ليت بلالا لم تلده امّه. و كذا قال عليّ بن الحسين عليه السّلام يوم ورد إلى الشام.

و قوله: «نسيا» قرئ بكسر النون أيضا قيل: معناه خرقة ملقاة من خرق الطمث.

قال صاحب الكشّاف: النسي ما من حقّه أن يطرح و يلقى كالذبح اسم لما شأنه أن يذبح. و قيل: الحليب المخلوط بالماء الكثير ينساه أهله لإعراضهم عنه.

و بالجملة قال ابن عباس: فسمع جبرئيل كلامها و عرف جزعها [فَناداها مِنْ تَحْتِها] و كان أسفل منها تحت الأكمة [أَلَّا تَحْزَنِي] و هذا قول جماعة: إنّ المنادي جبرئيل ناداها من سفح الجبل. و قيل: المنادي المولود عيسى: لا تغتمّي [قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ] أي تحت قدميك نهرا تشربين منه شديد الجري تطهّرين به، قالوا: و كان نهرا قد انقطع الماء عنه فأرسل اللّه الماء فيه لحاجة مريم و أحيا ذلك الجذع حتّى أثمر و أورق. و قيل:

ضرب جبرئيل برجله فظهر ماء عذب. و قيل: بل ضرب عيسى عليه السّلام برجله فظهر عين ماء يجري و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. و قيل: السريّ عيسى و معناه الشريف الرفيع.

قوله: [وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ] أي اجذبي إلى نفسك جذع النخلة و الباء زائدة [تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً] طريّا [جَنِيًّا] و قرئ بالكسر من الجيم للإتباع فقال الباقر عليه السّلام: لم يستشف النفساء بمثل الرطب. و هذه معجزات تنوف على عشرة متوالية معجزة إثر معجزة.

قوله: [فَكُلِي] يا مريم من هذا الرطب [وَ اشْرَبِي] من هذا الماء أو من عصيره

ص: 19

[وَ قَرِّي عَيْناً] أي طيّبي نفسا و برّدي عينيك سرورا بهذا الولد الّذي عندك لأنّ دمعة السرور باردة و دمعة الحزن حارّة.

قوله: [فَإِمَّا تَرَيِنَ] أصله ترأيين و الاستعمال بغير الهمزة، و الياء ضمير المؤنّث و إنّما حرّكت الياء لالتقاء الساكنين و هما الياء و النون الاولى و النونان أحدهما نون الرفع و الآخر التأكيد كما تقول: ارضينّ زيدا للمرأة. و إن شرطيّة أي إذا رأيت آدميّا كان من كان فقولي: ان استنطقك و سألك عن ولدك:

[إِنِّي نَذَرْتُ] للّه و أوجبت على نفسي صمّا و الصوم على هذا القول: معناه الصمت، و قيل: الصوم في ذلك الزمان كان يلزمه الصمت و كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلّم الصائم حتّى يمسي.

[فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا] و كان قد أذن لها أن يتكلّم بهذا القدر ثمّ تسكت و لا تتكلّم بشي ء آخر. قيل: كان اللّه أمرها أن تنذر للّه الصمت و الصوم و إذا كلّمها أحد تؤمي بأنّها نذرت صمتا لأنّه لا يجوز أن تخبر بالكذب.

قوله: [فَأَتَتْ] مريم بعيسى و ذلك أنّها لفّته في خرقة و حملته إلى [قَوْمَها] راجعة إليهم حاملة لعيسى [قالُوا] موبّخين لها: [يا مَرْيَمُ] لقد فعلت أمرا عظيما بديعا منكرا فرى الجلد إذا قطعه. و قيل: إنّ يوسف انتهى بمريم إلى غار فأدخلها فيه أربعين يوما ثمّ أتت بعد أن طهرت من النفاس و كلّمها عيسى في الطريق و قال: يا امّاه ابشري فانّي عبد اللّه و مسيحه.

و الحاصل لمّا رأوه القوم وبّخوا مريم و أكّدوا توبيخهم ثانيا بقولهم [يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ] فيه أقوال:

أحدها أنّ هارون هذا كان رجلا صالحا في بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح، عن جماعة هذا المعنى مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى قيل: إنّه لمّا مات شيّع جنازة هذا الصالح أربعون ألفا كلّهم يسمّى هارون تبرّكا باسمه فحينئذ المعنى: يا شبيهة بهارون في الصلاح ما كان هذا الأمر معروفا عنك.

و ثانيها أنّ هارون كان أخاها لأبيها ليس امّها و كان معروفا بحسن الطريقة.

ص: 20

و ثالثها أنّ هارون المراد أخو موسى عليه السّلام و نسبت إليه لأنّها من ولده و أعقابه و إنّما قيل: يا اخت كما يقال: يا أخا همدان أي يا واحدا منهم.

و الرابع أنّ هارون كان رجلا معلنا بالفسق فنسبت إليه تشبيها لا نسبة.

و بالجملة جاء بنو إسرائيل و رأوها أنّ عيسى في صدرها و أقبلن مؤمنات بني- إسرائيل يبزقن في وجهها فلن تكلّمهنّ حتّى دخلت في محرابها فجاء إليه زكريّا و قالت:

بنو إسرائيل ما قالت.

[فَأَشارَتْ] و أومأت مريم إلى عيسى أي هذا الّذي يجيبكم. روي أنّه لمّا أشارت إليه غضبوا غضبا شديدا و قالوا: لسخريّتها بنا أشدّ من زناها.

و في ذلك الوقت كان عيسى يرضع فلمّا سمع ذلك ترك الرضاع و أقبل عليهم بوجهه و اتّكأ على يساره و أشار بسبّابته و كلّمهم بذلك ثمّ لم يتكلّم حتّى بلغ مبلغا يتكلّم فيه الصبيان. و قيل: إنّ زكريّا عليه السّلام لمّا رأى مناظرة اليهود إيّاها فقال لعيسى:

انطق بحجّتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عند ذلك: إنّي عبد اللّه.

و المراد بالمهد قيل: هو حجرها لما روي أنّها أخذته في خرقة فلمّا رأوها وقعت هذه المحاورات و لم يكن بعد له منزل و مهد معدّ و المراد الّذي من شأنه النوم في المهد كيف نكلّمه؟

فوصف عيسى نفسه بصفات عديدة لأنّ الكلام مثل ذلك الوقت من الرضيع موهم بعض الأمور فابتدأ عليه السلام ابتداء بما يرفع ذلك الوهم فقال: [إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ] فنصّ على نفسه بالعبوديّة و جعل إزالة هذه الشبهة أولى من إزالة التهمة عن الزنا مع أنّ اللّه أعطاه هذه القوّة لإزالة تهمة الزنا عن امّه.

الصفة الثانية قوله: [آتانِيَ الْكِتابَ] و اختلف الناس فيه الجمهور على أنّه قال هذا الكلام حال ما تكلّم، و قال البلخيّ: إنّما قال حين كان كالمراهق الّذي يفهم.

و قيل: إنّه كان في ذلك الصغر نبيّا. و قيل: إنّ مراده حال صغره، قال: بأنّه سيبعثني نبيّا.

و احتجّ من نصّ على فساد القول بنبوّته حال صغره بأمور:

ص: 21

أحدها أنّه لو كان نبيّا في هذا الصغر لكان كمال عقله مقدّما على ادّعائه للنبوّة إذا النبيّ لا بدّ و أن يكون كامل العقل و كمال عقله ذلك الوقت خارق للعادة فيكون المعجز متقدّما على التحدّي و إنّه غير جائز.

الثاني أنّه لو كان نبيّا في ذلك الوقت لوجب أن يشتغل ببيان الأحكام و تعريف الشرائع و لو وقع ذلك لاشتهر و لنقل فحيث لم يحصل ذلك علمنا أنّه ما كان نبيّا في ذلك الوقت.

و أجابوا عن الوجه الأوّل بأنّه إذا أكمل اللّه عقله قبل دعواه يكون معجزة لزكريّا أو إرهاصا لنبوّته أو كرامة لمريم. و عن الوجه الثاني أنّه يجوز تجرّد بعثته إليهم من غير بيان شي ء من الشرائع ثمّ بعد البلوغ أخذ في شرح الشرائع فحينئذ لا يمتنع نبوّته في صغره.

و اختلفوا في الكتاب قيل: هو التوراة لأنّ الألف و اللام في الكتاب تنصرف للمعهود و الكتاب المعهود لهم هو التوراة. و قيل: المراد الإنجيل لأنّ الألف و اللام للجنس يعني آتاني من هذا الجنس.

الصفة الثالثة قوله: [وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا].

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 31 الى 35]

وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)

الصفة الرابعة [وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ] و البركة في اللغة الثبات و أصله من بروك البعير أي جعلني ثابتا مستقرّا على دين اللّه و يعلّم الناس دينهم و يدعوهم إلى طريق فإن ضلّوا فمن قبل أنفسهم.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أسلمت مريم عيسى إلى المعلّم و قالت: أدفعه إليك على أن لا تضربه. فقال له المعلّم: اكتب. قال عيسى: أيّ شي ء أكتب؟ فقال: اكتب أبجد

ص: 22

فرفع عيسى رأسه و قال: هل تدري ما «أبجد» فعلاه المعلّم بالدرّة ليضربه فقال: يا مؤدّب لا تضربني إن كنت لا تدري اسألني أنا اعلّمك: الألف من آلاء اللّه و الباء من بهاء اللّه و الجيم من جمال اللّه و الدال من أداء الحقّ إلى اللّه.

«وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً» أي مادمت في الدنيا صغيرا أكون أو كبيرا مستعليا بالحجّة و إذا جاء وقت المفارقة عن الكون في الدنيا يكر مني اللّه بالرفع إلى السماء أو جعلني مباركا على الناس بحيث يحصل بسبب دعائي إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص. روي أنّه رأته امرأة و هو يحيي الموتى و يبرأ الأكمه و الأبرص فقالت: طوبى لبطن حملتك و ثدي أرضعتك، فقال عيسى عليه السّلام مجيبا لها: طوبى لمن تلا كتاب اللّه و اتّبع ما فيه و لم يكن جبّارا شقيّا.

الصفة الخامسة: [وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ] فإن قيل: كيف امر بالصلاة و الزكاة مع أنّه كان طفلا صغيرا و القلم مرفوع عنه؟ فالجواب أنّ الكلام لا يدلّ على كون الصلاة و الزكاة عليه في الحال بل بعد البلوغ أو أنّ اللّه جعله لمّا انفصل عن امّه بالغا كاملا في العقل مكلّفا بالأحكام كخلقة آدم تامّا كاملا مكلّفا دفعة. و قوله:

[ما دُمْتُ حَيًّا] يؤيّد هذا المعنى فإنّه يفيد أنّ هذا التكليف متوجّه عليه في جميع زمان حياته و لم يتغيّر حين كان في الأرض و حين رفع إلى السماء و حين ينزل إلى الأرض مرّة اخرى.

الصفة السادسة قوله تعالى: [وَ بَرًّا بِوالِدَتِي] أي جعلني بارّا و محسنا بها اؤدّي شكرها في ما قاسته بسببي.

الصفة السابعة: و ما جعلني متكبّرا بل متواضعا لها و لو كنت جبّارا لكنت عاصيا شقيّا قال عيسى: قلبي ليّن و أنا صغير في نفسي. قال بعض أهل المعرفة: لا تجد العاقّ إلا جبّارا شقيّا.

الصفة الثامنة [وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا] أي السلامة عليّ من اللّه في هذه الأحوال الثلاث و قد مرّ بيانه في أحوال يحيى. و قيل: اللام لام التعريف في السلام للعهد يعني السلام الموجّه إلى يحيى في المواطن الثلاث موجّه إليّ أيضا، و قال

ص: 23

صاحب الكشّاف: اللام للاستغراق أي و كلّ السلام عليّ و على أتباعي و إنّما قال هذا القول تعريضا باللعن على من اتّهم مريم امّه بالزنا و كان يليق به في هذا المقام مثل هذا التعريض إزالة للشبهة نظير قول موسى عليه السّلام: «وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى» (1) بمعنى أنّ العذاب على من كذّب و تولّى، فكأنّه سأل ربّه السلامة و طلب منه ما أخبر اللّه فعله بيحيى.

و في هذه الآيات دلالة على أنّه يجوز أن يصف الإنسان نفسه إذا أراد أن يعرّفها إلى غيره لا على وجه الافتخار بل على وجه حاجة لا تنقضي تلك الحاجة إلّا ببيان ذلك الوصف أو في مقام زوال التهمة عن نفسه و أمثال هذه الموارد فإذا لا بأس بأن يصف الإنسان نفسه و يعرّف غيره بنفسه كما أنّ عيسى لمّا كلّمهم بهذه الكلمات علموا براءة مريم.

و اعلم أنّ اليهود و النصارى ينكرون أنّ عيسى تكلّم في زمان الطفوليّة و احتجّوا عليه بأنّ هذا من الوقائع العجيبة الّتي تتوفّر الدواعي على نقله فلو وجدت لنقلت إلينا بالتواتر و لعرفه النصارى و هم أشدّ الناس بحثا و غلوّا في عيسى.

فالجواب أوّلا أنّ عدم الوجدان عند نقلهم و أخبارهم لا يستلزم عدم الوجود و العقل يحكم على أنّه تكلّم فإنّه لو لا كلامه الّذي دلّهم على براءة امّه من الزنا لما تركوا في ذلك الزمان إقامة الحدّ على امّه و لما سكتوا عن مثل هذا الأمر الفظيع و لما استسلموا الأمر لمريم و ما عظّموها هذا التعظيم الوافر بحيث يعرفون لها بالتثليث، و القرآن مصرّح ناطق بنطقه و الإجماع من قاطبة المسلمين، و السنّة مشحونة بهذا الأمر ثمّ إنّه يمكن أن كان الحاضرون حينئذ عند كلام عيسى قليلين و غالط اليهود وقتئذ لعداوتهم و لذلك لم يشتهر عند النصارى و لم يبلغ إلى حدّ التواتر فانقطع الخبر عن الطبقات كما حصل مثل هذا في قصّة شقّ القمر.

قوله تعالى: [ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ] أي ذلك الّذي قال هذه الكلمات و الموصوف بهذه الصفات الّتي منها إقراره بأنّي عبد اللّه، عيسى بن مريم و ولده هذه المرأة الموصوفة لا أنّه ابن اللّه و أنّ كلامه هذا لهو الحقّ المبين، أو المعنى

ص: 24


1- طه: 47.

أنّ نفس عيسى قول لأنّ الحقّ اسم اللّه فالمعنى أنّ عيسى كلمة اللّه و لا فرق بين الكلمة و بين القول في هذا المقام.

و هذا البيان لأجل شبهات النصارى حيث بعض أثبتوا الألوهيّة و بعض جعلوا فيه جزءا من الألوهيّة، و بعض اليهود إنّهم أضافوا إليه عليه السّلام أمورا قبيحة فهذا البيان ردّ لعقائدهم الفاسدة و هو معنى قوله: «الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» و يشكّون في حقيقته فكذّبهم اللّه بقوله:

[ما كانَ لِلَّهِ] اتّخاذ الولد و لا ينبغي له لأنّ الولد لا بدّ و أن يكون من جنس الوالد و مشابه و متشاكل له و اللّه تعالى ليس كمثله شي ء و قوله: [مِنْ وَلَدٍ] هذه أي كلمة «من» هذه هي الّتي تدلّ على نفي الواحد و الجماعة.

ثمّ بيّن سبحانه السبب في كون عيسى من غير أب فقال: السبب في تكوين عيسى لا يلزم أن يكون من أب بل السبب إذا قضى أمرا كان و لا يتعذّر عليه شي ء إذا أراد حصل بغير سببيّة الأبوّة بل يحصل بسببيّة الإرادة المحضة فقوله: «ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ» كقولنا: ما كان للّه أن يظلم أي لا يليق بإلهيّته و هو أمر ممتنع الحصول و بيان جهة امتناعه غير واحد و لا عشرة.

و احتجّ الأشاعرة بقوله: [إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] على قدم كلام اللّه قالوا: لأنّ الآية تدلّ على أنّه إذا أراد إحداث شي ء «قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فلو كان قوله: «كن» محدثا لافتقر حدوثه إلى قول آخر و لزم التسلسل و كأنّه خلق مخلوق مخلوقا.

و أجاب المعتزلة بالآية على حدوث الكلام من وجوه:

أحدها أنّه أدخل عليه كلمة «إذا» و هذه الكلمة دالّة على الاستقبال فوجب أن لا يحصل القول إلّا في الاستقبال و هذا هو الحدوث.

و الثاني: الفاء في الكلام للتعقيب و الفاء في قوله: «فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ» يدلّ على تأخّر ذلك القول عن القضاء و المتأخّر عن غيره محدث.

و الثالث الفاء في قوله: «فيكون» يدلّ على حصول ذلك الشي ء عقيب ذلك

ص: 25

القول من غير فصل فيكون قول اللّه متقدّما على حدوث الحادث تقدّما بلا فصل و المتقدّم على المحدث تقدّما بلا فصل يكون محدثا فقول اللّه محدث.

و بالجملة قال الرازيّ: فقوله: «كُنْ فَيَكُونُ» من الناس من أجرى الآية على ظاهرها فزعم أنّه تعالى إذا أحدث شيئا قال له: «كن» و هذا ضعيف لأنّه إمّا أن يقول له «كن» قبل حدوثه أو حال حدوثه فإن كان قبل حدوثه كان ذلك خطابا مع المعدوم و هو عبث و إن كان الثاني فهو حال حدوثه قد وجد بالقدرة و الإرادة فأيّ تأثير لقوله:

«كن» و قال آخرون: «كن» عبارة عن نفاذ قدرة اللّه و مشيّته في الممكنات فإنّ وقوعها بتلك القدرة و الإرادة يجري مجرى العبد المسخّر المطيع لمولاه فعبّر اللّه عن ذلك المعنى بهذه العبارة على سبيل الاستعارة.

و هاهنا بيان مختصر للرازيّ في أقوال النصارى فاعلم أنّ مذهب النصارى متخبّط جدّا.

روي أنّ عيسى عليه السّلام لمّا رفع إلى السماء بعد أن صلبوه بزعمهم حضر أربعة من أكابر علمائهم فقيل للأوّل: ما تقول في عيسى؟ فقال: هو إله و اللّه إله و امّه إله فتابعه على ذلك جملة من الناس و هم الإسرائيليّة أهل التثليث. و قال العالم الثاني: هو اللّه و هم اليعقوبيّة. و قال الثالث: هو ابن اللّه و هم النسطوريّة. و قال الرابع: هو عبد اللّه و هم المسلمون منهم. و أظنّ أنّ الّذين نسبوا الابنيّة تشريفا لا حقيقة هم النسطوريّة ثمّ قالوا: بالابنيّة حقيقة بجهلهم بعد مدّة قليلة.

و قد اتّفقوا على أنّه سبحانه ليس بجسم و لا متحيّز و مع ذلك فإنّا نذكر تقسيما حاصرا يبطل مذهبهم لأنّهم إمّا أن يعتقدوا كونه متحيّزا أولا فإن اعتقدوا كونه متحيّزا فيفسد قولهم حدوث الأجسام و حينئذ يبطل كلّ ما فرّعوا عليه و إن اعتقدوا أنّه ليس بمتحيّز فحينئذ يبطل ما يقوله بعضهم من أنّ الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط الماء بالخمر و إسراج النار بالفحم و ذلك لا يعقل إلّا في الأجسام فإذا لم يكن جسما استحال ذلك، و من النصارى قالت: عيسى ابن اللّه و هم النسطوريّة و منهم قالت:

هو اللّه هبط إلى الأرض ثمّ صعد إلى السماء و هم اليعقوبيّة و منهم الملكانيّة هو عبد اللّه

ص: 26

و نبيّه معتقدهم.

ثمّ للناس في الإنسان قولان: منهم من يقول: هو هذه البنية أو جسم موجود في داخلها، و منهم من يقول: إنّه جوهر مجرّد عن الجسميّة و الحلول يكون في الأجسام.

فنقول: هؤلاء النصارى إمّا أن يعتقدوا أنّ اللّه أو صفة من صفاته اتّحد ببدن المسيح أو بنفسه أو يعتقدوا أنّ اللّه أو صفة من صفاته حلّ في بدن المسيح أو في نفسه أو يقولوا: لا نقول بالاتّحاد و لا بالحلول و لكن إنّه تعالى أعطاه القدرة على خلق الحياة و الأجسام و القدرة و كان لهذا السبب إلها، أو لا يقولوا بشي ء من ذلك و لكن قالوا: إنّه على سبيل التشريف اتّخذه ابنا كما اتّخذ إبراهيم على سبيل التشريف خليلا.

فهذه الوجوه المنقولة في هذا الباب و الكلّ باطل:

أمّا القول الأوّل بالاتّحاد فهو باطل قطعا لأنّ الشيئين إذا اتّحدا فهما حال الاتّحاد إمّا أن يكونا موجودين أو معدومين أو يكون أحدهما موجودا و الآخر معدوما فإن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فالاتّحاد باطل و إن عدما و حصل ثالث فهو أيضا لا يكون اتّحادا بل يكون قولا بعدم ذينك الشيئين و حصول شي ء ثالث و إن بقي أحدهما و عدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتّحد بالموجود لأنّه يستحيل أن يقال:

المعدوم بعينه هو الموجود فظهر من هذا البرهان الباهر أنّ الاتّحاد محال.

و أمّا الحلول ففيه مقامان فلا بدّ من البحث عن ماهيّة الحلول حتّى يمكننا أن نعلم أنّه هل يصحّ على اللّه أولا يصحّ فذكروا للحلول تفسيرات ثلاثة:

أحدها: كون الشي ء في غيره ككون ماء الورد في الورد و الدهن في السمسم و النار في الفحم؛ و اعلم أنّ هذا باطل لأنّ هذا إنّما يصحّ لو كان اللّه جسما و هم وافقونا على أنّه ليس بجسم.

و ثانيها: حصوله في شي ء على مثال حصول اللون في الجسم فنقول: المعقول من هذه التبعيّة حصول اللون الّذي هو تابع لذلك الحيّز لحصول محلّه فيه و هذا القسم إنّما يعقل في الأجسام لا في حقّ اللّه.

و ثالثها: حصوله في الشي ء على مثال حصول الصفات الإضافيّة للذوات و هذا

ص: 27

أيضا باطل لأنّ المعقول من هذه التبعيّة الاحتياج فلو كان سبحانه حلّ في شي ء بهذا المعنى لكان محتاجا و مفتقرا إلى المؤثّر و ذلك محال و لا يتصوّر من الحلول غير هذه الأقسام الثلاثة.

ثمّ احتجّ الأصحاب في المقام الثاني على نفي الحلول مطلقا بطريق آخر بأن قالوا:

لو حلّ سبحانه لحلّ إمّا مع وجوب أن يحلّ أو مع جواز أن يحلّ و القسمان باطلان لأنّه مع فرض وجوب أن يحلّ يقتضي إمّا حدوث اللّه أو قدم المحلّ و كلاهما باطلان لأنّا دلّلنا على أنّ اللّه قديم و الجسم محدث.

ثمّ أنّه لو كان حلوله واجبا لكان محتاجا إلى المحلّ و المحتاج إلى الغير ممكن لذاته و الممكن لا يكون واجبا و لو قلنا بجواز أن يحلّ و ذلك أيضا لا يجوز لأنّه لمّا كانت ذاته واجبة الوجود لذاتها و حلوله في المحلّ أمر جائز و الموصوف بالوجوب غير ما هو موصوف بالجواز فيلزم أن يكون حلوله في المحلّ أمرا زائدا على ذاته.

و ذلك محال لوجهين و بيان الوجهين أعرضنا عن تفصيله و من أراد فليراجع المفاتيح للرازيّ في تفسير الآية.

و ذكروا في إبطال قول النصارى وجوها أخر: أحدها أنّهم وافقونا على أنّ ذاته سبحانه لم تحلّ في ناسوت عيسى عليه السّلام بل قالوا: الكلمة حلّت فيه و المراد من الكلمة العلم، فنقول: العلم لمّا حلّ في عيسى ففي تلك الحالة إمّا أن يقال: إنّه بقي في ذات اللّه أو ما بقي فيها فإن كان الأوّل لزم حصول الصفة الواحدة في محلّين و ذلك غير معقول و إن كان الثاني لزم أن يقال: إنّ اللّه لم يبق عالما بعد حلول علمه و ذلك ممّا لا يقوله عاقل.

قال الرازيّ: و قد جرت مناظرة بيني و بين بعض النصارى فقلت له: هل تسلّم أنّ عدم الدليل لا يدلّ على عدم المدلول أم لا فإن أنكرت لزمك أن لا يكون اللّه قديما لأنّ دليل وجوده هذا العالم فإذا لزم من عدم الدليل عدم المدلول لزم من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل و إن سلّمت أنّه لا يلزم و من عدم الدليل عدم المدلول فنقول: إذا جوّزت اتّحاد اللّه بعيسى أو حلولها فيه فكيف عرفت أنّ كلمة اللّه ما حلّت

ص: 28

في زيد و عمر بل ما حلّت في هذه الهرّة.

فقال النصرانيّ: إنّ هذا الكلام لا يليق بك لأنّا أثبتنا ذلك الاتّحاد و الحلول بناء على ما ظهر على يد عيسى من إحياء الأموات و إبراء الأكمه و الأبرص فإذا لم نجد شيئا من هذه الآيات على يد غيره فكيف نثبت الاتّحاد أو الحلول؟

فقلت له: قد عرفت أنّك ما عرفت أوّل الكلام لأنّك سلّمت لي أن عدم الدليل لا يدلّ على عدم المدلول فإذا كان هذا الحلول غير ممتنع في الجملة فأكثر ما في الباب أنّه وجد ما يدلّ على حصوله في حقّ عيسى و لم يوجد ذلك الدليل في حقّ زيد و عمر و السنّور و لكن عدم الدليل لا يدلّ على عدم المدلول و لا يلزم من عدم ظهور هذه الخوارق على يد زيد و الهرّة عدم ذلك الحلول فثبت أنّك مهما جوّزت القول بالاتّحاد و الحلول لزمك تجويز حصولهما في حقّ كلّ واحد منهم بل في حقّ كلّ حيوان و نبات و المذهب الّذي يسوق قائله إلى هذا القول الركيك يكون باطلا قطعا.

ثمّ قلت له: و كيف دلّ إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص على ما قلت؟ أليس انقلاب العصا ثعبانا أبعد من انقلاب الميّت حيّا؟ فإذا ظهر ذلك على يد موسى و لم يدلّ على إلهيّته فبأن لا يدلّ هذا على إلهيّة عيسى أولى.

ثمّ تحقيق آخر هاهنا و هو أنّا نقول: دلالة أحوال عيسى على العبوديّة أقوى من دلالتها على الربوبيّة لأنّه كان مجتهدا في العبادة و العبادة لا تليق إلّا بالعبيد و أنّه كان عليه السّلام في نهاية البعد عن الدنيا و في نهاية الوحشة عنها حتّى زعمت النصارى أنّ اليهود قتلوه و من كان في الضعف هكذا فكيف يليق به الربوبيّة؟

ثمّ أيّها الّذي تدّعي لعيسى الربوبيّة هل المسيح قديم أو حادث و القول بقدمه باطل بالضرورة لأنّا نعلم أنّه ولد و كان طفلا ثمّ صار شابّا و كان يأكل و يشرب و يعرض له ما يعرض البشر و إن كان محدثا كان مخلوقا و لا معنى للعبوديّة إلّا ذلك.

فإن قيل: المعنيّ بإلهيّته أنّه حلّت صفة الإلهيّة فيه.

قلنا: هب إنّه كان كذلك لكنّ الحالّ هو صفة الإله و المسيح هو المحلّ و المحلّ مخلوق محدث و المحلّ غير الحال فمن أين له الربوبيّة، النهاية أنّ اللّه منحه بصفة يجري

ص: 29

على يده بقدرة اللّه و هذا الأمر سار و جار في سائر الأنبياء الأكمل فالأكمل على قدر درجاتهم بل في الأولياء أين التراب و ربّ الأرباب؟

الخامس أنّ الولد لا بدّ و أن يكون من جنس الوالد فإن كان للّه ولد فلا بدّ أن يكون من جنسه فإذا اشتركا في بعض الوجوه فإن لم يتميّز أحدهما عن الآخر بأمر مّا فكلّ واحد منهما هو الآخر و إن حصل الامتياز فما به الامتياز غير ما به الاشتراك فلزم وقوع التركيب في ذات اللّه و كلّ مركب من ممكن فالواجب ممكن و هذا خلف محال.

هذا كلّه على الحلول و الاتّحاد. أمّا الاحتمال الآخر و هو أن يقال: معنى كون عيسى إلها أنّ اللّه خصّ نفس عيسى و بدنه بالقدرة على خلق الأجسام و فعل ما يريد و التصرّف في هذا العالم و المراد من الألوهيّة هذا المعنى.

قلنا: هذا أيضا باطل لأنّه لو كان قادرا على التصرّف في هذا العالم مطلقا أو كان قادرا على خلق الأجسام لما قدر اليهود على صلبه و كان يذبّ عن نفسه و يخلق لنفسه عسكرا و يعارضهم. بقي احتمال آخر و هو أنّه سبحانه اتّخذه ابنا لنفسه على سبيل التشريف كما قاله قوم من النصارى يقال لهم: الارميوسيّة، و هذا القول و لو كان فيه خطاء إلّا أنّه ليس فيه خطاء كثير لكنّه قول قبيح و سوء أدب في اللفظ.

فهذا جملة الكلام على النصارى و بهذا البيان ثبت قوله: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ».

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 36 الى 40]

وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)

قرئ إنّ بكسر الهمزة و الواو عطف على قول عيسى. تقدير الآية: قال: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ و إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ» كأنّه أخبر قومه عن بعثه و مولده و وصف ربّه بقوله: «إِنَّ اللَّهَ رَبِّي» و يجوز أن يكون إنّ مفتوحة عطفا على قوله:

ص: 30

«وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ» و أوصاني بأن لا تعبد و أغير ربّكم لأنّ اللّه ربّي و ربّكم، و يجوز أن يكون ابتداء كلام من اللّه أمر نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يقول لهم:

[إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ] و هذا الكلام يدلّ على أنّ مدبّر الناس و مصلح امور هم هو اللّه خلاف قول المنجّمين حيث يقولون: إنّ مدبّر الناس و مصلح أمورهم في السعادة و الشقاوة هي الكواكب و يدلّ على أنّ الإله واحد لأنّ لفظ «اللّه» اسم علم له سبحانه.

أمّا قوله: «فَاعْبُدُوهُ» فقد ثبت في اصول الفقه أنّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلّيّة أي مشعر بعلّيّة ذلك الوصف للحكم فههنا الأمر بالعبادة وقع مرتّبا على ذكر وصف ذات متّصف بصفة الربوبيّة فدلّ على أنّه إنّما تلزمنا عبادته لكونه ربّا لنا و منعما على الخلايق بأصول النعم و فروعها.

قوله: [هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ] يعني القول بالتوحيد و نفي الولد و الصاحبة و التثليث و التشريك طريق مستقيم لا اعوجاج فيه و مؤدّ إلى الحقّ و الجنّة إن شاء اللّه.

[فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ] أي تحزّبوا أهل الكتاب، و الحزب المنقطع في رأيه عن غيره فصاروا حزبا حزبا كما ذكرنا من اختلاف علمائهم من اليعقوبيّة و النسطوريّة و المثلّثة و غيرهم و إنّما قال سبحانه: [مِنْ بَيْنِهِمْ] لأنّ منهم من ثبت على طريق الحقّ و قيل: «من» زائدة.

[فَوَيْلٌ] أي فشدّة عذاب و هي كلمة وعيد [لِلَّذِينَ كَفَرُوا] بقولهم الباطل [مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ] أي حضورهم ذلك اليوم العظيم و هو يوم القيامة لشدّة أهو اله و عظم خوفه.

[أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا] و كلمة «بهم» جارّ و مجرور في موضع رفع و فاعل أسمع أي ما أبصرهم و أسمعهم يوم القيامة و إن كانوا في الدنيا صمّا و بكما و التقدير هؤلاء الكفار صاروا ذوي سمع و بصر غاية و للتعجّب صيغتان: ما أفعله و أفعل به و التعجّب من اللّه غير واقع معناه أن هذا الأمر لو صدر من الخلق لكان في موضع العجب كثيرا و بهذا

ص: 31

المعنى يضاف إليه المكر و الاستهزاء و ما لا يليق إلى اللّه.

قوله: [لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ] في الدنيا جاهلون و في الآخرة عارفون حيث لا ينفعهم معرفتهم هذا على أن يكون «أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ» كلمة التعجّب و على قول:

الأمر أي اسمع الناس يا محمّد بهولاء الأنبياء و بيّن لهم فيعرفوهم فيؤمنوا بهم و لا يضلّوا و القول الأوّل أوجه و أظهر.

[وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ] الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله أي خوّف يا محمّد كفّار مكّة يوم يتحسّر المسي ء هلّا أحسن العمل؟ و المحسن هلّا ازداد العمل؟ و هو يوم القيامة و روى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا دخل أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار قيل: يا أهل الجنّة فيشرفون و ينظرون فيجاء بالموت كأنّه كبش أملح فيقال لهم: أ تعرفون فيقولون: هذا هذا و كلّ قد عرفه قال: فيقدّم فيذبح ثمّ يقال: يا أهل الجنّة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت قال: و ذلك قوله: «وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ» و رواه أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام ثمّ جاء في آخر الحديث فيفرّح أهل الجنه فرحا لو كان أحد يومئذ ميّتا لماتوا فرحا و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميّتا لماتوا.

[إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ] و انقطعت الآمال و ادخل قوم النار و قوم الجنّة و قيل: حكم بين الخلايق معناه أي قضي على أهل الجنّة الخلود و قضي على أهل النار بالخلود [وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ] في الدنيا عن ذلك و مشغولون اليوم بما لا يغنيهم و لا يصدّقون بذلك.

ثمّ أخبر سبحانه عن نفسه فقال: [إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها] أي نميت سكّانها و نرثها و من عليها من العقلاء يعني نميت من يعقل و من لا يعقل و نهلك الجميع فلا يبقي فيها مالك و متصرّف [وَ إِلَيْنا] يردّون بعد الموت إلى حيث لا يملك الأمر و النهي غيرنا.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 41 الى 50]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)

قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

ص: 32

النظم: هذه هي القصّة الثالثة بعد قصّة زكريّا و عيسى و الغرض بيان التوحيد و النبوّة و الحشر.

و أعلم أنّ المشركين فريقان فمنهم من أثبت معبودا سوى اللّه حيّا عاقلا فاهما و هم النصارى و منهم من أثبت معبودا غير اللّه جمادا ليس بحيّ و لا عاقل و لا فاهم و هم عبدة الأوثان. و الفريقان و إن اشتركا في الضلال إلّا أنّ ضلال فريق الثاني أعظم و أقبح فلمّا بيّن تعالى الفريق الأوّل بيّن ضلال فريق الثاني و هم عبدة الأوثان فقال:

[وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ] و الواو عطف على قوله «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» أي بعد ذكر حال زكريّا و عيسى فاذكر حال إبراهيم و إنّما أمر بذكره لأنّه عليه السّلام ما كان هو و قومه و لا أهل بلدته مشتغلين بمطالعة الكتب فإذا أخبر عن هذه القصّة من غير زيادة و نقصان كان ذلك إخبارا عن الغيب و معجزا قاهرا على نبوّته.

و لأنّه كان إبراهيم أب العرب فكأنّه قال: إن كنتم مقلّدين لآبائكم على قولكم «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» (1) فأشرف آبائكم و أجلّهم إبراهيم فقلّدوه أيضا في ترك عبادة الأوثان فإن كنتم من المستدلّين فانظروا في هذه الدلائل الّتي ذكرها إبراهيم لتعرفوا فساد عبادتكم و إمّا تقليدا له لأنّ كثيرا من قومه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في زمانه كانوا يقولون: كيف نترك دين آبائنا و أجدادنا.

ص: 33


1- الزخرف: 23.

أو المراد أنّكم اتركوا التقليد على قولكم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ»* (1) و قالوا: «وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» فحكى اللّه سبحانه عن إبراهيم هذه الطريقة الاستدلاليّة تنبيها لهم على سقوط طريقتهم و حثّا على طريقة الاستدلال مثل إبراهيم.

قوله: [إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا] و الصدّيق الكثير الصدق و الّذي عادته الصدق أو الّذي يكون كثير التصديق بالحقّ حتّى يصير مشهورا به فيرجع أيضا إلى المعنى الأوّل.

«نبيّا» أي عليما برسالة اللّه تعالى. و ظهر لك مرتبة الصدق حيث اقترن بالذكر مع النبوّة.

و وقعت جملة «إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا» معترضة بين «إبراهيم» و بين كلمة:

[إِذْ قالَ] نظير قولك: رأيت زيدا و نعم الرجل أخاك [يا أَبَتِ] و التاء عوض عن ياء الإضافه و لا يقال: يا أبتي لأنّه لا يجمع بين العوض و المعوّض عنه و كذلك الهاء في يا «أبه» عوض عن ياء المتكلّم و لكن في النداء كذلك و لا يقال: أبتي بغير حرف النداء بل يقال: أبي و قد يقال: يا أبتا.

و بالجملة اذكر إذ قال إبراهيم: يا أبي [لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ] دعاء من يدعوه [وَ لا يُبْصِرُ] من يتقرّب إليه و يعبده [وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً] من امور الدنيا من نفع أو ضرّ.

[يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ] و المعرفة [ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي] على ذلك و اقتد بي فيه و إنّ هذا الّذي تعبده لا يحسّ و لا يعقل و أنت إنسان و تعقل و تبصر و أشرف فكيف يليق بالأشرف أن يعبد الأخسّ؟ فاتّبع علمي و نظري [أَهْدِكَ صِراطاً] مستويا من غير اعوجاج مستقيم.

[يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ] و لا تطعه فيما يدعوك إليه لأنّك إذا أطعت الشيطان فتكون بمنزلة من عبده، و من هذا البيان تبيّن حال مطيعي الشيطان لأنّه لا شبهة أنّ الكافر لا يعبد الشيطان بل هو أيضا يلعنه و لكن من أطاع شيئا فقد عبده [إِنَّ الشَّيْطانَ] لا ينبغي أن يطاع لأنّه [كانَ لِلرَّحْمنِ] عاصيا.

ص: 34


1- الزخرف: 22.

ثمّ إنّ من المعلوم أنّ عمّ إبراهيم الّذي عبّر بالأب للإطلاق ما كان يعتقد أنّ تلك الأوثان آلهة بمعنى أنّها خالقة قادرة مختارة موجدة للناس و الحيوانات لأنّه كان عاقلا لأنّ العلم بأنّ هذا الخشب المنحوت في ساعته لا يمكن أن يكون خالقا للسماوات و الأرض و المجنون لا يزعم هذا الأمر الفاسد فضلا عن العاقل فلو كان كذلك لا يجوز إيراد الحجّة عليه و المناظرة معه بل كان يعتقد أنّها تماثيل الكواكب و الكواكب هي الآلهة المدبّرة لهذا العالم فتعظيم تماثيل الكواكب بموجب تعظيم الكواكب.

أو كان يعتقد أنّ هذه الأوثان تماثيل أشخاص معظّمة عند اللّه من البشر فتعظيمها يقتضي كون أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند اللّه.

أو كان يعتقد أنّ تلك الأوثان طلسمات ركّبت بحسب اتّصالات مخصوصة للكواكب قلّما يتّفق مثلها و إنّها بسبب تلك الاتّصالات و التركيبات شفع لها و تنجح أمورهم بسببها و هذه جملة عقائد أهل الأصنام و الأوثان فلذلك أورد إبراهيم عليه السّلام حجّته بهذا الطريق فقال: أما إنّها لا تسمع و لا تبصر و لا تنفع و لا تضرّ فلا تحسن عبادتها.

و خوّفه و قال: [يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ] من جهة اللّه أن تبقى على كفرك و شركك فتكون موكولا إلى الشيطان و وليّه و هو لا يغنيك عن عذاب اللّه و تلحق به و اللاحق هو الّذي يلي الشي ء فتكون له قرينا في النار و لم يقل: فيكون الشيطان وليّك؛ لأنّه أبلغ في الفضيحة و هذا الخطاب من إبراهيم إليه لإطلاق الجدّ و العمّ على الأب و أنّه كان عمّه أو جدّه لأمّه و أنّ أباه الّذي ولده كان اسمه تارخ لإجماع الطائفة على أنّ آباء نبيّنا إلى آدم كلّهم مسلمون موحّدون و لما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:

لم يزل ينقلني اللّه من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتّى أخرجني في عالمكم.

و الكافر غير موصوف بالطهارة لقوله: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (1).

و الحاصل [قال] آزر مجيبا لإبراهيم حين دعاه إلى الإسلام: [أَ راغِبٌ أَنْتَ] و معرض [عَنْ] عبادة [آلِهَتِي] الّتي هي الأصنام و تارك لها [لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ] و تمتنع عن هذا

ص: 35


1- البراءة: 29.

الأمر [لَأَرْجُمَنَّكَ] بالحجارة و قيل: لأرمينّك بالذنب و العيب و الشتم، و قيل: معناه لأقتلنّك.

فانظر أيّها الإنسان كيف راعى إبراهيم قضاء حقّ القرابة و الإرشاد إلى الدين الّذي من أعظم أنواع الإحسان و أورد كلامه باللطف و مراعاة حسن الأدب، و ما أورد معروفه بالخشونة و الغلظة حتّى يصير ذلك سببا لإعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعيا في الإغواء؛ فقد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أوحى اللّه إلى إبراهيم أنّك خليلي فحسّن خلقك و لو مع الكفّار تدخل مداخل الأبرار فإنّ كلمتي سبقت لمن حسّن خلقه أن اظلّه تحت عرشي و أن اسكنه حظيرة قدسي و ادنيه من جواري.

ثمّ بعد أن هدّد آزر إبراهيم بالرجم قال: إن بقيت بقربي و ما بعدت عنّي لأرجمنّك [وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا] أي دهرا طويلا أو سليما سويّا عن عقوبتي، و أتى على فلان ملاوة من الدهر أي زمان بعيد.

[قالَ] إبراهيم: [سَلامٌ عَلَيْكَ] سلام توديع و هجر و متاركة و هذا مصداق قوله تعالى: «وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» (1) و يمكن أن يكون: دعا له بالسلامة استمالة له ألا ترى أنّه وعده بالاستغفار و قال: [سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي].

و احتجّ الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية و تقريره قالوا: إنّ إبراهيم عليه السّلام فعل ما لا يجوز لأنّه استغفر له و هو كافر و الاستغفار للكافر لا يجوز و إنّه استغفر لأبيه لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم: «سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي» و قوله: «وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» (2) و أمّا أنّه كافر فذاك بنصّ القرآن و بالإجماع و أمّا أنّ الاستغفار لا يجوز للكافر لقوله تعالى: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ» (3) و لقوله تعالى في سورة الممتحنة: «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ- إلى قوله- إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ» (4) فأمر الناس بالاقتداء به إلّا في هذا الفعل فهذا فعل منهيّ عنه.

ص: 36


1- هود: 69.
2- الشعراء: 86.
3- البراءة: 114.
4- الممتحنة: 4.

و الجواب أنّ القطع على أنّ اللّه يعذّب الكافر لا يعرف إلّا بالسمع فلعلّ إبراهيم ما كان في شرعه ما يدلّ على القطع بعذاب الكافر.

أو أنّ الاستغفار قد يكون بمعنى الاستماحة كما في قوله: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» (1) و على هذا المعنى قال إبراهيم: سأسأل ربّي أن لا يخزيك بكفرك مادمت حيّا بعذاب الدنيا المعجّل.

الثالث أنّه عليه السّلام إنّما استغفر له لأنّه عليه السّلام كان يرجو منه الإيمان فلمّا أيس منه ترك الاستغفار و لعلّ في شرعه جواز الاستغفار للمرجوّ منه الإيمان و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (2) فبيّن سبحانه أنّ المنع من الاستغفار إنّما يحصل بعد أن يعرفوا أنّهم من أصحاب الجحيم ثمّ قال: بعد ذلك «وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (3) فدلّت الآية على أنّه وعده بالاستغفار لو آمن فلمّا لم يؤمن لم يستغفر له بل تبرّأ منه و المنع من التأسّي به في ذلك لا يدلّ على أنّ ذلك كان منه معصية.

قوله: [إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا] من بقيّة كلام إبراهيم أي إنّ ربّي كان بارّا لطيفا رحيما و عوّدني بإحسانه و مكرما لي و بما أبتغيه لعلّه يهديك.

[وَ أَعْتَزِلُكُمْ] و أتنحّى منكم جانبا [وَ] عبادة [ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] من الأصنام و أعبد [رَبِّي] و أدعوه [عَسى] و قريب [أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي] و دعوته [شَقِيًّا] محروما كما شقيتم بعبادة الأصنام و إنّما ذكر «عسى» على وجه الخضوع أو المعنى: لعلّه يقبل طاعتي و عبادتي و لا أشقي بالردّ فإنّ المؤمن بين الخوف و الرجاء.

قوله: [فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا] و فارقهم من أرض بابل و هاجرهم إلى الأرض المقدسة، قيل:

إنّه عليه السّلام لمّا قصد الشام أتى أوّلا حرّان و تزوّج بسارة و اختار الهجرة إلى ربّه حيث

ص: 37


1- الجاثية: 13.
2- البراءة: 114.
3- «: 115.

أمره اللّه لم يضرّه ذلك دينا و دنيا بل نفعه فعوّضه أولادا أنبياء و ليس حالة للبشر أرفع من أن يجعل له رسولا إلى خلقه و يلزم الخلق إلى طاعته و الانقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مع ذلك لهم من رحمته مع النبوّة وهب له ما وهب من المال و الجاه و الأتباع و النسل الطاهر و الذّرّيّة الطيّبة كيف لا و قد حصل من الذّرّيّة له من خلق اللّه العرش بسبب وجوده و هو أحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ قال: [وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا] و استجاب اللّه دعوته حيث قال: «وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» (1) فصيّره قدوة للعالم كلّه حيث قال عزّ و جلّ «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» (2) و قوله: «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» (3) و فدى ابنه بذبح عظيم و أسلم نفسه عليه السّلام للّه حيث قال: «أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (4) فجعل اللّه تعالى النار عليه بردا و سلاما فقال: «قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» (5) و أشركه اللّه في الصلوات الخمس حيث تقول هذه الامّة: كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم، و جعل موطأ قدميه مباركا حيث يقول اللّه عزّ و جلّ: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» (6) و عادى كلّ الخلق في اللّه فقال: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» (7) لا جرم اتّخذه اللّه خليلا حيث قال عزّ و جلّ: «وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» (8).

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 51 الى 55]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)

ص: 38


1- الشعراء: 84.
2- الحج: 78.
3- النحل: 122.
4- البقرة: 131.
5- الأنبياء: 69.
6- البقرة: 125.
7- الشعراء: 77.
8- النساء: 124.

و اذكر يا محمّد في القرآن الّذي هو كتابك و كتاب الخلق إلى يوم القيامة موسى [إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً] بالقراءتين بفتح اللام و كسرها أي كان ذا خلوص أو أخلصه اللّه بالنبوّة و الرسالة إلى فرعون و قومه.

قيل: إنّ النبوّة و الرسالة و صفان مختلفان لكنّ المعتزلة يقولون: إنّها متلازمان و على كونهما و صفين مختلفين يكون النداء من جانب الطور تشريفا ثالثا لموسى حيث يقول: [وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ] أي من ناحية اليمين من الطور أو من موسى و رابعها قوله: [وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا] و المراد قرب المنزلة أي أسمعه كلامه و قيل: المراد قربه حتّى سمع صرير القلم الّذي كتبت به التوراة و على المعنيين المراد قرب الكرامة و الاصطفاء لا قرب المسافة و هو سبحانه لا يوصف بالحلول في مكان فيكون أحد أقرب إليه من حيث المكان من غيره.

و أنعمنا عليه بأخيه هارون و أشركناه في أمره و شددنا به أزره.

[وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ] الّذي هو القرآن [إِسْماعِيلَ] بن إبراهيم [إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ] إذا وعد بشي ء وفى به و لم يخلف و قد وصفه اللّه بهذا الخلق الشريف لأنّه روي عن ابن عبّاس أنّه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة و قيل: ثلاثة أيّام أو المعنى وعد من نفسه الصبر على الذبح حيث قال: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» (1) و سئل بعض العلماء عن الرجل يعد ميعادا إلى أيّ وقت ينتظره فقال: إن واعده نهارا فكلّ النهار و إن واعده ليلا فكلّ الليل.

[وَ كانَ] إسماعيل [رَسُولًا نَبِيًّا* وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ] فإن كان المراد بالصلاة و الزكاة المفروضتين فالمراد بالأهل هنا الامّة أجمع و إن حمل على الصلاة

ص: 39


1- الصافات: 102.

و الزكاة المندوبتين فالمراد أهله خاصّة و من كان في داره و قربه.

و قيل: إنّ إسماعيل بن إبراهيم مات قبل أبيه و أنّ هذا هو إسماعيل بن حزقيل بعثه اللّه إلى قومه فسلخوا جلدة وجهه و فروة رأسه فخيّره اللّه فيما شاء من عذابهم فاستعفاه و رضي بثوابه و فوّض أمرهم إلى اللّه في العفو و العقاب رواه أبو عبد اللّه عليه السّلام ثمّ قال في آخر الحديث: أتاه ملك من ربّه يقرء السلام و يقول: اللّه قد رأى ما صنع بك و قد أمرني بطاعتك فأمرني بما شئت فقال إسماعيل: يكون لي بالحسين أسوة.

و بالجملة فالنبيّ مأمور بما امر به من طاعة ربّه أن يبلّغ إلى امّته و الصلاة و الزكاة من دعائم الدين النهاية أنّ الكيفيّة تختلف باختلاف الأمم و الأنبياء و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا كان مأمورا بأن يأمر أهله بالصلاة كما قال اللّه سبحانه: «وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها» (1) و لا بدّ أن يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال اللّه: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (2).

و الصلاة بآدابها و شرائطها من فوائدها أنّها تحقّق معنى العبوديّة و صورتها و تمنع المصلّي عن ارتكاب الفحشاء و المنكر و لذلك صارت عمود الدين.

و من آدابها الأذان و الإقامة قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّك إذا أذّنت و أقمت صلّى خلفك صفّان من الملائكة و إن أقمت و لم تؤذّن صلّى خلفك صفّ واحد. و عن محمّد بن مروان عن الصادق قال: المؤذّن يغفر له مدّ صوته، لعلّ المعنى أنّ أذانه يغفر له ذنوبا تملأ مدّ صوته و وقعت الذنوب في هذا المقدار من الفضاء في الأرض و يشهد له كلّ شي ء يسمعه و قال رسول اللّه في ذيل حديث: إنّه يأتي على الناس زمان يطرحون الأذان على ضعفائهم و تلك لحوم حرّمها اللّه على النار، و من أذّن سبع سنين احتسابا جاء يوم القيامة و لا ذنب له، و أوّل من يدخل الجنّة بلال.

قال شيخ الطائفة: و لا يجوز الأذان لشي ء من الصلوات قبل دخول وقتها و لا بأس أن يؤذّن و هو على غير وضوء و لا بأس للمؤذّن إذا أذّن قبل الفجر لأنّ ذلك ينفع الجيران لقيامهم إلى الصلاة لكنّ السنّة فإنّه ينادى مع طلوع الفجر و لا بأس على

ص: 40


1- طه: 132.
2- الشعراء: 214.

المؤذّن أن يتكلّم في الأذان إذا عرض له حاجة و لكن في الإقامة مع الاختيار فلا يجوز، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا با هارون الإقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا تتكلّم و لا تؤم بيدك و ليتمكّن في الإقامة كما يتمكّن في الصلاة فإنّه إذا أخذ في الاقامة فهو في صلاة و عن يونس الشيبانيّ عن الصادق عليه السّلام قلت: اؤذّن و أنا راكب فقال: نعم قلت: فأقيم و أنا راكب قال: لا، و في رواية اخرى عنه عليه السّلام يؤذّن الرجل و هو قاعد قال: نعم و لا يقيم إلّا و هو قائم.

قال الشيخ: و ليس على النساء أذان و لا إقامة بل يتشهّدن شهادتين و لو أذّنّ و أقمن لم يكنّ مأزورات بل مأجورات.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا أذّنت فلا تخفينّ صوتك فإنّ اللّه يأجرك مدّ صوتك.

و عن أبي عبد اللّه قال: طول مسجد رسول اللّه قامة فكان عليه السّلام يقول لبلال إذا دخل الوقت: اعل يا بلال فوق الجدار و ارفع صوتك بالأذان فإنّ اللّه و قد و كل بالأذان ريحا ترفعه إلى السماء فإنّ الملائكة إذا سمعوا الأذان من أهل الأرض قالوا: هذه أصوات امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتوحيد اللّه و يستغفرون لامّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى يفرغوا من تلك الصلاة.

و شكا هشام بن إبراهيم إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام سقمه و أنّه لا يولد له فأمره أن يرفع صوته بالأذان في منزله قال: ففعلت فأذهب اللّه سقمي و كثر ولدي.

قال محمّد بن راشد: و كنت دائم العلّة ما أنفكّ منها في نفسي و جماعة خدمتي فلمّا سمعت من هشام عملت به فأذهب اللّه عنّي و عن عيالي السقم.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من جلس ما بين أذان المغرب و الإقامة كان كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه.

و أمّا الصلاة فقد سئل الصادق عليه السّلام عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم فقال: لا أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من الصلاة و قال رسول اللّه: لا يزال الشيطان زعرا من أمر المؤمن هائبا له ما حافظ على الصلوات الخمس فإذا ضيّعهنّ اجترى عليه.

و عن أبي بصير عن عبد اللّه قال: صلاة فريضة خير من عشرين حجّة و حجّه

ص: 41

خير من بيت مملوء من ذهب يتصدّق منه حتّى يفنى.

قال رسول اللّه: إنّ عمود الدين الصلاة و هي أوّل ما ينظر فيه من عمل ابن آدم فإن صحّت نظر في عمله و إن لم يصحّ لم ينظر في بقيّة عمله.

قال رسول اللّه: انتظار الصلاة بعد الصلاة كنز من كنوز الجنّة.

و عن الصادق قال: من قبل اللّه منه صلاة واحدة لم يعذّبه و من قبل منه حسنة لم يعذّبه.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من صلاة يحضر وقتها إلّا نادى ملك بين يدي اللّه أيّها الناس قوموا إلى نيرانكم الّتي أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم.

و عن زرارة عن الباقر عليه السّلام قال: بينا رسول اللّه جالس في المسجد إذ دخل عليه رجل فقام فصلّى فلم يتمّ ركوعه و لا سجوده فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نقر كنقر الغراب لئن مات هذا و هكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني. و في حديث آخر: إنّ اللّه لا يقبل إلّا الحسن فكيف يقبل ما استخفّ به.

و قال الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» (1) هي الفريضة و في قوله: «الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» (2) هي النافلة.

و من موانع قبول الصلاة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من تمثّل ببيت شعر من الخنا أي الفحش لم يقبل منه صلاة في ذلك اليوم و من تمثّل بالليل لم يقبل منه الصلاة تلك الليلة.

و عن يونس بن يعقوب قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: حجّة أفضل من الدنيا و ما فيها و صلاة فريضة أفضل من ألف حجّة.

و قال الصادق عليه السّلام: إنّ الموتور أهله و ماله من ضيّع صلاة العصر قيل له: و ما الموتور؟

قال: لا يكون له أهل و لا مال في الجنّة قيل: و ما تضييعها؟ قال: يدعها حتّى تصفرّ الشمس و تغيب.

ص: 42


1- المعارج: 34.
2- المعارج: 23.

و الصلاة بالجماعة تعدل بخمسة و عشرين صلاة.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من سمع النداء فلم يجبه من غير علّة فلا صلاة له.

و عن أبي عبد اللّه قال: إنّ أناسا كانوا على عهد رسول اللّه أبطئوا عن الصلاة في المسجد فقال رسول اللّه: ليوشك قوم يتركون الصلاة في المسجد أن آمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم.

و عن أصبغ بن نباته عن عليّ عليه السّلام قال: كان يقول: من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخا مستفادا في اللّه أو علما مستطرفا أو آية محكمة أو يسمع كلمة تدلّه على هدى أو رحمة منتظرة أو كلمة تردّه عن ردى أو يترك ذنبا خشية أو حياء.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الاتّكاء في المسجد رهبانيّة العرب المؤمن مجلسه مسجده و صومعته بيته.

قال أبو عبد اللّه: من مشى إلى مسجد لم يضع رجلا على رطب و لا يابس إلّا سبّحت له الأرض إلى الأرضين السابعة.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من كان القرآن حديثه و المسجد بيته بنى اللّه له بنيانا في الجنّة.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: تعاهدوا نعالكم عند أبواب مساجدكم.

قال الصادق عليه السّلام: من وقّر بنخامته المسجد لقى اللّه يوم القيامة ضاحكا قد اعطي كتابه بيمينه و من تنخّع في المسجد ثمّ ردّها في جوفه لم تمرّ بداء في جوفه إلّا أبرأته.

و عن حكم بن الأنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أسرج في مسجد من مساجد اللّه سراجا لم يزل الملائكة و حملة العرش يستغفرون له مادام في ذلك المسجد ضوء من ذلك السراج.

قوله: [وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ] و هي واجبة في تسعة أشياء: الذهب و الفضّة و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الإبل و البقر و الغنم السائمة.

أمّا الذهب إذا بلغ في الوزن عشرين مثقالا بشرط أن يكون مضروبا ففيها نصف مثقال و ليس فيما دون العشرين شي ء.

و أمّا الفضّة إذا بلغت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم و ليس فيما دون المائتين، ليس

ص: 43

فيها حتّى تبلغ الأربعين و في الأربعين درهم و ليس في شي ء من المكسور شي ء و كذلك الدنانير بعد نصاب الأوّل ليس شي ء إلّا إذا بلغ أربعة و عشرين ثمّ على هذا الحساب.

و الذهب و الفضّة الّتي لا يعمل به و لا يقلّب في التجارة إذا كان مضروبا و حبس تلزمها الزكاة في كلّ سنة إلّا أن يسبك و ما كان منهما ركازا و عليه الحول فعليه الزكاة و لا زكاة على الحليّ و إن بلغ مائة ألف و زكاته أن يعار إلّا ما فرّ به من الزكاة إذا جعله حليّا بعد حلول وقت الزكاة عليه و أمّا إذا جعله حليّا في أوّل السنة أو قبل أن يحول الحول فالظاهر أنّه ليس عليه شي ء إذا لم يقصد الفرار.

و أمّا زكاة الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب إذا بلغت بخمسة أوساق وجبت فيها الزكاة و الوسق ستّون صاعا فذلك ثلاثمائة صاع فحينئذ عليه العشر إذا اشرب بالسيح و المطر و أمّا إذا يشرب بالدوالي و أمثالها فنصف العشر و يجب إخراج الخمس بعد إخراج الزكاة ما فضل منها بعد مؤونة السنة أيضا.

و أمّا زكاة الإبل قال الشيخ: و ليس فيما دون الخمسة من الإبل شي ء فإذا بلغت خمسا ففيها شاة ثمّ إلى عشره ففيها شاتان ثمّ إلى خمسة عشر ففيها ثلاث من الغنم و إلى عشرين ففيها أربع من الغنم ثمّ إلى خمس و عشرين ففيها خمس من الغنم فإذا زادت واحدة من خمس و عشرين ففيها ابنة مخاض إلى خمس و ثلاثين و إذا لم تكن ابنة مخاض فابن لبون فإذا زادت واحدة على خمس و ثلاثين ففيها ابنة لبون إلى خمس و أربعين و المراد من ابنة مخاض أي ما من شأنها أن تحمل و هي ما دخلت في السنة الثانية و المراد من بنت لبون أي ذات لبن و لو بالصلاحية و هي الّتي سنّها سنتان إلى ثلاث ثمّ نصاب الستّ و أربعين من الإبل حقّة بكسر الحاء و هي الّتي سنّها ثلاث سنين إلى أربع ثمّ إحدى و ستّون فجذعة بفتح الجيم و الذال سنّها أربع سنين إلى خمس ثمّ ستّ و ستّون فبنتا لبون ثمّ إحدى و تسعون ففيها حقّتان ثمّ إذا بلغت مائة و إحدى و عشرين ففي كلّ خمسين حقّة و كلّ أربعين بنت لبون قال الشهيد: و لو لم يطابق أحدهما يجزي أقلّهما عفوا و أمّا البقر فلها نصابان ثلاثون فتبيع و هو ابن سنة إلى سنين أو تبيعة يجز في ذلك و أربعون فمسنّة أنثى سنّها سنتين إلى ثلاث و هكذا أبدا يعتبر بالمطابق من العددين.

ص: 44

و أمّا الغنم لها خمسة نصب: أربعون فشاة ثمّ مائة و إحدى و عشرون فشاتان ثمّ مائتان و واحدة فثلاث شياة ثمّ ثلاث مائة و واحدة فأربع على الأقوى ثمّ إذا بلغت أربعمائة فصاعدا ففي كلّ مائة شاة و يشترط فيها الحول و السوم، و السخال و الأولاد إذا بلغت النصاب و بلغت حولا بإنفرادها من دون أن يتبعن امّهاتهنّ أيضا يجب الزكاة و ابتداء حول السخال و الأولاد غناؤها بالرعي و لو ثلم النصاب قبل تمام الحول فلا شي ء و يجزي في الشاة الواجبة في الإبل و الغنم من الضأن ما كمل سنّه سبعة أشهر و من المعز ما كمل سنّه سنة و لا يكفي إعطاء الشاة النفساء إلى خمسة عشر يوما عوضا عن الزكاة و إن رضي المالك و لا المعيبة و لا المريضة و لا الهرمة و ليس على الأكولة أي المعدّة للأكل زكاة و لا على فحل الضراب أيضا انتهى مبحث الصلاة و الزكاة.

رجعنا إلى التفسير؛ قوله تعالى: [وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ] قيل: كان يأمر أهله بصلاة الليل و صدقة النهار و كان إسماعيل عند ربّه بواسطة هذه الأعمال مرضيّا عند ربّه لأنّها كلّها طاعات فحصل له عند اللّه المنزلة العظيمة.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 56 الى 60]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)

ثمّ ذكر سبحانه حديث إدريس هو جدّ أبي نوح و اسمه أخنوخ سمّي إدريس لكثرة دراسته وصف اللّه بأنّه صدّيق و أنّه نبيّ و الوصف الثالث بأنّه رفيع المكانة أو المكان لأنّ اللّه رفع إلى السماء و إلى الجنّة و هو حيّ لم يمت و قيل: رفع إلى السماء و قبض روحه و قيل: و القائل ابن عبّاس: جاء خليل له من الملائكة فسأله حتّى يكلّم ملك الموت و يسأله هل يمكن أن يؤخّر قبض روحه فيؤخّر فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به إلى السماء فلمّا كان في السماء الرابعة فإذا ملك الموت يقول: بعثت و قيل لي: اقبض روح

ص: 45

إدريس في السماء الرابعة و أنا أقول: كيف ذلك و هو في الأرض فالتفت إدريس فرآه ملك الموت فقبض روحه هناك.

و بالجملة شرّفه اللّه بالنبوّة و أنزل عليه ثلاثين صحيفة و هو أوّل من خطّ بالقلم و نظر في علم النجوم و الحساب و أوّل من خاط الثياب و لبسها و كانوا يلبسون الجلود.

[أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ] و هو سبحانه أثنى على كلّ واحد ممّن تقدّم ذكره بما يخصّه من الثناء ثمّ جمعهم أخيرا فقال: «أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» بالنبوّة و الكرامة من لدن زكريّا إلى إدريس و جمعهم في كونهم [مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ] ثمّ خصّ بعضهم بأنّه من ذرّيّة من حمل مع نوح لأنّ بعضهم من ذرّيّة آدم و هو إدريس لأنّه كان قبل نوح و بعضهم من ذرّيّة من حمله مع نوح و هو إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و موسى و هارون و زكريّا و يحيى و عيسى من قبل الأمّ و هؤلاء كلّهم من أولاد إبراهيم و إبراهيم من أولاد سام بن نوح و قد فضّلوا بطهارة المولد و النسب كما فضّلوا بالأعمال الصالحة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم [ممن هديناهم و اجتبيناهم] بأعمالهم و هدايتنا و هم في حال و شأن [إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً] حالكونهم ساجدين باكين حذرا و خشوعا و خوفا و المراد [بآيات الله] كتبهم المنزلة بما تتضمّن الوعد و الوعيد و الترغيب و الترهيب لأنّ كلّ ذلك إذا تأمّل المتفكّر ينبغي أن يسجد عنده و أن يبكي و اختلف في هذه السجود فقيل: إنّه الصلاة و قيل: المراد سجود التلاوة [وَ بُكِيًّا] جمع باك وزنه فعول مثل قعود.

و عن رسول اللّه اتلوا القرآن و ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا و عن صالح المرّيّ قال: قرأت القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المنام فقال لي: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن نزل بحزن فاقرؤوه بحزن. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتّى تبكوا و عنه ما اغرورقت عين به بماء إلّا حرّم اللّه جسدها على النار و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يلج النار من بكى من خشية اللّه.

قوله تعالى: [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ] هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات [خَلْفٌ] و الخلف

ص: 46

بسكون اللام البدل السيّئ أي قوم سوء قيل: المراد هم اليهود و من تبعهم لأنّهم من ولد إسرائيل و قيل: هم من هذه الامّة إلى قيام الساعة جماعة بعكسهم موصوفون بإضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات قيل: المراد: أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن يتركوها عن ابن مسعود و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

قال ابن عبّاس: هم اليهود تركوا الصلوات المفروضة و شربوا الخمر و استحلّوا نكاح الاخت من الأب شرّابون للقهوات اللعّابون بالكعبات ركّابون للشهوات متّبعون للّذّات تاركون للجماعات و الجمعات فسوف هؤلاء يلقون مجازات الغيّ و الضلال و قيل:

يلقون شرّا و خيبة و قيل: الغيّ واد في جهنم.

[إِلَّا مَنْ] ندم و رجع إلى ما سلف و [آمَنَ] في مستقبل عمره [وَ عَمِلَ صالِحاً] و تدارك ما فات من الواجبات بل المندوبات [فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ] و يبخسون [شَيْئاً] من ثوابهم و في هذا دلالة على أنّ اللّه لا يمنع أحدا ثواب عمله و لا يبطله لأنّه سبحانه سمّى ذلك ظلما. و «يدخلون» قرئ مجهولا و معلوما.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 61 الى 65]

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

«جنّات» بدل عن الجنّة المذكورة في الآية السابقة.

و لمّا ذكر حال التائب أنّه يدخل الجنّة وصف الجنّة في هذه الآية بأمور.

أحدها قوله: [جَنَّاتِ عَدْنٍ] و العدن الإقامة وصفا على الدوام بخلاف جنّات الدنيا.

و معنى [وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ] أي وعدها و هي غائبة عنهم غير مشاهدة لهم أو المراد أنّها للّذين يؤمنون به بالغيب و يعبدونه في السرّ بخلاف المنافقين فإنّهم يعبدونه في الظاهر و لا يعبدونه في السرّ و الواقع.

ص: 47

ثمّ قال سبحانه: [إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا] يقينا و «مأتيّا» مفعول بمعنى فاعل و ما أتاك فقد أتيته و كلّ ما وصل إليك فقد وصلت إليه و المراد أنّ الوعد منه تعالى و إن كان بأمر غائب فهو كأنّه مشاهد.

و الوصف الثاني [لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً] و اللغو من الكلام ما من شأنه أن يلقى و يطرح أي لا يسمعون كلاما معرضا عنه. أمّا قوله: «إِلَّا سَلاماً» فإن قيل: إنّ السلام ليس من جنس اللغو فكيف استثنى السلام من اللغو؟ فالجواب أن يحمل على الاستثناء المنقطع أو من باب استثناء المدح بما يشبه الذمّ و هو عين المدح كقول النابغة:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

و السلام محتمل أن يكون تحيّة بعضهم على بعض أو من تسليم الملائكة أو من تسليم اللّه سبحانه كقوله: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» (1).

الوصف الثالث من الجنّة و الرابع [وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا] و المراد دوام الرزق كما تقول: أنا عند فلان صباحا و مساء و بكرة و عشيّا تريد الدوام و لا تريد بيان الوقتين لأنّه لا صباح عند ربّك و لا مساء و ليس في الجنّة ليل و لا نهار و المراد أنّهم يأكلون عند مقدار الغداة و العشيّ و قد أراد اللّه سبحانه أن يرغّب كلّ قوم بما أحبّوه في الدنيا و لذلك ذكر أساور من الذهب و الفضّة و لبس الحرير الّتي كانت عادة العجم و الأرائك الّتي هي الحجال المضروبة على الأسرة و كانت من عادة أشراف العرب من اليمن و لا شي ء كان أحبّ إلى العرب من الغداء و العشاء.

قوله: [تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا] هذه الإشارة صحّت حيث إنّها غائبة [نُورِثُ] أي نبغي عليه كما نبغى على الوارث مال المورّث و هذا الإرث لمن أطاع من عبادنا و اتّقى و قيل: أورثهم اللّه من الجنّة المساكين الّتي كانت لأهل النار لو أطاعوا اللّه و أضاف العباد إلى نفسه أراد به المؤمنين.

قال بعض المعتزلة كالقاضي و أصحابه: إنّ في الآية دلالة على أنّ الجنّة يختصّ

ص: 48


1- يس: 58.

بدخولها من كان متّقيا و الفاسق المرتكب للكبائر لا يوصف بذلك. و الجواب: الآية تدلّ على أنّ المتّقي يدخلها و ليس فيها دلالة على أنّ غير المتّقي لا يدخلها و أيضا فصاحب الكبيرة متّق عن الكفر و من صدق عليه أنّه متّق عن الكفر صدق عليه أنّه متّق لأنّ المتّقي جزء من مفهوم قولنا المتّقي عن الكفر و إذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنّه متّق وجب أن يدخل تحته فدلالة الآية بأنّ صاحب الكبيرة يدخل الجنّة أولى من أن تدلّ على أن لا يدخلها انتهى.

قوله تعالى: [وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ] الآية النزول: قيل: إنّ هذه الكلمات من كلام جبرئيل. و قيل: من كلام أهل الجنّة حين يدخلونها فعلى كونها من كلام جبرئيل فالسبب في النزول أنّ قريشا بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة و النصارى يسألونهم عن صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هل يجدونه في كتابهم فسألوا النصارى فزعموا أنّهم لا يعرفونه و قالت اليهود: نجده في كتابنا و هذا زمانه و قد سألنا رحمن اليمامة عن ثلاث امور فلم يعرف فاسألوه عنهنّ فإن أخبركم بخصلتين منها فاتّبعوه فاسألوه عن أصحاب الكهف و عن ذي القرنين و عن الروح فجاءوا يسألوه عن ذلك فلم يدر كيف يجيبهم فوعدهم أن يجيبهم فأبطأ عليه جبرئيل قيل: خمسة عشر يوما فشقّ عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشقّة شديدة و قال بعض الناس: ودّعه ربّه و تركه فنزل جبرئيل فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبطأت عنّي و اشتقت إليك و شقّ ذلك عليّ قال جبرئيل: إنّي كنت أشوق إليك و لكنّي عبد مأمور إذا بعثت نزلت و إذا حبست احتبست و قال:

[وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ] و الغرض أنّ أمرنا موكول إلى اللّه [لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا] حالنا و مستقبلنا و ماضينا أو دنيانا و آخرتنا و ما بينهما و ما نساك و تركك ربّك و ما كان امتناع النزول للنسيان و ترك اللّه لك بل لامتناع الأمر به هذا إذا كان المحكيّ عن قول جبرئيل و أمّا إذا كان من قول أهل الجنّة بعد الورود فالمعنى إنّا ما نتنزّل الجنّة إلّا بأمر ربّك.

[لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا] مستقبلا في الجنّة و ما خلفنا ممّا كان في الدنيا و ما بين ذلك ما بين الوقتين و النفختين أو ابتداء خلقنا و مدّة آجالنا و ما كان ربّك نسيّا لشي ء ممّا

ص: 49

خلق فيترك و ما يعزب عن علمه مثقال ذرّة.

و قيل: [وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا] ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول.

و يتّصل به [رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ] فأمره بالعبادة و المصابرة على مشاقّ التكليف و الإبلاغ.

فإن قيل: إذا كان قوله: «وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» كلام غيره فكيف جاز عطف هذا على ما قبله و هو قوله: «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» من غير فصل؟

فالجواب إذا كانت القرينة ظاهرة لم يضرّ كما في قوله تعالى: «وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (1) هو كلام و قوله: «وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ» (2) كلام غير اللّه و أحدهما معطوف على الآخر.

و بالجملة ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [هَلْ تَعْلَمُ] لربّك [سَمِيًّا] أي من يكون مثلا و شبيها في القدرة و يكون له علامة مثله و يستحقّ أن يكون إلها إلّا هو؟ و هذا استفهام بمعنى النفي أي لا تعلم من يسمّى و يتّسم بصفة القدرة و الخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و الثواب و العقاب فإذا كان الأمر كذلك فالزم عبادته و اصطبر عليها.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 66 الى 70]

وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)

هذه الآية جواب لمنكري الحشر و يكذّبون القيامة و إذا كان كذلك فما فائدة العبادة و قد أمر بالعبادة؟ فلهذا حكى اللّه قول منكري الحشر.

و المراد بالإنسان نوع القائلين بعدم البعث و لو أنّ كلّ نوع الإنسان لا يقول بهذا القول: لأنّه لمّا كانت هذه المقالة موجودة في نوعهم صحّ إسنادها إلى جميعهم

ص: 50


1- البقرة: 118. آل عمران: 47 مريم: 35. المؤمن: 68.
2- آل عمران: 51.

كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا و إنّما كان القاتل رجل منهم أو أنّ هذا الاستبعاد ابتداء موجود في طبع كلّ إنسان إلّا أنّ بعضهم ترك الاستبعاد المبنيّ على الطبع بالدلالات القاطعة الّتي قامت على صحّة القول به.

هذا إذا كان المراد نوع الإنسان و إذا كان المراد شخص مخصوص كما قيل: إنّها نزلت في ابيّ بن الخلف الجمحيّ و ذلك أنّه أخذ عظما باليا فجعل يفتّته بيده و يذريه في الريح و يقول: يزعم محمّد أنّ اللّه يبعثنا بعد أن نموت و نصير عظاما مثل هذا إنّ هذا شي ء لا يكون أبدا و هذا استفهام بطريق الإنكار و الاستهزاء [أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا].

مجيبا لهذا الكافر: أولا يتذكّر هذا الإنسان القائل الجاحد حال ابتداء خلقه ليستدلّ بالابتداء على الإعادة كما بدأنا هم أوّل مرّة نعيدهم ثاني مرّة فحصول البدء من العدم يدلّ على إمكان العود فرضا من العدم.

قال بعض المتكلّمين: لو اجتمع كلّ الخلائق على إقامة حجّة في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها إذ لا شكّ أنّ الإعادة ثانيا أهون من الإيجاد أوّلا و هذا معنى إعجاز القرآن.

أو لم يتذكّر و يتدبّر هذا الإنسان [لم يك من قبل شيئا] موجودا حيّا أي قدّرناه في العلم حيث كان اللّه و لم يك معه شي ء فكلّ يعلم هذا الأمر.

ثمّ أردف الدليل بالتهديد بالقسم و العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين و في هذا اليمين و الاضافة تفخيم لشأن الرسول و رفع لدرجته. و الواو في [وَ الشَّياطِينَ] يجوز أن يكون للعطف و أن يكون بمعنى «مع» و بمعنى مع أوقع أي أنّهم مع قرنائهم من الشياطين الّذين أغووهم يقرن كلّ كافر مع شيطان في سلسلة.

[ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا] باركين على ركبهم كصورة الذليل العاجز و هذا الإحضار يكون قبل إدخالهم جهنّم.

[ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ] كلّ جماعة و فرقة شايعت و تبعت غاويا من الشياطين و الغواة من كان أشدّ عتوّا و تمرّدا.

ص: 51

[ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى] بالنار [صِلِيًّا] عذابا و بلزوم النار الأعتى فالأعتى منهم و العتيّ من العتوّ.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 71 الى 75]

وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَ إِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً (75)

المعنى: لمّا بيّن سبحانه في الآية السابقة بيان الحشر فقال: و ما من أحد منكم إلّا وارد جهنّم.

و اختلف العلماء في معنى الورود فقال بعضهم: لا يجوز للمؤمنين أن يردو النار و الدليل على أنّ المراد بالورود القرب لا الدخول قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» (1) و المبعد عنها لا يوصف أنّه واردها. الثاني قوله تعالى: «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» (2) و لو وردوا جهنّم لسمعوا حسيسها. الثالث قوله:

«وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ» (3) فهذه الآيات تدلّ على أنّ المراد بالورود غير الدخول.

و احتجّوا أيضا على أنّ الورود قد يراد به القرب لقوله تعالى: «فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ» (4) و معلوم أنّ ذلك الوارد ما دخل الماء و قال تعالى: «وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ» (5) و أراد به القرب و يقال: وردت القافلة البلدة و إن لم تدخلها، فعلى هذا معنى الآية أنّ الإنس و الجنّ يحضرون حول جهنّم.

كان ذلك على ربّك حتما مقتضيّا واجبا. ثمّ ننجّي الّذين اتّقوا و نبعدهم عن جهنّم و هو المراد من قوله تعالى: «أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ».

ص: 52


1- الأنبياء: 101.
2- الأنبياء: 102.
3- النمل: 89.
4- يوسف: 19.
5- القصص: 22.

و قال الأكثرون: إنّ المراد بالورود الدخول و يدلّ عليه الآية و الخبر:

أمّا الآية فقوله: «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» (1) و قال تعالى: «فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» (2) و يدلّ عليه قوله: «أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» و المبعد و هو الّذي لو لا التبعيد لكان في النار.

و قوله: [وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا] و هذا يدلّ على أنّهم قد دخلوا النار.

و أمّا الخبر فهو أنّ عبد اللّه بن رواحة قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أخبر اللّه عن الورود و لم يخبر عن الصدور فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا».

و ذلك يدلّ على أنّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما أنكر عليه في ذلك.

و عن جابر أنّه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: الورود الدخول لا يبقى برّ و لا فاجر إلّا دخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما حتّى أنّ للناس ضجيجا من بردها فحينئذ المؤمنون يدخلون النار من غير خوف و ضرر بل مع الغبطة و السرور لأنّ اللّه أخبر عنهم «أنّهم لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» (3) و لأنّ الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف، و إيصال الغمّ و الحزن إنّما يجوز في دار التكليف.

و قد وردت الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ الملائكة يبشّر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنّة حتّى يرى مكانه في الجنّة و يعلمه.

ثمّ اختلفوا في أنّه كيف يندفع عنهم ضرر النار فقال بعضهم: البقعة الّتي سمّيت جهنّم لا يبعد أن يكون في خلالها ما لا نار فيه و يكون من المواضع الّتي يسلك فيها إلى دركات جهنّم و إذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكلّ في جهنّم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار و الكفّار يكونون في النار أو أنّ اللّه يخمد النار فيعبرها المؤمنون و تنهار بالكافرين.

ص: 53


1- الأنبياء: 98.
2- هود: 99.
3- الأنبياء: 103.

قال ابن عبّاس: يردونها كأنّها هالة أو أنّ حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفّار يجعلها اللّه عليهم موذية محرقة و الأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها اللّه بردا و سلاما كما في حقّ إبراهيم و كما أنّ الكوز الواحد من الماء كان يشربه القبطيّ فكان يصير دما و الإسرائيليّ يشربه فكان يصير ماء عذبا كما أنّه لا بدّ من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكّلين بالعذاب حتّى يكونوا في النار مع المعاقبين.

فان قيل: إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك؟

فيه وجوه: أحدها أنّ ذلك ممّا يزيدهم سرورا إذا علموا الخلاص منه و فيه مزيد غمّ للكافرين حيث يرون المؤمنين الّذين هم أعداؤهم يتخلّصون منها و هم يبقون فيها و أنّ المؤمنين كانوا يخوّفونهم من النار و الحشر و النشر و ما كانوا يقبلون منهم الدلائل فإذا دخلوا جهنّم معهم أظهروا لهم أنّهم صادقين و الغلبة على الخصم من اللذائذ لهم و مزيد العذاب عليهم، ثمّ إنّ المؤمنين إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سببا لمزيد التذاذ هم بنعيم الجنّة كما قيل: «و بضدّها تتبيّن الأشياء» فقوله تعالى: «أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» المراد: عن عذابها مبعدون؛ فلا ينافي الدخول.

قوله تعالى: [كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا] كائنا لا محالة واقعا قد قضى به و كلمة «على» معناه الوجوب و المحتوم و فيه دلالة على أنّه يجب عليه سبحانه أشياء من طريق الحكمة و اللطف خلافا لما ذهب إليه أهل الجبر.

[ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا] قال ابن عبّاس: أي الّذين اتّقوا الشرك و صدّقوا و آمنوا، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يرد الناس النار ثمّ يصدرون بأعمالهم فأوّلهم كالبرق اللامع ثمّ كمرّ الريح ثمّ كمحضر الفرس ثمّ كالراكب ثمّ كشدّ الرحل و عدوه ثمّ كمشيه.

و عن رسول اللّه مرفوعا: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.

[وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها] جاثين و في الاعتقادات روي أنّه لا يصيب أحدا من أهل التوحيد ألم من الدخول في النار إذا دخلوها و إنّما يصيبهم الألم عند الخروج منها فتكون تلك الآلام جزاء بما كسبت أيديهم «و ما اللّه بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»*.

و من المعتزلة من تمسّك في الوعيد بقوله: «وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» و لفظ

ص: 54

«الظالمين» لفظ جمع دخل عليه حرف التعريف فيفيد العموم انتهى.

قوله تعالى: [وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ] أي إذا تتلى على الكافرين آياتنا المنزلة في القرآن ظاهرات الحجج بحيث يمكن تفهّمها [قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا] لو كنتم أنتم على الحقّ و كنّا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن و أطيب من حالنا، و يوقعون هذه الشبهة في الناس و كانوا يقولون: إنّ الحكيم لا يليق به أن يوقع أوليائه المخلصين في الذلّ و الفقر و العذاب و أعداءه المعرضين عن خدمته في العزّ و الراحة و لمّا كان الأمر بالعكس و كان الكفّار في النعمة و الراحة و الاستعلاء و المؤمنون في ذلك الوقت في الخوف و الذلّ لبسوا على الضعفاء بأنّهم على الحقّ.

روي أنّهم كانوا يرجّلون شعورهم و يدّهنون و يتطيّبون و يتزيّنون بالزينة الفاخرة ثمّ يدّعون مفتخرين على فقراء المؤمنين أنّهم أكرم على اللّه، فأجاب اللّه عن شبهتهم بقوله:

[وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ] بأنواع العذاب فلو دلّ حصول النعمة على كونه محبوبا صاحبه عند اللّه لوجب أن لا يعذّبهم و لا يصل إليهم مكروها و أولئك الّذين أصابهم المكروه و العذاب منّا كانوا أجمل و أكثر مالا منكم و متاعا و مقاما [وَ رِءْياً] أي هيئة و منظرا. و قرئ «ريئا» على القلب و ريّا من النعمة و الترفّه، و قرئ بالزاي اخت الراء من الزيّ و المعنى: محاسن مجموعة و الشأن.

[قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا] هذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة و تقريره أنّه نفرض أنّ هذا الضّالّ المتنعّم في الدنيا قد مدّ اللّه في أجله و أمهله مدّة مديدة فلا بدّ و أن ينتهي إلى العذاب إمّا في الدنيا و إمّا في الآخرة بعد ذلك.

[فَسَيَعْلَمُونَ] بعد ما رأوا العذاب أنّ الأمر بعكس ما زعموا و قوله: [مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً] مذكور في مقابلة «خير مقاما» و قوله: [أَضْعَفُ جُنْداً] في مقابلة قولهم:

«أَحْسَنُ نَدِيًّا» و الحاصل أنّهم و إن ظنّوا في الحال أنّ منزلتهم أفضل من حيث إنّه

ص: 55

فضّلهم اللّه بالمقام و النديّ فسيعلمون أنّهم شرّ مكانا لأنّه لا مكان شرّ من النار.

و قوله: «فليمدد» أمر معناه الخبر و تأويل المعنى أنّ من كان في الضلالة و اختارها على الهدى حقّه أن نمدّ له و نتركه فيها كقوله: «وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» (1) و لفظ الأمر يؤكّد معنى الخبر فكأنّ المتكلّم يقول: أفعل ذلك لأجل ذا.

و بالجملة اخرج الخبر بلفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك و وقوعه لقطع معاذيرهم و يقال لهم: أو لم نعمّركم لتتأمّلون و تنبّهون؟

و قوله: [حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ] قيل المراد عذاب الاستيصال. و قيل:

عذاب القبر. و قيل: عذاب السيف و الذلّ. و المراد من العذاب غير عذاب القيامة [وَ إِمَّا] عذاب [السَّاعَةَ] فهو أوّل عذاب القيامة فهذه معاملتنا مع الكفّار.

قوله: [سورة مريم (19): آية 76]

وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا (76)

في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: كلّهم كانوا في الضلالة الّذين لا يؤمنون بولاية عليّ حتّى إذا رأوا ما يوعدون بخروج القائم و ما ينزل بهم من العذاب فسيعلمون من هو إلخ. و أمّا مع المؤمنين [ف يَزِيدُ اللَّهُ] المهتدين بالإيمان و التصديق بالنبوّات [هُدىً] على هداهم مثلا الإيمان هدى و الإخلاص في الإيمان زيادة هدى.

هذا إذا فسّرنا الهداية على ظاهره و إذا فسّرنا الهداية على الثواب فواضح.

ثمّ شرح سبحانه أنّ المهتدين الّذين يعملون الأعمال الصالحة الباقية و تدوم و لا تبطل و هي الإيمان و الفرائض و السنن كالصلوات و الصلاة و التسبيح.

و عن أبى الدرداء قال: جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات يوم و أخذ عودا فأزال الورق عنه ثمّ قال: إنّ قول لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر و سبحان يحطّ الخطا يا حطّا كما يحطّ ورق هذه الشجرة الريح خذهنّ يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك و بينهنّ، هنّ الباقيات الصالحات و هنّ من كنوز الجنّة. و كان أبو الدرداء يقول: لأعملنّ ذلك و لأكثرنّ منه حتّى إذا رآني جاهل حسب أنّي مجنون.

ص: 56


1- الانعام: 110.

و المراد أنّها خير ممّا ظنّه الكفّار بقولهم: «خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا» فأخبر أنّها خير ثوابا و خير مرجعا.

قوله: [سورة مريم (19): الآيات 77 الى 80]

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَ وَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً (80)

النزول: عن خباب بن الأرت قال: كان لي على عاص بن وائل دين فاقتضيته و كنت رجلا غنيّا فلمّا أتيته أتقاضاه قال لي: لا أقضيك حتّى تكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت له: لن أكفر به حتّى نموت و نبعث قال عاص: فإنّي لمبعوث بعد الموت فسوف أقضيك دينك إذا رجعت. فنزلت الآية.

لمّا ذكر سبحانه الدلائل على صحّة و شبهة المنكرين (1) ذكر ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعنا في القول بالحشر فقال:

[أَ فَرَأَيْتَ] و هذه الكلمة تستعمل في التعجّب و معناه: أ رأيت هذا الكافر الّذي كفر بأدلّتنا من القرآن و من هو مثله و بصفته في الكفر [قال] على سبيل الاستهزاء:

لأعطينّ [مالًا وَ وَلَداً] ألستم تزعمون أنّ في الجنّة الذهب و الفضّة و الحرير؟ قال خباب: بلى قال: فموعد ما بيني و بينك الجنّة فو اللّه لأوتينّ فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا فأنكر اللّه سبحانه عليه و قال:

[أَطَّلَعَ الْغَيْبَ] و بلغ شأنه إلى أن ارتقى إلى عالم الغيب حتّى ادّعى أنّه يؤتى في الآخرة مالا و ولدا و تألّى عليه [أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً] قيل: بعمل صالح أم عهد اللّه إليه أنّه يدخل الجنّة. و قيل: أم قال: لا إله إلّا اللّه فيرحمه اللّه بها.

[كلّا] و كلّا تستعمل بمعنى «لا» و هو معنى الإنكار و الردع، و تارة تستعمل بمعني «ألا» للتنبيه فقال سبحانه: ليس الأمر كذلك [سَنَكْتُبُ] أي سنأمر الحفظة بإثبات [ما يَقُولُ] لنجازيه عليه [وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا] أي نصل إليه بعض العذاب بالبعض و نزيد عذابا فوق العذاب دائما.

[وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ] أي نرث ما عنده من المال و الولد بإهلاكنا إيّاه لأنّه

ص: 57


1- كذا.

كان يقول: «لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً» فيقول اللّه: نحن نرث المال و الولد و يبقى في الآخرة وحيدا بلا عدّة و لا عدد يأتينا فنعدّ به.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 81 الى 95]

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)

وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90)

أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)

المعنى: حكى اللّه عن عبدة الأصنام أنّهم إنّما اتّخذوا آلهة لأنفسهم ليكونوا عزّا لهم حيث يكونون لهم شفعاء في الآخرة و ليصيروا بسببهم إلى العزّ أو ليمنعوهم منّي و ينقذوهم من المهالك فأجاب اللّه بقوله:

[كَلَّا] و هو ردعهم من هذا الاعتقاد و قرء ابن نهيك: كلّا أي كلّهم [سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ] أي ليس الأمر كما زعموا بل صاروا بهم إلى الذلّ و العذاب.

و اختلفوا في الضمير في «يكفرون» قيل: إلى المعبود و قالوا: إن اللّه يحيي هذه الأصنام يوم القيامة حتّى يوبّخوا عابديهم و يتبرّؤوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم.

و من الناس يقولون: إنّ الضمير يرجع إلى العابدين أي إنّ المشركين يوم القيامة ينكرون أنّهم عبدوا الأصنام.

أمّا قوله: [وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا] فذكر ذلك في مقابلة قوله: «لَهُمْ عِزًّا» أي يكونون عليهم ضدّ ما قصدوه. و الضدّ يكون واحدا و جمعا كالعدوّ.

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 99

و لمّا ذكر حال المشركين مع الأصنام ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا فإنّهم ينقادون للشياطين فقال: [أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ] أي خلّينا بينهم و بين الشياطين إذا وسوسوا إليهم.

ص: 58

قال القاضي: إذا حملنا لفظ الإرسال على الحقيقة فكان يجب في الكافر أن يكون بقبوله من الشيطان مطيعا للّه و ذلك كفر لأنّ الكافر لا يكون إلّا عاصيا متمرّدا، و هذه التخلية تسمّى إرسالا في سعة اللغة كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال: أرسل عليه كلبه، و إن لم يرد أذى جاره، و هذه التخلية و إن كان فيها تشديد للمحنة عليهم و لكنّهم متمكّنون من أن لا يقبلوا منهم و يكون ثوابهم على ترك القبول أعظم و الدليل عليه قوله: «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» (1) و ذلك مثل جعل قوّة الزنا في الإنسان لكنّه لا يضطرّ الإنسان بجعل القوّة إلى الزنا بحيث لم يتمكّن من تركه.

قوله تعالى: [تَؤُزُّهُمْ أَزًّا] أي تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية. الأزّ و الهزّ و الاستفزاز أخوات في معنى التهييج أي تغريهم و تحثّهم بالوساوس و التسويلات تقول لهم: امض امض لا يفوتك هذا الأمر، حتّى توقعهم في النار.

[فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا] معناه فلتطب نفسك يا محمّد و لا تستعجل لهم العذاب فإنّ مدّة بقائهم قليلة فإنّا نعدّ لهم الأيّام و السنين و الأنفاس و ما دخل تحت العدّ إلى الأجل الّذي أجّلناه لعذابهم. نزلت في المستهزئين بالقرآن و هم خمسة رهط، و كان ابن عبّاس إذا قرأ الآية بكى و قال: آخر العدد خروج نفسك آخر، العدد دخول قبرك، آخر العدد فراق أهلك. قال ابن السماك: إذا كانت الأنفاس بالعدد و لم يكن لها مدد فما أسرع ما نفد.

[يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً] ثمّ بيّن حال ما سيعدّ للمتّقين و المجرمين فقال:

«يَوْمَ نَحْشُرُ» أي اذكر يوم نحشر المتّقين إلى محلّ كرامة الرحمن و إلى دار ثوابه و فودا و جماعات؛ عن أمير المؤمنين قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفسي بيده إنّ المتّقين و هم الّذين اجتنبوا الشرك و المعاصي في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة عليها رجال من الذهب.

[وَ] كذلك [نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ] على المسير [إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً] عطاشا كالإبل الّتي

ص: 59


1- سورة ابراهيم: 22.

ترد عطاشا إلى الماء و هم يساقون بإهانة و استخفاف و «الورد» اسم للعطاش لأنّ من يرد الماء لا يرده إلّا للعطش و حقيقة الورود السير إلى الماء فسمّي به الواردون، ذكر السبب و أراد المسبّب.

فلو قيل: إنّ الكلام يستقيم في قوله: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ» إذا كان الحاشر غير الرحمن فالجواب أنّ التقدير: إلى كرامة الرحمن.

[لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ] قيل: فلا يشفّعون و لا يشفع لهم و لكنّ الظاهر أنّ أحدا لا يملك أن يشفع لهم لأنّ معنى الأوّل يجري مجرى إيضاح الواضحات و إذا ثبت ذلك دلّت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر لأنّه قال عقيبة:

[إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً] و التقدير: إنّ هؤلاء لا يستحقّون أن يشفع لهم غيرهم إلّا إذا كانوا قد اتّخذوا عند الرحمن عهدا للتوحيد و النبوّة.

و ممّا يؤكّد قولنا ما روى ابن مسعود أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لأصحابه ذات يوم: أ يعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح و مساء عند اللّه عهدا؟ قالوا: و كيف ذلك؟ قال: يقول كلّ صباح و مساء: اللّهم فاطر السماوات و الأرض عالم الغيب و الشهادة إنّي أعهد إليك بأنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك و أنّ محمّدا عبدك و رسولك فإنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ و تبعّدني من الخير و إنّي لا أثق إلّا برحمتك فاجعل لي عهدا توفّيته يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع اللّه عليه بطابع و وضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الّذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنّة؟

فظهر بهذا الحديث أنّ المراد من العهد كلمة الشهادة و ظهر وجه دلالة الشفاعة في الآية لأهل الكبائر خلافا للقاضي عبد الجبّار المعتزليّ.

و في الآية قول آخر أنّ معنى «إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» أي إلّا من وعد له الرحمن بإطلاق الشفاعة كالأنبياء و الشهداء و العلماء و المؤمنين على ما ورد به الأخبار.

قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره: حدّثني أبي عن الحسن بن محبوب عن سليمان بن جعفر عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من لم يحسن وصيّته عند الموت كان نقصانا في مروءته قيل: يا رسول اللّه و كيف يوصي الميّت؟

ص: 60

قال: إذا حضرته الوفاة و اجتمع الناس إليه قال: اللّهمّ فاطر السماوات و الأرض عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم اللّهمّ إنّي أعهد إليك في دار الدنيا إنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك و أنّ محمّدا عبدك و رسولك و أنّ الجنّة حقّ و أنّ النار حقّ و أنّ البعث حقّ و الحساب حقّ و القدر حقّ و الميزان حقّ و أنّ الدين كما وضعت و أنّ الإسلام كما شرّعت و أنّ القول كما حدّثت و أنّ القرآن كما أنزلت و أنّك أنت اللّه الحقّ المبين جزى اللّه محمّدا عنّا خير الجزاء و حيّى اللّه محمّدا و آله بالسلام اللّهمّ يا عدّتي عند كربتي و يا صاحبي عند شدّتي و يا وليّ نعمتي إلهي و إله آبائي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فإنّك إن تكلني إلى نفسي أقرب من الشرّ و أبعد من الخير و آنس في القبر وحشتي و اجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا، ثمّ يوصي بحاجته و تصديق هذه الوصيّة في سورة مريم في قوله: «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» فهذا عهد الميّت و الوصيّة حقّ على كلّ مسلم و حقّ عليه أن يحفظ هذه الوصيّة و يعملها فقال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: علّمنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: علّمنيها جبرئيل.

و عن أبي حمزة عن أحدهما عليهما السّلام قال: إنّ اللّه يقول: تطوّلت عليك بثلاثة: سترت عليك ما لو علم به أهلك ما واروك و أوسعت عليك فاستقرضت منك لك فلم تقدّم خيرا و جعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدّم خيرا.

و عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان في وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها- ثمّ قال: اللّهمّ أعنه-:

أمّا الاولى فالصدق، لا يخرجنّ من فيك كذبة أبدا.

و الثانية الورع، لا تجتر على جناية أبدا.

و الثالثة الخوف من اللّه كأنّك تراه.

و الرابعة كثرة البكاء للّه يبنى بكلّ دمعة بيت في الجنّة.

و الخامسة بذلك مالك و دمك دون دينك.

و السادسة الأخذ بسنّتي في صلاتي و صيامي و صدقتي: فأمّا الصلاة فالخمسون

ص: 61

ركعة و أمّا الصوم فثلاثة في كلّ شهر خميس في أوّله و أربعاء في وسطه و خميس في آخره و أمّا الصدقة فجهدك حتّى تقول: قد أسرفت و لم تسرف، و عليك بصلاة الليل و عليك بصلاة الليل و عليك بصلاة الليل و عليك بصلاة الزوال و عليك بصلاة الزوال و عليك بصلاة الزوال و عليك بتلاوة القرآن على كلّ حال و عليك برفع يديك في صلاتك و تقلّبها و عليك بالسواك عند كلّ وضوء و عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها و مساوي الأخلاق فاجتنبها فإن لم تفعل فلا تلو منّ إلّا نفسك.

و عن سليم بن قيس الهلاليّ قال: شهدت وصيّة أمير المؤمنين حين أوصى إلى ابنه الحسن قال: أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن اوصي إليك و أن أدفع إليك كتبي و سلاحي كما أوصى إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دفع إليّ كتبه و سلاحه و أمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفع ذلك إلى أخيك الحسين.

قال: ثمّ أقبل على ابنه الحسين فقال: و أمرك رسول اللّه أن تدفعه إلى ابنك هذا ثمّ أخذ بيد ابن ابنه عليّ بن الحسين و هو صبيّ فضمّه إليه ثمّ قال لعليّ بن الحسين: يا بنيّ و أمرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن تدفعه إلى ابنك محمّد بن عليّ فاقرأه من رسول اللّه السلام.

ثمّ أقبل على ابنه الحسن فقال: بنيّ أنت وليّ الأمر و وليّ الدم فإن عفوت فلك و إن قتلت فضربة مكان ضربة و لا تأثم ثمّ قال: اكتب:

بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به عليّ بن أبي طالب أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أنّ محمّدا عبده و رسوله أرسله بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون ثمّ إنّ صلاتي و نسكي و محياي و مماتي للّه ربّ العالمين لا شريك له و بذلك أمرت و أنا من المسلمين.

ثمّ إنّي أوصيك يا حسن و جميع ولدي و أهل بيتي و من بلغه كتابي من المؤمنين بتقوى اللّه ربّكم و لا تموتنّ إلّا و أنتم مسلمون.

و اعتصموا بحبل اللّه جميعا و لا تفرّقوا فإنّي قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:

إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة و الصوم و إنّ البغضة خالقة الدين و فساد ذات

ص: 62

البين و لا قوّة إلّا باللّه انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن اللّه عليكم الحساب.

و اللّه اللّه في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم و لا يضيّعوا بحضرتكم فقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: من عال يتيما حتّى يستغني أوجب اللّه له الجنّة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار.

و اللّه اللّه في القرآن فلا يسبقنّكم إلى العمل به غيركم.

و اللّه اللّه في بيت اللّه فلا يخلونّ منكم ما بقيتم فإنّه إن يترك لم تناظروا و أدنى ما يرجع به من امّة أن يغفر له ما قد سلف.

و اللّه اللّه في الصلاة فإنّها خير العمل و إنّها عمود دينكم.

و اللّه اللّه في الزكاة فإنّها تطفئ غضب الربّ.

و اللّه اللّه في شهر رمضان فإنّ صيامه جنّه من النار.

و اللّه اللّه في الفقراء و المساكين فشاركوهم في معيشتكم.

و اللّه اللّه في الجهاد في سبيل اللّه بأموالكم و أنفسكم فإنّما يجاهد في سبيل اللّه رجلان إمام هدى و مطيع له يقتدي بهداه.

و اللّه اللّه في ذرّيّة نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا يظلمون بين أظهركم و أنتم تقدرون على الدفع عنهم.

و اللّه اللّه في أصحاب نبيّكم الّذين لم يحدثوا حدثا و لم يرووا محدثا فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوصى بهم و لعن المحدث منهم و من غيرهم و المومئ للمحدث.

و اللّه اللّه في النساء و ما ملكت أيمانكم و لا تخافنّ في اللّه لومة لائم فيكفيكم اللّه من أرادكم و بغى عليكم و قولوا للناس حسنا كما أمركم اللّه.

و لا تتركنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولّي اللّه الأمر شراركم و تدعون فلا يستجاب لكم.

و عليكم يا بنيّ بالتواصل و التباذل و التبارر و إيّاكم و النفاق و التدابر و التقاطع و التفرّق و تعاونوا على البرّ و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان

ص: 63

و اتّقوا اللّه إنّ اللّه شديد العقاب حفظكم اللّه من أهل بيت و حفظ فيكم نبيّكم أستودعكم اللّه و أقرأ عليكم السلام.

ثمّ لم يزل يقول: لا إله إلّا أنت حتّى قبض عليه السّلام في أوّل ليلة من العشر الأواخر في شهر رمضان ليلة الجمعة سنة أربعين من الهجرة.

اللّهم إنّ كاتب هذه الأحرف في هذه الورقة و ناقلها عن التهذيب ينشدك و يقسم عليك بحقّ هذا الموصي و الموصى له و أهل بيته أن تغفر سيّئاته الّتي إذا حاسبته يوم المحاسبة بالمناقشة فهي أكثر من رمال عالج و لكنّه يعلم إنّ عفوك وسعة رحمتك لمن أحبّ عليّا أكثر و أعظم من رمال عالج يسألك العفو العفو العفو و الإصلاح فيما أفسده من دينه و دنياه انتهى.

قوله تعالى: [وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً] هذا إخبار عن اليهود و النصارى و مشركي العرب فإنّ اليهود قالوا: عزير ابن اللّه، و قالت النصارى: المسيح ابن اللّه، و قال مشركو العرب: الملائكة بنات اللّه.

[لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا] أي شيئا منكرا هو عظيم فظيع شنيع، و حذف الباء من «بشي ء» فنصبه بالفعل [تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ] أي أرادت السماوات أن تنشقّ لعظم فريتهم إعظاما لقولهم الفاسد و كادت الأرض تنشقّ و الجبال تسقط [هَدًّا] أي كسرا شديدا و هدما عظيما لأن [دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً] لأن أخرجوه من صفة الإلهيّة لأنّ اتّخاذ الولد يدلّ على الحاجة تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، و تكرّر لفظة الرحمن مرارا في الآية تنبيها على أنّ اصول النعم ليس إلّا منه.

و حاصل المعنى أنّه لو لا حلمي لكنت أفعل بالسماوات و الجبال و الأرض عند وجود هذه الكلمة فكيف بمن تفوّه بها و لكنّي لا أعجل العقوبة.

قوله تعالى: [إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً] أي ما كلّ من في السماوات و الأرض من الإنس و الجنّ و الملائكة إلّا و يأتي اللّه سبحانه عبدا مملوكا خاضعا ذليلا و هذا كقوله تعالى: «وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» (1) و النبوّة- بتقديم

ص: 64


1- النمل: 87.

الباء- و العبوديّة لا تجتمعان.

[لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا] أي علم تفاصيلهم و أعدادهم و لا يخفى عليه شي ء من أحوالهم [وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً] يأتي المحشر فردا وحيدا ليس له مال و لا ولد و لا ناصر، مشغول بنفسه لا يهمّه همّ غيره.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 96 الى 98]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)

لمّا شرح في الآيات السابقة حال الكفّار ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال:

[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ] و الطاعات [سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا] و للمفسّرين في قوله: «ودّا» أقوال:

القول الأول- و هو الصحيح- أنّه خاصّة في عليّ بن أبي طالب فما من مؤمن إلّا و في قلبه محبّة لعليّ عليه السّلام عن ابن عبّاس، و في تفسير أبي حمزة الثماليّ قال:

حدّثني أبو جعفر الباقر قال: قال رسول اللّه لعليّ عليه السّلام: قل: اللّهم اجعل لي عندك عهدا و اجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا فقالها عليّ عليه السّلام فنزلت هذه الآية و روي مثلها عن جابر بن عبد اللّه.

القول الثاني أنّها عامّة في جميع المؤمنين يجعل اللّه في قلوبهم المحبّة و المقة (1) بعضهم بعضا، قال هرم بن حيّان: ما أقبل عبد بقلبه إلى اللّه إلّا أقبل اللّه بقلوب المؤمنين إليه حتّى يرزقهم مودّتهم و رحمتهم. قال الربيع بن الأنس: إنّ اللّه إذا أحبّ مؤمنا قال لجبرئيل: إنّي أحببت فلانا فأحبّه فيحبّه جبرئيل ثمّ ينادي في السماء ألا إنّ اللّه أحبّ فلانا فأحبّوه فيحبّه أهل السماء ثمّ يوضع له قبول في أهل الأرض من المؤمنين فعلى هذا يحبّهم اللّه و يحبّهم الناس.

القول الثالث أنّ اللّه سيجعل لهم ودّا في الآخرة فيحبّ بعضهم بعضا كمحبّة الوالدة للولد في ذلك أعظم السرور، و يؤيّد هذا القول ما صحّ عن أمير المؤمنين أنّه

ص: 65


1- مصدر قولك: ومق يمق.

قال: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني و لو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني و ذلك أنّه قضى على لسان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: لا يبغضك مؤمن و لا يحبّك منافق.

ثمّ قال: [فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ] أي يسّرنا القرآن بلسانك بأن أنزلناه بلسانك و هو لغة العرب ليسهل عليهم معرفته أو المعنى مكّنّاك من قراءته و حفظه [لِتُبَشِّرَ] بالقرآن الّذين يتّقون الشرك و الكبائر و تخبرهم بما أعدّه اللّه لهم و تخوّف و تنذر به قوما شديد الخصومة يعني قريشا ذوي جدل.

ثمّ أنذرهم سبحانه بقوله: [وَ كَمْ أَهْلَكْنا] قبل هؤلاء المخاصمين المجادلين [مِنْ قَرْنٍ] و جيل مكذّبين بالرسل، و الغرض تسلية النبيّ أي لا يهمّك كفرهم و نفاقهم فإنّ وبال ذلك راجع إليهم و أهلكنا قبلهم من كان مثلهم [هَلْ تُحِسُ] و تبصر [مِنْهُمْ] أحدا [أَوْ] هل [تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً] و صوتا فلم يغنهم مالهم و لا خصومتهم و قدرتهم فحكم هؤلاء من قومك كحكمهم «و الركز» الصوت الخفيّ و المراد بالإهلاك بالعذاب و بالموت و من ذلك المعنى الركاز لأنّ الركاز المال المدفون المخفيّ.

تمّت السورة بعون اللّه و الحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 66

سورة طه

اشارة

(مكية)

فضلها:

ابيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال من قرأها اعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين و الأنصار. أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ اللّه قرأ طه و يس قبل أن يخلق آدم عليه السّلام بألفي عام فلمّا سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لامّة نزل هذا عليها طوبى لأجواف تحمل هذا و طوبى لألسن يتكلّم بهذا. و عن الحسن قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يقرأ أهل الجنّة من القرآن إلّا يس و طه.

و روى إسحاق بن عمّار عن الصادق عليه السّلام لا تدعوا قراءة طه فإنّ اللّه تعالى يحبّها و من قرأها و أدمن على قراءتها أعطاه يوم القيامة كتابه بيمينه و لم يحاسبه ممّا عمل في الإسلام و اعطي من الأجر حتّى يرضى.

التفسير: ختم اللّه سورة مريم بالبشارة للمتّقين و الإنذار للكافرين و ابتدأ و افتتح هذه السورة بالسعادة و أنّه ما أنزل القرآن للمشقّة عليه فقال:

ص: 67

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة طه (20): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى (4)

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى (6) وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)

في لغات «طه» قراءات: بفتح الطاء و سكون الهاء على أنّ أصله طإ الأرض بقدميك جميعا فأبدلت الهمزة بالهاء لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه أو كان يقف على أصابع رجليه في الصلاة فأنزل اللّه عليه:

«طه» إلخ.

و يجوز أن يكون «طه» أمر من وطأ يطأ فالأمر على قول من لم يهمز «طه» فزيدت الهاء في الوقف، و قرأ أبو عمر و بفتح الطاء و كسر الهاء و أهل المدينة بين الفتح و الكسر و قرأ ابن عامر بفتح الطاء و الهاء و قرأ حمزة و الكسائيّ بكسر الطاء و الهاء.

و اعلم أنّ للمفسّرين في هذه الكلمة أقوالا:

الأوّل أنّه من حروف التهجّي و من المرموزات و قد تقدّم الكلام فيها في سورة البقرة.

و القول الآخرون: فيها معان قال الثعلبيّ: الطاء شجرة طوبى، و الهاء هاوية فكأنّه سبحانه أقسم بالجنّة و النار.

و الثاني: قال جعفر بن محمّد عليه السّلام: الطاء طهارة أهل البيت و الهاء هدايتهم.

الثالث: خطاب النبيّ يا مطمع الشفاعة للأمّة و يا هادي الخلق إلى الملّة.

الرابع: و هو قول سعيد بن جبير هو افتتاح اسمه المبارك بالطيّب الطاهر الهادي.

الخامس: الطاء من الطهارة و الهاء من الهداية و معناه: يا طاهرا من الذنوب و يا هاديا إلى علّام الغيوب، و هذا القول قريب من قول الثاني.

ص: 68

السادس: الطاء طول القرّاء و الهاء هيبتهم في قلوب الكفّار من قراءة القرآن.

السابع: الطاء تسعة في الحساب و الهاء خمسة تكون أربعة عشر و معناه: يا أيّها البدر أو الأئمّة الأربعة عشر المعصومون.

الثامن: طه بلغة الطي ء معناه يا محمّد، نزلت هذه الكلمة بلغة طي ء.

التاسع: معناه يا رجل بلغة النبطيّه، عن ابن عبّاس و الحسن و المجاهد و سعيد بن جبير و قتادة و عكرمة و الكلينيّ إلّا أنّه قال عكرمة: هي بلغة الحبشة، و قتادة قال: بلغة السريانيّة، و الكلبيّ قال: بلغة عكّ و استشهد بقول شاعرهم:

إنّ السفاهة طه في خلائقكم لا قدّس اللّه أرواح الملاعين

و إذا كان بهذا المعنى فلا يجوز الحمل إلّا بلغة عكّ لأنّ القرآن نزل بلغة العرب و يمكن أنّه يوافق في هذه الكلمة لغة العرب مع الحبشة و السريانيّة و إلّا لا يصحّ.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام قال: كان رسول اللّه عند عائشة ليلتها فقالت: يا رسول اللّه لم تتعب نفسك و قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟ فقال: يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا؟

و في الاحتجاج عن الكاظم عليه السّلام عن أمير المؤمنين لقد قام رسول اللّه عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه و اصفرّ وجهه يقوم الليل كلّه حتّى عوتب في ذلك بقوله سبحانه:

[طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى] بل لتسعد به، و الشقاء بمعنى التعب شائع و منه أشقى من رابض المهر، و سيّد القوم أشقاهم.

المعنى: سبب النزول قيل: سبب ما ذكرناه من أنّه كان صلّى اللّه عليه و آله يقوم على أصابعه، فنزلت الآية.

و قيل: كان إذا قام من الليل ربط و علق صدره بحبل حتّى لا ينام فقال له جبرئيل:

ابق على نفسك فإنّ لها حقّا عليك.

أي ما أنزلناه لتهلك نفسك بالعبادة و تذيقها المشقّة الشديدة و ما بعثت إلّا بالحنيفيّة السمحة.

ص: 69

و قيل: المعنى لا تشقّ على نفسك و لا تعذّبها بالأسف على كفر هؤلاء فإنّا إنّما أنزلنا عليك القرآن لتذكّر به فمن اتّقى و أصلح فلنفسه فمن كفر فلا يحزنك كفره فما عليك إلّا البلاغ كقوله. «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ، الآية» (1).

و قيل: إنّ الآية ردّ قول المشركين و ذلك أنّ أبا جهل و الوليد بن مغيرة و مطعم ابن عديّ و النضر بن الحارث قالوا لرسول اللّه: إنّك لتشقى حيث تركت دين قومك، فقال عليه السّلام: بل بعثت رحمة للعالمين، قالوا: بل أنت تشقى، فنزلت الآية.

و قيل: إنّ هذه السورة من أوائل ما نزل بمكّة و في ذلك الوقت كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مقهورا تحت ذلّ أعدائه فنزلت الآية أنّه لا تظنّ أنّك تبقى على هذه الحالة أبدا في العناء و التعب بل يعلو أمرك و يظهر قدرك و إنّا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقيّا بينهم بل تصير معظّما مكرّما.

و أمّا قوله: [إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى] قيل: «إِلَّا» هاهنا استثناء منقطع بمعنى لكن أو التقدير: ما أنزلنا عليك القرآن لتحمّل التعب و الأذيّة و ما أنزلنا إلّا ليكون تذكرة ليعتبر بك غيرك و إنّما خصّ من يخشى لأنّهم المنتفعون بهذه التذكرة و إن كان الحكم عامّا في الجميع و هو كقوله: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (2).

قوله تعالى: [تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى] تقديره: أنزلناه تنزيلا ممّن خلق الأرض و بدأ بالأرض ليستقيم رءوس الآي و السماوات الرفيع العالية، نبّه بذلك للدلالة على عظم خالقهما.

ثمّ أكّد بقوله: [الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى] أي هو الرحمن أقبل على خلق العرش، قال أحمد بن يحيى: الاستواء الإقبال على الشي ء و التوجّه و الاستيلاء.

[لَهُ] ملك [ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ] و تدبيرها و علمها [وَ ما بَيْنَهُما] من المخلوق و الهوى [وَ ما تَحْتَ الثَّرى] أي التراب الندى و ما وارى الثرى من كلّ شي ء و ما ضمّن من الكنوز و الأموات.

ص: 70


1- الكهف: 6. الشعراء: 2.
2- البقرة: 2.

[وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ] و ترفع صوتك أولا تجهر به [فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى] من السرّ، قالوا: السرّ ما حدّث به الإنسان غيره في خفية و أخفى منه ما أضمرت في نفسك و لم تحدّث به غيرك أو الوسوسة و حديث النفس.

قال الباقر و الصادق عليهما السّلام: السرّ ما أخفيته في نفسك و أخفى ما خطر ببالك ثمّ نسيته و اللّه هو العالم بجميع المعلومات؛ فهذه الآية إمّا نهي عن الجهر الفاحش في ذكر اللّه كقوله:

«وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ» (1) و إمّا المراد أنّ الجهر ليس لاستماع اللّه و إنّما لفرض آخر و أنّه عالم لذاته في كلّ الأوقات بعلم واحد و ذلك العلم غير متغيّر لأنّه عين ذاته من غير أن يكون موصوفا بالحدوث و الإمكان و الخلق بأسره لا يشارك الربّ إلّا في السدس الأوّل و هو أصل العلم ثمّ هذا السدس بينه و بين خلقه أيضا نصفان فخمسة دوانيق و نصف منه مسلّم له و النصف الواحد لجملة خلقه ثمّ هذا الجزء الواحد مشترك بين الخلائق أجمعون من الملائكة الكرّوبيّة و الملائكة الروحانيّة و حملة العرش و سكّان السماوات و ملائكة الرحمة و العذاب و جميع الأنبياء أوّلهم آدم و آخرهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذا جميع الخلائق من البشر و الجنّ في علومهم الضروريّة و النظريّة و الحرف و الصناعات و التركيبات و جميع الحيوانات في إدراكاتها و شعوراتها و الاهتداء إلى مصالحها في معاشها و تغذيتها و مضارّها فكلّ على قدر رتبته يحصل له من ذلك الجزء و الحاصل لك من ذلك الجزء أقلّ من الذرّة المؤلّفة ثمّ إنّك إذا عرفت بهذه الذرّة صفاته الواجبة و الجائزة و المستحيلة فكيف يكون علمه بخمس دوانيق و نصف؟

أفلا يعلم أسرار عبوديّتك و خضوعك؟

فهذا تحقيق قوله: «وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى» بل الحقّ أنّ الدينار بتمامه له لأنّ الّذي تعلّمته بتعليمه، و لهذا التحقيق مثال و هو الشمس فإنّ ضوءها يجعل العالم منوّرا و لا ينتقص من ضوئها شي ء البتّة فكذا ههنا، انتهى.

قوله: [اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى] ثمّ ذكر الموصوف بالعلم المذكور و القدرة هو اللّه واحد لا شريك له و هو الّذي يستحقّ العبادة لا غيره.

ص: 71


1- الأعراف: 204.

و هاهنا تحقيق و هو أنّ مراتب التوحيد أربع: أحدها الإقرار باللسان و الثاني الاعتقاد بالقلب و الثالث تأكيد الاعتقاد بالحجّة و الرابع أن يصير العبد مغمورا في بحر التوحيد بحيث لا يدور في خاطره شي ء غير عرفان الأحد الصمد.

أمّا الإقرار باللسان إذا كان خاليا عن الاعتقاد بالقلب فذلك هو المنافق، و أمّا الاعتقاد بالقلب إذا وجد خاليا عن الإقرار باللسان ففيه صور:

الصورة الاولى أنّ من نظر و عرف اللّه و مات قبل أن يمضي عليه من الوقت ما يمكنه التلفّظ به فقال قوم: إنّه لا يتمّ إيمانه و الحقّ أنّه يتمّ لأنّه أدّى ما كلّف به و عجز عن التلفّظ.

قال الرازيّ: و رأيت في الكتب أنّ ملك الموت مكتوب على جبهته: لا إله إلّا اللّه، لكي إذا رآه المؤمن تذكّر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك التذكّر عن الذكر.

الصورة الثانية أنّ من عرف اللّه و مضى عليه من الوقت ما يمكنه التلفّظ بالكلمة و لكنّه قصّر فيه.

قال الشيخ الغزاليّ: يحتمل أن يقال: اللسان ترجمان القلب فإذا حصل المقصود في القلب كان امتناعه من التلفّظ جاريا مجرى امتناعه من الصلاة و الزكاة و كيف يكون من أهل النار و قد قال عليه السّلام: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان؟

و قلب هذا الرجل مملوّ منّ الإيمان. و قال آخرون: الإيمان و الكفر امور شرعيّة نحن نعلم أنّ الممتنع من هذه الكلمة كافر.

الصورة الثالثة من أقرّ باللسان و اعتقد بالقلب من غير دليل فهو مقلّد و الاختلاف في صحّة إيمانه مشهور.

أمّا المقام الثالث من المقامات الأربعة و هو إثبات التوحيد بالحجّة و قد شرح اللّه هذه الحجّة بقوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» (1) و هو دليل التمانع و قد شرحوا هذا البيان و المطلوب بالدلائل العقليّة و السمعيّة.

و أمّا المقام الرابع و هو الفناء في بحر التوحيد فقال المحقّقون: العرفان مبتدأ من

ص: 72


1- الأنبياء: 22.

تفريق و بغض و ترك و رفض ممكن في جميع صفات هي من صفات الحقّ للذات المريدة منته بالصدق إلى الواحد القهّار و حينئذ تكون الأسماء و الأذكار و التهليلات كاشفة عن هذا المعنى من القلب و حاكية عنه.

قال رسول اللّه: أفضل الذكر لا إله إلّا اللّه و أفضل الدعاء أستغفر اللّه ثمّ تلا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» (1).

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه تعالى خلق ملكا من الملائكة قبل أن خلق السماوات و الأرض و هو يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه مادّا بهذه الكلمة صوته لا يقطعها و لا تنفّس فيها و لا يتمّها فإذا أتمّها امر إسرافيل بالنفخ في الصور و قامت القيامة تعظيما للّه تعالى.

و روي عن أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: ما زلت أشفع إلى ربّي و يشفّعني حتّى قلت: يا ربّ شفّعني فيمن قال: لا إله إلّا اللّه قال: يا محمّد هذه ليست لك و لا لأحد و عزّتي و جلالي لا أدع أحدا في النار قال: لا إله إلّا اللّه.

قال الثوريّ: سألت جعفر بن محمّد عليه السّلام عن «حم عسق» قال: الحاء حكمه و الميم ملكه و العين عظمته و السين سناؤه و القاف قدرته يقول اللّه: جلّ ذكره بحكمي و ملكي و عظمتي و سنائي و قدرتي لا اعذّب بالنار من قال: لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه.

و عن عمر روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قام في السوق فقال: لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد يحيى و يميت و هو حيّ لا يموت بيده الخير و هو هو على كلّ شي ء قدير، كتب اللّه له ألف ألف حسنة و محا عنه ألف ألف سيّئة و بنى له بيتا في الجنّة.

أقول: و لا تغفل أيّها الإنسان من شروط لا إله إلا اللّه و هي الولاية الولاية الولاية و لو أنّك طول عمرك بل عمر الدهر تقول: لا إله إلّا اللّه عن عقيدتك بقلبك و لسانك و توقّفت في ولايتهم و ليس معنى الولاية أنّك تحبّهم بل معنى الولاية أن تعتقد أنّ الأئمّة الاثني عشر خلفاء اللّه بعد النبيّ في أرضه و سمائه فلو توقّفت بهذا الأمر أو شككت أو تركت واحدا منهم فما ينفعك أمر قطّ لأنّ اللّه قرن طاعتهم بطاعته و قد جعلهم

ص: 73


1- محمد: 19.

اللّه من شروط لا إله إلّا اللّه.

و ينبغي لأهل هذه الكلمة التصديق و التعظيم و الحلاوة و الحرّيّة فمن ليس له التصديق فهو منافق و من ليس له التعظيم فهو مبتدع و من ليس له الحلاوة فهو مراء و من ليس له الحرّيّة فهو فاجر.

قال المفسّرون و المحقّقون في قوله: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» (1) أنّه لا إله إلّا اللّه، و قوله: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» (2) لا إله إلّا اللّه، و قوله: «وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ» (3) لا إله إلّا اللّه، و «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» (4) لا إله إلّا اللّه، و قيل: المراد بواحدة فاطمة، و قوله تعالى:

«وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» (5) عن قول لا إله إلّا اللّه، و قوله: «بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ» (6) هو لا إله إلّا اللّه «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ» (7) هو لا إله إلّا اللّه «وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» (8) عن قول لا إله إلّا اللّه.

و في الحديث أنّ موسى بن عمران عليه السّلام قال: يا ربّ علّمني شيئا أذكرك به قال اللّه تعالى: قل: لا إله إلّا اللّه، قال موسى: كلّ عبادك يقولون: لا إله إلّا اللّه، فقال اللّه:

قل: لا إله إلّا اللّه، قال موسى: إنّما أردت شيئا تخصّني به، قال: يا موسى لو أنّ السماوات السبع و من فيهنّ في كفّة و لا إله إلّا اللّه في كفّة لمالت بهنّ لا إله إلّا اللّه.

فائدة نحوية و هي أنّه من إعراب هذه الكلمة تبيّن معناه: قالوا: كلمة «لا» هاهنا دخلت على الماهيّة فانتفت الماهيّة و إذا انتفت الماهيّة انتفت كلّ أفرادها و أمّا كلمة «اللّه» فإنّه اسم علم للذات المعيّنة إذ لو كان اسما معيّنا لكان كلّها محتملا للكثرة فلم تكن مفيدة للتوحيد.

و كلمة «لا» نفي الماهيّة استحقّت عمل إنّ لمشابهتها لها من وجهين: أحدهما ملازمة الأسماء و الآخر تشاركهما في التأكيد فإنّ أحدهما لتأكيد الثبوت و الآخر

ص: 74


1- ابراهيم: 24.
2- فاطر: 10.
3- العصر: 4.
4- سبا: 46.
5- الصافات: 24.
6- يس: 52.
7- ابراهيم: 27.
8- ابراهيم: 27.

لتأكيد النفي و من عادتهم تشبيه أحد الضدّين بالأخرى في الحكم إذا ثبت هذا فقوله:

إنّ زيدا ذاهب كان يجب أن يقول: لا رجلا ذاهب حالة الإعراب منوّنا لكنّهم جعلوا مدخول «لا» مبنيّا أمّا البناء فلشدّة اتّصال حرف النفي بمدخوله فصارا كأنّهما اسم واحد و أمّا الفتح فللخفّة و للفرق بين حركة الإعراب و البناء.

ثمّ إنّ خبره محذوف و الأصل: لا إله في الوجود و هذا يدلّ على أنّ الوجود زائد على الماهيّة.

و لو قيل: تصوّر الثبوت مقدّم على تصوّر السلب فإنّ السلب ما لم يضف إلى الثبوت لا يمكن تصوّره فكيف قدّم هاهنا السلب على الثبوت؟ لأنّ هذا السلب من مؤكّدات الثبوت لا جرم قدّم عليه قوله تعالى: «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» (1) أي الأسماء الدالّة على توحيده و إنعامه على العباد و المعاني الحسنة بأيّها دعوتهم جاز.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ للّه تعالى تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنّة، تأويله من وحّد اللّه و ذكر هذه الأسماء يريد بها إعظامه دخل الجنّة. و قد جاء في الحديث: من قال: لا إله إلّا اللّه مخلصا دخل الجنّة، فهذا لمن ذكر اسم اللّه موحّدا له به فكيف لمن ذكر أسماءه كلّها يريد بها توحيده و الثناء عليه.

و إنّما قال: «الحسنى» بلفظ المفرد و لم يقل: الأحاسن لأنّ الأسماء إذا كانت مؤنّثة فباعتبار الجماعة يقع مفردة مؤنّثة كأنّه اسم واحد للجمع كقوله: «حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ» (2) و «مَآرِبُ أُخْرى» (3).

و قال عليه السّلام: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيّها الناس أنا جعلت لكم نسبا و أنتم جعلتم لأنفسكم نسبا أنا جعلت أكرمكم عندي أتقاكم و أنتم جعلتم أكرمكم أغناكم فالآن أرفع نسبي و أضع نسبكم أين المتّقون الّذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.

و اعلم أنّ الأشياء في قسمة العقول على ثلاثة أقسام: كامل لا يحتمل النقصان فهو

ص: 75


1- طه: 8.
2- النمل: 60.
3- طه: 18.

اللّه و ذلك في حقّه بالوجوب الذاتيّ، ثمّ بعده الملائكة لكن بالوجود الإمكانيّ فإنّ من كما لهم أنّهم لا يعصون اللّه ما أمرهم و من صفاتهم أنّهم عباد مكرمون و من صفاتهم أنّهم يستغفرون للّذين آمنوا، و أمّا الناقص الّذي لا يحتمل الكمال فهو الجمادات و النبات و البهائم، و أمّا الّذي يقبل الأمرين جميعا فهو الإنسان فتارة يكون في الترقّي بحيث يخبر عنه بأنّه «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» (1) و تارة في التسفّل بحيث يقال: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» (2) و إذا كان الأمر كذلك فاستحال أن يكون الإنسان كاملا لذاته و ما لا يكون كاملا لذاته استحال أن يصير موصوفا بالكمال إلى أن يصير منتسبا إلى الكامل لذاته و الانتساب قسمان: قسم يعرض للزوال و قسم لا فالّذي يعرض للزوال فلا فائدة فيه كالجمال و المال و الصحّة و أمّا الّذي لا يعرض للزوال فعبوديّتك للّه فإنّه كما يمتنع زوال صفة الإلهيّة عنه يمتنع زوال العبوديّة عنك مادمت عبدا فهذه النسبة لا تزول ما دامت العبوديّة كما أنّ المنتسب إليه و هو الحقّ لا يقبل الخروج عن صفة الكمال.

و أنت أيّها الإنسان إذا كنت في بلدة نزهة أو كنت منتسبا إلى قبيلة شريفة فلا تزال تبالغ في مدح تلك البلدة و القبيلة بسبب ذلك الانتساب العرضيّ الزائليّ فأن تشتغل بذكر اللّه و نعوت كبريائه بسبب النسبة الدائميّ الغير الزائليّ كان أولى فلهذا قال: «وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» (3) و قال: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» (4).

و جملة «لا إله إلّا هو» بيان أنّ ما ذكر من صفات الكمال من الخالقيّة و الرحمانيّة و المالكيّة و العالميّة أسماؤه و صفاته من غير تعدّد في ذاته فإنّه روي أنّ المشركين حين سمعوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «يا اللّه يا رحمن» قالوا: ينهانا أنّ نعبد إلهين و هو يدعو إلها آخر.

قال الرازيّ في المفاتيح: يقال: إنّ للّه أربعة آلاف اسم: ألف لا يعلمها إلّا اللّه و ألف لا يعلمها إلّا اللّه و الملائكة و ألف لا يعلمها إلّا اللّه و الملائكة و الأنبياء و أمّا الألف

ص: 76


1- القمر: 55.
2- التين: 5.
3- الأعراف: 179.
4- طه: 8.

الرابع فانّ المؤمنين يعلمونه فثلاثمائة منها في التوراة و ثلاثمائة في الإنجيل و ثلاثمائة في الزبور و مائة في القرآن تسع و تسعون منها ظاهرة و واحد مكتوم فمن أحصاها دخل الجنّة.

و الأسماء الواردة في القرآن منها ما ليس بانفراده ثناء و مدحا كقوله: «جاعل» و «فالق» فإذا قيل: «فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» (1) صار مدحا و منها ما هو مدح فإذا قرن بغيره صار أبلغ كقولنا: «حيّ» فإذا قيل: «الْحَيُّ الْقَيُّومُ»* (2) أو «الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ» كان أبلغ، و منها ما يكون اسم مدح مفردا أو مقرونا كقولنا:

«الرحمن الرحيم».

و ليس حسن الأسماء حسنا يتعلّق بالصورة و الخلقة فإنّ ذلك محال على من ليس بجسم بل حسن يرجع إلى معنى الإحسان مثلا اسم الستّار و الرحيم و الغفّار إنّما كانت حسناء لأنّها دالّة على معنى الإحسان.

قيل: إنّ حكيما ذهب إليه قبيح و حسن و التمسا الوصيّة و الموعظة منه فقال للحسن: أنت حسن و الحسن لا يليق به الفعل القبيح، و قال للآخر: أنت قبيح و القبيح إذا فعل القبيح عظم قبحه. فنقول: إلهنا يكفينا قبح أفعالنا و سيرتنا فلا تضمّ إليه بسبب استحقاقنا وحشة العذاب.

ذكر أنّ صيّادا كان يصيد السمك فصاد سمكة و كان له ابنة فأخذت السمكة و طرحها في الماء و قالت: إنّها ما وقعت في الشبكة إلّا لغفلتها. إلهنا تلك الصبيّة رحمت غفلة هاتيك السمكة و كانت تلقاها مرّة اخرى في البحر و نحن قد اصطادتنا وسوسة إبليس و أخرجنا من بحر رحمتك فارحمنا بفضلك، و ألقنا في بحار رحمتك مرّة اخرى.

و حكاية بشر الحافي و هي معروفة و أصلها أنّه رأى كاغذا مكتوبا فيه «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»* في الأرض فرفعه و طيّبه بالمسك و قيل: بلعه، فرأى في النوم قائلا يقول:

يا بشر طيّبت اسمنا فنحن نطيّب اسمك في الدنيا و الآخرة.

و قد ذكر اللّه سبحانه في الفاتحة من الأسماء خمسة و هي اللّه و الربّ و الرحمن

ص: 77


1- الانعام: 96.
2- البقرة: 257.

و الرحيم و المالك و من أراد الاستقصاء في الأسماء و الصفات فعليه بكتاب لوامع البيّنات في الأسماء و الصفات، انتهى.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 9 الى 16]

وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)

المعنى: خاطب اللّه نبيّه تسلية له ممّا ناله من أذى قومه و تثبيتا له بالصبر على أمر ربّه كما صبر موسى حتّى نال الفوز في الدنيا و الآخرة كما قال سبحانه: «وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» (1) و بدأ بموسى عليه السّلام لأنّ المشقّة الحاصلة له كانت أعظم فقال: و هل سمعت بخبر موسى إذ رأى نارا؟

عن ابن عبّاس قال: كان موسى رجلا غيورا لا يصحب الرفقة لئلّا ترى امرأته فلمّا قضى الأجل و فارق مدين خرج، و قيل: استأذن موسى شعيبا عليه السّلام في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج فولد له في الطريق ابن و كان معه غنم له و أهله على أتان و على ظهرها جوالق فيها أثاث البيت فأضلّ الطريق في ليلة مظلمة باردة و تفرّقت ماشيته و لم ينقدح زناده (2) كلّما قدح و امرأته في الطلق و بينا هو كذلك إذ نظر نارا من بعيد عن يسار الطريق فظنّ أنّها نار من نيران الرعاة و هي عند موسى عليه السّلام كانت نارا و عند اللّه نورا.

قيل: النار أربعة أقسام: نار تأكل و لا تشرب و هي نار الدنيا و نار تشرب و لا تأكل و هي نار الشجر كالمرخ و أمثاله لقوله تعالى: «جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً» (3) و نار تأكل و تشرب و هي نار المعدة و نار لا تأكل و لا تشرب و هي نار موسى عليه السّلام.

ص: 78


1- هود: 120.
2- العود الذي يقتدح به النار.
3- يس: 80.

و أيضا باعتبار آخر ينقسم إلى أربعة اخرى: نار لها نور بلا حرقة و هي نار موسى عليه السّلام و ثانيها حرقة بلا نور و هي نار جهنّم. و ثالثها الحرقة و النور و هي نار الدنيا و رابعها لا حرقة و لا نور نار الأشجار.

و بالجملة فلمّا أبصر موسى النار توجّه نحوها [فَقالَ لِأَهْلِهِ] و الخادم و أمثاله:

[امْكُثُوا] و أقيموا مكانكم و الفرق بين الإقامة و المكث أنّ الإقامة تدوم و المكث لا يدوم. قوله: [إِنِّي آنَسْتُ ناراً] أي أبصرت نارا و الإيناس الإبصار الّذي لا شبهة فيه. و منه إنسان العين فإنّه يتبيّن به الشي ء و يظهر. و الإنس يقال لظهورهم كما قيل الجنّ لاستتارهم و خفائهم و أيضا هو من مادّة الانس و الإيناس.

و لمّا كان الإيناس بالقبس مترقّبا و متوقّعا بنى الأمر فيه على الطمع و الرجاء فقال: [لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ] أي بجذوة أو برأس عود أو فتيلة منها [أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ] هاديا يدلّني على الطريق لأنّ النار لا تخلو من أهل لها و ناس عندها. و الهدى اسم مصدر لما يهتدى به.

[فَلَمَّا أَتاها] أي أتى النار فإذا النار في شجرة عنّاب فوقف متعجّبا من حسن ضوء تلك النار و شدّة خضرة تلك الشجرة فسمع النداء من الشجرة و هو قوله: [نُودِيَ يا مُوسى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ] كقولك: يا فلان أنا ربّك الّذي خلقك، فأجاب سريعا ما يدري من دعاه فقال: إنّي أسمع صوتك و لا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك و معك و أمامك و خلفك و أقرب إليك من نفسك فعلم موسى إنّ ذلك لا ينبغي إلّا لربّه و أيقن به.

و قيل: إنّه لمّا رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها يتوقّد فيها نار بيضاء و سمع تسبيح الملائكة و رأى نورا عظيما لم يكن الخضرة تطفئ النار و لا النار تحرق الخضرة تحيّر و علم أنّه خارق العادة و معجز و إنّه أمر عظيم فألقيت عليه السكينة و إنّما كرّر الكناية لتأكيد الدلالة و إزالة الشبهة و تحقيق المعرفة.

[فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ] و انزعهما و السبب في هذا الأمر قيل: إنّما كانتا من جلد حمار ميّت، عن كعب و عكرمة و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام. و قيل: كانتا زكيّة و لكنّه امر بخلعهما

ص: 79

ليباشر بقدميه الأرض فتصيبه بركة الوادي المقدّس. و قيل: لأنّ الحفاء من علامة التواضع [إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً] أي واد كثير البركة مطهّر و «طوى» اسم للوادي و قيل: «طوى» الوادي بالبركة.

[وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ] و اصطفيتك للرسالة [فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى] إليك من كلامي و أصغ إليه، و لمّا أمره باستماع الوحي فابتدأ سبحانه بالتوحيد فقال: [إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا] و لا يستحقّ العبادة غيري [فَاعْبُدْنِي] خالصا و لا تشرك في عبادتي غيري أحدا.

و هاهنا مسألة قال الأشعريّ: إنّ اللّه أسمعه الكلام القديم الّذي ليس بحرف و لا صوت و المعتزلة أنكروا وجود ذلك الكلام و قالوا: إنّ اللّه سبحانه خلق ذلك الصوت و النداء في جسم من الأجسام كالشجرة لأنّ النداء كلام اللّه و اللّه قادر عليه و متى شاء فعله.

و أمّا أهل السنّة من أهل ما وراء النهر فقد اعتقدوا بقدم الكلام إلّا أنّهم زعموا أنّ الّذي سمعه موسى صوت خلقه اللّه في الشجرة و احتجّوا بالآية على أنّ المسموع هذا النداء و الصوت المحدث و أنّه رتّب النداء على أنّه أتى النار و المرتّب على المحدث محدث فالنداء محدث.

و استدلّت المعتزلة بقوله: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» على أنّ كلام اللّه تعالى ليس بقديم إذ لو كان قديما لكان اللّه قائلا قبل وجود موسى: فاخلع نعليك يا موسى، و معلوم أنّ ذلك باطل فإنّ الرجل لا يقول و لا ينادي في الدار الخالية: يا زيد و إذا قال يحسب سفها فكيف يليق بالإله سبحانه؟ و لأنّ الأمر في ذلك الوقت ما كان له متعلّق.

و في قوله: «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي» دلالة على أنّ علم الأصول مقدّم على علم الفروع و الفاء في قوله: «فَاعْبُدْنِي» تدلّ على التعقيب.

[وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي] أي اذكرني في الصلاة بالتسبيح و التعظيم لأنّ الصلاة لا يكون إلا بذكر اللّه و قيل: معناه «أقم الصلاة» لأن أذكرك بالمدح و الثناء. و قيل:

معناه صلّ لي و لا تصلّ لغيري و لا تذكّر لغيري كما يفعله المشركون. و قيل: أقم الصلاة متى ذكرت أنّ عليك صلاة و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام و يؤيّده ما رواه أنس عن النبيّ

ص: 80

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من نسي فليصلّها إذا ذكرها.

ثمّ أخبر سبحانه لموسى بمجي ء الساعة فقال: [إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ] و جائية لا محالة [أَكادُ أُخْفِيها] أي أريد أن أخفيها عن الناس لئلّا تأتيهم إلّا بغتة قال ابن عبّاس: معناه المبالغة في الخفاء أي أكاد لا اظهر علمها أحدا حتّى من نفسي إذا كدت أن أخفيها من نفسي فكيف أظهرها لك؟ [لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى] و تعمل من خير و شرّ.

[فَلا يَصُدَّنَّكَ] عن الصلاة و لا يصرفنّك [مَنْ لا يُؤْمِنُ] بالساعة، و قيل: الضميران راجعة كلاهما إلى الساعة قوله: [وَ اتَّبَعَ هَواهُ] و لا يمنعك عن هذه الخصال من بنى أمره على متابعة الهوى دون الحقّ [فَتَرْدى] و تهلك حينئذ بسبب المخالفة و ترك التأهّب و الخطاب لموسى عليه السّلام و هو من سائر المكلّفين.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 17 الى 36]

وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)

وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)

وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)

وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36)

المعنى: كلمة «تلك» قيل: إشارة، و قيل: موصولة أي ما الّتي في يمينك؟

أو بالإشارة: ما تلك في يمينك؟ و السؤال إنّما يكون لطلب العلم و هو على اللّه محال لكنّه أراد أن ينبّهه على وقوع أمر عظيم لكي لا يدهش بسبب ذلك الأمر العظيم و يعلم أنّ هذا الأمر إنّما وقع بطريق المعجزة فلا يخاف أنّ الخشبة اليابسة تنقلب ثعبانا عظيما.

و لمّا تكلّم معه بهيبة الإلهيّة و ألزمه التكاليف الصعبة من علم المبدأ و المعاد و الوسط و ختمه بالتهديد العظيم حيث قال: «لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ» إلى آخر الآية،

ص: 81

تحيّر موسى و دهش من التحيّر بحيث كاد أن لا يعرف اليمين من الشمال.

فلو قيل: إنّ اللّه تعالى خاطب موسى من غير واسطة و لم يحصل ذلك لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيلزم أن يكون موسى أفضل من محمّد.

فالجواب أنّه كما خاطب سبحانه موسى فقد خاطب محمّدا في قوله تعالى: «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى» (1) و الفرق بينهما أنّ الّذي ذكره مع موسى أفشاه إلى الخلق و الّذي ذكره مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان سرّا لم يستأهل له أحد من الخلق و امّة محمّد يخاطبون اللّه مرّات في الليل و النهار كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: المصلّي يناجي ربّه و في يوم القيامة يكلّم اللّه المتّقين من امّته بقوله تعالى: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» (2).

و الصحيح أنّ «تلك» مبتدأ و «ما» خبره مقدّم عليه لما فيه من معنى الاستفهام.

فأجاب موسى [هِيَ عَصايَ] أعتمد عليها إذا مشيت و التوكّؤ التحامل على العصا في المشي و أخبت بها ورق الشجر لترعاه غنمي و قرئ «أهسّ» بالسين المهملة زجر الغنم [وَ لِيَ فِيها] فوائد اخرى و لم يقل: «أخر» بالجمع لتوافق رءوس الآي.

قال ابن عبّاس: كان يحمل عليها زاده و يركزها فيخرج منه الماء و يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل و يطرد بها السباع و إذا ظهر عدوّ حاربت و إذا أراد الاستسقاء من بئر طالت و صارت شعبتاها كالدلو و كان يظهر عليها كالشمعة فتضي ء بالليل و كان تحدّثه و تؤنسه و إذا طالت شجرة جناها بمحجنها و كانت هذه الفوائد لعصا بعد أن صار موسى موسى.

قال اللّه تعالى: [أَلْقِها يا مُوسى] و لعلّ التأويل أنّ من كان قلبه مشغولا بالعصا و منافعها و النعلين كيف يكون مستغرقا في بحر معرفة اللّه فألق هذه العلائق عنك و أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا عرض عليه الجنّة و النار لم يلتفت إلى شي ء منها: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى» (3).

ص: 82


1- النجم: 11.
2- يس: 58.
3- الشعراء: 77.

و أيضا في تأويل إلقاء العصا أنّ كلّ ما سوى اللّه فالالتفات إليه شاغل و هو كالحيّة المهلكة لك كما قال الخليل: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» (1) و في الحديث: يجاء يوم القيامة بصاحب المال الّذي لم يؤدّ زكاته و يأتي ذلك المال على صورة شجاع أقرع الحديث.

و من قوله: «أَلْقِها يا مُوسى» يتبيّن أنّ الاستطاعة قبل الفعل لأنّ القدرة على إلقاء العصا إمّا يوجد و العصا في يده أو خارجة من يده فإن أتته القدرة و هي في يده فثبت المطلوب و أنّ اللّه ليس بظلّام للعبيد. و إذا أتته و ليست في يده و إنّما استطاع أن يلقي من يده ما ليس في يده فذلك محال.

فإن قيل: إنّ الثعبان و الجانّ بينهما تناف لأنّ الثعبان هو العظيم من الحيّات و الجانّ الدقيق منها و الصغير منها و أنّ وقت انقلاب العصا كانت حيّة صغيرة دقيقة ثمّ تورّمت و تزايد جرمها حتّى صارت ثعبانا.

فالجانّ (2) أوّل حالها و الثعبان مآلها على أنّها كانت في شخص الثعبان و سرعة حركة الجانّ و الدليل على هذا المعنى قوله تعالى: «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ»* (3) و أمّا صفتها: كان لها عرف كعرف الفرس و كان بين لحييها أربعون ذراعا و كانت تبتلع كلّ ما مرّت به من الصخور و الأحجار حتّى سمع موسى صرير الحجر في فمها و جوفها.

[قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى] لمّا نودي موسى و خصّ بتلك الكرامات العظيمة و علم أنّه مبعوث من اللّه إلى الخلق فلمّا خاف و كان ذلك الخوف من نفرة الطبع و مقتضى البشريّة و الخوف دليل لصحّة نبوّته و صدق ادّعائه لأنّ الساحر يعلم أنّ الّذي أتى به تمويه فلا يخافه البتّة.

فلمّا سمع: «خذها» أدخل يده بين أسنانها فانقلب خشبة و لمّا قال له ربّه:

«لا تخف» بلغ من ذهاب خوفه و طمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها و أخذ بلحييها

ص: 83


1- جواب لما أورد.
2- النمل: 10.
3- القصص: 31.

فعادت عصا و نصب «سيرتها» بنزع خافض أي إلى سيرتها و حالتها الاولى و على موسى يومئذ مدرعة من صوف قد خلّها بخلال فلمّا أمره سبحانه بقوله: «خذها» لفّ طرف المدرعة على يده فقال اللّه: يا موسى أ رأيت لو أذن اللّه ممّا تحاذر كانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال: و لكنّي ضعيف و من ضعف خلقت فكشف عن يده ثمّ وضعها في فم الحيّة فإذا يده في الموضع الّذي كان يضعها إذا توكّأ عليها بين الشعبتين.

و قيل: كانت العصا من اسّ الجنّة أخرجها آدم و توارثها الأنبياء إلى أن بلغ شعيبا فدفعها إلى موسى عليه السّلام و قيل: كانت من عوسج و كان طولها عشرة أذرع على مقدار قامة موسى و المراد من الذراع من المرفق إلى رءوس الأصابع لا الذراع الاصطلاحيّ.

قوله تعالى: [وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى] اعلم أنّه يقال: لكلّ ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه و جناحا الإنسان جنباه و الأصل المستعار منه جناحا الطائر لأنّه يجنحهما و يميل بهما إلى الحركة أي و اجمع يدك إلى ما تحت عضدك أو إلى جنبك أو إلى جيبك ادخل يدك تخرج بيضاء لها نور ساطع تضي ء بالليل و النهار أشدّ من نور الشمس و القمر من غير بياض كالبرص ففعل فخرجت يده كما قال اللّه ثمّ ردّها فعادت إلى لونه الّذي كانت عليه، آية اخرى زيادة على آية العصا.

[لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا] أي خذها لنريك بعض آياتنا [الْكُبْرى] و الكبرى بمناسبة الآية و نعت الآية فلو قيل: نعت الآيات فكقوله: «مَآرِبُ أُخْرى» و «الْأَسْماءُ الْحُسْنى»* و بالجملة لمّا أظهر سبحانه له هاتين الآيتين أمره بالذهاب [اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ] و بيّن العلّة في ذلك و قال: [إِنَّهُ طَغى] و تكبّر في كفره.

[قالَ] موسى عند ذلك [رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي] و وسّعه حتّى أ تحمّل و لا أخاف و سهّل عليّ إذا كلّفتني بالرسالة و أطلق عن لساني العقدة الّتي فيه حتّى يفهموا كلامي و كان في موسى رتّة لا يفصح معها بالحروف شبه التمتمة و سبب ذلك جمرة طرحها في فيه لمّا أراد فرعون قتله لأنّه أخذ بلحية فرعون و نتفها و هو طفل فقالت آسية بنت مزاحم: لا تفعل لأنّه صبيّ لا يعقل و علامة جهله أنّه لا يميّز الدرّة من الجمرة فأمر

ص: 84

فرعون حتّى احضر الدرّة و الجمرة بين يديه فأراد موسى أن يأخذ من الدرّة فضرب جبرئيل يده إلى الجمرة فأخذها و وضعها في فيه فاحترق لسانه.

و بالجملة فأجاب اللّه مسؤوله بقوله: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ» و مناك و من مسؤولاته:

[وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي] أتّقوى به و برأيه و كونه من أهله يوجب أن يكون له أولى ببذل النصح و كان هارون أخاه لأمّه و أبيه [وَ أَشْرِكْهُ] معي في الأمر و النبوّة و المراد من الشركة النبوّة و لو لا ذلك لكان يجوز له أن يستوزره من غير مسألة لأنّ الوزارة الإعانة و الاستعانة لا يلزم الرخصة و كان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين و أتمّ طولا و أبيض جسما و أفصح لسانا [كَيْ] ننزّهك عمّا لا يليق بك و إنّما سأل هذه الحاجات ليتوصّل بها إلى الطاعات لأنّها موجباتها لا للرياسة [وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً] بأحوالنا و عالما باحتياجنا بهذه الأمور.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإنّ موسى عليه السّلام خرج يقتبس لأهله نارا فكلّمه اللّه فعاد و هو نبيّ، و خرجت ملكة سبأ كافرة فأسلمت مع سليمان عليه السّلام، و خرج سحرة فرعون يطلبون العزّة و يعارضون الربّ فرجعوا مؤمنين.

فانظر في فضيلة التسبيح و الدعاء أنّ مثل هذا النبيّ المكرّم الّذي كلّمه اللّه تعالى و أنعم عليه بهذه النعم العظيمة من المعجزة و الرسالة و قبول مسؤولاته قابل هذه النعم بالذكر و الدعاء فقال: نسبّحك كثيرا.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 37 الى 44]

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)

اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)

المعنى: لمّا أخبر سبحانه بأنّه أتاه طلبته بقوله: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى»

ص: 85

عقّبه في هذه الآية بأنّ نعمتنا جارية عليك قديما و حديثا و عدّد تلك النعمة بقوله:

[وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى] قبل هذه المرّة «و المرّة» الكرّة الواحدة و ذلك حين ألهمنا امّك ما كان فيه نجاتك من القتل قيل: رأت بالمنام أن تفعل هكذا أو القي هذا الأمر في خاطرها أو أنّه سبحانه أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزّمان كشعيب عليه السّلام و غيره و ذلك النبيّ عرّفها.

ثمّ فسّر ذلك الإيحاء بقوله: [أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ] و اجعليه بأن ترميه فيه و اقذفي التابوت و الصندوق [فِي الْيَمِ] يراد به النيل روي أنّها اتّخذت تابوتا و جعلت فيه قطنا محلوجا و وضعت فيه موسى و قيّرت شقوقه و رأسه ثمّ ألقته في النيل و الّذي صنع التابوت قيل: حزقيل مؤمن آل فرعون.

[فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ] و الساحل بمعنى المسحول سمّي بذلك لأنّ الماء يسحله فكأنّه سبحانه أمر اليمّ كما أمر امّ موسى، و المعنى أنّها متى تلقيه في البحر يلقيه اليمّ في الساحل حتما و اليمّ اسم يقع على البحر و النهر العظيم [يَأْخُذْهُ] بعد إلقائه في اليمّ [عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ] يعني فرعون كان عدوّا للّه و لأنبيائه و عدوّا لموسى خاصّة لتصوّر أنّ ملكه ينقرض على يده لأنّ فرعون خوفا من هذا الأمر كان يقتل غلمان بني إسرائيل ثمّ خشي أن يفنى نسلهم فكان يقتل بعد ذلك في سنة و لا يقتل في سنة فولد موسى في السنة الّتي كان يقتل الغلمان فيها فنجاه اللّه فهذه المنّة الاولى.

[وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي] أي جعلتك بحيث يحبّك من يراك حتّى أحبّك عدوّك فرعون و أحبّتك امرأته آسية فربّتك في حجرها و أنّ البحر القى التابوت بموضع من الساحل فيه فوهة نهر قصر فرعون و أدّاه النهر إلى بركته فلما رآه أخذه قيل:

جعل اللّه موسى محبوبا إلى الناس فلا يلقاه أحد مؤمن و لا كافر إلّا أحبّه و قيل: كانت ملاحة في عين موسى فما رآه أحد إلّا أحبّه.

قوله: [وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي] أي و لتربّى و تغذّى بمرأى منّي و يجري أمرك على ما أريد من الرفاهة في غذائك و ذلك أنّ من صنع الإنسان شيئا و هو ينظر إليه صنعه كما يحبّ قال القفّال: معناه لترى على عيني و وفق إرادتي و المراد من العين العلم أي

ص: 86

ترى على علم منّي كما أنّ العالم بالشي ء يحرسه عن الآفات كما أنّ الناظر إليه يحرسه عن الآفات فالعين كأنّها سبب الحراسة فأطلق اسم المسبّب مجازا و قيل: المعنى أن تربّى و تغذّى بحياطتي و حفظي كما يقال: عليك عين اللّه و قوله: إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى امّك، فصار ذلك تفسيرا لحياطة اللّه.

و «لتصنع» قرئ بكسر اللام و جزم العين بصيغة الأمر و بفتح التاء و النصب أي و ليكون تصرّفك و عملك على علم منّي.

و بالجملة لمّا فشا الخبر بمصر أنّ آل فرعون أخذ وا غلاما في النيل و هو لا يرتضع من ثدي كلّ امرأة يؤتى بها لأنّ اللّه حرّم عليه المراضع غير امّه اضطرّوا إلى تتبّع النساء فلمّا رأت اخت موسى جاءت إليهم منكّرة فقالت: [هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ] ثمّ جاءت بالأمّ فقبل ثديها فرجع إلى امّها بلطف اللّه [فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ].

و من المنن قوله تعالى: [وَ قَتَلْتَ نَفْساً] خطاء و هو الّذي وكزه موسى و كان قبطيّا كافرا فخاف موسى أن يقتلوه به [فَنَجَّيْناكَ] من خوف الاقتصاص [وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً] و اختبرناك اختبارا و عاملناك معاملة المختبر حتّى خلصت للاصطفاء بالرسالة و هذه النعمة الأخيرة من أعظم النعم و قيل: امتحنّاك في تشديد المعاش حتّى رعيت لشعيب عشر سنين.

ثمّ شرح سبحانه في ذلك فقال: [فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ] حين كنت راعيا لشعيب [ثُمَ] بعد ذلك [جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى] أي في الوقت الّذي قدّر لإرسالك نبيّا قال الشاعر:

نال الخلافة إذ كانت له قدراكما أتى ربّه موسى على قدر

و قيل: جئت على الوقت الّذي يوحى فيه إلى الأنبياء و هو على رأس أربعين سنة.

[وَ اصْطَنَعْتُكَ] و اتّخذتك صنيعتي و أخلصتك لتشتغل بإرادتي و إقامة حجّتي و جعلتك بيني و بين خلقي.

[اذْهَبْ أَنْتَ] و هارون بحججي و آياتي [وَ لا تَنِيا] أي و لا تضعفا و لا تفترا في أمري و لا تقصّرا.

ص: 87

[اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ] كرّر الأمر بالذهاب للتأكيد و قيل: إنّ في الأوّل اختصّ موسى بالأمر و في الثاني أمرهما ليصيرا شريكين في الأمر [إِنَّهُ طَغى] و جاوز الحدّ في الطغيان.

[فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً] له أي ارفقا في الدعوة و القول و لا تغلظا له و قيل: معنا كنّياه و كنيته أبو الوليد و قيل: أبو العبّاس و قيل: أبو مرّة [لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ] ما أغفل عنه من عبوديّة نفسه و ربوبيّة اللّه سبحانه و يخشى العقاب و العذاب و قيل: إنّ هارون كان بمصر فلمّا أوحى اللّه إلى موسى أن تأتي مصر أوحى إلى هارون أن يتلقّى موسى فتلقّاه على مرحلة و ذهبا إلى فرعون.

و قال يحيى بن معاذ في قوله تعالى: «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» إلهي هذا رفقك بمن يدّعي الألوهيّة فكيف رفقك بمن أقرّ بالعبوديّة؟

قيل: إنّ موسى أتاه و قال له: تسلم و تؤمن لربّ العالمين على أنّ لك شبابك فلا تهرم و تكون ملكا لا تنزع الملك حتّى تموت و لا تنزع منك لذّة الطعام و الشراب و الجماع حتّى تموت فإذا متّ دخلت الجنّة فأعجبه ذلك و كان لا يقطع أمرا دون هامان و كان غائبا فلمّا أقدم هامان أخبره بالّذي دعاه إليه و أنّه يريد أن يقبل منه فقال هامان:

قد كنت أرى أنّ لك عقلا و أنّ لك رأيا بينا أنت ربّ تريد أن تكون مربوبا و بينا أنت تعبد تريد أن تعبد؟ فقلّبه عن رأيه و لا ينافي هذه التوصية من اللّه تعالى لموسى في قوله: «قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» مع علمه بأنّه لا يؤمن لأنّه أراد أن يتمّ الحجّة عليه لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 45 الى 56]

قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49)

قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54)

مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى (56)

ص: 88

لمّا أمر اللّه موسى و هارون أن يمضيا إلى فرعون و يدعواه إليه [قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا] و نخشى أن يسبقنا بعذاب و يعجل بعقوبة علينا.

[قالَ] سبحانه: [لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما] بالنصرة و الحفظ و [أَسْمَعُ] ما يسأله عنكما فألهمكما جوابه [وَ أَرى] ما قصده بكما فأدفعه عنكما قوله: [فَأْتِياهُ] أي فأتيا فرعون [فَقُولا]: أرسلنا إليك خالقنا بما ندعوك إليه [فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ] أي أطلقهم و لا تعذّبهم بالأعمال الشاقّة.

و احتجّ القائلون بعدم فوريّة الأمر بهذه الآية لأنّه لو كان يقتضي الفوريّة لما جاز لهم أن يسألوا ما يزيدهم الاطمينان و الثبات و لكانوا يمضون سريعا إلى حيث أمرهم اللّه خصوصا إذا ضمّت إليه ما يدلّ على أنّ المعصية غير جائزة على الرسل انتهى.

قوله: [قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ] و دلالة واضحة و لائحة من اللّه يشهد لنا بالصدق و النبوّة [وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى] قالوا: لم يرد بالسلام هنا التحيّة بل معناه أنّ من اتّبع الهدى سلم من عذاب اللّه و يدلّ على هذا المعنى بعده [إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى] أي إنّما يعذّب اللّه من كذّب بما جئنا به و أعرض عنه فأمّا من اتّبعه فإنّه يسلم من العذاب.

و في الكلام حذف و تقدير و هو فأتياه [قالَ فَمَنْ رَبُّكُما] قال لهما فرعون: فمن ربّكما يا موسى؟ و اكتفى بذكر موسى للتغليب و الشمول لهارون و لتسوية رءوس الآي.

و أراد فرعون من هذا الكلام أنّ ربّكما من أيّ جنس من الأجناس حتّى أفهمه.

فبيّن موسى أنّه تعالى ليس له جنس و إنّما يعرف بأفعاله فقال: [رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى] أي كلّ شي ء قدّره بالصورة فهداه إلى مطعمه و مشربه و منكحه و غير ذلك من ضروب الهداية الموجبة لبقاء وجوده و وجود نوعه من امور معاشه بعضا و امور معاشه و معاده بعضا كالإنسان ليتوصّل بها إلى الآخرة و نعيمها أو الآية

ص: 89

بالتقديم و التأخير أي أعطى خلقه كلّ شي ء يحتاجون إليه.

[قالَ] فرعون: [فَما بالُ الْقُرُونِ] الماضية فإنّها لم تقرّ باللّه و ما تدعو إليه كعبدة الأوثان و مثل قوم نوح و عاد و ثمود و أمثالها ف [قالَ] موسى: [عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي] أي أعمالهم محفوظة عند اللّه يجازيهم على أعمالهم و التقدير: علم أعمالهم عند ربّي [فِي كِتابٍ] أي في اللوح المحفوظ أو ما يكتبه الملائكة لا يخطئ ربّى [وَ لا يَنْسى] أي لا يغفل و لا يترك شيئا [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً].

و هاهنا مسألة و هي أنّه كيف يتصوّر أنّ الّذي يميّز أنّ العشرة أكثر عددا من الخمسة أن يعتقد نفسه أنّه إله العالمين و هو يدرك عجزه في تدبير بدنه و لكلّ أحد يحصل علم الضروريّ بأنّه ليس خالقا و موجدا للعالم فكيف جهل فرعون هذا الأمر و ادّعى الربوبيّة؟ فيحتمل أنّه كان دهريّا نافيا للمؤثّر أصلا و يحتمل أنّه كان فلسفيّا قائلا بالعلّة الموجبة و يحتمل أنّه كان من عبدة الكواكب و يحتمل أنّه كان من الحلوليّة المجسّمة و ادّعاؤه الربوبيّة لنفسه بمعنى أنّه يجب عليهم طاعته و الانقياد له في تمام الأمور و عدم الاشتغال بطاعة غيره و هذا من أقبح أقسام الشرك و الكفر لأنّه قد عرف أنّ ربّه و خالقه غيره و قد جحده و ادّعى الإطاعة و العبادة لنفسه.

و قيل: إنّ موسى عليه السّلام لمّا دعا فرعون إلى الإقرار بالبعث قال فرعون: [فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى] فلم لم يبعثوا؟ فجاوبه موسى: [لا يَضِلُّ رَبِّي] إذ لا يذهب عليه شي ء.

و بالجملة ثمّ زاد موسى في الإخبار عن اللّه و قال: [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً] و مقرّا [وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا] أي أدخل لأجلكم في الأرض طرقا تسلكونها و سهّل لكم فيها طرقا من الجبال و الأودية و البراري [وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً] يعني المطر، تمّ كلام موسى.

ثمّ أخبر اللّه عن نفسه [فَأَخْرَجْنا] بذلك الماء [أَزْواجاً] أي صنوفا و أقساما من النبات مختلفة الألوان و الطعم و الشكل فمنها ما يصلح لطعام الإنسان و منها ما يصلح لغير الإنسان [كُلُوا] ممّا أخرجنا لكم بالمطر من النبات و الثمار [وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ] و أسيموا مواشيكم و اللفظ بالأمر و المراد الإجابة و التذكير بالنعمة إِنَّ [فِي ذلِكَ] المذكورات

ص: 90

دلالات لأهل العقل و قيل. لذوي الورع و التقوى.

[مِنْها] أي من الأرض [خَلَقْناكُمْ] أباكم آدم و في الأرض [نُعِيدُكُمْ] إذا أمتناكم [وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ] دفعة اخرى إذا حشرناكم.

قوله: [وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ] أي فرعون [آياتِنا كُلَّها] يعني الآيات التسع [فَكَذَّبَ] فرعون بجميع ذلك [وَ أَبى] أن يؤمن به فجحد الدليل و إنّما أراد بالآيات الّتي أعطاها موسى.

فإن قيل: إنّ فرعون خاطب الاثنين بقوله: «فَمَنْ رَبُّكُما» ثمّ لم وجّه النداء إلى أحدهما و هو موسى؟ لأنّه لخبثه كان يعلم الرتّة الّتي في لسان موسى عليه السّلام فأراد استنطاقه للفضيحة كما أنّه لمّا قهره موسى بالحجّة بقوله: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ» خاف فرعون أن يزيد موسى بالحجّة و يظهر للناس صدقه و فساد طريقة فرعون فصرفه عن ذلك الكلام شغله بالحكايات بقوله: «فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى» فلم يلتفت إليه موسى جاوبه بقوله: «عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ» أي لا يتعلّق غرضي بأحوالهم و عاد إلى تتميم كلامه الأوّل و إيراد الدلائل الباهرة كقوله: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى».

و هذا الدليل ذكره اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى» (1) و قال إبراهيم في حججه لنمرود: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ* الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ» (2) لأنّك إذا نظرت إلى أضعف الخلق مثلا كالبقّ و البعوضة كيف تهتدي إلى مصالح أنفسها من الميل إلى ما ينفعها و الإعراض عن ما يضرّها و كذا هداية الحيوانات من عطف الأمّهات إلى الأولاد و هدى الأولاد لثدي الأمّهات لبقاء النوع و دوام التناسل و ضروب الانتفاعات من الجوارح لعرفت أنّ ذلك لا يمكن إلّا بإلهام من مدبّر عالم بجميع ما يحتاج يكون من غير سنخها و شبهها من جميع جهات المخلوقيّة.

ص: 91


1- الأعلى: 1- 3.
2- الشعراء: 77، 78.

و بيانه أنّ دلالة هذه الأشياء و الأمور على وجود المدبّر الصانع القديم المختار بسبب أنّ اتّصاف كلّ جسم من هذه الأجسام بتلك الصفة المخصوصة من التركيب و الشكل و القوّة و الهداية إمّا أن يكون واجبا أو جائزا و الأوّل باطل لأنّا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكّة عن تلك التراكيب و القوى فدلّ على أنّ ذلك جائز و الجائز لا بدّله من مرجّح و ليس ذلك المرجّح هو الإنسان و لا أبواه لأنّ فعل ذلك يستدعي قدرة عليه و علما بما فيه من المصالح و المفاسد و كلاهما نائيان عن الإنسان لأنّه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة و بعد البحث الشديد عن كتب التشريح لا يعرف من منافع الأعضاء و مصالحها إلّا القدر القليل فلا بدّ أن يكون المتولّي لتدبيرها موجودا آخر و ذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسما لأنّ الأجسام متساوية في الجسميّة فاختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثّريّة لا بدّ و أن يكون جائزا فلمّا صار جائزا افتقر إلى سبب آخر و الدور و التسلسل محالان فلا بّد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى موجود مؤثّر و مدبّر ليس بجسم و لا جسمانيّ. ثمّ تأثير ذلك المؤثّر إمّا أن يكون بالذات أو بالاختيار و الأوّل محال لأنّ الموجب لا يميّز مثلا عن مثل و هذه الأجسام متساوية في الجسميّة فلم اختصّ بعضها بالصورة الفلكيّة و بعضها بالصورة العنصريّة و بعضها بالنباتيّة و بعضها بالحيوانيّة فثبت أنّ المؤثّر و المدبّر قادر و أن يكون واجب الوجود بالذات و إلّا لا فتقر إلى مدبّر آخر و يلزم التسلسل و هو محال. انتهى.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 57 الى 66]

قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61)

فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66)

ص: 92

ثمّ حكى سبحانه عن فرعون أنّه نسب موسى إلى السحر تلبيسا على قومه [قالَ] فرعون: [أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ] أرض مصر لنأتينّك مثل ما أتيتنا فاجعل. و إنّما قال اللعين: «لتخرجنا» لإلقاء الشبهة في مسامع أهل مصر ما يصيرون مبغضين لموسى جدّا لأنّ هذه الأمر صعب نهاية بحيث جعله اللّه تعالى مساويا للقتل في قوله: «أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ» (1) ثمّ أورد الشبهة الطاعنة لنبوّته حيث نسبه إلى السحر لا المعجز.

قوله: [فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ] و الموعد يمكن أن يكون مصدرا و يجوز أن يكون اسما لمكان الوعد كقوله: «وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ» (2) و يجوز أن يكون اسم زمان الوعد كقوله «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ» (3) و الّذي في هذه الآية بمعنى المصدر أي اجعل بيننا وعدا لأنّ الوعد هو الّذي يصحّ وصفه بالخلف.

قوله: [سُوىً] قرئ بضمّ السين و بكسرها لغتان مثل طوى و طوى و قرئ منوّنا و غير منوّن قيل: المراد مكانا مستويا لا يحجب العين ما فيه من الارتفاع و الانخفاض أي لا يكون فيه ارتفاع و انخفاض حتّى يشاهد كلّ الحاضرين ما يجري أو المعنى مكانا يستوي حالنا في الرضا و الانتصاف و يكون نصفا بيننا و بينك. و قيل:

متساوي المسافة على الفريقين.

[قال] موسى: [مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ] و كان يوم عيد لهم يسمّى يوم الزينة لأنّ الناس كانوا يتزيّنون فيه و يزيّنون أسواقهم و يوم [يُحْشَرَ النَّاسُ] حال اجتماعهم في الضحى. و قيل: يوم الزينة كان عيدهم يوم النيروز. و قيل: يوم سوق لهم و قيل: يوم عاشورا و إنّما وعدهم ذلك اليوم موسى لتكون كلمة اللّه هي العليا و يظهر الحقّ من الباطل على الرءوس في المجمع العامّ ليحدّثوا بذلك الأمر العجيب.

ص: 93


1- النساء: 65.
2- الحجر: 43.
3- هود: 81.

[فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ] و انصرف و فارق موسى على هذا الموعد ثمّ جمع حيلته و مكره و ذلك جمع السحرة [ثُمَّ أَتى] و حضر الموعد في الموضع بالسحرة و بالقوم و بالآلات.

قال ابن عبّاس: كانوا اثنين و سبعين ساحرا مع كلّ واحد منهم حبل و عصا.

و قيل: كانوا أربعمائة. و قيل: أكثر من ذلك. ثمّ ضربت قبّة لفرعون فجلس فيها ينظر إليهم و كان طول القبّة سبعين ذراعا.

ثمّ بيّن موسى عليه السّلام قبل كلّ شي ء الوعيد و الموعظة ممّا قالوه و حذّرهم فقال: [وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى] و أنّ الّذي تزعمون ليس بحقّ و أنّه سحر و لا يمكنكم أيّتها السحرة معارضتي. و معنى «ويلكم» أي ألزمكم اللّه الويل و يجوز على النداء و قوله: «فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» و السحت استقصاء الشعر في الحلق أي يستأصلكم العذاب و يهلككم.

قوله: [فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ] أي تشاوروا و تفاوضوا في حديث موسى و هارون و فرعون أو تشاورت السحرة في ما هيّئوه للمعارضة مع موسى فيمن يبتدي في الإعمال و الإلقاء.

[وَ أَسَرُّوا النَّجْوى] يعني أنّ السحرة أخفوا كلامهم و تناجوا في ما بينهم سرّا من فرعون فقالوا: إن غلب علينا موسى اتّبعناه لأنّ موسى لمّا قال لهم: «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً» قال السحرة بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر.

[قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ] و في رفع «هذان» ذكروا وجوها:

الأوّل أنّ كلمة «إن» ضعيفة في العمل لأنّها تعمل بسبب المشابهة للفعل لا بالأصالة و إذا كان عملها بالمشابهة لا بالأصالة فهي ضعيفة في العمل فجاز بقاء المبتداء على حاله.

و قيل: «إن» في الآية وقعت موقع نعم أي نعم هذان لهما ساحران و اللام دخلت على المبتدأ و هو ضميرهما لا على الخبر و ذكروا و قالوا: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ» مثل «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى» (1) و مثل قوله:

ص: 94


1- المائدة: 72.

«لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ- إلى قوله:- وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» (1).

و قيل: [إِنْ هذانِ لَساحِرانِ] بالتخفيف أي ما هذان إلّا ساحران.

و قال الأخفش: [إِنْ هذانِ لَساحِرانِ] خفيفة في معنى ثقيلة لغة يرفعون بها و يدخلون اللام ليفرّقوا بينهما و بين الّتي تكون في معنى «ما».

و قيل: و هو الأقوى إنّ هذه لغة لبعض العرب لغة لحارث بن كعب و كنانة و خثعم و بعض بني عذرة و بنى ربيعة، و استشهد الفرّاء بقولهم:

تزوّد منّا بين أذناه ضربةدعته إلى هاتي التراب عقيم

و قال الجاهليّ من بني ضبّة:

أعرف منه الجيد و العيناناو منخرين أشبها ظبيانا

و قال الآخر:

كان يمينا سجل و مضيفه يراق دم لن يبرح الدهر ثاويا

و أنشدوا:

إنّ أباها و أبا أباهاقد بلغا في المجد غايتاها

و قال ابن جنّيّ: عن قطرب صاحب كتاب مثلّث:

هناك أن تبكي بشعشعان رحب الفؤاد طائل اليدان

و أمثاله كثيرة: و بالجملة قالوا: إن هذان لساحران [يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ] من ملك مصر [وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى] الشريفة قال الفرّاء: الطريقة الرجال الأشراف الّذين هم قدوة لغيرهم يقال: هم طريقة قومهم و للواحد هو طريقة قومه.

و حاصل المعنى أنّهم أظهروا بأنّ موسى و هارون يريدان أن يذهبا بأشراف قومكم و أكابركم و هم بنو إسرائيل لقول موسى: «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» و بنو إسرائيل كان يومئذ أكثر عددا و أموالا

ص: 95


1- النساء: 161.

و من المفسّرين من فسرّ الطريقة المثلى بالدين و كان عندهم دينهم الطريقة المثلى الأمثل الأشبه بالحقّ و منهم من فسّر الطريقة بالمال و الجاه و غرضهم من هذا البيان تنفير الناس عن اتّباع موسى.

[فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ] أي لا تدعوا من كيدكم شيئا إلّا جئتم به [ثُمَّ ائْتُوا] مصطفّين مجتمعين لكي يكون أنظم لأمركم و أشدّ لهيبتكم [وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى] و غلب و علا و هذا قول بعض السحرة.

[قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى] أي إمّا أن تلقي ما معك أو نلقي ما معنا و هذا التخيير مع تقديمه في الذكر حسن أدب منهم و تواضع منهم لموسى لا جرم أنّ اللّه رزقهم الإيمان ثمّ إنّ موسى قابل أدبهم بأدب بقوله:

[قالَ بَلْ أَلْقُوا] فلو قيل: كيف أمرهم موسى بإعمال السحر و الكفر فإنّهم قصدوا بذلك تكذيب موسى؟ و الجواب أنّ موسى لمّا علم أنّ إلقاءهم لا يترتّب عليه أمر بل يحصل الخذلان لهم و إبطال معتقداتهم و يظهر الحقّ و الباطل من هذا الإلقاء ثمّ هذا الأمر مشروط بكونهم محقّين كقوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (1) أي قادرين و كان هذا الإلقاء طريقا إلى دفع الشبهة فله أن يأمرهم به.

و هاهنا حذف في الكلام و تقديره: فألقوا ما معهم [فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى] و الضمير في «إليه» راجع إلى موسى و قيل: إلى فرعون أي كان يرى الحبال أنّها تسير و تعدو مثل الحيّات.

و إنّما قال: «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ» لأنّها لم تكن تسعى حقيقة و إنّها تحرّكت لأنّهم جعلوا داخلها الزيبق فلمّا حميت الشمس طلب الزيبق الصعود و الخروج فحرّكت الشمس ذلك قال ابن عبّاس: ألقوا حبالهم و عصيّهم فخيّل إلى موسى أنّ الأرض كلّها حيّات و أنّها تسعى فخاف فلمّا قيل له: «أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ».

و ذلك قوله تعالى:

[سورة طه (20): الآيات 67 الى 76]

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى (71)

قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (74) وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

ص: 96


1- يونس: 38

المعنى: [فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ] أي أحسّ موسى في نفسه خوفا و وجد في نفسه ما يجده الخائف و السبب في ذلك أنّه خاف أن يلتبس على الناس أمرهم فيتوّهموا أنّهم فعلوا مثل فعله فيظنّوا المساواة و لا يتّبعونه و قيل: خوف الطباع البشريّ أو خاف أن يتفرّق الناس قبل إلقائه العصا و يبقوا في الشبهة.

قلنا و خاطبنا موسى: [لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى] عليهم بالظفر و الغلبة و ألق العصا تبتلع و تلقف ما صنعوا من السحر و لمّا ألقى عصاه صارت حيّة و طاف حول الصفوف حتّى رآها الناس كلّهم ثمّ قصدت الحبال و العصيّ فابتلعها كلّها على كثرتها.

قوله: [إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ] و العرب تقول في الكذب: هو كلام مصنوع و موضوع و مجعول أي أنّ صنيعهم حيلة و مكر [وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ] بمقصوده و بغيته إذ لا حقيقة له حيث كان من الأرض و [حَيْثُ أَتى] بسحره لا فوز له لأنّ الحقّ يبطله.

فلمّا ألقى عصاه و ابتلع ما صنعوه [فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ] حال كونهم ساجدين و خرّوا لأنّهم كانوا من الطبقة العليا في السحر فلمّا رأوا ما فعله موسى عرفوا أنّه خارج عن الصناعة و ليس أمره من السحر فاستدلّوا بفناء أجسام الحبال و العصيّ العظيمة على القادر العالم و بظهورها على يد موسى على كونه رسولا من عند اللّه فلا جرم تابوا و آمنوا بربّ العالمين

ص: 97

قال الزمخشريّ: ما أعجب أمرهم! قد ألقوا حبالهم و عصيّهم للكفر و الجحود ثمّ ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر و السجود فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! و روي أنّهم من سرعة ما سجدوا القوا و لم يرفعوا رءوسهم حتّى رأوا الجنّة و النار.

عن عكرمة: لمّا خرّوا سجّدا أراهم اللّه منازلهم، و هذا بعيد لأنّهم لو كانوا كذلك لما يليق أن يقولوا: «إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا» و لو أنّه جاز منهم هذا القول كما قال إبراهيم: «وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي» (1) فلم لا يجوز في مثل السحرة؟

قوله: [قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى] و استدلّوا بهذه الآية التعليميّة أنّهم آمنوا باللّه الّذي عرفوه من قبل هارون و موسى، فدلّ ذلك على أنّ معرفة اللّه لا يستفاد إلّا من الإمام، و الحقّ أنّ هذا القول قويّ و يؤيّد هذا القول قولهم عليهم السّلام: بنا عرف اللّه و لولانا ما عرف اللّه.

و بالجملة [قالَ] فرعون للسحرة: قد صدّقتم لموسى قبل إذني. و قد بلغ من الجهل أنّه لا يعتقد دين إلّا بإذنه و الفرق بين الإذن و الأمر أنّ في الأمر دلالة على إرادة الآمر المأمور به و ليس في الإذن ذلك. و قيل: قال اللّعين ذلك لأن يموّه على الناس بقوله: [إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ] و أنتم تلامذته لأنّه خاف أن يفعل الناس ما فعلوا فألقى هذه الشبهة و تصلّف باقتداره و تمويهه بهذا الكلام.

[فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ] و القطع من خلاف أن يقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى لأنّ كلّ واحد من العضوين خلاف الآخر أي لاقطعنّها مختلفات و اليمين خلاف الشمال. و جملة «من خلاف» منصوبة على الحال و اتّصفت بالاختلاف.

[وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ] فشبّه اللعين وقوع الصلب و تمكّن المصلوب في الجذع بتمكّن الشي ء الموعى في وعائه قال الرازيّ هذا المعنى، و قال: و الّذي يقال في المشهور أنّ في بمعنى على فضعيف.

ص: 98


1- الشعراء: 82.

ثمّ قال: [وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى] و أدوم أنا أم ربّ موسى؟

فلو قيل: إنّ فرعون مع نقض عهده في تلك الساعة بمشاهدة انقلاب العصا ثعبانا و قصد ابتلاعها قصر فرعون و آل الأمر أن استغاث بموسى كيف يعقل أن يهدّد السحرة و يبالغ هكذا في وعيدهم إلى هذا الحدّ و يستهزئ بموسى في قوله: «أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى»؟

قلنا: إنّه كان في أشدّ الخوف في قلبه إلّا أنّه كان يظهر الجلادة تمشية لأمره و ناموسه و خوفا من أن ينقلب الناس دفعة واحدة عليه، و أمّا حال السحرة قال ابن عبّاس:

كانوا في النهار سحرة كفرة و في آخره شهداء بررة.

و [قالُوا] لفرعون: [لَنْ نُؤْثِرَكَ] و نفضّلك على ما آتانا من الأدلّة الدالّة على صدق موسى [فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ] أي فاصنع ما أنت صانعه، فأيّ شي ء تصنع بنا؟

فإنّا لا نرجع عن الإيمان إنّما تقضي و تصنع بسلطانك في هذه الحياة الدنيا دون الآخرة.

[إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا] من الشرك و المعاصي [وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ] و إنّما قالوا ذلك لأنّ الملوك كانوا يجبرون بعض الناس على تعليم السحر كيلا يخرج السحر من أيديهم حتّى يعجزون عن تمويه النّاس في دعاويهم الباطلة.

قيل: إنّ السحرة قبل أن يقابلوا موسى قالوا لفرعون: أرنا موسى إذا نام فأراهم إيّاه فإذا هو نائم و عصاه تحرسه، فقالوا: ليس هذا بسحر إنّ الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلّا أن يعملوا فذلك إكراههم.

[وَ اللَّهُ خَيْرٌ] لنا [وَ أَبْقى] و هذا جواب قوله: «وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى» انتهى الإخبار عن السحرة.

ثمّ قال اللّه سبحانه: [إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً] قيل: إنّه من بقيّة قول السحرة، قيل: المجرم هنا الكافر، و قيل: الّذي أجرم و فعل مثل فعل فرعون [فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها] فيستريح من العذاب [وَ لا يَحْيى] حياة فيها راحة بل هو معاقب بأنواع العذاب، و الهاء ضمير الشأن.

قال بعض المفسّرين: سبحان اللّه! القوم كفّار و هم أشدّ الكافرين أثبت في قلوبهم

ص: 99

الإيمان في طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن خاطبوا فرعون بقولهم: «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» في ذات اللّه و إنّ أحدكم اليوم ليصحب القرآن ستّين عاما ثمّ أنّه يبيع دينه بثمن حقير.

استدلّت المعتزلة بهذه الآية في القطع على و عيد أصحاب الكبائر، قالوا: صاحب الكبيرة مجرم و كلّ مجرم فإنّ له نار جهنّم لقوله: «إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً» و كلمة «من» في معرض الشرط تفيد العموم بدليل أنّه يجوز الاستثناء في كلّ واحد منها و الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل.

و اعترض بعض المتكلّمين على هذا الكلام فقال: لا نسلّم أنّ صاحب الكبيرة مجرم و الدليل عليه أنّه تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فإنّه قال في هذه الآية: «وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ» و قال: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ» (1) و أيضا فإنّه قال: «فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى» و المؤمن صاحب الكبيرة و إن عذّب بالنار لا يكون بهذا الوصف و في الخبر الصحيح: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان.

و هذا الجواب ليس جوابا للمعتزلة لأنّهم يقولون: إنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن و إنّ هذا الجواب جواب من يعتقد أنّ الكبيرة لا يخرج صاحبها عن الإيمان.

و بالجملة ثمّ ذكر حال المؤمنين فقال: [وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً] مصدّقا باللّه و بأنبيائه [قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ] أي أدّى الفرائض [فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى] أي درجات الجنّة و بعضها أعلى من بعض و العلى جمع العليا و هي تأنيث الأعلى [جَنَّاتُ عَدْنٍ] و إقامة و دوام [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى] و تطهّر بالإيمان و الطاعة عن دنس الكفر، و قيل: من تزكّى طلب الزكاء بالعمل.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 77 الى 81]

وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)

ص: 100


1- المطففين: 30.

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 141

المعنى: لمّا وقعت هذه القضيّة و رأى فرعون من الآيات فلم يؤمن هو و قومه و استجاب بعض بني إسرائيل موسى فأراد اللّه تمييزهم من طائفة فرعون و خلاصهم فأوحى اللّه إلى موسى أن أسر بهم أي المستجيبين ليلا أي في الليل من البحر و إنّما أمره بالإسراء لئلّا يكون اجتماعهم بمشهد فرعون فيمنعهم عن استكمال مراد هم و بسبب سراهم بالليل يكون فرعون عائقا عن طلبهم و لو تقارب العسكران لا يرى عسكر موسى عسكر فرعون فيها بوهم، فأمر اللّه موسى أن يضرب عصاه في البحر و أريد بضرب الطريق جعل الطريق بالضرب يبسا. و «يبسا» قرئ بسكون الباء و فتح الياء، و اليبس و اليابس شي ء واحد و المعنى: طريقا ذا يبس، و من قال بتسكين الباء فالمراد: ما كان فيه و حل و لا نداوة فضلا عن الماء.

قوله [لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى] أي لا تخاف أن يدركك فرعون فإنّي أحول بينك و بينه بالتأخّر عنك أي غير خائف و لا خاش و في قوله «لا تَخْشى» مستأنفة كأنّه و أنت لا تخشى «لا» بمعنى النفييّة لا النهييّة. و قيل: بمعنى الناهية، فحينئذ الألف ليست الألف المنقلبة من لام الفعل بل زائد للإطلاق من أجل الفاصلة مثل «فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» (1) و مثل «وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» (2).

[فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ] و ألحق جنوده بهم و بعث بجنوده في أثرهم فأحاطهم و لحقهم ما لحقهم، و في البيان تهويل و تعظيم للواقعة مثل قول أبي النجم:

«أنا أبو النجم و شعري شعري»

أي تعلم شعري أيّ شعر. فهلك فرعون و قومه و نجا موسى و قومه فليعتبر المعتبرون.

[وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى] أي صرفهم عن الحقّ و ما هداهم إلى طريق

ص: 101


1- الأحزاب: 67.
2- الأحزاب: 10.

النجاة. قال القاضي: لو كان الضلال من خلق اللّه لما جاز أن يقول: «وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ» و إنّه تعالى ذمّه بذلك فكيف يجوز أن يكون خالقا للكفر؟ و إنّما قال: «وَ ما هَدى» بعد قوله «أَضَلَّ» ليتبيّن أنّه استمرّ على ذلك. و حذف المفعول لمكان رأس الآية، و إنّما قال سبحانه هذا الكلام تكذيبا لقول فرعون إذ كان يقول لقومه: «وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» (1).

قال ابن عبّاس: لمّا أمر اللّه موسى أن يقطع بقومه البحر و كان موسى و بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحليّ و الدوابّ لعيد يخرجون إليه فخرج بهم ليلا و هم ستّمائة ألف و ثلاثة آلاف و نيّف ليس فيهم ابن ستّين و لا عشرين، و قد كان يوسف عليه السّلام عهد إليهم عند موته بجسده أو بعظامه- على أنّ معنى العظام الجسد- معهم من مصر فلم يخرجوا بها فتحيّر القوم حتّى دلّتهم عجوز على الموضع فأخذوها فقال موسى للعجوز: احتكمي، فقالت: أكون معك في الجنّة.

و بالجملة و خرج فرعون في طلب موسى عليه السّلام و على مقدّمته ألف ألف و خمسمائة ألف سوى الجنبين و القلب فلمّا انتهى موسى إلى البحر قال: هاهنا أمرت ثمّ قال موسى للبحر: انفرق، فأبى فأوحى اللّه إليه: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق فقال لهم موسى:

ادخلوا فيه، فقالوا: كيف و أرضه رطبة؟ فدعا اللّه فهبت عليها الصبا فجفّت فقالوا: نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينهم كوى (2) حتّى يرى بعضهم بعضا ثمّ دخلوا حتّى جاوزوا البحر فأقبل فرعون إلى تلك الطرق فقال قومه له: إنّ موسى قد سحر البحر فصار كما ترى، و كان على فرس حصان و أقبل جبرئيل على رمكة في ثلاثة و ثلاثين من الملائكة فصار جبرئيل بين يدي فرعون و أبصر الحصان الرمكة فاقتحم بفرعون على أثرها و صاحت الملائكة في الناس: الحقوا الملك، حتّى إذا دخل آخرهم و كاد أوّلهم أن يخرج التقى البحر عليهم فغرقوا فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم فقالوا: يا موسى ما هذا؟ قال:

فأغرق اللّه فرعون و قومه فرجعوا لينظروا إليهم فقالوا: يا موسى ادع اللّه أن يخرجهم لناط.

ص: 102


1- المؤمن: 29.
2- جمع الكوة: الخرق في الحائط.

حتّى ننظر إليهم فدعا فلفظتهم البحر إلى الساحل و أصابوا من سلاحهم.

و ذكر ابن عبّاس أنّ جبرئيل قال: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو رأيتني و أنا أدسّ فرعون في الماء و الطين مخافة أن يتوب و سيأتي تمام القصّة في سورة الشعراء.

قوله تعالى: [يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ] فشرح اللّه نعمه بإزالة العدوّ عنهم أوّلا ثمّ ثنّى بذكر المنفعة الدينيّة لأنّه سبحانه أنزل عليهم كتابا فيه بيان دينهم و شرح شريعتهم ثمّ ثلّث بذكر المنفعة الدنيويّة بقوله:

[وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى] يعني في التيه [كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ] صورته صورة الأمر و المراد الإباحة كقوله: «وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» (1) [وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ] و لا تتعدّوا عن الحلال إلى الحرام و لا تتناولوا من الحلال للاستعانة به على المعصية فيجب عليكم عقوبتي [فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي] و من ضمّ الحاء فالمعنى: فينزل عليكم عقوبتي [وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى] و هلك و إنّما نسب إلى الطور جانب اليمين و ليس للجبل يمين و يسار فالمراد أنّ طور سيناء واقع عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام و كان موسى خارجا من مصر و قاصدا بلاد المقدّسة، و قرئ الأيمن بالكسر على جرّ الجارّ نحو جحر ضبّ خرب.

قوله تعالى: [سورة طه (20): آية 82]

وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)

اعلم أنّ اللّه وصف نفسه في القرآن بكونه غفّارا و غفورا و غافرا و عبّر عنه بلفظ الماضي و المستقبل و الأمر و المصدر. في هذه الآية «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ، إلخ» و المصدر قوله:

«غُفْرانَكَ رَبَّنا» (2) و المغفرة: «وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ» (3) و بصيغة الماضي قوله في حقّ داود: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ» (4) و بصيغة المستقبل: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ»* (5) و الاستغفار: «وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ

ص: 103


1- المائدة: 3.
2- البقرة: 286.
3- الرعد: 7.
4- ص: 25.
5- النساء: 47 و 115.

وَ الْمُؤْمِناتِ» (1) و في حقّ نوح: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» (2) و في الملائكة:

«وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» (3) و الأنبياء عليهم السّلام طلبوا المغفرة؛ أمّا آدم عليه السّلام فقال:

«وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» (4) و أمّا نوح فقال: «وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي» (5) و أمّا إبراهيم فقال: «وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (6) و أمّا يوسف فقال في إخوته: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ» (7) و أمّا موسى ففي قصّة القبطيّ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي» (8) و أمّا داود: «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ» (9) و أمّا سليمان: «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً» (10) و أمّا عيسى:

«وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (11) و أمّا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقوله: «وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» (12).

و بالجملة [وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ] و رجع عن الشرك و المعصية و آمن و صدّق بوحدانيّته و صدّق رسله و عمل صالحا و أدّى الفرائض [ثُمَّ اهْتَدى] أي أدام على الهدى و لزم الإيمان إلى أن يموت لا يكون يرجع بعد التوبة إلى المعصية و الشرك أي بشرط أن يبقى على هدايته بسبب التوبة و الإيمان و العمل، و المراد من الاهتداء الاستعانة على التوبة و الإيمان و يؤيّد هذا القول قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا»* (13) كأنّه قال تعالى الإتيان بالتوبة و الإيمان و العمل الصالح ممّا قد يتّفق لكلّ أحد إنّما الحكم و الصعوبة في المداومة على ذلك و الاستمرار عليه: فالأوّل الرجوع و الندم ثمّ الإذعان و التصديق بما جاء به النبيّ و ما أمر اللّه و هو الإيمان، و الثالث العمل بالفرائض حسب ما ورد من أعمال الجوارح، و الرابع البقاء على هذه الأمور الثلاثة

ص: 104


1- محمد: 19.
2- نوح: 10.
3- الشورى: 5.
4- الأعراف: 22.
5- هود: 47.
6- الشعراء: 82.
7- يوسف: 92.
8- الأعراف: 150.
9- ص: 26.
10- ص: 25.
11- المائدة: 121.
12- محمد: 19.
13- فصلت: 30. الأحقاف: 13.

و هذا الأخير من ما يتعلّق بتطهير القلب من الأخلاق الذميمة و هو المسمّى في لسان العرفاء بالطريقة؛ فبعد انكشاف حقايق الأشياء للسالك بسبب المداومة على هذه الطريقة فذلك الانكشاف يسمّى بلسان العرفاء الحقيقة.

و عن ابن عبّاس في تفسير قوله «ثُمَّ اهْتَدى» أي أخذ بسنّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يسلك سبيل البدعة، عن ابن عبّاس و الرّبيع بن أنس.

و قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: ثمّ اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت؛ فو اللّه لو أنّ رجلا عبد اللّه عمره ما بين الركن و المقام ثمّ مات و لم يجي ء بولايتنا لأكبّه اللّه في النار على وجهه. رواه الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ بإسناده و أورده العيّاشيّ في تفسيره عن عدّة طرق.

و في المجالس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لعليّ عليه السّلام في حديث: و لقد ضلّ من ضلّ عنك و لن يهتدي إلى اللّه من لم يهتد إليك و إلى ولايتك و هو قول ربّي عزّ و جلّ:

«وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» إلى ولايتك.

و في المناقب عن السجّاد عليه السّلام في هذه الآية «ثُمَّ اهْتَدى» قال: إلينا أهل البيت و في المحاسن عن الصادق عليه السّلام «ثُمَّ اهْتَدى» قال: إلى ولايتنا.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام قال- و هو مستقبل البيت-: إنّما امر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثمّ يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا و هو قول اللّه: «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى»- ثمّ أومأ بيده إلى صدره- إلى ولايتنا.

و العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام قال: لهذه الآية تفسير يدلّ ذلك على أنّ اللّه لا يقبل من أحد عملا إلّا ممّن لقيه منه بالوفاء بذلك التفسير و ما اشترط منه على المؤمنين.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: إنّكم لا تكونون صالحين حتّى تعرفوا و لا تعرفون حتّى تصدّقوا و لا تصدّقون حتّى تسلّموا أبوابا أربعة لا يصلح أوّلها إلّا بآخرها ضلّ أصحاب الثلاثة و تاهوا تيها عظيما إنّ اللّه لا يقبل إلّا العمل الصالح و لا يقبل اللّه إلّا بالوفاء بالشرط و العهد فمن و في اللّه بشرطه و عهده و استعمل ما وصف في عهده نال ما عنده و استكمل وعده إنّ اللّه أخبر العباد بطرق الهدى و شرع لهم فيها المنار و أخبرهم كيف

ص: 105

يسلكون فقال: «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» و قال: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (1) فمن اتّقى اللّه فيما أمره لقى اللّه مؤمنا بما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هيهات هيهات! فات قوم و ماتوا قبل أن يهتدوا و ظنّوا أنّهم آمنوا و أشركوا من حيث لا يعلمون إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى و من أخذ في غيرها سلك طريق الردى وصل اللّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله و طاعة رسوله بطاعته فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللّه و لا رسوله و هو الإقرار بما نزل من عند اللّه.

قال الفيض قدس سرّه: المراد بالأبواب الأربعة في الحديث الترتيب في الآية:

التوبة من الشرك، و الإيمان بالوحدانيّة، و العمل الصالح و الاهتداء إلى الحجج الاثني عشر عليهم السّلام و أصحاب الثلاثة إشارة إلى من جمع الثلاثة من التوبة و الإيمان و العمل و لم يأت بالرابع إذ هي كلّها شروط للمغفرة. انتهى.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 83 الى 86]

وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)

المعنى: اعلم أنّ في قوله تعالى: «وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى» دلالة على أنّه قد تقدّم موسى قومه في المسير إلى المكان الموعود الّذي نبّه عليه في قوله: «وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» في هذه السورة و في سائر السور كقوله: «وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» (2) يريد الميقات عند الطور.

قال ابن إسحاق: كانت المواعدة أن يوافي الميعاد هو و قومه أو المختارون من وجوه قومه فعجل موسى من بينهم شوقا إلى ربّه و خلّفهم ليلحقوا به فقيل له: [ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى] و بأيّ سبب خلّفت قومك و سبقتهم و جئت وحدك؟

قال موسى في الجواب: [هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي] و من ورائي يدركونني عن قريب

ص: 106


1- المائدة: 3.
2- الأعراف: 141.

ما تقدّمتهم إلّا بخطي يسيرة. و قيل: المعنى هم ينتظرون من بعدي ما الّذي آتيهم به، و ليس يريد أنّهم يتبعونه و لمّا كان السؤال عن سبب التقدّم و نفس العجلة فقال: ليس بيني و بينهم إلّا تقدّم يسير، ثمّ عقّبه بجواب للسؤال عن العجلة فقال: [وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى].

و اختلفوا في المراد بالقوم فقال بعضهم: هم النقباء السبعون الّذين قد اختارهم اللّه ليخرجوا معه إلى الطور فتقدّمهم موسى عليه السّلام شوقا إلى ربّه. و قال آخرون: إنّ القوم جملة بني إسرائيل و هم الّذين خلّفهم موسى عليه السّلام مع هارون عليه السّلام فيهم خليفة له إلى أن يرجع هو مع السبعين فقال: «هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي» و قريبون منّي ينتظرونني و إنّ المسارعة إلى امتثال أمر موجبة لمرضاتك.

و في مصباح الشريعة عن الصادق عليه السّلام قال: المشتاق لا يشتهي طعاما و لا يلتذّ شرابا و لا يستطيب رقادا و لا يأنس حميما و لا يأوي دارا و لا يسكن عمرانا و لا يلبس لباسا و لا يقرّ قرارا و يعبد اللّه ليلا و نهارا إلى أن يصل إلى ما يشتاق إليه و يناجيه بلسان شوقه معبّرا عمّا في سريرته كما أخبر اللّه عن موسى في ميعاد ربّه بقوله «عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى»، و فسرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن حاله أنّه ما أكل و لا شرب و لا نام و لا اشتهى شيئا من ذلك في ذهابه و مجيئه أربعين يوما (1) شوقا إلى ربّه.

قوله تعالى: [قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ] أي امتحنّاهم و شدّدنا عليهم التكليف بما حدث فيهم من أمر العجل فألزمناهم بالحجّة و النظر ليعلموا أنّ العجل ليس بإله من بعد انطلاقك، و السامريّ دعاهم إلى الضلال فقبلوا منه فأضاف الضلال إلى السامريّ و الفتنة إلى نفسه ليدلّ سبحانه على أنّ الفتنة غير الضلال. و معنى الامتحان ذكرناه مرارا أي عاملناهم معاملة المختبر المبتلي ليظهر لهم و لغيرهم من الخلق المنافق منهم و المخلص ليترتّب الجزاء.

قالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون المراد أنّ اللّه خلق فيهم الكفر لوجهين:م.

ص: 107


1- هذا بعيد و لم نظفر عليه، نعم في البحار ج 5 في أحواله عليه السلام انه لم يأكل شيئا ثلاثة ايام.

الاول الدلائل العقليّة الدالّة على أنّه لا يجوز من اللّه أن يفعل ذلك لأنّه ظلم إذا عذّبهم بعد خلق الكفر فيهم.

الثاني أنّه تعالى قال: «وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» و لو كان اللّه خلق الضلال فيهم لم يكن لفعل السامريّ فيه أثر و كان يبطل قوله: «وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» و أيضا فلأنّ موسى لمّا طالبهم بذكر سبب الفتنة قال: «أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ» فلو حصل ذلك بخلق اللّه لكان لهم أن يقولوا: السبب فيه أنّ اللّه خلقه فينا لا ما ذكرت فكان يبطل تقسيم موسى، و أيضا فقال: «أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ» و لو كان ذلك بخلقه لاستحال أن يغضب عليهم فيما هو الخالق له.

قال ابن عبّاس و سعيد بن جبير: كان السامريّ علجا من أهل كرمان وقع إلى مصر و كان من قوم يعبدون البقر. و الأكثرون أنّه من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة. و قيل: كان من القبط جارا لموسى و قد آمن به. و الّذين خلّفهم موسى مع هارون و أضلّهم السامريّ على ساحل البحر ستّمائة ألف افتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا و إنّ الجماعة أقاموا بعد مفارقة موسى عشرين ليلة و حسبوها أربعين مع أيّامها و قالوا: قد أكملنا العدّة و السامريّ شرع في تدبير الأمر لمّا غاب موسى و عزم على إضلالهم.

فلمّا استخبر موسى بالفتنة رجع إلى قومه من الميقات حزينا شديد الغضب متلهّفا على ما فاته لأنّه خشي أن لا يمكنه تدارك الأمر قال: يا بني إسرائيل [أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً] و هو إيتاء التوراة لتعلموا و تعملوا، أو المراد النجاة من فرعون و قومه و المغفرة لمن تاب و تمسّك بالدين [أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ] حتّى قست قلوبكم بسبب زيادة العشرة [أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ] فهذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر؛ لأنّ ليس أحد يريد ذلك لكن مريد السبب مريد للمسبّب بالعرض.

و احتجّ العلماء بأنّ الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات و لذا فرّقوا بين الغيظ و الغضب و أنّ اللّه لا يوصف بالغيظ و يوصف بالغضب لأنّ الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه و الغيظ تغيّر يلحق المغتاظ و ذلك لا يصحّ إلّا على الأجسام كالضحك

ص: 108

و البكاء تعالى اللّه عن ذلك.

قوله تعالى: [فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي] أي تخلّفتم ما وعدتموه لي من حسن الخلافة بعدي بمفارقتي إيّاكم و هو أنّه أمرهم أن يتمسّكوا بطريقة هارون و طاعته إلى أن يرجع، و يؤيّد هذا المعنى قوله: «بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي» (1).

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 87 الى 96]

قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (89) وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91)

قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)

قرئ الملك بضمّ الميم و بكسرها و معناه واحد و قرئ بفتح الميم.

المعنى: قيل: قال الّذين عبدوا العجل. و قيل: قال الّذين لم يعبدوا العجل، و كانوا اثني عشر ألفا: [ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ] و كانوا و عدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور أي ما أخلفنا موعدك [بِمَلْكِنا] أي بأمر كنّا نملكه إنّ الشبهة قويت على عبدة العجل فلم نقدر على منعهم عنه لكثرتهم و قلّتنا لأنّ عبدة العجل كانوا ستّمائة ألف رجل. و من قرأ بضمّ الميم و الكسر فمعناه بسلطاننا و قدرتنا و بفتح الميم بمعنى أمرنا و ما كان ملاك الأمر في يدنا للرهبة منهم لكثرتهم و قلّتنا و لم نقدر أيضا على مخالفتهم لأنّا خفنا أن يصير ذلك سببا لوقوع التفرقة و زيادة الفتنة.

ثمّ فسّروا السبب الموجب لهذا الأمر فقالوا: [وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ] أي حملنا أثقالا من حليّ آل فرعون، و قرئ حملنا مخفّفة فمعناه حملنا مع أنفسنا ما استعرناه.

ص: 109


1- الأعراف: 149.

و بالتشديد أي حملنا أثاثا من حليّ القوم لأنّهم استعاروا حليّا من القبط ليتزيّنوا بها في عيد كان لهم ثمّ لم يردّوها عليهم عند الخروج من مصر مخافة أن يعلموا بخروجهم فحملوها و كان ذلك ذنبا منهم إذ كانوا مستأمنين فيما بينهم. و قيل: إنّهم كانوا في حكم الإسراء فيما بينهم و كان يحلّ لهم أخذ أموالهم. فعلى هذا لا يمكن حمله على الإثم.

و قيل: إنّ هذه الحليّ هي ما ألقاه البحر على الساحل من ذهبهم و فضّتهم و حليّهم بعد إغراق فرعون فأخذوها و لهذا كانت أثقالا. و قيل: إنّ موسى أمرهم باستعارة الحليّ و الخروج بها فكأنّه ألزمهم ذلك و إنّها لكثرتها كانت أثقالا. و قيل: سمّيت أثقالا لأنّ المغانم كانت عليهم محرّمة فكان يجب عليهم حفظها من غير فائدة فكانت أثقالا.

و روي أنّ هارون عليه السّلام قال: إنّها نجسة فتطهّروا منها. و قيل: إنّ ذلك الحليّ كان القبط يتزيّنون به في مجامع لهم يجري فيها الكفر لا جرم و صفت بكونها أوزارا.

[فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ] أي فقذفنا الحليّ في النار رجاء للخلاص عن تبعتها و ذنبها فألقى السامريّ مثل ما قذفنا ما معه منها يوهم لهم أنّه فعل مثل ما فعلوا و إنّما كان الّذي ألقى هي التربة الّتي أخذها من أثر الرسول جبرئيل.

و سبب إلقاء الحليّ في النار لأنّ السامريّ قال لهم: إنّما تأخّر موسى عنكم لما معكم من الأوزار فالرأي أن نحفر حفيرة و نسجر فيها نارا و نقذف فيها كلّ ما معنا، ففعلوا و فعل السامريّ مثلهم بزعمهم. و قيل: إنّ بني إسرائيل أمرهم هارون أن يحفروا حفيرة و يجمعوا الحليّ فيها إلى أن يرجع موسى فما أمرهم به فعلوا فغرّهم السامريّ بهذه الحيلة لمّا كان هو يعبد العجل سرّا و يظهر الإيمان فلمّا عبر بنو إسرائيل البحر و رأوا قوما يعبدون التماثيل عجبهم هذه العبادة فانتهز السامريّ حينئذ الفرصة و غرّهم بهذه الحيلة.

أمّا قوله: [فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ] أي أخرج لهم من ذلك عجلا جسيما أي من تلك الحليّ المذابة صورة عجل لها منافذ و مناخر بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل، هذا قول أكثر المفسّرين.

ص: 110

و قال بعضهم: كان ذلك الجسد حيّا و خار كما يخور العجل و احتجّوا بقوله:

«فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ» و لو لم يصر حيّا لما كان لهذا الكلام فائدة. و احتجّوا أيضا أنّه تعالى سمّاه عجلا و العجل حقيقة في الحيوان.

و قال منكر و الحياة: إنّه لا يجوز إظهار مثل هذا الأمر و خرق العادة على يد الضالّ مثل السامريّ إذ الحياة ليست من فعله بل فعل فعل اللّه و ليست الحياة كالسحر و التمويهات و إنّ للحياة حقيقة و لا يقدر عليها أحد إلّا اللّه.

و أجاب المثبتون بأنّ ظهور خوارق العادة على يد مدّعي الإلهيّة جائز لأنّه لا يحصل الالتباس مع النظر و هاهنا كذلك فلا يمتنع وقوعه. و قيل: ما كان حيّا إلّا أنّ هارون مرّ بالسامريّ و هو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ فقال السامريّ: أصنع ما ينفع و لا يضرّ فادع لي، فقال: هارون اللّهم أعطه ما سأل؛ فلمّا مضى هارون قال السامريّ: اللّهم إنّي أسألك أن يخور فخار. روى عكرمة عن ابن عبّاس.

قوله تعالى: [فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى] أي فقال السامريّ و من تبعه من السفلة و العوامّ: هذا العجل معبود كم و معبود موسى. فلو قيل: إنّ القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أنّ ذلك العجل المعمول في تلك الساعة حضورا بالمرأى منهم هو الخالق للسماوات و الأرض فهم مجانين و ليسوا بمكلّفين و إنّ مثل هذا الجنون على مثل ذلك الجمع العظيم محال فكيف قالوا: «هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى» و اعتقدوا هذا الأمر الفاسد، فالسبب أنّهم كانوا من الحلوليّة و هم يجوّزون حلول الإله أو حلول صفة من صفاته في الجسم على أنّهم كانوا في نهاية البلادة و الجلافة.

قوله: [فَنَسِيَ] فيه قولان:

أحدهما أنّه قول السامريّ و من تبعه أي نسي موسى أن يقول لكم: إنّه الإله.

و قيل: المعنى قال السامريّ: فنسي و أخطأ موسى و ترك إلهه هنا و خرج يطلبه.

و القول الثاني: أنّه من قول اللّه أي فنسي السامريّ، و معنى النسيان الترك أي ترك الإيمان الّذي بعث اللّه به موسى و نسي الاستدلال على حدوث العجل و ترك

ص: 111

هذا الأصل الأصيل: إنّ الحادث لا يجوز أن يكون إلها.

ثمّ احتجّ سبحانه عليهم أي على عبدة العجل فقال: [أَ فَلا يَرَوْنَ] و يبصرون أنّ العجل الّذي اتّخذوه إلها لا يردّ عليهم جوابا و لا يقدر أن يضرّ و ينفع و وجوده لا حاء و لا ساء و من كان بهذه الصفة كيف يعقل أن يكون إلها؟ قال بعض المفسّرين: لمّا مضى من موعد موسى خمسة و ثلاثون يوما أمر السامريّ بني إسرائيل أن يجتمعوا و صاغ ما استعاروه من حليّ آل فرعون كما ذكرنا سابقا و صاغه عجلا في السادس و الثلاثين و السابع و الثامن و دعاهم إلى عبادته في التاسع فأجابوه و جاءهم موسى بعد استكمال الأربعين.

[وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ] عود موسى من الطور: [يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ] بالعجل و ضللتم بسببه و وقعتم في الفتنة فاعلموا أنّ إلهكم اللّه الواحد [وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي] في عبادة اللّه و لا تطيعوا السامريّ في عبادة العجل.

و إنّما قال ذلك شفقة على نفسه و على الخلق أمّا شفقته على نفسه فلأنّه كان مأمورا من عند اللّه عموما و خصوصا بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أمّا عموما فواضح و أمّا خصوصا لأنّه كان نبيّا و خليفة موسى فلو لم يشتغل بهذا العمل لكان مخالفا لأمر اللّه و متخلّفا عن أمر موسى حين قال له: اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبّع سبيل المفسدين، و ذلك ما كان يجوز له أما سمعت أنّ اللّه أوحى الى يوشع بن نون: إنّي مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم و ستّين ألفا من شرارهم فقال يوشع: يا ربّ هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فقال اللّه: إنّهم لم يغضبوا لغضبي.

قال ثابت البنانيّ عن أنس بن مالك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أصبح و همّه غير اللّه فليس من اللّه في شي ء و من أصبح لا يهتمّ بالمسلمين فليس منهم. و عن طرق العامّة قال الشعبيّ عن النعمان بن بشير عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مثل المؤمنين في تواددهم و تراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى.

و قال أبو عليّ الحسن الغوريّ: كنت في بعض المواضع فرأيت زورقا فيها دنان مكتوب عليها لطيف فقلت للملّاح: إيش هذا؟ فقال: أنت صوفيّ فضوليّ و هذه خمور

ص: 112

المعتضد فقلت له: أعطني ذلك المدرى فقال لغلامه: أعطه حتّى نبصر إيش يعمل فأخذت المدرى و صعدت الزورق فكنت أكسر دنّا دنّا و الملّاح يصيح حتّى بقي واحدة فأمسكت فجاء صاحب السفينة فأخذني و حملني إلى المعتضد و كان سيفه قبل كلامه فلمّا وقع بصره عليّ قال: من أنت؟ قلت: المحتسب، قال: من ولّاك الحسبة؟ قلت: الّذي ولّاك الخلافة! قال:

لم كسرت هذه الدنان؟ قلت: شفقة عليك إذ لم تصل يدي إلى دفع مكروه عنك، قال: فلم أبقيت واحدة منها؟ قلت: إنّي لمّا كسرت هذه الدنان فإنّي كسرتها حميّة في دين اللّه فلمّا وصلت إلى هذا أعجبت فأمسكت و لو بقيت كما كنت لكسرته، فقال: اخرج يا شيخ فقد ولّيتك الحسبة، فقلت: كنت أفعله للّه تعالى فلا احبّ أن أكون شرطيّا. و أمّا الشفقة على المسلمين فلأنّ الإنسان يجب أن يكون رقيق القلب مشفقا على أبناء جنسه و أيّ شفقة أعظم من أن يرى جمعا يتهافتون على النار فيمنعهم منها؟

و عن أبي سعيد الخدريّ عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول اللّه تعالى: اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإنّي جعلت فيهم رحمتي و لا تطلبوها في القاسية قلوبهم فإنّ فيهم غضبي.

و روي أنّه بينا رسول اللّه جالس و معه أصحابه إذ نظر إلى شابّ على باب المسجد فقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا، فسمع الشابّ ذلك فولّى و قال: إلهي و سيّدي هذا رسولك يشهد عليّ بأنّي من أهل النار و أنا أعلم أنّه صادق فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تشعلني بالنار حتّى تبرّ يمينه و لا تشعل النار بأحد آخر فهبط جبرئيل عليه السّلام و قال: يا محمّد بشّر الشابّ بأنّي أنقذته من النار بتصديقه لك و فدائه نفسه لأمّتك و لشفقته على الخلق.

و بالجملة إنّ هارون لمّا رأى أنّ الناس متهافتين على النار لم يبال بكثرتهم و أمر بمعروف دينه و صرّح الحقّ بقوله: «يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بالعجل» ثمّ دعاهم إلى معرفة اللّه ثانيا بقوله «وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ» ثمّ دعاهم ثالثا بمعرفة النبوّة بقوله «فَاتَّبِعُونِي» ثمّ دعاهم رابعا إلى الشرائع بقوله: «وَ أَطِيعُوا أَمْرِي» و هذا هو الترتيب الجيّد لأنّه قبل كلّ شي ء لا بدّ من إماطة الأذى و القاذورات عن الطريق و دفع الشبهات ثمّ معرفة اللّه

ص: 113

فانّها هي الأصل ثمّ النبوّة ثمّ الشريعة و إنّما قال: «إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ» و خصّ هذا الموضع باسم الرحمن لأنّه كان ينبئهم بأنّهم إن تابوا قبل اللّه توبتهم.

ثمّ إنّهم لجهلهم قابلوا هذا الترتيب الحسن بهذا الكلام الركيك الّذي ينبئ عن التقليد و الجحود [ف قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى] فقالوا: نستديم على عبادة العجل إلى أن يأتي موسى.

قوله تعالى: [قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ] و لا زائده [أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي].

و اعلم أنّ الطاعنين في عصمة الأنبياء خذلهم اللّه انتهزوا فرصة في ظاهر الآية و جالوا في الكلام و قالوا: إنّ موسى إمّا أن يكون قد أمر هارون باتّباعه أولم يأمره فإن أمر به فإمّا أن يكون هارون قد اتّبعه أولم يتّبعه فإن اتّبعه كانت ملامة موسى لهارون معصية و إن لم يتّبعه كان هارون تاركا للواجب فكان منه معصية و أيضا إنّ هارون قال: لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي فإن كان الأخذ بلحيته و برأسه جائزا كان قول هارون عليه السّلام: «لا تَأْخُذْ» منعا له عمّا كان له أن يفعله فيكون ذلك معصية من هارون عليه السّلام و إن لم يكن ذلك الأخذ جائزا كان موسى عليه السّلام فاعلا للمعصية. هذه مناقشات الطاعنين في العصمة.

و الجواب عن الكلّ قد ذكر في سورة البقرة في قوله: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها» (1) و أنّه لا يجوز صدور المعصية من الأنبياء ببراهين ثابتة و اصول محكمة و دلائل منفصلة الّتي توجب التأويل في ظاهر الآية و معارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز. إذا ثبتت هذه المقدّمة:

فالجواب عن هذه المناقشات وجوه و هو أنّه بتقدير ما أوردتموه لا يوجب صدور المعصية منهما بل يحصل ترك الأولى منهما أو من أحدهما لأنّ الفعل الّذي فعله أحدهما و منعه الآخر أعني موسى و هارون عليه السّلام كان أحدهما أولى و الآخر ترك الأولى بل يمكن أن لا يكون أيضا ترك أولى منها مثلا في قول موسى لهارون عليه السّلام: «ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ

ص: 114


1- الآية 36.

ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي» يجوز أن يكون موسى عليه السّلام أمر هارون عليه السّلام باللحاق به بشرط المصلحة و رأى هارون عليه السّلام الإقامة أصلح. و الشاهد يرى مالا يراه الغائب كما أنّه بيّن هارون عذره في عدم اللحاق بموسى و الإقامة معهم بقوله: [إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ] و يمكن أن يكون لم يأمره موسى بذلك و إنّما أمره بأن يتّبعه أي يجاهد مع القوم و يزجرهم فخاف من استتباع القتال و الجدال من التفريق الّذي لا يرجى بعده الاجتماع فلذلك استأنيتك و داريت معهم إلى أن ترجع إليهم لتكون أنت المتدارك للأمر حسب ما رأيت لا سيّما و القوم في غاية القوّة و نحن على الضعف كما يعرب عن هذا المعنى: «إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي».

و إنّما خصّ هارون عليه السّلام باللّائمة لأنّ موسى خلّف هارون عليه السّلام فخصّه بالعتاب و اللوم تشديدا للقوم و بيانا لقبح ما ارتكبوا و أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على لحيته و كان وقوع هذا الأمر من جرّ الرأس و الأخذ باللحية من شدّة تصلّبه في دين اللّه فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون اللّه من بعد ما رأوا الآيات العظام أن ألقى التوراة لمّا غلب على ذهنه هذا الأمر الشنيع و الدهشة العظيمة حميّة على دين اللّه و لذا أقبل على أخيه بهذا النوع من استنكار فعل القوم و هذه الأمور كلّها غير قبيحة بل حسنة.

و قد قيل: إنّ موسى لمّا رجع من الميقات و أتى بالتوراة و رأى ما وقع من فعل السامريّ أخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحّص عن كيفيّة الواقعة فخاف هارون عليه السّلام أن يسبق إلى قلوب بني إسرائيل مالا أصل له فقال إشفاقا على موسى عليه السّلام: لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي لئلّا يظنّ القوم ما لا يليق بك لأنّ بعض بني إسرائيل كانوا يزعمون أنّ موسى عليه السّلام يكره هارون عليه السّلام كما اتّهموه في فوت هارون عليه السّلام و قالوا: إنّ موسى عليه السّلام قتله.

و بالجملة لمّا ظهرت معاذير هارون عليه السّلام و براءة ساحته أقبل موسى عليه السّلام على السامريّ [قال] له: [فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ] و ما شأنك و ما دعاك إلى ما صنعت و ما

ص: 115

حملك عليه؟ [قالَ] السامريّ: [بَصُرْتُ] أمرا لم يروه [فَقَبَضْتُ قَبْضَةً] من تراب [مِنْ أَثَرِ] قدم حافر دابّة جبرئيل [فَنَبَذْتُها] و «قبضة» قرئ بضمّ القاف و هي اسم للمقبوض من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير و قرئ «قبصة» بالصاد المهملة و الفرق في المعنى أنّ الضاد بجميع الكفّ و الصاد المهملة بأطراف الأصابع.

و اختلفوا أنّه متى رأى موضع حافر دابّته فقال الأكثرون: إنّما رآه يوم فلق البحر. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ جبرئيل لمّا نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامريّ من بين النّاس.

و أمّا كيف اختصّ هذا اللعين بالرؤية من بين سائر النّاس فقال ابن عبّاس في رواية الكلبيّ: إنّما عرف جبرئيل لأنّه رآه في صغره و حفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل فكانت المرأة تلد و تطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فيأخذ الملائكة الولدان فيربّونهم حتّى يترعرعوا و يختلطوا بالنّاس فكان السامريّ ممّن أخذه جبرئيل و جعل كفّ نفسه في فيه و ارتضع منه العسل و اللبن فلم يزل يختلف إليه حتّى عرفه فلمّا رآه عرفه، قال ابن جريح: فعلى هذا قوله: «بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ». و من فسّر الكلمة بالعلم فهو أيضا صحيح في هذا المعنى. و روي أنّ موسى عليه السّلام همّ بقتل السامريّ فأوحى اللّه إليه: لا تقتله يا موسى فإنّه سخيّ.

و لمّا أوحى اللّه إلى موسى عليه السّلام بقوله: «قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ» فقال موسى عليه السّلام:

يا ربّ العجل من السامريّ فالخوار ممّن؟ فقال: منّي يا موسى إنّي لمّا رأيتهم قد ولّوا منّي إلى العجل استحقّوا أن أزيدهم فتنة.

و قال أبو مسلم الإصبهانيّ: ليس في القرآن تصريح لهذا الّذي ذكره المفسّرون فههنا وجه آخر و هو أن يكون المراد بالرسول موسى و بأثره سنّته فيكون المعنى أن يكون السامريّ قال: عرفت أنّ الّذي أنتم عليه ليس بحقّ فأخذت شيئا من سنّتك و قذفته و طرحته.

و الحقّ أنّ هذا المعنى ركيك جدّا لأنّ السنّة و الدين ليس شي ء يقبض باليد و يقذف في النّار.

ص: 116

و بالجملة فقال السامريّ: [وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي] أي كما أخبرتك زيّنت لي نفسي بهذه الأمور الّتي فعلتها.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 97 الى 107]

قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101)

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106)

لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً (107)

المعنى: لمّا سمع موسى عليه السّلام هذا الكلام من السامريّ أجابه: [فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ] و مادمت حيّا في الدنيا قيل: معناه أنّه عليه السّلام أمر الناس بأمر اللّه أن لا يخالطوه و لا يجالسوه تضييقا عليه و المعنى: أن تقول: لا أمسّ و لا امسّ مادمت حيّا، و المساس فعال من المماسّة أي لا يمسّ بعضنا بعضا فصار السامريّ مقيم في البرّيّة مع الوحش لا يمسّ أحدا و لا يمسّه أحد؛ عاقبه اللّه بذلك و كان إذا لقي أحدا يقول: لا مساس أي لا تقربني و لا تمسّني و لو مسّه أحد أو أحدا منهم أي من أولاده حمّ كلاهما في الوقت. و قيل: معناه أنّ السامريّ خاف و هرب في البرّيّة و لا يجد أحدا من النّاس يمسّه حتّى صار في البعد عن الناس كالقائل: لا مساس. و قيل: إذا مسّه أحدهم حمّ الماسّ و الممسوس فكان إذا أراد أن يمسّه أحد صاح: لا مساس خوفا من الحمّى و بالجملة خرج طربدا إلى البراريّ هو و أهله هذا شرح حاله في الدنيا.

و أمّا في الآخرة قوله: [وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ] و الموعد بمعنى الوعد أي هذه عقوبتك في الدنيا و لك الوعد بالمصير إلى عذاب الآخرة فأنت ممّن خسر الدنيا و الآخرة و لن يتأخّر عنك و لن تتخلّف عنه.

ص: 117

[وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي] صنعته و [ظَلْتَ عَلَيْهِ] بكسر الظاء و فتحها و أصله ظللت فحذفت اللّام الاولى و كذا الحكم في المضاعف تقول: مست و مسست، أي انظر إلى معبودك الّذي كنت تعبده مقيما يعني العجل [لَنُحَرِّقَنَّهُ] بالنار [ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ] أي لنذرينّه كالذرّة ننشره في البحر.

و في قوله «لَنُحَرِّقَنَّهُ» و جهان. المراد إحراقه و هذا آخر ما يدلّ على أنّه صار حيوانا و لحما و دما لأنّ الذهب لا يمكن إحراقه بالنار قال السدّيّ: أمر موسى بذبح العجل فذبح فسال منه الدم ثمّ احرق ثمّ نسف رماده. و القول الثاني أنّ المراد من الحرق البرد أي لنبرّدنّه بالمبرد ففعل و ذراه في البحر و عاد إلى بيان الدين الحقّ فقال:

[إِنَّما إِلهُكُمُ] المستحقّ للعبادة [اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً] و يعلم من يعبده و لا يعبده و يعلم كلّ شي ء علما.

ثمّ قال عزّ و جلّ لنبيّه [كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ] أي مثل ما قصصنا عليك يا محمّد من نبأ موسى و قومه نقصّ عليك من أخبار ما قد مضى من الأمم و الأمور تبصرة لك و للمتبصّرين من امّتك [وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً] أي القرآن لأنّ فيه ذكر كلّ ما تحتاج إليه من امور الدّين.

ثمّ أوعد على من أعرض من هذا الذكر بأنّه [يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ] حملا ثقيلا من الإثم [خالِدِينَ] في ذلك الوزر و عذابه و جزائه و هم مخلّدون في النار بسبب ذلك الوزر.

و يمكن أن يكون ذلك الوزر ينقلب بالنار و بئس الحمل أي بئس المحمول هذا الحمل لهم يوم القيامة و ساء ما حملوا على أنفسهم من الإثم و هو كفرهم بالقرآن.

و ذكر في تسمية القرآن بالذكر وجوه: الأوّل أنّه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم و دنياهم. و الثاني يذكر أنواع آلاء اللّه و فيه التذكير و المواعظ و فيه الذكر و الشرف لك و للمؤمنين.

قوله: [يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ] بدل من يوم القيامة و قرئ ننفخ بصيغة المتكلّم و نحشر، و قرئ «الصور» بفتح الواو جمع الصورة فحينئذ النفخ الروح و القراءة المشهورة في الصور و هو قرن ينفخ فيه يدعى به النّاس المحشر للحضور و المراد من هذا

ص: 118

النفخ هو النفخة الثانية لأنّه يقول بعد ذلك:

[وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً] أي زرق العيون سود الوجوه و هي زرقة تتشوّه خلقتهم، و الزرقة الخضرة تكون في سواد العين كعين السنّور، و المعنى تشويه الخلقة. و قيل: معناه عطاشا يظهر في عيونهم كالزرقة. و قيل: المراد من الزرقة العمى أي يخرجون بصراء في أوّل مرّة ثمّ يعمون و يذهب سواد العين و تزرق العين. أو المراد بالزرقة شخوص أبصارهم.

و يمكن كلّها لأنّ مواقف القيامة كثيرة. و قيل: المراد من المجرمين يتناول الكفّار و العصاة فيدلّ على عدم العفو عن العصاة و قال ابن عبّاس: يريد بالمجرمين الّذين اتّخذوا مع اللّه إلها آخر، و القول الأوّل قول المعتزلة و يقولون: الآية تدلّ على عدم العفو عن العصاة.

قوله: [يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً] أي يتسارّون و إنّما يتسارّون لأنّه امتلأت صدورهم من الرعب و الهول أو لأنّهم بسبب الخوف صاروا في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر إن لبثتم في الدنيا أو في القبر ما لبثتم إلّا عشر ليال أو عشر ساعات قال ابن عبّاس:

المراد من النفخة الاولى إلى الثانية و ذلك أنّه يكفّ عنهم العذاب في ما بين النفختين و هو أربعون سنة.

ثمّ قال سبحانه: [نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ] و يتسارّون بعضهم بعضا [إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً] أي أوفرهم عقلا و أصلحهم رأيا و فهما: [إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً] و إنّما قال ذلك لأنّ اليوم الواحد و العشرة إذا قوبلا بيوم القيامة و ما بعدها كان اليوم الواحد أقرب إليه و هو كقوله: «لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» (1).

قوله: [وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ] أي يسألونك منكر و البعث عند ذكر القيامة عن الجبال ما حالها [فَقُلْ] يا محمّد: [يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً] أي يجعلها اللّه ربّي بمنزلة الرمل ثمّ يرسل عليها الرياح فتذريها كتذرية الطعام من القشور و التراب فلا يبقى على وجه الأرض منها شي ء و يصيّرها كالهباء فيدع أماكنها من الأرض [قاعاً] ملساء منكشفة [صَفْصَفاً] أي مستوية ليس للجبل فيها أثر، و قيل: القاع و الصفصف بمعنى واحد و هو المستوي الّذي لا نبات فيه.

ص: 119


1- النازعات: 46.

[لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً] أي ليس فيها منخفض و لا مرتفع و العوج ما انخفض من الأرض و الأمت ما ارتفع من الروابي. و هذه الآية ردّ لشبهة جالينوس في أنّ السماوات لا تفنى قال: لأنّها لو فنيت لابتدأت بالنقصان فحينئذ تقرير الجواب أنّ بطلانها قد يكون بطلانا توليديّا فحينئذ يجب تقديم النقصان على البطلان و قد يكون بطلانا يقع دفعة واحدة و على هذه الصورة لا يجب تقديم النقصان على البطلان فأجاب سبحانه عن هذه الشبهة أنّه سبحانه يفرّق هذه التركيبات دفعة واحدة.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 108 الى 115]

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً (112)

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)

المعنى: [يَوْمَئِذٍ] ظرف ليتّبعون ثمّ وصف سبحانه القيامة فقال: يوم القيامة [يَتَّبِعُونَ] صوت داعي اللّه الّذي ينفخ في الصور و هو إسرافيل [لا عِوَجَ لَهُ] أي لدعاء الداعي و لا يعدل عن أحد بل يحشرهم جميعا و لا عوج و ميل لهم عن دعائه أي لا يعدلون و لا يميلون عن ندائه و يتّبعونه سراعا و لا يلتفتون يمينا و لا شمالا.

[وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ] لعظمة [لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً] و هو صوت الأقدام أي لا تسمع من صوت أقدامهم إلّا صوتا خفيّا كما تسمع من وطء الإبل.

[يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا] أي لا تنفع ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره إلّا شفاعة من أذن اللّه له في أن يشفع [وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا] فيها من الأنبياء و الأولياء و الصلحاء و الصدّيقين و الشهداء.

ص: 120

القميّ عن الباقر عليه السّلام: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الناس في صعيد واحد حفاة عراة متوقّفون في المحشر حتّى يعرقوا عرقا شديدا و تشدّ أنفاسهم فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عاما و هو قول اللّه تعالى: «وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً».

قال: ثمّ ينادي مناد من تلقاء العرش: أين النبيّ الأمّيّ فيقول الناس: قد أسمعت فسمّ باسمه فينادي أين نبيّ الرحمة أين محمّد بن عبد اللّه؟ فيتقدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمام الناس كلّهم حتّى ينتهي إلى حوض طوله ما بين أيلة و صنعاء فيقف عليه فينادي صاحبكم فيتقدّم عليّ عليه السّلام أمام الناس فيقف معه ثمّ يؤذن للناس فيمرّون فبين وارد الحوض و بين مصروف عنه يومئذ فإذا رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من يصرف عنه من محبّينا بكى فيبعث اللّه ملكا إليه فيقول: ما يبكيك يا محمّد؟ فيقول: يا ربّ شيعة عليّ أراهم قد صرفوا تلقاء أصحاب النار و منعوا ورود الحوض، فيقول له الملك: إنّ اللّه يقول: يا محمّد إنّ شيعة عليّ قد و هبتهم لك يا محمّد و صفحت لهم عن ذنوبهم بحبّهم لك و لعترتك و ألحقتهم بك و بمن كانوا يقولون به و جعلنا هم في زمرتك فأوردهم حوضك قال أبو جعفر عليه السّلام: فكم من باك يومئذ و باكية ينادون: يا محمّداه إذا رأوا ذلك و لا يبقى أحد يومئذ يتولّانا و يحبّنا و يتبرّأ من عدوّنا و يبغضهم إلّا و معنا و يرد حوضنا.

و في قوله «لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ» قيل: المعنى لا تنفع الشفاعة من الشفيع للمشفوع له إلّا أن يكون الشفيع مأذونا في الشفاعة و مرضيّا قوله.

و قيل: إنّ هذا المعنى توضيح الواضح بل المعنى أن يكون المشفوع له يؤذن في حقّه الشفاعة و يكون مرضيّا قوله مثل أن يكون من أهل الشهادات لأنّه حينئذ يصدق عليه أنّه مرضيّ القول.

و قال الرازيّ: هاهنا مسألة: قالت المعتزلة: إنّ الفاسق غير مرضيّ عند اللّه فوجب أن لا يشفّع الرسول في حقّه لأنّ هذه الآية تدلّ على أنّ المشفوع له لا بدّ و أن يكون مرضيّا عند اللّه.

و قال أهل الجماعة: إنّ هذه الآية من أقوى الدلالة على ثبوت الشفاعة في حقّ الفسّاق لأنّ قوله و رضي له قولا يكفي في صدقه قولا واحدا من أقواله و هو شهادة أن

ص: 121

لا إله إلّا اللّه فوجب أن يكون الشفاعة نافعة له لأنّ الاستثناء من النفي إثبات.

فإن قيل: إنّه تعالى استثنى عن النفي بشرطين: أحدهما: حصول الإذن.

و الثاني: أن يكون قد رضي له قولا، فهب أنّ الفاسق قد حصل فيه أحد الشرطين و هو «قد رَضِيَ لَهُ قَوْلًا» فمن أين حصل فيه الإذن؟

فالجواب أنّ أحد الأمرين و هو أنّه رضي له قولا كاف في حصول الاستثناء لقوله تعالى: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» (1) فاكتفى هناك بهذا القيد.

و دلّت هذه الآية على أنّه لا بدّ من الإذن فظهر من مجموعها أنّه إذا رضى له قولا يحصل الإذن في الشفاعة و إذا حصل القيدان حصل الاستثناء و تمّ المقصود.

أقول: إنّ في هذا البيان الّذي يقوله الرازيّ: «فظهر من مجموعهما أنّه إذا رضي له قولا يحصل الإذن في الشفاعة» تأمّل لأنّه من أين أثبت هذه الملازمة فلو أثبت الملازمة من الآية فغير محقّقة لكن قد وردت أخبار صحاح على أنّ الشفاعة تنال الفسّاق من أهل الإيمان و القبلة و عندنا أنّ الفسق لا يخرج العبد من الإيمان إذا لم يكن الفاسق مستحلّا.

قوله: [يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ] الضمير يرجع إلى الّذين يتّبعون الداعي أي يعلم سبحانه منهم جميع أقوالهم و أفعالهم قبل أن خلقهم و بعد أن خلقهم و ما كان في حياتهم و بعد مماتهم.

[وَ لا يُحِيطُونَ] باللّه [عِلْماً] أي لا يعلمون بمقدوراته و بكنه عظمته في ذاته و أفعاله، و قيل: و لا يحيطون علما بما في بين أيمانهم و خلفهم إلّا من اطّلعه اللّه على ذلك [وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ] و ذلّت خضوع الأسير الوجوه أي أرباب الوجوه و استسلموا [لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ] و حكمه.

و إنّما أسند الفعل إلى الوجوه لأنّ أثر الذلّ يظهر على الوجوه قبل كلّ عضو.

و قيل: المراد من الوجوه الرؤساء و القادة و الملوك أي يذلّون و ينسلخون عن ملكهم و عزّهم، و العنو الذلّة و منه أخذوا العاني للأسير، و تفسير الحيّ القيّوم قد تقدّم.

روى أبو أمامة الباهليّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: اطلبوا اسم اللّه الأعظم في هذه

ص: 122


1- الأنبياء: 28.

السور الثلاث: البقرة و آل عمران و طه. قال الراوي: فوجدنا المشترك في السور الثلاث «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ»*.

و المراد من معنى الآية أنّ ذلك اليوم حال الإنسان مخالفة للحال الّتي كان عليها في الدنيا غير مختار لنفسه في المعصية و الطاعة و ليس له الاختيار لنفسه.

[وَ قَدْ خابَ] و حرم من الثواب [مَنْ حَمَلَ ظُلْماً] و لم يتب عنه.

و استدلّت المعتزلة بهذه الآية في المنع من العفو و قال: «وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» يعمّ كلّ ظالم و قد حكم اللّه فيه بالخيبة و العفو ينافيه. قال الطبرسيّ: أي و قد خاب عن ثواب اللّه من حمل شركا إلى يوم القيامة، عن ابن عبّاس. و قيل: قد خسر الثواب من جاء يوم القيامة كافرا ظالما.

هذا حال الكافرين العاصين و أمّا حال المؤمنين فقال:

[وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ] و الطاعات [وَ هُوَ مُؤْمِنٌ] عارف باللّه تعالى مصدّق بما يجب التصديق به و إنّما قيّد سبحانه بهذا القيد لأنّه لا تنفع الطاعات من غير إيمان و لا بدّ أن يكون العمل الصالح مقرونا بالإيمان [فَلا يَخافُ ظُلْماً] أن يظلم و يزاد عليه في سيّئاته [وَ لا هَضْماً] و لا يخاف أن ينقص من حسناته و قوله «لا يخاف» في موضع الجزم لكونه في موضع جواب الشرط و قرئ بصيغة النهي «فلا يخف» أي فليأمن و النهي عن الخوف أمر بالأمن. و في هذه دلالة على بطلان التحابط.

قوله: [وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا] أي و كما أخبرناك بأخبار القيامة أنزلنا هذا الكتاب قرآنا عربيّا بلسان العرب و كرّرنا [و بيّنّا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ] بوجوه مختلفة و بألفاظ متفرّقة [لَعَلَّهُمْ] يخافون و [يَتَّقُونَ] المعاصي و يتّقي العرب من قبل أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك [أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً] أو يجدّد القرآن لهم عظة و اعتبارا و يذكروا به عقاب اللّه للأمم.

فلو قيل: حدوث الذكر و التقوى لا منافات بينهما و كلمة أو للمنافاة.

فالجواب هذا كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين أي لا تكن خاليا منهما فكذا هاهنا.

ص: 123

و قيل يحدث لهم شرفا بإيمانهم كما قال سبحانه في موضع آخر: «وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» (1).

[فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ] أي ارتفع صفاته عن صفة المخلوقين فلا يشبهه أحد في صفاته لأنّه أقدر من كلّ قادر و أعلم من كلّ عالم.

قوله: [وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ] فيه وجوه:

الأوّل: قالوا: «و يسألونك» إلى هاهنا كلام ثمّ ينقطع و يستأنف بقوله: «و لا تعجل بالقرآن.

الوجه الثاني: روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يخاف من أن يفوته من القرآن شي ء فيقرأ مع الملك فأمره بأن يسكت حال قراءة الملك ثمّ يأخذ بعد فراغه في القراءة أي تفهّم ما يوحى إليك إلى أن يفرغ جبرئيل من قراءته و إبلاغه و لا تخف النسيان و السهو فإنّا نصونك عنه.

و قيل: معناه: و لا تسأل إنزال القرآن قبل أن يأتيك وحيه لأنّه تعالى ينزله وقت الحاجة.

[وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً] أي استزد من اللّه علما إلى علمك روت عائشة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقرّبني إلى اللّه فلا بارك اللّه لي في طلوع شمسه. و قيل: معناه: زدني قرآنا لأنّه كلّما ازداد من نزول القرآن عليه ازداد علما.

قوله: [وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً] و ذكروا في تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوها:

أحدها: لمّا قال: «كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ» فذكر قصّة آدم إنجازا للوعد.

و ثانيها: أنّه سبحانه لمّا قال: «وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» أردفه بقصّة آدم و بيّن أنّ إطاعة بني آدم للشّيطان و تركهم التحفّظ من وساوسه أمر

ص: 124


1- الأنفال: 2.

قديم فإنّا عهدنا و بيّنّا من قبل حيث قلنا له: «إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ» ثمّ إنّه مع ذلك نسي و ترك ذلك العهد و ما تحفّظ له.

«وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» فيه وجوه: أحدها أنّه أوصينا إليه أن لا تقرب الشجرة و لا تأكل منها فترك الأمر و لم نجد لم عزما و عقدا ثابتا و قيل: معناه فنسي من النسيان الّذي هو السهو و لم نجد له عزما على الذنب و أخطأ و لم يتعمّد. و قيل: و لم نجد له حفظا لما أمر به. و قيل: معناه صبرا.

و من حمله على النسيان فما الّذي نسيه فيه أقوال: أحدها أنّه نسي الوعيد بالخروج من الجنّة إن أكل. و الثاني نسي قول اللّه سبحانه: «إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ».

و الثالث أنّه نسي الاستدلال على أنّ النهي عن الجنس و ظنّ أنّه عن العين. هذا هو المرّة السادسة من بيان قصّة آدم في القرآن تحذيرا و عظة للنّاس: أوّلها في سورة البقرة، ثمّ في الأعراف، ثمّ في الحجر، ثمّ في الإسراء ثمّ في الكهف، ثمّ هاهنا.

قال ابن عبّاس: من قبل أن يأكل من الشجرة عهدنا إليه أن لا يأكل منها.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 116 الى 125]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى (118) وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (120)

فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى (123) وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125)

اعلم أنّ سبب عداوة إبليس لآدم العمدة منها أنّه بسبب عدم السجود لآدم طرد عن رحمة اللّه فحصل له العداوة. ثمّ إنّ اللعين لمّا رأى آثار نعم اللّه على آدم و حرمان

ص: 125

نفسه حسده فصار عدوّا له. و الثالث أنّ آدم كان شابّا عالما لقوله: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» (1) و إبليس كان شيخا كبيرا جاهلا لأنّه أثبت فضله بفضيلة أصله و لم يعلم أنّ الفضيلة ليست بالبنية.

و إنّما أسند الإخراج إلى إبليس لأنّه هو الّذي فعل ما يترتّب عليه فصحّ ذلك.

و الشقاء التعب و إنّما أسند إلى آدم وحده لأنّ الرجل قيّم بأمور المعاشيّة للمرأة فاختصّ الإسناد إليه مع المحافظة على رعاية الفاصلة في الآي. و المراد من الشقاء المشقّة في طلب القوت.

قال سعيد بن جبير: انزل على آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه و يرشّح العرق عن جبينه.

و اذكر إذ وصّينا لآدم بأنّ الشيطان [عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ] فلا يخرجنّك بسبب الوسوسة و يغرّكما فتقع حينئذ في تعب القوت و المعاش و الاكتساب لنفسك و لزوجك [و إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ] في الجنّة و لا تصير عاريا من اللباس لسعة طعام الجنّة و ثيابها و لا تعطش في الجنّة و لا يصيبك حرّ الشمس لأنّه ليس في الجنّة شمس و إنّما فيها ضياء و نور و ظلّ ممدود من غير شمس.

و هذه الأشياء كأنّها تفسير الشقاء المذكور لأنّ الشبع و الريّ و الكسوة و الاكتنان في الظلّ هي الأقطاب الّتي يدور عليها أمر الإنسان بالراحة فذكر اللّه حصولها من غير تعب بذكر أضدادها نفيا الّتي هي الجوع و العرى و الظماء و الضحى.

و حذّر سبحانه آدم عنها حتّى يبالغ الاحتراز عن السبب الموقع.

[فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ] و كانت تلك الوسوسة بتطميعه في أمرين: أحدهما قوله:

[هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ] أي من أكل منها صار مخلّدا و لم يمت، الثاني: [وَ مُلْكٍ لا يَبْلى] أي من أكل منها لا يضعف و لا يهرم.

[فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ] مرّ تفسيره في سورة الأعراف مفصّلا و إجماله أنّه بعد أن أكلا ظهرت عورتهما و نزع لباس الجنّة

ص: 126


1- البقرة: 31.

عنهما و ظلّا عاريين فشرعا و أخذا من ورق تين الجنّة و يلزقان و يجعلان الأوراق على عورتهما حياء عن العرى.

و [وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى] معناه: خالف أمر ربّه فخاب من ثوابه، و المعصية مخالفة الأمر سواء كان الأمر واجبا أو ندبا و لا يمتنع أن يسمّى تارك النفل عاصيا كما يسمّى بذلك تارك الواجب يقولون: فلان أمرته بكذا و كذا من الخير فعصاني. و استعمل لفظة «غوى» في الخيبة. قال الشاعر:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره و من يغو لا يعدم على الغيّ لائما

و يجوز أن يكون المراد فخاب ممّا كان يطمع فيه بأكل الشجرة من الخلود.

و قال بعض أهل السنّة و الجماعة: و في وصف آدم عليه السّلام بالعصيان و الغواية مع صغر زلّته تعظيم لها و زجر بليغ لأولاده عن أمثالها.

قال الرازيّ في المفاتيح: إنّ مذهبنا أنّ واقعة الزلّة إنّما وقعت قبل رسالته لا بعدها. و قالت المعتزلة: إنّها وقعت صغيرة لا كبيرة. و قال أبو مسلم الإصفهانيّ: بأنّه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتّصل بالتكاليف و كذلك القول في غوى، و الغيّ ضدّ الرشد فمن توصّل بشي ء إلى شي ء ثمّ حصل له ضدّ مقصوده كان ذلك غيّا. و على التقادير لم يجز بعد أن قبل اللّه توبته و اجتباه للرسالة إطلاق هذا الإثم عليه مطلقا.

فعاد سبحانه عليه بالرحمة و المغفرة بقوله: [ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ] و اصطفاه للرسالة [فَتابَ عَلَيْهِ] و قبل توبته و هداه للكلمات الّتي تلقّاها منه سبحانه و التثبّت بأسباب العصمة.

[قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ] الخطاب من اللّه لآدم و حوّاء أو لآدم و حوّاء و إبليس و لمّا كانا أصلي الذرّيّة خاطبهما مخاطبتهم و الخطاب يعمّ المبشّر.

[فَمَنِ اتَّبَعَ] هدايتي و ديني [فَلا يَضِلُ] في الدنيا [وَ لا يَشْقى] في الآخرة.

بسبب قبول الدين [وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي] و الذكر يشمل كتب اللّه جميعا و القرآن [فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً] أي ضيّقا و هو أن يمسكه و لا ينفقه على نفسه فضلا عن غيره و من غلبة الحرص عليه و على الجمع و الطلب يضيق المعيشة عليه. و قيل: المراد من هذا الضيق عذاب القبر. و قيل: هو طعام الضريع و الزقّوم في جهنّم و إن كان في سعة في الدنيا.

ص: 127

و قيل: هو الحرام الّذي ينفقه و لا خلف له و يؤدّي إلى النار. و قيل: إنّهم بسبب إعراضهم عن الدين تنقص بركاتهم كما قال: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» (1) و قال تعالى: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» (2) و قال تعالى: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ» (3) و قال تعالى:

«وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» (4).

و أمّا القول بأنّ المراد من عيشة الضنك عذاب القبر فهو قول جماعة من أصحاب الحديث مثل عبد اللّه بن مسعود و أبي سعيد الخدريّ و عبد اللّه بن عبّاس و رفعه أبو هريرة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ عذاب القبر للكافر قال: و الّذي نفسي بيده إنّه ليسلّط عليه في قبره تسعة و تسعون تنّينا.

قال ابن عبّاس نزلت الآية في الأسود بن عبد العزّى المخزوميّ و المراد ضغطة القبر تختلف أضلاعه. و قيل: المراد الضيق في كلّ ذلك أو أكثره. روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: عقوبة المعصية ثلاثة ضيق المعيشة و العسر في الشدّة و أن لا يتوصّل إلى قوته إلّا بمعصية اللّه.

قوله: [وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى] أي أعمى العين أي يحشر بصيرا فإذا سيق إلى المحشر عمي. و قيل: المراد عمى البصيرة لا البصر؛ لا حجّة له يهتدي بها. و روى معاوية ابن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه عن رجل لم يحجّ و له مال؟ قال: هو ممّن قال اللّه: «وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» فقلت: سبحان اللّه أعمى! قال: أعماه اللّه عن طريق الحقّ. فهذا القول مطابق قول من قال: أعمى عن جهات الخير لا يهتدي بشي ء منها.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 126 الى 130]

قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى (127) أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)

ص: 128


1- المائدة: 69.
2- الأعراف: 95.
3- نوح: 10، 11، 12.
4- الجن: 16.

قال: ابن عبّاس ضمن اللّه سبحانه لمن قرأ القرآن و عمل بما فيه أن لا يضلّ في الدنيا و لا يشقى في الآخرة قال: [كَذلِكَ أَتَتْكَ] آياتي، هذا جواب من اللّه لمن يقول يوم القيامة: «لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى» أي كما حشرناك أعمى جاءك محمّد و القرآن و الآيات الدالّة فأعرضت عنها و تعرّضت لنسيانها فإنّ النسيان ليس من فعل الإنسان فيوعد عليه لكن يفعل فعلا يوجب النسيان فتعمّد لحصول النسيان [وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى] و تترك في العذاب بمنزلة المنسيّ.

قوله: [وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ] أي مثل ذلك الجزاء الموافق كما ذكرنا من العمى و النسيان نجزي من أسرف و جاوز العصيان [وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ] اللّه و لم يصدّق بحجج ربّه و رسله.

و اختلفوا في معنى الإسراف أي أشرك و كفر، و بعضهم قال: أسرف في معصية اللّه.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: المراد من أشرك بولاية أمير المؤمنين عليه السّلام غيره و لم يؤمن بآيات ربّه و ترك الأئمّة عليه السّلام معاندة و لم يتّبع آثارهم و لم يتولّهم.

قوله: [وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى] و لمّا بيّن سبحانه بأنّ العيش الضنك و العمى للمتجاوزين المشركين باللّه و بالولاية بيّن من بعد ذلك أنّ عذاب الآخرة المتأخّرة أشدّ و أبقى أمّا الأشدّ فلعظمه و أمّا الأبقى فلأنّه غير منقطع و من المعلوم أنّ عذاب جهنّم أشدّ من عذاب الدنيا و عذاب القبر لأنّه لا يزول.

قوله: [أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا] و قرئ نهد بالمتكلّم و المعنى أ فلم يتبيّن لهم طريق الاعتبار و كثرة إهلاكنا [قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ] بسبب تكذيبهم رسلنا و يعتبرون بما فعل

ص: 129

بأسلافهم فيؤمنوا و لا يكذّبوا [و قوله يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ] يريد أهل مكّة كانوا يتّجرون إلى الشام فيمرّون بمساكن العاديّين و الثموديّين و غيرهم و يرون علامات الإهلاك أفلا يخافون أن تقع بهم مثل ما وقع بأولئك؟

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى] إهلاكنا إيّاهم لعبرة و دلالات لأهل العقل و الأقرب أنّ للنهية مزيّة على العقل، و النهى لا يقال إلّا فيمن له عقل ينتهي عن القبائح كما أنّ لقولنا: اولي العزم مزيّة على اولي الجزم فلذلك قال بعضهم: أهل الورع و أهل التقوى.

ثمّ بيّن سبحانه السبب الّذي لأجله لا ينزل العذاب معجّلا على من كذّب و كفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى] و فيه تقديم و تأخير و التقدير: و لو لا كلمة سبقت من ربّك و أجل مسمّى لكان نزول العذاب ملازما لهم و الكلمة هي إخبار اللّه ملائكته و كتبه في اللوح المحفوظ أنّ امّته و إن كذّبوا و كفروا فيؤخّرون و لا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال.

و اختلفوا فيما لأجله يؤخّر العذاب عنهم قال بعضهم: لأنّه علم أنّ فيهم من يؤمن.

و قال آخرون: المصلحة فيه خفيّة لا يعلمها إلّا هو و قال أهل السنّة: له بحكم المالكيّة أن يختصّ من شاء بفضله و من شاء بعذابه من غير علّة و قالوا: لو كان فعله لعلّة لكانت تلك العلّة إن كانت قديمة لزم قدم الفعل و إن كانت حادثة افتقرت إلى علّة اخرى و لزم التسلسل فلهذا قالوا: كلّ شي ء صنعه لا لعلّة.

قوله: «وَ أَجَلٌ مُسَمًّى» أي لا يهلك أحدا قبل استيفاء أجله.

[فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ] و أمره بالصبر على ما يقولون و يكرهه من أقوالهم الشنيعة كقولهم: ساحر أو شاعر أو مجنون أو غير ذلك أو المراد تكذيبهم لرسالته و تركهم القبول منه لأنّ كلّ ذلك ممّا يهمّه، و أمره بالدعاء و التسبيح أي دم لربّك بالحمد له و الثناء عليه و احمده في هذه الأوقات.

و اختلفوا في التسبيح على وجهين فالأكثرون على أنّ المراد منه الصلاة و هؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه:

ص: 130

أحدها أنّ الآية تدلّ على أنّ الصلوات الخمس لا أزيد و لا أنقص فقال ابن عبّاس: دخلت الصلوات الخمس فيه فقبل طلوع الشمس هو صلاة الصبح و قبل غروبها هو الظهر و العصر لأنّهما جميعا قبل الغروب [وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ] أي المغرب و العشاء الآخرة. و قوله [وَ أَطْرافَ النَّهارِ] كالتوكيد للصّلاتين الواقعتين في طرفي النهار و هما صلاة الفجر و صلاة المغرب و التكرار في هاتين للخصوصيّة و التأكيد بهما كما اختصّت في قوله: «وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى» بالتأكيد.

و القول الثاني: أنّ الآية تدلّ على الصلوات الخمس و زيادة أمّا دلالتها على الصلوات الخمس فلأنّ الزمان إمّا أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها فالليل و النهار داخلان في هاتين العبارتين فأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما بقي قوله:

«وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى» للنوافل.

و القول الثالث: أنّها تدلّ على أقلّ من الخمس بقوله قبل طلوع الشمس للفجر و قبل غروبها للعصر و من آناء الليل للمغرب و العشاء فيبقى الظهر خارجا.

هذا كلّه إذا حملنا التسبيح على الصلاة و الأليق الأقرب حمله على التنزيه و الإجلال و المعنى اشتغل بتنزيه اللّه تعالى في هذه الأوقات أراد بذلك المداومة على التسبيح و التحميد في عموم الأوقات لعلّك ترضى بجميع ما وعدك اللّه و بالشفاعة و الدرجة الرفيعة و لعلّك تنال عند اللّه ما به رضاء نفسك.

في الخصال عن الصادق عليه السّلام: سئل عن هذه الآية فقال: فريضة على كلّ مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس و قبل غروبها عشر مرّات: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ* وحده لا شَرِيكَ لَهُ ... لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ ... يُحْيِي وَ يُمِيتُ* و هو حيّ لا يموت بيده الخير وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»*.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام في قوله: «وَ أَطْرافَ النَّهارِ» أي تطوّع بالنّهار فلو قيل: إنّ النهار ليس له غير طرفين كما قال: «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ» قيل: إنّما جمع لأنّه متكرّر في كلّ نهار و يعود أو الجمع المنطقيّ اثنان.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 131 الى 135]

وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى (131) وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدى (135)

ص: 131

لمّا صبّر سبحانه نبيّه على أكاذيب قومه و أمره أن يعدل إلى التسبيح و الاشتغال بعبادته أتبع في هذه الآية بنهيه عن مدّ عينيه إلى ما متّع به القوم قيل: المراد من المدّ ليس هو النظر بل هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك ممّا نالوه من حظّ الدنيا.

النزول: قال أبو رافع: نزل ضيف بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبعثني إلى يهوديّ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

قل: إنّ رسول اللّه يقول: بعني كذا و كذا من الدقيق أو أسلفني إلى هلال رجب فأتيته فقلت له، فقال: و اللّه لا أبيعه و لا أسلفه إلّا برهن فأتيت رسول اللّه و أخبرته فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و اللّه لو باعني أو أسلفني لقضيته و إنّي لأمين في السماء و أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إليه، فنزلت الآية تسلية له عن الدنيا.

قال ابيّ بن كعب في هذه الآية: من لم يتعزّ بعزاء اللّه تقطّعت نفسه حسرات على الدنيا، و من يتبع بصره ما في أيدي الناس طال حزنه و لا يشفى غيظه، و من لم ير للّه عليه نعمة إلّا في مطعمه و مشربه نقص علمه و دنا عذابه و قد فعل نظّارة قارون حيث قالوا:

«يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (1). حتّى واجههم أولو العلم و الإيمان بقولهم: «وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً» (2).

و لقد شدّد المتّقون في وجوب غضّ البصر عن أبنية الظلمة و زينة الفسقة في اللّباس و المركوب و غير ذلك قال عيسى عليه السّلام: لا تتّخذوا الدنيا ربّا فتتّخذكم عبيدا.

و عن عروة بن الزبير: أنّه إذا كان رأى ما عند السلاطين و الأمراء يتلو هذه الآية و قال: الصلاة يرحمكم اللّه.

ص: 132


1- القصص: 79.
2- القصص: 80.

[إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً] أي أصنافا من الكفرة و أشباها و المزاوجة من المشاكلة لأنّ الكفّار متشاكلون في الذهاب عن الحقّ و الدين و التمتّع المراد منه الاستلذاذ من المناظر الحسنة و الأصوات المطربة و شمّ الروائح الطيّبة و المناكح و الملابس و أمثالها.

قوله: [زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا] و قرئ بفتح الهاء و الزهرة النور (1) الّذي يروق عند الرؤية، أزهر اللون أي منير اللون و الزهراوان: البقرة و آل عمران، و الزهرة بالتحريك الزينة و البهجة كما جاء في الجمهرة و يصحّ أن يكون جمع زاهر وصفا لهم بأنّهم زهرة هذه الدنيا لصفاء ألوان الكفّار و تهلّل وجوههم بخلاف ما عليه الصلحاء من شحوب الألوان و التقشّف في الثياب.

أمّا قوله: [لِنَفْتِنَهُمْ] أي لنعاملهم معاملة المختبر و نجعل ذلك امتحانا و فتنة لهم قال الكلبيّ و مقاتل: معناه تشديدا في التكليف عليهم لأنّ الإعراض عن الدنيا عند حضورها و الإقبال إلى اللّه أشدّ من ذلك عند عدم حضورها و أسبابها و لذلك كان رجوع الفقراء إلى خدمة اللّه و التضرّع إليه أكثر من تضرّع الأغنياء و لأنّ على من اوتي الدنيا ضروبا من التكاليف لولاها لما لزمتهم تلك التكاليف و لأنّ القادر على المعاصي يكون الاجتناب عنها أشقّ عليه من العاجز القصير فمن هذه الجهات يكون الزيادة في الدنيا تشديدا في التكليف.

ثمّ قال لرسوله: [وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى] أي ما نصبك من الثواب خير من مطلوبهم و أبقى لأنّه يدوم و لا ينقطع و ليس حال ما أوتوه من الدنيا كذلك أو المراد أنّ ما أعطيت من الكرامة و النبوّة خير لك ممّا متّعنا به هؤلاء.

قوله: [وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ] أي فأمر يا محمّد أهل بيتك و أهل دينك بالصلاة؛ روى أبو سعيد الخدريّ قال: لمّا نزلت هذه الآية كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأتي باب فاطمة و عليّا تسعة أشهر عند كلّ صلاة فيقول: الصلاة رحمكم اللّه إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس و يطهّركم تطهيرا. و قال أبو جعفر عليه السّلام: أمره اللّه أن يخصّ أهله دون الناس ليعلم الناس أنّ لأهله منزلة ليست للنّاس فأمرهم مع الناس عامّة في موضع آخر ثمّن.

ص: 133


1- بفتح النون.

أمرهم خاصّة.

قوله: [وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها] أي كما تأمرهم فحافظ عليها فعلا فإنّ الوعظ بلسان الفعل أتمّ منه بلسان القول.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يأمرهم بذلك لمنافع و أنّه متعال عن المنافع بقوله:

[لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً] لخلقنا و لا لنفسك بل كلّفناك العبادة و ضمنّا رزق الجميع [نَحْنُ نَرْزُقُكَ] و نرزقهم جميعا لا نسترزقكم كما يريدون السادة من العبيد الخراج و هذا المعنى كقوله:

«وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» (1) و قيل: إنّ المعنى: لا نسألك رزقا لنفسك و لا لأهلك بل نحن نرزقك ففرّغ بالك لأمر الآخرة. و قيل: معناه أنّا لمّا أمرناك بالصلاة فليس ذلك الأمر لأنّا ننتفع بصلاتك فعبّر عن هذا المعنى بقوله: «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً».

قال عبد اللّه بن سلام: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزل بأهله ضيّق أو شدّد أمرهم بالصلاة و تلا هذه الآية.

ثمّ قال: [وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى] أي لأهل التقوى العاقبة المحمودة.

قوله تعالى: [وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ] الّتي اقترحناها كما أتى بها الأنبياء.

فأزال اللّه شبهتهم الّتي أوردوها بأنّه يكلّفهم الإيمان و التصديق من غير آية فأجاب بقوله: [أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى] و فيه وجوه:

أحدها أنّ ما في القرآن إذا وافق ما في كتبهم مع أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يشتغل بالدراسة و التعلّم و ما رأى استاذا البتّة كان ذلك إخبارا بالغيب فيكون معجزا.

و ثانيها أنّ بيّنة ما في الصحف الاولى ما فيها من البشارة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نبوّته.

و ثالثها: ذكر ابن جبير و القفّال، و المعنى: أولم تأتهم بيّنة ما في الصحف الاولى من أنباء الأمم الّتي أهلكناهم لمّا سألوا الآيات و أوتوا بها فكفروا بها كيف عاجلناهم بالعقوبة فما ذا يؤمّنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات و اقتراحها كحال أولئك؟ و إنّما

ص: 134


1- الذاريات: 55، 56.

أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه بيّنة ما في الصحف الاولى كأنّ المعنى يقول: ألم يأتهم نبأ سائر الآيات الّتي وقعت قبلهم أولم تأتهم خاصّة بيّنة ما في الصحف الاولى في قرآنك.

ثمّ أزاح لهم العذر في التكليف فقال: [وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا] و المراد كان لهم أن يقولوا ذلك فيكون عذرا لهم فأمّا الآن و قد أرسلنا و بيّنّا على لسانك ما عليهم و مالهم فلا حجّة لهم بل الحجّة عليهم، و معنى «من قبله» أي من قبل إرساله و من قبل إظهاره القرآن و البيّنات فقطعنا عذرهم و لم يبق لهم.

قوله: [فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ] بالعذاب [وَ نَخْزى] في جهنّم أو المراد من قبل أن نذلّ في الدنيا بالقتل و الأسر و نشقى في الآخرة بالعذاب.

قال أبو سعيد الخدريّ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يحتجّ على اللّه يوم القيامة ثلاثة:

الهالك في الفترة يقول: لم يأتني رسول و إلّا كنت أطوع خلقك لك و تلا قوله تعالى «لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ». و المغلوب على عقله يقول: يا ربّ لم تجعل لي عقلا أنتفع به. و الصبيّ يقول: كنت صغيرا لا أعقل و لا اميّز فحينئذ ترفع لهم نار و يقال لهم: ادخلوها، فيدخلها من كان في علم اللّه أنّه سعيد و يبقى من في علمه أنّه شقيّ فيقول اللّه تعالى لهم: عصيتم اليوم أمري فكيف برسلي لو أتوكم؟

و بعض طعنوا في هذا الخبر كالقاضي عبد الجبّار و قالوا: لا يحسن العقاب على من لا يعقل.

قال الجبّائيّ: هذه الآية تدلّ على وجوب فعل اللطف إذ المراد أنّه يجب أن يفعل بالمكلّفين ما يؤمنون عنده و لو لم يفعل لكان لهم أن يقولوا: هلّا فعلت ذلك لنؤمن و هلّا أرسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك.

قال الكعبيّ: قوله: «لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا» أوضح دليل على أنّه تعالى يقبل الاحتجاج من عباده و أنّه ليس قوله: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ» كما ظنّه أهل الجبر من أنّ ما هو جور منّا يكون عدلا منه بل معناه أنّه لا يفع منه إلّا العدل فإذا ثبت أنّه تعالى

ص: 135

يقبل الحجّة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه حجّة و أعظم حجّة.

و قد ختم اللّه السورة بضرب من الوعيد فقال: [قُلْ] يا محمّد: [كُلٌ] منّا و منكم منتظر عاقبة أمره بعد الموت و هو ظهور أمر الثواب و العقاب فإنّه يتميّز في الآخرة المحقّ من المبطل بما يظهر على المحقّ من أنواع الكرامة و على المبطل من أنواع العذاب و الإهانة [فَسَتَعْلَمُونَ] عند ذلك [مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ] أي من أهل الدين المستقيم [وَ مَنِ اهْتَدى] إلى طريق الجنّة نحن أم أنتم؟

و في ثواب الأعمال و المجمع عن الصادق عليه السّلام قال: لا تدعوا قراءة سورة طه فإنّ اللّه يحبّها و يحبّ من قرأها و من أدمن قراءتها أعطاه اللّه يوم القيامة كتابه بيمينه و لم يحاسبه بما عمل في الإسلام.

تمّت السورة

ص: 136

سورة الأنبياء

اشارة

(مكية كلها) فضلها: قال ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأها حاسبه اللّه حسابا يسيرا و صافحه و سلّم عليه كلّ نبيّ ذكر اسمه في القرآن.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من قرأها حبّا لها كان ممّن يوافق الأنبياء أجمعين في جنّات النعيم و كان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا.

ص: 137

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الأنبياء (21): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)

بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)

القرب لا يعقل إلّا في المكان و الزمان و القرب المكانيّ هاهنا ممتنع فتعيّن القرب الزمانيّ فالمعنى: [اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ] وقت [حِسابُهُمْ].

فلو قيل: كيف وصف بالاقتراب و قد مضى من هذا القول أكثر من ألف سنة؟

فالجواب من وجوه:

أحدها أنّه مقترب عند اللّه و أنّ يوما عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون و كلّ ما هو آت قريب و إن طالت أوقات ترقّبه و إنّما البعيد هو الّذي انقرض.

فلا زال ما تهواه أقرب من غدو لا زال ما تخشاه أبعد من أمس

و ثانيها أنّ المعاملة إذا كانت مؤجّلة إلى سنة مثلا ثمّ انقضى منها شهر فإنّه لا يقال: اقترب الأجل، أمّا إذا كان الماضي أكثر من الباقي فإنّه يقال: اقترب الأجل، فقرب القيامة من هذا الوجه و لهذا المعنى أشار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «بعثت أنا و الساعة كهاتين» لأنّ الباقي من مدّة التكليف أقلّ من الماضي.

ثمّ إنّه سبحانه ذكر هنا الاقتراب لهذا البيان الّذي ذكرنا على أنّ ذكر الاقتراب لما فيه من المصلحة للمكلّفين لتلافي الذنوب و تداركها و التحرّز عنها خوفا من ذلك و إنّما لم يعيّن الوقت لأجل أنّ كتمانه أصلح كما أنّ كتمان وقت الموت أصلح [وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ] وصفهم بأمرين: الغفلة و الإعراض أمّا الغفلة لأنّهم غافلون

ص: 138

و ساهون و ناسون لا يتفكّرون في حسابهم مع اقتضاء عقولهم ملازمة جزاء المحسن و المسي ء ثمّ إذا انتبهوا عن سنة الغفلة بما يتلى عليهم من الآيات و المواعظ أعرضوا و لم يقبلوا بوجه القبول و التدارك.

قوله: [ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ] و من في «من ذكر» زائدة للتأكيد و «ذكر» محلّه الرفع و المراد من الذكر القرآن فدلّ النصّ بحدوث القرآن لأنّ اللّه يجدّد لهم الذكر وقتا فوقتا و آية بعد آية و سورة بعد سورة، و احتجّ المعتزلة بحدوث القرآن [إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ] أي لم يستمعوا استماع تدبّر و نظر و قبول و إنّهم استمعوه استماع اشتغال و لهو و استهزاء غافلة قلوبهم.

[وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى] أي تناجوا بينهم المشركون فبيّن المتناجين فقال: [الَّذِينَ ظَلَمُوا] و أشركوا تناجوا فقوله «الَّذِينَ ظَلَمُوا» بدل من «أسرّوا» أو جاء على لغة أكلوني البراغيث أو أسرّوا خبر مقدّم و الّذين ظلموا مبتدأ مؤخّر و إنّما أسرّوا لوجهين:

الأوّل أنّه كان كالتشاور و التحاور في طلب الطريق إلى هدم أمر القرآن و عادة المتشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرّهم عن أعدائهم أو كانوا يسرّون القول لأن يقولوا لرسول اللّه و المؤمنين: إن كان ما تدّعونه حقّا فأخبرونا بما أسررناه.

فإن قيل: إنّ النجوى اسم من التناجي و لا يكون إلّا خفية فما معنى «وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى»؟ فالمعنى: بالغوا في إخفاء كلامهم و جعلوها بحيث لا يفطن أحد كلامهم لتناجيهم بل هم يستمعون كلامهم بينهم بالمشقّة.

ثمّ إنّهم كانوا يناقشون في نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأمرين: أحدهما أنّه بشر مثلهم. و الثاني أنّ الّذي أتى به سحر.

و كلاهما فاسد أمّا الأوّل لأنّ النبوّة تقف صحّته على المعجزة و الدلائل لا على الصور و إنّما يعلم كونه نبيّا بالمعجزة و العلم فإذا ظهرت الأمور من البشر فيكون هو الاولى من الملك لأنّ المرء من أشكاله آنس و إلى القبول عن سنخه أقرب.

و أمّا الثاني و هو أنّ ما أتى به الرسول أي القرآن سحر و هذا الكلام جهل لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّ ما أتى به من القرآن ظاهر الحال و يتحدّاهم حالا بعد حال مدّة من الزمان

ص: 139

فهلّا قابلوه و هم أرباب الفصاحة و البلاغة و كانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره و أقوى الأمور في إبطال أمره كان معارضة القرآن فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها لأنّ الفعل عند توفّر الداعي واجب الوقوع فلمّا لم يأتوا بها دلّ ذلك على أنّه في نفسه معجزة و أنّهم عرفوا و علموا حقيقة الأمر و ما ذكرنا يدلّ على أنّهم كانوا عالمين بصدقه إلّا أنّهم كانوا يموّهون على الضعفاء لأغراض كانت لهم في تلك المكابرة.

[قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ] و قرأ بعض: قل ربّي فإذا كان «قال ربّي» حكاية لقول الرسول و إن كان الكلّ يكون يقولون هذا أي إنّكم و إن أخفيتم قولكم و طعنكم فإنّ ربّي عالم بذلك و هو السميع لأقوالهم العليم لضمائرهم.

[بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ] ثمّ أضربوا عن القولين و هما لكونه بشرا ليس بنبيّ و أنّ القرآن ليس بمعجز بل سحر و «قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أي تخاليط أحلام يراها في المنام ثمّ قالوا: لا «بَلْ» هو «افْتَراهُ» و افتعله و تخرّصه. ثمّ قالوا: لا [بَلْ هُوَ شاعِرٌ] تقوّله و هذا قول المتحيّر الّذي بهره ما سمع فمرّة يقول: سحر و مرّة يقول:

شعر و مرّة يقول: حلم و لا يجزم على أمر واحد.

و لمّا فرغوا من هذه الاحتمالات قالوا: [فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ] أي طلبوا آية جليّة كالآيات المنقولة عن موسى و عيسى عليه السّلام مثل الناقة و العصا و اقترحوا الآيات الّتي ليس معها إمهال و لا بدّ إذا صدرت و لم يؤمنوا يأخذهم العذاب لأنّ حكم اللّه فيمن كذّب بعد الإجابة إلى ما اقترحه من الآيات أن ينزل به عذاب الاستئصال و قد مضى حكمه في امّة محمّد خاصّة بخلافه فلذلك لم يجبهم.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 6 الى 10]

ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (10)

المعنى: أجاب سبحانه عن الكفّار الّذين اقترحوا الآيات بقولهم: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ».

ص: 140

[ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ] أي لم يؤمن قبل هؤلاء الكفّار [مِنْ] أهل [قَرْيَةٍ] جاءتهم الآيات الّتي اقترحوها و طلبوها فأهلكناهم مصرّين على الكفر [أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ] عند مجيئها أي هؤلاء سبيلهم سبيل من تقدّم منهم و من المعلوم أنّهم لا يؤمنون فلذلك لم يأت هؤلاء بالآيات المقترحة.

[وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ] هذا جواب عن قولهم: «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أي هذه عادة اللّه في الرسل أن يبعث من البشر من قبيل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ] في الكافي عن الباقر عليه السّلام قيل له: إنّ من عندنا يزعمون أنّ قول اللّه «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» أنّهم علماء اليهود و النصارى قال: إذا يدعوكم إلى دينهم ثمّ أومأ بيده إلى صدره نحن أهل الذكر و نحن المسئولون. و عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: نحن أهل الذكر. و يعضده أنّ اللّه سمّى النبيّ ذكرا رسولا و قيل: أهل الذكر المراد أهل التوراة و الإنجيل و قيل: أهل العلم بأخبار من تقدّم من الأمم. و قيل: أهل القرآن و الذكر هو القرآن و هم العلماء بالقرآن.

قوله: [وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ] هذا جواب و ردّ من اللّه لقولهم: «ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» (1) و معناه:

ما جعلنا الأنبياء قبلك ذوي أجساد لا يأكلون الطعام و لا يموتون حتّى يكون أكلك الطعام و شربك و موتك علّة لترك الإيمان بك فإنّا لم نخرجهم عن حدّ البشريّة بالوحي.

و الجسد المجسّد الّذي فيه الروح و يأكل و يشرب فحينئذ جسم. و قيل: الجسد ما لا يأكل و لا يشرب فحينئذ نفس. و وحّد لفظ الجسد لإرادة الجنس بتقدير ذوي جسد و الحاصل من المعنى: ما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين.

[ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ] بأنّ العاقبة المحمودة كانت لهم و أنجزنا ما وعدنا هم من النصر و الظهور على الأعداء فأنجيناهم من أعدائهم و المؤمنين بهم [وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ] على أنفسهم بتكذيبهم الأنبياء، و قيل: المراد من المسرفين المشركين.

ص: 141


1- الفرقان: 7.

ثمّ ذكر سبحانه نعمته عليهم بإنزال القرآن فقال: [لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً] يا معشر الناس [فِيهِ ذِكْرُكُمْ] أي في اتّباع القرآن ذكركم و شرفكم و فيه ذكر ما تحتاجون إليه في أمر دينكم و دنياكم و فيه مكارم الأخلاق و محاسن الأفعال [أَ فَلا تَعْقِلُونَ] ما فضّلتم به لتفوزوا بالجنّة بعمله لأنّ دفع الضرر عن النفس من لوازم العقل.

قوله: [سورة الأنبياء (21): الآيات 11 الى 15]

وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)

لمّا أبطل شبهاتهم بالغ سبحانه في زجرهم فقال:

[وَ كَمْ قَصَمْنا] القصم أقطع الكسر و هو الّذي لا يتلاءم الأجزاء بخلاف الفصم و ذكر القرية توسّعا و المراد أهلها فالمعنى: أهلكنا قوما و أنشأنا قوما آخرين، و المراد من القرية أهل القرية لأنّ القرية لا تكون ظالمة و لا مكلّفة.

[فَلَمَّا أَحَسُّوا] عذابنا و [بَأْسَنا] و هذه البيانات قرائن دالّة على أنّ المراد أهل القرية و إلّا لما جاز منه ذكر المجاز لأنّه موهم للكذب و المراد من البأس في الآية القتل بالسيف و المراد بالقرية بلدة حضور و سحول في اليمن ينسب إليهما الثياب و في الحديث: كفّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ثوبين سحوليّين، و روي: حضوريّين.

و بعث اللّه فيها نبيّا يقال له حنظلة فقتلوا نبيّهم فسلّط اللّه عليهم بخت النّصر حتّى قتلهم و سباهم و نكأ فيهم حتّى خرجوا من ديارهم منهزمين فبعث اللّه ملائكة حتّى ردّهم إلى مساكنهم فقتل صغار هم و كبارهم حتّى لم يبق لهم اسم و لا رسم روي أنّه لمّا أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء: يا لثارات الأنبياء.

هذا على أنّ المراد من العذاب القتل و أمّا إذا كان المراد من البأس غير القتل فالمراد عذاب الاستئصال و القرية غير منحصرة في القريتين بل مطلق القرى المعذّبة و لعلّ ابن عبّاس ذكر حضور بأنّها إحدى القرى الّتي أرادها اللّه بهذه الآية.

ص: 142

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 199

فلمّا أحسّوا بأسنا [إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ] و المعنى لمّا علموا شدّة عذابنا مشاهدة ركضوا في ديارهم و الركض ضرب الدابّة بالرجل و منه قوله: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» (1) فيجوز أن يكونوا ركبوا دوابّهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم.

قوله: [لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ] كلمة «قال» محذوف و القائل إمّا بعض الملائكة أو المؤمنين الّذين من شأنهم أن يقولوا و لم يقولوا أو يقوله اللّه و يسمعه الملائكة فيحدّثون به أنفسهم لثبات دينهم أي ارجوا إلى نعمكم و مساكنكم من العيش و الرفاهية و الحال الناعمة، و الإتراف إبطار النعمة و هي الترفّه [لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ] فهو تهكّم بهم و توبيخ لهم أي ارجعوا إلى مساكنكم حتّى تسألكم الناس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب و يستعينوكم بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم الطامعون فيكم إمّا لأنّهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس طلبا للثّناء أو للبخل فقيل لهم ذلك تهكّما إلى تهكّم.

فلمّا رأوا و شاهدوا العذاب [قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ] على سبيل التندّم إنّا ظلمنا أنفسنا حيث كذّبنا رسل ربّنا.

[فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ] و لم يزالوا يقولون يا ويلنا و تلك إشارة إلى هذه الكلمة، الويل أي يا ويل احضر فهذا وقت حضورك و يكرّرون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك إلى أن [جَعَلْناهُمْ حَصِيداً] محصودا مقطوعا [خامِدِينَ] ساكني الأنفاس و الحركات ميّتين كما تخمد النار إذا طفئت.

قوله: [سورة الأنبياء (21): الآيات 16 الى 20]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)

وجه التعلّق في هذه الآية بما قبلها أنّه لمّا بيّن إهلاك القوم لأجل تكذيبهم بيّن

ص: 143


1- سورة ص: 42.

في هذه الآية على أنّ ذلك الفعل عدلا منه و مجازاة على فعلهم فقال:

[وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ] و ما سوّينا هذا السقف المرفوع و هذا المهاد الموضوع و ما بينهما من العجائب كما يفعل الجبابرة سقوفهم و فروشهم للّهو و إنّما سوّيناها لفوائد دينيّة و دنيويّة لتفكّرون في خلق السماوات و الأرض و تنتفعون منها منافع.

[لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا] اللهو المرأة. و قيل: هو الولد. و قيل:

اللهو داعي الهوى. و المعنى: لو اتّخذنا نساء أو ولدا لاتّخذناه من أهل السماء و لم نتّخذه من أهل الأرض أي من الروحانيّين لا من الجسمانيّين لأنّ ذلك أليق بحضرتنا. و أصل اللهو معناه الجماع؛ قال امرؤ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني كبرت و أن لا يحسن اللهو أمثالي

و تأويل الآية: لمّا قالت في المسيح و امّه ما قالت قال اللّه عزّ و جلّ: لو أردنا أن نتّخذ صاحبة و ولدا كما يقولون لاتّخذنا ذلك من عندنا و لم نتّخذ من عندكم [إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ] هذا الفعل و قيل: «إن» نافية و هذا البيان ردّ لمن قال بولادة المسيح و عزير.

قوله: [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ] و كلمة «بل» إضراب عن اتّخاذ اللهو و اللّعب و تنزيه من اللهو لذاته بل من عادتنا أن نغلب اللعب بالجدّ و ندحض الباطل بالحقّ. و استعار لفظ القذف و الدمغ بيانا لإبطال ما تصوّروا في اتّخاذ الولد فجعل الحقّ كالجسم الصلب مثل كالصخرة و قذف به على جرم رخو أجوف أي يبطل اللهو الباطل المدفوع بالرمي الشديد بالجرم الصلب كالصخرة و هو الحقّ فإذا الباطل زاهق و ذاهب بالكلّية و يؤدّي الأمر إلى زهوق روح الباطل و اضمحلاله.

قوله: [وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] أي و لكم العذاب الشديد ممّا تصفون اللّه به من اتّخاذ الولد و الصاحبة و تكذيب الرسول و القرآن و نسبة السحر إلى القرآن و أمثاله [وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ] لمّا حكى كلام الطاعنين في النبوّة و تمرّدهم عن الطاعة ذكر في هذه الآية أنّه تعالى منزّه عن طاعتهم و أنّه المالك لجميع المخلوقات و يعبدوه من هو أطوع و الملائكة مع جلالتهم خائفون مطيعون له فالبشر مع نهاية

ص: 144

الضعف أولى أن يطيعوه و كلّ المكلّفين في السماء و الأرض عبيده و يجب على الكلّ الانقياد لحكمه.

و المراد من الآية نفي النبوّة على الملائكة بقوله: [لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ] أي لا يأنفون لأنّ أحدا لا يستعبد ابنه [وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ] أي لا يعيون و لا يملّون و لا ينقطعون، مأخوذ من الحسر و هو البعير المنقطع بالإعياء.

[يُسَبِّحُونَ] اللّه و ينزّهونه عمّا لا يليق على الدوام [لا يَفْتُرُونَ] و لا يضعفون عنه. قال عبد اللّه بن الحرث بن نوفل: قلت لكعب الأحبار: أ رأيت قول اللّه: «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» ثمّ قال: «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» (1) أفلا تكون تلك الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح؟ و أيضا قال سبحانه: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ» (2) فكيف يشتغلون باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح؟ فقال كعب: التسبيح لهم كالتنفّس لنا فكما أنّ التنفّس لنا لا يمنعنا من الكلام فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم سائر الأعمال.

فإن قيل: هذا القياس غير صحيح لأنّ الاشتغال بالتنفّس لا يمنع من الكلام و آلة التنفّس غير آلة الكلام فيمكن الجمع و لكنّ التسبيح و اللعن فهما من جنس الكلام و اجتماعهما محال.

و الجواب أنّه لا يستعبد أن يخلق اللّه لهم ألسنة كثيرة ببعضها يسبّحون و ببعضها يلعنون.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 21 الى 30]

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)

وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (30)

ص: 145


1- فاطر: 1.
2- البقرة: 161.

اعلم أنّ الكلام من أوّل السورة إلى هاهنا كان في النبوّة و ما يتّصل بها سؤالا و جوابا فشرع سبحانه في بيان التوحيد و نفي الأنداد.

«أم» هاهنا هي المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» للإنكار لما بعدها و ليست المعادلة بهمزة الاستفهام حتّى يكون مثل: أزيد قائم أم عمرو أي لم يتّخذوا آلهة من الأرض يحيون الأموات يعني أنّ هؤلاء إذا كانوا لا يقدرون على إحياء الأموات و يميتوا و يضرّوا و ينفعوا فأيّ عقل يجوّز اتّخاذ هم آلهة؟

قوله «من الأرض» نسبتها إلى الأرض للإيذان بأنّها الأصنام الّتي تعبد في الأرض منحوتة من بعض الحجارة أو معمولة من بعض جواهر الأرض، و قرئ ينشرون بفتح الياء يقال: أنشر اللّه الموتى و نشرها.

قوله [لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا] و «إلّا» هاهنا بمعنى «غير» أي لو كان يتولّاهما شي ء غير اللّه الواحد الّذي هو فطرهما لفسدتا و لا يجوز أن يكون بمعنى الاستثناء لأنّه لو حمل على الاستثناء لكان المعنى: لو كان فيهما آلهة ليس معهم اللّه لفسدتا و هذا يوجب بطريق المفهوم أنّه لو كان فيهما آلهة معهم اللّه أن لا يحصل الفساد و ذلك باطل؛ لأنّه لو كان فيهما آلهة إلّا اللّه فسواء لم يكن اللّه معهم أو كان اللّه فالفساد لازم فيجب أن يكون معناه غيره.

ذكر سبحانه الدليل على توحيده و هذا هو دليل التمانع الّذي بنى عليه المتكلّمون مسألة التوحيد و تقرير ذلك أنّه لو كان مع اللّه إله آخر لكانا قديمين و القدم من أخصّ الصفات فالاشتراك فيه يوجب التماثل فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيّين، و من حقّ كلّ قادرين أن يصحّ كون أحدهما مريدا لضدّ ما يريد الآخر من إماتة و إحياء أو تحريك أو تسكين أو إفقار أو إغناء فإذا فرضنا ذلك فلا محالة إمّا أن يحصل مرادهما

ص: 146

و ذلك محال و إمّا أن لا يحصل مرادهما فينتقض كونهما قادرين و إمّا أن يقع مراد أحدهما و لا يقع مراد الآخر فينتقض كون من لم يقع مراده من غير وجه منع معقول قادرا فإذا لا يجوز الا له إلّا واحدا.

و لو قيل: إنّهما لا يتمانعان؛ لأنّ ما يريد أحدهما يكون حكمة فيريده الآخر بعينه.

فالجواب أنّ كلامنا في صحّة التمانع لا في وقوع التمانع و صحّة التمانع يكفي في الدلالة لأنّه يدلّ على أنّه لا بدّ من أن يكون أحدهما متناهي المقدور فإذا كان كذلك فلا يجوز أن يكون إلها. انتهى كلام الطبرسيّ.

قال الرازيّ و ذكر بعض الوجوه الإقناعيّة:

لو كان كلّ واحد من الإلهين قادرا على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لا بدّ و أن يستويا في القدرة و إذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني و إلّا لزم ترجيح الممكن من غير مرجّح.

و أيضا إذا قدّرنا إلهين لوجب أن يكون كلّ واحد منهما مشاركا للآخر في الإلهيّة و لا بدّ و أن يتميّز كلّ واحد منهما عن الآخر بأمر مّا و إلّا لما حصل التعدّد فما به الممايزة إمّا أن يكون صفة كمال أولا يكون فإن كان صفة كمال فالخالي عنه يكون خاليا عن الكمال فيكون ناقصا و الناقص لا يكون إلها و إن لم يكن صفة كمال فالموصوف به يكون موصوفا بما لا يكون صفة كمال فيكون ناقصا. و يمكن أن يقال:

ما به الممايزة إن كان معتبرا في تحقّق الإلهيّة فالخالي عنه لا يكون إلها و إن لم يكن معتبرا في الإلهيّة لم يكن الاتّصاف به واجبا فيفتقر إلى المخصّص فالموصوف به مفتقر و محتاج.

ثم هاهنا دليل آخر و هو أنّا لو فرضنا إلهين لكان لا بدّ و أن يكونا بحيث يتمكّن الغير من التميّز بينهما لأنّه إن تساويا في كلّ الجهات لما حصل الاثنينيّة، و الامتياز لا يحصل إلّا بالتباين في المكان أو في الزمان أو في الوجوب و الإمكان و أمثالها و كلّ ذلك على الإله محال فيمتنع حصول الامتياز.

ص: 147

و الرابع من الدليل أنّ أحد الإلهين إمّا أن يكون كافيا في تدبير العالم أولا يكون فإن كان كافيا كان الثاني ضائعا و غير محتاج إليه و ذلك نقص لأنّ وجود المهمل ناقص و الناقص لا يكون إلها.

و الخامس أنّ العقل يقتضي و يحكم باحتياج المحدث إلى الفاعل و لا امتناع في كون الفاعل الواحد مدبّرا لكلّ العالم فأمّا ما وراء ذلك فليس عدد أولى من عدد فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها و ذلك محال فالقول بوجود الآلهة محال.

و السادس أنّ أحد الإلهين إمّا أن يقدر على أن يستر شيئا من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر فإن قدر لزم أن يكون المستور عنه جاهلا و إن لم يقدر لزم كونه عاجزا.

و السابع أنّا لو فرضنا معدوما ممكن الوجود ثمّ قدّرنا إلهين فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كلّ واحد منهما عاجزا و العاجز لا يكون إلها و إن قدر أحدهما دون الآخر فهذا الآخر لا يكون إلها و إن قدرا جميعا فإمّا أن يوجداه بالتعاون فيكون كلّ واحد منهما محتاجا إلى إعانة الآخر و إن قدر كلّ واحد على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإمّا أن يبقى الثاني قادرا عليه و هو محال لأنّ إيجاد الموجود محال و إن لم يبق فحينئذ يكون الأوّل قد أزال قدرة الثاني و عجزه فيكون مقهورا تحت تصرّفه فلا يكون إلها.

فإن قيل: الواحد إذا أوجد مقدوره فقد زالت قدرته عنه فيلزمكم العجز.

قلنا: الواحد إذا أوجده فقد نفذت فنفاذ القدرة لا يكون عجزا أمّا الشركة فإنّه لمّا نفذت قدرته لم يبق لشريكه قدرة في إيجاده البتّة فزالت قدرة الثاني بسبب قدرة الأوّل و إيجاده فيكون إيجاد الأوّل تعجيزا للثاني.

و الثامن و هو أن نعيّن جسما مثلا و نقول: هل يقدر كلّ واحد منهما على خلق الحركة فيه بدلا عن السكون و بالعكس فإن لم يقدر كان عاجزا و إن قدر فنقول:

إذا خلق أحدهما فيه حركة امتنع على الثاني خلق السكون فالإله الأوّل أزال قدرة الثاني و عجزه.

و التاسع أنّ الشركة صفة نقص و التوحيد صفة الكمال و كلّما كان الملك أعظم

ص: 148

كان النقص في الشركة أعظم فإن أراد أحد الإلهين استخلاص الملك لنفسه مثلا فإن قدر على الثاني كان المغلوب فقيرا عاجزا فلا يكون إلها و إن لم يقدر فالأوّل عاجز و ناقص و مسلوب القدرة و لا يصلح أن يكون إلها.

و العاشر و هو أنّا إذا قدّرنا إلهين لكان إمّا أن يحتاج كلّ واحد منهما إلى الآخر أو يستغني كلّ واحد منهما عن الآخر أو يحتاج أحدهما إلى الآخر و الآخر يستغني عنه فإن كان الأوّل كان كلّ واحد منهما ناقصا لأنّ المحتاج ناقص و إن كان الثاني كان كلّ واحد منهما مستغنيا عنه و المستغنى عنه ناقص، لأنّ وجوده مهمل و لا ضرورة و لا فائدة له لأنّ الإله هو الّذي يستغنى به و لا يستغنى عنه و إن احتاج أحدهما إلى الآخر من غير عكس كان المحتاج ناقصا و المحتاج إليه هو الإله.

و اعلم أنّ هذه الوجوه المذكورة واحد من ألف بعضها براهين قطعيّة في إثبات التوحيد و بعضها إقناعيّة.

و أما الدلائل السمعيّة فأكثر من أن تحصى كقوله: «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ» (1) فالأوّل هو الفرد السابق بلا مسبوق فيكون أزليّا فوجب أن لا يكون له شريك.

و الثاني «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» (2) فالنصّ يقتضي أن لا يكون أحد سواه عالما بالغيب و لو كان له شريك لكان عالما بالغيب و هو خلاف النصّ.

و الثالث أنّ اللّه صرّح بكلمة «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ»* في سبعة و ثلاثين موضعا من كتابه و صرّح بالوحدانيّة في مواضع نحو قوله: «إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ»* (3) و قوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» (4).

و الرابع قوله: «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (5) حكم بهلاك كلّ ما سواه و من

ص: 149


1- الحديد: 3.
2- الانعام: 59.
3- النحل: 22 و غيره.
4- الإخلاص: 1.
5- القصص: 88.

عدم بعد وجوده لا يكون قديما و من لا يكون قديما لا يكون إلها.

و الخامس «وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» (1) و لو كان له شريك لكان ذلك الشريك جالبا للنّفع و دافعا للضرر.

و السادس «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» (2) و هذا الحصر يدلّ على نفي الشريك.

و السابع قوله تعالى: «خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ»* (3) فلو وجد الشريك لم يكن خالقا.

و اعلم أنّه من طعن في دلالة التمانع في قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» فسّر الآية بأنّ المراد لو كان في السماء و الأرض آلهة يقول بإلهيّتها عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأنّها جمادات لا يقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم قالوا: و هذا أولى لأنّه تعالى حكى عنهم قوله «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ» (4) ثمّ ذكر الدليل على فساد هذا القول فوجب أن يختصّ الدليل به و في هذا القدر من البيان الكفاية و باللّه التوفيق.

أمّا قوله: [فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ] لمّا أثبت الدلالة القاطعة على التوحيد أمر أنّ التسبيح لائق بالخالق القادر و لا يجوز العبادة لغيره و إنّما خصّ العرش بالذكر لأنّه أعظم المخلوقات و من قدر على الأعظم فبالأولى أن يخلق ما دونه و كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الّذي لا يعقل شريكا في الإلهيّة لخالق العرش العظيم؟

قوله: [لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ] وجه تعلّق الآية بما قبلها أنّ طلب اللمّيّة في أفعال اللّه بعد معرفة توحيده و قدرته غلط و ذلك أنّ الثنويّة و المجوس و هم الّذين أثبتوا للّه شريكا و قالوا: رأينا في العالم خيرا و شرّا و لذّة و ألما و حياة و موتا و صحّة و سقما و فاعل الخير خيّر و فاعل الشرّ شرير و يستحيل أن يكون الفاعل

ص: 150


1- الانعام: 17.
2- الانعام: 46.
3- الرعد: 18. الزمر: 62. المؤمن: 62.
4- السورة: 21.

الواحد خيّرا و شريرا معا فلا بدّ من فاعلين ليكون أحدهما فاعلا للخير و الآخر فاعلا للشرّ.

و حاصل هذه الشبهة أنّ مدبّر العالم لو كان واحدا لما خصّ هذا بالحياة و الصحّة و الغنى و خصّ ذلك بالموت و الألم و الفقر فلمّا كان مدار القائلين بالشريك على طلب اللمّيّة لا جرم بيّن سبحانه بعد بيان الدلائل على التوحيد أنّه سبحانه غير مسؤول عن أفعاله و غيره مسؤول عن فعله لا يقال للحكيم: لم فعلت؟ و بم فعلت؟ لأنّه العالم بالأصلح و عالم بقبح القبائح و غنيّ عنها و منزّه منها و من كان كذلك فإنّه يستحيل أن يفعل القبيح، و إذا عرفنا إجمالا أنّ كلّ ما يفعله على وفق الحكمة و الصواب فلم يجز للعبد الملوك أن يقول لمولاه: لم فعلت هذا؟

قوله تعالى: [أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً] كرّر هذا البيان استعظاما لكفرهم و عقيدتهم الفاسدة استفهام إنكار و توبيخ [قُلْ] لهم يا محمّد: [هاتُوا] حجّتكم على صحّة اتّخاذكم و فعلكم قل لهم يا محمّد: [هذا] القرآن [ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ] بما يلزمهم من الأحكام [وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي] فيه من الأمم من أحوالهم ممّن نجا بالإيمان و هلك بالكفر.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يعني بذكر من معي من معه و ما هو كائن و يعني بذكر من قبلي ما قد كان.

و قيل: إنّ معناه: في القرآن خبر من معي على ديني ممن يتّبعني إلى يوم القيامة بمالهم من الثواب على الطاعة و العقاب على المعصية و ذكر ما أنزل اللّه من الكتب قبلي فانظروا هل في واحد من الكتب أنّ اللّه أمر باتّخاذ إله سواه؟

قال الزمخشريّ: «ذكر» منوّنا و «من» مفعول للمصدر بمعنى الفاعل.

و قال الزجّاج: معناه قل يا محمّد لهم: هاتوا برهانكم بأنّ رسولا من الرسل أتى امّته بأنّ لهم إلها غير اللّه فهل في ذكر من معي و هو القرآن و ذكر من قبلي كالتوراة و الإنجيل إلّا توحيد اللّه؟ و يدلّ على صحّة هذا قوله فيما بعد. «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».

ص: 151

فلمّا توجّهت الحجّة عليهم ذمّهم على جهلهم فقال: [بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ] عن التفكّر و إنّما خصّ الأكثر منهم لأنّ فيهم من آمن.

قوله: [وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ] يا محمّد [مِنْ رَسُولٍ] و «من» زائدة [إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ] نحن أو يوحي إليه اللّه البتّة بأنّه لا معبود على الحقيقة إلّا أنا فوجّهوا العبادة إليّ دون غيري.

[وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً] يعني من الملائكة، نزّه نفسه عن ذلك. نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات اللّه و أضافوا إلى ذلك أنّه تعالى صاهر الجنّ، و المراد بالجنّ هنا الملائكة على ما حكى اللّه عنهم فقال: [وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً] فنزّه نفسه بقوله سبحانه لأنّ الولد لا بدّ و أن يكون شبيها بالوالد فلو كان للّه ولد لأشبهه من بعض الوجوه ثمّ لا بدّ و أن يخالفه من بعض الوجوه و ما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات اللّه و كلّ مركّب ممكن فاتّخاذ الولد يوجب كونه ممكنا غير واجب و ذلك يخرجه عن حدّ الإلهيّة و يدخله في حدّ العبوديّة.

[بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ] مفضّلون يتّبعونه في أوامره [لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ] لا يقولون شيئا حتّى يقوله أي يأمر به و لا يسبق قولهم قوله و قولهم تابع لقوله و أمره [وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ] أي لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به.

ثمّ ذكر ما يجري مجرى السبب لهذه الطاعة فقال: [يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ] أي لمّا علموا كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات و علموا كونه عالما بظواهرهم و بواطنهم فكان ذلك داعيا لهم إلى نهاية الخضوع و العبوديّة. قال ابن عبّاس: يعلم ما قدّموا و ما أخّروا من أعمالهم. و قيل: ما بين أيديهم الآخرة و ما خلفهم الدنيا. و قيل:

على العكس. و قيل: المعنى: يعلم ما كان قبل خلقهم و ما يكون بعد خلقهم و هو محيط بهم.

[وَ لا يَشْفَعُونَ] الملائكة [إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى] اللّه دينه. و قيل: إلّا لمن رضي اللّه عنه.

و قيل: إنّهم أهل شهادة أن لا إله إلّا اللّه. و قيل: هم المؤمنون المستحقّون للثواب و حقيقة المعنى أنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى اللّه أن يشفع فيه فيكون في معنى: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» (1).

ص: 152


1- البقرة: 257.

و في الخصال عن الصادق عليه السّلام: و أصحاب الحدود فسّاق لا مؤمنون و لا كافرون لا يخلدون في النار و يخرجون منها يوما و الشفاعة جائزة لهم و للمستضعفين إذا ارتضى اللّه دينهم.

و في التوحيد عن الكاظم عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل قيل: يا ابن رسول اللّه كيف يكون الشفاعة لأهل الكبائر و اللّه يقول: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» و من ركب الكبيرة لا يكون مرتضى؟ فقال عليه السّلام: ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلّا ساءه ذلك و ندم عليه و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كفى بالندم توبة و قال عليه السّلام: من سرّته حسنة و ساءته سيّئة فهو مؤمن فمن لم يندم على ذنب ارتكبه فليس بمؤمن و لم يجب له الشفاعة و كان ظالما و اللّه تعالى ذكره بقوله: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ» (1) فقيل له: يا ابن رسول اللّه و كيف لا يكون مؤمنا من لم يندم على ذنب يرتكبه؟ فقال عليه السّلام: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي و هو يعلم أن سيعاقب عليها إلّا ندم على ما ارتكب و متى ندم كان تائبا مستحقّا للشفاعة و متى لم يندم عليها كان مصرّا و المصرّ لا يغفر له لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار، و أمّا ما قال عزّ و جلّ: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» فإنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى اللّه دينه و الدين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيّئات فمن ارتضى اللّه دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة. انتهى.

قوله: [وَ هُمْ] أي الملائكة [مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ] أي من خشيتهم منه تعالى مشفقون و خائفون وجلون من التقصير في عبادته، فأضيف المصدر إلى المفعول.

[وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ] أي من هؤلاء الملائكة من يقل منهم إنّي إله يحقّ لي العبادة من دون اللّه [فَذلِكَ] القائل [نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ] و هذا لا يدلّ على أنّهم قالوا ذلك و ما قالوه، و هو قريب من قوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (2)

ص: 153


1- المؤمن: 18.
2- الزمر: 65.

و قيل: المراد إبليس لأنّه الّذي دعا الناس إلى عبادته و هذا يصحّ إذا كان إبليس من الملائكة و عند الأكثر أنّه ليس من الملائكة.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا] في الآية بيان أنّ الإله القادر على مثل هذه المخلوقات العجيبة العظيمة الغريبة كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة مخلوق حجر لا يضرّ و لا ينفع؟

و ذكر ستّة أنواع من الدلائل:

النوع الاول: [أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما] و المراد من الرؤية هاهنا العلم أي العقل يحكم بأنّ الأجسام يصحّ عليها الرتق و الفتق يعني الاجتماع و صالحة لقبول الاجتماع و الافتراق باختصاصها فالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصّصا و قد فسّر الخاصّة الرتق في السماء و الأرض بأن لا يمطر السماء و لا ينبت الأرض ففتقنا هما أي أمطرنا من السماء و أنبتنا من الأرض.

في الكافي عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: لعلّك تزعم أنّهما كانتا ملتزقتان ففتقت إحداهما عن الاخرى؟ فقال: نعم فقال: استغفر ربّك فقوله «كانَتا رَتْقاً» يقول: كانت السماء لا ينزل بالمطر و كانت الأرض لا تنبت الحبّ فلمّا اهبط آدم إلى الأرض و تاب اللّه عليه أمر السماء فتقطّرت بالغمام ثمّ أمرها فأرخت عزاليها (1) و أمر الأرض فأنبتت النبات فكان ذلك رتقها و هذا فتقها فكانت السماء خضراء على لون الماء الأخضر و الأرض غبراء على لون الماء العذب و كانتا مرتوقتين لم تمطر و لم تنبت ففتقهما بالمطر و النبات، و اليهود و النصارى كانوا عالمين بذلك فإنّه جاء في التوراة أنّ اللّه خلق جوهرة ثمّ نظر إليها بعين إلهيّته فصارت ماء ثمّ خلق السماوات و الأرض منها و فتقهما و كان بين عبدة الأوثان و بين اليهود صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاحتجّ اللّه عليهم بهذه الحجّة بناء على قبولهم قول اليهود.

و اختلفوا في المراد من الرتق و الفتق:

قيل: إنّ المعنى: كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصّل اللّه بينهما و رفع السماء إلى حيث هي و أقرّ الأرض. و هذا القول يشعر بأنّ جعل الأرض على وضعها مقدّمة.

ص: 154


1- جمع العزلاء: مصب الماء من القربة.

على السماء لأنّه تعالى لمّا فصّل بينهما ترك الأرض حيث هي و أصعد الأجزاء السماويّة.

و قيل: المراد من الرتق الاستواء و الصلابة ففتقهما اللّه أمّا السماء بالمطر و الأرض بالنبات و الزرع و الشجر. و الدليل على هذا المعنى قوله بعد ذلك: «وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ» و ذلك لا يليق إلّا و للماء تعلّق بما تقدّم من المعنى.

و قيل: المراد بالرتق حال عدم الأشياء قبل الوجود و الفتق الإيجاد و الظهور كقوله: «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»* فأخبر سبحانه عن الإيجاد بلفظ الفتق و عن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق لأنّ العدم نفي محض و ليس فيه ذرّات مميّزة و كأنّه أمر واحد بسيط فعند الوجود و التكوّن يتميّز بعضها عن بعض و ينفصل، فبهذا الطريق يحسن إطلاق العدم على الرتق و الوجود على الفتق مجازا.

النوع الثاني: من الدلائل الستّة: [وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ] و جعلنا إمّا أن يتعدّى إلى واحد فالمعنى: خلقنا كلّ ذي روح و حيوان من الماء و هذا كقوله: «وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» (1) و إذا تعدّى إلى مفعولين فالمعنى: صيّرنا كلّ شي ء حيّا بسبب من الماء لا بدّ له منه، فحينئذ «من» في هذا الكلام مثل «من» في كلامه: «ما أنا من دد و لا الدد مني» و على هذا يكون «حيّا» بالنصب على المفعول الثاني.

فإن قيل كيف قال: و خلقنا من الماء كلّ حيوان و قد قال: «وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ» (2)؟

و الجواب: اللفظ و إن كان عامّا إلّا أنّ القرينة المخصّصة قائمة و الدليل إذا كان مشاهدا محسوسا فخروج الجنّ و الملائكة و عيسى لا يخرج الدليل عن كونه دليلا لأنّ الكفّار لم يروا شيئا من ذلك و لا يختصّ بالحيوان كونه من الماء بل يدخل فيه النبات و الأرض أما ترى يقول سبحانه: «كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (3)؟

و بالجملة فالماء الّذي بسببه حياة كلّ حيوان و شي ء من ينزله من السماء غير اللّه؟ أفلا يؤمنون و يصدّقون بتوحيده و يدعون الشرك و التثليث؟

ص: 155


1- النور: 45.
2- الروم: 50.
3- الحجر: 27.

النوع الثالث

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 31 الى 35]

وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)

الجبال الراسية أي الراسخة في الأرض كراهة أن تميل بهم لأنّ الأرض بسطت على الماء فكانت تنكفئ بأهلها كما تنكفئ السفينة فأرساها اللّه بالجبال الثقال لئلّا تميل و تنقلب بأهلها فحذف «لا» لعدم الالتباس لوضوح المعنى و حذف لام الاولى من «لئلّا» و بقيت «أن» و الجبال أثبت الأرض عن الحركة و الاضطراب و التمايل و حصول الاستقرار.

النوع الرابع من شواهد القدرة و الدلائل: [وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ] الفجّ الطريق الواسع أي جعل في الجبال طرقا واسعة حين خلقها على تلك الصفة. و قيل: الضمير في «فيها» راجعة إلى الأرض، و في رواية عطا عن ابن عبّاس و عن ابن عمر: كانت الجبال منضمّة فلمّا أغرق اللّه قوم نوح فرّقها فجاجا و جعل فيها طرقا لكي يهتدوا إذ الشكّ لا يجوز على اللّه و المراد ليهتدوا بأمور معاشهم و يهتدوا إلى معرفة القادر الخالق على وجه الحكمة.

و هذه الآية دليل على أنّ اللّه أراد من المكلّفين الاهتداء و الخير لهم و الاهتداء إلى المعاش و المعاد يشتركان في مفهوم واحد و هو أصل الاهتداء فيحمل اللفظ على ذلك المشترك فيكون الآية متناولة للأمرين و لا يلزم منه كون اللفظ المشترك مستعملا في مفهوميه معا.

النوع الخامس قوله: [وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ] سمّى السماء سقفا لأنّها للأرض كالسقف للبيت سمّي محفوظا من الوقوع و السقوط و قيل:

محفوظا من الشياطين بالشهب الّتي ترمى بها قال تعالى: «وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ

ص: 156

رَجِيمٍ» (1) و هم عن آياتها من العجائب في حركاتها و آثارها و مطالعها و مغاربها و اختلاف أوضاعها من الأدلّة و العبر [مُعْرِضُونَ] و غافلون.

النوع السادس [وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ] مثلا لو كان يخلق سبحانه السماء و الأرض و لم يخلق الشمس و القمر ليظهر بهما الليل و النهار و يظهر بهما من المنافع بتعاقب الحرّ و البرد لم تتكامل النعم على عباده و إنّما حصلت و كملت النعم عليهم بسبب حركاتها في أفلاكها و لهذا قال: [كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] أي يجرون و يدورون من الشمس و القمر و النجوم و مع هذا لا يتدبّرون و لا يتفطّنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيويّة كالاستضاءة بقمرها و الاهتداء بكواكبها و حياة الأرض بأمطارها و كونها آية بيّنة على وجود الخالق و وحدانيّته، معرضون و غافلون.

قال صاحب الكشّاف: التنوين في «كلّ» عوض عن المضاف إليه أي كلّهم في فلك يسبحون و الجمع باعتبار أنّ النجوم داخلة فيها و النجم باعتبار وجود الليل و الجمع بالواو و النون لا يكون إلّا للعقلاء لأنّها موصوفة بصفة العقلاء و هو الحركة و السياحة و الجري.

و اختلف الناس في حركات الكواكب، و الوجوه المتصوّرة فيها ثلاثة: فإنّه إمّا أن يكون الفلك ساكنا و الكواكب تتحرّك فيه كحركة السمك في الماء الراكد و إمّا أن يكون الفلك متحرّكا و الكواكب تتحرّك فيه أيضا إمّا مخالفا لجهة حركته أو موافقا لجهته إمّا بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة و البطء أو مخالفة. و إمّا أن يكون الفلك متحرّكا و الكواكب ساكنا.

أمّا الرأي الأوّل فقالت الفلاسفة: إنّه باطل لأنّه يوجب خرق الأفلاك و هو محال. و أمّا الرأي الثاني فحركة الكواكب إن فرضت مخالفة لحركة الفلك فذاك أيضا يوجب الخرق و إن كانت حركتها إلى جهة الفلك فإن كانت مخالفة في السرعة و البطء لزم الانخراق و إن استوتا في الجهة و السرعة و البطء فالخرق أيضا لازم لأنّ الكواكب

ص: 157


1- الحجر: 17.

يتحرّك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتيّة زائدة فيلزم الخرق فلم يبق إلّا القسم الثالث و هو أن يكون الكواكب مغروزا في ثخن الفلك واقفا فيه و الفلك يتحرّك فيتحرّك الكواكب بسبب حركة الفلك.

و اعلم أنّ مدار هذا الكلام على امتناع الخرق على الأفلاك و هو باطل بل الحقّ أنّ أقسام الثلاثة ممكنة و اللّه تعالى قادر على كلّ الممكنات و هذه المحالية الّتي فرضوها الفلاسفة بمعزل عن القدرة و ليس لنا طريق إلى العلم بهذه الأوضاع إلّا السمع و الّذي يدلّ عليه القرآن أن تكون الأفلاك واقفة و الكواكب تكون جارية فيها كما تسبح السمكة في الماء، انتهى.

قوله تعالى: [وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ] المعنى: لمّا استدلّ بالدلائل المذكورة من النعم و هي اصول النعم أتبعه و نبّهه على أنّ هذه النعم لا تدوم و لا تبقى بل لا يبقى من خلقت الدنيا و الأفلاك له و بسببه بل خلقها للابتلاء و الامتحان فقال: و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلود و البقاء.

سبب النزول: قال مقاتل: إنّ ناسا كانوا يقولون: إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يموت فنزلت الآية. و قيل: كانوا يقولون: إنّه سيموت فيشمتون بموته فنفى اللّه عنه الشماتة بأن قضى اللّه أن لا يخلد في الدنيا بشرا فلا أنت و لا هم إلّا عرضة للموت أ فإن متّ أنت أ يبقى هؤلاء و ما جعلنا في حكمنا و تدبيرنا لبشر من قبلك يا محمّد الدوام و البقاء في الدنيا.

[أَ فَإِنْ مِتَ] على ما يتوقّعونه و ينتظرونه فهم الباقون يعني مشركي العرب حتّى قالوا: نتربّص بمحمّد ريب المنون و الحاصل فأيّ فائدة لهم؟

[كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ] لا بدّ لكلّ نفس أن يدخل عليه الموت و تخرج عن كونها حيّة. و اعلم أنّ هذا العموم مخصوص فإنّه تعالى نفس لقوله: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» (1) مع أنّ الموت لا يجوز عليه و كذلك الجمادات لها نفوس و هي لا تموت و لو أنّ في هذا الكلام الأخير تأمّلا بأنّ الجمادات لا تموت بل يمكن إعدامها بموتها و على الجملة فالعامّ المخصّص مستثنى و حجّة و يبقي معمولا به فيما عداه.

ص: 158


1- المائدة: 119.

و ذلك يبطل قول الفلاسفة في أنّ الأرواح البشريّة و العقول المفارقة و النفوس الفلكيّة لا تموت. و الذوق هاهنا إدراك خاصّ من لازم الموت و إعدام الحياة و لعلّ له مرارة خاصّة من شدّة ألم النزع فيكون من المذاقات حقيقة من الآلام العظيمة الّتي من مقدّمات حصول الموت قبل دخوله في الوجود.

قوله تعالى: [وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ] و الابتلاء لا يتحقّق إلّا مع التكليف فالآية دالّة على حصول التكليف، و يمتحن سبحانه المكلّف بأمرين: أحدهما ما سمّاه خيرا و هو نعم الدنيا من الصحّة و اللذّة و السرور و التمكّن من المرادات. و الثاني ما سمّاه شرّا و هو المضارّ الدنيويّة من الفقر و الآلام و الشدائد النازلة على المكلّفين، و العبد يتردّد بين هاتين الحالتين لكي يشكر على المنح و يصبر و يتحمّل في المحن فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم و إنّما سمّى ذلك ابتلاء و هو عالم بما سيكون من أعمال العباد العاملين قبل وجودهم. قال الزمخشريّ: «فتنة» مصدر تأكيد لقوله «لنبلوكم» من غير لفظه.

قوله: [وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ] و احتجّت التناسخيّة بقوله: «وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» فإنّ الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه و هذا الاستنباط غلط؛ لأنّ المراد من الرجوع الرجوع و المردّ إلى حكمته سبحانه و محاسبته و مجازاته و ليس المعنى أنّهم كانوا قبل دخولهم في هذا العالم ثمّ رجعوا إليه و من المعلوم ضرورة أنّهم كانوا مسبوقين بالعدم ثمّ وجدوا فمن أين ثبت أنّهم كانوا ثمّ رجعوا؟ كما أنّ المجسّمة قالوا بأنّا أجسام فرجوعنا إلى اللّه يقتضى كون اللّه جسما و هذا غلط أفحش من الأوّل لأنّ الجسم محتاج إلى حيّز و تركيب و احتياج و كلّه منزّه عنه تعالى اللّه عن التجسّم و التركيب و الاحتياج.

و بالجملة لا بدّ للإنسان المكلّف أن يمتحن بالخير و الشرّ. في المجمع عن الصادق عليه السّلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرض فعاده إخوانه فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: بشرّ، قالوا: ما هذا كلام مثلك، قال: إنّ اللّه يقول: و نبلوكم بالشرّ و الخير؛ فالخير الصحّة و الغنى و الشرّ المرض و الفقر.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 36 الى 40]

وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)

ص: 159

قيل: نزلت في أبي جهل مرّ به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان أبو سفيان مع أبي جهل فقال أبو جهل: هذا نبيّ بني عبد مناف، فقال أبو سفيان: و ما ننكر أن يكون نبيّا في بني عبد مناف فسمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قولهما فقال لأبي جهل: ما أراك تنتهي حتّى ينزل بك ما نزل بعمّك الوليد بن المغيرة فنزلت الآية و خاطب نبيّه:

[وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا] و أنت تعيب آلهتهم و ذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّها جماد لا تضرّ و لا تنفع ما يتّخذونك إلّا سخريّة و يقول بعضهم لبعض: [أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ] بسوء و يدلّ على معنى السوء القرينة [وَ هُمْ بِذِكْرِ] التوحيد و بكتابه المنزل جاحدون و عجّب اللّه نبيّه منهم حيث جحدوا الحيّ المنعم القادر الخالق الرازق ثمّ إنّ من دعاهم إلى ترك عبادة الجماد المهملة اتّخذوه هزوا و هم أحقّ بالسخريّة عند من يتدبّر.

و تكرار الضمير للعناية بالتأكيد.

قوله: [خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ] كان الكفّار يستعجلون عذاب اللّه الّذي يوعدهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسبب مخالفتهم و كفرهم فذمّهم سبحانه على إفراط العجلة.

ثمّ نهاهم و زجرهم و أوعدهم بهذا الاستعجال فقال: [سَأُرِيكُمْ آياتِي] الدالّة على صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يوعدكم به من العذاب [فَلا تَسْتَعْجِلُونِ] بنزوله فإنّه سيدرككم عن قريب.

قال ابن عبّاس: المراد من الإنسان في الآية هو الشخص و هو النضر بن الحارث و هو الّذي قال: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ» الآية (1) و أراد بقوله:

«سَأُرِيكُمْ آياتِي» يوم بدر.

[وَ يَقُولُونَ] يعني المشركون يقولون للمسلمين: [مَتى هذَا الْوَعْدُ] الّذي

ص: 160


1- الأنفال: 32.

تعدوننا؟ يريدون وعد القيامة [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ] في وعدكم و قيل: المراد بالإنسان آدم عليه السّلام.

ثمّ قيل في معنى «عجل» تأويلات:

منها أنّه خلق بعد خلق كلّ شي ء آخر نهار يوم الجمعة و هو آخر أيّام الستّة معاجلا به غروب الشمس، عن مجاهد.

و منها أنّ معناه: في سرعة من خلقه لأنّه لم يخلقه من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة كما خلق غيره و إنّما أنشأه إنشاء فكأنّه نبّه بذلك على الآية العجيبة في خلقه.

و منها أنّ آدم لمّا خلق و جعلت الروح في أكثر من جسده وثب عجلان مبادرا إلى ثمار الجنّة و همّ بالوقوف فهذا معنى قوله: «من عجل» روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و في معنى خلق الإنسان من عجل ذكروا وجوها على قول من قال: المراد نوع الإنسان لا شخص آدم عليه السّلام:

أحدها أن معناه: خلق الإنسان عجولا أي خلق على حبّ العجلة في أمره يعني أنّه يستعجل في كلّ شي ء يشتهيه و للعرب عادة في استعمالهم هذا اللفظ عند المبالغة يقولون لمن يصفونه بكثرة النوم: ما خلق إلّا من نوم، و بكثرة وقوع الشرّ منه ما خلق إلّا من شرّ و منه قول الخنساء في وصف البقرة:

«فإنّما هي إقبال و إدبار»

. و ثانيها أنّه من المقلوب و المعنى: خلقت العجلة من الإنسان و هذا ضعيف.

و ثالثها أنّ العجل هو الطين عن أبي عبيدة و جماعة و استشهد بقول الشاعر:

و النبع ينبت بين الصخر ضاحيةو النخل تنبت بين الماء و العجل

فعلى هذا يكون كقوله: «وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» (1).

و رابعها أنّ معناه: خلق الإنسان من تعجل من الأمر لأنّه تعالى قال: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (2).

قوله تعالى: [لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ]

ص: 161


1- الم- السجدة: 7.
2- النحل: 30.

و جواب لو محذوف. و إنّما خصّ الوجوه و الظهور لأنّ مسّ العذاب لهما أعظم موقعا أي لو علموا الوقت الّذي لا يدفعون فيه عذاب النار عن وجوههم و لا عن ظهورهم و يحيط بهم من جوانبهم لما استعجلوا العذاب و لصدّقوك.

[بَلْ تَأْتِيهِمْ] الساعة [بَغْتَةً] فجأة [فَتَبْهَتُهُمْ] و تحيّرهم [فَلا يَسْتَطِيعُونَ] على دفعها و لا يؤخّرون إلى وقت آخر و لا يمهلون بمعذرة و توبة.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 41 الى 45]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45)

المعنى: ثمّ ذكر الوجه الّذي دفع الحزن عن قلب رسول اللّه فقال:

[وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ] بالمستهزئين و أحاط بهم عقوبة استهزائهم و حلّ بهم وبال سخريّتهم و قوله: [مِنْهُمْ] يعني من الرسل.

[قُلْ] يا محمّد لهؤلاء الكفّار عند ذلك: لو لا أنّ اللّه يحرسهم لما بقوا في السلامة و [مَنْ] يحفظكم [بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ] من بأس الرحمن و عذابه و عوارض الأوقات؟ و هذا الكلام كقول الرجل لمن حصل في قبضته و لا مخلص له منه: إلى أين مفرّك منّي؟ و لعلّ التخصيص هاهنا باسم الرحمن بالذكر تلقينا للجواب حتّى يقول العاقل: أنت الكالئ يا إلهنا لكلّ الخلائق برحمتك كما في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» (1) حتّى يقول: غرّني كرمك يا كريم.

قوله [بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ] أي إنّهم مع إنعامه سبحانه عليهم عن

ص: 162


1- الانفطار: 6.

ذكر ربّهم أي القرآن أو معرفته سبحانه معرضون و لا يؤمنون به و لا يلتفتون إلى شي ء من المواعظ و الحجج.

ثمّ قال على وجه التوبيخ لهم: [أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ] من عذابنا و دفع ما ينزل بهم، و تمّ الكلام ثمّ وصف آلهتهم بالعجز و الضعف فقال: [لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ] و هذا خبر مبتدء محذوف و التقدير: هذه الآلهة لا يستطيعون نصر أنفسهم [وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ] أي و لا الكفّار يجأرون من عذابنا قال ابن قتيبة: أي لا يجرهم أحد من عذابنا يقول: صحبك اللّه أي أجارك و حفظك. و قيل: معناه: لا يصحبون من اللّه بخير.

قوله: [بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ] ثمّ بيّن تفضّله عليهم بأنّا مع ذلك ما عذّبناهم و ما عجّلنا العقوبة و متّعناهم و آباءهم في الدنيا بنعمها إلى أن طالت أعمارهم فغرّهم طول العمر فنسوا و جهلوا مواقع نعمنا و اغترّوا بذلك.

[أَ فَلا] يرى هؤلاء المشركين باللّه آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها بأخذ الواحد بعد الواحد و بفتح البلاد و القرى حول مكّة و نزيدها في ملك محمّد و نميت رؤساء المشركين الممتّعين بالدنيا. و قيل: بموت العلماء نقصها و تخريبها، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: نقصانها ذهاب عالمها. و قيل: معناه: ننقصها من أطرافها بظهور النبيّ على من قاتله أرضا فأرضا قوما فقوما فيأخذ أراضيهم أو ننقصها من جانب المشركين و نزيدها في جانب المسلمين أ فهؤلاء الغالبون أم نحن الغالبون؟

[قُلْ] لهم يا محمّد: [إِنَّما أُنْذِرُكُمْ] من عذاب اللّه و اخوّفكم بما أوحى اللّه إليّ، و شبّههم اللّه بالصمّ الّذين لا يسمعون النداء إذا نودوا لأنّهم لم ينتفعوا بالسمع أو أنّهم يشتغلون عن سماع القرآن فهم بمنزلة الأصمّ [إِذا ما يُنْذَرُونَ].

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 46 الى 50]

وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

ص: 163

المعنى: إنّ الكفّار المتصاممين عن آيات اللّه على هذه الصفة من الجرأة و الجسارة يؤول أمرهم إلى أن إذا شاهدوا اليسير ممّا انذروا به و أصابهم بعض قليل في نهاية القلّة ممّا يستحقّونه من العقوبة فيعترفون و يسمعون حينئذ و يقولون: الويل لنا [إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ] أنفسنا و أصل النفح من الربح النسيئة كأنّه سبحانه يقول: و إن مسّتهم رائحة من العذاب لتنادوا بالويل. قال صاحب الكشّاف: في المسّ و النفح ثلاث مبالغات لفظ المسّ و ما في النفح من معنى القلّة و النزارة و لفظ المرّة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلّا عدلا و هذا معنى [وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ] و صف اللّه الموازين بالقسط لأنّ الميزان قد يكون غير مستقيم و أكّد ذلك بقوله: [فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً] و القسط و إن كان صفة للموازين و موحّد فهو كقولك للقوم: أنتم عدل. و قال الزجّاج: أي موازين ذوات العدل و القسط.

و قوله: «لِيَوْمِ الْقِيامَةِ» أي لأهل يوم القيامة. قيل: المراد بالموازين العدل بينهم في الأعمال فمن أحاطت حسناته بسيّئاته ثقلت موازينه يعني أنّ حسناته تذهب بسيّئاته و من أحاطت سيّئاته بحسناته فقد خفّت موازينه أي إنّ سيّئاته تذهب بحسناته، حكاه ابن جرير هكذا عن ابن عبّاس، و لكن اتّفق الجمهور و الأئمّة على أنّه سبحانه يضع الموازين الحقيقيّة فتوزن بها الأعمال و هو ميزان له كفّتان و لسان و هو بيد جبرئيل.

و روي أنّ داود عليه السّلام سأل ربّه أن يريه الميزان فلمّا رآه غشي عليه فلمّا أفاق قال: يا إلهي من الّذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ فقال: يا داود إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة.

قال الرازيّ: إنّ حمل الميزان على مجرّد العدل مجاز و صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز غير جائز لا سيّما قد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في هذا الباب.

فلو قيل: هذه الآية يناقضها قوله: «فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (1).

فالجواب أنّه لا يكرمهم و لا يعظّمهم. و في الكافي عن السجّاد عليه السّلام في كلامه في وعظه من جملة له: اعلموا عباد اللّه أنّ أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين و لا ينشر لهم

ص: 164


1- الكهف: 106.

الدواوين و إنّما يحشرون إلى جهنّم زمرا و إنّما ينصب الموازين و ينشر الدواوين لأهل الإسلام فاتّقوا عباد اللّه.

فإن قيل: أهل القيامة إمّا أن يكونوا عالمين بكونه عادلا غير ظالم أو لا يعلمون فإن علموا ذلك كان مجرّد حكمه كافيا في معرفة أنّ الغالب هو الحسنات أو السيّئات فلا يكون في وضع الميزان فائدة و إن لم يعلموا لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف فما الفائدة؟

الجواب: لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون و فيه ظهور حال الوليّ من العدوّ و المطيع من العاصي في مجمع الخلائق فيكون لأحد القبيلتين في ذلك أعظم السرور و للآخر أعظم الغمّ.

قوله: [وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ] أي إنّه لا ينقص من إحسان محسن و لا يزاد في إساءة مسي ء، و كان تامّة، و إنّما انّث ضمير المثقال لإضافته إلى الحبّة كقولهم: ذهبت بعض أصابعه.

فإن قيل: الحبّة أعظم من الخردلة، فالوجه فيه أن إذا فرضت الخردلة مثلا دخنة فالحبّة دانق من تلك الدخنة.

[وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ] و لا يشتبه علينا شي ء في الحساب، قيل: رؤي في الرؤيا بعض الأخيار من الأموات فسئل عنه: ما فعل بك؟ قال:

حاسبونا فدقّقواثمّ منّوا فأعتقوا

قوله تعالى: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ] و أعطيناهما التوراة لأنّها تفرق بين الحقّ و الباطل. و قيل: المراد: الّذي فرّق به بين حقّ موسى و باطل فرعون.

و النظم في الآية أنّه كما استهزئ بك كذلك استهزئ بمن قبلك و كما أنزلنا عليك القرآن كذلك أنزلنا على موسى الفرقان و ليس هذا الأمر ببدع فلم ينكرون قومك؟

[وَ ضِياءً] أي آتيناهما بسبب التوراة نورا و هدى استضاءوا بها حتّى اهتدى و اهتدوا في دينهم [وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ] يذكرونه و يعملون بما فيه و يتّعظون بمواعظه.

ص: 165

ثمّ وصف المتّقين فقال: [الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ] في حال الخلوة و الغيبة عن الناس في سرائرهم من غير رياء [وَ هُمْ] من القيامة و أهوالها خائفون.

[وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ] أي القرآن ذكر مبارك ثابت نافع دائم نفعه إلى يوم القيامة و سمّي مباركا لوفور فوائده من المواعظ الداعية إلى مكارم الأخلاق و الأفعال [أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ] بم تنكرونه و تجحدونه؟

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 51 الى 60]

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)

قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60)

المعنى: ثمّ عطف على قصّة موسى فقال: [وَ لَقَدْ] أعطينا [إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ] يعني الحجج الّتي توصّل بها إلى معرفة اللّه أو المراد من الرشد النبوّة [مِنْ قَبْلُ] موسى و قبل محمّد و قيل: من قبل بلوغه [وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ] بأنّه أهل لإيتاء الرشد و صالح للنبوّة.

[إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ] حين رآهم يعبدون الأصنام: [ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ] و العامل في «إذ» آتينا. و التمثال اسم للشي ء المصنوع شبها بخلق من خلق اللّه و أصله من مثّلث الشي ء بالشي ء. قيل: إنّهم جعلوها أمثلة لعلمائهم الّذين انقرضوا. و قيل: جعلوها شبها للأجسام العلويّة. و المعنى: ما هذه الصور الّتي أنتم مقيمون على عبادتها.

روى العيّاشيّ بإسناده عن الأصبغ بن نباتة أنّ عليّا عليه السّلام مرّ بقوم يلعبون الشطرنج فقال: ما هذه التماثيل الّتي أنتم لها عاكفون؟ لقد عصيتم اللّه و رسوله.

ص: 166

[قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ] فاقتدينا بهم فاعترفوا بالتقليد إذ لم يجدوا حجّة لعبادتهم إيّاها سوى اتّباع الآباء.

فأجابهم إبراهيم بقوله: [لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] و بيّن أنّ الباطل لا يصير حقّا بسبب كثرة المتمسّكين به.

فعند ذلك [قالُوا] له: [أَ جِئْتَنا بِالْحَقِ] أي هذا الكلام الّذي تقول جادّ و تقول على سبيل الحقيقة أم تمازحنا و تلعب بنا؟ و إنّما قالوا ذلك لاستبعاد إنكار عبادة الأصنام كأنّهم يقولون: هل يمكن أن لا يعبد الأصنام؟

فعند ذلك عدل إبراهيم عليه السّلام إلى بيان التوحيد: [قالَ بَلْ] إلهكم الّذي يكون تعبدوه [رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ] و هو الّذي يحسن أن يعبد لأنّه الّذي يضرّ و ينفع. و الضمير في «خلقهنّ» راجع إلى السماوات أو إلى الأصنام.

و إلى الأصنام أدخل في طريق الاحتجاج.

قوله: [وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ] و المقصود المبالغة في التأكيد و التحقيق كقول الرجل إذا بالغ في إثبات أمر يقول: أشهد أنّه كذلك و أنا لست مثلكم و شهدت هذا الأمر أو أنتم جاهلون و أنا شاهد و عالم به.

قوله: [تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ] تتعطّلوا ذاهبين، و لمّا علم إبراهيم بأنّ الحجّة القوليّة لا تنفعهم عدل إلى الطريقة الفعليّة فقال: لأكيدنّ أي لأدبّرنّ في بابهم تدبيرا خفيّا يسؤكم، و الكيد الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به و هم كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثمّ عادوا إلى منازلهم فلمّا كان هذا الوقت قال:

آزر لإبراهيم: لو خرجت معنا، فخرج معهم فلمّا كان ببعض الطريق ألقى نفسه و قال:

إنّي سقيم أشتكي رجلي، فلمّا مضوا و بقي ضعفاء الناس نادى و قال: تاللّه لأكيدنّ أصنامكم.

قال الكلبيّ: كان إبراهيم من أهل بيت ينظرون في النجوم و كانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلّا مريضا، فلمّا همّ إبراهيم بالّذي همّ من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء و قال لأصحابه: أراني أشتكي غدا فذلك قوله: «فَنَظَرَ نَظْرَةً

ص: 167

فِي النُّجُومِ* فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» (1) و أصبح من الغد معصوبا رأسه فخرج القوم لعيدهم و لم يتخلّف غيره أحد فقال: أما و اللّه لأكيدنّ أصنامكم! فسمع رجل منهم هذا القول منه فحفظه عليه. ثمّ إنّ ذلك الرجل أخبر غيره فانتشر الخبر فلذلك قالوا: «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ».

و بالجملة إنّ إبراهيم دخل بيت الأصنام وجد سبعين صنما مصفّفة و ثمّ صنم عظيم مستقبل الباب و كان من ذهب و كان في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسّرها كلّها بالفأس حتّى لم يبق إلّا الكبير و علّق الفأس في عنقه.

[فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً] قطعا قطعا و حطاما [إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ] فتركه على حاله و خرج إبراهيم من بيت الأصنام [لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ] إلى إبراهيم فيسألونه عن حال الأصنام فيحتجّ عليهم بعجز الأصنام فيعلمون جهلهم باتّخاذ هم الأصنام آلهة و أنّها عجزة و لا تقدر أن تدفع عن أنفسها الضرّ، أو الضمير في إليه راجع إلى كبير الأصنام و يقولون:

ما لهؤلاء الأصنام مكسورة و مالك صحيحا و الفأس على عاتقك؟

[قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا] و في الكلام حذف و تقديره: فلمّا رجع قومه من عيدهم فوجدوا أصنامهم مكسورة قالوا: من فعل هذا الصنع بآلهتنا؟ و من فعله [كان من الظالمين] و فعل ما لم يكن له أن يفعل.

[قالُوا سَمِعْنا فَتًى يذكر] الآلهة بسوء و يعيب عليها [يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ] لأنّهم كانوا سامعين من إبراهيم عيب الآلهة و هو كان القائل: لأكيدنّ أصنامكم.

فإن قيل: إمّا أنّ القوم عقلاء أو ما كانوا عقلاء فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أنّ الخشبة المنحوتة في النهار أو من قبل بسنة أو أكثر غير قابلة للعبادة و أنّها لا تضرّ و لا تنفع. و إن قلنا: أنّهم ما كانوا عقلاء فحينئذ لا يقتضي بعثة الرسل إليهم.

فالجواب: أنّهم كانوا عقلاء و عالمين بأنّها جمادات و لكن كانوا يعتقدون فيها أنّها تماثيل الكواكب و أنّها طلسمات موضوعة بحيث إنّ كلّ من عبدها انتفع بها و كلّ من استخفّ بها ناله منها ضرر شديد، فكسّرها إبراهيم حتّى يندفع هذا الظنّ عنهم

ص: 168


1- الصافات: 89.

لأنّه أصابها بسوء و ما ناله مكروه. و بالجملة فغلب على عقلهم أنّه عليه السّلام هو الفاعل بالأصنام هذا الكسر.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 61 الى 70]

قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)

قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

اعلم أنّ القوم لمّا شاهدوا كسر الأصنام و قيل: إنّ فاعله إبراهيم [قالُوا] فيما بينهم: [فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ] أي بمرأى منهم، و معنى الاستعلاء في «على» أي ثبت إتيانه في الأعين ثبات الراكب على المركوب [لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ] أي يشهدون الناس بأنّه فعل هذا الفعل و أيضا يشهدون عذابه و ينظرون ما يصنع به فيكون ذلك زاجرا لهم عن الإقدام على مثل فعله.

قوله: [أَ أَنْتَ] و في الكلام حذف و تقديره: فأتوا به و قالوا: أ أنت [فَعَلْتَ هذا] طلبوا منه الاعتراف بذلك ليقدموا على إيذائه. [ف قالَ] إبراهيم عليه السّلام: [بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ] مشيرا إلى الصنم الكبير علّق على رقبته الفأس، سلك عليه السّلام مسلكا يؤدّيه إلى مقصده و هو إلزامهم الحجّة على ألطف وجه يحملهم على التأمّل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوفّي من الكذب.

و قد أسند إليه بطريق التسبيب حيث كان غيظه عليه السّلام على الصنم الكبير أعظم و أكثر لشدّة تعظيمهم للكبير أكثر فأسند الفعل إليه باعتبار أنّه الحامل و الداعي إلى الكسر، و الفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه. و قيل: إنّ في الكلام

ص: 169

تقديم و تأخير: في العيون عن الصادق المعنى إن كانوا ينطقون فكبيرهم فعل و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا فما نطقوا و ما كذب إبراهيم عليه السّلام. و قيل: الضمير في «فعله» كناية عن غير مذكور أي فعله من فعله و قوله: «كَبِيرُهُمْ هذا» ابتداء الكلام و الكسائيّ كان يقف عند قوله: «بَلْ فَعَلَهُ» ثمّ يبتدئ: كبيرهم هذا.

قال الرازيّ: أمّا ما روي من بعض عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلّها في ذات اللّه: قوله «إِنِّي سَقِيمٌ» (1) و قوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» (2) و قوله لسارة: «إنّها اختي». و قرّروا هذا القول من جهة العقل و قالوا:

إنّ النبيّ مثلا إذا هرب من ظالم و اختفى في دار إنسان و جاء الظالم و سأل عن حاله فإنّه يجب الكذب فيه و إذا كان كذلك فأيّ بعد في أن يأذن اللّه في ذلك لمصلحة.

و اعلم أنّ هذا القول مرغوب عنه فلأن يضاف الكذب إلى الرواة أولى من يضاف إلى الأنبياء و الدليل القاطع عليه أنّه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة و يأذن اللّه فيه فيجوز هذا الاحتمال في كلّ ما أخبروا عنه و ذلك يبطل الوثوق بالشرائع و تتطرّق التهمة إلى كلّها.

و لم لا يحمل قوله عليه السّلام: «إِنِّي سَقِيمٌ» على أن كان به سقم قليل، و أمّا قوله «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» فقد قيل الجواب عنه، و أمّا قوله عليه السّلام: لسارة «إنّها اختي» فالمراد أنّها أخته في الدين فمتى ما أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء، فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلّا زنديق، انتهى كلام الرازيّ.

قوله: [فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ] فلمّا نبّههم إبراهيم بما أورده عليهم على قبح طريقتهم تنبّهوا و علموا أنّهم على غرور و جهل في ذلك، أو المعنى: رجعوا إلى أنفسهم فلاموها [فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ] لإبراهيم مع أنّ الفأس معلّق بين يدي الصنم الكبير، أو المعنى: أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتم من إبراهيم هذا السؤال حتّى أخذ يستهزئ بكم في الجواب.

ص: 170


1- الصافات: 89.
2- الأنبياء: 63.

[ثُمَّ نُكِسُوا] من إفحامهم [عَلى رُؤُسِهِمْ] و علموا أنّها لا تنطق فاعترفوا بما هو حجّة عليهم لا لهم [فقالوا لَقَدْ عَلِمْتَ] يا إبراهيم أنّ هؤلاء الأصنام [لا ينطقون] فكيف نسألهم؟

فأجابهم إبراهيم: أ فتوجّهون عبادتكم إلى الأصنام الّتي لا ينفعكم شيئا إن عبدتموها و لا يضرّكم إن تركتموها لأنّها لو قدرت على نفعكم و ضرّكم لدفعت عن أنفسها و من لم يقدر على النفع و الضرّ كيف استحقّ العبادة؟

ثمّ قال عليه السّلام مهجنا لأفعالهم مستقذرا لأصنامهم: [أُفٍّ لَكُمْ] أي تبّا لكم و لأفعالكم و «افّ» صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجّر و قد انضجر إبراهيم من ثباتهم على هذا الأمر الباطل بعد وضوح الحقّ [أَ فَلا] تتدبّرون و [تَعْقِلُونَ].

[قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ] و ليس في القرآن من القائل لذلك؟ و المشهور أنّه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح. قال مجاهد:

سمعت ابن عمر يقول: إنّما أشار بتحريق إبراهيم عليه السّلام رجل من الكرد من أعراب فارس.

و قيل: إنّ الّذي أشار إلى هذا الأمر رجل اسمه هبرين فخسف اللّه به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

و لمّا اجتمعوا لإحراق إبراهيم عليه السّلام حبسوه في بيت و بنوا بنيانا كالحظيرة و ذلك قوله: «قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ» (1) ثمّ جمعوا له الحطب الكثير حتّى أنّ المرأة لو مرضت قالت: لو أنّ اللّه عافاني لأجمعنّ حطبا لإبراهيم، و نقلوا له الحطب على الدوابّ أربعين يوما و أنّ الرجل منهم ليمرض فيوصي بكذا و كذا من ماله فيشتري له حطب و حتّى أنّ المرأة لتغزل فيشتري به حطبا.

فلمّا أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار لم يدروا كيف يلقونه فجاء إبليس فعلّمهم صنعة المنجنيق فوضعوه فيها ثمّ رموه بعد أن رفعوه عن رأس البنيان و قيّدوه و وضعوه في المنجنيق مغلولا فصاحت السماء و الأرض و من فيها من الملائكة أجمعون إلّا الثقلين صيحة واحدة: أي ربّ! ليس في أرضك من يعبدك غير إبراهيم و إنّه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته؛ فقال سبحانه: إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه و إن لم يدع غيري فخلّوا

ص: 171


1- الصافات: 97.

بيني و بينه فأنا أعلم به و أنا وليّه، فلمّا أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح فقال:

يا إبراهيم إن شئت طيّرت النار في الهواء فقال إبراهيم: لا حاجة بي إليكم، ثمّ رفع رأسه إلى السماء و قال: اللّهمّ أنت الواحد في السماء و أنا الواحد في الأرض ليس في الأرض أحد يعبدك غيري حسبنا اللّه و نعم الوكيل. و قيل: إنّه حين القي في النار قال:

لا إله إلّا أنت سبحانك ربّ العالمين لك الحمد و لك الملك لا شريك لك، ثمّ رموا به النار فأتاه جبرئيل و قال: يا إبراهيم هل لك حاجة؟ قال: أمّا إليك فلا. قال: فاسأل ربّك قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.

فقال اللّه: [يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ] و لو لم يتبع سلاما عقيب قوله:

«بردا» لمات إبراهيم من بردها و لم يبق يومئذ في الدنيا نارا إلّا طفئت؛ قال السدّيّ:

فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم و أقعدوه في الأرض فإذا عين ماء عذب و ورد أحمر و نرجس و لم تحرق النار إلّا وثاقه.

و روى الواحديّ بالإسناد مرفوعا إلى أنس بن مالك قال: لمّا القي إبراهيم عليه السّلام في النار نزل عليه جبرئيل بقميص من الجنّة و طنفسة من الجنّة فألبسه القميص و أقعده على الطنفسة و قعد معه يحدّثه. و قيل: القي إبراهيم عليه السّلام في النار و هو ابن ستّة عشر سنة.

و قيل: إنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا القي في النار كان فيها إمّا أربعين يوما أو خمسين يوما و قال عليه السّلام: ما كنت أيّاما أطيب عيشا منّي إذ كنت فيها.

و قال ابن إسحاق: بعث اللّه ملك الظلّ فقعده في صورة إبراهيم عليه السّلام إلى جنب إبراهيم عليه السّلام يؤنسه، و أتاه جبرئيل أيضا بقميص من حرير الجنّة و قال: يا إبراهيم إنّ ربّك يقول: أما علمت أنّ النار لا تضرّ أحبّائي. ثمّ نظر نمروذ من صرح له أشرف على إبراهيم فرآه جالسا في روضة و رأى الملك قاعدا إلى جنبه و ما حوله نار تحرق الحطب فناداه نمروذ: يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: قم فاخرج، فقام يمشي حتّى خرج منها فلمّا خرج قال له نمروذ: من الرجل الّذي رأيته معك بصورتك؟ قال: ذاك ملك الظلّ أرسلني ربّي ليؤنسني فيها فقال نمروذ: إنّي مقرّب إلى ربّك قربانا لما رأيت من عزّته و قدرته فيما صنع بك فإنّي ذابح له أربعة آلاف

ص: 172

بقرة فقال إبراهيم عليه السّلام: لا يقبل اللّه منك ما دمت على دينك فقال نمروذ: لا أستطيع ترك ملكي و لكن سوف أذبحها له، ثمّ ذبحها له و كفّ عن إبراهيم عليه السّلام.

قوله: [وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ] أي و أراد الكفّار بإبراهيم شرّا و تدبيرا في إهلاكه فجعلنا هم الأخسرين؛ قال ابن عبّاس: هو أن سلّط اللّه على نمروذ و خيله البعوض حتّى أخذت لحومهم و شربت دماء هم و وقعت واحدة في دماغ نمروذ حتّى أهلكته.

و المعنى: أرادوا أن يكيدوا إبراهيم فانقلب عليهم و أتمّ النعمة على إبراهيم بأن نجّاه و نجا ابن أخيه من امّه و هو لوط بن هاران إلى الأرض الّتي بارك فيها للعالمين و إنّ هذه الواقعة كانت على إبراهيم ببابل و قيل: الأرض المباركة مكّة. و قيل: أرض الشام لقوله تعالى: «إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ» (1) و السبب في بركتها أمّا في الدين فلأنّ أكثر الأنبياء بعثوا منها و انتشرت شرائعهم فيها و أمّا في الدنيا فلأنّ اللّه بارك فيها بكثرة الماء و الشجر و الثمر و طيب العيش. و قيل: ما من ماء عذب إلّا و ينبع أصله من تحت الصخرة الّتي ببيت المقدس.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 71 الى 75]

وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

المعنى: شرح سبحانه نعمه على إبراهيم فقال:

[وَ نَجَّيْناهُ] من نمروذ و كيده و رفعناه [وَ لُوطاً] عن الهلكة و هو ابن أخي إبراهيم [إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا حوله] و قد ذكرنا الاختلاف في تلك الأرض قبل هذا.

[وَ وَهَبْنا] لإبراهيم إسحاق لمّا سأل اللّه ولدا [و] أجابه أعطاه [يَعْقُوبَ نافِلَةً]

ص: 173


1- الإسراء: 1.

و عطيّة خاصّة، و يسمّى الرجل الكثير العطاء نوفلا كما يقال للصلاة الزائدة على الواجب نافلة، و على هذا يعقوب كان نافلة خاصّة.

[وَ كُلًّا] من إبراهيم و إسحاق و يعقوب [جَعَلْنا صالِحِينَ] أنبياء مرسلين عاملين بطاعة اللّه [وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً] يدعون الناس إلى دين اللّه [بِأَمْرِنا] و المراد بهذه الإمامة النبوّة [وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ] أي شرائع النبوّة و أعمال الخير و إقامة الصلاة، و حذف التاء من «إقامة» لأنّ الإضافة عوض عنه و قيل: الإقام و الإقامة مصدر. و لمّا بيّن أنّ الصلاح الّذي هو العصمة أوّل مراتب النبوّة دلّ ذلك على أنّ الأنبياء معصومون، و إعطاء [الزَّكاةِ وَ كانُوا] مخلصين [لَنا] في العبادة.

[وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً] بعد بيان نعمه على إبراهيم أتبعه بذكر نعمه على لوط عليه السّلام و الواو عطف على قوله: «آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ» أي و آتينا لوط الحكمة و الّتي يجب فعله أو النبوّة. و الثاني: العلم، و إدخال التنوين على الحكم و العلم للدلالة على علوّ شأن ذلك الحكم و ذلك العلم. و الثالث: [وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ] أي أهلها.

[إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ] خارجين عن الدين و الطاعة و القرية سدوم، و إنّهم كانوا يأتون الذكران في أدبارهم و يتظارطون في أنديتهم و قد حكى اللّه: «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (1) [وَ أَدْخَلْناهُ فِي] نعمتنا و مننا بسبب أنّه من الّذين أصلح أفعاله و علم ما هو الحسن و ما هو القبيح.

قوله: [سورة الأنبياء (21): الآيات 76 الى 80]

وَ نُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ (79) وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)

المعنى: عطف سبحانه قصّة نوح و داود على قصّة إبراهيم و لوط:

ص: 174


1- العنكبوت: 29، و «نادى» المجلس العام و جمعه «اندية».

[وَ نُوحاً] أي و أعطينا نوحا [إِذْ] دعا ربّه فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (1) و قال: «ربّ إنّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» (2) و كان نوح من قبل إبراهيم و المراد من هذا الدعاء الدعاء على قومه لأنّه دعا مرّة على الإجمال فقال: إنّي مغلوب فانتصر، و مرّة على التفصيل فقال: ربّ لا تذر على الأرض.

و الكرب العظيم الغمّ الّذي يصل حرّه إلي القلب و هو ما كان يلقاه من أذى قومه طول تلك المدّة و تحمّل الاستخفاف من السقاط، أو الطوفان، و أكثر المحقّقين على أنّ ذلك النداء كان بأمر اللّه، و قال آخرون: لم يكن بالأمر و الإذن، و قال أبو أمامة:

لم يتحسّر أحد من خلق اللّه كحسرة آدم و نوح فحسرة آدم على قبول وسوسة إبليس و حسرة نوح على دعائه على قومه فأوحى اللّه إليه أن لا تتحسّر فإنّ دعوتك وافقت قدري.

أمّا قوله: [فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ] فالمراد من الأهل هاهنا أهل دينه، و قيل في تفسير الكرب: الطوفان و العذاب، و قيل: تكذيب و أذى قومه إيّاه.

قوله: [وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] و «من» هنا بمعنى «على» أي نصرناه على القوم أو المعنى: منعناه منهم بالنصرة، قال الزمخشريّ: إنّ «نصر» في الآية مطاوعة «انتصر» و سمعت هذليّا يدعو على سارق: اللّهم انصرهم منه، أي أجعلهم منتصرين منه.

قوله: [إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ] لأجل ردّهم و تكذيبهم [فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ] صغارهم و كبارهم و ذكورهم و إناثهم.

قوله تعالى: [وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ] تقدير الآية: و اذكر داود و سليمان يعني أعطيناهما حكما و علما أيضا [إِذْ] حين [يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ] و الزرع [إِذْ] في الوقت الّذي [نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ] و تفرّقت الغنم فيه ليلا. و قيل: المراد من الحرث الكرم.

و أصل القصّة أنّه دخل رجلان على داود عليه السّلام أحدهما صاحب حرث و الآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث: إنّ غنم هذا دخلت حرثي و ما أبقت منه شيئا فقال داود عليه السّلام: اذهب فإنّ الغنم لك، فخرجا فمرّا على سليمان عليه السّلام فقال سليمان عليه السّلام:

ص: 175


1- نوح: 28.
2- القمر: 10.

كيف قضى بينكما؟ فأخبراه فقال: لو كنت قاضيا لقضيت بغير هذا فأخبر داود عليه السّلام بذلك فدعاه و قال: كيف كنت تقضي بينهما؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له منافعها من الدرّ و النسل و الوبر حتّى إذا كان الحرث من العام المستقبل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها و قبض صاحب الحرث حرثه.

و قال ابن مسعود و شريح و مقاتل: إنّ راعيا نزل ذات ليلة بجنب كرم فدخلت الأغنام الكرم و هو لا يشعر فأكلت القضبان و أفسدت الكرم فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود عليه السّلام فقضى له بالغنم لأنّه لم يكن بين ثمن الكرم و ثمن الغنم تفاوت فخرجوا و مرّوا بسليمان عليه السّلام فقال لهم: كيف قضى داود بينكما؟ فأخبراه به فقال: غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر داود عليه السّلام بذلك فدعا سليمان عليه السّلام و قال له:

بحقّ الأبوّة و البنوّة إلّا أخبرتني بالأرفق فقال: تسلم الغنم إلى صاحب الكرم حتّى يرتفق بمنافعها و يعمل الراعي في إصلاح الكرم حتّى يصير كما كان ثمّ تردّ الغنم إلى صاحبها، فقال داود عليه السّلام: إنّما القضاء ما قضيت، و حكم بذلك.

قال ابن عبّاس: حكم سليمان بذلك و هو ابن إحدى عشرة سنة.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: إنّه كان أوحى اللّه إلى النبيّين قبل داود عليه السّلام إلى أن بعث اللّه داود عليه السّلام: «أيّ غنم نفشت في الحرث فلصاحب الحرث رقاب الغنم» و لا يكون النفش إلّا بالليل فإنّ على صاحب الزرع أن يحفظ زرعه بالنهار و على صاحب الغنم حفظ الغنم بالليل، فحكم داود عليه السّلام بما حكم به الأنبياء من قبله فأوحى اللّه إلى سليمان عليه السّلام: «أيّ غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلّا ما خرج من بطونها» و كذلك جرت السنّة بعد سليمان و هو قول اللّه: «وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً» فحكم كلّ واحد منهما بحكم اللّه.

و عنه عليه السّلام: أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام أن اتّخذ وصيّا من أهلك فإنّه قد سبق في علمي أن لا أبعث نبيّا إلّا و له وصيّ من أهله و كان لداود عليه السّلام عدّة أولاد و فيهم غلام كانت امّه عند داود عليه السّلام و كان لها محبّا فدخل داود عليه السّلام عليها حتّى أتاه الوحي فقال لها: إنّ اللّه أوحى إليّ يأمرني أن أتّخذ وصيّا من أهلي فقالت له امرأته: فليكن

ص: 176

ابني، قال داود عليه السّلام: ذاك أريد، و كان السابق في علم اللّه المحتوم أنّه يكون سليمان عليه السّلام فأوحى اللّه إلى داود عليه السّلام: أن لا تعجل دون أن يأتيك أمري، فلم يلبث داود عليه السّلام أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم و الكرم فأوحى اللّه إلى داود عليه السّلام: أن اجمع ولدك فمن قضى بهذه القضيّة فأصاب فهو وصيّك من بعدك، فجمع داود عليه السّلام فلمّا أن قصّ الخصمان قال سليمان عليه السّلام: يا صاحب الكرم متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك؟ قال: دخلته ليلا قال: قد قضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك و أصوافها في عامك هذا، ثمّ قال له داود عليه السّلام: فكيف لم تقض الغنم برقاب و قد قوّم علماء بني إسرائيل فكان ثمن الكرم ثمن الغنم؟ فقال سليمان عليه السّلام: إنّ الكرم لم يجتثث من أصله و إنّما أكل حمله و هو عائد في قابل.

فأوحى اللّه إلى داود عليه السّلام أنّ القضاء ما قضى سليمان به يا داود أردت أمرا و أردنا أمرا غيره فدخل داود عليه السّلام على امرأته فقال: أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا غيره و لم يكن إلّا ما أراد اللّه فقد رضينا بأمر اللّه و سلّمنا. و كذلك الأوصياء ليس لهم أن يتعهّدوا بهذا الأمر إلّا من عند اللّه. و إنّما أراد اللّه أن يعرّف بني إسرائيل أنّ الوصيّ سليمان عليه السّلام بعده.

[وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ] أي بحكمهم عالمين لم يغب عنّا منه شي ء. و إنّما جمع في موضع التثنية لإضافة الحكم إلى الحاكم و إلى المحكوم لهم، أو لأنّ الجمع يطلق على الاثنين مثل: «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ» (1) و هو يريد أخوين.

و قد أوحى اللّه إلى سليمان هذا الحكم و نسخ به حكم داود عليه السّلام و كان حكم داود عليه السّلام قبل ذلك أيضا بوحي من اللّه لا اجتهاد لأنّه لا يجوز للأنبياء أن يحكموا بالرأي و الاجتهاد و هذا هو الصحيح المعوّل عندنا، و قال غيرنا كالبلخيّ و عليّ بن عيسى: يجوز أن يكون ذلك عن اجتهاد لأنّ رأي النبيّ أفضل من غيره فإذا جاز التعبّد بالتزام حكم غير النبيّ من طريق الاجتهاد فكيف يمنع من حكم النبيّ على هذا الوجه؟ و هذا الكلام غير تامّ لأنّ النبيّ إذا كان يوحى إليه و له طريق إلى العلم بالحكم فلا يجوز أن يحكم بالظنّ و الاجتهاد و القياس و قد قال اللّه: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ

ص: 177


1- النساء: 10.

الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» (1) و كذلك: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» (2) و لو جاز الاجتهاد لما كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقف في مسألة الظهار و اللعان إلى ورود الوحي.

و بالجملة [فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ] أي علّمناه الحكومة في ذلك الأمر [وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً] أي و كلّ واحد من داود و سليمان عليهما السّلام أعطيناه الحكمة و النبوّة و علم الدين.

قوله [وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ] قيل: معناه سيّرنا الجبال مع داود حيث سار فعبّر عن ذلك بالتسبيح. في الإكمال عن الصادق أنّ داود عليه السّلام خرج يقرء الزبور، و كان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر إلّا جاوبت.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين: إنّ يهوديّا قال له: هذا داود بكى على خطيئته حتّى سارت الجبال معه لخوفه فقال عليه السّلام: إنّه كان كذلك، الحديث.

و في المناقب عن السجّاد عليه السّلام أنّ داود عليه السّلام صلّى ركعتين فسبّح في سجوده فلم يبق شجر و لا مدر إلّا سبّحوا معه.

و قيل: إنّ الجبال كانت تجاوبه بالتسبيح و كذلك الطير تسبّح معه بالغداة و العشيّ معجزة له.

[وَ كُنَّا فاعِلِينَ] أي قادرين على فعل هذه الأشياء دلالة على نبوّته. و قال بعض أصحاب المعاني: إنّه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال بمثابة قوله: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (3) و تخصيص داود عليه السّلام بذلك إنّما كان بسبب أنّه عليه السّلام كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقينا و تعظيما. و هذا القول فيه تكلّف و لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره بل إنّها تسبّح معه تسبيحا ظاهرا و تجاوبه و تسير معه بقدرة من اللّه و ليست البنية شرطا في حصول الأمر مع القدرة و الإرادة من اللّه سبحانه.

الإنعام الثالث [وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ] اللبوس و اللباس واحد قال الشاعر:

ص: 178


1- النجم: 43.
2- يونس: 15.
3- الإسراء: 44.

البس لكلّ حالة لبوسهاإمّا نعيمها و إمّا بوسها

أي علّمناه كيف يصنع الدرع، و هو أوّل من صنع الدرع و إنّما كانت الدروع صفائح، جعل اللّه الحديد في يده كالعجين و هو أوّل من بردها (1) و حلقها فجمعت الخفّة و التحصين [لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ] أي ليحرزكم و يمنعكم من وقع السلاح فيكم من السيف و السنان و غيره.

و لمّا تعلّم الناس منه فتوارثوا منه فعمّت النعمة كلّ الحاربين يلزمهم الشكر من اللّه فقال سبحانه: [فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ] و هذا تقرير و تأديب للخلق على الشكر بمقابلة كلّ نعمة.

روي في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام: إنّك نعم العبد إلّا أنّك تأكل من بيت المال و لا تعمل بيدك شيئا قال:

فبكى داود عليه السّلام أربعين صباحا فأوحى اللّه إلى الحديد أن لن لعبدي داود فلان، فكان يعمل في كلّ يوم درعا فيبيعها بألف درهم و استغنى عن بيت المال. و قيل: إنّ سبب إلانة الحديد لداود عليه السّلام أنّه كان ملكا و نبيّا و كان يطوف في ولايته متنكّرا يتعرّف أعمال عمّاله و متصرّفيه فاستقبله جبرئيل ذات يوم بصورة آدميّ فسلّم عليه فردّ عليه السّلام فقال:

ما سيرة داود؟ فقال جبرئيل: نعمت السيرة لو لا خصلة فيه، قال: و ما هي؟ قال: إنّه يأكل من بيت مال المسلمين فتنكّره و أثنى عليه و قال: لقد أقسم داود إنّه لا يأكل من بيت مال المسلمين، فعلم اللّه صدقه فألان له الحديد كما قال: «وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» (2).

قوله: [سورة الأنبياء (21): الآيات 81 الى 86]

وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ (81) وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)

وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)

ص: 179


1- برد الحديد: أخذ منه بالبرد.
2- سبأ: 10.

المعنى: عطف على «سخّرنا» أي سخّرنا لداود الجبال [وَ] و سخّرنا [لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً] إن أرادها عاصفة و إن أرادها ليّنة رخاء حيث أصاب أي الريح مسخّرة له في الحالتين إن أراد السرعة في الحركة تهبّ عاصفة و إن أراد أن يتحرّك بطيئا تهبّ رخيئة طيّبة كالنسيم فإذا مرّت بكرسيّه أبعدت به في مدّة يسرة مسافة كثيرة كما قال تعالى: «غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ» (1) أي يقطع الريح بكرسيّ سليمان عليه السّلام في الغداة مسيرة شهر و كذلك في العشاء مسافة شهر و هبوبها على حسب إرادته معجزة إلى معجزة.

و أمّا قوله: [إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ] أي إلى المضيّ إلى البيت المقدّس قال الكلبيّ: تسير الريح به من إصطخر فارس إلى الشام و سليمان عليه السّلام على كرسيّه قاعد و الريح تسير به و كان عليه السّلام يسكن بعلبك و يبنى له بيت المقدس و يحتاج الخروج إليها و إلى غيرها و كان سليمان إذا أراد أن يخرج إلى مجلسه يتعكّف الطير عليه و يقوم له الجنّ و الإنس حتّى يجلس على سريره و تجتمع معه جنوده ثمّ تحمله الريح إلى حيث أراد. [وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ] و أعطيناه ما أعطيناه لما علمناه من المصلحة.

قوله: [وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ] أي و سخّرنا له من الشياطين من يغوصون له في البحر فيخرجون الجواهر و اللآلي. و الغوص النزول إلى ما تحت الماء.

[وَ يَعْمَلُونَ له عَمَلًا] غير [ذلِكَ] و سوى ذلك من الأعمال الشاقّة و بناء المدن و الاختراعات العجيبة من الأبنية كما قال سبحانه «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ» (2) أي أبنية العبادة و الغرف و المساجد و كاسات كبار و إمّا الصناعات كاتّخاذ الحمّام و النورة و الطواحين و أمثالها و القوارير و الصابون [وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ] لئلّا يهربوا منه، و قيل: معناه: لئلّا يفسدوا ما عملوه؛ لأنّهم كانوا يفسدون بالليل ما أصلحوا في نهار هم فمنعهم اللّه عن ذلك و إنّما سخّر اللّه له الشياطين و الكفرة من الجنّ دون المؤمنين.

ص: 180


1- سبأ: 12.
2- سبأ: 13.

فإن قيل: كيف يتهيّأ لهم هذه الأعمال الشاقّة و أجسامهم رقيقة لا يقدرون على العمل الثقيل؟

فالجواب بأنّه سبحانه كثّف أجسامهم و قوّاهم خاصّة و زاد في عظمهم ليكون ذلك معجزا لسليمان فلمّا مات سليمان ردّهم اللّه إلى الخلقة الاولى و ما أبقاهم على الخلقة الثانية للفساد و الشبهات على الناس لأنّه لو ادّعى متنبّئ النبوّة و جعل آثارهم دلالة على نبوّته لاشتبه الأمر و لذلك ردّهم إلى الأوّل. و قيل: ليس الأمر على ما قلتم بل يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقّة في الجسم اللطيف و البنية ليست شرطا في القدرة و يكون هذا أيضا معجزة لسليمان عليه السّلام كما أنّ أصلب الأجسام الحديد و قد جعله اللّه في إصبع داود عليه السّلام- أبيه- كالعجين و إذا قدر اللّه أن يجعل في إصبع داود عليه السّلام قوّة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة فأيّ بعد في أن يجعل التراب اليابس جسما حيوانيّا آدميّا فيبعثه كما كان.

ثمّ إنّ ألطف الأشياء و أمنعها في هذا العالم الهواء و النار و قد جعلهما معجزة لسليمان أمّا الهواء فقوله تعالى: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ» و هل الريح إلّا هواء متموّج.

و أمّا النار فلأنّ الشياطين مخلوقون منها و قد سخّرهم اللّه له فكان يأمرهم بالغوص في المياه و النار تنطفئ بالماء و هم ما كان يضرّهم الماء و ذلك يدلّ بقدرته على إظهار الضدّ من الضدّ فاعتبروا يا اولي الأبصار!! القصّة السادسة: [وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ] و اذكر يا محمّد أيّوب لمّا امتدّت المحنة به فدعا ربّه و قال: إنّي نالني [الضُّرُّ] و أصابني الجهد و لا أحد أرحم منك و هذا تعرّض منه بالدعاء لإزالة ما به من البلاء و هو من لطيف الكنايات في طلب الحاجة و مثله قول موسى: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» (1) و الضرّ بالفتح شامل و شائع في كلّ ضرر، و بالضمّ خاصّ بما في النفس كمرض أو هزال و مثله.

[وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] وصف ربّه بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها و اكتفى بذلك عن تعرّض المطلوب لطفا في السؤال.

ص: 181


1- القصص: 24.

و في المفاتيح و الصافي في قضيّة أيّوب عن وهب بن منبّه: كان أيّوب عليه السّلام روميّا و هو أيّوب ابن أنوص و كان من ولد عيص بن إسحاق و كانت امّه من ولد لوط و كان اللّه قد اصطفاه و جعله نبيّا و كان مع ذلك قد أعطاه اللّه من الدنيا حظّا وافرا من النعم و الدوابّ و الملك و أعطاه أهلا و ولدا من رجال و نساء و كان رحيما بالمساكين و يكفل الأيتام و الأرامل و يكرم الضيف و كان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به و عرفوا فضله، و إنّ لجبرئيل عليه السّلام بين يدي اللّه مقاما ليس لأحد من الملائكة مثله في القرب و الفضيلة و هو الّذي يتلقّى الكلام فإذا ذكر اللّه عبدا بخير تلقّاه جبرئيل أوّلا ثمّ تلقّاه ميكائيل ثمّ من حوله من الملائكة المقرّبين فإذا افتهموا و شاع ذلك الخبر بأنّ اللّه ذكر عبدا من عباده بالخير فهم يصلّون عليه ثمّ صلّت الملائكة في السماوات عليه ثمّ صلّت ملائكة الأرض.

و كان إبليس يومئذ لم يحجب عن شي ء من السماوات و كان يقف فيهنّ حيثما أرادوا من هناك وصل إلى آدم عليه السّلام حتى أخرجه من الجنّة و لم يزل إبليس على ذلك حتّى رفع عيسى عليه السّلام فحجب عن أربع فكان يصعد اللعين بعد ذلك إلى ثلاث إلى زمان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحجب عند ذلك عن جميع السماوات إلّا من استرق السمع.

قال: فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيّوب عليه السّلام فأدركه الحسد فصعد سريعا حتّى وقف من السماء موقفا كان يقفه دون العرش فقال: يا ربّ إنّك أنعمت على عبدك أيّوب فشكرك و عافيته فحمدك ثمّ لم تجرّبه بشدّة و لا بلاء و أنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك فقال اللّه: انطلق فقد سلّطتك على بدنه ما عدا عينيه و قلبه و سمعه و عقله.

فانفضّ عدوّ اللّه سريعا خوفا من أن تداركه رحمة فتمنعه من سلطته فوجد أيّوب ساجدا للّه فأتاه من قبل الأرض فنفخ في منخره نفخة من نار السموم اشتعل منها جسده عليه السّلام و خرج به من فرقه إلى قدمه ثآليل و قد وقعت فيه حكّة لا يملكها و كان يحكّ بأظفاره حتّى سقطت أظفاره ثمّ حكّها بالمسوح الخشنة ثمّ حكّها بالفخّار و الحجارة و لم يزل يحكّها حتّى تقطّع لحمه و تغيّر، و على قول دودونتن.

ثمّ جاء إبليس إلى أهل البلد و قال: إنّ هذا الرجل ترون ما به من المرض

ص: 182

و سيؤدّي المرض إليكم فأخرجوه من بلدتكم فأخرجه أهل القرية و جعلوه على كناسة في المزبلة (1) و جعلوا له عريشا و رفضه الناس كلّهم غير امرأته «رحمة» بنت إفرائيم ابن يوسف عليه السّلام فكانت تصلح أموره.

و كان تسليط إبليس على بدن أيّوب بعد أن استرخص من اللّه على ماشيته و ماله و ولده و زرعه. و ذلك أنّ اللعين بعد أن انفضّ إلى الأرض جمع عفاريت الشياطين و قال لهم: ماذا عندكم من القوّة فإنّي قد سلّطت على مال أيّوب؟ قال عفريت: أعطيت من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارا من نار فأحرقت كلّ شي ء أتى أيّوب عليه، فقال إبليس: فأت الإبل و رعاءها، فذهب و لم يشعر الناس حتّى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو إليها شي ء إلّا احترق فلم تزل تحرقها و رعاءها حتّى أتى على آخرها، فذهب إبليس على شكل بعض أولئك الرعاة إلى أيّوب عليه السّلام فوجده قائما يصلّي فلمّا فرغ من الصلاة قال: يا أيّوب هل تدري ما صنع ربّك الّذي اخترته بإبلك و رعائها؟ فقال أيّوب عليه السّلام: إنّها ماله أعارنيه و هو أولى به إذا نزعه قال إبليس: فإنّ ربّك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت و رعاءها كلّها و تركت الناس مبهوتين متعجّبين منها فمن قائل يقول:

ما كان أيّوب يعبد شيئا و ما كان إلّا في غرور. و من قائل يقول: لو كان إله أيّوب يقدر على شي ء يمنع من وليّه. و من قائل كذا و كذا، فقال أيّوب عليه السّلام: الحمد للّه الّذي حين أعطاني و حين نزع منّي و أنا خرجت من بطن امّي عريانا، و عريانا أعود في التراب و عريانا احشر إلى اللّه و لو علم اللّه فيك أيّها الرجل خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح و صرت شهيدا و آجرني فيك و لكنّ اللّه علم فيك شرّا فأخّرك فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا مغموما و لم يقدر شيئا يتصرّف في شكر أيّوب عليه السّلام.ا.

ص: 183


1- و هذا مخالف للعقل السليم، و لا يستصوبه طبع مستقيم؛ فان فيه هتك حرمة النبي الذي امر بتبليغ دين اللّه الى خلقه، و تأليف القلوب الى أحكامه و شرائعه. و هل يمكن التأليف مع تنفر الناس عنه؟ و لا يعتقد به الا الذي في قلبه مرض، الذي لا يرجو للّه و لرسله و قارا. و لم يكن ابتلاؤه عليه الصلاة و السلام الا لان يشاهد الناس عظيم صبره في اللّه، و انه بنيان مرصوص لا تذروه الرياح العاصفة صبور عند الهزاهز، شكور لدى البلايا، وقور في المصائب. و سيوافيك روايات عن ائمة الدين عليهم السلام فيما قلنا.

فقال عفريت آخر: عندي من القوّة ما إذا لو شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلّا خرجت روحه فقال إبليس: فأت الغنم، فانطلق فصاح بها فماتت و مات رعاؤها فخرج إبليس متمثّلا بقهرمان الرعاة إلى أيّوب عليه السّلام فقال له القول الأوّل و ردّ عليه أيّوب عليه السّلام الردّ الأوّل فرجع إبليس ساغرا.

فقال عفريت آخر: عندي من القوّة ما إذا لو شئت تحوّلت ريحا عاصفة أقلع كلّ شي ء أتيت عليه، قال: فاذهب إلى الحرث و الثيران (1) فأتاهم و أهلكهم ثمّ رجع إبليس متمثّلا حتّى جاء إلى أيّوب عليه السّلام و هو يصلّي فقال مثل قوله الأوّل فسمع مثل جوابه الأوّل فجعل إبليس يصيب أمواله شيئا فشيئا حتّى أتى آخرها.

فأتى على ولد أيّوب عليه السّلام فإنّها الفتنة المضلّة و جاء إبليس إلى قصرهم فلم يزل يزلزله بهم من قواعده حتّى قلّب القصر عليهم. ثمّ جاء إلى أيّوب عليه السّلام متمثّلا بصورة المعلّم و هو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه و دماغه فقال: لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل أدمغتهم من أنوفهم لتقطّع قلبك فلم يزل يرقّقه حتّى رقّ أيّوب عليه السّلام و بكى و قبض قبضة من التراب و وضعها على رأسه فاغتنم ذلك إبليس ثمّ لم يلبث أيّوب عليه السّلام حتّى استغفر و استرجع.

و عن الكاظم عليه السّلام: لمّا اشتدّ به البلاء في جسده و كان في اخرياته جاءه أصحابه و قالوا: يا أيّوب ما نعلم أحدا ابتلي بمثل هذه البليّة إلّا لسريرة شرّ فلعلّك أسررت سوءا فأبد لنا. فعند ذلك ناجى أيّوب عليه السّلام ربّه عزّ و جلّ فقال: يا ربّ ابتليتني بهذه البليّة و أنت تعلم أنّه لم يعرض لي أمران قطّ إلّا التزمت أخشنهما على بدني و لم آكل أكلة قطّ إلّا و على خواني يتيم؛ فلو أنّ لي منك مقعدا نخصم لأدليت بحجّتي قال: فعرضت له سحابة فنطق فيها ناطق: يا أيّوب أدل بحجّتك، قال: فشدّ عليه مئزره و جشا على ركبته فقال: ابتليتني بهذه البليّة و أنت تعلم أنّه لم يعرض لي أمران قطّ إلّا التزمت أخشنهما على نفسي و لم آكل أكلة إلّا و على خواني يتيم، قال:

فقبل له: يا أيّوب من حبّب إليك الطاعة؟ و في رواية: نودي من الغمامة بعشر آلافر.

ص: 184


1- جمع الثور: ذكر البقر.

لسان: يا أيّوب من صبّرك تعبد اللّه و الناس عنه غافلون؟ أ تمنّ على اللّه بما للّه فيه المنّة عليك؟ قال: فأخذ عليه السّلام كفّا من التراب و وضعه في فيه ثمّ قال: أنت يا ربّ.

و عن الصادق عليه السّلام: أنّ اللّه عزّ و جلّ ابتلى أيّوب بلا ذنب فصبر حتّى عيّروه إنّ الأنبياء لا يصبرون على التعيير.

و في الكافي عنه عليه السّلام: إنّ اللّه يبتلي المؤمن بكلّ بليّة و يميته بكلّ ميتة و لا يبتليه بذهاب عقله أما ترى أيّوب كيف سلّط إبليس على ماله و أهله و على كلّ شي ء منه و بدنه و لم يسلّط على عقله ليوحّد اللّه؟

و في رواية: سلّط على أيّوب فشوّه خلقه و لم يسلّط على دينه.

و في الخصال عنه عن أبيه عليهما السّلام قال: إن أيّوب عليه السّلام ابتلي سبع سنين بغير ذنب و إنّ الأنبياء معصومون لا يذنبون و لا يزيغون و لا يزيغون و لا يرتكبون ذنبا صغيرا و لا كبيرا.

و قال عليه السّلام: إنّ أيوب مع جميع ما ابتلي به لم ينتن له رائحة و لا قبحت له صورة و لا خرجت منه مدّة من دم و قيح و لا استقذره أحد رآه و لا استوحش منه أحد شاهده و لا تدوّد شي ء من جسده و إنّما اجتنبه الناس لفقره و ضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بماله عند ربّه.

و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعظم الناس بلاء الأنبياء ثمّ الأولياء ثمّ الأمثل فالأمثل، و إنّما ابتلاء العظيم الّذي يهون معه على جميع الناس لئلّا يدّعوا له معه الربوبيّة إذا شاهدوا ما أراد اللّه ذكره أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه ليستدلّوا بذلك على أنّ الثواب من اللّه على ضربين: استحقاق و اختصاص، و لئلّا يحقروا ضعيفا لضعفه و لا فقيرا لفقره و ليعلموا أنّه يسقم من يشاء و يشفي من يشاء متى شاء كيف يشاء بأيّ وجه شاء و يجعل ذلك عبرة لمن يشاء و شقاوة لمن يشاء باستحقاقه و سوء اختياره و سعادة لمن يشاء بحسن اختياره و صنيعه و هو عزّ و جلّ عدل في قضائه حكيم في أفعاله لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم و لا قوّة إلّا باللّه.

و في هذا الأمر أنّ بدن أيّوب نتن و تدوّد اختلاف شديد في الأخبار. و الفيض قدّس سرّه قال في الصافي: لعلّ المراد ببدنه الّذي قيل في الرواية الاولى أنّه لم ينتن

ص: 185

رائحته و لم يتدوّد بدنه الأصليّ الّذي يرفع من الأنبياء و الأوصياء إلى السماء و ببدنه الّذي قيل في هذه الرواية: إنّه أنتن و تدوّد بدنه العنصريّ الّذي هو كالغلاف لذلك و لا مبالاة للخواصّ به فلا تنافي بين الروايتين (1).

و بالجملة اختلف العلماء في لبث مرض أيّوب: المشهور سبع سنين و أشهرا.

و روى ابن شهاب عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بقي أيّوب في البلاء ثماني عشر سنة.

و بالجملة لمّا أخرجوه من القرية قال الحسن: مكث أيّوب بعد ما القي على الكناسة سبع سنين و أشهرا و لم يبق له ولد و لا مال و لا صديق غير امرأته «رحمة» بنت إفرائيم بن يوسف الصدّيق و كانت تأتيه بالطعام و تحمد اللّه مع أيّوب و كان مواظبا لحمد اللّه و الثناء عليه و الصبر على البلاء فصرخ إبليس صرخة جزعا من صبر أيّوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض و قالوا له: ما جزعك؟ قال: أعياني هذا العبد و ما أبقيت له شيئا و لم يزدد بذلك إلّا صبرا و حمدا و هو مع صنيعي به كما ترون لا يفتر عن ذكر اللّه فاستعنت بكم لتعينوني عليه فقالوا له: أين مكرك؟ أين عملك الّذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كلّه في أيّوب فأشيروا عليّ قالوا: آدم حين خرجته من الجنّة من أين أتيته؟ قال: من قبل امرأته. قالوا: فشأنك بأيّوب من قبل امرائة فإنّه لا يستطيع أن يعصيها لأنّه لا يقربه أحد غيرها قال: أصبتم، فانطلق حتّى أتى امرأته فتمثّل لها في صورة رجل فقال: أين بعلك يا أمة اللّه؟ قالت: هو هذا يحكّ قروحه و يتردّد الديدان في جسده فلمّا سمعها طمع أن يكون ذلك جزعا فوسوس إليها و ذكّرها ما كان لها من النعم و المال و ما كان من شباب أيّوب و جماله.

قال الحسن: فصرخت رحمة فعلم إبليس أنّها جزعت فأتاها بسخلة و قال: ليذبح هذه لي أيّوب و يبرأ، قال: فجاءت إلى أيّوب تصرخ و قالت: يا أيّوب حتّى متى يعذّبكر؟

ص: 186


1- فيه تعسف و تكلف، و عويصة تنفر الناس عن الرسول الذي أرسل إليهم و تحمل أعباء الرسالة لهدايتهم باقية على حالها. و ليت شعري! ما يمنع من ضرب أمثال هذه الروايات على الجدار؟

ربّك ألّا يرحمك؟ اذبح هذه السخلة و استرح فقال أيّوب: أتاك عدوّ اللّه و نفث فيك فاجتنبه ويلك أ ترين ما تبكين عليه من ذهاب المال و الولد و الصحّة من أعطانا ذلك؟

قالت اللّه: قال: فكم متّعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: منذ كم ابتلانا اللّه بهذا البلاء؟ قالت:

سبع سنين و أشهر، قال: ويلك ما أنصفت ربّك إلّا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنّا في الرخاء ثمانين سنة؟ و اللّه لئن شفاني اللّه لأجلدنّك جلدة أمرتني أن أذبح لغير اللّه و حرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك و شرابك الّذي تأتيني به فطردها فذهبت فلمّا نظر أيّوب عليه السّلام في شأنه و ليس عنده طعام و لا شراب و لا صديق و قد ذهبت امرأته خرّ ساجدا و قال:

[ربّ إنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] فقال: ارفع رأسك فقد استجبت لك، اركض برجلك فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابّة إلّا سقطت منه ثمّ ضرب رجله مرّة اخرى فنبعت عين اخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلّا خرج و قام صحيحا و عاد شبابه و جماله حتّى صار أحسن ما كان ثمّ كسي حلّة فلمّا قام جعل يلتفت فلا يرى شيئا ممّا كان له من الأهل و الولد و المال إلّا و قد ضعّفه اللّه تعالى حتّى صار أحسن ممّا كان حتّى ذكر أنّ الماء الّذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب فجعل يضمّه بيده فأوحى اللّه إليه: يا أيّوب ألم أغنيك؟ قال: بلى و لكنّها بركتك فمن يشبع منها؟

قال: فخرج أيّوب عليه السّلام حتّى جلس على مكان مشرف. ثمّ إنّ امرأته قالت:

هب إنّه طردني أ فأتركه حتّى يموت جوعا و تأكله السباع؟ لأرجعنّ إليه فلمّا رجعت ما رأت تلك الكناسة و لا تلك الحال و إذا بالأمور تغيّرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة و تبكي و ذلك بعين أيّوب عليه السّلام فأرسل إليها أيّوب عليه السّلام و دعاها و قال:

ما تريدين يا أمة اللّه؟ فبكت و قالت: أردت ذلك المبتلى الملقى على الكناسة، فقال أيّوب:

ما كان منك؟ فبكت و قالت: بعلي، فقال: أ تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: و هل يخفى على أحد يراه؟ فتبسّم و قال: أنا هو فعرفته بضحكه فاعتنقته ثمّ قال: إنّك أمرتني أن أذبح سخلة لإبليس و إنّي أطعت اللّه و عصيت الشيطان و دعوت إليه فردّ عليّ ما ترين.

ص: 187

و قال وهب: كانت امرأة أيّوب تعمل للنّاس و تأتيه بقوته فلمّا طال عليه البلاء سئمها الناس فلم يستعملوها فالتمست ذات يوم شيئا من الطعام فلم تجد شيئا فجزّت قرنا من رأسها فباعته برغيف أو أخذوا في عرس لعروس منها و أعطوها شيئا من طعام فأتته به فقال لها: أين قرنك فأخبرته فحينئذ قال: «ربّ إنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».

و اعلم أنّ المعتزلة قد طعنوا في هذه القصّة بهذا الترتيب كالجبّائيّ و أمثاله من وجوه:

أحدها: قال الجبّائيّ: ذهب بعض الناس إلى أنّ ما كان به من المرض كان فعلا للشيطان سلّطه اللّه عليه لقوله تعالى حكاية عنه: «مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ» (1) أمّا أوّلا لأنّه لو قدر على إحداث الأمراض و الأسقام و ضدّهما من العافية لتهيّأ له فعل خلق الأجسام و من كان هذا فعله و حاله يكون إلها. و أمّا ثانيا فلأنّ اللّه أخبر عنه و عن جنوده بأنّه قال: «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» (2). و أمّا ثالثا قالوا:

انتهاء ذلك المرض إلى حدّ التنفّر عنه غير جائز لأنّ الأمراض المنفّرة من القبول غير جائزة على الأنبياء.

و أجيب عن الأوّل و الثاني أن لو فرضنا حصول استرخاص إبليس من اللّه فحينئذ إيقاع السقم و السلطة ليس من إبليس بل من اللّه انتهى.

قوله تعالى: [فَاسْتَجَبْنا لَهُ] دعاءه، و قلنا: ارفع رأسك و اركض برجلك إلى الأرض و أزلنا ما به من الأوجاع [وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ] قال ابن مسعود و ابن عبّاس: ردّ اللّه عليه أهله الّذين هلكوا بأعيانهم و أعطاه مثلهم معهم و لذلك ردّ للّه عليه أمواله و مواشيه بأعيانها و أعطاه مثلها معها و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و قيل: إنّه خيّر أيّوب عليه السّلام فاختار إحياء أهله في الآخرة و مثلهم في الدنيا فاوتي على ما اختار و كان له سبع بنات و ثلاث بنين.

ص: 188


1- ص: 41.
2- ابراهيم: 22.

[رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا] أي نعمة منّا عليه [وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ] و موعظة لهم في الصبر و التوكّل عليه لأنّه لم يكن في عصر أيّوب عليه السّلام أحد أكرم منه عند اللّه فابتلاه اللّه بهذه المحن العظيمة فأحسن الصبر عليها فينبغي لكلّ عاقل إذا أصابته مصيبة أن يصبر عليها و لا يجزع و يعلم أنّ عاقبة الصبر محمودة.

قوله: [وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ] اي و اذكر هؤلاء الأنبياء و ما أنعمت عليهم من فنون النعمة بأنّهم كانوا من الصابرين على الشدائد و المحن و العبادة.

أمّا إسماعيل فلأنّه صبر على الانقياد للذبح و الإقامة ببلد لا زرع فيه و لا ضرع و لا بناء، و صبر على بناء البيت فأكرمه اللّه تعالى و أخرج من صلبه خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و أمّا إدريس عليه السّلام فقد تقدّمت قصّته في سورة مريم، بعث إلى قومه داعيا لهم إلى اللّه فأبوا فأهلكهم اللّه و رفع إدريس إلى السماء الرابعة.

و أما ذو الكفل و قيل: في تسميته بهذا الاسم وجوه: أحدها أنّه كان ضعّف عمل الأنبياء في زمانه و ضعّف ثوابهم. و ثانيها عن ابن عبّاس: إنّ نبيّا من أبناء بني إسرائيل آتاه اللّه الملك و النبوّة ثمّ أوحى اللّه إليه: إنّي أريد قبض روحك فاعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفّل لك أنّه يصلّي باللّيل حتّى يصبح و يصوم بالنهار فلا يفطر و يقضي بين النّاس فلا يغضب فادفع ملكك إليه، فقام ذلك النبيّ في بني إسرائيل و أخبرهم بذلك فقام شابّ و قال: أنا أتكفّل لك بهذا فقال: في القوم من هو أكبر منك فاقعد، ثمّ صاح الثانية و الثالثة فقام الشابّ و قال: أنا أتكفّل لك بهذه الثلاث فدفع إليه ملكه و وفى بما ضمن فحسده إبليس فأتاه وقت ما يريد أن يقيل (1) فقال: إنّ لي غريما قد مطلني حقّي و قد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به فأرسل معه و قعد حتّى فاتته القيلولة و عاد إلى صلاته و صلّى ليله إلى الصباح ثمّ أتاه من الغد عند القيلولة و قال: إنّ الرجل الّذي استأذنتك له هو في موضع كذا فلا تبرح من مكانك حتّى آتيك به فذهب و بقي هو منتظرا حتى فاتته القيلولة ثمّ أتاه فقال له: هرب منّي فمضى ذو الكفل إلى صلاته فصلّى ليلة حتّى أصبح فأتاه إبليس و عرّفه نفسه و قال له:ة.

ص: 189


1- اى وقت نوم القيلولة.

حسدتك على عصمة اللّه إيّاك فأردت أن اخرجك حتّى لا تفي بما تكفّلت به، فشكره اللّه سعيه على ذلك الأمر و نبّأه فسمّي ذا الكفل و على هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة.

قال الرازيّ: و كذلك ذكر عليّ أمير المؤمنين أيضا كما ذكر ابن عبّاس لكن زاد:

إنّ ذا الكفل قال للبوّاب في اليوم الثالث و قد غلب عليه النعاس: لا تدعنّ أحدا يقرب هذا الباب حتّى أنام فإنّي قد شقّ عليّ النعاس، فجاء إبليس فلم يأذن له البوّاب فدخل من كوّة في البيت و تسوّر فإذا هو يدقّ الباب فاستيقظ الرجل و عاتب البوّاب فقال: أما من قبلي فلم يؤت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق و إبليس على صورة شيخ معه في البيت فقال له: أ تنام و الخصوم على الباب؟ فعرفه و قال: أنت إبليس؟ قال: نعم أعييتني في كلّ شي ء فعلت، و فعلت هذه الأفعال لأغضبنّك فعصمك اللّه منّي، فسمّي ذا الكفل لأنّه و في بما تكفّل.

و قيل: إنّه لم يكن نبيّا و لكن كان عبدا صالحا. و هذا القول بمعزل عنه و ضعيف لأنّه في الآية في عداد الأنبياء و القول كقائله و هو أبو موسى الأشعريّ.

و ذو الكفل إمّا اسم أو لقب و الكفل معناه النصيب و إنّما ذكرنا أنّه كان عمله مضاعفا و ثوابه ضعف ثواب غيره فعلى هذا التقدير يكون نبيّا لأنّه كان في زمنه أنبياء على ما روي و من ليس بنبيّ لا يكون عمله أفضل من الأنبياء على أنّ السورة ملقّبة بالأنبياء فكلّ من ذكره اللّه فيها نبيّ.

و قيل: إنّ ذا الكفل زكريّا، و قيل: يوشع، و قيل: إلياس، ثمّ قالوا: خمسة من الأنبياء سمّاهم اللّه باسمين: إسرائيل و يعقوب، إلياس و ذو الكفل، عيسى و المسيح، يونس و ذو النّون، محمّد و أحمد عليهم السّلام [و كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ].

و في كتاب النبوّة بالإسناد عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسنيّ قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام أسأله عن ذي الكفل ما اسمه؟ و هل كان من المرسلين؟ فكتب: إنّ اللّه بعث مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرين ألف نبيّ، المرسلين منهم ثلاث مائة و ثلاثة عشر رجلا و إنّ ذا الكفل كان منهم و كان بعد سليمان بن داود و كان يقضي بين الناس كما يقضي داود و لم يغضب قطّ إلّا للّه و كان اسمه عدويا بن أدار بن الي، انتهى.

ص: 190

[وَ أَدْخَلْناهُمْ] المذكورين من الأنبياء [فِي رَحْمَتِنا] و غمرناهم في نعمنا لأنّهم صلحت أعمالهم و كانوا من الصالحين.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 87 الى 90]

وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)

المعنى: [وَ ذَا النُّونِ] صاحب الحوت الّذي حبس في بطنه و هو يونس بن متّى [إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً] لقومه لمّا برم و أصرّ في إيمانهم و طال دعوته لهم و شدّ شكيمتهم و طغيانهم و لم تقبلوا أمره فهاجرهم قبل أن يؤمر بالهجرة [فَظَنَّ أَنْ لَنْ] نضيق عليه أو أن لن نقضي عليه بالعقوبة من القدر لا من القدرة أو المعنى ظنّ أن لن نعمل قدرتنا أو المعنى:

هو تمثيل لحاله بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في إعراضه قومه من غير أمرنا و انتظارا لإذن منّا، أو سبقت خطرة شيطانيّة إلى و همه فسمّي ظنّا للمبالغة، و القدر بمعنى القضاء.

و من فسّر الآية بأنّه خرج مغاضبا لربّه و أنّه ظنّ أن لن يقدر اللّه على أخذه فقد أساء الثناء على الأنبياء و أنّه نسب إليهم الكفر فضلا عن الكبيرة لأنّه نسب العجز إلى اللّه تعالى اللّه عن العجز و تعالى الأنبياء عن هذه النسبة.

و قيل: إنّه استفهام معناه التوبيخ و حذف حرف الاستفهام و تقديره: أ فظنّ أن لن نقدر عليه، و قد جاء في كلام العرب حذفه كقول عمر بن أبي ربيعة:

ثمّ قالوا تحبّها قلت بهراعدد القطر و الحصى و الرمال

و أصله: أ تحبّها، و أنكر جماعة هذا التأويل مثل عليّ بن عيسى و غيره.

[فَنادى فِي الظُّلُماتِ] ظلمة الليل و ظلمة البحر و ظلمة بطن الحوت؛ و قيل: كان في بطن حوت و حوت في بطن حوت. و بالجملة فاختلفوا في أنّ وقوعه في بطن السمكة كان قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعده: أمّا القول الأوّل فقال ابن عبّاس: كان يونس

ص: 191

عليه السّلام و قومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك و سبى منهم تسعة أسباط و نصفا و بقي سبطان و نصف فأوحى اللّه إلى شعيب النبيّ عليه السّلام أن اذهب إلى حزقيل الملك و قل له حتّى يوجّه نبيّا قويّا أمينا فإنّي القي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك: فمن ترى؟- و كان في مملكته خمسة من الأنبياء- فقال: يونس بن متّى فإنّه قويّ أمين فدعا الملك و هو حزقيل يونس و أمره أن يخرج فقال يونس: هل أمرك اللّه بإخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سمّاني لك؟ قال: لا، قال: فههنا أنبياء غيري فألحّ عليه فخرج مغاضبا للملك و لقومه.

فأتى بحر الروم فوجد قوما هيّئوا سفينة فركب معهم فتلجلجت السفينة و كادوا أن يغرقوا فقال الملّاحون: هاهنا رجل عاص أو عبد آبق؛ لأنّ السفينة لا تفعل هذا من غير ريح إلّا و فيها رجل عاص و من رسمنا أنّنا إذا ابتلينا بمثل هذا البلاء أن نقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر و لأن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة فاقترعوا ثلاث مرّات فوقعت القرعة فيها كلّها على يونس فقال: أنا الرجل العاصي و العبد الآبق و ألقى نفسه في البحر فجاء حوت فابتلعه فأوحى اللّه إلى الحوت: لا تؤذ منه شعرة فإنّي جعلت بطنك سجنا له و لم أجعله طعاما لك.

ثمّ لمّا نجّاه اللّه من بطن الحوت نبذه بالعراء كالفرخ المنتوف فأنبت اللّه عليه شجرة من يقطين يستظلّ بها و يأكل من ثمرها حتّى اشتدّ فلمّا يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل له: أ تحزن على شجرة و لم تحزن على مائة ألف أو يزيدون؟ حيث لم تذهب إليهم و لم تطلب راحتهم.

ثمّ أوحى اللّه إليه و أمره أن يذهب إليهم فتوجّه يونس عليه السّلام نحوهم حتّى دخل أرضهم و هم منه غير بعيد فأتاهم يونس و قال لملكهم: إنّ اللّه أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل فقالوا: ما نعرف ما تقول، و لو علمنا أنّك صادق لفعلنا و لقد أتيناكم في دياركم و سبيناكم فلو كان كما تقول لمنعنا اللّه عنكم، فطاف ثلاثة أيّام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى اللّه إليه: قل لهم: إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب، فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلمّا فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه.

ص: 192

ثمّ ذكروا أمرهم و أمر يونس للعلماء الّذين كانوا في دينهم فقالوا: انظروا و اطلبوه في المدينة فإن كان فيها فليس ممّا ذكر من نزول العذاب و إن كان قد خرج فهو كما قال فطلبوه فقيل لهم: إنّه خرج العشيّ فلمّا أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم و لا غنمهم و عزلوا الوالدة عن ولدها و كذا الصبيان و الأمّهات ثمّ قاموا ينتظرون الصبح فلمّا انشقّ الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقّوا جيوبهم و وضعت الحوامل ما في بطونها و صاح الصبيان و ثغت الأغنام و البقر فرفع اللّه العذاب عنهم فبعثوا إلى يونس فآمنوا به و بعثوا معه بني إسرائيل.

فعلى هذا القول كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت و في هذا القول رواية اخرى و هي أنّ جبرئيل قال ليونس عليه السّلام: انطلق إلى أهل نينوى و أنذرهم أنّ العذاب قد حضرهم، فقال يونس عليه السّلام: التمس لي دابّة، فقال: الأمر أعجل من ذلك، فغضب و انطلق إلى السفينة و باقي الحكاية كما مرّت إلى أن التقمه الحوت فانطلق إلى أن وصل نينوى فألقاه هناك.

و احتجّ القائلون بجواز الذنب على الأنبياء بهذه الآية من وجوه و انتهزوا فرصة في الأمر:

أحدها: أنّهم فسّروا أنّه ذهب مغاضبا لربّه و هذا من أعظم الذنوب.

و الجواب أنّ المغاضبة لم تكن مع اللّه لأنّه ليس في الآية أنّ يونس من غاضب لكنّا نقطع أنّه لا يجوز على نبيّ اللّه أن يغاضب ربّه بل للمؤمن لا يجوز هذا الأمر فضلا من أن يكون نبيّا لقوله: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (1) فحينئذ لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى اللّه فوجب أن يكون المراد أنّه خرج مغاضبا لمن يعصيه فيحتمل قومه أو الملك أو هما جميعا.

و ثانيها: قوله تعالى: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ».

و قد أجبنا عن هذه الشبهة و غيرها في أوّل تفسير الآية حيث فسّر القدر بالتقدير لا بالقدرة كقوله تعالى: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ»* (2) أي يضيق «وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ

ص: 193


1- الأحزاب: 36.
2- الرعد: 28.

رِزْقُهُ» (1) أي ضيّق و على قول من يقول: إنّه خطرة بوسوسة الشيطان سبقت إلى و همه و كان ذلك قبل رسالته فردّها بالحجّة فحينئذ لا يقع إلّا ترك الأولى.

و أمّا إقراره بالظلم فلا شكّ أنّه كان تاركا للأفضل مع القدرة على تحصيل الأفضل فكان ذلك ظلما بالنسبة إليه. و أمّا حبسه في بطن الحوت لا نسلّم أنّه عقوبة إذ الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا بل للمحنة و الامتحان. و أمّا قوله: و هو مليم و المليم أي ذو الملامة و ليس ملازمة بين الملامة و وجود الذنب و إنّما يحصل بسبب ترك الأفضل.

و ممّا يدلّ على أنّ مراد يونس في قوله: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» أنّه ما ظنّ العجز بالنسبة إلى اللّه قوله [سُبْحانَكَ] و تقديره: انزّهك أن تفعل ذلك جورا و شهوة و عجزا بل فعلته بمقتضى الإلهيّة و الحكمة.

و أمّا قوله: [إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ] فالمعنى: ظلمت نفسي بفراري من قومي بغير إذنك و ما كان لي أن أفعل ذلك من عند نفسي و أنا الآن من النادمين على هذا الفعل و ليس المعنى أنّه فعل كبيرة و أقرّ بها كما زعمه القائلون بصدور الذنب عنه فوصف ربّه بكمال الربوبيّة بقوله «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ» و وصف نفسه بقوله: «إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» بالقصور عن أداء حقّ الربوبيّة.

فاستجاب اللّه دعاءه و نجّاه اللّه برحمته. و كما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت إذ دعانا [كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ] من كربهم إذا استغاثوا بنا، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلّا استجيب له و عن الحسن ما نجّاه اللّه إلّا بإقراره على نفسه بالظلم.

قوله: [وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى] القصّة التاسعة قصّة زكريّا و كان سنّه مائة سنة و زوجته تسع و تسعون أو ثمان و تسعون سنة لمّا دعا بهذا الدعاء و مسّه الضرّ بتفرّده و أحبّ أن يعطيه اللّه ولدا يقوّيه على أمر دينه و يكون قائما مقامه، و كان دعاؤه:

[رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً] بغير ولد يعينني في حياتي و يرثني في مماتي [وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ].

[فَاسْتَجَبْنا لَهُ] و فعلنا ما أراده لأجل سؤاله و في ذلك البيان إعظام له [وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى] فهو كالتفسير للاستجابة [وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ] بأن كانت عقيمة فجعلناها ولودا،

ص: 194


1- الطلاق: 7.

و كانت هرمة فعاد عليها شبابها: و قيل: كانت سيّئة الخلق فصارت حسنة الخلق.

قوله: [إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ] إنّ الأنبياء الّذين تقدّم ذكرهم كانوا يبادرون في الطاعات و العبادات [وَ يَدْعُونَنا] و يعبدونا رغبة في الثواب و رهبة و خوفا من العقاب لوقوع التقصير. و لعلّ المراد رغبتهم في الطاعة و رهبتهم من المعصية لا أنّهم يعبدون رغبة للثواب و رهبة من العقاب لارتفاع مقام الأنبياء عن ذلك.

قال أمير المؤمنين: ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا لجنّتك بل وجدتك أهلا للعبادة و هذا مدح لهم في حرصهم على العبوديّة و الطاعة.

[وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ] و الخاشع هو الحذر الّذي لا يبسط في الأمور خوفا من الإثم

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 91 الى 95]

وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95)

هذه القصّة العاشرة. التقدير:

[و] اذكر [الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها] إحصانا كلّيّا من الحلال و الحرام جميعا كما قالت: «وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا» (1) حتّى من نفخ جبرئيل قبل أن تعرفه حيث منعته من جيب درعها و بعد أن نفخ جبرئيل في جيب درعها وصل النفخ في جوفها و هذا معنى: [فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا].

[وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ] أمّا آيات عيسى فمعلومة و ليست واحدة و عشرة بل أكثر و أمّا آيات مريم أيضا كثيرة: أحدها ظهور الحبل فيها بنفخ جبرئيل من غير ذكر. و أنّ رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنّة و هو قوله: «أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (2) و قيل: إنّها لم تلتقم ثديا يوما قطّ و تكلّمت هي أيضا في صباها

ص: 195


1- مريم: 21.
2- آل عمران: 33.

كما تكلّم عيسى و إنّما قال «آية» و لم يقل «آيتين» لأنّه في موضع دلالة فلا يحتاج أن يثنّى في الآية و هاهنا آخر القصص.

[إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً] الامّة الملّة و هو إشارة إلى دين الإسلام أي إنّ ملّة الإسلام هي ملّتكم الّتي يجب أن تكونوا عليها يشار إليها بملّة واحدة غير مختلفة [وَ أَنَا رَبُّكُمْ] و إلهكم واحد [فَاعْبُدُونِ* وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ] و الأصل و تقطّعتم إلّا أنّ الكلام صرف إلى الغيبة للالتفات كأنّه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين و يقبح عندهم فعلهم و يقول: ألا ترون إلى عظم ما ارتكبوا هؤلاء.

و حاصل المعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما تتوزّع الجماعة الشي ء و يقسّمونه فيصير لهذا نصيب و لذلك نصيب تمثيلا لاختلافهم فيه و صيرورتهم فرقا و أحزابا شتّى و يلعن بعضهم بعضا و يتبرّأ بعضهم بعضا فهذا الوضع بمنزلة التقطيع.

ثمّ قال: [كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ] على سبيل التهديد أي اجتمعتم إذا فرقتم راجعون إلى حكمنا في الوقت الّذي لا يقدر على الحكم سوانا فنجازيهم بأعمالهم.

[فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ] شيئا مثل صلة الرحم و معونة الضعيف و نصر المظلوم و التنفيس عن المكروب و غير ذلك من أنواع الطاعات بشرط أن يكون مؤمنا باللّه و مصدّقا برسوله [فَلا كُفْرانَ] و بطلان لثواب عمله و ليس هو محروما عنه [وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ] أي نأمر ملائكتنا أن يكتبوه و لا نضيع من عمله شيئا و ضامنون لجزائه و نكتب عمله إمّا في اللوح المحفوظ أو في الصحف الّتي تعرض يوم القيامة.

قوله تعالى: [وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها] و حرام خبر و المبتدء إمّا قوله: [أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ] أو شي ء آخر على اختلاف المعنى «و لا» مزيدة مثل «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» (1) فحينئذ تقدير الآية: حرام و ممتنع رجوعهم إلى الدنيا أو إلى التوبة و قيل: إنّ «لا» غير زائدة و معناها أي حرام و ممتنع عدم رجوعهم للجزاء. و قال أمير المؤمنين في خطبة الجمعة: ألم تروا الماضين منكم لا يرجعون و إلى الخلف الباقين منكم لا يبقون قال اللّه تعالى: و حرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون. و هذا المعنى يؤيّد المعنى الأوّل لا الثاني و قيل: معناه:

ص: 196


1- الأعراف: 11.

حرام على قرية أهلكناها أن يتقبّل منهم عمل لأنّهم لا يرجعون أي لا يتوبون أبدا.

و قرئ: «و حرم على قرية» أي كتب على من أهلك أن لا يرجع إلى الدنيا قضاء من اللّه حتما و في ذلك تخويف لكفّار مكّة بأنّهم لو عذّبوا و أهلكوا لم يرجعوا إلى الدنيا كغيرهم من الأمم المهلكة و قد جاء الحرام بمعنى الواجب في الاستعمال قالت الخنساء:

و إنّ حراما لا أرى الدهر باكياعلى شجوة إلّا بكيت على عمرو

و أمّا الاستعمال فلأنّ تسمية أحد الضدّين باسم الآخر مجاز مشهور فإذن و إنّ حراما أي و إنّ واجبا مثل «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ» (1).

و بالجملة إنّ الاختلاف في المعنى بسبب اختلاف كون «لا» مزيدة و غير مزيدة و إنّهم بالكسر و أنّهم بالفتح فتأمّل.

قال أبو مسلم بن بحر: تقدير الآية أنّ عدم رجوع الهالكين ممتنع فيكون حينئذ رجوعهم واجبا في الآخرة و الغرض من البيان إبطال قول من ينكر البعث و يكون الحضور بعد فتح يأجوج.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 96 الى 103]

حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)

المعنى: على قول أبي مسلم أنّهم يرجعون أحياء بعد الممات للمجازاة و ذلك الرجوع يكون وقت فتح سدّ يأجوج و مأجوج بسقوط أو كسر أو هدم أو غير ذلك و ذلك من أشراط الساعة و تأنيث «فتحت» لأنّ يأجوج و مأجوج بمنزلة القبيلتين

ص: 197


1- الشورى: 40.

أو المراد جهة يأجوج و مأجوج و حذف المضاف و هو سدّ يأجوج قيل: السدّ يفتحه اللّه ابتداء، و قيل: بل إذا جعل اللّه الأرض دكّا زالت الصلابة عن أجزاء الأرض فحينئذ ينفتح السدّ.

[وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ] قيل: و المراد من الضمير في قوله «و هم» كناية عن يأجوج و مأجوج من كلّ نشزة و ارتفاع و علوّ يسرعون إلى الورود و المحابطة في الناس و يتفرّقون في الأرض فلا ترى واديا إلّا و قوم منهم يهبطون فيها مسرعين و قيل:

الضمير كناية عن الخلق يخرجون من قبورهم إلى الحشر فعلى هذا المعنى الثاني تكون الآية على قراءة ابن عبّاس: و هم من كلّ حدب ينسلون أي القبر و يؤيّده قوله تعالى:

«فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (1).

[وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ] و لا شبهة أنّ الوعد الحقّ يوم القيامة و اقترب قيام الساعة فتشخص أبصار الكفّار من شدّة أهوال ذلك اليوم يقولون: [يا وَيْلَنا] و الويل لنا [قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ] في الدنيا [مِنْ هذا] الأمر حيث كذّبناه و قلنا: إنّه غير كائن بل ظلمنا أنفسنا بتلك الغفلة و بتكذيب الرسل و عبادة الأوثان و بمخالفة ما أمرنا.

قوله: [إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] الخطاب لمشركي قريش؛ روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل المسجد و صناديد قريش في الحطيم و حول الكعبة ثلاث مائة و ستّون صنما فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلّمه رسول اللّه فأفحمه ثمّ تلا عليهم هذه الآية: «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» و قرئ «حطب جهنّم» و المراد من الحصب الرمي و المراد أنّهم يرمون في جهنّم كما ترمى بالحصباء.

فإن قيل: أيّ فائدة في إدخال الأصنام النار؟ فالفائدة: يعذّب بها المشركون الّذين عبدوها خصوصا.

و بالجملة فلمّا تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الآية و أفحم نضرا أقبل عبد اللّه بن الزبعرى فرآهم يتهامسون فقال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال عبد اللّه: أما و اللّه لو وجدته لخصمته فدعوه فقال ابن الزبعرى: أ أنت قلت ذلك؟

ص: 198


1- يس: 51.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم. قال: قد خصمتك و ربّ الكعبة، أليس اليهود عبدوا عزيرا، و النصارى عبدوا المسيح، و بنو فليح عبدوا الملائكة؟ فأجاب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بل هم عبدوا الشياطين الّتي أمرتهم بذلك فأنزل اللّه هذه الآية: [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ] الآية، يعني عزيرا و المسيح و الملائكة.

و إنّما كان مقصود ابن الزبعرى أن يفحم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّ لازم هذه الآية أنّ عزيرا و عيسى عليهما السّلام و الملائكة حينئذ حصب جهنّم عنادا باللّه فأجابهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّ معبودهم الشياطين ثمّ نزلت الآية: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى» فنزّهتهم الآية.

و اعلم أنّ كلام ابن الزبعرى ساقط بالكلّيّة من وجوه: الأوّل أنّ الخطاب لقريش و مشركي مكّة و هم كانوا يعبدون الأصنام فقط. و الثاني أنّه تعالى لم يقل:

و من تعبدون بل قال: و «ما تعبدون» و كلمة «ما» لا تتناول العقلاء أمّا قوله «وَ السَّماءِ وَ ما بَناها» (1) و قوله «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» (2) محمول و مفسّر بشي ء و الشي ء لا يفيد العموم فلا يتوجّه سؤال ابن الزبعرى، و لو أفاد الشي ء معنى العموم فخصّ بالدلائل العقليّة و السمعيّة في حقّ الملائكة و المسيح و عزير فوعدهم اللّه إيّاهم بكلّ مكرمة فعلى الفرض فخرجوا بدليل منفصل فحينئذ لا يرد إيراد اللعين.

و الحكمة في أنّهم قرنوا بآلهتهم أنّهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غمّ و حسرة لأنّهم ما وقعوا في ذلك العذاب إلّا بسببهم و المقارنة إلى العدوّ و النظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب قيل: و ما كان حديدا منها أو حجرا يحمى و يلتزق بعبّادها، و ما كان خشبا يجعل جمرة يعذّب بها صاحبها استهزاء، و معنى حصب جهنّم المراد: يقذفون في النّار فلمّا رمي بهم كرمي الحصباء جعلهم «حصب» تشبيها.

و اللام في قوله: [أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ] معوّضة من «على» للدلالة على الاختصاص، و لبيان أنّ ورودهم لأجلها و الخطاب لهم و يشمل الأصنام تغليبا.

فإن قيل: الشياطين عقلاء و لفظ «ما» لا يتناولهم فكيف قال الرسول ذلك؟

ص: 199


1- الشمس: 6.
2- الكافرون: 2.

قلنا: و ما تعبدون بالأصنام أليق لكلمة «ما» و قوله: «لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً» بالشياطين أليق لكلمة هؤلاء فيعمّ الشياطين و الأصنام.

و في الآية بيان أنّ من يرمى في النار لا يمكن أن يكون إلها فقال تعالى في مقام الاستدلال: [لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها] و ما دخل عابدوها في النار لكنّهم وردوها فهم ليسوا آلهة.

ثمّ وصف سبحانه عذاب العابد و المعبود بأمور ثلاثة:

أحدها: الخلود فقال: [وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ] يعني العابدين و المعبودين و هو تفسير لقوله: «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ».

و ثانيها: قوله: [لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ] الزفير هو اللهيب أي يرتفعون بسبب لهب النار حتّى إذا ارتفعوا و رجوا الخروج ضربوا بمقامع الحديد فهووا إلى أسفلها سبعين خريفا قال الخليل: الزفير أن يملأ الرجل صدره غمّا ثمّ يتنفّس.

و ثالثها: [وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ] و الضمير فيه قيل: راجع إلى الأصنام و المعبودين أي لا يسمعون صراخ المعذّبين و شكواهم أي و لا يغيثونهم. و قيل: إنّ الكفّار المعذّبين لا يسمعون ما يسرّهم و ينفعهم و لا يستمعون ما ينتفعون به و إنّما يسمعون صوت المعذّبين و صوت الملائكة الّذين يعذّبونهم و يسمعون ما يسوؤهم. و قيل: يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون شيئا و لا يرى أحد منهم أنّ في النار أحدا يعذّب غيره و عن عبد اللّه بن مسعود قال: و لمّا نزلت هذه الآية و تلاها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتى عبد اللّه بن الزبعرى رسول اللّه فقال: أ لست تزعم أن عزيرا رجل صالح و أنّ مريم امرأة صالحة؟

قال: بلى قال: فإنّ هؤلاء يعبدون من دون اللّه فهم في النار؟ فنزلت هذه الآية [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ* لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ].

فعلى فرض أن يكون إيراد ابن الزبعرى واردا فهذه الآية جواب عن إيراد اللعين.

المعنى: قد جرت عادة اللّه أنّه متى شرح عقاب الكفّار أردفه بشرح ثواب الأبرار.

و الحسنى تأنيث الأحسن أي البشرى بالسعادات و الخصلة المفضّلة و هي الايمان الكامل باللّه و قد

ص: 200

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 249

سبق في علمنا بحسن صنيعهم الموعدة بالجنّة و السعادة، أولئك عن النار مبعدون «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» بحيث لا يسمعون صوتها الّذي يحسّ منها و هم فيما اشتهت أنفسهم و فيما تطلب أنفسهم من اللذائذ و نعيم الجنّة خالدون و دائمون.

و قيل: إنّ المراد من الّذين سبقت لهم الحسنى عيسى و مريم و عزير و الملائكة الّذين عبدوا من دون اللّه و هم كارهون؛ استثناهم اللّه من المعبودين إذا أطبقت على أهلها و هذا المعنى على فرض كون العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، و على كون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية عامّة لهم و لغيرهم ممّن كان مؤمنا، لا يحزنهم الفزع الأكبر و الخوف العظيم. و قيل: المراد من الفزع الأكبر النفخة الأخيرة حيث يقول: «وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» (1) و لا يلزم من نفي الفزع الأكبر نفي الفزع في النار و أهوال القيامة و قيل: هو حين يؤمر بالعبد إلى النار أو حين يذبح الموت.

و روى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ثلاثة على كثبان من مسك لا يحزنهم الفزع الأكبر و لا يكترثون للحساب: رجل قرأ القرآن محتسبا ثمّ أمّ به قوما محتسبا و رجل أذّن محتسبا و مملوك أدّى حقّ اللّه و حقّ مواليه.

قوله: [وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ] و تستقبلهم بالتهنئة قيل: هم الملائكة الّذين كتبوا أعمالهم في الدنيا و يقولون لهم و يبشّرونهم بأنّ [هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] في الدنيا، في المجالس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لعليّ عليه السّلام: يا عليّ أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم و تمنعون من كرهتم و أنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظلّ العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و يحزن الناس و لا تحزنون و فيكم نزلت هذه الآية.

و أيضا في المجالس عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه يبعث شيعتنا يوم القيامة على ما فيهم من الذنوب أو غيره مبيضّة وجوههم مستورة عوراتهم آمنة روعتهم قد سهلت لهم الموارد و ذهبت عنهم الشدائد يركبون نوقا من ياقوت فلا يزالون يدورون خلال الجنّة

ص: 201


1- النمل: 87.

عليهم برد من نور يتلألأ يوضع لهم الموائد فلا يزالون يطعمون و الناس في الحساب و هو قول اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ» الآية.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 104 الى 112]

يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)

[يَوْمَ] ظرف منصوب على البدليّة من هاء محذوفة من «توعدونه» أو من «نعيده» في الآية و المعنى: إنّ في ذلك اليوم [نَطْوِي السَّماءَ] مثل طيّ الصحيفة [لِلْكُتُبِ] فيكون معنى طيّ السجلّ للكتاب كون السجلّ ساترا لتلك الكتابة و محفيا لها لأنّ الطيّ ضدّ النشر و الكشف و المعنى: نطوي السماء كما يطوي الطومار الّذي يكتب فيه و يجوز أن يكون المراد بالكتاب المكتوب من أعمال الناس.

و السجلّ اسم ملك يكتب أعمال العباد. و قيل: السجلّ هو اسم ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه من الأرض و قيل: اسم كاتب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: السجلّ بلغة الحبشة معناه الرجل فحينئذ معناه: نطوي السماء كناية، و اللام في «للكتب» زائدة مثل قوله «رَدِفَ لَكُمْ» (1) أو المعنى: كطيّ الطاوي السجلّ و هذا قول أكثر المفسّرين.

القميّ: و معنى نطويها أي نفنيها فتحول دخانا و الأرض نيرانا. ثمّ ابتدأ سبحانه فقال: [كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ] أي نعيد أوّل الخلق كما بدأناه.

و قيل: معناه كما بدأناهم في بطون امّهاتهم حفاة عراة كذلك نعيدهم. و قيل: معناه نبعث الخلق كما ابتدأنا أي قدرتنا على الإعادة كقدرتنا على الابتداء.

ص: 202


1- النمل: 72.

و اختلفوا في كيفيّة الإعادة فمنهم من قال: إنّ اللّه يفرّق أجزاء الأجسام و لا يعدمها ثمّ إنّه يعيد تركيبها فذلك هو الإعادة و منهم من قال: إنّه تعالى يعدمها بالكلّيّة ثمّ إنّه سبحانه يوجدها بعينها مرّة اخرى و هذه الآية دالّة على هذا الوجه لأنّه شبّه الإعادة بالابتداء و لمّا كان الابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرّقة بل عن الوجود بعد العدم وجب أن يكون الحال في الإعادة كذلك.

و احتجّ القائلون بالقول الأوّل بقوله تعالى: «وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» (1) فدلّ هذا على أنّ السماوات حال كونها مطويّة تكون موجودة. و بقوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» (2) و هذا يدلّ على أنّ أجزاء الأرض باقية لكنّها جعلت غير الأرض انتهى.

[وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ] أي وعدناكم ذلك وعدا و نحن فاعلون ما وعدناكم.

[وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ] و قرئ «زبور» بضمّ الزاي جمع زبر مثل قشر و قشور، و الزبور بمعنى المزبور و المكتوب؛ زبرت الكتاب أي كتبته أي و لقد كتبنا في الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء من بعد ما كتبناه في الذكر و هو امّ الكتاب و اللوح المحفوظ الّذي في السماء و قيل: الزبور الكتب المنزلة بعد التوراة.

و الذكر هو التوراة و قيل: الزبور كتاب داود عليه السّلام و الذكر توراة موسى عليه السّلام و قيل: المراد من الذكر القرآن و «بعد» بمعنى قبل في الآية و قيل: المعنى المراد بالذكر العلم أي كتبنا ذلك في الزبور بعد أن كنّا عالمين علما لا يجوز عليه السهو و النسيان علينا أي مع أنّه لا يجوز علينا السهو و النسيان كتبنا أنّ هذا الأمر واجب الوقوع و هو [أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ].

و اختلف في الأرض قيل: الأرض أرض الجنّة و العباد الصالحون هم المؤمنون العاملون بطاعة اللّه و هذا القول لعكرمة و السدّيّ و سعيد بن جبير و أبي العالية و قالوا:

إنّها الأرض الّتي تختصّ بها الصالحون لأنّها لهم خلقت و غيرهم إذا حصل معهم في الجنّة على وجه التبع. و قيل: المراد أرض الدنيا فإنّها للصالح و الطالح.

ص: 203


1- الزمر: 67.
2- ابراهيم: 48.

و القول الأوّل بأنّ المراد أرض الجنّة فيه تعسّف لأنّ إطلاق الأرض إلى أرض الدنيا أقرب و أوجه من أرض الجنّة و سيورّثها المؤمنين في الدنيا كما وردت روايات كثيرة بهذا المعنى و قد نطق به الكتاب الكريم قال سبحانه: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا- إلى قوله- لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» (1) و لا يستخلفون إلّا في الدنيا و قوله تعالى: «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» (2) و قال تعالى: «وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا» (3) أي في آخر الأمر نورثها امّة محمّد.

القميّ: قال: يرثها القائم عليه السّلام و أصحابه. و في المجمع هم أصحاب المهديّ عليه السّلام في آخر الزمان. و يدلّ على ذلك ما رواه الخاصّ و العامّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يبعث رجلا من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: زويت لي الأرض فأريت مشارقها و مغاربها و سيبلغ ملك امّتي ما زوي لي منها.

قوله: [إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ] أي إنّ في هذا القرآن و في الّذي أخبرنا من الوعد للمؤمنين و الوعيد للكافرين للكفاية و وصلة إلى البغية و البلاغ سبب الوصول إلى الحقّ لقوم عابدين للّه مخلصين له قال كعب: هم امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذين يصلّون الصلوات الخمس و يصومون رمضان بما هم عابدين. و قيل: معناه قوم هممهم العبادة لا العادة.

قوله: [وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ] كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة في الدين و الدنيا:

أمّا في الدين فلأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث و الناس في جاهليّة و ضلالة و أهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لبعض التحريفات و انقطاع تواترهم و اختلافات وقعت في كتبهم و علمائهم فبعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدعاهم إلى الحقّ و شرّع لهم الأحكام و ميّز الحلال

ص: 204


1- النور: 55.
2- الأعراف: 127.
3- الأعراف: 136.

عن الحرام ثمّ إنّما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همّته طلب الحقّ و لا يرغب به العناد و الحسد و الاستكبار و كان التوفيق له قرينا قال اللّه: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ» (1).

و أمّا في الدنيا فلأنّهم تخلّصوا بسببه من كثير من الذلّ و الحروب و نصروا ببركة دينه.

فإن قيل: كيف كان رحمة و قد جاء بالسيف و استباحة الأموال؟

فالجواب أنّه إنّما جاء بالسيف لمن يقدّم ضرّه على نفعه و لا يعرف خيره من شرّه و استكبر و عاند في الدين و لم يتفكّر و لم يتدبّر و من أوصاف اللّه الرحمن الرحيم العطوف الرءوف ثمّ هو سبحانه ينتقم من العصاة و قال تعالى: «وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً» (2) ثمّ قد يكون سببا لعدم البركة ثمّ إنّ كلّ نبيّ قبل نبيّنا كان إذا كذّبه قومه أهلك اللّه المكذّبين بالخسف و المسخ و الغرق و الحرق و إنّه تعالى أخّر عذاب من كذّب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال اللّه تعالى: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ» (3).

ثمّ إنّه كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في نهاية حسن الخلق قال: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» و في الحديث قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادع على المشركين قال: إنّما بعثت رحمة و لم ابعث عذابا و قال عبد الرحمن بن زيد: إلّا رحمة للعالمين يعني المؤمنين خاصّة و القولان ترجعان إلى معنى واحد لأنّ من أعرض عنه إنّما وقع في المحنة من قبل نفسه كما قال: «وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» (4).

قالت المعتزلة: لو كان اللّه أراد من الكافرين الكفر و لم يرد من الكفّار الإيمان بالرسول كما يقوله أهل السنّة بأن خلق ذلك الكفر فيهم لوجب أن يكون إرساله نقمة و عذابا عليهم لا رحمة و ذلك على خلاف النصّ.

و استدلّوا أيضا بهذه الآية في أنّه أفضل من الملائكة قالوا: لأنّ الملائكة من

ص: 205


1- فصلت: 44.
2- ق: 9.
3- الأنفال: 33.
4- فصلت: 44.

العالمين فوجب بحكم هذه الآية أن يكون صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة للملائكة فوجب أن يكون أفضل منهم.

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجبرئيل: لمّا نزلت هذه الآية: فهل أصابك من هذه الرحمة شي ء؟ قال: نعم إنّي كنت أخشى العاقبة فأمنت بك لمّا أثنى اللّه عليّ بقوله: «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» (1) و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّما أنا رحمة مهداة و معلوم أنّ الوجه في أنّه رحمة على الكافر أنّه عرضه للإيمان و الثواب الدائم و هذا و إن لم يهتد كمن قدّم طعاما إلى جائع فلم يأكل فإنّه منعم عليه و إن لم يقبل.

قوله: [قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] أي مستسلمون و منقادون لذلك أن تتركوا عبادة غير اللّه و حاصله أن أسلموا إلى هذا الأمر.

و في المناقب: فهل أنتم مسلّمون الوصيّة بعدي- بالتشديد- و المراد من الوصيّة الخلافة فإنّ قوله: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (2) أي انتهوا.

قال صاحب الكشّاف: كلمة «إنّما» يقصّر الحكم على شي ء أو يقصّر الشي ء على حكم كقولك: إنّما زيد قائم أو إنّما يقوم زيد و قد اجتمع المثالان في هذه الآية لأنّ «إِنَّما يُوحى إِلَيَّ» مع فاعله بمنزلة إنّما يقوم زيد و «أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» بمنزلة إنّما زيد قائم و فائدة اجتماعهما الدلالة على أنّ الوحي إلى رسول اللّه مقصور على إثبات التوحيد فلزم أن يقال: لم يوح إلى رسول اللّه شي ء غير التوحيد و معلوم أنّ ذلك فاسد و المقصود من هذا الحصر المبالغة في هذا الأمر فكأنّه هذا الوحي أصل و مقدّم على الكلّ و لولاه لم يتحقّق امتثال في أمر من امور الوحي و هو أصل أصيل.

قوله: [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ] آذن منقول من أذن أي علم و لكنّه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار و منه قوله: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ» و الإيذان على السواء معناه الدعاء إلى الحرب مجاهرة.

و المقصود لعلّ أنّ قريشا يزعمون أنّ حالهم مخالف لسائر الكفّار في الأمور فعرّفهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك و أعلمهم بما امر به على السواء من غير فرق و بيّن لهم ما هو الواجب عليهم من التوحيد و كلّ الأمور على سواء فلم افرّق في الإبلاغ و البيان، و الغرض

ص: 206


1- التكوير: 20.
2- المائدة: 94.

إزاحة العذر لئلّا يقولوا: ربّنا لو لا أرسلت إلينا رسولا و قيل: المعنى في قوله: «آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ» أي أعلمتكم بالحرب الّذي يقع بيني و بينكم كأنّه أمره اللّه بأن ينذرهم بالجهاد معهم الّذي يوحى إليه أن يأتيه من بعد و لم يعرّفه الوقت فلذلك أمره أن يقول:

إنّه لا يعلم قربه أم بعده لأنّ السورة مكّيّة و كان الأمر بالجهاد بعد الهجرة أو المعنى:

أنّ ما يوعدون به من غلبة المسلمين عليهم كائن لا محالة و لا بدّ أن يلحقهم الذلّ و الصغار و إن كنت لا أدري متى يكون ذلك و ذلك لأنّ اللّه لم يطّلعني عليه.

[إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ] و المراد من الآية ترك النفاق و النهي عنه و الأمر بالإخلاص لأنّهم كانوا يجاهرون في الطعن بالإسلام و تكذيب الآيات و بعض يضمرون الأحقاد فنبّههم اللّه بأنّه يعلم و يجازيهم عليه إمّا بالغلبة من المسلمين عليهم و إذلالهم و إمّا بعذاب القيامة.

[وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ] أي و ما أدري لعلّ تأخير جزائكم استدراج و زيادة في افتتانكم أو امتحانكم و تمتّع لكم إلى أجل مقدّر يقتضيه المشيّة المبنيّة على الحكم البالغة ليكون ذلك حجّة عليكم إن لم تؤمنوا.

قوله تعالى: [قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ] و قرئ «قل ربّ احكم بالحقّ» على الالتقاء بالكسرة و قرئ «أحكم» على أفعل التفضيل أي و ربّي أحكم. و على قراءة «قال» حكاية لدعائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على قراءة صيغة الأمر كما هو المشهور أي اقض بيننا و بين أهل مكّة بالعدل المقتضي لغلبتنا و التشديد عليهم، و قد استجيب دعاؤه ببدر و غيره.

«وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ» مبتدأ و خبر أي كثير الرحمة على عباده و هو «المستعان» و يطلب منه المعونة خبر ثان على ما تصفون من الحال؛ فإنّهم كانوا يقولون: إنّ الشوكة تكون لنا و إنّ راية الإسلام تخفق و هذا الأمر يبطل و يضمحلّ فخيّب اللّه آمالهم و نصر محمّدا و أولياءه، أو معنى ما تصفون أي من الشرك و ما تعارضون به دعوتي من الأباطيل.

تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 207

سورة الحج

اشارة

مكية إلّا آيات نزلت في السفر.

عن ابيّ بن كعب قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الحجّ اعطي من الأجر كحجّة حجّها و عمرة اعتمرها بعدد من حجّ و اعتمر في ما مضى و في ما بقي.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من قرأها في كلّ ثلاثة أيّام لم يخرج من سنته حتّى يخرج إلى بيت اللّه الحرام و إن مات في سفره دخل الجنّة.

لمّا ختم اللّه سورة الأنبياء بالدعاء إلى التوحيد افتتح هذه السورة بالاتّقاء من الشرك فقال:

ص: 208

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحج (22): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

أمر اللّه الناس بالتقوى فدخل فيه أن يتّقي كلّ محرّم و يتّقي ترك كلّ واجب؛ لأنّ المتّقي إنّما يتّقي كلّ محرّم و يتّقي ترك كلّ واجب و إنّ المتّقي إنّما يتّقي ما يخافه من عذاب اللّه فيدع لأجله المحرّم و يفعل لأجله الواجب و لا يدخل فيه النوافل لأنّ المكلّف لا يخاف بتركها العذاب و إنّما يرجو بفعلها الثواب فإذا قال: اتّقوا ربّكم فالمراد اتّقوا عذاب ربّكم.

[إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ] الزلزلة شدّة حركة الشي ء كأنّ الساعة الفاعلة للزلزلة و تزلزل الأشياء على المجاز الحكميّ فحينئذ يكون الزلزلة مصدرا مضافا إلى فاعله أو على تقدير المفعول فيها على طريق الاتّساع في الظرف يعني: إنّ الزلزلة يقع في الساعة، و إجراؤه مجرى المفعول به مثل «بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ» و هي الزلزلة المذكورة في قوله «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» (1).

اختلفوا في وقتها قيل عن الشعبيّ و علقمة: إنّ هذه الزلزلة تكون في الدنيا و هي الّتي يكون معها طلوع الشمس من مغربها. و قيل: هي الّتي تكون معها الساعة.

و روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث الصور أنّه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع و نفخة الصعقة و نفخة للقيام لربّ العالمين و أنّ عند نفخة الفزع يسيّر اللّه الجبال و ترجف الراجفة تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، و تكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلّق يزجزجها الرياح. و قيل: هذا في أوّل يوم الآخرة و يمكن أن يكون الزلزلة من أماراتها و أشراطها الّتي فيها دفعها.

ص: 209


1- الزلزال: 1.

النزول: قال عمران بن الحصين و أبو سعيد الخدريّ: نزلت الآيتان الأوليان ليلا في غزاة بني المصطلق و هم حيّ من خزاعة و الناس راكبين يسيرون فنادى رسول اللّه فحثّوا المطيّ حتّى أتوا حول رسول اللّه فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السرج عن الدوابّ و لم يضربوا الخيام و الناس بين باك أو جالس حزين متفكّر فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تدرون أيّ يوم ذاك؟ قالوا: اللّه و رسوله أعلم، قال: ذاك يوم يقول اللّه تعالى لآدم: ابعث بعث النار من ولدك فيقول آدم: من كم كم؟

فيقول اللّه: عجّ من كلّ ألف تسع مائة و تسع و تسعين إلى النار و واحدة إلى الجنّة فكبر ذلك على المسلمين و بكوا و قالوا: فمن ينجو يا رسول اللّه؟ فقال: ابشروا فإنّ معكم خليقتين يأجوج و مأجوج ما كان في شي ء إلّا كثّرناه ما أنتم إلّا كشعرة بيضاء في الثور الأسود أو كرقم في ذراع البكر أو كشامة في جنب البعير ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة فكبّروا ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة فكبّروا ثم قال:

إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة و إنّ أهل الجنّة مائة و عشرون صفّا ثمانون منها امّتي.

ثمّ قال: و يدخل من امّتي سبعون ألفا الجنّة بغير حساب و في بعض الروايات أنّ عمر بن الخطّاب قال: يا رسول اللّه سبعون ألفا؟ قال: نعم و مع كلّ واحد سبعون ألفا فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول اللّه ادع اللّه أن يجعلني منهم فقال: اللّهمّ اجعله منهم، فقام رجل من الأنصار فقال: ادع اللّه أن يجعلني منهم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سبقك بها عكاشة قال ابن عبّاس: كان الأنصاريّ منافقا فلذا لم يدع له.

المعنى: خاطب اللّه سبحانه جميع المكلّفين فقال:

[يا أَيُّهَا النَّاسُ] العقلاء المكلّفون [اتَّقُوا] عذاب [رَبَّكُمْ] و اخشوا معصيته [إِنَّ زَلْزَلَةَ] الأرض يوم القيامة أمر [عَظِيمٌ] هائل لا يطاق و شدّة يوم القيامة أمر صعب.

[يَوْمَ] ترون الزلزلة أو الساعة [تَذْهَلُ] و تشغل [كُلُّ مُرْضِعَةٍ] عن ولدها و تنساه و تسلو عن ولده و وصف اللّه الزلزلة بالعظيم و لا عظيم أعظم ممّا عظّمه اللّه. فإن قيل:

ص: 210

لم قال مرضعة دون مرضع؟ قلنا: المرضعة هي الّتي في حال الإرضاع و هي ملقمة ثديها الصبيّ و المرضع من من شأنها أن ترضع و إن لم تباشر الإرضاع فقيل: مرضعة ليدلّ على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه و قد ألقمت ثديها الرضيع نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة [عَمَّا أَرْضَعَتْ] أي عن إرضاعها أو عن الطفل فتكون «ما» بمعنى «من» على التأويل الثاني.

[وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها] من الفزع و يمكن أن يكون المراد من ذهول المرضعة و وضع الحمل على قول من قال: المراد به يوم القيامة فيكون على جهة المثل لشدّة ذلك اليوم أي شأن فزع ذلك اليوم شأن لو كانت مرضعة تذهل عن إرضاعها و لو كانت حامل تضع من غير تمام حملها. و من قال: إنّ الزلزلة المذكورة في الدنيا قبل القيامة فالمعنى على سبيل الحقيقة كما قال بعض: إنّ الزلزلة يكون في الدنيا آخر زمانها لأنّ الرضاع و وضع الحمل إنّما يتصوّر في الدنيا.

[وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى] و قرئ «سكرى» أي من شدّة الفزع حالهم حال السكرى و اضطراب السكران [وَ ما هُمْ بِسُكارى] من الشراب بل عقولهم ذاهبة من شدّة الفزع.

ثمّ علّل سبحانه ذلك فقال: [وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ] و من شدّته يصيبهم ما يصيبهم و قرئ «ترى» بضمّ التاء من باب الإفعال تقول: أريتك قائما و رأيتك قائما و «الناس» قرئ بالنصب على المفعوليّة و بالرفع اسم ما لم يسمّ فاعله فيكون «ترى» بالضمّ مجهولا.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 3 الى 5]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)

ص: 211

قوله تعالى: [وَ مِنَ النَّاسِ] هذا إخبار عن المشركين الّذين يخاصمون في توحيد اللّه [بِغَيْرِ عِلْمٍ] منهم بل للجهل المحض. و قيل: نزلت في النضر بن الحارث فإنّه كان كثير الجدال و كان يقول: الملائكة بنات اللّه، و القرآن أساطير الأوّلين و كان ما يأتيكم به محمّد كما كنت احدّثكم به عن القرون الماضية لأنّه كان يسافر إلى فارس و يتعلّم منهم القصص القديمة مثل حكايات رستم و إسفنديار و يأتي به العرب و يقول: ما يقول محمّد كذلك و ينكر البعث.

[وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ] يغويه عن الهدى و يدعوه إلى الضلال. و في قوله «شيطان مريد» قولان: يجوز أن يكون المراد شياطين الإنس مثل النضر بن الحارث فإنّه كان كثير الجدال و أمثاله؛ و المريد و المارد المرتفع الأملس، و يجوز أن يكون المراد إبليس و جنوده، و المريد و المارد يستعمل في الإنسان و غير الشيطان إذا جاوز حدّ مثله.

قوله تعالى: [كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ] و اختلفوا في رجوع ضمير الهاء من «عليه» قيل: كتب اللّه على ذلك الشيطان في اللوح المحفوظ أنّه يضلّ من تولّاه فكيف يتّبع مثله، و قيل: كتب على المجادل بالباطل أنّ من اتّبعه و والاه يضلّه عن الدين [وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ].

ثمّ ذكر سبحانه الحجّة في البعث لأنّ أكثر الجدال كان فيه فقال: [يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ] و شكّ [مِنَ الْبَعْثِ] و النشور و الريب أقبح الشكّ فالدليل على صحّة البعث [فإنّا خلقنا] أصلكم آدم [مِنْ تُرابٍ] فمن قدر على أن يصيّر التراب بشرا سويّا حيّا في الابتداء قدر على أن يحيي العظام و التراب المتبدّل من العظام و يعيد الأموات.

[ثُمَ] خلقنا أولاده و نسله [مِنْ نُطْفَةٍ] في أرحام الأمّهات و هي الماء القليل يكون من الذكر و الأنثى، و كلّ ماء صاف فهو نطفة قلّ أم كثر [ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ] بأن تصير النطفة علقة و هي القطعة من الدم الجامد [ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ] أي شبه قطعة لحم ممضوغة فإنّ معنى المضغة مقدار ما يمضغ من اللحم [مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ] أي تامّ الخلقة و غير

ص: 212

تامّ الخلقة أو المعنى: مصوّرة و غير مصوّرة هي ما كان لا تخطيط فيه و لا تصوير كأنّه قسّم سبحانه المضغة على قسمين: منها ما خلقه إنسانا تامّا بلا نقص و منها ما ليس كذلك أي يخلق المضغ متفاوتة فيتفاوت الناس في خلقهم و صورهم و طولهم و قصرهم و تمامهم و نقصانهم و الّذي يخرج حيّا و الّذي يخرج ميّتا و سقطا لهذه الجهة.

روى علقمة عن عبد اللّه بن عمر قال: إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا و قال: يا ربّ مخلّقة أو غير مخلّقة؟ فإن قال: غير مخلّقة بجّتها الأرحام دما و إن قال:

مخلّقة قال: يا ربّ ما صفتها أ ذكر أم أنثى؟ ما رزقها؟ ما أجلها؟ أ شقيّ أم سعيد؟

فيقول اللّه سبحانه: انطلق إلى امّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معها حتّى يأتي على آخر صفتها.

قوله: [لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ] أي لندلّكم و نوضح لكم مقدوراتنا بتصريفكم في ضروب الخلق أنّ من قدر على البدء قدر على الإعادة حتّى يزول ريبكم و المفعول محذوف. و «نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ» أي نبقي في الأرحام ما نشاء إلى وقت تمامه و ما لا نقرّ في أرحام الأمّهات فيقع بالسقط و نقص خلقة البعض.

[ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ] بعد التكميل من بطون امّهاتكم و أنتم أطفال و المراد بالطفل الصغير من الناس و إنّما وحّد مع أنّ المراد الجمع لأنّه بمعنى المصدر و إذا كان بمعنى المصدر فيستوي فيه الجمع و المفرد تقول: رجل عدل و رجال عدل أو المراد ثمّ نخرج كلّ واحد منكم [طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ] أي ثمّ سهّل عليكم في تربيتكم و أغذيتكم أمورا لتبلغوا أنتم حال بلوغ الأشدّ و هو حال اجتماع القوّة و العقل و تماميّة الصورة و المعنى و الأشدّ من ألفاظ الجموع الّتي لم يستعمل لها واحد.

و في الآية دلالة على أنّ هذه الأمور باختيار الفاعل القادر المختار و لولاه لما صار بعضه مخلّقا و بعضه غير مخلّق و كان كلّه مخلّقا أو كان كلّه غير مخلّق.

قوله: [وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى] قبل بلوغ الأشدّ [وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ] أي أسوء العمر و أهونه و أحقره و هي حال الخرف و لأنّه لا يرجو الإنسان بعد هذا الوقت صحّة و قوّة بل يترقّب الموت بخلاف حال الطفوليّة و الشباب الّذي يرجى له

ص: 213

الكمال و القوّة بعدها [لِكَيْلا] يستفيد علما و ينسى ما كان عالما به و يصير إلى حال ينعدم عقله و يذهب عنه علومه فلا يعلم شيئا ممّا كان علمه و إذا ذهب أكثر علومه جاز أن يطلق ذهاب الجميع للمبالغة.

قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة و احتجّ بقوله تعالى: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» (1) أي قرءوا القرآن و لا شكّ أنّ قراءة القرآن من الأعمال الصالحة هذا تمام الاستدلال بخلقة الحيوان على صحّة البعث.

ثمّ استدلّ بأحوال النبات سبحانه على صحّة البعث فقال: [وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً] أي هالكة يابسة دارسة من أثر النبات [فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ] و هو المطر [اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ] و تحرّكت بالنبات بسبب المطر و المراد بالاهتزاز شدّة حركة الزرع في الجهات و نموّ الأزهار و ظهور تجديد الحياة في الأرض بزينتها في الجهات و انتفخت الأرض لنباتها [وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ] أي من كلّ صنف و شكل من الزروع مبتهج حسن الرونق و اللون و الصفة و النضرة.

و لمّا قرّر سبحانه هذين البيانين من صفة الحيوان و النبات بطريق الدليل رتّب عليهما ما هو المطلوب فقال:

[سورة الحج (22): الآيات 6 الى 10]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)

المعنى: [ذلِكَ] الّذي سبق ذكره من تصريف الإنسان على هذه الأحوال و إخراج النبات و الدلائل الدالّة على وجود القادر الصانع ليعلموا [بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ] الّذي تحقّ له العبادة دون غيره أي هو الّذي يستحقّ صفات التعظيم [وَ أَنَّهُ يُحْيِ] الأموات يعني أنّ الّذي يصحّ منه إيجاد هذه الأشياء قادر على إعادة الأموات

ص: 214


1- التين: 5.

[وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] قدير على إفنائها و إيجادها.

[وَ أَنَ] القيامة [آتِيَةٌ لا رَيْبَ] في وقوعها [وَ أَنَّ اللَّهَ] يجمع الناس و يحييهم للجزاء. و عن الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لجبرئيل: يا جبرئيل أرني كيف يبعث اللّه العباد يوم القيامة؟ قال: نعم فخرج إلى مقبرة بني ساعدة فأتى قبرا فقال له:

اخرج بإذن اللّه فخرج رجل ينفض رأسه من التراب و هو يقول: و الهفاه! و وا ثبوراه! ثمّ قال: ادخل فدخل ثمّ قصد إلى قبر آخر فقال: اخرج بإذن اللّه فخرج شابّ ينفض رأسه من التراب و هو يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله و أشهد أنّ الساعة آتية لا ريب فيها و أنّ اللّه يبعث من في القبور، ثمّ قال جبرئيل: هكذا يبعثون يوم القيامة.

القميّ عن الصادق عليه السّلام قال: إذا أراد اللّه أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم.

قوله: [وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ] سبق تفسيره و الحاصل أنّ بعض الناس مثل النضر بن الحارث و أتباعه لا يراجع فيما يقوله إلى علم و لا إلى دليل و أصل ثابت و كتاب واضح مضي ء له نور يبيّن له الهدى من الضلال و لا يتّبع أدلّة العقل و لا السمع و إنّما يتّبع الهوى و التقليد.

[ثانِيَ] أي متكبّرا في نفسه تقول العرب: ثنى فلان عطفه إذا تكبّر و تجبّر و عطفا الرجل جانباه أي عن يمين أو شمال و هو الموضع الّذي يلويه الإنسان عند الإعراض عن الشي ء مثل ليّ العنق و تسعّر الخدّ للتكبّر و أمثاله.

[لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] أي ليضلّ الناس عن الحقّ. و من قرأ «ليضلّ» بفتح الياء أي ليضلّ هو عن طريق الحقّ المؤدّي إلى توحيد اللّه أي جدله من غير العلم و الدليل صار سببا لضلالته عن توحيد اللّه.

[لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ] و هو ان و ذلّ و فضيحة بما يجري عليهم كما جرى على أبي جهل و نضر و أمثاله يوم البدر من القتل و الذمّ [وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ] النّار الّتي تحرقهم.

ص: 215

[ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ] فيقال له: ذلك العذاب المؤجّل بما كسبت يداك [وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] في تعذيبه لأنّ اللّه لا يظلم و لا يعاقب من غير معصية و لا يزيد في العقوبة.

و في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان قول الجبريّة الّذين ينسبون كلّ ظلم في العالم إلى اللّه ثمّ يعتذرون بقول هو أوهن من نسج العنكبوت، و هو أنّه لأجل أنّ اللّه يفعله ليس بظلم. و لو تأمّلت في هذا القول لعرفت الشعوذة.

قالت المعتزلة: الآية تدلّ على أنّه إنّما وقع العذاب بسبب كسب يده و فعله فلو كان فعله خلقا للّه تعالى لكان حين ما خلقه اللّه سبحانه استحال منه أن ينفكّ عنه و حين ما لم يخلق اللّه استحال أن يتّصف العبد به فلا يكون ذلك العقاب بسبب العبد فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم و ذلك خلاف نصّ الآية.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 11 الى 13]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

و قرئ «خاسر الدنيا» على الحاليّة و قرئ «من ضره» بدون اللام.

النزول: نزلت في جماعة كانوا يقدمون على رسول اللّه المدينة فكان أحدهم إذا صحّ جسمه و ولدت امرأته غلاما و نتجت فرسه و كثرت ماشيته و ماله رضي به و اطمأنّ إليه و إن أصابه وجع المدينة أو ولدت امرأته جارية قال: ما أصبت في هذا الدين إلّا شرّا، عن ابن عبّاس.

و بالجملة بيّن سبحانه في هذه الآية حال مقلّدة الضلال و الدعاة إلى الضلال فقال:

[وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى] ضعف في العبوديّة كضعف القائم على [حَرْفٍ] الجبل أو على طرف الجيش إن كان على ظفر قرّ و إلّا فرّ و ذلك من اضطرابه في طريق العلم إذ لم يسع في طريق العلم و الدلائل المؤدّية إلى الحقّ فينقاد لأدنى شبهة لا يمكنه حلّها

ص: 216

و قيل: معنى «على حرف» أي على شكّ أو يعبد بلسانه دون قلبه قال: الدين حرفان: اللسان و الثاني القلب.

[فَإِنْ أَصابَهُ] رخاء و خصب و عافية اطمأنّ على عبادة اللّه بذلك الخير [وَ إِنْ أَصابَتْهُ] اختبار بجدب و قلّة مال و شدّة [انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ] و رجع عن دينه إلى الكفر و انصرف على وجهه الّذي توجّه منه و هو الكفر [خَسِرَ الدُّنْيا] بفراقه عن الدين [وَ الْآخِرَةَ] بنفاقه و حرمانه عن السعادات [ذلِكَ] من موجبات الخسران الظاهر لفساد العاجلة و الآجلة و قيل: المراد من خسران الدنيا الحرمان من الغنيمة و العزّ و في الآخرة الثواب و الجنّة.

[يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ] أي يدعو سوى اللّه و يعبد [ما لا يَنْفَعُهُ] و إن ترك عبادته له لا يضرّه [ذلِكَ] الّذي فعل [هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ] و استعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه و طالت و بعدت مسافة ضلاله مثلا كالقارظين العنزيّين.

[يَدْعُوا] الّذي هو في الضلال البعيد و المراد رؤساؤهم هذا إذا كان الضمير في «يدعو» إلى الرئيس المضلّ و أمّا إذا رجع الضمير إلى العابد المقلّد التابع أي يعبد من الأحجار و غيرها لو فرضنا بزعمهم النفع لهم في دنياهم بمتابعة بعضهم بعضا فضرّه في الآخرة بسبب العذاب أقرب و كائن لا محالة لأنّ الكائن قريب.

[لَبِئْسَ] الناصر [وَ لَبِئْسَ] المصاحب و الصاحب و المخالط، و المراد به الأوثان.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 14 الى 15]

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)

لمّا ذكر حال المنكر و الشاكّ في الدين بالخسران ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان فقال:

[إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا] باللّه و صدّقوا رسله [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ] بأوليائه و أهل طاعته من الكرامة و بأهل

ص: 217

معصيته و أعدائه من الإهانة لا يمنعه مانع.

ثمّ قال سبحانه: [مَنْ كانَ] يحسب [أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ] و الضمير في «ينصره» راجع إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يريد أنّ من يظنّ أن لن ينصر اللّه محمّدا في الدنيا بإعلاء كلمته و إظهار دينه و في الآخرة بإعلاء درجته و الانتقام ممّن كذّبه و الرسول و إن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدلّ عليه و هو ذكر الإيمان لأنّ الإيمان لا يتمّ و لا يحصل إلّا باللّه و رسوله، و هذا قول ابن عبّاس و الكلبيّ و جماعة كثيرة من المفسّرين.

و قيل: إنّ الضمير في «ينصره» راجع إلى «من» فالمعنى: من كان يظنّ من الناس أنّ اللّه لا ينصره فليجهد جهده و ليصعد السماء ثمّ ليقطع المسافة فلينظر هل ينفعه كيده في إزالة غيظه فإنّ الّذي حكم اللّه به لا يبطل بكيد الكائد. و هذا المعنى مثل معنى قوله:

«فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ» (1).

و حاصل المعنى إذا رجعت الضمير إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه فليطلب حبلا يصل به إلى السماء و يقطع نصر اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لينظر هل يتهيّأ له هذا الأمر؟ فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة.

و قيل: المراد بالنصر الرزق؛ أرض منصورة أي ممطورة أي من ظنّ أنّ اللّه لا يرزقه في الدنيا و الآخرة فليختنق نفسه فلينظر بهذا الكيد هل يذهب غيظه؟

و في الصافي قال: معناه: أنّ اللّه ناصر رسوله في الدنيا و الآخرة فمن كان يظنّ خلاف ذلك و يتوقّعه من غيظه فليتقصّ في إزالة غيظه بأن يفعل كلّ ما يفعله الممتلئ غيظا حتّى يمدّ حبلا إلى سماء بيته فيختنق، و قطع أي خنق فإنّ المختنق يقطع نفسه.

أو إلى السماء الدنيا ليقطع به المسافة و يجتهد في دفع نصره.

و القميّ: الظنّ هاهنا بمعنى الشكّ أي من شكّ أنّ اللّه يصيبه و ينصره في الدنيا و الآخرة فليمدد دليلا إلى السماء أي يجعل بينه و بين اللّه دليلا حتّى يميّز الحقّ من الباطل و جاء السبب بمعنى الدليل قوله تعالى: «وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً

ص: 218


1- الانعام: 53.

فَأَتْبَعَ سَبَباً» (1) أي دليلا و معنى «فليقطع» أي يميّز قوله: «وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً» (2) أي ميّزناهم و الكيد بمعنى الحيلة كقوله تعالى: «كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ» (3) أي احتلنا له حتّى حبس أخاه و كذلك قول فرعون: «فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ» (4) أي حيلتكم و حاصل المعنى: إذا وضع لنفسه دليلا و ميّز ثبت له الحقّ بأنّ اللّه ينصره.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 16 الى 18]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (17) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)

و مثل ما تقدّم من آيات القرآن [أنزلنا] القرآن [آياتٍ بَيِّناتٍ] و حججا واضحات على التوحيد و الشرائع و العدل و أنزلنا إليك هذا البيان [أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي] إلى الدين [من] يهتدي بهداه و يقبل هدايته فيريد سبحانه أو إلى الثواب أو إلى النبوّة و حاصل المعنى:

أنّ الآيات بيّنات و دلائل للمعرفة بالتوحيد و التكليف لمن يهتدي و يقبل الحجج.

قوله: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] اعلم أنّه تعالى لمّا قال: «وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ» شرح في هذه الآيتين من يهديه و من لا يهديه و من المعلوم أنّ الاختلاف الواقعة في اصول الأديان محصورة في هذه الأقسام الثلاثة الّتي سنذكر من طبقات ثلاثة:

فقسم مشارك في نبوّة النبيّ مع المسلمين إلّا أنّهم مختلفين في بعض المسائل كمثبتي الرؤية و منكريها و الجبريّة و العدليّة و أمثالها.

و ثانيها الّذين يخالفون في النبوّة و لكن يشاركون في الاعتراف بالفاعل المختار كالاختلاف بين المسلمين و اليهود و النصارى في نبوّة محمّد و موسى و عيسى عليهم السّلام.

ص: 219


1- الكهف: 84.
2- الأعراف: 159.
3- يوسف: 77.
4- طه: 64.

و ثالثها: الّذين يخالفون في الإله مع المسلمين، و هؤلاء هم السوفسطائيّة المتوقّفون في الحقائق و الدهريّة الّذين لا يعترفون بوجود مؤثّر في العالم و الفلاسفة الّذين يثبتون موجبا مؤثّرا لا مختارا فصارت هذه ثلاث طبقات.

و لا شكّ أنّ القسم الثالث أعظم جهات الخلاف من القسمين الأوّلين و هذا القسم الثالث بأقسامه الثلاثة ليسوا في العالم متظاهرين بعقائدهم و مذاهبهم بل مستترين كانوا إلى زمان قبيل زماننا و ليس للإنسان أن يضيع القلم و القرطاس بذكر هؤلاء الأرجاس.

و أمّا القسم الثاني و هو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السّلام فتقسيمه أن يقال:

القائلون بالفاعل المختار إمّا أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء أو لا يكونوا معترفين بذلك، أمّا المعترفون بذلك فإمّا أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيّا في الحقيقة أو لمن كان متنبّئا أمّا أتباع الأنبياء عليهم السّلام فهم المسلمون و اليهود و النصارى و فرقة اخرى بين اليهود و النصارى و هم الصابئون و أمّا أتباع المتنبّئ فهم المجوس، و أمّا المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام و الأوثان و هم المسمّون بالمشركين و يدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم فالأديان الحاصلة بسبب الاختلافات هي هذه الستّة الّتي ذكرها اللّه في الآية و هذه الستّة تتشعّب شعبا كثيرة واحدة للّه و هو الإسلام و الباقي للشيطان.

و بالجملة [إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] و يبيّن المحقّ من المبطل فيبيّض وجه المحقّ و يسوّد وجه المبطل و الفصل يمكن أن يقع بأمور متعدّدة في الأحوال و الأماكن و العلائم غير البياض و السواد [إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] عليم مطّلع على ما من شأنه أن يشاهد بعلمه قبل أن يكون لأنّه علّام الغيوب.

ثمّ خاطب النبيّ و المكلّفين فقال: [أَ لَمْ] تعلم [أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ] من العقلاء.

فلو قيل: إنّ جميع من في الأرض لا يسجدون للّه.

فالجواب من وجهين: الأوّل: لو لا قوله: [وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ]- خبره «مثاب» محذوف بقرينة حقّ عليه العذاب- لكان الإيراد واردا لكنّه بقوله: و كثير يبيّن أنّ البعض يسجدون و البعض لا يسجدون. هذا إذا كان المراد بالسجود هذا الفعل

ص: 220

المخصوص و أمّا إذا كان المراد من معنى السجود الانقياد و الذلّة لخالقها فالكلّ من الموجودات مشترك و داخل في السجود و ليس شي ء إلّا يسبّح بحمده و بيانه أنّ كلّ ما سوى اللّه تعالى مفتقر ممكن لذاته و الممكن لذاته لا يترجّح وجوده على عدمه إلّا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال سبحانه: «وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» (1) و كما أنّ الإمكان لازم للممكن حال حدوثه و حال بقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه و حال بقائه و هذا الافتقار الذاتيّ اللازم للماهيّة أدلّ على الذلّة و الخضوع من وضع الجبهة على الأرض و إنّ وضع الجبهة على الأرض علامة وضعيّة للدلالة على الذلّة و الانقياد و الافتقار الذاتيّ و قد يتطرّق إليه الكذب أمّا نفس الافتقار الذاتيّ فممتنع التغيّر فجميع الممكنات ساجدة و خاضعة متذلّلة للّه بهذا المعنى أو المراد سجود ظلّها كقوله: «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ» (2).

قوله: [وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ] و انقطع ذكر الساجدين ثمّ ابتدأ فقال: و كثير حقّ عليه العذاب أي ممّن أبى السجود و لا يوحّده.

[وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ] أي من يهينه اللّه و يشقيه و يدخله جهنّم فماله من مكرم بالسعادة و لا يملك العقوبة و المثوبة سواه [إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ] من الإنعام و الانتقام بالفريقين من المؤمن و الكافر.

و في التوحيد عن الصادق عليه السّلام عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قيل له: إنّ رجلا يتكلّم في المشيّة فقال: ادعه لي قال: فدعي له فقال له: يا عبد اللّه خلقك اللّه لما شاء أو لما شئت؟ قال: لما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: إذا شاء قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: إذا شاء قال: فيدخلك حيث يشاء أو حيث تشاء؟ قال: حيث يشاء قال:

فقال عليّ عليه السّلام: لو قلت غير هذا لضربت الّذي فيه عيناك.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 19 الى 24]

هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ (20) وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)

وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)

ص: 221


1- النجم: 44.
2- النحل: 48.

النزول: نزلت في ستّة نفر من المؤمنين و الكفّار تبارزوا يوم بدر: حمزة بن عبد المطّلب قتل عتبة بن ربيعة، و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قتل الوليد بن عتبة، و عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب قتل شيبة بن ربيعة، عن أبي ذرّ الغفاريّ و عطاء، و كان أبو ذرّ يقسم باللّه أنّها لنزلت فيهم، و رواه البخاريّ في الصحيح أيضا. و قيل: نزلت في أهل القرآن و أهل الكتاب. و قيل: في المؤمنين و الكافرين.

المعنى: لمّا تقدّم ذكر المؤمنين و الكافرين شرح في هذه ما أعدّ اللّه لهما فقال:

[هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا] الخصم يستوي فيه الواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث يقال رجل خصم و رجلان خصم و رجال خصم؛ فيجوز في الكلام أن يقال: هذان خصمان اختصموا و هؤلاء خصم اختصموا قال: «وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ» (1) و هكذا حكم المصادر لو أخبر بها نحو عدل و صوم و فطر و إنّما قال في الآية: «خَصْمانِ» تثنية الجمعين و ليس المراد برجلين مثل قوله: «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (2).

و بالجملة هذان خصمان أي جمعان، فالفرق الخمسة الكافرة خصم و المؤمنون خصم و قد ذكرهم اللّه في الآية السابقة بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» (3) اختصموا [فِي] دين [رَبِّهِمْ] فقالت اليهود و النصارى للمسلمين: نحن أولى باللّه منكم لأنّ نبيّنا قبل نبيّكم و ديننا قبل دينكم و قال المسلمون: بل نحن أحقّ باللّه منكم آمنّا بكتابنا و بكتابكم و نبيّنا و نبيّكم و كفرتم أنتم بنبيّنا حسدا فهذا خصومتهم و قيل: خصومتهم يوم بدر فبيّن اللّه ما أعدّ

ص: 222


1- ص: 21.
2- الحجرات: 10.
3- الحج: 17.

للخصمين و قوله «هذان» أتى بالتثنية باعتبار اللفظ و «اختصموا» باعتبار المعنى.

قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: أنا أوّل من يجثو للخصومة بين يدي اللّه القميّ قال: نحن و بنو اميّة؛ نحن قلنا: صدق اللّه و رسوله و قالت بنو اميّة: كذب اللّه و رسوله و في الخصال مثله و زاد: فنحن الخصمان يوم القيامة.

[فَالَّذِينَ كَفَرُوا] فصّلت [و قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ] على قدر جثثهم الخبيثة ثياب [مِنْ نارٍ] و لعلّ المراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» (1) و لكن هذا المعنى خلاف الظاهر و الأولى قول سعيد بن جبير: ثياب من نحاس اذيب بالنار يلبسونها نحو قوله تعالى: «سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ» (2) و أخرج الكلام بلفظ الماضي كقوله: «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ»* لأنّ ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع.

و [يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ] الماء المغليّ الحارّ [يُصْهَرُ بِهِ] و يذاب بسبب ذلك الماء [ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ] فيذاب أحشاؤهم كما يذاب به جلودهم قال ابن عبّاس: لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها و هو مثل قوله تعالى: «وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» (3) بل أبلغ.

قوله: [وَ لَهُمْ مَقامِعُ] المقامع السياط و ما يضرب به في الحديث: لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما نقلوها و ما أقلعوها من الأرض.

[كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها] من الغمّ و الكرب الّذي يأخذ بأنفاسهم أعيدوا فيها أي كلّما حاولوا الخروج من النار [أُعِيدُوا فِيها] قهرا و ذلك أنّ النار ترميهم بلهبها حتّى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع و أعمدة من حديد فهووا فيها سبعين خريفا فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفير لهبها فلا يستقرّون ساعة.

[و يقال لهم ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ] و الذوق طلب إدراك الطعم و الحريق الغليظ من النار العظيم الإهلاك.

ص: 223


1- الأعراف: 40.
2- ابراهيم: 50.
3- محمد: 15.

و هذا الترتيب لأحد الخصمين و للخصم الآخر الّذين هم المؤمنون فقال: [إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا] باللّه و أقرّوا وحدانيّته [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] فذكر سبحانه حكمه في المؤمنين بأربعة أوجه:

المسكن بقوله «جنّات».

و الثاني الحلية و الزينة أي يلبسون افتخارا الحليّ و الحلل يحلّون في الآخره و الجنّة من أساور و هي حليّ اليد من ذهب و لؤلؤ.

و الثالث [لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ] أي ديباج حرّم سبحانه في الدنيا على الرجال لبس الحرير و شوّقهم في الآخرة بعوضها فبيّن أنّ ما حرمتم في الدنيا تستدركون في الآخرة و لو قلت: إن النساء شاركنهم في الآخرة مع أنّها ليست بمحرّمة عليهنّ في الدنيا و ذلك المحلّل لهنّ في الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ليس بشي ء و هو يسير.

و الرابع [وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ] و فيه وجوه ارشدوا و خوطبوا في الجنّة بالتحيّات الحسنة يحيّي بعضهم بعضا و يحيّيهم اللّه و ملائكته. و قيل: ارشدوا إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه و الحمد للّه و اللّه أكبر. و قيل: إلى القرآن. و قيل: إلى القول الّذي يلتذّونه و يشتهونه و يطيب به نفوسهم و يمكن أن يؤوّل بوجه آخر و هو أنّ العلاقة البدنيّة جارية مجرى الحجاب للأرواح البشريّة في الاتّصال بعالم القدس فإذا فارقت أبدانها انكشف الغطاء و لاحت الأنوار الإلهيّة فظهور تلك الأنوار الهداية [إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ].

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 25 الى 30]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

ص: 224

النزول: قال ابن عبّاس: نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب و أصحابه حين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عام الحديبية عن المسجد الحرام عن أن يحجّوا و يعتمروا و ينحروا الهدي فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قتالهم و كان محرما بعمرة ثمّ صالحوه على أن يعود في العام القابل.

و بالجملة [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ] الناس [عَنْ] طاعته و عطف المضارع لعلّ المراد بالمضارع الماضي و يؤيّده قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (1) و يمكن أن يكون المراد كفروا فيما مضى و هم الآن يصدّون و يمنعونهم عن عبادة اللّه [وَ] عن [الْمَسْجِدِ الْحَرامِ] الّذي جعلناه للنّاس مستقرّا و منسكا و متعبّدا. أو المعنى أنّه جعلناه للنّاس وقفا لم يخصّ به بعض دون بعض.

ثمّ قال: [سَواءً] أي جعلنا المقيم و الغريب فيه سواء. و كلمة «سواء» مفعول ثان لجعلناه. و قيل: معنى العاكف الغريب إذا جاوره و لزمه للتعبّد و إن لم يكن من أهله.

و اختلفوا في معنى التسوية قال ابن عبّاس: يستويان في سكنى مكّة و النزول بها فليس أحدهما أحقّ بالمنزل من الآخر إلّا أن يكون واحد أسبق في النزول من الآخر و على هذا كراء دور (2) مكّة و بيعها حرام فسبيلها سبيل المساجد للامّة و الخبر قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مكّة مباح لمن سبق إليها.

و القول الثاني أنّ المراد من التسوية أن جعل اللّه الناس في العبادة في المسجد سواء ليس للمقيم أن يمنع البادي و بالعكس. و المراد من المسجد الحرام قيل: عين المسجد الّذى يصلّى فيه. و قيل: المراد الحرم كلّه لقوله: «أَسْرى بِعَبْدِهِ (لَيْلًا) مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» (3)

ص: 225


1- محمد: 1.
2- جمع الدار.
3- بنى إسرائيل: 1.

و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان في نفس المسجد بل عرج من بيت أمّ هاني.

و الحاصل: جعلناه للنّاس قبلة لصلاتهم و منسكا لحجّهم فالعاكف و الباد سواء في حكم النسك؛ و ذلك لأنّ المشركين كانوا يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام و الطواف به و يدّعون أنّهم أربابه و ولاته؛ في الحديث: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا بني عبد مناف من ولّى منكم من امور الناس شيئا فلا يمنعنّ عن أحد أطاف بهذا البيت أو صلّى أيّة ساعة من ليل أو نهار.

أمّا قوله: [وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ] بفتح الياء أيضا قرئ من الورود، و معناه:

و من يرد أن يميل فيه عن الحقّ إلى الباطل ظالما. قيل: هو الشرك و عبادة غير اللّه فيه.

و قيل: كلّ شي ء نهي عنه حتّى شتم الخادم و لو دخول مكّة من غير إحرام لأنّ الذنوب هناك أعظم.

قال ابن عبّاس: نزلت في عبد اللّه بن سعد حيث استسلمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فارتدّ مشركا أو في عبد اللّه بن قطل حين قتل الأنصاريّ و هرب إلى مكّة كافرا فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقتله يوم الفتح كافرا. و قيل: المراد قتل ما نهى اللّه عنه من الصيد و ارتكاب ما لا يحلّ للمحرم. و قيل: إنّه الاحتكار. و قيل: المنع عن عمارته. و قيل: قول الرجل في المبايعة لا و اللّه و بلى و اللّه. و قول المحقّقين: أنّ الإلحاد بظلم عامّ في كلّ المعاصي.

قال ابن مسعود: لو أنّ رجلا بعدن همّ بأن يعمل سيّئة عند البيت أذاقه اللّه عذابا أليما.

و في نهج البلاغة في كتاب كتبه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى قثم بن العبّاس بن عبد المطّلب و هو عامله على مكّة و أمر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا فإنّ اللّه سبحانه يقول: «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ» و العاكف المقيم به و البادي الّذي يحجّ إليه من غير أهله.

و في الكافي عن الصادق صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ معاوية أوّل من علّق على بابه مصراعين بمكّة فمنع حاجّ بيت اللّه مع ما قال اللّه عزّ و جلّ: «سَواءً الْعاكِفُ (فِيهِ) وَ الْبادِ» كان الناس إذا قدموا مكّة نزل البادي على الحاضر حتّى يقضي حجّه و كان معاوية صاحب السلسلة الّتي قال اللّه سبحانه:

ص: 226

«فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً» (1) و كان فرعون هذه الامّة.

و في التهذيب عنه عليه السّلام: كانت دور مكّة ليس على شي ء منها باب و كان أوّل من علّق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان و ليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاجّ شيئا من دور مكّة و منازلها.

و في العلل عنه عليه السّلام في هذه الآية قال: لم يكن ينبغي أن يوضع على دور مكّة أبواب لأنّ للحاجّ أن ينزلوا معهم في دورهم في ساحة الدار حتّى يقضوا مناسكهم، و إنّ أوّل من جعل لدور مكّة أبوابا معاوية و قد استحقّ ما أعدّ اللّه له من عذاب الحريق.

القميّ في تفسير العذاب الحريق عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: قلت له:

يا ابن رسول اللّه خوّفني فإنّ قلبي قسا فقال: يا با محمّد استعدّ للحياة الطويلة فإنّ جبرئيل جاء إلى رسول اللّه و هو قاطب و قد كان قبل ذا يجي ء متبسّما فقال رسول اللّه:

يا جبرئيل جئتني اليوم قاطبا؟ فقال: يا محمّد قد وضعت منافخ النار، فقال: و ما منافخ النار يا جبرئيل؟ فقال: يا محمّد إنّ اللّه عزّ و جلّ أمر بالنار فنفخ عليها ألف عامّ حتّى ابيضّت ثمّ نفخ عليها ألف عام حتّى احمرّت ثمّ نفخ عليها ألف عام حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة لو أنّ قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها و لو أنّ حلقة واحدة من السلسلة الّتي طولها سبعون ذراعا وضعت على جبال الدنيا لذابت من حرّها و لو أنّ سربالا من سرابيل أهل النار علّق بين السماء و الأرض لمات أهل الأرض من ريحه و وهجه قال: فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بكى جبرئيل فبعث اللّه إليهما ملكا فقال لهما: ربّكما يقرؤكما السلام و يقول: قد أمنتكما أن تذنبا ذنبا أعذّبكما عليه فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فما رئي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضاحكا بعد ذلك فقال: أبو عبد اللّه عليه السّلام حسبك يا با محمّد؟ قلت: حسبي حسبي.

و بالجملة قال الصادق عليه السّلام: كلّ ظلم إلحاد و سئل عن أدنى الإلحاد فقال:

إنّ الكبر أدناه حتّى أنّ في العلل عنه عليه السّلام: أنّه قيل له: إنّ سبعا من سباع الطير على الكعبة ليس بمرّ به شي ء من حمام الحرم إلّا ضربه فقال: انصبوا له و اقتلوه فإنّه قد

ص: 227


1- الحاقة: 32.

ألحد في الحرم.

و في الكافي عنه عليه السّلام في هذه الآية قال: نزلت فيهم حيث دخلوا الكعبة فتعاهدوا و تعاقدوا على كفرهم و جحودهم بما نزل في أمير المؤمنين عليه السّلام فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول و وليّه فبعدا للقوم الظالمين.

و القميّ قال: نزلت فيمن يلحد في أمير المؤمنين عليه السّلام و يظلمه.

قوله تعالى: [وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ] أي و اذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة و مرجعا يرجع إليه للعمارة و العبادة. و كان قد رفع البيت إلى السماء أيّام الطوفان و كان من ياقوتة حمراء فأعلم اللّه سبحانه إبراهيم مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله فبناه على وضعه الأوّل، و قيل: امر إبراهيم بأن يأتي موضع البيت و يبني فخفي عليه مكان البيت فبعث اللّه على قدر البيت الحرام في العرض و الطول غمامة و فيها رأس يتكلّم و له لسان و عينان فقال: يا إبراهيم ابن على قدري و حيالي فأخذ في البناء و ذهبت السحابة.

قوله: [أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً] و حاصل معنى التبوئة لإبراهيم و جعله مسكنا له لأن يكون بقلبه موحّدا لربّ البيت عن الشريك و يكون مكلّفا بتطهير البيت و تنظيفه عن الأوثان و الشرك و عبادة الأصنام و معنى «لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ» و الحالة أنّ إبراهيم لم يشرك باللّه أنّه لا تشرك بي غرضا آخرا في بناء البيت و كذلك لا تشرك في العبادة غيري.

فلو قيل: إنّ البيت ما كان معمورا في زمن إبراهيم فكيف قال: [وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ]؟

يمكن أن يكون ذلك المكان كان صحراء و كانوا يرمون إليها الأقذار فأمر بتطهيره أو كانوا قد وضعوا فيها أصناما لمّا قد سمعوا أنّ قبلهم كانوا جماعة يعبدون الأصنام فأمر بتخريب ذلك البناء و وضع بناء جديد و ذلك هو التطهير عن الأوثان، أو المراد أنّك بعد أن تبنيه فطهّره عمّا لا ينبغي من الشرك و قول الزور.

و أمّا قوله: [لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ] أي للطائفين بالبيت من غير أهل مكّة و القائمين أي المقيمين بها و الركّع [السُّجُودِ] أي من المصلّين و الجامعين بين الركوع و السجود.

ص: 228

قوله [وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ] أي و ناد يا إبراهيم في الناس و أعلمهم بوجوب الحجّ.

و اختلف في المخاطب به على قولين:

أحدهما أنّه إبراهيم عليه السّلام عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس و اختاره أبو مسلم قال ابن عبّاس: قام إبراهيم عليه السّلام في المقام فنادى: يا أيّها الناس إنّ اللّه دعاكم إلى الحجّ فأجابوا بلبّيك اللهمّ لبّيك.

و الثاني أنّ المخاطب به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأذّن في حجّة الوداع أي أعلمهم بوجوب الحجّ.

و لكن جمهور المفسّرين على القول الأوّل و قالوا: قد أسمع اللّه تعالى قول إبراهيم كلّ من سبق علمه بأنّه يحجّ إلى يوم القيامة كما أسمع سليمان مع ارتفاع منزلته و كثرة جنوده حوله صوت النملة مع خفضه و سكونه. و في رواية عطا عن ابن عبّاس قال: لمّا أمر اللّه سبحانه إبراهيم أن ينادي في الناس بالحجّ صعد أبا قبيس و وضع إصبعيه في أذنيه و قال: أيّها الناس أجيبوا ربّكم فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال و أوّل من أجابه أهل اليمن.

[يَأْتُوكَ رِجالًا] أي مشاة على أرجلهم [وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ] أي ركبانا يريد الإبل و لا يدخل بعير و لا غيره الحرم إلّا و قد هزل. و روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال لبنيه: يا بنيّ حجّوا إليها مشاة فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: للحاجّ الراكب بكلّ خطوة يخطوها راحلته سبعون حسنة و للحاجّ الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل: و ما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف.

[يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] الضمير راجع إلى جماعة الإبل الضامرة و قرئ «يأتون» صفة للرجال. و قرئ «الرجال» كنيام جمع نائم و قرئ «رجالا» بضمّ الراء محفّف الجيم و مثقّله، و «رجّال» مشدّدة كعجّال. و بدأ اللّه بذكر المشاة تشريفا لهم. و إنّما قال في الآية «يَأْتُوكَ» لأنّ إبراهيم عليه السّلام هو الّذي نادى الناس فكأنّه هو المأتيّ من كلّ طريق بعيد.

و روي مرفوعا عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ اللّه تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة يقول: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا أقبلوا يضربون (1)ر.

ص: 229


1- من الضرب في الأرض بمعنى السفر.

إليّ من كلّ فجّ عميق فاشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم و شفعت رغبتهم و وهبت مسيئهم لمحسنهم و أعطيت محسنهم جميع ما سألوني غير التبعات الّتي بينهم فإذا أفاض القوم إلى جمع و وقفوا و عادوا في الرغبة و الطلب إلى اللّه يقول: يا ملائكتي عبادي و قفوا و عادوا في الرغبة و الطلب فاشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم و شفعت رغبتهم و وهبت مسيئهم لمحسنهم و أعطيت محسنهم جميع ما سألني و كفّلت عنهم بالتبعات الّتي بينهم.

و في الكافي و التهذيب عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ ثمّ أنزل اللّه: «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» الآية، فأمر المؤذّنين أن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم: إنّ رسول اللّه يحجّ في عامه هذا فعلم به من حضر بالمدينة و أهل العوالي و الأعراب و اجتمعوا بحجّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون به فيتّبعونه أو يضع شيئا فيضعونه الحديث.

أمّا قوله: [لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ] قيل: المراد المنافع للتجارات في الدنيا و الثواب في الآخرة. و قيل: المراد منافع الآخرة و هي العفو و المغفرة و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام أي ليحضروا ما ندبهم اللّه إليه من النفع و إنّما نكّر المنافع لأنّه أراد منافع راجعة مختصّة بهذه العبادة دينيّة و دنيويّة لا توجد في غيرها.

[وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ] و اختلف في هذه الأيّام و في الذكر فيها فقيل: أيّام العشر و إنّما قيل لها «معلومات» للحرص على علمها من أجل أنّ وقت الحجّ في آخرها و منافع عملها معروفة كيوم عرفة و المشعر الحرام و كذلك يوم النحر فالمعلومات عشر ذي الحجّة و المعدودات أيّام التشريق. و قيل: بالعكس.

و المراد بالذكر قيل: التسمية على ما ينحر لأنّ المسلم إذا ذبح و نحر يذكر اسم اللّه لأنّ الغرض الأصليّ فيما يتقرّب به أن يذكر اسم اللّه و أن يخالف المشركين حيث إنّهم يذكرون اسم آلهتهم وقت الذبح و النحر و إنّ المسلم إذا ذبح يتصوّر بإراقة دمها بصورة من يفدي نفسه فكأنّه يبذل تلك الذبيحة عوض مهجته طلبا لمرضاة اللّه. و قيل:

إنّ الذكر كناية عن الذبح و لمّا كان صحّة الذبح بالتسمية سمّي ما سمّي الذبح بالذكر توسّعا. و قيل: هو التكبير؛ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: التكبير بمنى عقيب خمس عشر صلوات

ص: 230

أوّلها لصلاة الظهر من يوم النحر يقول: اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر للّه الحمد اللّه أكبر على ما هدانا و الحمد للّه على ما أبلانا و اللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام أصلها من الإبهام و ذلك أنّها لا تفصح كما يفصح الحيوان الناطق و الأنعام الإبل و اشتقاقها من النعومة و هي اللين سمّيت بذلك للين أخفافها و قد يجتمع معها الغنم و البقر فيسمّى الجميع أنعاما اتّساعا و ان انفردا لم يسمّيا أنعاما.

[فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ] أي فكلوا من بهيمة الأنعام الّتي تذبحونها و هذا إباحة و ندب و ليس بواجب و قيل: بوجوب الأكل لأنّ أهل الجاهليّة ما كانوا يأكلونها ترفّعا على الفقراء و أطعموا منها الّذي ظهر عليه أثر البؤس من الجوع و العرى و قيل: البائس الّذي يمدّ يده بالسؤال و يتكفّف للطلب أمر سبحانه أن يعطي هؤلاء من الهدي ثمّ بعد الهدي [لْيَقْضُوا] ليزيلوا [تَفَثَهُمْ] و التفث كلّ كراهة تلحق الإنسان فحينئذ يدفعون عن أنفسهم كقصّ الشارب و تقليم الأظافير و إزالة شعر العانة و غسل و استعمال طيب و أمثالها. قال المبرّد: أو نطفوا به سألت أعرابيّا ما معنى التفث؟ قال:

ما افسّر القرآن لكنّا نقول للرجل: ما أتفثك أي ما أدرنك.

[وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] و قرئ بتشديد الفاء في «يوفوا» أي و ليتمّوا نذورهم الّتي نذروها من أعمال البرّ في أيّام الحجّ. و لم يقل: «بنذورهم» لأنّ المراد بالإيفاء الإتمام. قال ابن عبّاس: هو نحر ما نذروا من البدن أو المراد الإيفاء بما نذر الإنسان أن يتصدّق إن رزقه اللّه الحجّ. قال الطبرسيّ: و إن كان على الرجل نذور مطلقة الأولى و الأفضل أن يفي بها هناك.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام: و ليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبروا بولايتهم و يعرضون علينا نصرتهم و ليطّوّفوا بالبيت العتيق.

في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنه فقال: هو طواف النساء الّذي يستباح به وطء النساء و ذلك بعد طواف الزيارة فإنّه إذا طاف طواف الزيارة حلّ له كلّ شي ء إلّا النساء و سمّي عتيقا لأنّه أعتق من أن يملكه العبيد أو لأنّه أعتق من الطوفان و غرقت الأرض كلّها إلّا موضع البيت أو معنى العتيق القديم و هو أوّل بيت وضع

ص: 231

للنّاس بناه آدم و جدّده إبراهيم.

[ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ] أي أمر الحجّ و المناسك ذلك و التعظيم و حرمة ما لا يحلّ انتهاكه و تفخيم مناسكها خير عند اللّه في الآخرة و قيل: المراد بالحرمات هاهنا البيت الحرام و البلد الحرام و الشهر الحرام.

[وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ] ثمّ عاد إلى بيان حكم فقال:

و احلّت فقد كان يجوز أن يظنّ أنّ الإحرام إذا حرّم الصيد و غيره فالأنعام أيضا تحرم عليه فبيّن اللّه أنّ الإحرام لا يؤثّر فيها فهي محلّلة و استثني منها ما يتلى في كتاب اللّه من المحرّمات في سورة المائدة مثل ما لم يذكر اسم اللّه عليه و الموقوذة و المنخنقة و الميتة و أشباهها.

[فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ] أي اجتنبوا الرجس الّذي هو الأوثان و روى أصحابنا أنّ اللعب بالشطرنج و النرد و أنواع القمار من ذلك و قيل: إنّهم كانوا يلطّخون الأوثان بدماء قرابينهم فسمّي ذلك رجسا.

[وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ] يعني الكذب. و قيل: المراد هو تلبية المشركين: لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه و ما ملك. و روى أصحابنا أنّه يدخل فيه الغناء و سائر الأقوال الملهية. و روى أيمن بن خريم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قام خطيبا فقال:

أيّها النّاس عدلت شهادة الزور بالشرك باللّه ثمّ قرأ: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» يريد أنّه سبحانه قد جمع في النهي بين عبادة الوثن و شهادة الزور.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 31 الى 35]

حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

ص: 232

أي كونوا مستقيمي الطريقة على أمر اللّه و مائلين إلى دين اللّه و مخلصين إليه، و «حنفاء» منصوب على الحال، أي تمسّكوا بهذه الأمور الّتي أمرتم على وجه العبادة للّه وحده لا على وجه إشراك غير اللّه به [غَيْرَ مُشْرِكِينَ] باللّه.

[وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ] و سقط من السماء فتأخذه الطير بسرعة أي بعد الانخرار و السقوط تخطّف الطير لحمه [أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ] و تسقطه [فِي مَكانٍ سَحِيقٍ] مفرط في البعد كبعض المهاوي المهلكة المتلفة و أصل «تخطفه» تختطفه فشبّه سبحانه من أشرك حاله بحال من خرّ من السماء و اختطفته الطير فتفرّقت أجزاؤه في حواصلها أو بحال من عصفت به الريح حتّى هوت به و أسقطته في المهالك البعيدة فشبّه الإيمان في علوّ مقامه بالسماء و شبّه الشرك بالساقط و المهويّ المجتذبة للطيور السباع الغائبة في حواصلها و الشيطان الّذي يطرحه في ذلك الضلال بتلك الريح الّتي أهوته فهو هالك لا محالة.

[ذلِكَ] أي الأمر ذلك الّذي ذكرنا [وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ] أي الأعلام الّتي نصبها اللّه لطاعته. ثمّ اختلف في ذلك فقيل: هي مناسك الحجّ كلّها. و قيل: هي البدن و تعظيمها استسمانها و عن ابن عبّاس في رواية مقسم: و الشعائر جمع شعيرة و هي البدن إذا أشعرت و أعلمت عليها بأن يشقّ سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنّها هدي فالّذي يهدي مندوب إلي طلب الأثمن و الأغلى و يختارها عظام الأجسام سمانا غالية الأثمان و ترك المكاس في شرائها و قد كانوا يتغالون في ثلاثة و يكرهون المكاس في الثلاثة: الهدي و الاضحية و الرقبة.

[فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب، حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مكانه و أضاف التقوى إلى القلوب لأنّ حقيقة التقوى تقوى القلوب و صدق النيّة.

القميّ قال: المراد تعظيم البدن و جودتها. و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: إنّما يكون الجزاء مضاعفة في ما دون البدنة فإذا بلغ البدنة فلا تضاعف لأنّه أعظم ما يكون قال اللّه:

«وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» و عن الصادق عليه السّلام في قصّة حجّة الوداع:

و كان الهدي الّذي جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعة و ستّين أو ستّة و ستّين بدنة و جاء

ص: 233

عليّ عليه السّلام بأربعة و ثلاثين أو ستّة و ثلاثين. و روي عن طريق العامّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برّة من ذهب.

[لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى] اعلم أنّ قوله «لَكُمْ فِيها مَنافِعُ» لا يليق إلّا بأن تحمل الشعائر على الهدي الّذي فيه منافع من ركوبها و نسلها و أصوافها و أوبارها و ألبانها، إلى أجل مسمّى أي وقت النحر و من قال: إنّ الشعائر مناسك الحجّ و دين اللّه فالمراد من المنافع الأجر و الثواب و الأجل المسمّى القيامة.

[ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ] أي محلّ الهدي و النحر و وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله: «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» (1) يعني حيث يحلّ نحرها. و أمّا البيت العتيق قيل: محلّه الحرم كلّه و دليله «فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» (2) أي الحرم كلّه فالمنحر على هذا القول كلّ مكّة و لكنّها تنزّهت عن الدماء إلى منى و منى من مكّة. و قال أصحابنا: إن كان الهدي للحجّ فمحلّه منى و إن كان للعمرة المفردة فمحلّه مكّة قبالة الكعبة بالجزورة، و محلّها حيث يحلّ نحرها.

[وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً] و قرئ «منسكا» بكسر السين و بالفتح أمّا الفتح فمعناه نسكا و عبادة مصدر ميميّ و بالكسر بمعنى الموضع و المعنى: إنّا شرعنا لكلّ امّة من الأمم السالفة من عهد إبراهيم إلى من بعده ضربا من القربان، و جعل العلّة في ذلك أن يذكروا اسم اللّه عليها و العرب كانت تذبح للصنم فسمّي العتير و العتيرة كالذبيح و الذبيحة.

[فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ] و كيفيّة النظم على وجهين:

أحدهما أنّ الإله واحد و إنّما اختلفت الشرائع باختلاف الأزمنة و المصالح بحسب حال المكلّف.

الثاني: فإلهكم إله واحد فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم اللّه فله أسلموا و أخلصوا له الذكر خاصّة بحيث لا يشوبه اشتراك البتّة فكونوا منقادا له، و من كان

ص: 234


1- المائدة: 98.
2- البرائة: 29.

كذلك كان مخبتا فلذلك قال: «وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» و المخبت المتواضع المخلص الخاشع أي بشّر المطمئنّين إلى اللّه.

ثمّ وصفهم فقال: [الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ] أي إذا خوّفوا باللّه خافوا، و لذلك الرحل أثران: أحدهما الصبر على المكاره و هو المراد بقوله: [الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ] و على ما يكون من قبل اللّه كالأمراض و المحن و المصائب و أمّا ما يصيبهم من قبل الظلمة أو من قبل أنفسهم فالصبر غير واجب بل إن أمكنه الدفع عن نفسه لزمه الدفع [وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ] أي الخدمة بنفسه و ماله أمّا الخدمة بالنفس إقامة الصلاة و الخدمة بالمال و هو المراد من قوله: [وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ] و هذان القسمان من الخدمة.

الأثر الثاني في حصول الوجل.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 36 الى 40]

وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)

«البدن» جمع بدنة سمّيت بذلك لعظم بدنها و جثّتها و هي الإبل لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ألحق البقر بالإبل، و قال قوم: البدن الإبل و البقر الّتي يتقرّب بها إلى اللّه في الحجّ و العمرة لأنّه إنّما سمّي بذلك لعظم البدن فالأولى دخولها فيه، أمّا الشاة فلا تدخل و إن كانت تجوز في النسك لأنّها صغيرة الجسم فلا تسمّى بدنة و كلّ ضخم بدن.

قوله: [وَ الْبُدْنَ] أي جعلنا البدن [لَكُمْ] من أعلام دينه و علائم مناسك الحج أي سوقها إلى البيت و تقليدها عبادة اللّه و [فِيها خَيْرٌ] كثير لكم في الدنيا و الآخرة

ص: 235

من الثواب. و قيل: المراد خير الآخرة لأنّه الغرض المطلوب.

[فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَ] في حال نحرها و هو أن يقول: اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر اللّهمّ منك و لك، صوافّ أي قياما مقيّدة على سنّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل:

المعنى: يكن البدن قائمات قد صففن أيديهنّ و أرجلهنّ و قرئ صوافن من صفون الفرس و هو أن تقوم على ثلاث و تنصب الرابعة على طرف سنبكه لأنّ البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث. و قرئ «صوافي» أي خوالص لوجه اللّه و لا تشركوا باللّه في التسمية على نحرها أحدا كما كان يفعله المشركون و لا يبعد أن يكون الحكمة في إصفافها ظهور كثرتها للناظرين فتقوى النفوس و يكون التقرّب بنحرها عند ذلك مزيد الأجر و يوجب التشويق للنحر و ظهور كثرة التكبير و إعلاء اسم اللّه.

[فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها] و المراد من وجوب الجنوب سقوطها إلى الأرض عبّر بذلك عن تمام خروج الروح منها من وجب الحائط إذا سقط و وجبت الشمس إذا غربت [فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ] قيل: القانع السائل و المعترّ الّذي يتعرّض للسؤال و لا يسأل. و قيل: بالعكس. و الأمر في «كلوا» للإباحة و الإذن، و قيل: للوجوب لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يستنكفون من أكلها و لهذا قيل: الأكل واجب إذا تطوّع قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في معنى القانع و المعترّ قال: القانع الّذي يقنع بما أعطيته و لا يسخط و لا يكلح و لا يلوي شدقه غضبا و القانع المارّ بك تطعمه يعتري عليك و لا يسأل؛ قال زهير الشاعر المشهور:

على مكثريهم حقّ من يعتريهم و عند المقلّين السماحة و البذل

و روي عنهم عليه السّلام: أنّه ينبغي أن يطعم ثلثه و يعطي القانع و المعترّ ثلثه و يهدي لأصدقائه ثلثه.

[كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ] يعني مثل ما وصفنا ذلّلنا هالكم حتّى لا تمتنع عمّا تريدون منها من النحر و الذبح بخلاف السباع الممتنعة، و لتنتفعوا بركوبها و نتاجها نعمة منّا عليكم [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ذلك قالت المعتزلة: هذا يدلّ على أنّ اللّه سبحانه أراد من الجميع أن يشكروا فدلّ هذا على أنّه يريد كلّ ما أمر به من من عصى و أطاع

ص: 236

لا كما يقوله أهل السنّة من أنّه تعالى لم يرد ذلك إلّا من المعلوم أنّه يطيع.

قوله: [لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ] لمّا كانت عادة الجاهليّة في القربان أنّهم يلوّثون بدمائها و لحومها الوثن و حيطان الكعبة بيّن في الآية أنّ القصد من النحر حصول التقوى بسبب هذا الأمر منكم و ليس المراد حصول الدم و اللحم نحو قوله «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» (1) و هو سبحانه غنيّ عن أن ينتفع بالأجسام الّتي هي اللحوم و الدماء، و هذا كناية عن القبول و كلّها يقبله الإنسان فيناله و يصل إليه.

[كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ] تقدّم ذكره [لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ] و هو أن يقول: اللّه أكبر على ما هدانا، في مقابلة هدايته لمعالم ديننا و مناسك حجّنا [وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ] الموحّدين و الّذين يعملون الأعمال الحسنة و يحسنون إلى غيرهم.

قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا] بشّر اللّه سبحانه المؤمنين بالنصرة و الغلبة على المشركين و دفع غائلتهم بأن يمنعهم عن أذى المؤمنين و ينصرهم عليهم.

ثمّ شرح حال المشركين بأنّهم خونة و كفرة لأنّهم خانوا اللّه و جعلوا له شريكا و كفروا نعمته و ذكروا غير اسم اللّه و تقرّبوا إلى الأصنام بالذبائح فقال: [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ].

قوله تعالى: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ] و هاهنا حذف كلمة «في القتال» و حذف المأذون فيه لدلالة كلمة «يقاتلون» بسبب كونهم مظلومين [بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] و المأذون فيه القتال و المأذون له أصحاب الرسول و الظالمون المشركون أخرجوهم من ديارهم حتّى لحق طائفة منهم بالحبشة ثمّ هاجروا إلى المدينة.

و سبب نزول الآية: كان المشركون لا زال يؤذون المسلمين و لا يزال يجي ء مشجوج و مضروب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يشكون عنده من أذى المشركين لهم فيأمرهم بالصبر و يقول: إنّي لم اومر بالقتال حتّى هاجر إلى المدينة ثمّ أنزل اللّه هذه الآية بالمدينة و هي أوّل آية نزلت في القتال.

ص: 237


1- فاطر: 10.

[الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ] المعنى: إنّ المسلمين اضطرّوا إلى الخروج من غير استحقاق للخروج و لم يخرجوا من ديارهم إلّا لقولهم:

ربّنا اللّه وحده. قال أبو جعفر عليه السّلام: نزلت في المهاجرين و جرت في آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذين اخرجوا من ديارهم و أخيفوا. و إذا كان المراد من الآية المهاجرين إلى الحبشة فالآية مكّيّة.

قوله تعالى: [وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ] و المراد بهذا الدفاع الّذي أضافه إلى نفسه الإذن في جهادهم و النصرة للمؤمنين على المشركين يعني: و لو لا دفاع اللّه أهل الشرك بالمؤمنين لمنع المشركون المؤمنين من العبادة و خربوا ما يبنونه من مواضع العبادة لكن دفع عن هؤلاء بأن أمرهم بقتال أهل الشرك ليفرغ أهل الدين للعبادة و بناء المعابد لها كالصوامع و البيع و الصلوات و إن كانت لغير أهل الإسلام، و لهدّمت المواضع المعدّة للعبادة في شرع كلّ نبيّ مثلا لكان هدّم في زمن موسى البيع لليهود و في زمن عيسى الصوامع للنصارى. و قيل: البيع للنصارى في القرى و الصومعة في الجبال و البراريّ و الصلوات كنائس اليهود. و قرئ «و صلوات» بضمّ الصاد و اللام معرّب صلوتا. و قيل: المرادعين الصلاة. و قيل: المراد المصلّيات و أماكن الصلاة كما قال «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى» (1) و أراد بالصلاة المساجد. و قيل: الصلوات معبد الصابئين و المساجد معبد المسلمين.

و بالجملة فحاصل المعنى أنّه لو لا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات و لخربت المساجد.

قوله: [يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً] يعني يذكر في المساجد أو في هذه الأمكنة المذكورة اسم اللّه كثيرا لأنّ الغالب فيها ذكر اسم اللّه.

[وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ] هذا وعد من اللّه بأنّه سبحانه سينصر دينه و شريعته [إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] أي قادر قاهر.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 41 الى 45]

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ (42) وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ (43) وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ (45)

ص: 238


1- النساء: 42.

ثمّ وصف سبحانه «من» في قوله: «من ينصره». و قال أبو جعفر عليه السّلام نحن هم و اللّه. القميّ عن الباقر عليه السّلام هذه الآية لآل محمّد و المهديّ عليه السّلام و أصحابه يملّكهم مشارق الأرض و مغاربها و يظهر الدين و يميت اللّه به و بأصحابه البدع و الباطل و كلّ ضلالة.

و في المناقب عن الكاظم و جدّه سيّد الشهداء عليهما السّلام: هذه فينا أهل البيت.

و الحاصل: فالمعنى أنّ الموصوفين هم الّذين إن أعطيناهم ما به يصحّ الفعل منهم و يتمكّنون في الأرض [أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ] أي أدّوا بحقوقها و أعطوا ما افترض اللّه عليهم من الزكاة [وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ] و هو كقوله: «وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ»* (1) و المعنى أنّه يبطل كلّ ملك سوى ملكه فتصير الأمور إليه بلا مانع.

ثمّ عزّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تكذيبهم إيّاه و خوّف مكذّبيه بذكر من كذّبوا أنبياءهم فاهلكوا فقال سبحانه:

[وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ] أي كلّ امّة من هؤلاء الأمم فقد كذّبت نبيّها. و أجرى الكلام مجرى التسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الصبر على ما هم كانوا عليه من أذى قومهم فقال:

و إن يكذّبوك قومك فكذلك فعلوا سائر الأمم أنبياءهم و ذكر اللّه بعض أسمائهم.

فإن قيل: و لم قال: [وَ كُذِّبَ مُوسى] و لم يقل: قوم موسى؟ لأنّ موسى ما كذّبه قومه بنو إسرائيل و إنّما كذّبه غير قومه و هم القبط أو إشعار بمبالغة بيان هذا الأمر يعني أنّ موسى أيضا مع وضوح آياته و عظم معجزاته كذّبوه فما ظنّك بغيره؟

[فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ] و أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي [ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ] بالعقوبة [فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ]؟ استفهام تقرير أي كيف إنكاري و غضبي عليهم بالعذاب أليس ابدّلهم بالنعمة نقمة و بالكثرة قلّة و بالحياة موتا و بالعزّة ذلّة و بالعمارة خرابا؟ أ لست أعطيت الأنبياءى.

ص: 239


1- البقرة: 210 و خمس سور اخرى.

ما وعدتهم من النصرة على أعدائهم و التمكين لهم في الأرض؟ فينبغي أن يكون عادتك يا محمّد الصبر عليهم فإنّه تعالى يمهل للمصلحة فلا بدّ من الرضا و التسليم و إن شقّ ذلك على القلب.

و اعلم أنّه بدون ذلك البيان يحصل التسلية لمن حاله دون حال الرسول من المؤمنين فكيف بذلك مع منزلته؟ لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ وقت يصل إليه من جهتهم ما يزيده غمّا كما يفصح عن هذا المعنى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما اوذي نبيّ مثل ما أوذيت؛ فصبّره اللّه حالا بعد حال إكراما له و قد تقدّم ذكر المكذّبين و وصف و بالغ عذابهم بالإنكار بحصول الأخذ و الأخذ كاشف عن حقيقة الإنكار.

قال بعض علماء العامّة: إنّ السبب في تأخير عذاب الاستئصال عن هذه الامّة أنّ ذلك العذاب مشروط بأمرين: أحدهما أنّ عند اللّه حدّ من الكفر من بلغه عذّبه و من لم يبلغه لم يعذّبه. و الثاني أنّ اللّه سبحانه لا يعذّب قوما حتّى يعلم أنّ أحدا منهم لا يؤمن، فأمّا إذا حصل الشرطان فحينئذ يأمر الأنبياء فيدعون على أممهم فيعذّبهم بعذاب الاستيصال و هو المراد بقوله «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» (1) أي من إجابة القوم و قوله لنوح:

«أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» (2) و إذا عذّبهم اللّه فإنّه ينجي المؤمنين لقوله:

«وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا- بالعذاب- نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» (3).

قوله تعالى: [فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها] و قرئ «أهلكتها» بالتاء بمناسبة «فأمليت» قال بعضهم: «كأيّن» المراد من معناه «كم» للتكثير و قيل: معناه «ربّ» و الأوّل أنسب في معنى الزجر من الثاني أي و كم من أهل قرى أهلكناها و أهلها ظالمون بالتكذيب و الكفر فالقرى خالية من أهلها و ساقطة على سقوفها [وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ] و كم من بئر باد أهلها و غار ماؤها و تعطّلت من دلائها فلا مستقى منها و لا وارد لها و كم من قصر مجصّص خاليا عن السكنة للعبرة.

و في تفسير أهل البيت: أي و كم من عالم لا يرجع إليه و لا ينتفع بعلمه. و في

ص: 240


1- يوسف: 110.
2- هود: 36.
3- هود: 62.

الإكمال و المعاني عن الصادق و في الكافي عن الكاظم عليهما السّلام: البئر المعطّلة الإمام الصامت و القصر المشيد الإمام الناطق. و إنّما كنّي عن الإمام الصامت بالبئر لأنّ الإمام منبع العلم الّذي هو سبب حياة الأرواح إلّا على من أتاه كما أنّ البئر منبع الماء الّذي هو سبب حياة الأبدان مع خفائها إلّا على من أتاها و كنّي عن صمته بالتعطيل لعدم الانتفاع بعلمه و كنّي عن الإمام الناطق بالقصر المشيد لظهوره و علوّ منصبه.

و في المعاني مقطوعا عن أمير المؤمنين عليه السّلام: هو القصر المشيد و البئر المعطّلة فاطمة عليها السّلام و ولدها معطّلين من الملك، و القصر مجدهم الّذي لا يرتقى و البئر علمهم الّذي لا ينزف.

قال الضحّاك: هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها «حاضورا» نزل بها أربعة آلاف ممّن آمن بصالح و معهم صالح فلمّا حضروا مات صالح فسمّي المكان حضرموت ثمّ إنّهم كثروا فكفروا و عبدوا الأصنام فبعث اللّه إليهم نبيّا يقال له حنظلة فقتلوه بالسوق فأهلكهم اللّه فماتوا عن آخرهم و عطّلت بئرهم و خرب قصر ملكهم و كان نبيّهم اسمه سنجاريب، أو سجاريب كان وزيرهم و كان ملكهم جابر.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 46 الى 51]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (50)

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)

ثمّ شرح سبحانه بما يزيد الاعتبار أيضا فقال:

[أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ] و الاعتبار و التنبّه يحصل بالرؤية و السماع و لذلك قال: أ فلم يسيروا و يسافروا ليروا مصارع من أهلكهم بكفرهم و يشاهدوا ما وقع عليهم و يتعقّلوا في قلوبهم و أذهانهم و يستمعون أخبارهم و يعتبروا بمن مضى قبلهم و المراد أنّ

ص: 241

قومك يا محمّد لم يسيروا في أرض اليمن و الشام.

[فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] و الضمير في «إنّها» للشّأن و القصّة و قوله «الَّتِي فِي الصُّدُورِ» من التأكيد الّذي يؤتى في الكلام كقوله «عَشَرَةٌ كامِلَةٌ» (1) و مثل قوله: «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ» (2) و «يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» (3) و المعنى أنّه لا عمى في أبصارهم فإنّهم يرون بها لكنّ العمى في قلوبهم حيث لم ينتفعوا بما أبصروا، و الإبصار يحصل و إن كانت العين عمياء بسبب البصيرة إذا كان أصحابها عارفين بالحقّ و إنّما يكون العمى عمى القلب الّذي يقع معه الجحود بوحدانيّة اللّه.

قوله: [وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ] و يستعجلونك يا محمّد بالعذاب المتوعّد به و يستبطئونه، و في ذلك دليل على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يخوّفهم بالعذاب إن استبقوا على كفرهم و لن يخلف اللّه وعده في إنزال العذاب بهم.

[وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ] و اختلف في معناه على وجوه:

أحدها: أنّ يوما من أيّام الآخرة يكون كألف سنة من أيّام الدنيا، عن جماعة مثل ابن عبّاس و عكرمة و مجاهد و جماعة. و في رواية اخرى عن ابن عبّاس أنّه أراد أنّ يوما من الأيّام الّتي خلق اللّه فيها السماوات و الأرض كألف سنة، و يدلّ عليه ما روي أنّ الفقراء يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم خمس مائة عام و يكون المعنى على هذا أنّهم يستعجلون العذاب و أنّ يوما من أيّام عذابهم في الآخرة كألف سنة.

و ثانيها: أنّ المعنى: و إنّ يوما عند ربّك و ألف سنة في قدرته واحد فلا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب و بين تأخّره في القدرة إلّا أنّه تفضّل بالإمهال إذ لا يفوته شي ء.

و ثالثها: أنّ يوما واحدا كألف سنة في مقدار العذاب أي إنّه لشدّته و عظمته كمقدار عذاب ألف سنة من أيّام الدنيا على الحقيقة و كذلك نعيم الجنّة لأنّ يوما من أيّام نعيم الآخرة و سرورها مثل ما يكون في ألف سنة من أيّام الدنيا ثمّ الكافر

ص: 242


1- البقرة: 196.
2- آل عمران: 167.
3- الانعام: 38.

مع هذا يستعجل ذلك العذاب لجهله و هذا كقوله: أيّام السرور قصار و أيّام الهموم طوال؛ قال الشاعر:

يطول اليوم لا ألقاك فيه و حول نلتقي فيه قصير

و في إرشاد المفيد عن الباقر عليه السّلام قال: إذا قام القائم سار إلى الكوفة فهدم فيها أربعة مساجد و لم يبق على وجه الأرض مسجد له شرفة إلّا هدمها و جعلها حما و (؟) و وسّع الطريق الأعظم و كسر كلّ جناح خارج في الطريق و أبطل الكنيف و الميازيب إلى الطرقات و لا ترك بدعة إلّا أزالها و لا سنّة إلّا أقامها و يفتح قسطنطنيّة و الصين و جبال ديلم فيمكث على ذلك سبع سنين مقدار كلّ سنة منها ستّين من سنيكم هذه ثمّ يفعل اللّه ما يشاء.

قيل: فكيف يطول السنين؟ قال: يأمر اللّه الفلك بالثبوت و قلّة الحركة فتطول الأيّام كذلك و السنون، قيل له: إنّهم يقولون: إنّ الفلك إن تغيّر فسد، قال: ذلك قول الزنادقة فأمّا المسلمون فلا سبيل لهم إلى ذلك و قد شقّ اللّه القمر لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من قبله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ردّ الشمس ليوشع بن نون في قتال الجبابرة و أخبر بطول يوم القيامة و أنّه كألف سنة ممّا تعدّون.

و في الكافي عنهم عليه السّلام قال: فيما وعظ اللّه عيسى عليه السّلام: و اعبدني ليوم كألف سنة ممّا تعدّون.

قوله: [وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ] مرّ تفسيره أي كم من أهل قرية أمهلتها و أخّرت عذابها [ثُمَّ أَخَذْتُها وَ إِلَيَ] مصير كلّ واحد.

[قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ] قل يا محمّد لهم: إنّي مخوّف عن معاصي اللّه مبيّن لكم ما يجب عليكم فعله و ما يجب عليكم تجنّبه [فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ] من اللّه لمعاصيهم لمّا تقدّم في الآية السابقة الوعيد و بيان عذابهم أردفها بهذه الآية بالوعد للمؤمنين فقال: و الّذين آمنوا و عملوا الصالحات. لمّا بيّن اللّه للرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه يجب أن يقول لهم: أنا نذير مبين، أردف ذلك بأن أمره بوعدهم و وعيدهم فقال: «فَالَّذِينَ آمَنُوا» إلخ، فجمع بين الوصفين في الآيتين:

ص: 243

الوعد و الوعيد.

قال الرازيّ و هذا دليل على أنّ العمل الصالح خارج عن مسمّى الإيمان و به يبطل قول المعتزلة و يدخل في الإيمان كلّما يجب من الاعتقاد بالقلب و الإقرار باللسان و يدخل في العمل الصالح أداء كلّ واجب و ترك كلّ محظور، ثمّ بيّن سبحانه أنّ من جمع بينهما فاللّه يجمع له بين المغفرة و الرزق الكريم أمّا المغفرة فإمّا أن تكون عبارة عن غفران الصغائر أو عن غفران الكبائر بعد التوبة أو عن غفرانهما قبل التوبة و الأوّلان واجبان عند المعتزلة و أداء الواجب لا يسمّى غفرانا فيبقى الثالث و هو الدلالة على العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة. انتهى كلامه.

[وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ] أي نعيم الجنّة فإنّه أكرم نعيم في أكرم دار.

[وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ] أي بذلوا الجهد في إبطال آياتنا، و أصل السعي الإسراع في المشي معاجزين مغالبين أن يعجزوا اللّه، و المعاجزة المسابقة أي يفوتوه بالمكر و الحيل، و من قرأ «معجزين» معناه مثبّطين لمن أراد اتّباع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قاصدين تعجيز رسولنا أو ناسبين من تبع النبيّ إلى العجز [أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ] و ملازمو النار.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 52 الى 55]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)

في الكافي عنهما عليهما السّلام في هذه الآية أنّهما زادا «و لا محدّث» بفتح الدال فقال: الرسول الّذي يظهر له الملك فيكلّمه و النبيّ هو الّذي يرى في منامه و ربّما اجتمعت النبوّة و الرسالة لواحد و المحدّث الّذي يسمع الصوت و لا يرى الصورة قيل: كيف يعلم أنّ الّذي يراه في النوم حقّ و أنّه من الملك؟ قال: يوفّق لذلك حتّى يعرفه لقد ختم اللّه

ص: 244

بكتابكم الكتب و ختم بنبيّكم الأنبياء. و في معناه أخبار أخر فيه و في البصائر و غيرهما.

و في الكافي عن السجّاد: إنّ في القرآن آية كان عليّ بن أبي طالب يعرف قاتله بها و يعرف بها الأمور العظام الّتي كان يحدّث بها الناس ثمّ قال بعد ما سئل عنها:

هو و اللّه قول اللّه: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبيّ و لا محدّث» و كان عليّ بن أبي طالب محدّثا. و في البصائر ما يقرب منه، و فيه أنّه سئل: من يحدّثه؟ قال: ملك يحدّثه قيل له: إنّه نبيّ أو رسول قال: لا و لكن مثله مثل صاحب سليمان و مثل صاحب موسى و مثل ذي القرنين و أريد بصاحب سليمان آصف بن برخيا و بصاحب موسى يوشع بن نون. و في الكافي في عدّة روايات أنّ الأئمّة كانوا محدّثين كانوا يسمعون الصوت و لا يرون الملك. و كان من ألقاب فاطمة عليهما السّلام محدّثة، انتهى.

و قالت المعتزلة: كلّ رسول نبيّ و كلّ نبيّ رسول و لا فرق بينهما. و قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كم المرسلون؟ فقال: ثلاثمائة و ثلاثة عشر، فقيل: و كم الأنبياء؟ فقال:

مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا و على هذا يفرق بين الرسول و النبيّ.

و فرّقوا بين الرسول و النبيّ بأمور: أحدها أنّ الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه و النبيّ غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب و إنّما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله. و الثاني أنّ من كان صاحب المعجزة و صاحب الكتاب و نسخ شرع من قبله فهو الرسول و من لم يكن مستجمعا لهذه الخصال فهو النبيّ غير الرسول، و القائلين بهذا الكلام يلزمهم أن لا يجعلوا إسحاق و يعقوب و أيّوب و يونس و هارون و داود و سليمان رسلا لأنّهم ما جاءوا بكتاب ناسخ.

قوله: [وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ] ذكر بعض المفسّرين من العامّة من طريقهم في سبب نزول الآية أنّ الرسول لمّا رأى إعراض قومه عنه و شقّ عليه مباعدتهم عمّا جاءهم به تمنّى في نفسه أن يأتيهم من اللّه ما يقارب بينه و بين قومه و ذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من قريش كثير أهله و أحبّ يومئذ أن لا يأتيه من اللّه شي ء ينفروا عنه و تمنّى ذلك فأنزل اللّه سورة «وَ النَّجْمِ إِذا هَوى» فقرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

ص: 245

في صلاته حتّى بلغ قوله: «أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى* وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» (1) ألقى الشيطان على لسانه:

تلك الغرانيق العلى* منها الشفاعة ترتجى و معنى الغرنوق الحسن الجميل، فلمّا سمعت قريش ذلك فرحوا و مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قراءته فقرأ السورة كلّها فسجد و سجد المسلمون لسجوده و سجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن و لا كافر إلّا سجد سوى الوليد بن المغيرة و ابن احيحة سعيد بن العاصي فإنّهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء و رفعاها إلى جبهتهما و سجدا عليها لأنّهما كانا شيخين كبيرين و لم يستطيعا السجود و تفرّقت قريش و قد سرّهم ما سمعوا و قالوا: قد ذكر محمّد آلهتنا بأحسن الذكر.

فلمّا أمسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتاه جبرئيل فقال: ماذا صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن اللّه، و قلت ما لم أقل لك؟ فحزن رسول اللّه حزنا شديدا و خاف من اللّه خوفا عظيما حتّى نزل قوله: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ» إلخ، و هذا القول السخيف رواية بعض المفسّرين الظاهرين.

قال الرازيّ: أمّا أهل التحقيق فقد قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة و احتجّوا عليه بالقرآن و السنّة و المعقول.

أمّا القرآن فوجوه:

أحدهما: قوله: «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» (2).

و ثانيها: قوله: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» (3).

و ثالثها: قوله: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» (4) فلو أنّه

ص: 246


1- النجم: 21، 22.
2- الحاقة: 45- 47.
3- يونس: 15.
4- النجم: 4، 5.

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأ عقيب هذه الآية: تلك الغرانيق العلى، لكان قد ظهر كذب اللّه تعالى في الحال و ذلك لا يقوله مسلم.

و رابعها: قوله تعالى: «وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» (1) و كلمة «كاد» معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنّه لم يحصل.

و خامسها: قوله: «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» (2) و كلمة «لو لا» تفيد انتفاء الشي ء لانتفاء غيره فدلّ على أنّ ذلك الركون القليل لم يحصل.

و سادسها: قوله: «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» (3).

و سابعها: قوله: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» (4).

و أمّا السنّة فهي ما روى محمّد بن إسحاق بن خزيمة أنّه سئل عن هذه القصّة فقال:

هذا من موضوعات الزنادقة و صنّف فيه كتابا. و قال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقيّ: هذه القصّة غير ثابتة من جهة النقل ثمّ أخذ يتكلّم في أنّ رواة هذه القصّة مطعون فيهم و أيضا روى البخاريّ في صحيحه أنّ النبيّ عليه السّلام قرأ سورة و النجم و سجد فيها المسلمون و المشركون و الإنس و الجنّ و ليس فيه حديث الغرانيق و روي هذا الحديث من طرق كثيرة و ليس فيها البتّة حديث الغرانيق.

و أمّا المعقول فمن وجوه:

أحدها: أنّه غلط من جوّز على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعظيم الأوثان لأنّ من المعلوم أنّ أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.

و ثانيها: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يمكنه في أوّل الأمر أن يصلّي و يقرأ القرآن عند الكعبة أمنا من أذى المشركين له حتّى كانوا ربّما مدّوا أيديهم إليه و إنّما كان يصلّي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا لم يحضروها ليلا أو في أوقات خلوة فكيف يقع هذا الأمر؟

ص: 247


1- الإسراء: 73.
2- الإسراء: 74.
3- الفرقان: 32.
4- الأعلى: 6.

و ثالثها: أنّ معاداة قريش له كانت أعظم من أن يقنعوا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنّه عظّم آلهتهم حتّى خرّوا سجّدا مع تلك المخالفة الدائمة منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟

و رابعها: قوله: [فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ] و ذلك لأنّ إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان أقوى من نسخه بهذه الآيات الّتي تبقى الشبهة معها فإذا أراد اللّه إحكام الآيات لئلّا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى.

و خامسها- و هو أقوى الوجوه-: أنّا لو جوّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه و جوّزنا في كلّ واحد من الأحكام و الشرائع أن يكون كذلك و يبطل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» (1) فإنّه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي و الزيادة فيه.

فبهذه الوجوه عرفنا أنّ هذه القصّة مجعولة موضوعة أكثر ما في الباب أنّ جمعا من المفسّرين ذكروها و ما بلغوا حدّ التواتر و خبر الواحد لا يعارض النصّ و الدلائل النقليّة و العقليّة و لنرجع الآن إلى التفسير. انتهى كلامه.

قال المرتضى رحمه اللّه: لا يخلو التمنّي في الآية من أن يكون معناه القراءة و التلاوة كما قال حسّان بن ثابت:

تمنّى كتاب اللّه أوّل ليلةو آخره لاقى حمام المقادر

أو يكون من تمنّي القلب فإن كان المراد التلاوة فالمعنى: أنّ من أرسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤدّيه إلى قومه حرّفوا عليه و زادوا فيما يقوله و نقصوا كما فعلت اليهود و أضاف ذلك إلى الشيطان لأنّه يقع بغروره فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان و يدحضه بظهور حججه و خرج هذا على وجه التسلية للنبيّ لمّا كذب المشركون عليه و أضافوا إلى تلاوته من مدح آلهتهم ما لم يكن فيها.

و إن كان المراد تمنّي القلب فالوجه أنّ الرسول متى تمنّى بقلبه بعض ما يتمنّاه

ص: 248


1- المائدة: 70.

من الأمور وسوس إليه الشيطان و يدعوه بالباطل و ينسخ اللّه ذلك و يبطله بما يرشد إليه من مخالفة الشيطان و يحفظه من وساوسه.

قال السيّد: و أمّا الأحاديث المرويّة في هذا الباب فهي مجعولة مطعونة عند أصحاب الحديث. قال السيّد: و إن حمل ذلك على السهو فالساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة و نظمها لأنّا نعلم ضرورة أنّ الساهي لو أنشد قصيدة لم يجز أن يسهو حتّى يتّفق منه بيت شعر في وزنها خصوصا على الوجه الّذي يقتضيه فائدته لمرام المشركين في البين.

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا تلا القرآن على قريش توقّف في فصول الآيات و أتى بكلام على سبيل الحجاج لهم فلمّا تلا الآيات قال: تلك الغرانيق العلى؟ على سبيل الإنكار عليهم أي الأمر بخلاف ما قالوه و ظنّوه و ليس يمتنع أن يكون هذا في الصلاة لأنّ الكلام في الصلاة حينئذ كان مباحا و إنّما نسخ من بعد.

و قيل: إنّ المراد بالغرانيق الملائكة و قد جاء في بعض الحديث فتوهّم المشركون أنّه يريد آلهتهم. و قال البلخيّ: و يجوز أن يكون النبيّ سمع هاتين الكلمتين من قومه فلمّا قرأ القرآن ألقاها الشيطان في ذكره أن يقوله فعصمه اللّه و نسخ وسواس الشيطان عنه و أحكام آياته بأن قرأها محكمة سليمة.

و يجوز أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قرأ سورة النجم و انتهى إلى ذكر اللّات و العزّى قال الشيطان هاتين الكلمتين رافعا بهما صوته فألقاهما في تلاوته في غمار الناس فظنّ أنّ ذلك من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسجدوا عند ذلك. و هذا القول الآخر في غاية الوهن لأنّ الشيطان لو قدر على ذلك في حقّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكان اقتداره على الناس أكثر فهب أن يزيل جميع الناس عن الدين و قال اللّه: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» (1) و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سيّد المخلصين و المؤمنين، انتهى.

[ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ] و دلالاته حتّى لا يقع فيها غلط و لا سهو [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ] بكلّ شي ء [حَكِيمٌ] في أفعاله.

ص: 249


1- النحل: 99.

تذييل: في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام من بعض الحديث: يذكر اللّه لنبيّه ما يحدّث عدوّه في كتابه من بعده فقوله: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ» الآية يعني إنّه ما من نبيّ تمنّى مفارقة ما يقاسيه من نفاق قومه و عقوقهم و الاشتغال عنهم إلى دار الإقامة إلّا ألقى الشيطان المعترض بعداوته عند فقده في الكتاب الّذي انزل عليه ذمّ ذلك النبيّ و القدح فيه و الطعن عليه فينسخ اللّه ذلك من قلوب المؤمنين فلا يقبلوه و لا تقبله و لا تصغى إليه غير قلوب المنافقين و الجاهلين و يحكم اللّه آياته بأن يحمي أولياءه من الضلال و العدوان و شايعه أهل الكفر و الطغيان.

في الصافي روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصابه خصاصة فجاء إلى رجل من الأنصار فقال له: هل عندك من طعام؟ قال: نعم يا رسول اللّه، و ذبح له عناقا و شواه فلمّا أدناه منه تمنّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يكون معه عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام فجاء فلان و فلان ثمّ جاء بعدهما عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام فنزلت الآية في ذلك: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبيّ و لا محدّث إلّا إذا تمنّى ألقى الشيطان في امنيّته» يعني زيد و عمرو فينسخ ما يلقي الشيطان يعني لمّا جاء عليّ عليه السّلام بعدهما ثمّ يحكم اللّه آياته بنصر اللّه لأمير المؤمنين.

قوله: [لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ] فشرح أثر تلك الوسوسة في حقّ الكفّار أوّلا فقال: ليجعل ذلك تشديدا في الاختبار و التكليف على الّذين في قلوبهم مرض الجهل و مرض الشكّ و الريب و النفاق و هم المنافقون و أمّا القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرّون على جهلهم ظاهرا و باطنا لتلزمهم الدلالة و الحجّة على الفرق بين ما يحكمه اللّه و بين ما يلقيه الشيطان.

[وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ] و قوله: «إِنَّ الظَّالِمِينَ» أصله على القاعدة أن يؤتى بالضمير و يقول: إنّهم فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم و المشاقّة و المباعدة على السويّة.

و أمّا في حقّ المؤمنين فهو قوله: [وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ] و في الضمير في «أنّه» ثلاثة أوجه: أحدها أنّها عائدة إلى نسخ ما ألقاه الشيطان.

ص: 250

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 299

و ثانيها إلى القرآن. و ثالثها تمكّن الشيطان من الإلقاء و الوسوسة أي ليعلم الّذين أوتوا العلم باللّه و بتوحيده و بحكمته أنّ القرآن حقّ لا يجوز عليه التبديل و التغيّر [فَيُؤْمِنُوا بِهِ] و يثبتوا و يزدادوا إيمانا إلى إيمانهم [فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ] و تخشع و تتواضع لقوّة إيمانهم [وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ] طريق واضح لا عوج فيه و يهديهم ربّهم بإيمانهم و بسبب ولاية عليّ عليه السّلام طريق الجنّة.

[وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً] أي لا يزال الكفّار في شكّ من القرآن أو من الرسول و هذا خاصّ فيمن علم اللّه أنّهم لا يؤمنون من الكفّار حتّى تأتيهم الساعة فجأة من دون أن يشعروا و جعل سبحانه الساعة غاية لكفرهم لأنّهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء و ذلك لا ينفعهم.

[أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ] قيل: إنّه يوم بدر، و سمّي عقيما ذلك اليوم لأنّه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه و مثله قول الشاعر:

عقم النساء فلا يلدن بمثله إنّ النساء بمثله لعقيم

و لم يكن في ذلك اليوم للكفّار خير فهو كالريح العقيم الّذي لا تأتي بخير. و قيل:

المراد به يوم القيامة و سمّي عقيما لأنّه لا ليلة له.

و قيل في نظم الآية الاولى ممّا قبلها من الكفّار و ما متّعوا به من نعيم الدنيا: و لمّا رأي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما منيوا به من الإقتار تمنّى لهم الدنيا فبيّن سبحانه أنّ ذلك التمنّي من وساوس الشيطان و أنّ ما أعدّ لهم من نعيم الآخرة خير.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 56 الى 60]

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)

لمّا تقدّم ذكر القيامة بيّن صفتها فقال سبحانه:

ص: 251

[الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ] لا يملك أحد سواه شيئا بخلاف الدنيا [يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ] يفصل بين الكافرين و المؤمنين، و التنوين في يومئذ عوض عن الجملة تقديره: يوم يؤمنون [فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ] ينعمون فيها [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ] يهينهم و يذلّهم.

[وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لمّا ذكر أنّ الملك له يوم القيامة و يدخل المؤمنين الجنّات أفرد المهاجرين بالذكر تفخيما لشأنهم فقال: و الّذين فارقوا أوطانهم [ثُمَّ قُتِلُوا] في الجهاد [أَوْ ماتُوا] في الغربة [لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً] و هو رزق في الجنّة و الرزق الحسن ما إذا رآه لا يمتدّ عينه إلى غيره و هذا لا يقدر عليه غير اللّه و لذلك قال سبحانه:

[وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] و لا شكّ أنّ الرازق هو و لا غيره فما معنى خير الرازقين؟ لأنّ من أعطى مؤونة أو شيئا لأحد فتشبّه بالرازق و لو أنّ الشي ء في الحقيقة من اللّه و هو خير الرازقين لأنّ إعطاءه من غير عوض و رزقه سبحانه ليس مسبوقا بشي ء آخر مثلا السيّد إذا أعطى نفقة لعبده فالعبد يكون مسبوقا بإعطاء السلامة و الصحّة و القدرة بذلك الانتفاع و إلّا لما أمكنه الانتفاع من رزق مولاه و أمّا رزق اللّه فإنّه لا حاجة به إلى رزق غيره فثبت أنّه خير الرازقين.

و اختلفوا في المهاجرين فقيل: من هاجر إلى المدينة طالبا لنصرة الرسول تقرّبا إلى اللّه.

و قال آخرون: بل المراد من جاهد فخرج مع الرسول أو في سراياه لنصرة الدين و لذلك ذكر القتل بعده، و منهم من حمله على الأمرين.

و اختلفوا من وجه آخر فقال بعضهم: المراد من الآية قوم مخصوصون خرجوا من مكّة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون و قاتلوهم و ظاهر الكلام للعموم. في الجوامع:

روي أنّ المهاجرين قالوا: يا رسول اللّه هؤلاء الّذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم اللّه من الخير و نحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل اللّه هاتين الآيتين.

و قال سبحانه: «ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا» و سوّى الوعد بينهما و استفادوا التسوية في الحكم بين من مات على فراشه منهم و المقتول منهم روى أنس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:

ص: 252

المقتول في سبيل اللّه و المتوفّى في سبيل اللّه بغير قتل هما في الأجر و الخير شريكان و لفظ الشركة مشعر بالتسوية و إلّا فلا يبقى لتخصيصهما بالذكر فائدة و الحاصل: أنّ اللّه وعدهم بالرزق الحسن.

ثمّ عيّن و شرح مسكنهم فقال [لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ] فمن قرأ «مدخلا» بضمّ الميم فهو من الإدخال. و من قرأ بفتحها فالمراد الموضع أي في المدخل الّذين يرضونه إنّه خيمة من درّة بيضاء لا فصم و لا وصم (1) لها سبعون ألف مصراع و يرون ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فيرضونه و لا يبغون عنها حولا، و نظيره قوله تعالى: «وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً* ... تَرْضَوْنَها» (2) و قوله: «فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ»* (3) و قوله:

«ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً» (4).

قوله: [وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ] أي عليم بمن يستحقّ هذا الإكرام فيعطيهم و حليم لا يعجّل العقوبة فيمن يقدم على المعصية بل يمهل لتقع منه التوبة فيستحقّ منه الجنّة.

قوله: [ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ] أي الأمر ذلك الّذي قصصنا عليك في أحوال المهاجرين و مثوباتهم و «مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ» القميّ: هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أخرجته قريش من مكّة و هرب منهم إلى الغار و طلبوا ليقتلوه فعاقبهم اللّه يوم بدر و قتل عتبة و شيبة ابنا ربيعة و الوليد بن المغيرة و أبو جهل و حنظلة بن أبي سفيان و غيرهم فلمّا قبض و توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طلب بدمائهم فقتل الحسين و آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بغيا و عدوانا و هو قول يزيد اللعين حتّى تمثّل بهذا الشعر:

ليت أشياخي ببدر شهدواوقعة الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا و استهلّوا فرحاثمّ قالوا: يا يزيد لا تشل

ص: 253


1- اى من غير كسر و عقدة.
2- التوبة: 73.
3- الحاقة: 21. القارعة: 7:
4- الفجر: 30.

لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل

قد قتلنا القوم من ساداتهم و عدلناه ببدر فاعتدل

و كذاك الشيخ أوصاني به فاتّبعت الشيخ فيما قد سأل

فقال اللّه تعالى: [ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ] يعني رسول اللّه [بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ] يعني حين أرادوا أن يقتلوه [ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ] بالقائم عليه السّلام من ولده و حاصل المعنى في الآية: ذلك أي الأمر ذلك الّذي قصصنا و من عاقب بمثل ما عوقب به و جازى الظالم بمثل ما ظلمه يعني قاتل المشركين كما قاتلوه و الأوّل لم يكن عقوبة و لكنّه الجزاء بالجزاء لازدواج الكلام ثمّ بغي عليه و ظلم بإخراجه من منزله و ما فعله المشركون من البغي على المسلمين حتّى أخرجوهم من ديارهم لينصرنّه اللّه أي المظلوم الّذي بغي عليه.

[إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ] إشعار في حسن العفو روي أنّ الآية نزلت في قوم من مشركي مكّة نفوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم فقالوا: إنّ أصحاب محمّد لا يقاتلون في هذا الشهر فحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا فأظفر اللّه المسلمين بهم.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 61 الى 65]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)

أي [ذلك] النصر الّذي فعل بالمؤمنين المتأذّين من الكفّار بسبب أنّه قادر على كلّ ما أراد و اقتضت حكمته و يقدر أن ينصر الضعيف و يقوّيه على القويّ على خلاف العادة كما أنّه يلج الضياء في الظلمة و بالعكس كما يضي ء البيت بالسراج و يظلم بفقده و [أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] و في الآية تحذير عن الإقدام على ما لا يجوز في المسموع و المبصر.

ص: 254

[ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ] أي ذلك الّذي فعل من نصر المؤمنين و يفعل ما يشاء بأنّ اللّه هو الحقّ الموجود الواجب لذاته و يمتنع عليه الزوال و العجز و ما يفعل من عبادته هو الحقّ و ما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل فيستحقّون الوعد و الوعيد فقال:

[وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ] العليّ عن الأشياء الكبير الّذي كلّ شي ء سواه يصغر مقداره، العظيم في قدرته فليس قادر على النفع و الضرر غيره؛ و هذا المعنى يكون مرغّبا في عبادته و زاجرا عن عبادة غيره.

[أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً] لمّا ذكر سبحانه قدرته في الآية السابقة قدرته بولوج الليل في النهار و ولوج النهار في الليل نبّه على نعمه بأنواع أخر فقال: «ألم تر» بمعنى الرؤية الحقيقيّة لأنّ الماء النازل من السماء و اخضرار النبات على الأرض مرئيّ بالعين، أو معنى الرؤية العلم أي ألم تعلم أنّه سبحانه أنزل بقدرته و خلقه من السماء المطر فتصبح الأرض بسبب الماء ذات خضرة و قال: «فتصبح» و لم يقل بلفظ الماضي لإفادة أثر الماء زمانا بعد زمان.

[إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ] ذو لطف بإرزاق عباده من حيث لا يحتسبون و محيط بتدبير دقائق الأمور الّتي يتعذّر على غيره و يمتنع تدبيره لغيره و لا يتعذّر عليه كإنزال الماء من السماء و إنبات البقل و أمثاله [خَبِيرٌ] بنيّاتهم.

[لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] الدلالة الثانية المعنى أنّ كلّ ذلك ينقاد له غير ممتنع عن التصرّف فيه في كلّ آن من الآنات غنيّ عن الأشياء و عن حمد الحامدين لأنّه كامل لذاته و أعجبني قول أعرابيّ حين ضلّ بعيره و هو يصيح: يا من رأى ضالّتي فلم يجده إلى أن طلع القمر فلمّا أن طلع القمر وجده فخاطب القمر و قال: الحمد للّه رفعك و بالبروج قدّرك و نوّرك فإن قلت: جعلك اللّه رفيعا فقد جعلك اللّه رفيعا، و إن قلت: نوّرك اللّه فأنت منير.

و بالجملة فاللّه سبحانه غنيّ عن وصف الواصفين و من يقدر أن يبلغ وصفه؟

[أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ] أي ذلّل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر و لا أحدّ من الحديد و لا أكثر هيبة و سلطة من

ص: 255

النار و قد سخّرها لكم و ذلّل الحيوانات أيضا حتّى ينتفع الإنسان بها من حيث الأكل و الركوب و الحمل عليها و الانتفاع بالنظر إليها فلو لا أن سخّر اللّه الإبل و البقر مع قوّتهما حتّى يذلّلهما الضعيف من الناس و يتمكّن منها لما كان ذلك نعمة و كذلك السفن تجري في البحر بأمره و كيفيّة تسخير الفلك من حيث سخّر الماء و الرياح لجريها فلو لا صفتهما على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص أو تقف بل استدراك الإنسان بصناعة السفن حتّى تعمل و تجري فذلك التسخّر لها. و إنّما قال: «بأمره» لأنّه سبحانه لمّا كان هو المرسل لها بالرياح نسب ذلك بأمره توسّعا.

قوله تعالى: [وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ] و هذه دلالة اخرى على قدرته مبيّنة على ظاهر الأوهام و معنى «أن تقع» أي كيلا تقع و كراهية أن تقع و هذه السماوات مع هذه الأجرام الفلكيّة مع أنّها مسكن الملائكة و لا بدّلها من الهويّ لو لا مانع يمنعه إنّ اللّه بالنّاس بهذه النعم الجامعة لرءوف ذو رأفة و رحمة.

وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66).

[سورة الحج (22): آية 66]

وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)

ثمّ ذكر دلالة اخرى على وحدانيّته فقال:

[وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ] بعد أن كنتم نطفا ميتة [ثُمَّ يُمِيتُكُمْ] عند آجالكم [ثُمَّ يُحْيِيكُمْ] للبعث و الحساب، و فيه بيان أنّ من قدر على البدء قدر على الإعادة فنبّه بالإحياء الأوّل على إنعام نعمة الوجود و الدنيا علينا و نبّه بالإماتة و الإحياء الثاني على نعم الدين علينا فإنّه سبحانه خلق الدنيا بأسرها للآخرة لأنّه لو لا أمر الآخرة لم تكن للزراعات و تكلّفها و لا لركوب الحيوان و ذبحها إلى غير ذلك معنى بل كان يخلقه ابتداء من غير تكلّف الزرع و السقي و إنّما أجرى اللّه هذه الأمور على هذه العادة في الدنيا ليتبيّن المطيع عن العاصي و يعتبر به في باب الدين و الامتحان.

و لمّا فصّل النعم قال: [إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ] أي الإنسان مع هذه النعم و هذه الآيات يجحد الخالق و يكفر به مع أنّ هذه النعم تقتضي الشكر فهم عكسوا القضيّة و كفروا كما قال: «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (1) قال ابن عبّاس: الإنسان هاهنا

ص: 256


1- سبأ: 13.

الكافر و قال أيضا: هو الأسود بن عبد الأسد و أبو جهل و العاصي و ابيّ بن خلف و الأولى تعميمه في كلّ المنكرين.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 67 الى 70]

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)

لما بيّن بعض نعمه على الإنسان و أظهر رأفته و ذكر أنّهم لا يشكرون نعمته أتبعه بذكر نعمه بما كلّف فقال:

[لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً] أي لكلّ قرن مضى جعلنا شريعة عاملون بها أو مكانا و موضعا يعتادونه لعبادة اللّه و مناسك الحجّ من هذا المعنى لأنّها مواضع العبادة فيه. و قيل: المعنى عيدا و موضع قربان و متعبّدا لإراقة الدماء مثل منى و غيره.

و لأجل أنّه لا تعلّق لقوله «لِكُلِّ أُمَّةٍ» بما قبلها حذف العاطف و منشأ الاختلاف في معنى النسك لاختلاف معنى الزمانيّة أو المكانيّة و قيل: المعنى المنهاج و الشرعة و يصلح الكلام أن يحمل على مطلق العبادة لأنّ ما يفعل بالحجّ من العبادة يوصف و يسمّى بالمناسك و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خذوا عنّي مناسككم.

قوله: [فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ] هذا نهي من اللّه في منازعة المشركين و الكفّار للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عبادته و منازعتهم له قولهم: أ تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتله اللّه؟

يعنون الميتة بأنّها حلال لأنّها قتلها اللّه و ليس لهم أن ينازعوك في شريعتهم و قد نسخت شريعتك الشرائع المتقدّمة فادعهم إلى دينك و لا تخصّ بالدعاء امّة دون امّة فكلّهم امّتك.

قوله: [وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ] أي ما تكلّفهم هداية مستقيمة [وَ إِنْ جادَلُوكَ] أي إن عدلوا عن النظر إلى هدايتك و طريقك و جادلوك

ص: 257

و خاصموك [فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ] فقد بيّنت و أوضحت و أظهرت ما يلزمك و هذا الكلام يجري مجرى الوعيد و التحذير أي لا تجادلهم بعد إلزام الحجّة و إيضاح الطريقة و ادفعهم بهذا القول و حاكمهم بعلم اللّه و إلى اللّه.

[اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] من أمر الذبائح و غيره فتعرفون حينئذ الحقّ من الباطل.

[أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ] الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المراد جميع المكلّفين يعلم من كثير و قليل لا يخفى عليه شي ء من ذلك الأمور [إِنَّ ذلِكَ] المعلوم ثبت [فِي كِتابٍ] أي اللوح المحفوظ من الخطأ [إِنَّ ذلِكَ] أي الكتابة في اللوح [عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] لا يحتاج إلى معالجة خطوط و حروف و إنّما يقول: كن فيكون و قيل:

المراد أنّ الحكم في مختلفاتهم بينهم يسير على اللّه.

قوله: [سورة الحج (22): الآيات 71 الى 72]

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

أخبر عن حال الكفّار فقال:

[وَ يَعْبُدُونَ ... ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً] و حجّة و دليلا على إلهيّته و يعبدون [ما لَيْسَ لَهُمْ] علم بأنّها آلهة لأنّ الإنسان قد يعلم أشياء من غير دليل و حجّة كالضروريّات و المعنى أنّ الكفّار ما علموا إلهيّة آلهتهم لا بحكم الضرورة و لا بحكم الاستدلال و النظر بل مجرّد التقليد أو العناد.

[وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ] أي ليس للمشركين الّذين أشركوا مع اللّه إلها آخر و ظلموا أنفسهم بهذا الظلم القبيح من مانع من العذاب.

ثمّ أخبر سبحانه عن شدّة عنادهم فقال: [وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا] من القرآن و غيره من الدلائل و هي [بَيِّناتٍ] لمن تفكّر فيها [تَعْرِفُ] يا محمّد [فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ] يريد أثر الإنكار من الكراهية و العبوس [يَكادُونَ يَسْطُونَ] و يبطشون

ص: 258

من الغيظ و يبسطون إليهم أيديهم بالسوء [بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا].

[قُلْ] يا محمّد لهم: [أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ] أي أخبركم بشي ء أكره إليكم من هذا القرآن الّذي تكرهون من استماعه و أشدّ عليكم منه ثمّ فسّر ذلك فقال:

[النَّارُ] أي هو النار [وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ] أي وعدكم اللّه النار و بئس المرجع و المأوى.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 73 الى 75]

يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)

النزول: في الكافي عن الصادق عليه السّلام: كانت قريش تلطخ الأصنام الّتي حول الكعبة بالمسك و العنبر و كان يغوث قبال الباب و يعوق عن يمين الكعبة و نسر عن يسار الكعبة و كان في ثلاثمائة و ستّين صنما و كانوا إذا دخلوا خرّوا سجّدا ليغوث و لا ينحرفون و يستدبرون بحيالهم إلى يعوق ثمّ يستدبرون عن يسار الكعبة بحيالهم إلى نسر ثمّ يلبّون فيقولون: لبّيك اللّهم لبّيك لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك. قال: فبعث اللّه ذبابا أخضر له أربعة أجنحة فلم يبق من ذلك المسك و العنبر شيئا إلّا أكله فأنزل اللّه الآية.

قال الأخفش: إن قيل: فأين المثل الّذي ذكره اللّه من قوله «ضُرِبَ مَثَلٌ»؟ قيل:

ليس هاهنا مثل و لمّا كان المثل في الكلام نكتة غريبة أو شباهة عجيبة جاز أن يسمّى مثل ما كان كذلك مثلا.

فإن قيل: إنّ القائل هو سبحانه ابتداء و ضرب يفيد فيما مضى فكيف التطبيق في الكلام؟

فالجواب: إذا كان ما يورد في الكلام من الوصف معلوما قبل الكلام جاز ذلك فيه و يكون ذكره بمنزلة إعادة ذكر قد تقدّم و لو لم يذكر قبل ذلك.

ص: 259

و بالجملة المعنى: إنّ اللّه قال: [ضُرِبَ] لي [مَثَلٌ] أي شبهة في الأوثان ثمّ قال:

[فَاسْتَمِعُوا] لهذا المثل الّذي جعلوه مثلي و قال بعضهم كالقتيبيّ: هاهنا مثل لأنّه سبحانه ضرب مثل هؤلاء الّذين يعبدون الأصنام بمن عبد من لا يخلق ذبابا بل الذباب يضرّه فاستمعوا له لتقفوا على جهل المشركين و معنى ضرب مثل من قولك: ضربت خيمة أي أثبتّها و نصبتها كالشي ء الثابت اللّازم من قولك: ضرب السلطان الجزية على أهل الذمّة.

و الحاصل [إنّ الّذين يدعون] هؤلاء أي الأصنام و يزعمونها أنّها آلهة [لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً] في صغره و قلّته [وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً] ممّا عليهم [لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ] أي لا يقدرون على استنقاذه من الذباب [ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ] أي السالب و المسلوب يعني الذباب و الصنم و العابد و المعبود، و روي على العكس من هذا و هو الطالب الصنم و المطلوب الذباب قال السدّيّ: الطالب العابد الّذي يعبد هذا الصنم بالتقرّب إليه و الصنم المطلوب إليه.

قوله: [ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] أي ما عظّموا اللّه حقّ عظمته حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له على ضعفها و عجزها [إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] لا يقدر أحد على مغالبة عزيز الوصف و الأوهام لا تدركه و الأفكار لا تقدّره و العقول لا تمثّله و الأزمنة لا تحويه و الجهات لا تحيطه صمديّ الذات سرمديّ الصفات.

قوله تعالى: [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا] لمّا ذكر سبحانه ما يتعلّق بالإلهيّات ذكر في هذه الآية ما يتعلّق بالنبوّات قال الوليد بن المغيرة: «أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا» (1) فأنزل اللّه هذه الآية «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» أي يختار من بعضهم رسلا إلى بني آدم و الأنبياء مثل جبرئيل و عزرائيل و إسرافيل و الحفظة و هم أكابر الملائكة و بعضهم رسلا إلى بعضهم حتّى يصحّ قوله: «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» (2).

[وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] أي و يصطفى من النّاس و البشر رسلا يعني النبيّين. و في الآية تبكيت لمن عبد الملائكة بأنّهم خدمة فمن جعل الملائكة و الأنبياء

ص: 260


1- ص: 8.
2- فاطر: 1.

أولادا فإنّه ما عظّم اللّه إذ جعل من يعبده معبودا فوبّخ سبحانه في الآية السابقة عبدة الأوثان و في هذه الآية عبدة الملائكة الّذين يقولون: الملائكة بنات اللّه.

[سورة الحج (22): آية 76]

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)

أي سميع بصير يعلم ما تقدّم من الخلائق من أحوالهم و ما هم عليه و ما يكون في مستقبل أحوالهم و حاصل المعنى: يعلم سبحانه أوّل أعمالهم و آخر أعمالهم و قيل:

يعلم ما كان قبل خلق الملائكة و الأنبياء و ما يكون بعد خلقهم [وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] يوم القيامة و لا يكون لأحد أمر و لا نهي.

[سورة الحج (22): الآيات 77 الى 78]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (78)

لمّا تكلّم في الإلهيّات ثمّ في النبوّات أتبعه الكلام في الشرائع من أربعة أوجه:

أوّلها: تعيّن المأمور و لا شكّ أنّ المكلّف كلّ المكلّفين سواء كان مؤمنا أو كان كافرا لدلالة سائر الآيات على كون الكلّ مكلّفا بهذه الأشياء فتخصيص الخطاب بالمؤمنين مع أنّ الكلّ مشترك في الحكم للتحريض لهم على المواظبة على قبوله و التشريف لهم بالتخصيص.

و الأمور الّتي ذكرها اللّه سبحانه و تعالى فقدّم الصلاة، و هو المراد من قوله:

[ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا] و الصلاة هي المختصّة بهذين الركنين فكان ذكرهما جاريا مجرى الصلاة قال ابن عبّاس: كان الناس في أوّل إسلامهم كانوا يركعون و لا يسجدون حتّى نزلت الآية.

ثمّ قال: [وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ] و لا تعبدوا غيره و لا تشركوا به في العبادة شيئا [وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ] قال ابن عبّاس: يريد به صلة الرحم و وجوه البرّ و مكارم الأخلاق و يدخل فيه كلّ معروف مثل الصدقة و حسن القول للنّاس [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] و تظفرون بنعيم الآخرة.

ص: 261

[وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ] و حملوا الجهاد في الآية على إتيان أعمال الطاعة و قال المفسّرون: حقّ الجهاد أن يكون بنيّة صادقة خالصة و أن يطاع فلا يعصى و قيل:

معناه: جاهدوا بالسيف من كفر باللّه و إن كانوا الآباء و الأبناء. و روي عن عبد اللّه بن المبارك أنّه مجاهدة الهوى و النفس.

قوله: [هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] اصطفاكم ربّكم لدينه و ما جعل عليكم في الدين من ضيق لا مخرج منه و لا مخلص من عذابه و عقابه بل جعل التوبة و الكفّارات و ردّ المظالم مخلصا من الذنوب فليس في دين الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من العقاب به فلا عذر لأحد في ترك الاستعداد للقيامة.

و قيل: معناه: إنّ اللّه لم يضيّق عليكم أمر الدين فلن يكلّفكم ما لا تطيقون بل كلّف دون الوسع فلا عذر لكم في تركه.

و قيل: إنّه يعني الرخص عند الضرورات كالقصر و التيمّم و أكل الميتة و أمثالها و الحرج في الحديث معناه الضيق فالحاصل من معنى الحرج هو الإتيان بالرخص مثلا كمن لم يقدر أن يصلّي قائما فليصلّ جالسا و من لم يستطع فليؤم و الإفطار للمريض فإنّه سبحانه لم يبتلي العبد بشي ء من الذنوب إلّا و جعل له مخرجا منها إمّا بالتوبة أو بالكفّارة.

و في الحديث عن طرق العامّة من جاءته رخصة فرغب عنها كلّف يوم القيامة أن يحمل تنّين حتّى يقضى بين الناس. و أيضا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا اجتمع أمران فأحبّهما إلى اللّه أيسرهما.

و عن كعب الأحبار: أعطى اللّه هذه الامّة ثلاثا لم يعطهنّ إلّا للأنبياء، جعلهم شهداء على الناس و ما جعل عليهم في الدين من حرج و قال: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (1).

قوله: [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ] و في نصب «ملّة» و جهان أي وسّع لكم دينكم توسعة ملّة إبراهيم و أقام المضاف إليه مقام المضاف أو بتقدير أعني ملّة أبيكم و لأجل أنّ أكثرهم كالرسول و رهطه و جميع العرب من ولد إبراهيم أضاف إليهم أو جعل حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على ولده كما أنّه تعالى قال:

ص: 262


1- المؤمن: 60.

«النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (1) و جعله أولى من أنفسهم و جعل حرمة نسائه كحرمة الوالدة على ما قال: «وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» (2).

فإن قيل: إنّ هذا البيان يقتضي أن تكون ملّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كملّة إبراهيم عليه السّلام فيكون الرسول معه سواء و ليس له شرع مخصوص و يؤكّده قوله تعالى: «أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» (3).

فالجواب أنّ التساوي في الإلهيّات حاصل لعبادة اللّه و ترك الأوثان و أمّا تفاصيل الشرائع فلا تعلّق لها بهذا الموضع.

قوله: [هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ] الضمير راجع إلى إبراهيم عليه السّلام فإنّ لكلّ نبيّ دعوة مستجابة و هو قول إبراهيم عليه السّلام: «رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» (4) فاستجاب اللّه دعاءه فجعلها امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: الضمير راجع إلى اللّه في قوله: «اجْتَباكُمْ» فروي عن عطا عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ اللّه سمّاكم المسلمين من قبل في الكتب و في القرآن أي من قبل إنزال القرآن.

[وَ فِي هذا] أي و في القرآن [لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ] أي ليكون محمّد شاهدا عليكم بالطاعة و القبول فإذا شهد لكم به صرتم عدولا و تشهدون على الأمم الماضية بأنّ الرسل بلّغوهم رسالات ربّهم و أنّهم قبلوا أولم يقبلوا فيوجب لكافرهم النار و لمؤمنهم الجنّة بشهادتكم و هذا من أشرف المراتب و هو مثل قوله:

«وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» (5) و لمّا شرّفكم بهذا التشريف العظيم و سمّاكم بهذا الاسم المبارك فاعبدوه و لا تردّوا تكاليفه لأنّ الكرامة و المنّة موجبة لقبول التكليف.

[فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ] هما فريضتان واجبتان عليكم فأدّوهما إلى اللّه، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لا تقبل الصلاة إلّا بأداء الزكاة. [وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ] و تمسّكوا بدين اللّه و امتنعوا بطاعته عن معصيته و اجعلوها عصمة لكم من أعدائكم و توكّلوا عليه

ص: 263


1- الأحزاب: 6.
2- الأحزاب: 6.
3- النحل: 123.
4- البقرة: 128.
5- البقرة: 143.

[هُوَ مَوْلاكُمْ] و ناصركم و المتولّي لأموركم [فَنِعْمَ الْمَوْلى] هو لمن تولّاه [وَ نِعْمَ النَّصِيرُ] لمن استنصره إذ لم يمنعكم الرزق حين عصيتموه.

اعلم أنّ المعتزلة احتجّوا بهذه الآيات على أهل السنّة من وجوه:

أحدها أنّ قوله تعالى: «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» يدلّ على أنّه سبحانه أراد الإيمان من الكلّ لأنه لا يجعل الشهيد على العباد إلّا من كان مرضيّا عدلا فإذا أراد أن تكونوا شهداء فقد أراد أن تكونوا جميعا صالحين عدولا و قد علمنا أنّ منهم فاسقا فدلّ على أنّه تعالى أراد من الفاسق كونه عدلا.

و الثاني قوله: «وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» و كيف يمكن الاعتصام به و إنّ الشرّ لا يوجد إلّا منه؟

و الثالث قوله «فَنِعْمَ الْمَوْلى» لأنّه لو كان كما يقوله أهل السنّة من أنّه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر و الفساد ثمّ يعذّبهم لما كان نعم المولى بل كان لا يوجد من شرار الموالي أحد إلّا و هو شرّ منه فكان يجب أن يوصف بأنّه بئس المولى و ذلك باطل فدلّ على أنّه سبحانه ما أراد من جميعهم إلّا الصلاح تمّت السورة

ص: 264

سورة المؤمنون

اشارة

(مائة و ثمانية عشر آية مكية) فضلها: ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة المؤمنين بشّرته الملائكة يوم القيامة بالروح و الريحان و بما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من قرأ سورة المؤمنين ختم اللّه له بالسعاده إذا كان يدمن على قراءتها في كلّ جمعة و كان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيّين و المرسلين.

تفسيرها: ختم اللّه سورة الحجّ بأمر المكلّفين في العبادة و أفعال الخير على طريق الإجمال افتتح هذه السورة بتفصيل تلك الجملة و بيانها فابتدأ سبحانه بالبشارة للمتّبعين بأوامره و الطاعات و فاعلي الخيرات بقوله:

ص: 265

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المؤمنون (23): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)

أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)

المعنى: فاز بثواب اللّه الّذين صدقوا بوحدانيّة اللّه و برسله، و قيل: معنى «أفلح» بقي أي قد بقيت أعمالهم الصالحة. و قيل: سعد المؤمنون. و كلمة «قد» تكون لتقريب الماضي من الحال في الآية؛ أ لا ترى يقولون: قد قامت الصلاة قبل حال قيام الصلاة، أو معناه التحقيقيّ.

ثمّ وصف المؤمنين بصفات فقال: [الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ] خاضعون متذلّلون لا يرفعون أبصارهم من مواضع سجودهم و لا يلتفتون يمينا و شمالا، روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه فالخشوع في الصلاة لا بدّ و أن يكون بالقلب و الجوارح فأمّا القلب هو أن يفرغ قلبه المصلّي بجمع الهمّة و الرهبة و التوجّه لها و الإعراض عمّا سواها فلا يكون في القلب غير العبادة و المعبود و أمّا الجوارح فهو غضّ البصر و الإقبال عليها و ترك الالتفات و سكون البدن حتّى قيل في معنى الخشوع: أن لا يعرف من على يمينه و لا من على يساره. و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته فلمّا نزلت الآية طأطأ رأسه و رمى ببصره إلى الأرض.

و هاهنا مسألة قال الرازيّ: فإن قيل: إنّ الخشوع بهذا المعنى واجب في

ص: 266

الصلاة أم لا؟ قلنا: إنّه عندنا واجب و يدلّ عليه امور:

أحدها قوله تعالى «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» (1) و التدبّر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى و كذا قوله تعالى: «وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» (2) معناه قف على عجائبه و معانيه.

و ثانيها «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» (3) و ظاهر الأمر للوجوب و الغفلة تضادّ الذكر فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيما للصلاة لذكره.

و ثالثها «وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ» (4) و ظاهر النهي للتحريم.

و رابعها قوله: «حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» (5) تعليل لنهي السكران و هو المستعمل في الغافل المستغرق المهتمّ بالدنيا.

و خامسها قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّما الخشوع لمن تمسكن و تواضع، و كلمة «إنّما» للحصر و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من اللّه إلّا بعدا، و صلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كم من قائم حظّه من قيامه التعب و النصب. و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ليس للعبد من صلاته إلّا ما عقل.

و سادسها قال الغزاليّ: المصلّي يناجي ربّه كما ورد به الخبر و الكلام مع الغفلة ليس بمناجاة و بيانه أنّ الإنسان إذا أدّى الزكاة حال الغفلة فقد حصل المقصود منها و هو كسر الحرص و إغناء الفقر و كذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى الّتي هي عدوّة اللّه و يحصل هذه الأمور المقصودة من الصوم مع الغفلة سواء كان القلب حاضرا أو لم يكن و أمّا الصلاة فليس فيها إلّا ذكر و قراءة و ركوع و سجود و قيام و قعود.

أمّا الذكر فإنّه مناجاة مع اللّه فإمّا أن يكون المقصود منه مناجاة أو المقصود مجرّد الحروف و الأصوات و لا شكّ في فساد هذا القسم فإنّ تحريك اللسان بالهذيان ليس فيه غرض صحيح فثبت أنّ المقصود المناجاة مع اللّه بهذه الكيفيّة الواردة و ذلك لا يتحقّق إلّا إذا كان اللسان معبّرا عمّا في الضمير و القلب من التضرّعات فأيّ سؤال في قوله:

ص: 267


1- محمد: 24.
2- المزمل: 4.
3- طه: 14.
4- الأعراف: 204.
5- النساء: 42.

«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» و كان القلب غافلا عنه؟

بل يمكن أن يقال: إنّه إذا كان القلب محجوبا بحجاب الغفلة و كان غافلا عن جلال اللّه و لسانه يتحرّك بحكم العادة ما أبعدها عن القبول كما لو حلف إنسان و قال:

و اللّه لأشكرنّ فلانا و أسأله حاجة ثمّ جرت الألفاظ الدالّة على هذه المعاني على لسانه و ذلك الإنسان الفلانيّ حاضر إلا أنّ المتكلّم غافل لكونه مستغرق الهمّ بفكر من الأفكار و لم يكن له قصد بتوجيه عليه عند نطقه لم يصر بارّا في يمينه.

و كذلك لا شكّ أنّ المقصود من القراءة و الأذكار الحمد و الثناء و الدعاء و المخاطب هو اللّه و المتكلّم غافل و ذاهل عن نطقه فحينئذ وقع الكلام من غير قصد و أنّ الركوع و السجود المقصود منهما التعظيم للّه تعالى و إذا لم يحصل التعظيم بسبب عدم القصد و يكون مجرّد حركة الظهر و الرأس و هذا لا يوجب أن يكون عماد الدين و فاصلا بين الكفر و الإيمان و يقدّم على الحجّ و الزكاة و الجهاد و سائر الطاعات الشاقّة و يجب بسبب تركه القتل على الخصوص بكلّ عاقل يقطع بأنّ مشاهدة الخواصّ العظيمة ليس مجرّد أعمالها الظاهرة إلا أن يضاف إليها مقصود هذه المناجاة فدلّت هذه الاعتبارات على أنّ الصلاة لا بدّ فيها من الحضور.

ثمّ هاهنا بيان آخر و هو أنّه ما ذكرنا من شرط الخضوع على خلاف إجماع الفقهاء و لا ينافي هذا البيان مع إجماعهم لأنّ الحضور ليس شرطا للإجزاء بلى شرط للقبول و المراد من الإجزاء أن لا يجب القضاء على من ليس له حضور و المراد من القبول حكم الثواب و الأثر و هذا لا يحصل إلّا بشرائط ما ذكرنا و الفقهاء إنّما يبحثون من حكم الإجزاء لا عن حكم الثواب و غرضنا في هذا المقام بيان هذا الأمر.

مثاله: من استعار منك ثوبا ثمّ ردّه على الوجه الأحسن فقد خرج عن العهدة و استحقّ المدح و من رماه إليك على وجه الاستخفاف خرج عن العهدة و لكنّه استحقّ الذمّ كذلك من عظّم اللّه حال أدائه العبادة صار مقيما للفرض مستحقّا للثواب و من غفل عن التعظيم و استهان بها في كمالها صار مقيما للفرض لكنّه استحقّ الذمّ.

و أمّا المتكلّمون فقد اتّفقوا على أنّه لا بدّ من الحضور و الخشوع و قالوا: إنّ

ص: 268

القصد منوع و المراد من القصد إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال و هذه الداعية لا يمكن حصولها إلّا عند الحضور فلهذا اتّفقوا على أنّه لا بدّ من الحضور.

أمّا الفقهاء فقد ذكر الفقيه أبو الليث في تنبيه الغافلين أنّ تمام القراءة أن يقرأ بغير لحن و أن يقرأ بالتفكّر و أمّا الغزاليّ فإنّه نقل عن أبي طالب المكّيّ عن بشر الحافي أنّه قال: من لم يخشع فسدت صلاته و عن الحسن: كلّ صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع، و روي مسندا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ العبد ليصلّي الصلاة لا يكتب له سدسها و لا عشرها و إنّما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها و قال عبد الواحد ابن زيد: أجمعت العلماء على أنّه ليس للعبد من صلاته إلّا ما عقل و ادّعى الإجماع في المسألة.

قال الرازيّ: إذا ثبت هذا فنقول: هب إنّ الفقهاء بأسرهم حكموا بالجواز أليس المتكلّمون و أهل الورع ضيّقوا الأمر فهلّا أخذت بالاحتياط فإنّ بعض العلماء من أهل السنّة اختار الإمامة فقيل له في ذلك فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعيّ و إن قرأتها مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة فاخترت الإمامة طلبا للخلاص عن الاختلاف. انتهى كلام الرازيّ.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ] و اختلف في معنى اللغو اختلافا كثيرا: قيل: يدخل فيه ما كان حراما أو مكروها أو كان مباحا و لكن لا يكون للمرء إليه حاجة و قيل: إنّه عبارة عن كلّ ما كان حراما فقط و القائل بهذا ابن عبّاس و قيل:

إنّه عبارة عن المعصية في القول و الكلام خاصّة و قيل: إنّه المباح الّذي لا حاجة إليه.

و احتجّ هذا القائل بقوله تعالى: «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ»* (1) فكيف يحمل ذلك على المعاصي الّتي لا بدّ فيها من المؤاخذة. و احتجّ الأوّلون بأنّ اللغو إنّما سمّي لغوا بسبب أنّه يلغى و كلّ ما اقتضى الشرع إلغاءه كالحرام كان أولى باسم اللغو فكلّ حرام لغو و حينئذ قد يكون اللغو كفرا لقوله تعالى:

ص: 269


1- النحل: 61.

«لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ» (1) و قد يكون كذبا لقوله: «لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» (2) و قوله:

«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً» (3).

و بالجملة فكلّ قول و فعل لا فائدة شرعيّة فيها قبيح ممنوع يجب الإعراض عنه.

و روي عن الصادق عليه السّلام قال: هو أن يتقوّل الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه للّه و في رواية أنّه الغناء و الملاهي.

الصفة الرابعة قوله: [وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ] أي مؤدّون فعبّر عن التأدية بالفعل لأنّه فعل. قال صاحب الكشّاف: اسم مشترك بين عين و معنى فالعين القدر الّذي يخرجه المزكّي من النصاب إلى الفقير و المعنى فعل المزكّي الّذي هو التزكية و هو الّذي أراده اللّه فجعل المزكّين فاعلين له و المصدر يعبّر عن معناه بالفعل و يقال لمحدثه فاعل يقال للضارب فاعل الضرب و للقاتل فاعل القتل و للمزكّي فاعل الزكاة.

و الحاصل أنّ في الزكاة قولان: أحدهما أنّ فعل الزكاة يقع على كلّ فعل محمود و مرضيّ كقوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» (4) و قوله «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» (5) و على هذا المعنى فمن جملته ما يخرج من حقّ المال و إنّما سمّي بذلك لأنّها تطهر من الذنوب لقوله تعالى:

«تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها» (6) و هو قول أبي مسلم و جماعة.

و قال الأكثرون: إنّه الحقّ الواجب في الأموال خاصّة و المراد في الآية هذا الأمر و هذا هو الأقرب لأنّ المتبادر من هذه اللفظة هذا المعنى و التبادر علامة الحقيقة.

فإن قيل: إنّ اللّه لم يفصل بين الصلاة و الزكاة فلم فصّل في هذه الآية بينهما بقوله «وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ»؟

و الجواب أنّه ما فصّل أيضا في هذه الآية لأنّ الإعراض عن اللغو من متمّمات الصلاة.

الصفة الخامسة قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ]

ص: 270


1- حم السجدة: 46.
2- الغاشية: 11.
3- الواقعة: 25.
4- الأعلى: 14.
5- النجم: 32.
6- التوبة: 109.

[أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ] الفرج؟؟ اسم لجميع سوأة الرجال و النساء و المراد هاهنا فروج الرجال بدلالة قوله: «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» المعنى: أنّهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم و ممنوعين و أمروا بحفظه إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم و دلّ على المحذوف ذكر اللوم في قوله فإنّهم غير ملومين و ملك اليمين المراد الإماء لأنّ الذكور من المماليك لا خلاف بين الامّة في وجوب حفظ الفرج منهم.

و إنّما أطلق سبحانه إباحة وطء الأزواج و الإماء و إن كانت لهنّ أحوال يحرم وطؤهنّ كحال الحيض و العدّة و أمثالها لأنّ الغرض بالآية بيان جنس من يحلّ وطئها دون الأحوال الّتى لا يحلّ فيها الوطء.

[فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ] أي طلب سوى الأزواج و الإماء المملوكة [فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ] الظالمون المتعدّون إلى ما لا يحلّ لهم و قال: «عَلى أَزْواجِهِمْ» و المعنى من أزواجهم لأنّهم قوّامون عليهنّ كما يقال: فلان على البصرة، أي واليا عليها و هلّا قيل:

«من ملكت» و الموضع موضع من؟ لأنّه اجتمع في التنزيه و صفان الأنوثة و هي مظنّة نقصان العقل و الآخر كونها تباع و تشترى كسائر السلع و الجمادات الغير العاقلة فجعلت في عداد من لا يعقل.

القميّ: المتعة حدّها حدّ الإماء و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن المتعة فقال: حلال فلا تزوّج إلّا عفيفة إنّ اللّه يقول: «وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» و عنه عليه السّلام تحلّ الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث و نكاح بلا ميراث و نكاح ملك يمين و عن أبيه عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه أحلّ لكم الفروج على ثلاثة معان: فرج مورّث و الثبات و فرج غير مورّث و هي المتعة و ملك أيمانكم.

الصفة السادسة: [وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ] الشي ء المؤمن عليه و المعاهد عليه أمانة و عهد و منه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» (1) و إنّما تؤدّي العيون دون المعاني و المؤتمن عليه الأمانة في نفسها و العهد ما عقده على نفسه فيما يقرّبه إلى ربّه و العبادات كلّ مكلّف مؤتمن عليها و لا يجوز

ص: 271


1- النساء: 57.

الخيانة فيها و داخلة في عنوان الأمانات قال اللّه تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ» (1) و إنّ العبادات إمّا أن تخفى أصلا كالصوم و غسل الجنابة و إسباغ الوضوء أو تخفى كيفيّة إتيان شروطها قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعظم النّاس خيانة من لم يتمّ صلاته.

و الأمانات ضربان: أمانات اللّه تعالى و أمانات العباد فأمانات اللّه العبادات كالصلاة و الصيام، و أمانات العباد مثل الودائع و العواري و البياعات و الشهادات و غيرها.

و العهد أيضا على ضربين: عهد بين اللّه و عهد بين الخلق فالأوّل مثل النذور و العهود المأخوذ منه في التكليف من أوامر اللّه و عهود بين الخلق مثل العقود الجارية في الخلق مثل البيع و الصلح و أمثاله فيجب على الإنسان الوفاء بجميع ضروب الأمانات و جميع ضروب العهود المشروعة.

الصفة السابعة: [وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ] أي يقيمونها في أوقاتها و لا يضيّعونها و إنّما أعاد ذكر الصلاة تنبيها على عظم قدرها و علوّ رتبتها و لأنّ المحافظة التعهّد لشروطها المجموعة و الخشوع غير المحافظة و المراد من المحافظة التعهّد لشروط الصلاة من الأوقات و الأركان و الطهارة و أمثالها.

قيل: و كان في القرن الأوّل سحرا و بعد الفجر الطرقات مملوءة من النّاس يمشون في السرج إلى الجامع خصوصا ليلة الجمعة حتّى اندرس ذلك و أوّل ضعف وقع في عبادات النّاس في الإسلام ترك البكور في المساجد.

[أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ] أي إنّ من كانوا بهذه الصفات و اجتمعت فيهم هذه الخصال هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار من الجنّة روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: ما منكم من أحد إلّا له منزلان: منزل في الجنّة و منزل في النار فإن مات و دخل النار ورث أهل الجنّة منزله.

و قيل: معنى الميراث أنّه ينتهي أمورهم إلى الجنّة كالميراث الّذي يستحقّ الوارث إليه و لأنّ انتقال الجنّة إليهم بدون محاسبة و معرفة بمقاديره يشبه انتقال المال

ص: 272


1- الأنفال: 27.

إلى الوارث أو لأنّ الجنّة كانت مسكن أبينا آدم فإذا انتقلت بسبب الطاعة إلى أولاده صار ذلك شبيها بالميراث، و الفردوس مقصورة الرحمن و أعلى الجنان و إنّ أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لمّا خلق اللّه جنّة عدن قال لها: تكلّمي فقالت: قد أفلح المؤمنون. قال كعب الأحبار: خلق اللّه آدم بيده و كتب التوراة بيده و غرس شجرة طوبى بيده ثمّ قال لها: تكلّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا أحسن العبد الوضوء و صلّى الصلاة لوقتها و حافظ على ركوعها و سجودها و مواقيتها قالت: حفظك اللّه كما حافظت عليّ و شفعت لصاحبها و إذا أضاعها قالت: أضاعك اللّه كما ضيّعتني و تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها.

و يمكن أن يكون المراد من كلام الجنّة أنّها اعدّت للمؤمنين فصار ذلك الاستعداد كالقول منها و هو كقوله: «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (1) و أمّا أنّه تعالى خلق الجنّة بيده فالمراد تولّي خلقها لا أنّه وكّله إلى غيره و أمّا أنّ الصلاة تثني على صاحبها الّذي قام بحقّها كقول القائل: إحسانك إليّ ينطق بالشكر، و الفردوس مؤنّث باعتبار الجنّة و لذا قال:

[هُمْ فِيها خالِدُونَ] مؤبّدون.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 12 الى 19]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (19)

لمّا أمر الناس بعبادته عرّف نفسه لهم بالوحدانيّة و الخالقيّة لأنّ العبادة لا تصحّ

ص: 273


1- فصلت: 11.

إلّا بعد المعرفة فذكر من الدلائل أنواعا فاستدلّ بتقلّب الإنسان في أدوار الخلقة و أكوان الفطرة.

المرتبة الاولى قوله: [وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ] و السلالة فعالة و هو بناء يدلّ على القلّة كالقلامة و القمامة من السلّ اسم لما يسلّ من الشي ء لأنّ آدم سلّ من الطين و أديم الأرض أو سلّ أولاده من الأصلاب فسلّ آدم من طين و أولاده من ماء مهين و الإنسان شامل لآدم و ولده و هذا المعنى مطابق لقوله تعالى: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ طين* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ من سلالة- و خلاصة- مِنْ ماءٍ مَهِينٍ»* (1).

و يمكن أن يحمل أنّ أولاده أيضا خلقوا أصلا من طين أيضا و هو أنّ الإنسان إنّما يتولّد من النطفة و هي تتولّد من فضل الهضم و ذلك إنّما يتولّد من الأغذية و هي إمّا حيوانيّة كاللحوم أو نباتيّة كالبقول و هي تتولّد من الأرض و الماء ثمّ إنّ تلك السلالة بعد أن تواردت على أطوار الخلقة صارت منيّا ثمّ إلى أن يصير إنسانا فهذه مرتبة الاولى من مراتب الإنسانيّة.

المرتبة الثانية قوله: [ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ] أي جعل و خلق جوهر الإنسان الّذي كان نطفة و ماء قليلا و كان منيّا في الأصلاب قذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة فصار الرحم قرارا مكينا لهذه النطفة و صار موضع القرار و المستقرّ لها.

المرتبة الثالثة: [ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً] أي حوّلنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة و صورة العلقة و هي الدم الجامد.

المرتبة الرابعة: [فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً] أي جعلنا ذلك الدم الجامد قطعة لحم كأنّها مقدار ما يمضغ كاللقمة مقدار ما يلتقم و سمّي التحويل خلقا لأنّه تعالى يفني بعض أعراضها و يخلق أعراضا غيرها و يخلق فيها أجزاء زائدة على الأوّل.

المرتبة الخامسة قوله: [فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً] أي صيّرناها عظما.

المرتبة السادسة: [فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً] و ذلك لأنّ اللحم للعظم كالكساء يستره.

المرتبة السابعة: [ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ] أي نفخنا فيه الروح غير خلق الأوّل

ص: 274


1- السجدة: 8.

لما فيه من المباءنة فجعله حيوانا و كان جمادا و ناطقا و كان أبكم و سميعا و كان أصمّ و بصيرا و كان أكمه و و أودع كلّ جزء من أجزائه غرائب حكمته و عجائب صنعه لا يحيط بها وصف الواصفين و تصريف اللّه إيّاه من قبل الولاد إلى أن يموت حاصل للإنسان.

و في الآية دلالة على بطلان قول من يعتقد أنّ الإنسان هو الروح لا البدن كالنظام و على بطلان قول الفلاسفة الّذين يقولون: إنّ الإنسان شي ء لا ينقسم و أنّه ليس بجسم.

قوله: [فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ] و البركة معناه الدوام و الثبوت مأخوذ من بروك الإبل و معناه أنّ العلوّ و الدوام و الثبوت منه و له خاصّة بالذات و هو أحسن المقدّرين و الخلق في اللغة كلّ فعل وجد من فاعله مقدّرا على سبيل الإرادة لا على سبيل السهو و الغفلة و العباد قد يفعلونه.

قالت المعتزلة: لو لا أنّ غير اللّه قد يكون خالقا لفعله إذا قدّره لما جاز القول بأنّه أحسن الخالقين كما لو لم يكن في عباده من يحكم و يرحم لم يجز أن يقال فيه: أحكم الحاكمين، و أرحم الراحمين.

قال بعض العلماء: هذه الآية و إن دلّت على أنّ العبد خالق إلّا أنّ اسم الخالق لا يطلق على العبد إلّا مع القيد و الإضافة كما أنّه يجوز أن يقال: ربّ الدار، و لا يجوز أن يقال: ربّ، بلا إضافة. و قيل: معنى: «أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» في اعتقادكم في ظنّكم و اعتقادكم.

قالت المعتزلة: الآية تدلّ على أن كلّ ما خلقه حسن و حكمة و صواب و إلّا لما جاز وصفه بأنّه أحسن الخالقين و إذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقا للكفر و المعصية فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما انتهى.

المرتبة الثامنة: [ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ] و قرئ «لمائتون» و الفرق أنّ «ميّت» صفة ثابتة و «المائت» يدلّ على التجدّد و الحدوث تقول: زيد ميّت الآن و مائت غدا.

المرتبة التاسعة [ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ] فاللّه سبحانه جعل الإماتة و إعدام الحياة و جعل البعث و إعادة ما يفنيه دليلين عظيمين في القدرة و الغرض من هذا البيان

ص: 275

الإنشاء و الإماتة و الإعادة و لم يذكر في الآية ما يحصل من الإعادة لأنّه داخل في الإعادة.

قوله تعالى: [وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ] هذا نوع آخر من الدلائل على القدرة الكاملة فقوله «سَبْعَ طَرائِقَ» أي سبع سماوات كلّ سماء طريقة و سمّيت بذلك لتطارقها و وضع بعضها فوق بعض أو أنّها طرائق الملائكة و كلّ طبقة طريقة و ما بين كلّ طريقين و سماءين مسيرة خمسمائة عام و كذلك ما بين السماء و الأرض.

[وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ] إذ بنينا فوقهم سبع سماوات و عالمين بأعمالهم و أحوالهم.

و في الآية زجر عن السيّئات و ترغيب في الطاعات و بيان إنعامه علينا بخلق السماوات حيث جعلها موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها و جعلها مقرّا للملائكة و هم يدبّرون أمورنا و لأنّها موضع الثواب لأعمالنا و مكان إنزال الوحي، و البركات و الأرزاق منها تنزل إلينا.

ثمّ في الآية دلالة على فساد القول بالطبيعة فإنّ شيئا من تلك الصفات لو حصل بالطبيعة من غير قاهر على الطبيعة لوجب بقاؤها و عدم تغييرها و لو قلت: إنّما تغيّرت تلك الصفات لتغيّر تلك الطبيعة فافتقرت تلك الطبيعة إلى خالق و موجد.

و بالجملة فبعد ذكر النوع الأوّل من الاستدلال و هو كيفيّة خلق الإنسان و النوع الثاني من الاستدلال و هو كيفيّة خلق السماوات، ذكر سبحانه النوع الثالث من الاستدلال بذكر قوله:

[وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ] اعلم أنّ الماء في نفسه نعمة فذكره اللّه أوّلا و هو موجب للنعم الكثيرة فقال: و أنزلنا من السماء مطرا و اختلفوا في السماء فقال الأكثرون: المراد من السماء في الحقيقة السماء و يؤيّده «وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ» (1) و قال بعض المنطبعين: المراد من السماء السحب لعلوّه قالوا: إنّ

ص: 276


1- الذاريات: 22.

اللّه أصعد الأجزاء من قعر الأرض و من البحار إلى السماء و صارت بسبب ذلك التصعيد عذبة صافية ثمّ إنّ تلك الذرّات تأتلف و تتكوّن فينزلها اللّه على قدر الحاجة و لو لا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرّقها في قعر الأرض و لا بماء البحار لملوحته و لأنّه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض لأنّ البحار هي الغاية في العمق و لكنّ هذه الوجوه إنّما يتحمّلها من ينكر الفاعل المختار و أمّا من أقرّ به فلا حاجة به إلى شي ء منها.

قوله: «بقدر» أي بتقدير يسلمون معه من المضرّة و يصلون به إلى المنفعة في الزرع و الغرس و الشرب و بمقدار ما علمنا من حاجاتهم و مصالحهم.

قوله: «فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ» أي جعلنا له الأرض مسكنا و أثبتناه في الأرض و جمعناه في الأرض ينتفع به من له الحاجة يريد به ما في المستنقعات و عن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ اللّه أنزل من الجنّة خمسة أنهار: سيحون و هو نهر الهند، و جيحون و هو نهر بلخ، و دجلة و الفرات و هما نهرا العراق، و النيل و هو نهر مصر؛ أنزل اللّه من عين واحدة و أجراها في الأرض و جعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم و ذلك قوله: «وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ» الآية.

قوله: [وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ] أي نحن على إذهابه قادرون و لو فعلناه لهلك جميع الحيوانات و في تنكير «ذهاب» إشارة إلى كثرة طرقه و مبالغة في الإيعاد به.

قوله: [فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ] و أحدثنا لنفعكم بسبب الماء يا معشر الخلائق بساتين من النخيل و الكروم و إنّما خصّ النخيل و الأعناب لأنّها ثمار الحجاز من المدينة و الطائف فذكّرهم بالنعم الّتي عرفوها و لكثرة منافع هذين النوعين للنّاس فإنّها يقومان مقام الطعام و الإدام و مقام الفواكه رطبا و يابسا.

قوله: [لَكُمْ فِيها فَواكِهُ] لكم في الجنّات من أصناف الفواكه أي وجوه أرزاقكم في هذه الجنّات و أكلكم و معاشكم منها.

قوله: [سورة المؤمنون (23): الآيات 20 الى 25]

وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)

إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)

ص: 277

و أنشأنا لكم [شَجَرَةً تَخْرُجُ] الشجرة بسبب الماء أي شجرة الزيتون و خصّت بالذكر لما فيها من العبرة بأنّه لا يتعاهدها إنسان بالسقي مع هذا هي عظيم المنفعة بسبب الدهن الحاصل منها و سيناء و سينين واحد اسم للجبل قيل: هو جبل فلسطين و قيل: بين مصر و أيلة و منه نودي موسى عليه السّلام.

قوله: [تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ] أي تنبت ثمرها بالدهن و فيها الدهن كما يقال: ركب الأمير بجنده أي و معه الجند و حاصل المعنى: ينبت زيتونها و فيها الزيت قال المفسّرون:

و إنّما أضاف اللّه سبحانه هذه الشجرة إلى طور سيناء لأنّ منها تشعّبت في البلاد و انتشرت و معظمها كان هناك.

[وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ] أي أدام للآكلين لأنّه يؤتدم به و الخبز يصبغ و يتلوّن بالإدام الخبز إذا غمسته باللبن فلا بدّ و أن ينصبغ كذلك ينصبغ بالزيت و الاصطباغ بالزيت الغمس فيه للائتدام يجعل اللّه في هذه الشجرة أداما و دهنا و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا به و ادّهنوا.

قوله: [وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً] أي دلالة تستدلّون بها على قدرة اللّه [نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها] و قرئ تسقيكم- بالتاء- أي تسقيكم الأنعام من الألبان الّتي تخرج من بطونها إلى ضروعها شرابا طيّبا حليبا لذيذا [وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ] من بيعها و الانتفاع بأثمانها و لحومها و ركوبها و حمولتها و ما يجري منها من المنافع العظيمة [وَ مِنْها تَأْكُلُونَ] بعد الذبح و بالجملة لكم منها وجوه المنافع قبل الذبح و بعد الذبح و هذه وجوه إنعامه سبحانه لكم لكي تشكروا و تستدلّوا بقدرته.

[وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ] و وجه الانتفاع بالإبل في المحمولات على الحيوان بمنزلة الانتفاع بالفلك على البحر فجمع بين الحملين من البرّ و البحر و الإنعامين من الإبل و الفلك و لذا قيل: الإبل سفائن البرّ و هذا كقوله: «وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ» (1).

ص: 278


1- الإسراء: 70.

و لمّا كان البيان في ذكر شمول نعمته على الخلق أتبعه بذكر عمدة أنعامه عليهم بإرسال السل فقال: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ] و من الأنبياء المرسلين نوح عليه السّلام و هو آدم الثاني لأنّ الناس بعد الغرق من أولاده و إنّما سمّي نوحا لنوحه و كثرة بكائه على نفسه و كان سبب نوحه أنّه كان يدعو على قومه بالهلاك و قيل: السبب مراجعة ربّه في شأن ابنه للغرق و قيل. مرّ بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح! فعوتب على ذلك فقال اللّه له: أ عيّبتني إذ خلقته أم عيّبت الكلب. و هذه الوجوه على فرض كون الأعلام تفيد صفة في المسمّى و المحقّقون لم يثبتوا هذه الإفادة و قالوا: إنّ الأعلام لا تفيد صفة في المسمّيات.

و بعد إرسال نوح إلى قومه [فَقالَ يا قَوْمِ] وحّدوا اللّه و أطيعوه [ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ] عذاب اللّه في ترك الإيمان و عبادة غيره لأنّ العبادة تحسن لمن أنعم بالخلق و الإيجاد فكيف يعبد ما لا يضرّ و لا ينفع؟

[فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ] و امّته أي الأشراف الكفرة من قومه أوردوا شبهات لتكذيب نوح:

الشبهة الاولى قولهم: [ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ] أي إنّه مساو لسائر الناس في البشريّة و الفهم و الغنى و الفقر و الصحّة و المرض و هذا يمتنع أن يكون رسولا و هو مشارك لكم في جميع الأمور و لكنّه أحبّ الرياسة و المتبوعيّة فلم يجد إليها سبيلا فادّعى النبوّة فبهذه الشبهة قدحوا في نبوّته و يؤيّد هذا المعنى بعده قوله تعالى: [يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ] و يترأّس و يطلب الفضيلة عليكم.

الشبهة الثانية قولهم: [وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً] أي إنّ اللّه لو شاء إرسال الرسول و إرشاد الخلق و لا يعبد غيره لوجب أن يسلك الطريق الّذي أقرب إلى المقصود و معلوم أن بعثة الملائكة أشدّ إفضاء من المقصود من بعثة البشر لعلوّ شأن الملائكة و شدّة سطوتهم و كثرة علومهم فالخلق ينقادون إليهم و لا يشكّون في رسالتهم فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنّه ما أرسل رسولا البتّة.

الشبهة الثالثة: [ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ] أي ما سمعنا بهذا الكلام

ص: 279

الّذي يقوله نوح من آبائنا القديمة لأنّهم كانوا لا يعولون في شي ء من المذهب إلّا على التقليد و الرجوع إلى قول الآباء، فلمّا لم يجدوا في نبوّة نوح هذه الطريقة حكموا بفسادها، و يمكن أن يكون زمانهم زمان فترة أو ما كانوا سامعين إلى عبادة اللّه وحده لأنّهم كانوا على عبادة الأصنام.

الشبهة الرابعة: [إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ] و الجنّة الجنون أو الجنّ فإنّ جهّال الناس يقولون في المجنون أصابه الجنّ و زال عقله بعمل الجنّ و هذه الشبهة من باب التمويه على العوامّ و الضعفاء لأنّه كان عليه السّلام يفعل أمورا في العبادة على خلاف عاداتهم فنسبوا إليه الجنون و من كان مجنونا فكيف يكون رسولا؟

الشبهة الخامسة قولهم: [فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ] أي انتظروا إلى زمان حتّى يظهر عاقبة أمره فإن أفاق و إلّا قتلتموه أو المعنى قالوا للعوامّ: اصبروا و لا تؤمنوا به فإن كان نبيّا فاللّه ينصره فحينئذ نتبعه و إن كان كاذبا يبطل أمره فحينئذ نستريح منه بعد موته.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 26 الى 30]

قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

[قالَ رَبِّ انْصُرْنِي] أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إيّاي أو انصرني بدل ما كذّبوني كما تقول: هذا بذاك أي بدل ذاك أو المعنى: انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب.

و لمّا أجاب اللّه دعاءه قال: [فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا] أي عيننا و حفظنا عليك: و منه عليه من اللّه عين كالئة أي حافظة- و في الآية دلالة على فساد قول المشبّهة في تمسّكهم بقوله عليه السّلام: «إنّ اللّه خلق آدم على صورته» لأنّ ثبوت الأعين يمنع ذلك- أو بنصرة أوليائنا و أعيننا و هم الملائكة و المؤمنون فإنّهم يمنعون من كلّ من يمنعك منه.

ص: 280

[وَ وَحْيِنا] أي إعلامنا إيّاك كيفيّة صنعة السفينة و اختلفوا كيف صنع الفلك فقيل: إنّه كان نجّارا و قيل: إنّ جبرئيل علّمه و وصف له كيفيّة صنعتها و هو الأقرب لقوله تعالى: «بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا».

قوله: [فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ] اعلم أنّ لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء قيل: فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم و الدليل عليه أنّك إذا قلت: هذا أمر بقي الذهن يتردّد بين المفهومين و ذلك يدلّ على كونه حقيقة فيهما.

و بالجملة فإذا جاء أمرنا و اقتضى العذاب و بان علامته و فار التنوّر و الأكثرون على أنّه هو التنوّر المعروف فقيل لنوح: إذا رأيت الماء يفور من التنوّر فاركب أنت و من معك من أهل دينك في السفينة فلمّا نبع الماء من التنوّر أخبرته امرأته فركب و قيل في التنوّر: كان تنّور آدم و كان من حجارة فصار إلى نوح.

و اختلف في مكانه فما عليه الأكثرون أنّه في مسجد الكوفة عن يمين الداخل ممّا يلي باب كندة و كان نوح عمل السفينة في المسجد و قيل: التنوّر بالشام بموضع يقال له «عين وردة» و قيل: بالهند.

و عن ابن عبّاس أنّ التنوّر وجه الأرض و قيل: أشرف و أعلا موضع في الأرض و قال عليّ عليه السّلام: و فار التنوّر أي طلع الفجر و قيل: فوران التنوّر كان عند طلوع الفجر و قيل: معناه مثل قولهم: «حمى الوطيس» و قيل: إنّه الموضع المنخفض من السفينة الّذي يسيل إليه الماء.

و بالجملة جعل اللّه فوران التنوّر علامة لنوح عليه السّلام حتّى يركب عنده السفينة طلبا لنجاته و نجاة من آمن به من قومه.

قوله تعالى: [فَاسْلُكْ فِيها] أي فأدخل في السفينة يقال سلك فيه أي دخل فيه و اسلك فيها [مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ] من الحيوان الّذي يحضره في الوقت [اثْنَيْنِ] الذكر و الأنثى لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان و كلّ واحد منهما زوج لا كما تقوله العامّة من أنّ الروح هو الاثنان و روي أنّه لم يحمل إلّا ما يلد و يبيض

ص: 281

و قرئ «من كلّ» منوّنا أي من كلّ امّة زوجين فحينئذ اثنين تأكيد لزوجين و زيادة بيان [وَ أَهْلَكَ] أي أولادك أو المراد من الأهل من آمن بك لكن هذا المعنى ينافي الاستثناء و الصحيح أنّ المراد من الأهل الأولاد [إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ و لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ] و كان كنعان ممّن سبق عليه القول و كان من المغرقين.

[فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ] في السفينة قال ابن عبّاس: كان في السفينة ثمانون إنسانا نوح و امرأته و ثلاثة بنين سام و حام و يافث و ثلاث نسوة لهم و اثنان و سبعون إنسانا و هم عقلاء الدنيا [فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] و إنّما قال: «فقل» و لم يقل: «فقولوا» لرتبة النبوّة و تخصيص الخطاب إشعارا لكبرياء الربوبيّة و إنّ رتبة تلك المخاطبة لا يترقّى إليها إلّا ملك أو نبيّ أي فاستحمدوا اللّه على ما خلصكم من النفوس الظالمة لأنفسهم بجحدهم عن توحيد اللّه.

[وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ] لأنّه لا يقدر أحد أن يصون غيره من الآفات إذا أنزله منزلا و يكفيه جميع ما يحتاج إليه إلّا أنت.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ] في أمر نوح و السفينة و هلاك القوم بالغرق دلالات للعقلاء يستدلّون بها على الإله القادر القاهر [وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ] أي و إن كنّا مختبرين إيّاهم بإرسال نوح و وعظه و تذكيره و مصيبين الكفّار بهذا العذاب العظيم و مختبرين عبادنا ليتذكّرون و يعتبرون عبرة كاملة و «إن» في الآية مخفّفة من المثقّلة و ضمير الشأن محذوف و اللام في «لمبتلين» لام الفارقة بين النافية و المخفّفة و تمام القصّة قد مرّ شرحها في سورة هود.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 31 الى 40]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (32) وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)

هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40)

ص: 282

القصّة الثانية قصّة هود أو صالح و منشأ الاختلاف قوله: «من بعدهم» فيقتضي أن يكون قوم هود لأنّه هو المبعوث بعد نوح و قوله «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ» يقتضي قوم صالح لأنّ ثمود اهلكوا بالصيحة.

و على التقديرين [ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ] أي أحدثنا من بعد قوم نوح [قُرُوناً آخَرِينَ] جماعة من الناس و القرآن أهل العصر على مقارنة بعضهم لبعض [فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ] أي من جملة نسبهم و نشأ بين أظهرهم [أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ] مفسّرة لأرسلنا أي قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا اللّه «و ما لكم من إله غيره» تعليل للعبادة [أَ فَلا تَتَّقُونَ] عذابه بعبادة غيره.

[وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ] حكاية لقولهم الباطل من أشرافهم أي قال الأشراف من قومه [الَّذِينَ كَفَرُوا] و عبدوا غير اللّه [وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ] و يوم المعاد و الجزاء [وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا] و كنّا منعمين عليهم بضروب الملاذّ و النعمة مقول قولهم كان إيراد الشبهات:

[ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ] و ليس من هو كذلك أولى بالرسالة منّا و هو حكمه مثل حكمنا فمن أين له الرسالة؟ [وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ] فجعلوا اتّباع الرسول الّذي من نوعهم خسرانا و لم يجعلوا عبادة الأصنام و الجماد خسرانا.

ثمّ القوم طعنوا في صحّة الحشر بقولهم: [أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ] أي يخوّفكم أنّكم تخرجون تعادون أحياء للمجازاة ثمّ لم يقتصروا على هذا القدر و قرنوا قولهم بالاستبعاد العظيم بقولهم: [هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ] أي بعد بعد ما يخوّفكم به قرئ «هيهات» بكسر التاء و بفتح التاء و بالتنوين و الكسر و بالتنوين و الرفع و بسكون التاء و هي كلمة اسم فعل و معناه بعدا بعدا و قيل: «هيهات» أصلها هيهئات و الحاصل: قالوا: هذا الوعيد الّذي يعدكم بعيد بعيد.

ص: 283

[إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا] و لم يريدوا الشخص الواحد يموت و يحيا بل مرادهم يموت بعض و يحيا بعض ضمير «هي» مفسّرها «إِلَّا حَياتُنَا» يعني ليس الحياة الّا حياتنا الدنيا أي لا حياة إلّا هذه الحياة فوازنت «إن» النافية «أذلاء» الّتي لنفي الجنس [وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ] فأنكروا البعث بهذه البيانات الواهية.

[إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ] أي ليس هو إلّا رجل اختلق كذبا على اللّه و ما نحن له بمصدّقين فيما يقوله قال الرسول بعد ما سمع منهم هذه البيانات و الإنكارات.

[قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ] فبعد أن يئس هود من إيمانهم بعد ما سلك في دعوتهم بأقسام المسالك تضرّع إلى اللّه بقوله: ربّ انصرني عليهم و انتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إيّاي. فقال اللّه تعالى إجابة لمسئوله:

[قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ] أي عن قليل من الزمان و الوقت ليصبحنّ- و اللام لام القسم و ما في «عمّا» زائدة للتأكيد- نادمين إمّا عند نزول العذاب أو نزول الموت يكونون نادمين و لمّا ينفع الندم.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 41 الى 50]

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (45)

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ (50)

[فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ] في الصيحة وجوه: أحدها أنّ جبرئيل عليه السّلام صاح بهم و كانت الصيحة عظيمة فماتوا عندها. الثاني: الصيحة الرجفة عن ابن عبّاس. الثالث: الصيحة نفس العذاب و الموت كما يقال فيمن يموت: دعي فأجاب قال الشاعر:

ص: 284

صاح الزمان بآل برمك صيحةخرّوا لشدّتها على الأذقان

فدمّرهم العذاب بالعدل و الحقّ أي حكم عليهم بالحقّ و الاستحقاق.

[فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً] و الغثاء حميل السيل ممّا بلي و فتت و أسود من الورق و العيدان أي جعلناهم هلكى قد يبسوا كما يبس الغثاء [فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] المشركين المكذّبين أي ألزمهم اللّه البعد من الرحمة.

القصّة الثالثة: [ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ] المقصود من البيان أنّه ما أخلى الدنيا من مكلّفين أنشأهم و بلّغهم حدّ التكليف حتّى قاموا مقام من كان قبلهم في الدنيا.

[ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ] هذا وعيد للمشركين. المعنى:

ما يموت امّة قبل أجلها المضروب لها و لا يتأخّر، و قيل: المراد بالأجل العذاب الموعود لهم على التكذيب أنّه لا يتقدّم على الوقت المضروب لذلك و الأجل المضروب لحدوث أمر من الأمور.

قال الكعبيّ: المراد من قوله: «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ» أي لا يتقدّمون الوقت لعذابهم إن لم يؤمنوا و لا يتأخّرون عنه و لا يستأصلهم إلّا إذا علم منهم أنّهم لا يزدادون إلّا عنادا و أنّهم لا يلدون مؤمنا و لا نفع لبقائهم لأحد و لا ضرر على أحد في هلاكهم، و بالجملة الأجل محتوم لا يتغيّر و لا يتقدّم و مشروط و هو بحسب الشرط، و المراد بالأجل في الآية الأجل المحتوم.

قوله: [ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ] و قرئ «تترى» بالتنوين و من نوّن وقف بالألف و تترى فعلى من المواترة و المواترة أن يتبع الخبر الخبر و الكتاب الكتاب فلا يكون بينهما فصل كثير و الأقيس و الاولى أن لا يصرف و لا ينوّن كالتقوى و الدعوى و التاء بدل من الواو فإنّه مأخوذ من الوتر أي أرسلنا أنبياءنا متواترة يتبع بعضهم بعضا و أصل معناه الاتّصال و منه الوتر لاتّصاله بمكانه من القوس و منه الوتر و هو الفرد عن الجميع المتّصل.

[كُلَّ ما] أتى رسول امّته [كَذَّبُوهُ] و لم يقرّوا بنبوّته [فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً] أي

ص: 285

أهلكنا المكذّبين بعضهم في إثر بعض [وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ] أي يتحدّث بهم على طريق المثل من الشرّ و هو جمع احدوثة و لا يستعمل هذا في الخير [فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ] ثمّ وبّخهم و ذمّهم بقوله: بعدا من الرحمة الّذين لا يؤمنون باللّه و في الآية دلالة على تعذيبهم مؤبّدا آجلا كما عذّبوا عاجلا.

قوله: [ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ] و دلائلنا الواضحة و اختلفوا في الآيات: فقال ابن عبّاس: هي الآيات التسع و هي العصا و اليد و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم و انفلاق البحر و السنون و نقص من الثمرات و قيل: بآياتنا أي بديننا.

و احتجّوا بأنّه لو كان المراد بالآيات المعجزات و السلطان المبين أيضا هو المعجز معناه فحينئذ يلزم عطف الشي ء على نفسه.

و أجابوا بأنّ لفظ الآيات إذا ذكر في الرسل فالمراد منها المعجزات و السلطان المبين يجوز أن يكون أعظم معجزاته و هو العصا و قد تعلّقت بالعصا معجزات كثيرة شتّى من تلقّفها و انفجار العيون من الحجر بضربها و كونها حارسا و شمعة و تدفع العدوّ و دلوا و رشاء فلأجل انفراد العصا بهذه المزيّات أفردت بالذكر كقوله: «جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ» (1) و يمكن أن يكون المراد بالسلطان المبين استيلاء موسى عليهم بالنبوّه و أنّه كان مسلّطا عليهم و لا يقيم لهم وزنا و لا قدرا.

قوله: [إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ] خصّ الملأ و هم الأشراف بالذكر لأنّ الآخرين كانوا أتباع لهم [فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ] فتجبّروا و تعظّموا عن قبول الحقّ و كانوا قاهرين و عالين و ذوي ثروة و كان قوم موسى و هارون عندهم كالخدم و العبيد لهم و قهروا أهل أرضهم.

[فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ] لرجلين بشرين [مِثْلِنا] و نصدّق الإنسانين خلقهم مثل خلقنا و يسمّى الإنسان بشرا لانكشاف بشرته و جلدته حتّى احتاج إلى لباس يكنّه بخلاف الحيوان مغطّى البشرة بصوف أو بشعر و ريش و غيره لطفا من اللّه إذ لم يكن للحيوان

ص: 286


1- البقرة: 98.

عقل يدبّر أمره عند الحاجة إلى ما يكنّه و الإنسان يهتدي إلى ما يستعين عند حاجته [وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ] أي مطيعون طاعة العبد لمولاه و قيل: كان بنو إسرائيل يعبدون فرعون و فرعون يعبد الأوثان.

فكذّبوا موسى و هارون [فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ] و كان عاقبة تكذيبهم أن أهلكهم و غرقهم.

قوله: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ] أي التوراة لعلّهم يعملون بشرائعها و مواعظها فذكر موسى أي آل موسى كما يقال هاشم و ثقيف [لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ] بعمل التوراة.

[وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ] و جعلناه حجّة على قدرتنا على الاختراع بخلقته من غير أب و إنّ مريم عليها السّلام حملت من غير فحل و جعلنا مأواهما مكانا مرتفعا مستويا واسعا و الربوة الّتي أويا إليها هي الرملة من فلسطين.

و قيل: نفس دمشق. و قيل: مصر. و قيل: بيت المقدس. و قيل: هي أقرب الأرض إلى السماء و قيل: هي حيرة الكوفة و سوادها و القرار مسجد الكوفة و المعين الفرات عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام و قيل: معناه ذات موضع قرار أي هي أرض مستوية يستقرّ عليها ساكنوها و قيل: ذات ثمار لأنّه لأجل الثمار يستقرّ فيها ساكنوها و المراد بالمعين ماء جار ظاهر العيون مفعول من عان يعين.

و بالجملة جعله اللّه و امّه آية و ظهر فيهما امور عجيبة بأن أنطقه في المهد و اخرى على يده إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و تكلّمت مريم في صغرها و هو قولها: «هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (1) و لم تلقم ثديا قطّ. قال القاضي: إن ثبت ذلك فهو معجز لزكريّا لأنّها لم تكن نبيّا. و إنّما قال القاضي هذا البيان لأنّ عنده الإرهاص غير جائز. و الحاصل أنّ مريم و ابنها بقيا إلى الربوة اثنتي عشرة سنة و إنّما ذهب بهما ابن عمّها يوسف ثمّ رجعت إلى أهلها بعد أن مات ملكهم.

قوله تعالى:

ص: 287


1- آل عمران: 37.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 51 الى 56]

يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ (55)

نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)

الخطاب إلى كلّ الرسل، و الرسل إنّما أرسلوا متفرّقين في أزمنة مختلفة و بيان توجيه الخطاب إليهم أنّ المعنى إعلام بأنّ كلّ رسول في زمانه هذا الخطاب، و وصّي به ليعتقد السامع أنّ أمرا نودي له الرسل حقيق بأن يعمل به أو الخطاب إلى رسولنا. و إنّما ذكر على صيغة الجمع كما يقال للواحد: أيّها القوم كفّوا أذا كم عنّي كأنّه سبحانه لمّا خاطب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك بيّن أنّ الرسل عليهم السّلام بأسرهم لو كانوا حاضرين لما خوطبوا إلّا بذلك ليعلم رسولنا أنّ هذا التثقيل ليس عليه فقط بل هو لازم على جميع الأنبياء.

و الحاصل لمّا أمر اللّه الناس الاهتداء بكتبه و العمل بشرائعه في الآية السابقة أمر الرسل و المؤمنين بأن يأكلوا من الحلال و لا يتصدّون أكل الحرام- قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا طيّبا- و أمر المؤمنين بما أمر الرسل فقال: [يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ] و قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» (1) قوله: [وَ اعْمَلُوا صالِحاً] أي ما أمركم اللّه به [إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] هذا بيان السبب الداعي إلى إصلاح العمل و الإتيان بالعمل الصالح فإنّ العاقل إذا علم أنّ من يعلم عمله يجازيه على حسب ما يعمل أصلح العمل.

قوله تعالى: [وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً] أي إنّ ملّتكم و دينكم دين واحد و يعضد هذا المعنى «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ»* أي على دين قال النابغة:

حلفت و لم أترك لنفسي ريبةو هل يأثمن ذو امّة و هو طائع

و قيل: المعنى: و إنّ جماعتكم و جماعة من قبلكم واحدة كلّكم عباد اللّه و خلقه [وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ] أي لهذا فاتقّوا الشرك.

ص: 288


1- البقرة: 172.

[فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً] أي كما يجب عليكم أكل الحلال و الاجتناب عن الحرام كذلك لا بدّ أن تكونوا متّفقين و مجتمعين على التوحيد و لا يقع منكم في هذا الأمر اختلاف و يلزمكم كلّكم دين واحد و مع هذا الأمر فهم من شدّة اختلافهم جعلوا دينهم أديانا و زبرا أي قطعا قطعا استعيرت من زبر الحديد و الفضة يعني بهم مشركي مكّة و المجوس و اليهود و النصارى و الصابئين.

[كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] و كلّ فريق منهم بما اتّخذ دينا لنفسه معجب به يرى نفسه أنّه المحقّ الرابح و غيره المبطل الخاسر.

فإن قيل: لمّا كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحد؟

قلنا: المراد من الدين أصوله من معرفة اللّه و أمّا الشرائع فإنّ الاختلاف فيها لا يسمّى اختلافا في الدين بل الاختلاف في كيفيّة الأعمال بحسب الشريعة كما يقال:

للحائض و الطاهر من النساء: إنّ دينهنّ واحد و إن افترق تكليفها فكذا هاهنا.

ثمّ أتبع للمختلفين بالوعيد و قال: [فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ] أي دع هؤلاء في جهلهم و الغمرة الماء الّذي يغمر القامة و قرأ عليّ عليه السّلام في غمراتهم و ذكروا في الحين وجوها: أحدها إلى الموت و قيل: إلى حين العذاب أو المراد به الحالة الّتي تقترن به الحسرة و الندامة و ذلك يحصل عند المحاسبة و الموت و عند عذاب القبر فيجب أن يحمل على كلّ ذلك.

قوله: [أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ] أي ظنّ هؤلاء الكفّار أنّ ما نعطيهم و نزيدهم من أموالهم و أولادهم إنّما نعطيهم ثوابا و مجازاة لهم على أعمالهم و لرضائنا عنهم و لكرامتهم علينا ليس الأمر كما يظنّون بل ذلك إملاء لهم و استدراج لهوانهم علينا و للابتلاء في التعبّد لهم و نظيره قوله: «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ» (1) و روى السكونيّ عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه تعالى يقول:

يحزن عبدي المؤمن إذا قتّرت عليه شيئا من الدنيا و ذلك أقرب له منّي و يفرح إذا

ص: 289


1- الفجر: 15.

بسطت له الدنيا و ذلك أبعد له منّي ثمّ تلا هذه الآية إلى قوله «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» ثمّ قال: إنّ ذلك فتنة لهم.

قوله: «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» الشعور العلم الّذي يدقّ معلومه و فهمه على صاحبه و معنى «نسارع» نتعجّل و نسرع و حاصل المعنى أنّ هذا الإمداد ليس إلّا استدراجا لهم في المعاصي و هم يحسبونه مسارعة في الخيرات و كلمة «بل» للاستدراك لقوله: «أ يحسبون» أي بل هم أشباه البهائم لا شعور لهم حتّى يتفكّروا في ذلك أهو استدراج أم مسارعة في الخيرات؟

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 57 الى 61]

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ (61)

لما ذمّ حال المستدرجين بيّن في هذه الآية صفة المسارعين في الخيرات:

الصفة الاولى قوله: [إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ] و الإشفاق يتضمّن الخشية مع زيادة رقّة و ضعف، و قيل: جمع بينهما للتأكيد فإذن متساويان و منهم من حمل الخشية على العذاب فالمعنى: الّذين هم من عذاب ربّهم مشفقون. و قيل: المعنى:

الّذين هم من خشيته مشفقون أي دائمون في طاعته جادّون في طلب مرضاته و التحقيق أنّ من بلغ في الخشية إلى حدّ الإشفاق و هو كمال الخشية كان في نهاية الخوف من سخط اللّه عاجلا و من عقابه آجلا يكون في نهاية الاحتراز عن المعاصي.

الصفة الثانية قوله: [وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ] و آيات اللّه هي المخلوقات الدالّة على وجوده فيصدّقون بها و يقرّون و يعتقدون بحجج اللّه و كتبه و رسله.

و الصفة الثالثة قوله: [وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ] و ليس المراد من الآية التوحيد و نفي الشريك للّه لأنّ ذلك داخل في قوله: «وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» بل المراد منه نفي الشرك الخفيّ و هو أن يكون مخلصا في العمل و العبادة و لا يقدم عليها إلّا لوجه اللّه.

ص: 290

الصفة الرابعة قوله: [وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] معناه يعطون ما أعطوا فدخل فيه كلّ حقّ لزم إيتاؤه سواء كان ذلك الحقّ من حقوق اللّه كالزكاة و الكفّارة و غيرهما أو من حقوق الآدميّين كالودائع و الديون و أصناف العدل فبيّن أنّ ذلك إنّما ينفع إذا فعلوه و قلوبهم وجلة لأنّ من يقدم على العبادة و هو وجل من تقصيره و إخلاله بنقصان أو غيره فإنّه يكون لأجل ذلك الوجل مجتهدا في أدائها.

و في الحديث: سألت عائشة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: و الّذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة أهو الّذي يزني و يشرب الخمر و يسرق و هو على ذلك يخاف اللّه؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا و لكن هو الرجل يصلّي و يصوم و يتصدّق و هو على ذلك يخاف اللّه تعالى.

و قيل: في الكلام حذف و إضمار أي و قلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم كما فسّر أبو عبد اللّه عليه السّلام قال: معناه: قلوبهم خائفة أن لا يقبل منهم و ذلك لعلمهم [بأنّهم إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ] و موقنين بأنّهم راجعون إلى اللّه و لعلّ أنّه لا يقبل و ليسوا مأمونين من التفريط.

[أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ] أي الّذين جمعوا هذه الصفات يبادرون إلى الطاعات رغبة منهم فيها [وَ هُمْ لَها سابِقُونَ] و هم لأجل تلك الصفات و المسارعة إلى الخير سابقون إلى الجنّة و قيل: و هم سبقوا الأمم إلى الخيرات و قيل: سابقون أمثالهم من أهل البرّ و التقوى و يمكن أن يكون خبرا بعد خبر و المعنى: و هم لها كما يقال: أنت لها و هي لك ثمّ قال: سابقون أي و هم سابقون.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 62 الى 71]

وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)

ص: 291

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يكلّف أحدا إلّا دون الطاقة و الوسع إنّما سمّي وسعا لأنّه يتّسع عليه فعله و قيل: الوسع الطاقة و لكنّ المعتزلة قالوا: إنّه دون الطاقة، و هذه الآية صريحة على نفي تكليف ما لا يطاق بل كلّف دون الوسع و الطاقة فمن لم يستطع أن يصلّي قائما فليصلّ جالسا و من لم يستطع جالسا فليؤم إيماء.

قوله: [وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ] أي و عند ملائكتنا المقرّبين كتاب ينطق و يشهد عليكم بالحقّ كتبه الملائكة بأمرنا في صحائف الأعمال و هم يوفون جزاء أعمالهم لا ينقص من ثواب أعمالهم و لا يزاد في عقابهم و شبّه الكتاب بمن ينطق و يصدر عنه البيان فإنّ الكتاب لا ينطق لكنّه يعرب (1) بما فيه كما ينطق و يعرب الناطق إذا كان محقّا و هذا الكلام مثل قوله: «وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» (2) و الآية تدلّ على أنّ العبد موجد لفعله و إلّا لكان تعذيبه على العمل ظلما.

قوله: [بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا] أي قلوب الكفّار في غفلة شديدة من هذا الكتاب و من هذا البيان الّذي بيّنّاه في القرآن من الوعد و الوعيد و في جهل و حيرة [وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ] أي و لهم أعمال رديئة خبيثة سوى ذلك الجهل و يعملون تلك الأعمال فيستحقّون بها و بالكفر العقوبة من اللّه و قيل: المراد: و لهم أعمال أصغر من الكفر و هم مشتغلون بها إلى أن يفني آجالهم.

و قيل: إنّ من قوله: «وَ لَدَيْنا كِتابٌ» إلى قوله: «هُمْ لَها عامِلُونَ» في أوصاف المشفقين لا الكافرين و قد يكون المرء لشدّه فكره في الآخرة يستولى عليه الفكر في قبول عمله أو ردّه و يتحيّر و هو المراد بوقوع القلب في غمرة و قوله «من هذا» أي من هذا الإشفاق و الخوف و لهم أعمال من دون ذلك أي من النوافل و وجوه البرّ سوى ما هم عليه.

قوله: [حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ] قال صاحب الكشّاف:

حتّى هذه هي الّتي يبتدأ بعدها الكلام أي يكون دأبهم هذا و مشتغلون بأعمالهم القبيحة حتّى إذا نزل بهم العذاب و أخذنا متنعّميهم و رؤساءهم بعذاب الآخرة و قيل: عذاب

ص: 292


1- أعربه: ابانه.
2- الكهف: 50.

الدنيا و هو عذاب السيف أو الجوع حين دعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليهم فقال: اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر و اجعلها سنين كسني يوسف فابتلاهم اللّه بالقحط حتّى أكلوا الكلاب و الجيف أي يضجّون لشدّة العذاب و يصرخون إلى اللّه بالتوبة فلا يقبل منهم و يقال لهم:

[لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ] و لا تضرّعوا اليوم و لا يدفع عنكم ما نزل بكم و لا يبلغكم نصرتنا و هذا الكلام إيئاس لهم من دفع العذاب.

[قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ] لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ الكفّار لا ينصرون أتبعه في هذه الآية ببيان السبب أنّه متى ما تليت آيات اللّه عليهم أتوا بأمور قبيحة: أحدها أنّهم كانوا على أعقابهم ينفرون و عن من يتلوها كما يذهب الناكص على عقيبه بالرجوع إلى ورائه أي يرجعون إلى القهقرى و الثاني قوله:

[مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ] أي متكبّرين على سائر الناس بالحرم و كانوا يقولون: إنّا أهل الحرم و لا يظهر علينا أحد لأنّهم القائمون بالبيت و ولاته و الّذي يسوّغ هذا الإضمار قبل الذكر شهرتهم بالاستكبار بسبب البيت أو البلد و قيل: الضمير راجع بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يطيعوه و استكبروا بنبوّته أو بالقرآن استكبروا أن يقبلوه و الضمير على جميع الصور رجع إلى غير مذكور قوله: [سامِراً تَهْجُرُونَ] قيل يتعلّق الباء في «به» بقوله سامرا أي يسمرون بالقرآن و يطعنون فيه و كانوا يجتمعون حول الكعبة بالليل و كانت عامّة سمرهم ذكر القرآن و تسميته شعرا و سحرا و سبّ رسول اللّه و يهجرون و يشتمون و السامر مثل الحاضر في الإطلاق على الجمع و الهجر بالفتح الهذيان و بالضمّ الفحش و يمكن أنّ المراد تهجرون الحقّ و تعرضون عنه.

قوله: [أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ] أي أ فلم يتدبّروا القرآن فيعرفوا ما فيه من الدلالات و العبر [أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ] أليس أرسلنا نوحا و إبراهيم و النبيّين إلى قومهم كذلك أرسلناك و مجي ء الرسل ليس أمرا على خلاف العادة و أنّهم قد عرفوا بالتواتر أنّ الرسل كانت تتواتر على الأمم و تظهر المعجزات عليهم و كانت الأمم بين مصدّق ناج و مكذّب هالك بعذاب الاستيصال أ فهذا الأمر ما دعاهم إلى تصديق الرسول؟

ص: 293

[أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ] أي أليس هو محمّد الّذي عرفوه صغيرا و كبيرا بالأمانة و الصدق بحيث عرّف بالأمين وافيا بالعهد فلم أعرضوا عند بعد ما عرفوا أمانته و صدقه و شرف نسبه قبل الدعوة؟

[أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ] أو يعتقدون فيه الجنون فيقولون: إنّه حمله الجنون على ادّعاء الرسالة و هذا أيضا فاسد لأنّ المجنون كيف يمكنه أن يأتي بما أعجز عقلاءهم عن الإتيان ببعضه على أنّ كتابه متضمّن من الدلائل و الشرائع الكاملة و إنّما نسبوا إليه الجنون حيث كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأمر صناديد هم و كبراء هم بانقياده و هذا كان عندهم من أبعد الأمور فأرادوا أن يوهموا لضعفائهم و عوامّهم لكي لا ينقادوا له فأوردوا ذلك مورد الاستحقار.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان هذه الوجوه و فساد أقوالهم و أفعالهم قال: [بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ] بل جاءهم بالقرآن و الدين الحقّ و ليس به جنّة و أكثرهم يكرهون الحقّ لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يوافق مرادهم.

قوله: [وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ] ثمّ بيّن سبحانه أنّ الحقّ لا يتّبع الهوى و لو اتّبع لوقع الفساد في العالم و اختلّ النظام لأنّ أهواءهم جعل الشريك للّه و عبادة الأوثان و تكذيب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو منشأ المفسدة و كانوا يرون أنّ الحقّ في اتّخاذ آلهة مع اللّه فبيّن سبحانه أنّه لو صدر هذا الأمر على حسب ما يحبّون لفسدت السماوات و الأرض و من فيهنّ و وجه الفساد ما تقدّم في بيان دليل التمانع و لأنّ الحقّ يدعو إلى المصالح و المحاسن، و الهوى يدعو إلى المفاسد و المقابح و لو اتّبع الحقّ و هو اللّه داعي الهوى لدعي إلى القبائح و لفسد التدبير.

[بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ] بل أتيناهم- و قرئ بذكراهم أي مواعظهم بالقرآن لأنّهم قالوا: «لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ* لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» (1)- بما فيه شرفهم و فخرهم لأنّ الرسول منهم و القرآن بلسانهم و هم عن شرفهم و الأمور النافعة لهم معرضون و بالجهل و الكفر راضون.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 72 الى 80]

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ (76)

حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (80)

ص: 294


1- الصافات: 169.

ثمّ بيّن سبحان أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يطمع فيهم حتّى يكون ذلك سببا للنفرة فقال:

[أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ] يا محمّد على ما جئتهم به من القرآن و الإيمان أجرا فيوجب ذلك ثقلا عليهم و الخرج ما تبرّعت به و الخراج ما لزمك أداؤه و الخراج أكثر من الخرج لأنّ زيادة المباني تدلّ على كثرة المعاني أي كثير عطاء اللّه و رزقه خير فحينئذ لا يجوز أن ينفروا عنه بهذه التهمة فنبّه أنّه لا عذر لهم و أنّهم محجوجون من جميع الوجوه.

و الآية تدلّ على أنّ أحدا من العباد لا يقدر على مثل نعمه و رزقه كما أنّه تدلّ على أنّ العباد قد يتسبّبون لرزق بعضهم بعضا بأمره سبحانه لا على طريق الأصالة بل بالسببيّة و لهذا قال: [وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] و لو لا ذلك لما جاز أن يقول هو خير الرازقين.

قوله: [وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ] لأنّ ما دلّ الدليل على صحّته فهو مستقيم و هو طريق الحقّ و العمل به على طريق العدل و الاستقامة [وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] و لا يصدّقون بالمعاد و النشأة الآخرة [عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ] و عن دين الحقّ عادلون و مائلون، كذب العادلون باللّه و ضلّوا ضلالا بعيدا و ناكبون عن طريق الهداية و الجنّة يؤخذ بهم يمنة و يسرة إلى النار.

[وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ] معناه مثل قوله: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا» (1) أي و لو أنّا رحمنا هم و كشفنا ما بهم من جوع و ضرّ

ص: 295


1- الانعام: 28.

و نحوه لتمادوا في ضلالتهم و غوايتهم و كفرهم و أعمالهم القبيحة و يداومون عليها متجرّين.

قوله: [وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ] إنّا قد أخذنا هؤلاء الكفّار بالجدب و الغلاء و المرض و ضيق الرزق و القتل بالسيف فما تواضعوا و لا انقادوا و ما يرغبون إلى اللّه.

[حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ] أي هذا دأبهم و عادتهم حتّى إذا فتحنا عليهم نوعا آخر من العذاب و هو أشدّ من الأوّل إمّا بابا من عذاب جهنّم في الآخرة أو فتح مكّة؛ و قال أبو جعفر عليه السّلام: و هو في الرجعة عند قيام قائمنا. أو المراد سني مضر فجاعوا حتّى أكلوا العلمز و هو الوبر بالدم المطبوخ [إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ] أي حينئذ آئسون من كلّ خير متحيّرون.

قوله: [وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ] أي خلق هذه النعم الثلاثة العظيمة و أنعمكم بها و خصّها بالذكر لأنّ النظريّات و الدلائل مبنيّة عليها و أنّ العاقل ينظر و يسمع و يتفكّر فحينئذ يعلم قوله: «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» و قليلا منصوب على المصدريّة أي تشكرون قليلا لهذه النعم أو لا تشكرون ربّ هذه النعم فتوحّدونه.

[وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ ... وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] أي خلقكم و أوجدكم في الأرض و قيل:

بسطكم فيها ذريّة بعضكم من بعض حتّى كثرتم أي هو الّذي جعلكم متناسلين في الأرض و يحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشرا إليه لا بمعنى المكان.

قوله تعالى: [وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ] يحييكم في أرحام امّهاتكم و يميتكم عند انقضاء آجالكم أي إنّ نعمة الحياة و إن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة.

[وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] و له تدبيرهما بالزيادة و النقصان و ملازمة ذهاب أحدهما مجي ء الآخر و وجه النعمة بهذا الاختلاف واضح لوضوح آثارهما من الفوائد و مع هذا لم تتركون النظر و لا تتدبّرون؟ [أَ فَلا تَعْقِلُونَ] أنّ لذلك صانعا قادرا.

قوله: [سورة المؤمنون (23): الآيات 81 الى 90]

بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (85)

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)

ص: 296

لمّا ذكر سبحانه نعمه الدالّة على التوحيد عقّبه بذكر المعاد فقال:

[بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ] عطف على مضمر يقتضيه المقام أي لم يعقلوا بل قالوا مثل ما قال آباؤهم و قلّدوهم في إنكار البعث و قالوا: أ إذا متنا و صرنا ترابا و عظاما كيف نبعث و أوردوا هذه الشبهة الفاسدة [لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا] الأمر من قديم الزمان من سائر الأنبياء ثمّ لم يوجد مع طول العهد ثمّ قالوا: [إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ] أي ما هذا إلّا ما كتبه الأوّلون ممّا لا حقيقة له.

قوله تعالى: [قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] المقصود من هذه الآيات الاستدلال على منكري الإعادة و الردّ على عبدة الأوثان و ذلك لأنّ القوم كانوا مقرّين باللّه لكن كانوا يقولون: نعبد الأصنام لتقرّبنا إلى اللّه فاحتجّ اللّه عليهم بقوله: قل لمن الأرض و من فيها ف [سَيَقُولُونَ لِلَّهِ] و إنّ من كان خالقا للأرض و من فيها و خالقا لحياتهم و قادرا على إماتتهم و إفنائهم فعبادة من خلقكم و أنعم عليكم هي الواجبة دون عبادة ما لا يضرّ و لا ينفع [أَ فَلا تَذَكَّرُونَ] لتعلموا بطلان ما أنتم عليه.

ثمّ زاد في الحجّة فقال: [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ] و وجه الاستدلال واضح فإذا كان هو المدبّر و الخالق للسماوات و العرش مع عظمهما و هم معترفون بأنّ اللّه خلقها فلم لا يتّقون عذابه و يتركون عبادة غيره.

ثمّ زاد سبحانه في الحجّة فقال: [قل] يا محمّد [مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] الملكوت من صفات المبالغة في الملك كالجبروت

ص: 297

و الرهبوت و قيل: بيده ملكوت كلّ شي ء معناه خزائن كلّ شي ء و هو يمنع من يشاء و لا يمنع منه من أراده بسوء يقال: أجرت فلانا إذا استغاث بك فحميته و أجرت عليه إذا حميت عنه و حاصل المعنى أنّ من قصد عبدا من عباده بسوء قدر على منعه و من أراد اللّه بسوء لم يقدر على منعه أحد أو المراد من هذا الأمر في القيامة أي يجير من العذاب و لا يجار عليه منه إن كنتم ذلك تعلمونه فأجيبوا أمره و لا تشركوا به شيئا.

[سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ] يقولون في الجواب: للّه، قل يا محمّد لهم: فكيف يخيّل إليكم الحقّ باطلا و الصحيح فاسدا و تخدعون عن طاعته و تعمون؟ و الخادع هو الشيطان و الهوى؛ قال امرؤ القيس:

«و تسحر بالطعام و بالتراب»

. [بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ] معناه أنّا جئناهم بالحقّ و بيّنّا لهم الحقّ الّذي يبيّن كذبهم و مع ذلك أنّهم أصرّوا على كذبهم و باطلهم.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 91 الى 100]

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95)

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

في الكلام تنبيه على نفي قول الكفّار فإنّ جمعا منهم كانوا يقولون: الملائكة بنات اللّه و كالنصارى و كذلك نفى الشريك عنه بقوله: [وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ] و المراد الّذين اتّخذوا الأصنام آلهة و فيه إبطال قول الثنويّة.

ثمّ ذكر الدليل المعتمد بقوله: [إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ] أي لو كان الأمر كذلك لا نفرد على كلّ واحد من الآلهة بخلقه الّذي خلقه و استبدّ و استقلّ به و لرأيتم ملك كلّ واحد منهم متميّزا عن ملك الآخر و لغلب

ص: 298

بعضهم على بعض كما ترون حال الملوك في ممالكهم متميّزه كلّ ملك على ملكه و سلطانه و حيث لم تروا أثر التمايز في الممالك فاعلموا أنّه إله واحد بيده ملكوت كلّ شي ء و قوله: «إِذاً لَذَهَبَ» جواب و جزاء لشرط محذوف تقديره: و لو كان معه آلهة إذا لذهب كلّ إله و يدلّ عليه قوله: «وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ» ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن ما نسبوه إليه من اتّخاذ الولد و الشريك.

قوله: [عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ] أي هو المختصّ بعلم الغيب و الشهادة، فغيره و إن علم الشهادة فلن يعلم معها الغيب و الشهادة الّتي يعلمها و لا يتكامل بها النفع إلّا مع العلم بالغيب و لو أنّ الّذي يعلم الشهادة أيضا استفادته من اللّه [فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ] في علمه و قدرته و ألوهيّته.

ثمّ أمر نبيّه بالانقطاع إليه و أن يدعوه بقوله: [قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ] أي إن كان و لا بدّ من أن ترينّي ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فلا تعذّبني و أخرجني من بينهم عند ما تريد إحلال العذاب بهم لئلّا يصيبني ما يصيبهم.

و إن قيل: كيف يجوز أن يجعل اللّه نبيّه المعصوم مع الظالمين حتّى يدعو و يطلب أن لا يجعله معهم؟

فالجواب يجوز أن يسأل العبد ربّه ما علم أنّه يفعله و أن يستعيذ به ممّا علم أنّه لا يفعله إظهارا للعبوديّة و تواضعا لربّه كما وقع من أكابر الأنبياء و الأولياء في الأدعية لأنّ المؤمن يهضم نفسه.

و إنّما ذكر «ربّ» مرّتين مرّة قبل الشرط و مرّة قبل الجزاء مبالغة في التضرّع قال الزمخشريّ: «ما» في «إمّا» و النون في «ترينّي» مؤكّدتان.

قوله تعالى: [وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ] و ذلك في الرجعة إن شاء اللّه هذا ابتداء كلام من اللّه أي إنّا لا نعاجلهم بالعقوبة مع قدرتنا على ذلك و لكن ننظرهم لمصلحة يوجب ذلك التأخير مع أنّ الكفّار كانوا ينكرون الوعد بالعذاب و يضحكون منه و يحتمل أن يكون العذاب في الدنيا مؤخّرا عن آياته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ أمر نبيّة باحتمال ما يكون منهم من التكذيب و ضروب الأذى بأن يدفعه بالكلام

ص: 299

الجميل كالسلام و بيان الأدلّة على أحسن الوجوه فقال: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ] أي ادفع السيّئة بالحسنة بالصفح عن إساءة المسي ء و ادفع باطلهم ببيان الحجج على ألطف الوجوه و أوضحها و ألطفها إلى الإجابة و القبول نحن أعلم بما يكذّبون من الشرك و الإنكار فيجازيهم بما يستحقّونه.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّ الّتي هي أحسن التقيّة و بالجملة هذه الآية قيل:

منسوخة بآية السيف و قيل: محكمة لأنّ المداراة مرغوب فيها و محثوث عليها في كلّ الأوقات ما لم تؤدّ إلى نقصان دين.

قوله تعالى: [وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ* وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ] و قل: يا محمّد يا ربّ أعتصم بك من نزغاتهم و وساوسهم و شرور هم في كلّ شي ء يخاف من ذلك و أعوذ بك يا ربّ أن يشهدوني و يصدّوني عن طاعتك و قيل:

يحضرون في أوقات الصلاة عند تلاوة القرآن أو الأحوال كلّها حتّى لا يحوموا حولي فأكون متذكّرا و الهمزات جمع الهمزة و هو الدفع و التحريك الشديد و هو كالهزّ و الأزّ و منه الهمزة للحرف المعروف لأنّه يخرج من أقصى الحلق بالشدّة و الدفع.

قوله: [حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ] ثمّ شرح سبحانه حال القائلين بقولهم: أ إذا متنا و كنّا ترابا و عظاما و «حتّى» متعلّق بيصفون أو بكلمة «قالوا أ إذا» أي الكفّار لا يزالون على سوء الذكر إلى أن يجي ء أحدهم الموت سألوا اللّه الرجعة إلى دار التكليف فيقول أحدهم: ربّ ارجعوني على لفظ الجمع و فيه قولان:

أحدهما أنّهم أوّلا استغاثوا باللّه ثمّ خاطبوا الملائكة ارجعوني إلى الدنيا و الآخر على عادة العرب في تعظيم المخاطب كما قال: «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ» (1) و إذا كان المساءلة و الخطاب إلى الملائكة فهم ملائكة الّذين يقبضون الأرواح لأنّ عند مشاهدة الموت لا يشاهدون الكفّار إلّا إيّاهم أو الخطاب و المسألة من اللّه و الجمع للتعظيم كقول الشاعر:

«فإن شئت حرّمت النساء سواكم»

. و على القول الأوّل من الأقوال فكأنّه يجعل ذكر الربّ للقسم أي بحقّ

ص: 300


1- القصص: 9.

الربّ ارجعوني؟

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 349

فإن قيل: كيف يسألون الرجعة و قد علموا صحّة الدين بالضرورة من الدين أن لا رجعة.

فالجواب أنّه و إن كان الأمر كذلك لكن لا يمتنع أن يسألوه لأنّ الاستغاثة يقع عند الشدّة و لو حال اليأس و لذلك أتوا مسؤولهم بكلمة الشكّ بقولهم «لعلّي» و أوردوا الكلام الّذي للترجّي مع كونهم جازمين بأنّهم يتدارسونه كون و لا يتداركون كما قال اللّه: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» (1).

و المراد من قوله: [لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ] أي فيما خلّفت من المال لأتدارك فيما تركت من أداء حقوقها الواجبة من اللّه و من الناس و كذلك لأداء العبادات المتروكة الفائتة كأنّهم تمنّوا الرجعة لإصلاح ما أفسدوا و يطيعوا في كلّ ما عصوا.

قال الصادق عليه السّلام في مانعي الزكاة: يسأل الرجعة عند الموت.

و هذا البيان على قول الأكثرين من أنّه راجع إلى حال الكفّار لكن قال الضحّاك: كنت جالسا عند ابن عبّاس فقال: ذلك قول من لم يزكّ و لم يحجّ يسأل الرجعة عند الموت فقال رجل: إنّما يسأل ذلك الكفّار فقال ابن عباس: أنا أقرأ عليك به قرانا قوله تعالى: «وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ» (2) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا حضر الإنسان الموت جمع كلّ شي ء كان يمنعه من حقّه بين يديه فيقول عنده: «رَبِّ ارْجِعُونِ» الآية.

قوله: [كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] فيقول اللّه سبحانه في جوابهم كلمة المنع و الردع بما طلبوا كما يقال لطالب الأمر المستبعد: هيهات، في الحديث إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعائشة: إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا له: نرجعك إلى الدنيا فيقول المؤمن: إلى دار الهموم و الأحزان؟ لا بل قدوما على اللّه و أمّا الكافر فيقال له: نرجعك فيقول: ارجعوني فيقال له: إلى أيّ شي ء ترغب إلى جمع المال أو غرس

ص: 301


1- الانعام: 28.
2- المنافقون: 10.

الغراس أو بناء البنيان أو شقّ الأنهار؟ فيقول: لعلّي أعمل صالحا فيما تركت! فيقول الجبّار: كلّا.

و قوله «هُوَ قائِلُها» أي إنّه قائلها و لا حقيقة لها فقط يقوله بلسانه و قيل: معناه:

إنّه قائل وحده هذه الكلمة و لا يسمع منه و لا يجاب عنه و قيل: معناه: إنّه لا يسكت عن هذه الكلمة لاستيلاء الحسرة عليه «وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» أي و من أمامهم مانع و حاجز إلى الرجوع «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» و يوم يبعثون إلى القيامة لا إلى الدنيا فليس لهم رجوع و الجمع باعتبار المعنى لأنّ الكلّ في هذا الحكم مشتركون كما أنّ الإفراد في الضمائر الأوّل باعتبار اللفظ و هذا الكلام إقناط كلّيّ عن الرجوع إلى الدنيا و الوراء يطلق على الأمام لأنّ معناه ما ستر و وري عنك و الأمام كذلك مستور عن الإنسان كما أنّ الخلف مستور.

القميّ: البرزخ أمر بين أمرين و هو الثواب و العقاب بين الدنيا و الآخرة و هو قول الصادق عليه السّلام: و اللّه ما أخاف عليكم إلّا البرزخ و أمّا إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: إنّي سمعتك و أنت تقول: كلّ شيعتنا في الجنّة على ما كان منهم؟ قال عليه السّلام: صدقتك، كلّهم و اللّه في الجنّة، قيل: إنّ الذنوب كثيرة كبار فقال: عليه السّلام أمّا في القيامة فكلّكم أجمعون بشفاعة النبيّ المطاع أو وصي النبيّ و لكنّي و اللّه أتّخوف عليكم في البرزخ قيل: و ما البرزخ؟ فقال: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة. و في الخصال عن السجّاد عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية و قال:

هو القبر و إنّ لهم معيشة ضنكا و اللّه إنّ القبر لروضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران.

قوله: [سورة المؤمنون (23): الآيات 101 الى 110]

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105)

قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)

ص: 302

ثمّ بيّن سبحانه حال الفريقين و حال ذلك اليوم الّذي فيه يبعثون.

و في الصور أقوال: أحدها و هو الصحيح آلة إذا نفخ فيها يظهر صوت عظيم جعله اللّه لوقت إعادة الخلق و ينفخ فيه إسرافيل و هو قول أكثر المفسّرين. و قيل: نفخ الصعق جعلها اللّه علامة لخراب الدنيا. و قيل: نفخة البعث فحينئذ النفخة نفختان و قرئ في الصور محرّكة جمع صورة أي إذا نفخ فيه الأرواح و أعيدت أحياء.

قوله: [فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ] أي لا يتواصلون بالأنساب و لا يتعاطفون بها مع معرفة بعضهم بعضا و لا يرحم قريب قريبه يشغله عنه من الخوف و الدهشة و حاصل المعنى أنّه لا يفضّل بعضهم بعضا يومئذ بنسب و إنّما يتفاضلون بأعمالهم قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

كلّ حسب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا حسبي و نسبي.

[وَ لا يَتَساءَلُونَ] أي لا يسأل أحد عن حال أحد كما يسألون في الدنيا يشغل كلّ واحد بنفسه و لا تنافي بين هذا القول مع قوله: «وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ»* (1) لأنّ مواقف القيامة كثيرة ثمّ إنّ الّذين يتساءلون لعلّ بعض أهل الجنّة و يتساءلون عند دخولها فإنّهم لا يفزعون من أهوال يوم القيامة أو فرغوا من فزعها و المراد في الآية نفي آثار النسب و حكمه لا نفي النسب في الحقيقة و ذلك بيان الخوف الشديد الطاري عليهم.

قال ابن مسعود: يؤخذ العبد و الأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد و ينادي مناد:

ألا إنّ هذا فلان فمن له حقّ عليه فليأت إلى حقّه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حقّ على امّها أو أختها أو أبيها أو أخيها أو ابنها أو زوجها فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون و لا شي ء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شي ء ثمّ تلا: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ» (2) قال: عليه السّلام ثلاث مواطن تذهل فيها

ص: 303


1- الصافات: 27.
2- عبس: 34.

كلّ نفس: حين يرمى إلى كلّ إنسان كتابه و عند الموازين و على جسر جهنّم.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ بعد النفخ في الصور تكون المحاسبة فشرح أحوال السعداء و الأشقياء [فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ] بالطاعات [فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] الناجون أي من أتى بما له قدر و خطر فهو الفائز [وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ] و من أتى بما لا وزن له كقوله: «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً فأولئك هم الخاسرون» (1) و هو خالد في جهنّم و الموازين جمع موزون و هي الموزونات من الأعمال الصالحة الّتي لها وزن و قدر. و بالجملة من ثقلت حسناته فإلى الجنّة و من ثقلت سيّئاته فإلى النار.

و الأشقياء و صفهم اللّه بأمور أربعة: أحدها أنّهم خسروا أنفسهم و غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين و امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب و ثانيها خالدون في جهنّم و ثالثها قوله: [تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ] أي تضرب و تأكل جلودهم و لحومهم و الفح و النفخ في المعنى واحد إلا أنّ اللفح أشدّ تأثيرا من النفخ و هو ضرب من السموم للوجه و رابعها قوله: [وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ] و الكلوح تقلّص الشفتين عن الأسنان حتّى تبدو الأسنان كما ترى الرؤوس المشويّة و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: تشويه النار فتتقلّص شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه و تسترخي شفته السفلى حتّى تبلغ سرّته و قرئ كلحون.

ثمّ إنّه سبحانه لمّا شرح عذابهم حكى ما يقال لهم عند ذلك تقريعا و توبيخا [أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ] أي أو لم تكن القرآن يقرأ عليكم أو حججي و بيّناتي تقرأ عليكم في دار الدنيا فكذّبتموها فلا جرم صرتم مستحقّين لما أنتم فيه من العذاب الأليم و الآية صريحة دالّة على أنّهم إنّما وقعوا في ذلك العذاب بسوء أفعالهم و لو كان فعل العباد بخلق اللّه كما زعم الأشاعرة لما صحّ ذلك.

[قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ] ثمّ اعتذروا و ذكروا ما يجري مجرى الجواب عنه بأن غلبت الشقاوة و سوء العاقبة و حال الشقاء و طلبنا اللّذّات المحرّمة و حرصنا على الأعمال القبيحة فأطلق اسم المسبّب على السبب و المعنى استعلى

ص: 304


1- النور: 39.

علينا سيّئاتنا الّتي أوجبت لنا الشقاوة و كنّا قوما ذاهبين عن الحقّ و من أكثر الشقاوة أن يترك عبادة اللّه إلى عبادة غيره.

[قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ] أي ابعدوا بعد الكلب و هذه الكلمة زجر و طرد للكلاب و هذه الكلمة بقولهم: «فَإِنَّا ظالِمُونَ» آخر كلام يتكلّم به أهل النار ثمّ بعد ذلك يكون لهم شهيق كشهيق الحمار و يقال لهم: اخسئوا و لا تكلّمون في دفع العذاب فإنّه لا يرفع عنكم و لا يخفّف ثمّ لا كلام بعد ذلك إلّا الشهيق و العواء كعواء الكلب و «لا تكلّمون» بصيغة النهي و ليس بنهي لأنّ الأمر و النهي مرتفعان في الآخرة لارتفاع التكليف.

قال ابن عبّاس: إنّ لأهل النار ستّ دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة:

«رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا» (1) فيجابون: «حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي» (2) فينادون ألف سنة ثانية: «رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» (3) فيجابون «ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ» (4) فينادون ألف ثالثة: «يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» (5) فيجابون «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» (6) فينادون ألفا رابعة: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ» (7) فيجابون: «أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ» (8) فينادون ألفا خامسة: «أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً» (9) فيجابون: «أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ» (10) فينادون ألفا سادسة: «رَبِّ ارْجِعُونِ» (11) فيجابون: «اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ» (12).

ثمّ وصف سبحانه ما لأجله حلّ بهم العذاب و عذّبوا و بعدوا من الخير [إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي] أي طائفة من عبادي و هم الأنبياء أو المؤمنون [يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ] أي كانوا يدعون بهذه الدعوة في الدنيا طلبا لما عندي من ثواب الآخرة [فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ] أنتم يا معشر الكفّار [سِخْرِيًّا] كنتم

ص: 305


1- الم السجدة: 12.
2- الم السجدة: 13.
3- المؤمن: 11.
4- المؤمن: 12.
5- الزخرف: 47.
6- الزخرف: 77.
7- المؤمنون: 108.
8- ابراهيم: 44.
9- فاطر: 37.
10- فاطر: 37.
11- المؤمنون: 100.
12- المؤمنون: 109.

تهزءون و تسخرون منهم.

[حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي] بتشاغلكم بهم في الاستهزاء عن ذكري فنسب الإنساء إلى المؤمنين و إن لم يفعلوا لمّا كانوا السبب في ذلك و من فرط اشتغالكم باستهزائهم حين ما يقول المؤمنون كلمة «ربّنا فاغفر لنا» نسيتم ذكري و كذّبتم هذا اليوم، و كانوا يؤذون المؤمنين مثل أصحاب الصفّة و قيل: يستعبدون الفقراء و الضعفاء و الصعاليك من المؤمنين مثل بلال و خباب و عمّار و صهيب و يصرفونهم في أعمالهم الشاقّة و حوائجهم كرها بغير أجر و كان رؤساء قريش مثل أبي جهل و عتبة و ابيّ بن خلف يقولون: انظروا إلى هؤلاء رضوا من الدنيا بالعيش الدني ء طمعا في ثواب الآخرة و ليس وراءهم آخرة و لا ثواب و هذا معنى النسيان من الذكر.

و أكّد سبحانه ذلك بقوله: [وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ] و هذا العذاب جزاء ضحككم و تكذيبكم يوم القيامة و أمّا جزاء المؤمنين:

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 111 الى 118]

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115)

فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

ثمّ أخبر سبحانه حال المؤمنين الصابرين في استهزاء الكفّار في دار الدنيا فقال:

[إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ] بصبرهم على أذاكم و سخريّتكم بهم [أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ] أي الظافرون بما أرادوا و الناجون في الآخرة و المراد بقوله «اليوم» أيّام الجزاء لا يوم بعينه.

قوله تعالى: [قالَ] اللّه تعالى. للكفّار يوم البعث و هو سؤال توبيخ لمنكري

ص: 306

البعث: [كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ] أي في الدنيا أو في القبور و قيل: الضمير في «قال» راجع إلى الملك أو بعض رؤساء أهل النار لأنّهم كانوا ينكرون الآخرة و يقولون:

اللبث في الدنيا و لا إعادة بعد الموت فلمّا حصلوا في النار و أيقنوا أنّها دائمة سألهم «كَمْ لَبِثْتُمْ» تنبيها لهم على أنّ ما ظنّوه دائما فهو يسير بالنسبة إلى ما أنكروه فحينئذ تزداد حسرتهم على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا حيث أيقنوا خلافه.

فإن قيل: كيف يصحّ في جوابهم أن يقولوا [يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ] و لا يقع من أهل النار الكذب؟ لأنّهم نسوا من كثرة العذاب و قد اعترفوا بالنسيان حيث قالوا:

[فَسْئَلِ الْعادِّينَ] و قيل: المراد من قولهم يوما أو بعض يوم من أيّام الآخرة و العادّين يعني الملائكة الحفظة الّذين يحصون أعمال العباد و قيل: المراد أهل الحساب الملائكة الّذين يعدّون الأيّام و عدد تنفّس الخلائق.

[قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا] قال اللّه: ما مكثتم إلّا يسيرا من الزمان لأنّ مكثهم في الدنيا أو في القبور و إن طال فإنّه قليل بالإضافة إلى طول مكثهم في عذاب جهنّم [لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] صحّة ما أخبرناكم به أو المعنى: لو كنتم تعلمون قصر أعماركم و طول مكثهم في العذاب لما اشتغلتم بالكفر و المعاصي.

ثمّ قال سبحانه لهم: [أَ فَحَسِبْتُمْ] معاشر الجاحدين [أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً] أي لعبا و باطلا لا لغرض و حكمة مثل قوله «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً» (1) [وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ] و زعمتم عدم رجوعكم إلينا و ليس الأمر كما زعمتم.

ثمّ برّأ سبحانه نفسه عن العبث و اللغو فقال: [فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ] من أن يفعل شيئا عبثا و الملك الحقّ الّذي يحقّ له الملك لأنّ كلّ مالك غيره فهو مستعير منه و هو صاحب الملك [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ] و هو خالق السرير الأعظم و الكريم هاهنا صفة العرش أي كثير الخير و قد وصف العرش به لأنّ إتيان الخير من جهته و لكثرة ما فيه من الخير لمن حوله من الملائكة و خصّ بالذكر مع كونه ربّ كلّ شي ء تعظيما له كقوله «رَبَّ هذَا الْبَيْتِ» قال أبو مسلم: و العرش هاهنا السماوات بما فيها

ص: 307


1- القيامة: 36.

مع العرش الّذي يطوف الملائكة حوله.

قوله: [وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ] لمّا بيّن أنّه سبحانه هو الملك الحقّ لا إله إلّا هو أتبعه بأنّ من ادّعى إلها آخر فقد ادّعى باطلا من حيث لا برهان لهم فيه و نبّه بذلك على أنّ كلّ ما لا برهان فيه لا يجوز إثباته و ذلك يوجب صحّة النظر و فساد التقليد.

ثمّ قال سبحانه: إنّ من كان كذلك و أشرك مع اللّه إلها آخر [فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ] فكأنّه قال: إنّ عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلّا اللّه و حسابه عدم الفلاح كما أنّ للمؤمنين الفلاح، فشتّان بين فاتحة السورة و خاتمة السورة.

ثمّ بعد بيان حال المؤمنين و الكافرين أمر نبيّه بالانقطاع إليه و الطلب إلى غفرانه و رحمته فإنّهما العاصمان عن كلّ المخافات و الآفات بقوله: [وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ] و روي أنّ أوّل السورة و آخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أوّلها و اتّعظ بأربع من آخرها فقد نجا و أفلح.

تمّت السورة بحمد اللّه.

ص: 308

سورة النور

اشارة

(مدنية) عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة النور اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ مؤمن و مؤمنة فيما مضى و فيما بقي.

و روى الحاكم أبو عبد اللّه في الصحيح عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لا تنزّلوهنّ الغرف و لا تعلّمونهنّ الكتابة و علّموهنّ الغزل و سورة النور.

و روى عبد اللّه بن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: حصّنوا أموالكم و فروجكم بتلاوة سورة النور و حصّنوا بها نساءكم فإنّ من أدمن في قراءتها في كلّ ليلة أو في كلّ يوم لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتّى يموت فإذا مات شيّعه إلى قبره سبعون ألف ملك يدعون و يستغفرون اللّه له حتّى يدخل إلى قبره.

ص: 309

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة النور (24): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

أي هذه سورة و قطعة من القرآن من السور. و قرئ «سورة» بالنصب و «فرضناها» قرئ بالتشديد أي أوجبناها عليكم العمل بها و على من بعدكم إلى يوم القيامة و قدّرنا فيها الحدود.

[وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] أي أنزلنا في هذه السورة دلالات واضحات على وحدانيّتنا و كمال قدرتنا لكي تتذكّرون و تعلموا بما فيها من الحدود و الأحكام فابتدأ بحكم الزنا فقال:

[الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي] مرفوعة على الابتداء و الخبر «فاجلدوا» أي من زنت من النساء و زنى من الرجال فيفيد العموم في الجنس [فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ] و إنّما دخلت الفاء لكون الألف و اللام بمعنى الّذي و تضمّنه معنى الشرط كما يقول: من زنى فاجلدوه و قرئ «و الزان» بلا ياء.

القميّ: هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: «وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» (1) و في الكافي عن الباقر عليه السّلام و سورة النور أنزلت بعد سورة النساء و تصديق ذلك أنّ اللّه سبحانه بيّن في سورة النساء بقوله: «أَوْ يَجْعَلَ

ص: 310


1- النساء: 14.

اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» و السبيل الّذي قال تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها- إلى قوله- طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

و في التهذيب عن الصادق عليه السّلام: الحرّ و الحرّة إذا زنيا جلد كلّ واحد منهما مائة جلدة فأمّا المحصن و المحصنة فعليهما الرجم و بالجملة فالجلد إذا كانا حرّين بالغين غير محصنين و أمّا إذا كانا محصنين أو كان أحدهما محصنا كان عليه الرجم بلا خلاف و الإحصان هو أنّ له فرج يغدو إليه و يروح على وجه الدوام و يكون حرّا فأمّا العبد فلا يكون محصنا و كذلك الأمة لا تكون محصنة و إنّما عليها نصف الحدّ خمسون جلدة لقوله سبحانه: «فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» (1).

و عنه عليه السّلام في الكافي سئل عن المحصن فقال: الّذي يزني و عنده ما يغنيه. و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن الجارية أتحصن قال: نعم إنّما هو على وجه الاستغناء. قيل:

المتعة؟ قال: لا إنّما ذلك على الشي ء الدائم.

و عن الصادق عليه السّلام لا يرجم الرجل و لا المرأة حتّى يشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع و الإيلاج كالميل و في المكحلة.

و عن الأصبغ بن نباتة إنّ عمر اتي بخمسة نفر أخذوا في الزنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم و كان أمير المؤمنين عليه السّلام حاضرا فقال: يا عمر ليس هذا حكمهم قال عمر:

فأقم أنت الحدّ عليهم فقدّم عليه السّلام واحدا منهم فضرب عنقه، و قدّم الآخر فرجمه، و قدّم الثالث فضرب الحدّ مائة جلدة، و قدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، و قدّم الخامس فعزّره فتحيّر عمرو تعجّب الناس من فعله فقال له: يا أبا الحسن خمسة نفر في قضيّة واحدة أقمت عليهم خمسة حدود ليس شي ء منها يشبه الآخر فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:

أمّا الأوّل فكان ذمّيا فخرج عن ذمّته لم يكن له حدّ إلّا السيف، فأمّا الثاني فرجل محصن كان حدّه الرجم، و أمّا الثالث فغير محصن فحدّه الجلد، و أمّا الرابع فعبد ضربناه نصف الحدّ و أمّا الخامس فمغلوب على عقله.

و القميّ مثله إلّا أنّه قال: ستّة نفر قال: و أطلق السادس ثمّ قال: و أمّا الخامس

ص: 311


1- النساء: 24.

فكان منه ذلك الفعل بالشبهة فعزّرناه و السادس مجنون فأطلقناه.

و يضرب الرجل الحدّ قائما و المرأة قاعدة و يترك الرأس و المذاكير. و سئل عنه عليه السّلام: كيف يجلد قال عليه السّلام: أشدّ الجلد فقيل له: فوق الثياب فقال: لا بل يجرّد.

و باقي فروعات المسألة يطلب من كتب الفقهيّة و إنّما قدّم ذكر الزانية على الزاني لأنّ الزنى منهنّ أشنع و أعير و هو لأجل الحبل أضرّ و أفسد. و قوله: «فَاجْلِدُوا» خطاب للأئمّة و من يكون منصوبا من جهتهم للأمر لأنّه ليس لأحد أن يقيم الحدود إلّا للأئمّة و من ناب عنهم فيشمل العلماء العاملين في زمان الغيبة لأنّ لهم التصرّف في الأمور.

و اعلم أنّ الزنا حرام و هو من الكبائر و يدلّ عليه امور:

أحدها أنّ اللّه قرنه في الذكر بعد الشرك و قتل النفس في قوله: «وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً» (1) و قال تعالى: «وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا» (2).

و ثانيها أنّه تعالى أوجب المائة فيها بكمالها بخلاف حدّ القذف و شرب الخمر و شرع فيه الرجم و نهى المؤمنين عن الرأفة و أمر بشهود الطائفة للتشهير.

و ثالثها ما روى حذيفة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: يا معشر الناس اتّقوا الزنى فإنّ فيه ستّ خصال: ثلاث في الدنيا و ثلاث في الآخرة؛ أمّا الّتي في الدنيا: فيذهب البهاء، و يورث الفقر، و ينقص العمر؛ و أمّا الّتي في الآخرة: فسخط اللّه و سوء الحساب و عذاب النار.

و عن عبد اللّه قال: قلت: يا رسول اللّه أيّ الذنب أعظم عند اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أن تجعل للّه ندّا و هو خلقك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك. قلت ثمّ أيّ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أن تزني بحليلة جارك فأنزل اللّه تصديقها

ص: 312


1- الفرقان: 68.
2- الإسراء: 37.

«وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ، الآية» (1).

قوله تعالى: [وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] المعنى: إن كنتم تصدّقون باللّه و تقرّون بالبعث و النشور فلا تأخذكم بهما رأفة و رحمة تمنعكم إقامة الحدّ عليهما و قيل: معناه: لا تأخذكم بهما رأفة تمنع من الجلد الشديد و تضربون بحيث لا يوجع بل أوجعوها و لا تخفّفوا في الضرب كما يخفّف في حدّ الشارب و قوله: «فِي دِينِ اللَّهِ» أي حكم اللّه و طاعته و هو كقوله «ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ» (2).

و الغرض من هذا البيان من باب التهييج و الغيرة للّه تعالى و دينه؛ و كفي برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسوة في ذلك حيث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها.

و هذا يدلّ على أنّ الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان بخلاف ما تقوله المرجئة و لا بدّ أن يكون المؤمن بطبعه راغبا إلى ما حكم اللّه به و لا يكون مائلا بأن لا يقام حدود اللّه فيكون حينئذ منكرا للدين فيخرج عن الإيمان. و في الحديث: يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا فيقال له: لم فعلت ذاك؟ فيقول: رحمة لعبادك فيقال له: أنت أرحم لهم منّي؟ فيؤمر به إلى النار و يؤتى بمن زاد سوطا فيقال له: لم فعلت ذاك؟ فيقول:

لينتهوا عن معاصيك فيقول: أنت أحكم به منّي فيؤمر به إلى النار.

قوله: [وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ] أي و ليحضر حال إقامة الحدّ عليهما جماعة من المؤمنين و هم ثلاثة فصاعدا، و قيل: الطائفة رجلان فصاعدا، و قيل: أقلّه رجل واحد و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. و يدلّ على صحّة هذا القول قوله تعالى:

«وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا» (3) و هذا الحكم يثبت للواحد كما يثبت للجمع و قيل: أقلّها أربعة لأنّ أقلّ ما يثبت به الزنى أربعة. و قيل: ليس لهم عدد محصور بل هو موكول إلى رأى الإمام و المقصود حصول العبرة و انزجار الناس عن المعصية و رفع

ص: 313


1- الفرقان: 68.
2- يوسف: 76.
3- الحجرات: 9.

التهمة عمّن يجلد.

قوله تعالى: [الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] في الصافي القميّ: هو ردّ على من يستحلّ التمتّع بالزواني و التزويج بهنّ و هنّ المشهورات في الزنا لا يقدر الرجل على تحصينهنّ قال:

و نزلت هذه الآية في نساءكنّ فاحشات مستعلنات بالزنا: سارة و خيثمة و الرباب كنّ يغنّين بهجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحرّم اللّه نكاحهنّ و جرت بعدهنّ في النساء أمثالهنّ.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: نساءكنّ مشهورات بالزنا و رجال مشهورون بالزنا شهروا و عرفوا به و الناس اليوم بتلك المنزلة فمن أقيم عليه حدّ الزنا أو شهر به لم ينبغ لأحد أن يناكحه حتّى يعرف منه التوبة.

و عنه عليه السّلام إنّما ذلك في الجهر ثمّ قال: لو أنّ إنسانا زنى ثمّ تاب تزوّج حيث يشاء.

و عن الباقر عليه السّلام هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشهورين بالزنا فنهى اللّه عن أولئك الرجال و النساء و الناس اليوم على تلك المنزلة من شهر شيئا من ذلك أو أقيم عليه الحدّ فلا تزوّجوه حتّى تعرف توبته و عنه عليه السّلام في حديث أنّها نزلت بالمدينة.

و بالجملة في المجمع: اختلف في تفسيره على وجوه- و ظاهر الآية خبر و لكنّ المراد النهي في الآية-:

الوجه الاول أنّ المراد بالنكاح العقد و نزلت الآية على سبب و هو أنّ رجلا من المسلمين استأذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن يتزوّج امّ مهزول و هي امرأة كانت تسافح و لها راية على بابها تعرف بها فنزلت الآية. عن عبد اللّه بن عبّاس و الزهريّ و جماعة و يؤيّده ما روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا: هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول اللّه مشهورين بالزنى فنهى اللّه عن أولئك الرجال و النساء و الناس اليوم على تلك المنزلة فمن شهر بشي ء من ذلك فلا تزوّجوه حتّى تعرف توبته.

و ثانيها أنّ النكاح هنا الجماع و المعنى أنّهما اشتركا في الزنى أي الزانية مثل

ص: 314

الزاني فيكون المعنى نظير قوله «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ» (1).

و ثالثها أنّ هذا الحكم كان في كلّ زان و زانية ثمّ نسخ بقوله «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ» (2) الآية.

و رابعها أنّ المراد به العقد و ذلك الحكم ثابت فمن زنى بامرأة فإنّه لا يجوز له أن يتزوّج بها.

قوله: [وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] أي حرّم نكاح الزانيات أو حرّم الزنى على المؤمنين فلا يتزوّج بهنّ أولا يطأهنّ إلّا زان أو مشرك و إنّما قرن سبحانه بين الزاني و المشرك تعظيما لأمر الزنى و تفخيما لحرمته و لا يجوز أن يكون هذه الآية خبرا لأنّا نجد الزاني يتزوّج غير الزانية.

قال الرازيّ: و إنّما قال سبحانه: «حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» من وجهين:

أحدهما أنّ نكاح المؤمن الممدوح عند اللّه الزانية و رغبته فيها و انخراطه بذلك في سلك الفسقة المتّسمين بالزنا محرّم عليه لما فيه من التشبّه بالفسّاق و حضور مواضع التهمة و التسبّب بسوء المقالة في حقّه و الغيبة و مجالسة الخاطئين كم فيها من التعرّض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني و الفجّار.

الثاني و هو أنّ صرف الرغبة بالكلّيّة إلى الزواني و ترك الرغبة في الصالحات محرّم على المؤمنين لأنّ قوله «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً» معناه أنّ الزاني لا يرغب إلّا في الزانية فهذا الحصر محرّم على المؤمنين و لا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزوّج بالزانية.

ثمّ ذكر الرازيّ وجها آخر و هو أنّ الألف و اللام في قوله «الزاني» و في قوله «حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» و إن كان للعموم ظاهر لكنّه هاهنا مخصوص بالأقوام الّذين نزلت هذه الآية فيهم.

قال مجاهد و عطا بن رياح و قتادة: قدم المهاجرون المدينة و فيهم فقراء و ليس

ص: 315


1- السورة: 26.
2- السورة: 32.

لهم أموال و لا عشائر و بالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهنّ و هنّ يومئذ أخصب أهل المدينة و لكلّ واحدة منهنّ علامة على بابها كعلامة البيطار لتعرف أنّها زانية و كان لا يدخل عليها إلّا زان أو مشرك فرغب في كسبهنّ ناس من فقراء المسلمين و قالوا:

نتزوّج بهنّ إلى أن يغنينا اللّه عنهنّ فاستأذنوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزلت هذه الآية.

و تقدير الآية أولئك الزواني لا ينكحون إلّا تلك الزانيات و تلك الزانيات لا ينكحن إلّا أولئك الزواني و حرّم نكاحهنّ بأعيانهنّ على المؤمنين.

و قيل: إنّ قوله: «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً» و إن كان في الظاهر خبرا لكنّ المراد النهي و المعنى أنّ كلّ من كان زانيا فلا ينبغي أن ينكح إلّا زانية و حرّم ذلك على المؤمنين و هكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام ثمّ نسخ بعموم قوله: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» (1) و قوله: «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى» (2) و احتجّ الّذين يدّعون هذا النسخ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه سئل عن ذلك فقال: أوّله سفاح و آخره نكاح و الحرام لا يحرّم الحلال.

و إنّما قدّم الزانية على الزاني في الذكر في الآية الاولى و هاهنا بالعكس لأنّ الآية الاولى بيان العقوبة على الجناية و المرأة هي المادّة في الزنا و أمّا الآية الثانية بيان لذكر النكاح و الرجل أصل فيه.

الحكم الثالث القذف:

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 4 الى 5]

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

لمّا تقدّم ذكر حدّ الزنى عقّبه بذكر حدّ القاذف بالزنى و لو أنّ ظاهر الآية لا يدلّ أيّ شي ء الّذي رموا به و ذكر الرامي لا يدلّ على الزنى إذ قد يرميها بالسرقة أو بشرب الخمر أو بالكفر و قد أجمع العلماء على أنّ المراد الرمي بالزنا نعم في الآية

ص: 316


1- النساء: 3.
2- النور: 32.

بيان يدلّ عليه: أحدها تقدّم ذكر الزنا و كذلك ذكر المحصنات و هنّ العفائف فيدلّ ذلك على أنّ المراد بالرمي رميهنّ بضدّ العفاف، ثمّ قوله: «ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» يعنى على صحّة ما رموهنّ به، و معلوم أنّ هذا العدد من الشهود غير مشروط إلّا في الزنا على أنّ انعقد الإجماع بأنّه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنى. و بالجملة فالآية تتعلّق بالرمي و الراميّ و المرميّ.

و ألفاظ القذف تنقسم إلى صريح و كناية و تعريض أمّا القسم الأوّل و هو الصريح مثل أن يقول: يا زانية أو زنيت فلا شبهة بأنّه القذف و يردّ على القاذف أحكامه.

و أمّا الكناية فلا يكون قذفا إلّا أن أراد به القذف. و أمّا التعريض بالقذف محتمل للقذف و لغيره فلا يجب الحدّ عليه لأنّ الأصل براءة الذمّة فلا يرجع عن الأصل بالشكّ و الاحتمال و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادرءوا الحدود بالشبهات.

و الحاصل: الّذين ينسبون العفائف من النساء بالزنى و حذف لدلالة الكلام عليه [ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ] على صحّة ما نسبوا إليهنّ يشهدون مع كونهم عدول أنّهم رأوهنّ يفعلن ذلك الأمر [فَاجْلِدُوهُمْ] أي فاجلدوا الّذين يرمونهنّ بالزنا [ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ] فنهى سبحانه عن قبول شهادة القاذف على التأييد و حكم عليهم بالفسق.

ثمّ استثنى عن ذلك فقال: [إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا] القميّ عن الصادق عليه السّلام: القاذف يجلد ثمانين جلدة و لا تقبل له شهادة أبدا إلّا بعد التوبة أو يكذّب نفسه و إن شهد ثلاثة و أبى واحد يجلد الثلاثة و لا يقبل شهادتهم حتّى يقول أربعة: رأينا مثل الميل في المكحلة و من شهد على نفسه أنّه زنى لم تقبل شهادته حتّى يعيدها أربع مرّات.

و في الكافي و التهذيب أنّه عليه السّلام سئل كيف تعرف توبته فقال: يكذّب نفسه على رءوس الخلائق حين يضرب و يستغفر ربّه فإذا فعل ذلك فقد ظهرت توبته. و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يقذف الرجل فجلد حدّا ثمّ يتوب و لا يعلم منه إلّا خيرا أ تجوز شهادته؟ قال: نعم، فما يقولون عندكم؟ قيل: يقولون توبته فيما بين اللّه و بينه

ص: 317

و لا يقبل شهادته أبدا. فقال: بئس ما قالوا: كان أبي يقول: إذا تاب و لم يعلم منه إلّا خيرا جازت شهادته.

و بالجملة منشأ الاختلاف في الاستثناء بأنّ هذا الاستثناء إلى ماذا يرجع قيل:

إنّه يرجع إلى الفسق خاصّة دون قوله «وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً» فيزول عنه اسم الفسق بالتوبة و لا يقبل شهادته إذا تاب بعد إقامة الحدّ عليه عن جماعة كالحسن و قتادة و شريح و إبراهيم و أبو حنيفة و أصحابه.

و القول الآخر أنّ الاستثناء يرجع إلى الأمرين فإذا تاب قبلت شهادته حدّ أولم يحدّ عن جماعة كابن عبّاس و الوالبيّ و مجاهد و الزهريّ و مسروق و عطا و طاوس و سعيد بن جبير و الشعبيّ و هو اختيار الشافعيّ و أصحابه و كذلك قال أبو جعفر و أبو عبد اللّه عليهما السّلام.

و قال الزجّاج: ليس القاذف بأشدّ جرما من الكافر و الكافر إذا أسلم قبلت شهادته فالقاذف أيضا حقّه إذا تاب أن تقبل شهادته. و يعضد هذا القول أن المتكلّم بالفاحشة لا ينبغي أن يكون أعظم جرما من مرتكبها و لا خلاف في العاهر أنّه إذا تاب قبلت شهادته.

و إذا كان القاذف عبدا أو أمة فعند فقهاء العامّة أكثرهم الحدّ أربعون و عند أصحابنا أنّ الحدّ ثمانون في الحرّ و العبد سواء. و ظاهر الآية يقتضي ذلك و به قال عمر بن عبد العزيز و القاسم بن عبد الرحمن.

مسألة لو قذفها القاذف مرارا فنظر فإن كان القاذف أراد بالتكرار زنية واحدة بأن قال: فلانة زنت بعمرو، و قاله مرارا لا يجب إلّا حدّ واحد، و إن قذفها بزنيات مختلفة بأن قال: زنت بزيد ثمّ قال: زنت بعمرو فهل يتعدّد الحدّ؟ ففيه عند فقهاء العامّة اختلاف في التعدّد و المرّة.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 6 الى 10]

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

ص: 318

لمّا تقدّم حكم القذف للأجنبيّات عقّبه بحكم القذف للزوجات.

النزول: عن ابن عبّاس لمّا نزل قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» قال عاصم بن عديّ: يا رسول اللّه إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين و إن التمس أربعة شهداء كان الرجل قد قضى حاجته ثمّ مضى قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كذا نزلت الآية يا عاصم فخرج سامعا مطيعا فلم يصل إلى منزله حتّى استقبله هلال بن اميّة يسترجع فقال: ما وراءك قال: شرّ، وجدت شريك بن سمحاء على بطن امرأتي خولة فرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبر النبيّ هلال بالّذي كان فبعث النبيّ إليها فقال: ما يقول زوجك فقالت: يا رسول اللّه إنّ شريك كان يأتينا فينزل بنا و يتعلّم الشي ء من القرآن فربّما تركه زوجي و خرج فلا أدري أدركته الغيرة أم بخل عليّ بالطعام فأنزل اللّه هذه الآية بقوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ» الآية. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ابشر يا هلال فإنّ اللّه قد جعل فرجا فقال هلال: قد كنت أرجو ذاك من اللّه فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أرسلوا إليها فجاءت فلاعن بينهما فلمّا انقضى اللعان فرّق بينهما و قضى أنّ الولد لها و لا يدعى لأب و لا يرمى ولدها ثمّ بعد ذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن جاءت به كذا و كذا فهو لزوجها و إن جاءت به كذا كذا فهو للّذي قيل فيه.

و معنى الآية: الّذين ينسبون الزنى إلى زوجاتهم و لم يكن لهم شهداء يشهدون له على صحّة قولهم إلّا أنفسهم فشهادة أحدهم الّتي تدرأ حدّ القاذف أربع شهادات باللّه إنّه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى [وَ الْخامِسَةُ] أي الشهادة الخامسة [أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ] فيما رماها به من الزنى أي إنّ الرجل يقول أربع مرّات مرّة بعد اخرى: اشهد باللّه إنّي لمن الصادقين فيما ذكرت عن هذه المرأة من الفجور فإنّ هذا حكم خصّ اللّه به الأزواج في قذف نسائهم فيقوم الشهادات الأربع مقام الشهود الأربعة في دفع حدّ القذف عنهم ثمّ يقول في المرّة الخامسة لعنة اللّه عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا.

ص: 319

[وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ] أي و يدفع عن المرأة حدّ الزنى و هو الرجم أن تقول المرأة أربع مرّات مرّة بعد اخرى: اشهد باللّه إنّه لمن الكاذبين فيما قذفني به من الزنى و الخامسة [أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها] أي و تقول في الخامسة: إنّ غضب اللّه عليّ [إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ] فيما قذفني به من الزنى ثمّ يفرّق الحاكم بينهما و لا تحلّ له أبدا و كان عليها العدّة من وقت لعانها.

في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: هو القاذف الّذي يقذف امرأته فإذا قذفها ثمّ أقرّ أنّه كذب عليها جلد الحدّ و ردّت إليه امرأته و إن أبي إلّا أن يمضي فليشهد عليها أربعة شهادات باللّه إنّه لمن الصادقين و الخامسة يلعن فيها نفسه إن كان من الكاذبين و إن أرادت أن تدرأ عن نفسها العذاب و العذاب هو الرجم شهدت أربع شهادات باللّه إنّه لمن الكاذبين و الخامسة أن غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين فإن لم تفعل رجمت و إن فعلت درأت عن نفسها الحدّ ثمّ لا تحلّ له إلى يوم القيامة.

و بالجملة لمّا نزلت آية اللعان بعد غزوة تبوك و جاءه عويمر بن ساعدة و قال:

يا رسول اللّه امرأتي زنى بها شريك بن سحماء كما ذكرنا سابقا فأحضر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم امرأته و كانت في شرف من قومها فجاء معها جماعة فلمّا دخلت المسجد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعويمر: تقدّم إلى المنبر و التعنا فالتعنا حسبما شرحناه سابقا.

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لزوجها اذهب فلا تحلّ لك أبدا قال: يا رسول اللّه فمالي الّذي أعطيتها؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه و إن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن جاءت بالولد أحمش الساقين جعد قطط أنفس العينين فهو للأمر السيّئ و إن جاءت به أشهل أصهب فهو لأبيه يقال: إنّها جاءت به على الأمر السيّئ.

و بالجملة فهي لا تحلّ لزوجها أبدا و إن جاءت بولد لا يرثه أبوه و ميراثه لأمّه و إن لم تكن له امّ فميراثه لأخواله.

و عن الصادق عليه السّلام في رجل أوقفه الإمام للعان فشهد شهادتين ثمّ نكل و أكذب نفسه قبل أن يفرغ من اللعان قال: يجلد حدّ القاذف و لا يفرّق بينه و بين امرأته و إذا

ص: 320

قذفها غيره أب أو أخ أو ولد أو قريب منه جلد الحدّ أو يقيم البيّنة على ما قال.

قوله: [وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ] جواب لو محذوف و تقديره و لو لم يكن فضل عليكم بسبب النهي عن الزنا و الفواحش و إقامة الحدود لتهالك الناس و لفسد النسل و انقطع الأنساب أو المعنى: و لو لا إفضال اللّه و إنعامه عليكم و أن اللّه عوّاد على من يرجع عن المعاصي بالرحمة حكيم فيما فرضه من الحدود لنال الكاذب منهما أي من المتلاعنين عذاب عظيم و لعاجلكم بالعقوبة و لفضحكم بما تركبون من الفواحش.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 11 الى 16]

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16)

النزول: في براءة ما قيل في زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعند أهل الجماعة أنّها عائشة و عند الخاصّة أنّها مارية القبطيّة روى الزهريّ عن عروة بن الزبير و سعيد بن المسيّب و علقمة بن أبي وقّاص و عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عقبة بن مسعود كلّهم رووا عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه بأيّتهنّ خرج اسمها خرج بها معه قالت: أقرع بيننا في غزوة قبل غزوة بني المصطلق أو غزوة بني المصطلق من بني خزاعة فخرج فيها سهمي و ذلك بعد ما انزل الحجاب فخرجت مع رسول اللّه حتّى فرغ من غزوة و قفل قالت: و دنونا إلى المدينة فقمت حين أذّنوا بالرحيل فمضيت حتّى جاوزت الجيش فلمّا قضيت شأني و كنّا نخرج ليلا و ذلك قبل أن يتّخذ الكنيف و أمرنا أمر العرب الأوّل

ص: 321

في التنزّه، و كنّا نتأذّى بالكنف أن نتّخذها عند بيوتنا أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد من جذع قد انقطع فرجعت و التمست عقدي فحبسني ابتغاؤه و أقبل الرهط الّذين كانوا يرحلونني فحملوا هودجي على بعيري الّذي كنت أركب ظنّا منهم أنّي فيه لحداثة سنّي و خفّتي فذهبوا بالبعير فلمّا رجعت لم أجد في المكان أحدا فجلست و قلت: لعلّهم يعودون في طلبي فنمت و قد كان صفوان بن المعطّل يمكث في العسكر يتّبع أمتعة العسكر فيحمله إلى المنزل الآخر لئلّا يذهب منهم شي ء فلمّا رآني عرفني و قال:

ما خلّفك عن الناس فأخبرته الخبر فنزل و تنحّى حتّى ركبت ثمّ قاد البعير و افتقدني الناس حين نزلوا و ماج الناس في ذكري فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم و خاضوا في حديثي و قدم رسول اللّه المدينة و لحقني وجع و لم أر منه ما عهدته من اللطف الّذي كنت أعرف منه حين أشتكي إنّما يدخل رسول اللّه ثمّ يقول: كيف ئيّكم، فذاك الّذي يريبني و لا أشعر بعد بما جرى حتّى نقهت فخرجت في بعض الليالى مع امّ مسيطح لمهمّ لنا ثمّ أقبلت أنا و امّ مسيطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت امّ مسيطح في مرطها فقالت: تعس مسيطح، فأنكرت ذلك و قلت: أ تسبّين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: و ما بلغك الخبر؟ فقلت:

و ما هو؟ فقالت: أشهد أنّك من المؤمنات الغافلات ثمّ أخبرتني بقول أهل الإفك و منهم عبد اللّه بن ابيّ بن سلول و هو الّذي تولّى كبره و مسيطح بن أثاثه و حسّان بن ثابت و حمنة بنت جحش.

قالت عائشة: فازددت مرضا على مرضي فرجعت أبكي ثمّ دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: كيف ئيّكم؟ فقلت: ائذن لي أن آتي أبويّ فأذن لي فجئت أبويّ و قلت لأمّي: يا امّة ما ذا يتحدّث الناس؟ قالت: يا بنيّة هوني عليك فو اللّه لقلّما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبّها و لها ضرائر إلّا أكثرن القول عليها ثمّ قالت: ألم تكوني علمت ما قيل حتّى الآن؟ فأقبلت أبكي تلك الليلة ثمّ أصبحت فدخل عليّ أبي و أنا أبكي فقال لأمّي: ما يبكيها؟ لم تكن علمت ما قيل فيها حتّى الآن فأقبل يبكي. ثمّ قال:

اسكتي يا بنيّة.

و دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا و اسامة بن زيد و استشارهما في فراق أهله فقال

ص: 322

اسامة: يا رسول اللّه هم أهلك و لا نعلم إلّا خيرا و قال عليّ لم يضيّق اللّه عليك و النساء سواها كثيرة و إن تسأل الجارية بريرة تصدقك. فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بريرة و سألها عن أمري قالت بريرة: يا رسول اللّه و الّذي بعثك بالحقّ نبيّا ما رأيت عليها أمرا قطّ أكثر من أنّها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها حتّى تأتى الداجس فتأكله.

قالت: فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطيبا على المنبر فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي؛ و هو يعني عبد اللّه بن ابيّ فو اللّه ما علمت من أهلي إلّا خيرا و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا و ما كان يدخل على أهلي إلّا معى فقام سعد بن معاذ فقال: أعذرك يا رسول اللّه منه إن كان من الأوس ضربت عنقه و إن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا فعلناه فقام سعد بن عبادة- و هو سيّد الخزرج و كان رجلا صالحا و لكن أخذته الحميّة- فقال لسعد بن معاذ: كذبت و اللّه، لا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير و هو ابن عمّ سعد بن معاذ و قال: كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه و إنّك لمنافق تجادل عن المنافقين فثار الحيّان الأوس و الخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا، و رسول اللّه على المنبر فلم يزل يخفضهم حتّى سكنوا.

قالت عائشة: و مكثت يومي ذلك لا ترقأ لي دمع و أبواي يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي فبيناهما جالسان عندي و أنا أبكي إذ دخل علينا رسول اللّه فسلّم ثمّ جلس قالت:

و لم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل، و لقد لبث شهرا لا يوحي اللّه إليه. ثمّ قال: أمّا بعد يا عائشة فإنّه بلغني عنك كذا و كذا فإن كنت بريئة فيبرّئك اللّه تعالى و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري و توبي إليه فإنّ العبد إذا تاب تاب اللّه عليه. قالت عائشة: فلمّا قضى رسول اللّه مقالته فاض دمعي ثمّ قلت لأبي: أجب عنّي رسول اللّه فقال: و اللّه ما أدري ما أقول فقلت لأمّي: أجيبي عنّي رسول اللّه، فقالت: و اللّه لا أدري ما أقول، فقلت- و أنا جارية حديثة السنّ ما أقرأ القرآن كثيرا-: إنّي و اللّه لقد عرفت أنّكم قد سمعتم بهذا حتّى استقرّ في نفوسكم و صدّقتم به فإن قلت لكم: إنّي بريئة لا تصدّقوني، و إن اعترفت لكم بأمر و اللّه يعلم أنّي بريئة. و ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يتلى و لكنّي كنت أرجو أن يرى رسول اللّه رؤيا يبرّئني اللّه بها فأنزل اللّه تعالى على نبيّه

ص: 323

و أخذه ما كان من برحاء الوحي حتّى أنّه لينحدر عنه مثل الجمان من العرق في اليوم الثاني من ثقل القول الّذي انزل عليه فلمّا سري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أبشري يا عائشة أمّا اللّه فقد برّأك فقالت لي امّي: قومي إليه، فقلت: و اللّه أقوم إليه، و لا أحمد إلّا اللّه و هو الّذي أنزل براءتي فأنزل اللّه الآية [إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ] قالت: فلمّا نزل براءتي قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المنبر فذكر ذلك و تلا الآية فلمّا نزل ضرب عبد اللّه ابن ابيّ و مسيطحا و حمنة و حسّان بن ثابت و زيد بن رفاعة الحدّ.

قوله: [عُصْبَةٌ مِنْكُمْ] أي أتى بهذا الإفك جماعة منكم و إنّما سمّى الكذب و البهتان إفكا لأنّه مقلوب الصدق.

قوله: [لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ] خوطب به رسول اللّه و صفوان و المنتسبين بهم هذا الإفك و الضمير راجع إلى الكذب [بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] لاكتسابكم به الثواب العظيم و ظهور ما نزل من القرآن في براءة ساحتكم و تشديد الوعيد فيمن تكلّم بهذا الأمر و الثناء على من ظنّ بكم خيرا.

و قوله: [لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ] أي لكلّ من هؤلاء العصبة الّذين خاضوا في هذا البهتان من المعصية بقدر ما خاضوا و تكلّموا.

[وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ] أي معظمه و قرئ بضمّ الكاف لغة في هذا المعنى أي العمدة في هذا الكذب و هو الّذي سبق في هذا الكلام و هو عبد اللّه بن ابيّ فإنّه بدأبه و أذاعه بين الناس عداوة لرسول اللّه [لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ] أي في الآخرة أو في الدنيا فإنّهم جلدوا و ردّت شهادتهم، و تنكير العذاب لعظمه.

هذا إذا كانت الآية نازلة في حقّ عائشة كما رواها العامّة و أمّا الخاصّة فإنّهم رووا أنّها نزلت في مارية القبطيّة، روي عن الباقر عليه السّلام قال: لمّا هلك إبراهيم بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حزن عليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حزنا شديدا فقالت له عائشة: ما الّذي يحزنك عليه فما هو إلّا ابن جريح فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام و أمره بقتله فذهب عليّ عليه السّلام و معه السيف و كان جريح القبطيّ في حائط فضرب على باب البستان فأقبل جريح ليفتح الباب فلمّا رأى عليّا عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا و لم يفتح باب البستان فوثب

ص: 324

عليّ عليه السّلام على الحائط و نزل إلى البستان و أتبعه و ولّى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة و صعد عليّ عليه السّلام في أثره فلمّا دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء فانصرف عليّ عليه السّلام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال له: يا رسول اللّه إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمى في الوبر أمضي على ذلك أم أتثبّت؟ قال: لا بل تثبّت قال: و الّذي بعثك بالحقّ نبيّا ماله ما للرجال و ما له ما للنساء فقال: الحمد للّه الّذي صرف عنّا السوء أهل البيت.

و هذه الرواية أوردها القميّ بعبارة اخرى في سورة الحجرات عند قوله تعالى «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» أي فتثبّتوا و زاد: فاتي به رسول اللّه فقال له: ما شأنك يا جريح فقال: يا رسول اللّه إنّ القبط يحبّون حشمهم و من يدخل إلى أهاليهم و القبطيّون لا يأنسون إلّا بالقبطيّين فبعثني أبوها لأدخل عليها و أخدمها و أونسها.

قال الفيض: إن صحّ هذا الخبر فلعلّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما بعث عليّا عليه السّلام إلى جريح ليظهر الحقّ و يصرف السوء و كان قد علم أنّه لا يقتله و لم يكن يأمر بقتله بمجرّد قول عائشة و يدلّ على هذا ما رواه القميّ في سورة الحجرات عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمر بقتل القبطيّ و قد علم أنّها قد كذبت عليه أو لم يعلم و إنّما دفع اللّه القتل عن القبطيّ بتثبّت عليّ عليه السّلام فقال: بلى قد كان و اللّه علم و لو كانت عزيمة من رسول اللّه القتل ما رجع عليّ عليه السّلام حتّى يقتله و لكن إنّما فعل رسول اللّه لترجع عن ذنبها فما رجعت و لا اشتدّ عليها قتل رجل مسلم.

و لمّا ذكر حال القاذفين و المقذوفين عقّبها بما يليق من الآداب و التربية و الزواجر عن مثل هذا الأمر بقوله: [لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ] أي هلّا و معنى «لو لا» إذا يليه الفعل هلّا كقوله «لَوْ لا أَخَّرْتَنِي» (1) «فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ» (2) و لكن إذا وليه الاسم فليس كذلك كقوله: «لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ» (3) و قوله: «وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ» (4)

ص: 325


1- المنافقون: 10.
2- يونس: 98.
3- سبأ: 31.
4- النساء: 83. النور: 19.

و معناه: كان الواجب على المؤمنين إذا سمعوا قول القاذف أن يكذّبوه و لا يسرعوا إلى التهمة و يشتغلوا بحسن الظنّ فيمن عرفوا طهارته و لم لم يظنّوا بهم خيرا لأنّهم كأنفسهم و المؤمنون كلّهم كنفس واحدة فيما يجري عليهم من الأمور فإذا جرى على أحدهم محنة فكأنّما جرت على جماعتهم و المؤمن يكون هذا شأنه و قيل: هذا الخطاب لمن أشاعه.

و حاصل المعنى: أنّه هلّا سمعتموه أو أفشيتموه ما ظننتم لما تظنّونه لأنفسكم و ذلك لأنّها امّ المؤمنين و من خلا بامّه فإنّه لا يطمع فيها و لا تطمع فيه و هلّا قلتم هذا الحديث كذب ظاهر و إفك مبين؟

قوله: [لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ] أي هلّا جاءوا على ما قالوه بيّنة و هي أربعة شهداء يشهدون بصدق ما ادّعوه [فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ] أي فحين لم يأتوا بالشهداء [فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ] أي في حكمه هم الكاذبون.

قوله: [وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ] أي و لو لم يكن فضله عليكم بأن أمهلكم لتتوبوا و لم يعاجلكم بالعقوبة [لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ] لأصابكم في قولكم هذا و خوضكم في هذا الحديث عذاب لا انقطاع له.

ثمّ ذكر الوقت الّذي كان يصيبهم العذاب لو لا الفضل فقال: [إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ] و يرويه بعضكم عن بعض و تقبلونه من غير حجّة و يتلقّى بعضكم هذا الإفك عن بعض [وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ] و تلقّي القول معناه: أنّ الرجل كان يلقى الرجل فيقول له: ما وراءك؟ فيحدّثه بحديث الإفك و القذف حتّى شاع و اشتهر فلم يبق ناد و لا بيت إلّا و شاع الخبر و ذلك من العظائم ثمّ إنّ النّاس يتكلّمون بما لا علم لهم و ذلك يدلّ على أنّه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم و أمّا الّذي لا يعلم صدقه فالإخبار عنه كالإخبار عمّا علم كذبه في الحرمة و نظيره في الآية قوله: «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» (1).

فإن قيل: ما معنى قوله: «بأفواهكم» و القول لا يكون إلّا بالفم؟ فمعناه أنّ الشي ء المعلوم يكون علمه في القلب ثمّ يترجم عنه باللسان و الإفك ليس إلّا قولا يجري

ص: 326


1- الإسراء: 36.

على اللسان و نبّه سبحانه على أنّ عظم المعصية ليس بظنّ فاعلها بل بوضع الشارع.

ثمّ زاد سبحانه في باب الآداب فقال: [وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ] أي هلّا إذ سمعتموه قلتم لا يحلّ لنا أن نخوض في هذا الحديث و ما ينبغي لنا أن نتكلّم بهذا سبحانك يا ربّنا هذا الّذي قالوه بهتان و كذب و زور عظيم عقابه. و سبحانك هنا معناه التعجّب كقول الأعشى:

«سبحان من علقمة الفاخر»

أو المعنى ننزّهك يا ربّ من أن نعصيك بهذه المعصية.

ثمّ وعظ تعالى شأنه الّذين خاضوا في الإفك فقال:

[سورة النور (24): الآيات 17 الى 20]

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)

أي ينهاكم اللّه أو يحرّم [اللّه عليكم أَنْ تَعُودُوا] إلى مثل هذا الإفك طول أعماركم إن كنتم مصدّقين باللّه و نبيّه و قابلين موعظة اللّه [وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ] في الأمر و النهي و الأحكام [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ] بما يقع منكم من الردّ و القبول [حَكِيمٌ] فيما يفعله لا يضع الشي ء إلّا في موضعه.

ثمّ هدّد القاذفين بقوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ] أي يفشوا و يظهروا الزنا و القبائح [فِي الَّذِينَ آمَنُوا] بأن ينسبوها إليهم و يقذفوهم بها [لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا] بإقامة الحدّ عليهم [وَ الْآخِرَةِ] و هو عذاب النار [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] أي و اللّه يعلم ما فيه من سخط اللّه و ما يستحقّ عليه العقوبة و أنتم لا تعلمون.

و اعلم أنّ قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ» و لو أنّها نزلت في حقّ من قذف عائشة أو مارية و عبد اللّه بن ابيّ و أصحابه إلا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فوجب إجراؤها على ظاهرها في العموم و ممّا يدلّ على عدم تخصيصها بالقاذفين قوله: «فِي الَّذِينَ آمَنُوا» فإنّه صيغة جمع و لو أراد عائشة وحدها لم يجز ذلك. قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي لأعرف قوما يضربون صدورهم ضربا يسمعه أهل النار و هم الهمّازون الّذين يلتمسون

ص: 327

عورات المسلمين و يهتكون ستورهم و يشيعون فيهم من الفواحش ما ليس فيهم و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلّا ستره اللّه يوم القيامة و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه. و عن أنس قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يؤمن العبد حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه من الخير».

و قالت المعتزلة: قوله «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ» الآية. بالغ اللّه سبحانه فيها بذمّ من أشاع الفاحشة و من أحبّ إشاعتها فلو كان تعالى هو الخالق لأفعال العباد لما كان مشيع الفاحشة إلّا هو فكان يجب أن لا يستحقّ الذمّ على إشاعة الفاحشة إلا هو لأنّه هو الّذي فعل تلك الإشاعة و غيره لم يفعل شيئا.

و بالجملة ثمّ ذكر سبحانه منّة عليهم فقال: [وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ] و جواب «لو لا» محذوف لدلالة الكلام عليه أي لعاجلكم بالعقوبة أو «ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ» جوابه.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 21 الى 25]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)

قرئ «خطوات» بضمّ الطاء و سكونها، جمع خطوة و هو من خطا الرجل يخطو خطوا فإذا أردت الواحدة قلت خطوة مفتوحة الأوّل.

المعنى: [لا تَتَّبِعُوا] آثار [الشَّيْطانِ] و لا تسلكوا مسالكه في الإصغاء إلى البهتان و الإفك و التلقّي له و إشاعة الفاحشة في الّذين آمنوا و اللّه تعالى و إن خصّ بالذّكر المؤمنين بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلا أنّه نهي لكلّ المكلّفين و ممنوعين من ذلك

ص: 328

و إنّما خصّهم بالذكر لأنّهم يمتنعون عن مثل هذه المعاصي.

ثمّ بيّن سبب المنع من اتّباعه فقال: [وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً] و الزكيّ من بلغ في طاعة اللّه مبلغ الرضا و منه يقال: زكا الزرع أي بلغ فإذا بلغ المؤمن من الصلاح في الدين إلى حال يرضاه اللّه سمّي زكيّا أي و لو لا فضل اللّه عليكم بأن لطف لكم و أمركم بما تصيرون به أزكياء ما صار منكم أحد زكيّا و ما طهر منكم أحد من وسوسة الشيطان و ما صلح.

[وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ] و يطهّر بلطفه و يعلم أنّه مستحقّ للّطف بفعله يفعل اللّطف به ليزكو عنده [وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] إنّه يسمع أصواتهم و أقوالهم و يعلم أفعالهم و أحوالهم.

و في الآية دلالة على أنّ اللّه يريد من خلقه خلاف ما يريده الشيطان لأنّه إذا ذمّ الفحشاء و ذمّ الأمر بالفحشاء فمريد الفحشاء أولى بالذمّ تقدّس و تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

[وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ] ذكر في مادّة يأتل قولين: فبعض جعلوا هذه الكلمة من ائتلى من مادّة الإلية و الحلف افتعل و قالوا: إنّ أصله يأتلي ذهبت الياء للجزم و قال بعض: من مادّة «الوت» و لم آل في أمري جهدا أي ما قصرت و يأل و يأتل واحد معناه و قالوا: إذا كان المراد معنى الحلف فيقتضي المنع في الحلف عن الإعطاء و هم أراد و المنع من الحلف على ترك الإعطاء فهذا المعنى قد أقام النفي مقام الإيجاب و جعل المنهيّ عنه مأمورا به و الحاصل على قول الثاني معناه لا تقصروا في أن تحسنوا إلى هؤلاء المذكورين.

و أجاب الّذين فسّروا بمعنى الحلف أنّ «لا» محذوفة في الآية و أصله أن لا يؤتوا اولي القربى و يقولون: إنّ «لا» تحذف كثيرا في اليمين قال اللّه: «وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا» معنى أن لا تبرّوا و قال امرؤ القيس:

فقلت: يمين اللّه أبرح قاعداو لو قطعوا رأسي إليك و أوصالي

ص: 329

أي لا أبرح و بالجملة إذا جعلت «لا» محذوفة فالمعنيان يقعان متقاربان في المراد من الآية لأنّ المراد في الآية الأمر بإعطاء هؤلاء المذكورين.

النزول: قال الفيض نقلا من الجوامع: نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا أن لا يتصدّقوا على من تكلّم بشي ء من الإفك في هذه القضيّة المذكورة أن لا يواسوهم قال المفسّرون من أهل السنّة و الجماعة: إنّ الآية نزلت في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسيطح أبدا و هو ابن خالة أبي بكر و قد كان يتيما في حجره و كان ينفق عليه، فلمّا شاع هذا الإفك و كان مسيطح من القاذفين و نزلت الآية و تبيّن الأمر قال لهم أبو بكر: قوموا فلستم منّي و لست منكم و لا يدخلنّ عليّ أحد منكم فقال مسيطح: أنشدك اللّه و الإسلام و أنشدك القرابة و الرحم أن لا تحوجنا إلى أحد فما كان لنا في أوّل الأمر من ذنب و إنّما إفك عبد اللّه بن ابيّ فقال أبو بكر: إن لم تتكلّم فقد ضحكت و لم يقبل عذره و قال:

انطلقوا أيّها القوم فإنّ اللّه لم يجعل لكم فرجا و لا عذرا فخرجوا لا يدرون أين يذهبون و أين يتوجّهون فبعث رسول اللّه يخبره بأنّ اللّه نهاك أن تحرمهم و قد أمر أهل المال منكم و السعة و الغنى أن يعطوا أقاربهم و لا يتركوا جهدا في الإنفاق عليهم و المساكين و المهاجرين في سبيل اللّه. و قد اجتمع في مسيطح الصفات الثلاث كان قريبا بالنسب لأبي بكر مسكينا مهاجرا.

قوله: [وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] و أمرهم بالعفو و التجاوز عن تقصيرهم و الإغماض عمّن أساء إليهم فقال: أما تحبّون أن يغفر اللّه لكم معاصيكم جزاء على عفوكم و صفحكم عمّن أساء إليكم؟ عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من لم يقبل عذر المتنصّل كاذبا كان أو صادقا فلا يرد على حوضي يوم القيامة» و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أفضل أخلاق المسلمين العفو قال المأمون: لو علم أهل الجرائم و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا: ينادي مناد يوم القيامة ألا من كان له أجر على اللّه فليقم فلا يقوم إلّا أهل العفو ثمّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلا هذه الآية «فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يكون العبد ذا فضل حتّى يصل من قطعه و يعفو عمّن ظلمه و يعطي من حرمه.

و في الآية دلالة على أنّ اليمين على الامتناع من الخير غير جايز و إنّما يجوز

ص: 330

إذا كانت داعية للخير أو غير داعية للشرّ لا إذا كانت صارفة عنه.

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ] و اختلفوا في قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ» هل المراد منه كلّ من كان بهذه الصفة أو المراد منه الخصوص؟ أمّا الاصوليّون فقالوا: الصيغة عامّة و لا مانع من إجرائها على ظاهرها فوجب حمله على العموم فيدخل فيه قذفة عائشة و قذفة غيرها. و قال بعض: إنّ المراد جملة أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّهنّ لشرفهنّ خصّصن بأنّ من قذفهنّ فهذا الوعيد لا حق به.

و احتجّ القائلون بهذا القول بأمور:

الاول: أنّ قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله في أوّل السورة: «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ- إلى قوله- «وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» قالوا: و أمّا القاذف في هذه الآية فإنّه لا تقبل توبته لأنّه سبحانه قال: «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ» (1) و لم يذكر الاستثناء و أيضا فهذه صفة المنافقين في قوله «مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا» (2).

الثاني: أنّ قذف ساير المحصنات لا يكفّر و القاذف في هذه الآية يكفّر لقوله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ» (3) و ذلك صفة الكفّار و المنافقين لقوله: «وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ» (4).

الثالث: أنّه تعالى قال: «وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» و العذاب العظيم يكون عذاب الكفر فدلّ على أنّ عقاب هذا القاذف عقاب الكفر و عقاب قذفة سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر.

و ردّ بأنّه لو كان هذا القاذف كافرا لما نزلت الآية في حقّه «وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» و لو ثبت كفر المتولّي كبره و هو عبد اللّه بن ابيّ فذاك لنفاقه و أمر خارج لا بسببيّة القذف.

ص: 331


1- النور: 23.
2- الأحزاب: 61.
3- النور: 24.
4- حم السجدة: 19.

و الحاصل: قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ» الآية أي ينسبون الزنا إلى العفائف من النساء الغافلات عن الفواحش المؤمنات باللّه و رسوله و اليوم الآخر لعنوا و ابعدوا من رحمة اللّه في الدارين و قيل: استحقّوا العذاب في الدّنيا بالجلد و ردّ الشّهادة و في الآخرة بعذاب النار إن لم يتوبوا و لهم مع ذلك عذاب عظيم و هذا الوعيد عامّ لجميع المكلّفين.

ثمّ بيّن اللّه أنّ ذلك العذاب يكون في يوم [تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ] و تشهد ألسنتهم في ذلك اليوم بالقذف و كذلك تشهد أيديهم بما كسبت و أرجلهم.

و في كيفيّة شهادة الجوارح أقوال:

أحدها: و هو الصحيح أنّ اللّه يمكّنها النطق و الكلام من جهتها فيكون ناطقة حقيقة.

و الثاني: أنّ اللّه يفعل فيها كلاما يتضمّن الشهادة فيكون المتكلّم هو اللّه دون الجوارح و أضيف إليها الكلام على التوسّع لأنّها محلّ الكلام.

و الثالث: أنّ اللّه يجعل فيها علامة تقوم مقام النطق بالشهادة و ختم الأفواه لا ينافي هذا الأمر لأنّ مواقف القيامة كثيرة.

[يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ] أتي ليتمّ اللّه لهم في ذلك اليوم جزاءهم بالحقّ من غير أن ينقص و يزيد. و الدين هاهنا بمعنى الجزاء و يجوز أن يكون جزاء دينهم الحقّ فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و يعلمون اللّه ضرورة و إلجاء أنّه الحقّ لأنّه يقضي بالحقّ و يعطي بالحقّ و يأخذ بالحقّ المبين الّذي يظهر لهم حقايق الأمور.

قوله: [سورة النور (24): الآيات 26 الى 29]

الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (29)

ص: 332

المعنى: فيه أقوال: أحدها: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال و الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء و الطيّبات من النساء للطيّبين من الرجال و الطيّبون من الرجال للطيّبات من النساء عن أبي جعفر و الصادق عليهما السّلام و أبي مسلم و الجبّائيّ قالا: هي مثل قوله: «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً» (1) و أنّ أناسا همّوا أن يتزوّجوا منهنّ فنهاهم اللّه عن ذلك و كره ذلك لهم.

و قيل: الخبيثات يقع على الكلمات الخبيثة كالقذف الواقع من أهل الإفك و يقع على الكلام الّذي هو كالذّم و اللعن فالمعنى: أنّ الذمّ و اللعن معدّان للخبيثين من الرّجال و للخبيثات من النساء و كذلك القول في الطيّبات من الأقوال للطيّبين من الرّجال و النساء و متوجّهة إليهم و إليهنّ و أنّهم مبرّءون ممّا يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات و أنّها مبرّءات منها كالرسول و أزواجه و العفائف الصالحات.

و قال الفرّاء: يعني به زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو بمنزلة قوله: «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ» (2) أو الأمّ تحجب بالأخوين فجاء على تغليب لفظ الجمع.

قوله: [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ] أي لهؤلاء الطيّبين من الرجال و النساء مغفرة من اللّه و عطيّة كريمة في الجنّة.

قوله: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا] أي حتّى تستأذنوا. و الاستيناس طلب الانس بالعلم. قال ابن عبّاس: أخطأ الكاتب فيه و كان يقرء حتّى تستأذنوا و قيل: تستأنسوا بالتنحنح و الكلام الّذي يقوم مقام الاستيذان و قد بيّن اللّه تعالى في قوله: «وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا» و قيل: حتّى تستعملوا و تتعرّفوا. عن أبي أيّوب قال: قلنا: يا رسول اللّه ما الاستيناس؟ قال: يتكلّم الرجل بالتسبيحة و التحميدة و التكبيرة و بتنحنح على أهل البيت. و روي أنّ رجلا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ فأستأذن على امّي؟ فقال: نعم قال: إنّها ليس لها خادم غيري أ فاستأذن

ص: 333


1- النور: 3.
2- النساء: 10.

عليها كلّما دخلت قال: أ تحبّ أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن عليها.

[وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها] قيل في الآية تقديما و تأخيرا تقديره: حتّى تسلّموا على أهلها و تستأنسوا و تستأذنوا فأن أذن لكم فادخلوا [ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ] ذلك الدخول بالاستيذان خير لكم [لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] مواعظ اللّه و أوامره و نواهيه و إنّما أمر بعد آية القذف و تفاصيله بهذه الآية لأنّ أهل الإفك غالبا يجدون بهذا السبيل طريقا إلى البهتان كأنّ ورود الإنسان خلوة من غير استيذان طريق إلى التهمة و الوقوع فيها فلذلك أدّب اللّه الخلق بهذه الطريقة حتّى يسلموا من بعد المضارّ المؤدّية إلى التهمة على أنّه إذا حصل الدخول بعد الاستيذان فالإنسان حينئذ مأمون من أن يهجم على ما لا يحلّ له و عن التصرّف في ملك الغير بغير رضاه فيكون كالمغصوب و هو كالغاصب.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الاستيذان ثلاث: بالأولى يستنصتون و بالثانية يستصلحون و بالثالثة يؤذنون أو يردّون و قال: إذ استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه و لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم و ذلك لأنّ الدور لم يكن عليها حينئذ ستور و معلوم أنّ قرع الباب بعنف و الصياح بصاحب الدار حرام لأنّه يتضمّن الإيذاء و الإيحاش و كفى بقصّة بني أسد زاجرة و ما نزل فيها من قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» (1).

قوله تعالى: [فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها] أي فإن لم تجدوا أحدا يأذن لكم في الدخول فلا تدخلوها لأنّه ربّما كان فيها ما لا يجوز أن تطّلعوا عليه [حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ] أي لا تدخلوا البيوت حتى يأذن لكم أرباب البيوت في الدخول فبيّن اللّه سبحانه أنّه لا يجوز دخول دار الغير إلّا أن يؤذن له و إن لم يكن صاحبها فيها فلا يجوز أن يتطلّع إلى المنزل ليرى من فيه فيستأذنه إذا كان الباب مغلقا.

[وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا] و انصرفوا و لا تلحّوا عليهم في الدخول و ذلك بأن يأمروكم بالانصراف صريحا أو يوجد منهم ما يدلّ عليه [هُوَ أَزْكى لَكُمْ] أي الانصراف

ص: 334


1- الحجرات: 4.

أنفع لكم في دينكم و دنياكم و أقرب إلى أن تصيروا أزكياء [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] أي عالم بأعمالكم.

ثمّ قال تعالى: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ و ليس عليكم بأس و حرج أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة و تدخلونها بغير استيذان.

قيل في معنى هذه البيوت أقوال:

أحدها: أنّها الخانات و الحمّامات و الأرحية، عن الصادق عليه السّلام و عن محمّد بن الحنفيّة و جماعة. و يكون معنى «متاع لكم» أي استمتاع لكم. و الثاني: أنّها الخرابات المعطّلة.

و الثالث: الحوانيت و الأسواق و بيوت المتجر الّتي فيها أمتعة التجارة. و الرابع: أنّها مناخات الناس في أسفارهم و الأولى حمله على الجميع. «وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ» يعلم سرّكم و علنكم و لا يخفى عليه شي ء من ذلك من أهل الريبة و غير أهل الريبة.

الحكم الآخر في النظر قوله تعالى:

[سورة النور (24): الآيات 30 الى 31]

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

أي الحكم في النظر أن يغضّوا و يمنعوا أبصارهم عن النظر إلى ما هو محرّم و يحفظوا فروجهم و عوراتهم من النظر المحرّم ذلك الغضّ و المنع و الحفظ أظهر لهم لما فيه من البعيد عن الريبة.

[إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ] و المعنى أنّهم ينغضّوا من أبصارهم و لا ينظروا إلى ما حرّم. القمي عن الصادق عليه السّلام: كلّ آية في القرآن في ذكر الفرج فهي في الزنى إلّا

ص: 335

هذه الآية فإنّها من النظر فإنّ المراد به الستر حتّى لا ينظر إليها أحد فلا يحلّ لرجل أن ينظر إلى عورة أخيه و فرجه.

[وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ] أي كما أنّ الرجال محكومون بهذا الحكم كذلك النساء لا يحلّ للمرأة أن تنظر إلى فرج أختها و في الكافي عنه عليه السّلام: في حديث يذكر فيه فرض الإيمان على الجوارح و فرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم اللّه و أن يعرض عمّا نهى اللّه عنه مما لا يحلّ له و هو عمله و هو من الإيمان فقال تعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» و المرأة لا بدّ و أن تحفظ عورتها من أن ينظر إليها و المراد من حفظ الفرج في هذه الآية حفظ النظر.

و عن الباقر عليه السّلام قال: استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة و كان النساء يتقنّعن خلف آذانهنّ فنظر الشابّ إليها و هي مقبلة فلمّا جازت نظر إليها في زقاق يسمى بزقاق بني فلان فجعل الشابّ ينظر خلفها و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره فقال: و اللّه لآتينّ رسول اللّه و لأخبرنّه. قال: فأتاه فلمّا رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال له: ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية [وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها] أي و لا يظهرن مواضع الزينة لغير محرم و من هو في حكمه و لم يرد نفس الزينة.

و اعلم أنّ الزينة اسم يقع على محاسن الخلق الّتي خلقها اللّه تعالى و على سائر ما يتزيّن به الإنسان من فضل لباس أو حليّ و غير ذلك و أنكر بعضهم وقوع اسم الزينة على الخلقة قالوا: لا يقال في الخلقة أنّها من زينتها و إنّما يقال ذلك فيما تكتسبه من كحل و خضاب و ثياب و نحوه و أمّا الّذين قالوا: الزينة عبارة عمّا سوى الخلقة فقد حصروه في امور ثلاثة: الأصباغ كالكحل و الخضاب و الوسمة في الحواجب و الحنّاء في الكفّين و القدم و ثانيها: الحليّ كالخاتم و السوار و الدبلح و الخلخال و القلادة و الإكليل و الوشاح و القرط و أشباهه و ثالثها: الثياب قال اللّه تعالى: «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» (1) و أراد من الزينة الثياب.

ص: 336


1- الأعراف: 30.

ثمّ اختلفوا في المراد من قوله: [إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها] و فيها ثلاثة أقوال: أحدها أنّ الظاهرة الثياب و الباطنة القرطان و السواران و الخلخال عن ابن مسعود. و ثانيها:

أنّ الظاهرة الحليّ و الخاتم و الخضاب في الكفّ و الخدّان عن ابن عبّاس و الكحل و السوار و الخاتم عن قتادة و ثالثها: الوجه و الكفّان عن الضحّاك و عطا و الوجه و البنان عن الحسن. و في تفسير عليّ بن إبراهيم: الكفّان و الأصابع.

و في الكافي عن الصادق في قوله: «إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» قال الزينة الظاهرة الكحل و الخاتم و العلب و هي السوار و في الجوامع عنهم الكفّان و الأصابع كما ذكرنا قبل هذا.

و القميّ عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: هي الثياب و الكحل و الخاتم و خضاب الكفّ و السوار و أنّ الزينة ثلاث: زينة للناس و زينة للمحرم و زينة للزوج فأمّا زينة الناس فقد ذكرناها و أمّا زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها و الدبلج و ما دونه و الخلخال و ما أسفل منه و أمّا زينة الزوج فالجسد كلّه.

و في المجمع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: للزّوج ما تحت الدرع و للمحرم كالابن و الأخ ما فوق الدرع و لغير ذي محرم أربعة أثواب: درع و خمار و جلباب و إزار.

و عنه عليه السّلام قال: لا بأس بالنظر إلى رءوس أهل تهامة و الأعراب و أهل السواد و البلوج لأنّهم إذا نهوا لا ينتهون قال: و المجنونة و المغلوب على عقلها و لا بأس بالنظر إلى شعرها و جسدها ما لم يتعمد ذلك و عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا حرمة لنساء أهل الذمّة أن ينظر إلى شعورهنّ و أيديهنّ و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن الرجل يريد أن يتزوّج المرأة يتأمّلها و ينظر إلى خلفها و إلى وجهها قال: لا بأس و في رواية اخرى ينظر إلى شعرها و معاصمها إذا أراد أن يتزوّجها و المعصم موضع السوار، و في رواية ينظر إلى شعرها و محاسنها إذا لم يكن متلذّذا و في اخرى إنّما يشتريها بأغلى الثمن.

و في الخصال قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلّي عليه السّلام: يا عليّ أوّل نظرة لك و الثانية عليك لا لك هذا ما في المجمع و الصافي من كتبنا.

قال الرازيّ في المفاتيح: اختلفوا في المراد من قوله: «إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» أمّا الّذين

ص: 337

حملوا الزينة على الخلقة فقال القفّال: معنى الآية إلّا ما يظهره الإنسان في العادة الجارية و ذلك في النساء الوجه و الكفّان و في الرجل الأطراف و اليدين و الرجلين فأمروا بستر ما لا تؤدّي الضرورة إلى كشفه و رخّص لهم في كشف ما اعتيد كشفه و أدّت الضرورة إلى إظهاره إذ كانت شرائع الإسلام حنيفية سهلة سمحة و لمّا كان ظهور الوجه و الكفّين كالضروريّ لا جرم قالوا على أنّهما ليسا بعورة.

و أمّا الّذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة قالوا: إنّه سبحانه إنّما ذكر الزينة لأنّه لا خلاف أنّه يحلّ النظر إليها حال ما لم تكن متّصلة بأعضاء المرأة فلمّا حرّم اللّه النظر إليها حال اتّصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة و على هذا الوجه يحلّ النظر إلى زينة وجهها من الوشمة و الغمرة و الخضاب و الخواتيم و الثياب و السبب في تجوّزها أن تستّرها لها حرج لأنّ المرأة لا بدّ لها من مناولة الأشياء بيديها و الحاجة إلى كشف وجهها في بعض المقام كالشهادة و المحاكمة و النكاح انتهى كلام القفّال.

قوله تعالى: [وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ] و الخمر المقانع و هو غطاء الرأس من المرأة المنسدل على جيبها امرن بإلقاء المقانع على صدورهنّ تغطية لنحورهنّ و أعناقهنّ و كنّ يلقين مقانعهنّ على ظهورهنّ فتبدو صدورهنّ و كنّي عن الصدر بالجيوب لأنّها ملبوسة عليها و قيل: امرن بذلك ليستترن شعورهنّ و قرطهنّ قال ابن عبّاس:

معناه تغطى المرأة شعرها و صدرها و ترائبها و سوالفها و في لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء و الباء للإلصاق.

قوله تعالى: [وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ] يعني الزينة الباطنة الّتي لا يجوز كشفها في الصلاة و قيل: معناه لا يضعن الجلباب و الخمار.

و بالجملة لمّا تكلّم سبحانه في مطلق الزينة شرح في هذه الآية في الزينة الخفّية الّتي نهاهنّ عن إبدائها للأجانب و بيّن أنّ هذه الزينة الخفيّة يجب إخفاؤها عن الكلّ ثمّ استثنى اثنتي عشرة صورة:

أحدها أزواجهنّ أي يبدين مواضع زينتهنّ لأزواجهنّ فقد روي أنّه لعن السلتاء من النساء و المرهاء و السلتاء الّتي لا تخضب لزوجها و المرهاء الّتي لا تكتحل و لعن المسوّفة

ص: 338

و المسفّلة و المسوّفة الّتي إذا دعاها زوجها إلى المباشرة قالت: سوف أفعل و المفسلة هي الّتي إذا دعاها قالت أنا حائض و هي غير حائض.

و ثانيها: «آباؤهن» و إن علون من جهة الذكران و الإناث كآباء الآباء و آباء الأمّهات.

و الثالث إلى الثامن: قوله تعالى: «أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ» فهؤلاء الّذين محرّم عليهم نكاحهنّ بهم و محرّم لهنّ بالأسباب و الأنساب. و يدخل أجداد البعولة فيه و إن علوا و أحفادهم و إن سفلوا يجوز إبداء الزينة لهم من غير استدعاء لشهوتهم و يجوز لهم تعمّد النظر من غير تلذّذ و لعلّ السبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة لأنّهم مخصوصون بالحاجة إلى مداخلتهنّ و مخالطتهنّ و لقلّة عدم وقوع الفتنة في المحارم.

و تاسعها قوله تعالى: «أَوْ نِسائِهِنَّ» يعني النساء المؤمنات و لا يحلّ لها أن تتجرّد ليهوديّة أو نصرانيّة أو مجوسيّة إلّا إذا كانت الكافرة أمة لها لقوله تعالى: «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» و المعنى الإماء الكافرات قالوا: و لا يحلّ للعبد أن ينظر إلى شعر مولاته و كتب عمر إلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمّام مع المؤمنات.

و قيل: معناه يشمل العبيد و الإماء و روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و في الكافي عنه عليه السّلام: لا بأس أن يرى المملوك الشعر و الساق و في رواية: شعر مولاته و ساقها و في اخرى: لا بأس أن ينظر إلى شعرها إذا كان مأمونا و عنه عليه السّلام: لا يحلّ للمرأة أن ينظر عبدها إلى شي ء من جسدها إلّا إلى شعرها غير متعمّد لذلك.

و منشأ الاختلاف أنّ منهم أي العامّة من أجرى الآية على ظاهرها و رعم أنّه لا بأس عليهنّ في أن يظهرن لعبيدهنّ من زينتهنّ ما يظهرن لذوي محارمهنّ و هو المرويّ عن عائشة و امّ سلمة و احتجّوا بظاهر الآية و برواية أنس أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتى بعبد قد وهبه لها و عليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها و إذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها فلمّا رأى رسول اللّه ما بها قال: إنّه ليس عليك بأس إنّما هو أبوك و غلامك.

و عن مجاهد كان امّهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهنّ ما بقي عليه درهم و روي أنّ

ص: 339

عائشة كانت تتمشّط و العبد ينظر إليها.

و قال ابن مسعود و مجاهد و الحسن و ابن سيرين و سعيد بن المسيّب: إنّ العبد لا ينظر إلى شعر مولاته و به قال أبو حنيفة.

فإن قيل: الإماء دخلن في قوله أو نسائهنّ فأيّ فائدة في الإعادة إذا كان المقصود من قوله «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» الإماء؟ لعلّ المراد أنّه لا يظنّ أنّ الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء إذ كان ظاهر قوله أو نسائهنّ يقتضي الحرائر دون الإماء كقوله: «شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» على الأحرار.

قوله تعالى: [أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ] و هذا الحادي عشر من الأقسام أي اولي الحاجة إلى النساء من الرجال و الإربة العقل وجودة الرأي و هم الّذين يتّبعونكم لينالوا من فضل طعامكم و لا حاجة لهم إلى النساء لأنّهم بله لا يعرفون من أمرهنّ شيئا. القميّ: هو الشيخ الفاني الّذي لا حاجة له إلى النساء. و عن الصادق عليه السّلام: الأحمق المولّى عليه الّذي لا يأتي النساء و كذلك الشيوخ الّذين غضّ العمر أبصارهم و ليس بهم حاجة في مثل هذه الأمور.

و معلوم أنّ الخصيّ و العنين و من شاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع و يكون له إربة قويّة فيما عداه من التمتّع و ذلك يمنع من أن يكون هو المراد و أمثاله و لا يجوز له ما يجوز للتابعين غير اولي الإربة لأنّهم اولي الإربة فتحمل الآية على من هو عادم وجوه التمتّع إمّا لفقد الشهوة أو لفقد العقل و المعرفة كالمعتوه و الأبله و الصبيّ و الهرم البالي الفاني و من لا شهوة له و لا يمتنع دخول الكلّ في ذلك و روى هشام بن عروة عن زينب بنت أمّ سلمة عن امّ سلمة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل عليها و عندها مخنّث فأقبل على أخي امّ سلمة فقال: يا عبد اللّه إن فتح اللّه لكم الطائف غدا دلّلتك على بنت غيلان فإنّها تقبل بأربع و تدبر بثمان فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يدخلنّ عليكم هذا لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يظنّ أنّه من غير اولي الإربة فلمّا عرف أنّه يعرف أحوال النساء و أوصافهنّ علم أنّه من اولي الإربة فحجبه.

و الثاني عشر قوله تعالى: [أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ] الطفل

ص: 340

اسم للواحد و يطلق موضع الجمع لأنّه يفيد الجنس و نظيره قوله: «ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» المعنى أي الجماعة من الأطفال الّذين لم يظهروا و لم يطّلعوا و لم يتصوّروا عورات النساء و لم يدروا ما هي من الصغر و قيل: معناه: لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء لعدم شهوتهم فإذا بلغوا مبلغ الشهوة فحكمهم حكم الرجال و هذا آخر الصور الّتي استثناها اللّه تعالى.

قوله تعالى: [وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ] قيل: كانت المرأة تضرب برجلها لتسمع قعقعة الخلخال فيها فنها هنّ عن ذلك أو المعنى أنّ المرأة لا تضرب برجلها إذا مشت ليتبيّن خلخالها. و معلوم أنّ الرجل الّذي يغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال و الزينة يصير ذلك داعية له زائدة في مشاهدتهنّ.

و قد علّل سبحانه بأن قال: [لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ] فنبّه به على أنّ الّذي لأجله نهى عنه أن يعلم زينتهنّ من الحليّ و غيره.

و لمّا نهى عن استماع الصوت الدالّ على الزينة فلأن يدلّ على المنع من إظهار الزينة و من إظهار مواضع الزينة أولى و ثانيا إذا كانت المرأة منهيّة أن ترفع صوت خلخالها لوقوع الفتنة فرفع صوتها بالكلام للأجانب نهيه أولى إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت زينتها و لذلك كرهوا أذان النساء لأنّه يحتاج فيه إلى رفع الصوت و المرأة منهيّة عن ذلك و إذا كان المناط و الملاك وقوع الفتنة فالنظر إلى وجهها بالشهوة أقرب إلى الفتنة.

قوله تعالى: [وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] و قرئ «أيّه المؤمنون» بالضمّ من الهاء و وجهه أنّها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلمّا سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها.

و في التوبة و جهان: أحد هما أنّ تكاليف اللّه في كلّ باب لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها و إن ضبط نفسه و اجتهد و لا ينفكّ من تقصير يقع منه فلذلك وصّى المؤمنين جميعا بالتوبة.

و الوجه الثاني قال ابن عبّاس: معناه: توبوا ممّا كنتم تفعلونه في الجاهليّة لعلّكم

ص: 341

تسعدون في الدنيا و الآخرة فإن قيل: قد صحّت التوبة بالإسلام و الإسلام يجبّ ما قبله فما معنى هذه التوبة؟ قلنا: قال بعض العلماء: إنّ من أذنب ذنبا ثمّ تاب عنه لزمه كلّما ذكره أن يجدّد عنه التوبة لأنّه يلزمه أن يستمرّ على ندمه إلى أن يلقى ربّه.

الحكم الثامن ما يتعلّق بالنكاح قوله تعالى:

[سورة النور (24): الآيات 32 الى 34]

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

لمّا أمر سبحانه بغضّ الأبصار عمّا لا يحلّ و حفظ الفروج بيّن في هذه الآية طريق الحلّ فقال:

[وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ] قال النضر بن شميل: الأيّم في كلام العرب كلّ ذكر لا أنثى معه و كلّ أنثى لا ذكر معها و هو قول ابن عبّاس قال الزمخشريّ: الأيامى و اليتامى- أصلهما أيائم و يتائم فقلبا- جمع أيّم و أيامى مقلوب أيايم، و الفعل منه أيّم يؤيّم:

فإن تنكحي أنكح و إن تتأيّمي و إن كنت أفتى منكم أتأيّم

و بالجملة فالمعنى بعد ما زجر سبحانه عن النظر الحرام و السفاح أمر بالتزويج و الإنكاح مع أنّه مقصود بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع أي زوّجوا من لا زوج له من أحرار رجالكم و نسائكم و هذا أمر استحباب و ندب؛ و قد صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي و من سنّتي النكاح. و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوّج فإنّه أغضّ للبصر و أحصن للفرج و من لم يستطع فعليه بالصوم فإنّ الصوم و جاء امّتي. و عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: شراركم عزّابكم و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أدرك له ولد و عنده ما يزوّجه فأحدث

ص: 342

فالإثم بينهما.

و عن أبي اسامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال: أربع لعنهم اللّه من فوق عرشه و أمّنت عليه ملائكته: أحدهم الّذي يحصر نفسه فلا يتزوّج و لا يتسرّى لئلّا يولد له و الرجل الّذي يتشبّه بالنساء و قد خلقه اللّه ذكرا، و المرأة الّتي تتشبّه بالرجال و قد خلقها اللّه أنثى، و مضلّل الناس يريد الّذي يهزأ بهم مثل أن يقول للمسكين: هلمّ أعطك، فإذا جاء يقول: ليس معي شي ء و مثل أن يقول للمكفوف: اتّق الدابّة و ليس بين يديه شي ء و الرجل يسأل عن دار القوم فيضلّله.

و بالجملة قال الشافعيّة: في النكاح قسمان منهم من تتوق نفسه في النكاح فيستحبّ له أن ينكح إن وجد اهبة النكاح سواء كان مقبلا على العبادة أو لم يكن كذلك و إن لم يجد اهبة النكاح بكسر شهوته بالصوم للرواية المذكورة في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «يا معشر الشّباب.

إلخ» و أمّا الّذي لا تتوق نفسه إلى النكاح فإن كان ذلك لعلّة به من كبر أو مرض أو عجز يكره له النكاح لأنّه يلزمه ما لا يمكنه القيام بحقّه و إن لم يكن به عجز و لكن لا تتوق نفسه و كان قادرا على القيام بحقّه لم يكره له النكاح لكنّ الأفضل أن يتخلّى للعبادة.

و لكنّ الحنفيّة قالوا: النكاح أفضل من التخلّي للعبادة.

و حجّة الشافعيّ أحدها: قوله تعالى «وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (1) فمدح يحيى بكونه حصورا و الحصور الّذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهنّ و لا يقال:

هو الّذي لا يأتي النساء مع العجز عنهنّ لأنّ مدح الإنسان بما يكون عيبا غير جائز و إذا ثبت أنّه مدح في حقّ يحيى لزم أن يكون مشروعا في حقّنا لقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» (2) و لا يجوز حمل الهدى على الأصول لأنّ التقليد فيها غير جائز فوجب حمله على الفروع على أنّ العبادة و النوافل أشقّ من النكاح لأنّ ميل الطباع إلى النكاح للذّته أكثر من العبادة فتكون العبادة أكثر ثوابا لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص: 343


1- آل عمران: 39.
2- الانعام: 90.

أفضل الأعمال أحمزها و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعائشة: أجرك على قدر نصبك ثمّ لو كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لكان الاشتغال بالحراثة و الزراعة أولى من النافلة بالنسبة الى النكاح و الجامع كون كلّ واحد منهما سببا لبقاء هذا العالم و محصّلا لنظامه و كما يقدّم واجب العبادة على واجب النكاح كذلك يقدّم مندوب العبادة على مندوب النكاح و النافلة قطع العلائق الجسمانيّة و إقبال على اللّه و النكاح اشتغال بتحصيل اللذّات الحسّيّة الداعية إلى الدنيا في الأغلب و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حبّب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب و النساء و جعلت قرّة عيني في الصلاة فرجّح صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصّلاة على النكاح و هذه البيانات حجج من قال: إنّ التخلّي للعبادة المندوبة أفضل من النكاح.

و احتجّ أبو حنيفة برجحان النكاح على العبادة المندوبة و قال: إنّ النكاح يتضمّن صون النفس عن الزنا فيكون ذلك دفعا للضرر عن النفس و النافلة جلب النفع، و دفع الضرر أولى من جلب النفع ثمّ إنّ النكاح يتضمّن العدل و العدل أفضل من العبادة لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لعدل عن ساعة خير من عبادة ستّين سنة، ثمّ إنّ النكاح سنّة مؤكّدة لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي و قال في الصّلاة: و إنّها خير موضوع فمن شاء فليستكثر و من شاء فليستقلل انتهى كلامهم.

قوله: [وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ] أي زوّجوا المستورين من عبيدكم و ولائدكم و ظاهر الآية الأمر للسادة بتزويج هذين الفريقين و معنى الصلاح في الآية الإيمان.

ثمّ رجع سبحانه إلى الأحرار فقال: [إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ] لا سعة لهم في التزويج [يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] وعدهم أن يوسّع عليهم عند التزويج [وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ] أي واسع المقدور عليم بأحوالهم و ما يصلحهم و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء الظنّ بربّه لقوله تعالى: «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ».

و إنّما خصّ الصالحين بالذكر ليحصن دينهم و يحفظ عليهم صلاحهم بالتزويج و قيل: المراد بالصالحين المراد الصلاح في النكاح بأنّ مثلا لا تكون صغيرة لا تتحمّل النكاح و قيل: المراد من قوله تعالى: «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ» ليس وعد من اللّه أن يغنيهم

ص: 344

حتما بل معناه أن لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون تزويجها ففي فضل اللّه ما يغنيهم إذا علم المصلحة و المال غاد و رائح و ليس الفقر يكون مانعا لرغبتكم في التزوّج و التزويج و يمكن أن يكون المراد من الغنى العفاف.

قوله: [وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] لمّا ذكر سبحانه تزويج الحرائر و الإماء ذكر في هذه الآية حال من يعجز عن ذلك فقال:

و ليستعفف و ليجتهد في العفّة و يحمل نفسه على العفّة الّذين لا يجدون و لا يتمكّنون من النكاح أولا يجدون ما ينكح به من المال مثل المهر أي من لا يتمكّن من ذلك فيطلب التعفّف و لينتظر أن يمكّنه اللّه.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ] هذا هو الحكم التاسع في الكتابة لمّا أمر اللّه سبحانه السيّد على تزويج الصالحين من العبيد و الإماء مع الرقبة رغّبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا منهم ليصيروا أحرارا.

و نزلت الآية في غلام لخويطب بن عبد العزّى يقال له صبيع سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت الآية فكاتبه على مائة دينار وهب له منها عشرين دينارا و المكاتبة أن يكاتب الإنسان عبده على مال ينجّمه عليه ليؤدّيه إليه في هذه النجوم المعلومة يقول المولى مثلا: كاتبتك على كذا من المال تؤدّيه في حولين أو ثلاث فإذا أدّيت ذلك المعلوم فأنت حرّ و يقول العبد: قبلت.

و بالجملة فهذا الأمر ندب و استحباب و ترغيب عند أكثر الفقهاء و قيل: أمر حتم و إيجاب إذا طلبه العبد و علم فيه خيرا عن عطا و عمرو بن دينار و الطبريّ.

قوله: [إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً] أي صلاحا و رشدا لهذا الأمر و قدرة لا لاكتساب هذا المال للأداء من مال الكتابة و روي أنّ عبدا لسلمان قال له: كاتبني قال: ألك مال؟ قال: لا، قال: تطعمني أو ساخ الناس فأبى عليه.

قوله: [وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ] أي حطّوا عنهم من نجوم الكتابة شيئا و قيل: أي ردّوا عليهم يا معشر السادة من المال الّذي أخذتم شيئا و هو استحباب و قيل:

هو إيجاب: و قال قوم من المفسّرين: إنّه خطاب للمؤمنين بمعونتهم على تخليص رقابهم

ص: 345

من الرقّ. و من قال: إنّ الخطاب للسادة اختلفوا في قدر ما يجب فقيل: يتقدّر بربع المال و روي ذلك عن عليّ عليه السّلام و قيل: ليس تقدير بل يحطّ عنه شي ء منه. و قيل: إنّه يعطي سهمه من الصدقات في قوله: «وَ فِي الرِّقابِ» و قيل: لو لا الكتابة لما جاز له أخذ الصدقات.

و قال أصحابنا: إنّ المكاتبة ضربان مطلق و مشروط فالمشروط أن يقول لعبده في حال الكتابة: متى عجزت عن أداء ثمنك كنت مردودا في الرقّ فإذا كان كذلك جاز له ردّه في الرقّ عند العجز و المطلق ينعتق منه عند العجز بحساب ما أدّى من المال و يبقى مملوكا بحساب ما بقي عليه و يرث و يورث بحساب ما عتق.

قوله تعالى: [وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً] الحكم العاشر الإكراه على الزنا نهى سبحانه عن إكراه الإماء على الفجور.

النزول: كان لعبد اللّه بن ابيّ المنافق ستّ جوار معاذة و مسيكة و اميمة و عميرة و أروى و فتيلة يكرههنّ على البغاء و ضرب عليهنّ ضرائب فشكت ثنتان منهنّ إلى رسول اللّه فنزلت الآية. و قيل: إنّ سبب النزول: جاء عبد اللّه بن ابيّ إلى رسول اللّه و معه جارية من أجمل النساء تسمّى معاذة فقال: يا رسول اللّه هذه لأيتام فلان أفلا نأمرها بالزنى فيصيبون الأيتام من منافعها فقال: لا، فأعاد الكلام فنزلت الآية عن ابن عبّاس و قال جابر بن عبد اللّه: جاءت جارية لبعض الناس و شكت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّ سيّدي يكرهني على البغاء، فنزلت الآية.

المعنى: و لا تجبروا و لا تكرهوا إماءكم و ولائدكم على الزنى إن أردن تعفّفا و تزويجا و إنّما شرط سبحانه إرادة التحصّن لأنّ الإكراه لا يتصوّر و لا يتحقّق إلّا عند إرادة التحصّن فإن لم ترد المرأة التحصّن بغت بالطبع فهذه فائدة الشرط.

[لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا] من كسبهنّ [وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَ] على الزنا من ساداتهنّ من غير ميل منهنّ [فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ] للمكرهات لا للمكره لأنّ الوزر على المكره [رَحِيمٌ] بهنّ.

توضيح: العرب يقول للمملوك: فتى و للمملوكة فتاة قال سبحانه: «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها» (1) و الآية و إن كانت نزلت في الإماء إلّا أنّ حال الحرائر كذلك و في الحديث

ص: 346


1- يوسف: 30.

ليقل أحدكم: فتاي و فتاتي و لا يقل: عبدي و أمتي.

فلو قيل: إنّ ظاهر الآية يقتضي جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصّن لأنّ المعلّق بكلمة «إن» على شي ء عدم عند عدم ذلك الشي ء و ينتفي بانتفائه فحينئذ ينتفي المنع عند عدم إرادة التحصّن.

فالجواب أنّ هذا الشي ء ممتنع في نفسه لأنّه متى لم توجد إرادة التحصّن في حقّها لم يكن كارهة للزّنا و حال كونها غير كارهة للزّنا يمتنع إكراهها على الزنا فامتنع ذلك لامتناعه في نفسه و ذاته ثمّ إنّ هنا جوابا آخر و هو أنّ مفهوم هذا الشرط ليس بحجّة لأنّه ثبت بدليل منفصل أنّ الزنى حرام. و «إن» بمعنى «إذا» في الآية لأنّ الّتي وردت الآية فيها كانت كذلك كما ذكرنا في قصّة عبد اللّه بن ابيّ حين امتنعت الجارية طلبا للعفاف فأكرهها فنزلت الآية نظير قوله تعالى: «وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» (1) أي إذا كنتم في ريب.

قوله تعالى: [لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ] واضحات ظاهرات و من قرأ بفتح الياء فمعناه مفصّلات بيّنهنّ اللّه و فصّلهنّ [وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ] و إخبارا من الّذين مضوا من قبلكم و قصصا منهم حكيناها لكم لتعتبروا بها [وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ] أي و زجرا و منعا لأهل التقوى و خصّهم بالذكر لأنّهم المنتفعون بها.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 35 الى 38]

اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)

ص: 347


1- البقرة: 23.

و لمّا بيّن في الآيات السابقة بعض الأحكام أورد الكلام في الإلهيّات و ذكر مثلين مثلا للإيمان و المؤمن و مثلا يذكر في الكافر و الكفر.

أمّا المثل الأوّل فهو قوله تعالى: [اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ] في بيان إطلاق اسم النور على اللّه باعتبار أنّه هادي و منوّر الخلق بمصالحهم و منوّر السماوات و الأرض بالشمس و القمر و النجوم أو منوّر السماوات و مزيّنها بالملائكة و مزيّن الأرض و منوّرها بالأنبياء و العلماء و إنّما عبّر و ورد النور في صفة اللّه لأنّ كلّ نور و إنعام و نفع منه و هذا كما يقال: فلان رحمة و فلان عذاب إذا كثر فعل ذلك منه كما قال أبو طالب عليه السّلام في مدح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

و اتّفقوا أهل الأدب أنّه لم يعن بقوله و «أبيض» بياض لونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّما أراد كثرة إفضاله و الاهتداء به و لهذا المعنى سمّاه اللّه تعالى سراجا منيرا.

و اعلم أنّ لفظ النور في اللغة موضوع لهذه الكيفيّة الفائضة من الشمس و القمر و النار على الأرض و الجدران و غيرهما و هذه الكيفيّة يستحيل أن تكون إلها لوجوه:

أحدها: لأنّ هذه الكيفيّة إن كانت عبارة عن الجسم كان الدليل الدالّ على حدوث الجسم دالّا على حدوثها و إن كانت عرضا فمتى ثبت حدوث الجسم لزم حدوث جميع الأعراض القائمة به و الحلول على اللّه محال.

و الثاني: أنّا سواء قلنا النور جسم أو عرض حالّ في الجسم و على التقديرين منقسم و كلّ منقسم يفتقر في تحقّقه إلى تحقّق أجزائه و المفتقر إلى الغير ممكن لذاته محدث بغيره فلا يكون النور إلها.

و الثالث: أنّ هذا النور المحسوس لو كان هو اللّه لوجب أن لا يزول هذا النور لامتناع الزوال على اللّه و هذا النور المحسوس يقع بطلوع الشمس و الكواكب و متغيّر.

و الرابع: أنّ هذه الأنوار لو كانت أزليّة لكانت إمّا متحرّكة أو ساكنة أمّا الحركة فغير جائزة لأنّ الحركة معناها الانتقال من مكان إلى مكان فحينئذ الحركة

ص: 348

مسبوقة بالحصول في المكان الأوّل و الأزليّ يمتنع أن يكون مسبوقا بالغير فالحركة الأزليّة محال و أمّا السكون فغير جائز لأنّ السكون لو كان أزليّا لكان ممتنع الزوال و نحن نرى حسّا أنّ النور جائز الزوال لأنّا نرى أنّه ينتقل من مكان إلى مكان فدلّ ذلك على حدوث الأنوار و الحادث لا يكون إلها. و بمجموع هذه الدلائل ثبت بطلان قول المانويّة الّذين يعتقدرون أنّ الإله سبحانه هو النور الأعظم.

و أمّا المجسّمة المعترفون بصحّة القرآن فيحتجّ على فساد قولهم بوجهين الأوّل: قوله تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» (1) و لو كان نورا لبطل ذلك لأنّ الأنوار كلّها متماثلة. الثاني قوله: «وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ» (2) و ذلك صريح في أنّ ماهيّة النور مجعولة مخلوقة للّه تعالى فيستحيل أن يكون الإله نورا فلا بدّ من التأويل كما بيّنّا من أنّ النور لمّا كان سببا للهداية و الظهور فيصحّ إطلاق اسم النور على الهداية فقوله: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي ذو نور السماوات و هو هاديهم فهو لهم كالنور الّذي يهتدى به إلى طرق الخير قال جرير:

«و أنت لنا نور و غيث و عصمة»

. و يمكن أن يكون المراد ناظم السماوات و الأرض فإنّه قد يعبّر بالنور عن النظام يقال: ما أرى لهذا الأمر من نور.

و ذكرنا وجوها أخر في صدر تفسير الآية و أصحّ الأقوال أنّ المراد بالنور في الآية الهداية إلى طريق الحقّ و قوله تعالى في آخر الآية: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» يؤيّد هذا القول.

و صنّف الشيخ الغزاليّ في تفسير هذه الآية كتابا سمّاه بمشكاة الأنوار و يؤول حاصل كلام الغزاليّ بأنّ اللّه هادي و خالق السماوات و حاصل كتابه في تأويل هذه الآية أنّ اللّه نور في الحقيقة بل ليس النور إلّا هو و لكن مراده ليس هذا النور المنبسط من الأشعّة على الأرض حتّى يلزم الحدوث و الافتقار و التجسّم كما بيّنّا.

قال: و يحتاج بيانه إلى بيان مقدّمة و هي أنّ للإنسان بصرا و بصيرة فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء و الألوان و البصيرة هي القوّة العاقلة و كلّ واحد من

ص: 349


1- الشورى: 11.
2- الانعام: 1.

الإدراكين يقتضي ظهور المدرك فكلّ واحد من الإدراكين نور إلّا أنّه ورود العيوب و الموانع لنور العين أكثر ممّا يرد على نور العقل و البصيرة، و أيضا إنّ قوّة البصر لا تدرك نفسها و لا تدرك آلاتها و أمّا قوّة العاقلة فإنّها تدرك نفسها و آلاتها من القلب و الدماغ و أيضا الإدراك العينيّ و الحسّيّ لا يتّسع لها لأنّ البصر مثلا إذا توالى عليه ألوان كثيرة عجز عن إدراكها و تمييزها صحيحا و يدرك لونا عاليا من تلك الألوان و كذلك الإدراك السمعيّ إذا توالت عليه كلمات كثيرة التبست عليه تلك الكلمات و لم يحصل التميّز و أمّا الإدراك النور العقليّ متّسع له فثبت أنّ نور العقل أكمل من نور البصر.

هذا أحد وجوه مزيّة نور العقل على نور البصر و رجحانيّة نور المعقول على نور المحسوس.

الثاني أنّ نور البصر يدرك الجزئيّات و نور البصيرة يدرك الكلّيّات و مدرك الكلّيّات و هو القلب أقوى و أشرف من مدرك الجزئيّات لأنّ إدراك الكلّيّات يتضمّن إدراك الجزئيّات الواقعة تحته و لا عكس.

الثالث أنّ الإدراك العينيّ و الحسّيّ غير منتج لأنّ من أحسّ بشي ء لا يكون ذلك الإحساس سببا لحصول إحساس آخر بل لو استعمل له الحسّ مرّة اخرى لأحسّ به مرّة اخرى و أمّا الإدراك و النور العقليّ منتج لأمور أخر لأنّا إذا عقلنا أمورا ثمّ ركّبناها في عقولنا توسّلنا بتركيبها إلى اكتساب علوم أخر و هكذا كلّ تعقّل حاصل فإنّه يمكن التوصّل به إلى تحصيل تعقّل آخر إلى ما لا نهاية له.

الرابع أنّ القوّة الحسّيّة إذا أدركت المحسوسات القويّة ففي ذلك الوقت تعجز عن إدراك الضعيفة فإنّ من سمع الصوت الشديد أو أبصر اللون القويّ لا يمكنه أن يسمع الصوت الضعيف أو يرى اللون الخفيف و النور العقليّ لا يشغله معقول عن معقول.

الخامس أنّ القوّة الباصرة لا تدرك المرئيّ مع القرب القريب و لا مع البعد البعيد و القوّة العقليّة لا تختلف حالها بحسب القرب و البعد فإنّها تترقّى إلى فوق العرش و تتنزّل إلى ما تحت الثرى في أقلّ من لحظة واحدة بل تدرك صفات اللّه مع كونه سبحانه

ص: 350

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 8 1

منزّها عن القرب و البعد و الجهة و مدرك القوّة العاقلة صفات اللّه و أفعاله و مدرك القوّة الباصرة هو الألوان و الأشكال و الجسم و السطح فنسبة شرف القوّة العاقلة إلى شرف القوّة الباصرة كنسبة شرف الوجود و العدم، ثمّ إنّ أوّل حكم القوّة العاقلة و هدايتها و نورها أنّ الوجود و العدم لا يجتمعان و لا يرتفعان و ذلك مسبوق لا محالة بتصوّر مسمّى الوجود و العدم فكأنّه بهذين التصوّرين قد أحاط في الجملة بجميع الأمور و أمّا القوّة الباصرة فإنّها تدرك الأضواء و الألوان و هما من أخسّ عوارض الأجسام و الأجسام أخسّ من الجواهر الروحانيّة.

السادس أنّ القوّة العاقلة غنيّة في إدراكها العقليّ عن وجود المعقول في الخارج و القوّة الحاسّة محتاجة في إدراكها الحسّيّ إلى وجود المحسوس في الخارج و لا شكّ أنّ الغنيّ أشرف من المحتاج.

السابع أنّ الإدراك البصريّ لا يتناول إلّا المقابل أو ما هو في حكم المقابل و أمّا القوّة العاقلة فإنّها تدرك ما يقابل و ما لا يكون في الجهة و الباصرة يعجز عند الحجاب و هي لا يحجبها شي ء أصلا فكانت أشرف.

الثامن: القوّة الباصرة قد تغلّط لأنّها أحيانا تدرك المتحرّك ساكنا و الساكن متحرّكا كالجالس في السفينة فإنّه قد يدرك السفينة المتحرّكة ساكنة و الشطّ الساكن متحرّكا و لو لا العقل لما تميّز خطاء البصر عن صوابه فالعقل حاكم و الحسّ محكوم فالإدراك العقليّ أشرف من الإدراك الحسّيّ و كلّ واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الّذي هو أشرف خواصّ النور فكان الإدراك العقليّ أولى بكونه نورا من الإدراك البصريّ.

و إذا ثبت هذا فالأنوار العقليّة على قسمين: أحدهما: واجب الحصول عند سلامة الأحوال و هي التعقّلات الفطريّة. و الثاني: ما يكون مكتسبا و هي التعقّلات النظريّة و هذه الأنوار الفطريّة إنّما حصلت بعد أن لم تكن فلا بدّ لها من سبب و أمّا التعقّلات النظريّة فقد يعتريها الزيغ و الخطل في الأكثر و إذا كان كذلك فلا بدّ من هاد و مرشد و لا مرشد فوق كلام اللّه و لا هادي مثل الأنبياء فكلام اللّه عند عين العقل بمنزلة نور

ص: 351

الشمس عند عين الباصرة لا عند عين العمياء إذ بنور الشمس يتمّ الأبصار فبالحريّ أن يسمّى القرآن نورا كما يسمّى نور الشمس نورا فنور القرآن يشبه نور الشمس و نور العقل يشبه نور العين و بهذا البيان يظهر معنى قوله: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا» (1) و قوله «قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً» (2) و إذا كان بيان الرسول أقوى من نور الشمس وجب أن يكون نفسه القدسيّة أعظم في النورانيّة من الشمس و كما أنّ الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيره و لا تستفيده من غيره فكذا نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يفيد الأنوار العقليّة لسائر الأنفس البشريّة و لا تستفيد الأنوار العقليّة من الأنفس البشريّة فلذلك وصف اللّه الشمس بأنّها سراج حيث قال سبحانه: «وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً» (3) و وصف محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّه سراج منير.

إذا عرفت هذا فمن المعلوم عند العقل و النقل أنّ الأنوار الحاصلة في أرواح الأنبياء مقتبسة من المبدء الأوّل و الفيض الأقدس الأعلى بتوسّط الملائكة كما قال تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» (4) و قال تعالى:

«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» (5) و قال: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» (6) و قال: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» (7) و الوحي إلى النبيّ لا يكون إلّا بواسطة الملائكة و الأنوار مختلفة فبعضها مفيدة و بعضها مستفيدة و لو أنّ المفيدة أيضا مستفيدة من نور الأنوار قال تعالى في وصف جبرئيل: «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» (8) و إذا كان هو مطاع الملائكة فالمطيعون لا بدّ و أن يكونوا تحت أمره، و قال:

«وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ» (9) فللأنوار درجات و ترقّيات حتّى تنتهي إلى من خلق

ص: 352


1- التغابن: 8.
2- النساء: 173.
3- الفرقان: 61.
4- النحل: 2.
5- الشعراء: 193.
6- النحل: 102.
7- النجم: 4، 5.
8- التكوير: 21.
9- النمل: 164.

و أظهر وجود هذه الأنوار فحينئذ هذه الأنوار الحسّيّة و العقليّة و الروحانيّة مثل جبرئيل بأسرها ممكنة لذواتها و الممكن لذاته يستحقّ العدم من ذاته و العدم هو الظلمة الحاصلة و الوجود هو النور فكلّ ما سوى اللّه مظلم لذاته مستنير بإنارة اللّه و كذا جميع معارفها بعد وجودها حاصل بإيجاد اللّه و وجود اللّه فهو الّذي أظهر الأنوار بالوجود بعد أن كانت في ظلمات العدم و أفاض عليها أنوار المعارف فلا ظهور لشي ء من الأشياء إلّا بإظهاره و أعطى النور النور و الانكشاف و التجلّي.

فثبت أنّ النور المطلق بحسب الوجود هو اللّه و أنّ إطلاق النور على غيره مجاز إذ كلّ ما سواه فإنّه من حيث هو هو ظلمة محضة لأنّه من حيث إنّه هو عدم محض بل الأنوار إذا نظرنا إليها من حيث هي هي فهي ظلمات لأنّها من حيث هي هي ممكنات و الممكن من حيث هو هو معدوم و المعدوم مظلم فالنور إذا نظرنا إليه من حيث هو هو ظلمة و من حيث إنّ اللّه أفاض عليها نعمة الوجود فبهذا الاعتبار صارت أنوارا. فثبت أنّه سبحانه هو النور و أنّ كلّ ما سواه فليس بنور إلّا على سبيل المجاز.

و هذا الكلام عن الشيخ الغزاليّ يرجع حاصله بعد التحقيق إلى معنى كونه سبحانه هادي أهل السماوات و الأرض فلا تفاوت بين ما قاله و بين الّذي قاله المفسّرون في المعنى.

رجعنا إلى تفسير الآية: [اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ] اعلم أنّه لا بدّ في التشبيه من المشبّه و المشبّه به و على ما ذكرنا و فصّلنا فالمشبّه في الآية و هو النور هداية اللّه و آياته البيّنات كما هو قول جمهور المتكلّمين و المعنى أنّ هداية اللّه تعالى بلغت في الجلاء و الظهور إلى أقصى الغاية بمنزلة المشكاة الّتي تكون فيها زجاجة و معنى المشكاة قيل: القنديل أو الكوّة في الحائط الّتي جعل فيها زجاجة صافية و في الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء.

فإن قيل: لم شبّه بذلك و قد علمنا أنّ ضوء الشمس أبلغ و أقوى من ذلك بكثير؟

قلنا: إنّه سبحانه أراد أن يصف الضوء الكامل الّذي يلوح في وسط الظلمة و هدايته فيما بينها تلوح لأنّ الغالب على أوهام الخلق الشبهات الّتي هي كالظلمات و هداية اللّه

ص: 353

فيها كالضوء الكامل و هذا المقصود لا يحصل من تشبيه ضوء الشمس لأنّ ضوء الشمس إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص فهذا المثل أليق بالمقصود.

و في المثل امور توجب كمال الضوء:

فأوّلها: المصباح و هو الفتيلة و الشمعة لأنّ المصباح إذا لم يكن في القنديل تفرّقت أشعّته أمّا إذا وضعت الشمعة في المشكاة اجتمعت أشعّته فكانت أكثر إنارة و الّذي يصدّق هذا البيان أنّ المصباح إذا كان في زجاجة صافية فإنّ الأشعّة المنفصلة عن المصباح تنعكس من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض لما في الزجاجة من الشفّافيّة و الصفاء و بسبب ذلك يزداد الضوء و النور كما أنّ إذا وقع شعاع الشمس على الزجاجة الصافية تضاعف الضوء.

و ثانيها أنّ ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتّقد به فإذا كان ذلك الدهن صافيا خالصا كانت حالته بخلاف ما إذا كان كدرا و ليس من ذلك الوقت في الأدهان الّتي توقد ما يظهر فيه من اللون و الصفاء مثل الّذي يظهر في الزيت.

و ثالثها أنّ هذا الزيت يختلف بحسب اختلاف شجره فإذا كان غير شرقيّة و غير غربيّة (1).

و في معنى قوله «لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ» ذكروا وجوها:

الأوّل: لا يفي ء عليها ظلّ شرق و لا ظلّ غرب بل الزيتونة مصاحبة للشمس غير مفارقة لها لا يظلّها جبل و لا شجر و لا كهف فزيتها يكون أصفى حينئذ و حاصل المعنى على هذا التقدير أنّ الزيتونة تكتسب حرارة الشمس من حين طلوع الشمس إلى غروبها حال النهار كالّتي على قلّة من الجبل و صحراء واسعة، و هذا قول ابن عبّاس و سعيد بن جبير و قتادة.

و قيل معناه: لا شرقيّة وحدها و لا غربيّة وحدها أي لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها و لا في مقناة تغيب عنها دائما فتتركها نيّا. و في الحديث لا خير في مقناه و لا خير فيها في مضحى فحينئذ الشجرة الحسنة المثمرة ما كانت تصيبه الشمس و الظلّ كلاهما.ل.

ص: 354


1- كذا في الأصل.

و قيل: معناه أنّ الزيتونة ليست من شجرة الدنيا فتكون شرقيّة و غربيّة.

و قيل: أن لا تكون الزيتونة من شجر الشرق و لا من شجر الغرب لأنّ ما اختصّ بإحدى الجهتين كان أقلّ زيتا و أضعف ضوءا و لكنّها من شجر الشام و هي ما بين الشرق و الغرب.

و بالجملة اللّه ذو نور السماوات و الأرض (و مثله: إنّه عمل غير صالح) أي منوّرها و مثل نوره الّذي هدى به المؤمنين و هو الإيمان و دلائل التوحيد أو مثل نوره الّذي هو القرآن في القلب أو مثل طاعة اللّه في قلب المؤمن كقنديل فيه شمعة.

و في الآية قلب أي مثل شمعة في مشكاة و قنديل. و يوضع ذلك السراج و المصباح في زجاجة و سمّي الشمع و الفتيلة المشتعلة بالمصباح لأنّ فيه أثر الضوء كالصبح.

[كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ] أي تلك الزجاجة مثل الكوكب العظيم الّذي يشبه الدرّ في صفائه و نوره و إذا جعلته من الدرء و هو الدفع و دمغ الظلمة فمعناه المندفع السريع الوقع في الانفضاض كالزهرة كأنّه تنتشر منه الضوء إذا نظرت إليه.

قوله: [يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ] أي يشتعل ذلك المصباح من دهن شجرة مباركة [زَيْتُونَةٍ] أراد بالشجرة المباركة شجرة الزيتون لأنّ فيها أنواع البركات لأنّ بزيته يتسرّج و هو أدام و دهان و دباغ و يوقد بحطبه و ثفلة و يغسل برماده الأبريسم و دهنها أصفى و أضوء و قيل: لأنّها أوّل شجرة نبتت في الأرض بعد الطوفان و منبتها منزل الأنبياء لأنّها نبتت في بيت المقدس و بارك فيها سبعون نبيّا منهم إبراهيم فلذلك سمّيت مباركة.

[لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ] ذكر تفسيرها.

[يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ] أي من فرط صفائه يقرب أن يشتعل و ينير من قبل أن تصيبه النار.

ثمّ هاهنا تحقيق و هو أنّ المحقّقين اختلفوا في المشبّه و المشبّه به كما أشرنا إليه قيل: إنّه مثل ضربه لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالمشكاة صدره، و الزجاجة قلبه، و المصباح النبوّة، لا شرقيّة و لا غربيّة أي لا يهوديّة و لا نصرانيّة يوقد من شجرة مباركة أي

ص: 355

شجرة نبوّة إبراهيم الخليل عليه السّلام يكاد زيتها يضي ء يقرب نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبيّن للناس و لو لم يتكلّم به كما أنّ ذلك الزيت يكاد يضي ء و لو لم تمسسه نار و هذا البيان عن كعب و جماعة من المفسّرين.

و قيل: إنّ المشكاة إبراهيم عليه السّلام و الزجاجة إسماعيل عليه السّلام و المصباح محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما سمّي سراجا.

و قيل: من شجرة مباركة يعني محمّد من شجرة مباركة إبراهيم لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أكثر الأنبياء من صلب إبراهيم لا شرقيّة و لا غربيّة أي ملّته حنيفيّة لا نصرانيّة و لا يهوديّة لأنّ النصارى تصلّي إلى المشرق و اليهود إلى المغرب يكاد زيت نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و محاسنه تظهر قبل أن يوحى إليه نور على نور أي نبيّ من نسل نبيّ.

و قيل: إنّ المشكاة عبد المطّلب و الزجاجة و المصباح و هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا شرقيّة و لا غربيّة بل مكّيّة لأنّها وسط الدنيا عن الضحّاك.

و روي عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: نحن المشكاة فيها المصباح محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يهدى اللّه بولايتنا من قبل ولايتنا و أحبّ.

و في كتاب التوحيد لأبي جعفر بن بابويه بالإسناد عن عيسى بن راشد عن الباقر عليه السّلام في قوله «كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ» قال: نور العلم في صدر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو المصباح، في زجاجة الزجاجة صدر عليّ عليه السّلام صار علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى صدر عليّ عليه السّلام علّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا، يوقد من شجرة مباركة نور العلم لا شرقيّة و لا غربيّة لا يهوديّة و لا نصرانيّة يكاد العالم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتكلّم بالعلم قبل أن يسأل، نور على نور إمام مؤيّد بنور العلم و الحكمة في أثر إمام من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك من لدن آدم عليه السّلام إلى أن تقوم الساعة فهؤلاء الأوصياء الّذين جعلهم اللّه خلفاء في أرضه لا تخلو الأرض في كلّ عصر من واحد منهم قال أبو طالب:

أنت الأمير محمّد قرم أغرّ مسوّدلمسوّدين أطاهر كرموا و طاب المولد

أنت السعيد من السعود فكنّفتك الأسعدمن لدن آدم لم تزل فينا وصيّ مرشد

و لقد عرفتك صادقا و القول لا يتفنّدما زلت تنطق بالصواب و أنت طفل أمرد

ص: 356

و الحاصل من جملة هذه البيانات أنّ الشجرة المباركة المذكور في الآية هي دوحة التقى و الرضوان و عترة الهدى و الإيمان شجرة أصلها النبوّة و فرعها الإمامة و أغصانها التنزيل و أوراقها التأويل و خدمها جبريل و ميكائيل.

و يمكن أن يؤوّل معنى الآية أنّه مثل ضربه اللّه للمؤمن و المشكاة نفسه و الزجاجة صدره و المصباح الإيمان و القرآن في قلبه يوقد من شجرة مباركة هي الإخلاص للّه وحده فهي خضرة ناعمة كشجرة خضرة دائمة كشجرة الزيتونة لا شرقيّة و لا غربيّة لا تضرّه الشمس و لا الفي ء و قد احترز من أن يصيبه القتر فهو في بين أربع خلال: إن اعطي شكر، و إن ابتلى صبر، و إن حكم عدل، و إن قال صدق. فالمؤمن في سائر الناس كالرجل يمشي بين قبور الأموات نور على نور كلامه نور و علمه نور و مدخله نور و مخرجه نور و مصيره إلى نور يوم القيامة.

عن ابيّ بن كعب و عن الحسن و ابن زيد قالوا: إنّه مثل القرآن في قلب المؤمن فكما أنّ هذا المصباح يستضاء به و هو كما هو لا ينقص فكذلك القرآن يهتدي به و يعمل به فالمصباح هو القرآن و الزجاجة قلب المؤمن و المشكاة لسانه و فمه و الشجرة المباركة شجرة الوحي يكاد زيتها يضي ء يكاد حجج القرآن تتّضح و إن لم تقرء و تضي ء لمن تفكّر فيها و تدبّرها و لو لم يزل القرآن فإنّ الدلائل على التوحيد يترتّب بعضها على بعض و المؤمن يستفيد منها بمراعاة الترتيب من ضوء نور السراج على ضوء الزيت على ضوء الزجاجة.

قوله: [يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ] أي يهدي اللّه لدينه و إيمانه من يشاء بأن يفعل له لطفا و يختار عنده الإيمان إذا علم منه القبول و اختيار لعبوديّة قيل: معناه: يهدي اللّه لنبوّته و خلافته من يشاء و يعلم أنّه يصلح لذلك.

[وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ] تقريبا للأفهام و تسهيلا للمرام و هو بكلّ شي ء عليم كثير العلم فيضع الأشياء مواضعها.

[فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ] هذه المشكاة توقد في بيوت يتلى فيها كتابه أو أسماؤه الحسنى و هي المساجد في قول ابن عبّاس و جماعة و يؤيّده قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: المساجد

ص: 357

بيوت اللّه في الأرض و هي تضي ء لأهل السماء كما تضي ء النجوم لأهل الأرض.

و قيل: إنّها أربع مساجد لم يبنها إلّا نبيّ: الكعبة بناها إبراهيم و إسماعيل و مسجد بيت المقدس بناها داود و سليمان و مسجد المدينة و مسجد قبا بناهما رسول اللّه.

و قيل: هي بيوت الأنبياء و روي ذلك مرفوعا أنّه سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قرأ الآية:

أيّ بيوت هذه فقال: بيوت الأنبياء فقام أبو بكر و قال: يا رسول اللّه هذا البيت منها لبيت عليّ و فاطمة؟ قال: نعم أفاضلها. و يعضد هذا الحديث قوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (1) و قوله «رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» (2) و المراد بالرفع التعظيم و التطهير.

و قيل: المراد برفعها رفع الحوائج فيها إلى اللّه. و قيل: المراد من رفعها بناؤها من قوله «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» (3).

قوله: [وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ] قيل: المراد قراءة القرآن و قيل: إنّه عامّ في كلّ ذكر أولا يتكلّم فيها بما لا ينبغي [يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ] أي يصلّي فيها بالبكرة و العشيّ قال ابن عبّاس: كلّ تسبيح في القرآن صلاة و قيل: الصلوات الخمس و منهم من حمله على صلاتي الصبح و العصر فكانتا واجبتين في الابتداء ثمّ زيد فيهما أو المراد تنزيه اللّه عمّا لا يليق به و وصفه بالصفات الّتي يستحقّها لذاته و أفعاله الّتي كلّها حكمة و صواب.

ثمّ بيّن سبحانه المسبّح [رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ] و لا تشغلهم [تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ] أي عن إقامة الصلاة حذف التاء و التاء عوض عن الواو في «إقوام» فلمّا أضافه صار المضاف إليه عوضا عن الهاء و روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه أنّهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا و انطلقوا إلى الصلاة و هم أعظم أجرا ممّن يتّجر و إنّما خصّ الرجال بالذكر لأنّ النساء لسن من أهل التجارة.

ص: 358


1- الأحزاب: 33.
2- هود: 72.
3- البقرة: 172.

قوله تعالى: [وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ] يريد الزكاة المفروضة أو إخلاص الطاعة للّه [يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ] إذ يوم القيامة تتقلّب فيه أحوال القلوب و الأبصار تنتقل من حال إلى حال فتلفحها النار ثمّ تنضجها ثمّ تحرقها. و قيل: تتقلّب فيه القلوب بين الطمع في النجاة و الخوف من الهلاك و تنقلب الأبصار يمنة و يسرة من أين كتبهم يؤتى و أين يؤخذ بهم أمن قبل اليمين أم من قبل اليسار و قيل: تتقلّب فيه القلوب ببلوغها الحناجر و الأبصار بالعمى بعد البصر و قيل: معناه تنتقل القلوب عن الشكّ إلى اليقين فمن كان شاكّا في دنياه أبصر في آخرته و من كان عالما ازداد بصيرة و علما فهو مثل قوله: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (1).

قوله: [لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ] أي يفعلون ذلك طلبا لمرضاة اللّه و لمجازاتهم بأحسن ما عملوا و لتفضّلهم عليهم بالزيادة على ما استحقّوه بأعمالهم من فضله و كرمه.

[وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ] و الثواب لا يكون إلّا بحساب و التفضّل يكون بغير حساب.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 39 الى 40]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

لمّا ذكر سبحانه حال المؤمن و إنّه لإيمانه في النور و كالنور و يكون بسببه متمسّكا بالعمل الصالح في الدنيا و في الآخرة فائزا بالنعيم المقيم أتبع في هذه الآية بأنّ الكافر يكون في الآخرة في أشدّ الخسران و في الدنيا في أعظم الظلمات فقال:

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ] الّتي يعملونها و يعتقدونها أنّها طاعات [كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ] كشعاع يتخيّل كالماء يجري على الأرض الواسعة المنبسطة يظنّه العطشان ماء [حَتَّى إِذا جاءَهُ] يشرب منه رأى أرضا لا ماء فيها و [لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً] ممّا قدّر كذلك الكافر يحسب ما قدّم من عمله نافعا له و ليس له عليه ثواب و الإلّ و السراب واحد و هو

ص: 359


1- ق: 22.

ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات سارب شبيه بالماء الجاري و ليس هو بشي ء فشبّه سبحانه عمل الكافر في القيامة به كما أنّه ليس بشي ء كذلك عمله ليس بشي ء.

أمّا قوله: [وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ] أي وجد عقاب اللّه الّذي توعّد به الكافر عند ذلك فتغيّر ما كان فيه من ظنّ النفع العظيم إلى تيقّن الضرر العظيم أو وجد زبانية اللّه عنده يأخذونه فيقبلون به إلى جهنّم فيسقونه الحميم و الغسّاق. و هم الّذين قال اللّه في حقّهم «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» (1) و «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» (2).

و قيل: إنّ الآية نزلت في عتبة بن ربيعة بن اميّة كان قد تعبّد و لبس المسوح و التمس الدين في الجاهليّة ثمّ كفر في الإسلام.

أمّا قوله: [وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ] لا يشغله حساب عن حساب فيحاسبهم في حالة واحدة قال أمير المؤمنين عليه السّلام: كما يرزقهم في حالة واحدة.

قوله: [أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ] هذا المثل الثاني؛ شبّه عقائد الكفّار و أعمالهم في الدنيا بالظلمات الواقعة في البحر اللجّيّ و هو البحر البعيد القعر و ذو اللجّة الّتي هي معظم الماء الغمر يكون قعره مظلما جدّا بسبب غمورة الماء. قوله: [يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ] فإذا ترادفت على غمور الماء الأمواج ازدادت الظلمة. قوله: [مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ] فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى.

و الحاصل أنّ الواقع في قعر هذا البحر اللجّيّ يكون في نهاية شدّة الظلمة فالكافر من جهله و حسرته كمن في هذه الظلمات لأنّه من عمله و قوله و اعتقاده متقلّب في ظلمات ثلاث قال ابيّ بن كعب: إنّ الكافر يتقلّب في خمس ظلمات: كلامه ظلمة و عمله ظلمة و مدخله ظلمة و مخرجه ظلمة و مصيره يوم القيامة إلى ظلمة و هي النار.

[إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها] و هذه مبالغة في الظلمة لأنّ العادة في اليد أنّها من أقرب أعضاء يراها الإنسان و من أبعد أعضاء لا يراها الإنسان فذكر سبحانه أنّ الظلمة بحيث إذا أراد الكافر أن يرى يده غير قريبة للرؤية أو لا يراها فهو نفي للرؤية و عن مقاربة

ص: 360


1- الغاشية: 3.
2- الكهف: 105.

الرؤية لأنّ دون هذه الظلمة لا يرى فيها و حكم «كاد» إذا لم يدخل عليها حرف نفي أن يكون نافية و إذا دخل دلّت على أن يكون الأمر دفع بعد بطء أو لا يقع.

قوله تعالى: [وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ] و الكافر ضدّ المؤمن في قوله «نُورٌ عَلى نُورٍ» و قوله: «يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ» و من لم يكن له في الدنيا نور الإيمان بعدم قبوله و سوء اختياره فما له مخلصا و نورا في الآخرة و لا يفوز بالسعادات الأبديّة.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 41 الى 46]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (45)

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

قوله تعالى: [أَ لَمْ] تعلم الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المراد جميع المكلّفين [أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ] و المراد من التسبيح التنزيه للّه عمّا لا يليق به أي ينزّه ذاته أهل السماوات و الأرض بألسنتهم و قيل: عنى به العقلاء و غير العقلاء و كنّي عن الجميع بلفظة من تغليبا للعقلاء على غيرهم [وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ] أي و يسبّح له الطير واقفات في الجوّ مصطفّات الأجنحة في الهواء و تسبيحها ما يرى عليها من آثار الحدوث لأنّ حركاتها و حدوثها دلالات على الخالق القادر المختار موصوفا بصفات الجلال منزّها عن النقائص و الزوال أو المراد أنّها تنطق بألسنتها بالتسبيح و ينطق و تتكلّم به كما أنّ من العقلاء أيضا من يسبّح بلسانه كالمؤمن و يسبّح بدلالة وجوده كالكافر و وقوف الطير في الهواء مع هذا الجرم الثقيل لما فيها من القبض و البسط من أعظم الدلائل.

ص: 361

[كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ] أي إنّ جميع ذلك قد علم اللّه تسبيحه و صلاته و دعاءه إلى توحيده و تنزيهه و قيل: إنّ الصلاة للإنسان و التسبيح لغيره و قيل:

الضمير في «علم» راجع إلى المصلّي و المسبّح أي كلّ منهم يعلم وقت تسبيحه و دعائه و يؤدّيه إلى وقته و القول الأوّل أقرب لأنّ الأشياء كلّها لا يعلم كيفيّة دلالتها على اللّه و إنّما يعلم اللّه تعالى ذلك؛ و روي عن أبي ثابت قال: كنت جالسا عند أبي جعفر عليه السّلام فقال: لي أ تدري ما تقول هذه العصافر عند طلوع الشمس و بعد طلوعها؟ قلت: لا. قال:

فإنّهنّ يقدّسن ربّها و يسألنه قوت يومهنّ.

و بالجملة إنّ جميع الأشياء يسبّح ربّها إمّا بالنطق أو بعضها يسبّح بالدلالة كما أنّا نشاهد بعض الحيوانات ملهمات أمورا في تحصيل رزقهنّ بأعمالهم لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء فإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يلهمها دعاءه و تسبيحه و معرفته؛ تأمّل في العنكبوت كيف يأتي بالحبل اللطيفة في اصطياد الذباب، و قد حكي عن الفار امور عجيبة و كذلك النحل.

و قد نقل عن بعض الصيّادين في كتاب طبائع الحيوان أنّ الحبارى تقاتل الأفعى فتنهشه الأفعى فتنهزم من الأفعى إلى بقلة تتناول منها ثمّ تعود و تقتل الأفعى و تأكله و قد نقل شيخ أنّه كان قاعدا في كنّ غار و كانت تلك البقلة قريبة من الغار من مكامن الحبارى فلمّا اشتغل الحبارى بالأفعى قلع الشيخ البقلة فعادت الحبارى إلى منبت البقلة لكي تأكلها و تتداوى بها ففقدته و أخذت تدور حول منبتها دورانا متتابعا حتّى خرّت ميّتة فعلم الشيخ أنّها تتعالج بأكلها من اللسعة و تلك البقلة هي الجرجر البرّيّ.

و كذلك القنافذ تحسّ بالعواصف من الشمال و الجنوب قبل الهبوب فتغيّر المدخل إلى جحرها و كان بالقسطنطنيّة رجل قد أثرى و تموّل بسبب أنّه كان ينذر بالرياح قبل هبوبها و ينتفع من الناس بهذا الإنذار و كان السبب فيه قنفذا في داره يفعل الصنيع المذكور فيستدلّ الرجل به.

و كذلك اللقالق إذا جرحت بعضها بعضا داوت جراحها بالصعتر الجبليّ و كذلك ابن عرس يستظهر في قتال الحيّة بأكل السداب فإنّ النكهة السدابيّة ممّا تنفر منها

ص: 362

الأفاعيّ و تعجز منها و كذلك الغرانيق تصعد في الجوّ جدّا عند الطيران فإن حجب بعضها عن بعض ضباب أو سحاب أحدثت عن أجنحتها حفيفا مسموعا يلزم به بعضها بعضا و إذا نامت و انتصرت على جبل فإنّها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلّا القائد فإنّه ينام مكشوف الرأس يسرع إليه انتباهه فإذا سمع صوتا صاح. و حال النمل معلوم في الذهاب إلى مواضعها على خطّ مستقيم.

و بالجملة فكلّ ما عداه سبحانه من الفلك و الملك شواهد قدرته و ألوهيّته و ناطق بوحدانيّته و هو سبحانه كما قال سيد الشهداء عليه السّلام في دعاء عرفة: متى غبت حتّى تحتاج إلى شهود.

قوله تعالى: [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ] أي عالم بأفعالهم و الفعل يعمّ الجزئيّ و الكلّيّ و هذا الكلام ردّ على من يزعم أنّه سبحانه غير عالم بالجزئيّات.

[وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ] و كيف لغيره و لا يقدر على خلقها غيره و لا يصحّ إلّا له سبحانه [وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] المرجع يوم القيامة.

ثمّ قال: [أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً] ألم تر أنّه يسوق بأمره السحاب سوقا رفيقا إلى حيث يريد [ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ] و يضمّ بعضه إلى بعض فيجعل القطع المتفرّقة منه قطعة واحدة [ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً] متراكما متراكبا بعضه فوق بعض [فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ] و ترى المطر يخرج من خلال السحاب و من مخارج القطر من السحاب، و السحاب واحد في اللفظ و معناه الجمع و الركم جمع الشي ء فوق الشي ء و خلال جمع خلل مثل جبال جمع جبل أي يجري المطر من مخارق السحاب و شقوقه و كلّ ذلك من التأليف و التراكم و سوق السحاب و تحمّل السحاب الماء الكثير من عجائب قدرته و خلقه.

و قال أهل الطبائع: إنّ تكوّن السحاب و المطر و الثلج و البرد و الظلّ و الصقيع يكون من تكاثف البخار في الأكثر و الأقلّ من تكاثف الهواء فقالوا:

البخار الساعد إن كان قليلا و كان في الهواء من الحرارة ما يحلّل ذلك البخار فتلك الأبخرة تنحلّ و تنقلب هواء و إن كان البخار كثيرا و لم يكن في الهواء من الحرارة

ص: 363

ما يحلّل ذلك البخار فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ فإن بلغت فإمّا أن يكون البرد هناك قويّا أو لا يكون فإن لم يكن البرد قويّا تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد و اجتمع و تقاطر فالبخار المجتمع هو السحاب و المتقاطر هو المطر و الديمة و الوابل إنّما يكون من أمثال هذه الغيوم و إمّا أن يكون البرد شديدا فلا يخلو إمّا أن يصل البرد إلى الأجزاء البخاريّة قبل اجتماعها حبّات كبارا أو بعد صيرورتها كذلك فإن كان وصل البرد قبل اجتماعها نزل ثلجا و إن كان وصل البرد بعد اجتماعها نزل بردا هذا كلّه إذا بلغت الأبخرة في الصعود إلى الطبقة الباردة.

و أمّا إذا لم تبلغ فهي إمّا أن تكون كثيرة أو تكون قليلة فإن كانت كثيرة فهي قد تنعقد سحابا ماطرا و قد لا تنعقد أمّا الأوّل و هو الماطر فذاك لأحد أسباب عديدة:

أحدها: إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة أو يتّفق أن يكون الرياح متقابلة متصادمة تمنع صعود الأبخرة حينئذ و ضاغطة إيّاها إلى الاجتماع بسبب وقوع جبال قدّام الريح أو أن يعرض بها شدّة برد الهواء القريب من الأرض كما أنّه يشاهد بعض الأحيان البخار يصعد في بعض الجبال صعودا يسيرا حتّى كأنّه مكبّ موضوع على وهدة و يكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة و الّذين يكونون تحت الغمامة يمطرون و الّذين فوقها يكونون في الشمس و أمّا إذا كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة فإذا ضربها برد الليل كثفها و عقدها ماء محسوسا فنزل نزولا متفرّقا لا يحسّ به إلّا عند الاجتماع إلى مقدار معتدّ به فإن لم يجمد كان ظلّا و إن جمد كان معيقا و نسبة الصعيق إلى الطلّ بسنّة الثلج إلى المطر انتهى كلام الطباعيين.

و الجواب أنّا لمّا سلّمنا حدوث الأجسام و دلّلنا أنّ إحداثها و إيجادها بحكم القادر المختار لم يمكننا القطع بما ذكروه لاحتمال أنّه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الّذي ذكروه وهب أنّ الأمر كما ذكرتموه و لكنّ الأجسام بالاتّفاق ممكنة في ذواتها فلا بدّ لها من مؤثّر ثمّ إنّها متماثلة فاختصاص كلّ واحد منها بصفة.

معيّنة من الصعود و النزول و اللطافة و الكثافة و الحرارة و البرودة لا بدّ لها من جاعل

ص: 364

و مخصّص فإذا كان هو سبحانه خالقا لتلك الطبائع و تلك الطبائع مؤثّرة في هذه الأحوال فخالق السبب خالق المسبّب فكان سبحانه هو الّذي يزجي السحاب لأنّه هو الّذي خلق تلك الطبائع المحرّكة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جوّ الهواء فثبت على جميع التقادير أنّ وجه الاستدلال بهذه الأشياء على الخالق القادر ظاهر بيّن.

قوله تعالى: [وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ] أي و ينزّل من جبال في السماء تلك الجبال من البرد خلقها اللّه تعالى كذلك ثمّ ينزل منها ما شاء و هذا القول عليه أكثر المفسّرين و قيل: إنّ المراد من السماء الغيم المرتفع على رءوس الناس سمّي بذلك لسموّه و ارتفاعه و إنّه تعالى أنزل من هذا الغيم الّذي هو سماء البرد و أراد بقوله «مِنْ جِبالٍ» السحاب العظام لأنّها إذا عظمت أشبهت الجبال كما يقال: فلان يملك جبالا من مال أوله بيتان من التبر، و وصفت بذلك توسّعا.

و قال بعض المفسّرين: إنّما سمّى اللّه ذلك الغيم جبالا لأنّه سبحانه خلقها من البرد و كلّ جسم شديد متحجّر فهو من الجبال فطبعه و خلقته كذلك و منه قوله «وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ» (1) و منه فلان مجبول على كذا أي مطبوع.

قال أبو عليّ الفارسيّ قوله تعالى: «مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» فمن الاولى لابتداء الغاية لأنّ ابتداء الإنزال من السماء و الثانية للتبعيض لأنّ ما ينزله بعض تلك الجبال الّتي في السماء و الثالثة للتبيين لأنّ جنس تلك الجبال جنس البرد و يمكن أن يكون البرد يجتمع في السحاب كالجبال ثمّ ينزل منها.

[فَيُصِيبُ بِهِ] أي بالبرد [مَنْ يَشاءُ] فيهلك زرعه و ماله [وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ] و يدفع ضرره عمّن يشاء و يعلم المصلحة بدفعه و ضرره فيكون إصابته نقمة و دفعه نعمة و في الكافي عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه سبحانه جعل السحاب غرابيل للمطر هي تذيب البرد لكي لا يضرّ شيئا يصيبه و الّذي ترون فيه من البرد و الصواعق نقمة من اللّه تعالى يصيب بها من يشاء من عباده و فيه عنه عليه السّلام: البرد لا يؤكل لأنّ اللّه يقول: يصيب به من يشاء.

ص: 365


1- الشعراء: 184.

و في حديث يذكر فيه الرياح قال: و بها يتألّف المفترق و بها يفترق الغمام المطبق حتّى ينبسط في السماء كيف يشاء و يدبّره فيجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله بقدر معلوم لمعاش مفهوم و أرزاق مقسومة و آجال مكتوبة و في الفقيه عن الباقر عليه السّلام في حديث يذكر فيه أنواع الرياح قال: و منها رياح تحبس السحاب بين السماء و الأرض و رياح تعصر السحاب فتمطره بإذن اللّه و رياح تفرّق السحاب.

قوله: [يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ] أي يقرب ضوء برق السحاب من أن يذهب بالبصر و يخطفه بشدّة لمعانه نوره كما قال: «يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» (1) و قرئ برقة جمع برقة و «سنا» قرئ ممدودا و مقصورا أي يقرب ضوؤه العالي المرتفع يذهب بالأبصار و التاء زائدة و وجه الاستدلال بقوله «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ» أنّ البرق الّذي يكون صفته ذلك لا بدّ و أن يكون نارا عظيمة خالصة كما أنّه قد شوهد مرارا أنّ البرق تحرق الحديد الصلب و الشجرة المثمرة و النار ضدّ الماء فظهوره من البرد حصل ظهور الضدّ من الضدّ و لا يكون ذلك إلّا لقوّة قاهرة من القادر الحكيم.

قوله: [يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ] و يصرفهما في اختلافهما و تعاقبهما و إدخال أحدهما في الآخر [إِنَّ فِي ذلِكَ] التقليب [لَعِبْرَةً] و دلالة [لِأُولِي الْأَبْصارِ] أي لذوي العقول و البصائر.

[وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ] لمّا استدلّ سبحانه على التوحيد من آثار العلويّة استدلّ في هذه الآية من آثار الحيوانيّة فقال: [وَ اللَّهُ خَلَقَ] و هاهنا سؤالات:

منها أنّه لم قال اللّه: «وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» مع أنّ كثيرا من الحيوانات غير مخلوقة من الماء أمّا الملائكة فهم من أعظم الحيوانات عددا و هم مخلوقون من نور و أمّا الجنّ فهم مخلوقون من النار و خلق اللّه آدم من تراب و خلق عيسى من الريح لقوله «فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا» (2) و أيضا إنّ كثيرا من الحيوان متولّد لا من النطفة.

و أجابوا بأجوبة و الأحسن ما قاله القفّال المروزيّ و هو أنّ قوله «من ماء» صلة

ص: 366


1- البقرة: 20.
2- الأنبياء: 91.

«كلّ دابّة» و ليس هو من صلة «خلق» و المعنى أنّ كلّ دابّة متولّدة من الماء فهي مخلوقة للّه.

و الجواب الثاني أنّ أصل جميع المخلوقات الماء على ما يروى: أوّل ما خلق اللّه جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثمّ من ذلك الماء خلق النار و منها الجنّ و الهواء و النور و منه خلق الملائكة و لمّا كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة و كان الأصل الأوّل هو الماء لا جرم ذكره على المذكور.

و الجواب الثالث أنّ المراد من الدابّة الّتي تدبّ في الأرض و مسكنهم هناك فيخرج عنه الملائكة و الجنّ و لمّا كان الغالب جدّا من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء أمّا لأنّها من النطفة متولّدة و إمّا لأنّها لا تعيش إلّا بالماء لا جرم أطلق لفظ الكلّ تنزيلا للغالب منزلة الكلّ توسّعا.

قوله: [فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ] كالحيّة و الدود و الحوت [وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ] كالإنس و الدجاج و الطير [وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ] كالأنعام و الوحوش و السباع و لم يذكر ما يمشي على أكثر لأنّ العبرة بالأربع. قال الحكماء: كلّ ماله قوائم كثيرة فإنّ اعتماده إذا سعى على أربعة قوائم فقط و لو أنّ له أربعة و أربعون رجلا كالّذي يسمّى دخّال الاذن و كالعناكب على أنّ الأقلّ النادر ملحق بالعدم فلا يلزم ذكره.

قوله [يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] من أصنافها تشترك في أعضاء و تتباين في أعضاء كالإنسان و الفرس تشترك الفرس مع الإنسان في اللحم و العصب و العظم مثلا و تتباين منه في الوضع من الذئب و السلحفاة مثلا مع العصفور أو الاختلاف في غلبة عنصر على عنصر فبعضها لجيّة و بعضها شطيّة و بعضها طينيّة و بعضها صخريّة و أيضا منها ما يعتمد في غوصه على رأسه و في السباحة على رجليه كالضفدع و منها ما يمشي في قعر الماء كالسرطان.

و أيضا حيوانات البرّيّة متغايرة أحوالها منها يتنفّس من طريق واحد كالفم و الخيشوم و منها ما لا يتنفّس كذلك بل على نحو آخر من مسامّه كالنحل و الزنبور.

ص: 367

و أيضا من الحيوانات يختلف عاداتها فبعضها تتعايش معا كالإنسان و في الطيور كالكراكي و الغربان و بعضها يؤثر التفرّد كالطيور الجارحة و العقاب و أمثالها و بعض الحيوان هو الّذي لا يمكنه أن يعيش بتفرّد و أسباب معيشته تلتئم بالمشاركة المدنيّة كالنحل و النمل و الغرانيق.

و كذلك الاختلاف واقع في الحيوان من حيث الأكل فمنهم آكل كلّ لذيذ مثل الإنسان و منها آكل لحم كالجوارح و منها لا قط حبّ و منها آكل عشب و منها ما يكون غذاؤه زهر كالنحل.

و أيضا فللحيوانات تقسيم آخر فمنها ما هو انسيّ بالطبع كالإنسان و الهرّة و الفرس و منها ما لا يأنس كالنمر و الأسد.

و كذلك فبعضها هادئ الطبع قليل الغضب مثل البقرة و بعضها شديد الجهل حادّ الغضب كالخنزير البرّيّ و بعضها حليم خدوع كالبعير و بعضها قويّ مغتال كالذئب و بعضها غضوب سفيه إلّا أنّه ملق متردّد كالكلب و بعضها حسود متباه كالطاووس.

و التقسيم الآخر: أيضا من الحيوان ما أن تلد انثاه حين ما تلد حيوانا و بعضها ما تناسله حين ما تلد انثاه بيضا و العقول قاصرة عن الإحاطة بها على سبيل الكمال.

فحينئذ وجه الاستدلال بها على الصانع القادر المختار ظاهر لأنّه لو كان الأمر بتركيب الطبائع الأربع فذلك بالنسبة إلى الكلّ على السويّة فاختصاص كلّ واحد من هذه الحيوانات بأعضائها و قواها و كيفيّة أبدانها و اختلاف خلقها و خلقها لا بدّ و أن يكون بتدبير مدبّر قاهر حكيم إنّ اللّه على هذه الأمور قادر دون غيره مع اتّفاق أصلها ابتداء أنّ أصلها من الماء.

قوله تعالى: [لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ] و دلالات واضحات [وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ] و هو قابل للإيمان و ليس به جحود [إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ] و هو طريق الجنّة.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 47 الى 49]

وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)

ص: 368

لمّا ذكر دلائل التوحيد أتبعه بذمّ المنافق و الّذي يعترف بلسانه و لكن لا يقبل بقلبه.

قال مقاتل نزلت هذه الآية في حقّ بشر المنافق و كان قد خاصم يهوديّا في أرض و كان اليهوديّ يجرّه إلى رسول اللّه ليحكم بينهما و جعل بشر يجرّه إلى كعب بن الأشرف و يقول: إنّ محمّدا يحيف علينا.

و قال الضحّاك: نزلت الآية في المغيرة بن وائل كان بينه و بين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أرض فتقاسما فوقع إلى عليّ من الأرض ما لا يصيبه الماء إلّا بمشقّة فقال المغيرة:

بعني أرضك فباعها إيّاه و تقابضا فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء. فقال لعليّ عليه السّلام: اقبض أرضك فإنّما اشتريتها إن رضيتها و لم أرضها فلا ينالها الماء فقال عليّ:

عليه السّلام اشتريتها و رضيتها و قبضتها و عرفت حالها لا أقبلها منك و دعاه أن يخاصمه إلى رسول اللّه فقال المغيرة: أمّا محمّد فلست آتيه و لا أحاكم إليه فإنّه يبغضني و إنّي أخاف أن يحيف عليّ فنزلت الآية.

المعنى: و يقولون بلسانهم: صدّقنا بتوحيد اللّه و بإطاعة الرسول ثمّ يعرض عن طاعتهما طائفة منهم بعد قولهم: آمنّا و ما أولئك الّذين يدّعون الإيمان ثمّ يعرضون عن حكم اللّه و رسوله بالمؤمنين.

و في الآية دلالة على أنّ الإيمان ليس بمجرّد القول إذ لو كان كذلك لما سمع النفي بعد الإثبات.

قوله: [وَ إِذا دُعُوا إِلَى] كتاب [اللَّهِ] و شريعة نبيّه [لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ] أي إذا عرفوا أنّ الحكم لهم لا عليهم عدلوا عن الإعراض بل سارعوا إلى الحكم و أذعنوا ببذل الرضا. و الحاصل أنّه ليس لهم اتّباع الحقّ و إنّما يريدون النفع المعجّل و ذلك هو النفاق.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 50 الى 52]

أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)

ص: 369

المعنى: أي هل [فِي قُلُوبِهِمْ] شكّ من نبوّتك و نفاق و هو استفهام يراد به الخبر لأنّه أشدّ في التوبيخ و أثبت للتقرير كما قال جرير:

ألستم خير من ركب المطاياو أندى العالمين بطون راح

قوله: [أَمِ ارْتابُوا] في عدلك و رأوا منك ما رابهم لأجله أمرك [أَمْ يَخافُونَ أَنْ] يجور [اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ] و يميل رسوله في الحكم و يظلمهم لأنّه لا وجه في الامتناع عن المجي ء إلّا أحد هذه الأوجه الثلاثة.

فلو قيل: إنّهم لو خافوا أن يحيف اللّه عليهم فقد ارتابوا في الدين و إذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض فالكلّ واحد فأيّ فائدة في التعديد و التقسيم؟

فالجواب أنّ قوله «أَ فِي قُلُوبِهِمْ» إشارة إلى مرض القلب و هو النفاق و قوله: «أَمِ ارْتابُوا» بيان إلى أنّه حدث هذا الشك بعد تقرير الإسلام في القلب و قوله: «أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» إشارة إلى أنّهم بلغوا من حيث الدنيا إلى حيث امتنعوا عن الدين و قبوله بسبب الدنيا فالذمّ يتعلّق بكلّ من هذه الثلاثة و كلّ واحد منها كفر.

فبيّن سبحانه بقوله: [بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] بطلان ما هم عليه لأنّ الظلم يتناول كلّ معصية و أعظمه الشرك كما قال: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (1) و بما أن نسبوا الحيف و الظلم في الحكم إلى الرسول أبطل سبحانه قولهم و نسب الظلم إليهم.

قوله تعالى: [إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا] أي المؤمن من كان إذا يدعى لحكم اللّه و الرسول يمتثل و يقول:

سمعت و أطعت و إن كان ذلك الحكم فيما يكرهه و يضرّه [وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] و روي عن الباقر عليه السّلام أنّ المعنيّ بالآية عليّ بن أبي طالب.

قوله تعالى: [وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ] فيما أمره و نهاه عنه [وَ يَخْشَ اللَّهَ] عقابه [وَ يَتَّقْهِ] و يخاف عذابه باجتناب معاصيه و بامتثال أو امره و قرئ و «يتّقه» بسكون القاف

ص: 370


1- لقمان: 13.

و كسر الهاء [فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ] بالثواب و قيل: المعنى و يخشى اللّه في ذنوبه الّتي عملها و يتّقه فيما بعد.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 53 الى 55]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)

قوله: [وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ] المعنى: لمّا بيّن اللّه في الآية السابقة كراهة المنافقين عن حكم الرسول أتوا إلى الرسول فقالوا: و اللّه لئن أمرتنا أن نخرج من ديارنا و أموالنا و نسائنا لخرجنا و إن أمرتنا بالجهاد جاهدنا و أجهدوا في اليمين فأمر اللّه نبيّه بقوله:

[قُلْ لا تُقْسِمُوا] و لو كان يمينهم على حسب الواقع و الصدق لم يجز النهي عنه لأنّ من حلف على القيام بالبرّ و الواجب لا يجوز أن ينهى عنه و من نوى الغدر لا الوفاء فقسمه لا يكون إلّا قبيحا.

قوله: [طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ] إذا كانت مرفوعة فهي خبر لمبتدء محذوف أي المطلوب طاعة معروفة لا أيمان كاذبة أو مبتدأ خبره محذوف أي طاعة معروفة أمثل من يمينكم أو التقدير: عليكم بطاعة معروفة و على النصب أي أطيعوا طاعة معروفة صحّته.

[إنّ اللّه خبير بأعمالكم] من طاعتكم بالقول و مخالفتكم بالفعل.

ثمّ أكّد أمر الطاعة فقال: [قُلْ] لهم: [أَطِيعُوا اللَّهَ] فيما أمركم به [وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ] فيما آتاكم به و احذروا مخالفته [فَإِنْ تَوَلَّوْا] أصله تتولّوا عن طاعة اللّه [فَإِنَّما عَلَيْهِ] أي على الرسول [ما حُمِّلَ] من أداء الرسالة و كلّف [وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ] من المتابعة [وَ إِنْ تُطِيعُوهُ] أي الرسول [تَهْتَدُوا] إلى الرشد و الصلاح و الجنّة.

[وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ] و بيان الشريعة و ليس عليه الاهتداء و إنّما ذلك عليكم و نفعه راجع إليكم و المبيّن البيّن الواضح و الموضح لما بكم الحاجة إليه. في

ص: 371

الكافي عن الصادق عليه السّلام في خطبة في وصف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و أدّى ما حمّل من أثقال النبوّة و عن الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا معاشر قرّاء القرآن اتّقوا اللّه عزّ و جلّ فيما حمّلكم من كتابه فإنّي مسؤول و إنّكم مسؤولون: إنّي مسؤول عن تبليغ الرسالة و أمّا أنتم فتسألون عمّا حمّلتم من كتاب اللّه و سنّتي.

قوله: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ] ليجعلنّهم خلفاء بعد نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] يعني وصاة الأنبياء [وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ] و هو الإسلام [وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ] من الأعداء [أَمْناً] منهم [يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] و لا يخافون غيري و لا يراءون بعبادتي أحدا و المثل بقوله: «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» مثل بني إسرائيل إذ أهلك اللّه الجبابرة بمصر و الشام فأورثهم أرضهم و ديارهم و أموالهم.

و عن ابيّ بن كعب قال: لمّا قدم رسول اللّه و أصحابه المدينة و آواهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة و كان الأنصار لا يبيتون إلّا مع السلاح و لا يصبحون إلّا في السلاح و قالوا: أ ترون أنّا نعيش حتّى نبيت آمنين مطمئنّين لا نخاف إلّا اللّه فنزلت هذه الآية.

و المراد بالأرض في قوله «فِي الْأَرْضِ» قيل: إنّه أراد بالأرض أرض مكّة لأنّ المهاجرين كانوا يسألون ذلك و قد فعل اللّه لهم و مكّنهم من إظهار دينه بعد أن كانوا يخافون من أذى المشركين و فعل بمن كان بعدهم من هذه الامّة و أبدلهم بالخوف أمنا و بسط لهم في الأرض و أنجز موعدته لهم.

و قيل: معنى الآية في قوله تعالى «وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ» أي بعد خوفهم في الدنيا من اللّه أمنا في الآخرة و يعضده ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال حاكيا عن اللّه سبحانه:

إنّي لا أجمع بين خوفين و لا بين أمنين إن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة.

تحقيق: و هو أنّ الآية تدلّ على أنّه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافا لهشام بن الحكم فإنّه قال: لا يعلمها قبل وقوعها و وجه الاستدلال به أنّه سبحانه أخبر عن وقوع شي ء في المستقبل إخبارا على التفصيل و قد وقع المخبر مطابقا للخبر و مثل هذا

ص: 372

لا يصحّ إلّا مع العلم.

و كذلك تدلّ الآية على أنّه حيّ قادر لأنّه قال: ليستخلفنّهم إلخ و قد فعل كلّ ذلك و لو لا القدرة لما صدر هذه الأمور.

و قالت المعتزلة: إنّ الآية تدلّ على أنّ فعل اللّه معلّل بالغرض لأنّ المعنى في الآية:

لكي يعبدونني و يريد من الكلّ العبادة لأنّ من فعل فعلا لغرض فلا بدّ و أن يكون مريدا لذلك الغرض.

و أيضا دلّت الآية على صحّة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه أخبر بالغيب و عن وقوع أمر سيقع و هو دليل صدقه و إعجازه.

فإن قيل: إنّ الآية فيها دلالة على استخلاف الأئمّة الأربعة لأنّه سبحانه قال:

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» و المراد من الحاضرين في زمان محمّد و هذا الوعد بعد الرسول لهولاء الخلفاء لأنّه لا نبيّ بعده فالمراد بالاستخلاف الإمامة.

فالجواب أنّ الآية لو كانت كما زعموها فيلزم حصول الخلافة لكلّ من آمن و عمل صالحا لأنّ ظاهر الآية يشمل العموم و غير مخصوص بهولاء الأربعة فثبت أنّ المراد غير ذلك و ليست هذه الآية حجّة على صحّة خلافتهم و إنّما صحّة خلافة عليّ عليه السّلام بآيات عديدة و نصوص من الرسول في مواضع عديدة انتهى.

و قوله: [وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ] أي و من ارتدّ و كفر هذه النعمة و جحدها من بعد ما أنعمنا عليه [فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ] ذكر الفسق بعد الكفر مع أنّ الكفر أعظم من الفسق لأنّ الفسق في كلّ شي ء هو الخروج إلى أكثره و المعنى أولئك هم الخارجون إلى أقبح وجوه الكفر.

و المرويّ عن أهل البيت عليه السّلام أنّها في المهديّ من آل محمّد عليه السّلام و روى العيّاشيّ بإسناده عن عليّ بن الحسين عليه السّلام أنّه قرأ الآية قال: هم و اللّه شيعتنا أهل البيت و اللّه يفعل اللّه ذلك بهم على يد رجل منّا و هو مهديّ هذه الامّة و هو الّذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يتولّى رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا. و روي ذلك عن أبي جعفر

ص: 373

و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

فعلى هذا يكون المراد بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات النبيّ و أهل بيته المخصوصين و تضمّنت الآية البشارة بالتمكّن و الاستخلاف لهم و ارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهديّ و يكون منهم فحينئذ المراد بقوله سبحانه: «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» هو أن جعل الصالح للخلافة خليفة لا من لا يصلح لها مثل آدم عليه السّلام و داود و سليمان و لو لم يكونوا صالحين للخلافة لما سمّاهم خليفة مثل قوله: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (1) و قوله «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ» (2) و قوله: «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» (3) و المراد بالحكمة النبوّة و على هذا إجماع العترة الطاهرة أي الأئمّة الاثنا عشر حجّة؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.

و هاهنا تحقيق آخر و هو أنّ التمكين في الأرض على الإطلاق لم يتّفق فيما مضى فهو منتظر لا محالة لأنّ اللّه لا يخلف وعده. و في الإكمال عن الصادق في قصّة نوح عليه السّلام و ذكر انتظار المؤمنين من قومه الفرج حتّى أراهم اللّه الاستخلاف و التمكين قال عليه السّلام:

و كذلك القائم عليه السّلام فإنّه يمتدّ أيّام غيبته ليصرح الحق عن محضه و يصفو الإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة إذا أحسّوا بالاستخلاف و الأمر المنتشر في عهد القائم، قال الراوي: فقلت: يا ابن رسول اللّه فإنّ هؤلاء يزعمون أنّ هذه الآية نزلت في حقّ من مضى من الخلفاء الأربعة قال: لا متى كان الّدين الّذي ارتضاه اللّه و رسوله متمكّنا بانتشار الأمن في الامّة و ذهاب الخوف عن قلوبها و ارتفاع الشكّ من صدورها في عهد واحد من هؤلاء حتّى في عهد عليّ عليه السّلام و ارتداد المسلمين و الفتن الّتي كانت تثور في أيّامه و الحروب الّتي كانت تنشب بين الكفّار و بينهم. و روى المقداد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: لا يبقى على الأرض بيت مدر و لا وبر إلّا أدخله اللّه كلمة الإسلام بعزّ عزيز أو ذلّ ذليل إمّا أن يعزّهم اللّه فيجعلهم من أهلها و إمّا أن يذلّهم فيدينون بها.

ص: 374


1- البقرة: 30.
2- ص: 26.
3- النساء: 53.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 56 الى 57]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

ثمّ أمر سبحانه بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و إطاعة أوامر رسوله لترحموا جزاء على ذلك و تثابوا بالنعم الجزيلة ثمّ قال: يا محمّد و أيّها السامع لا تحسبوا أنّ الّذين كفروا سابقين فائتين في الأرض يقال: طلبته فأعجزني أي سبقني و ما قدرت عليه أي لا تظنّ أنّ الكافر يفوتني.

و مستقرّهم [وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ] أي بئس المستقرّ و إنّما وصفها بذلك و إن كانت حكمة و صوابا من فعل اللّه لما ينال الصائر إليها من الشدائد و الآلام.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 58 الى 59]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)

المعنى: لمّا تقدّم أحكام النساء و الرجال في الآيات السابقة من السورة استثنى سبحانه أوقاتا من الدخول قبل الاستيذان فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مروا عبيدكم و إماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول في خلواتكم عن ابن عبّاس و في أخبارنا: أراد العبيد خاصّة، عن ابن عمر و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام و في الكافي عن الصادق عليه السّلام هي خاصّة للرجال دون النساء قيل: فالنساء يستأذنّ في هذه الثلاثة ساعات؟ قال: لا و لكن يدخلن و يخرجن و في رواية اخرى: هم المملوكون من الرجال و النساء و الصبيان.

و أمّا أهل الجماعة قال القاضي: قوله «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» و إن

ص: 375

كان ظاهره الرجال فالمراد به الرجال و النساء.

قال الرازيّ: ظاهر قوله: «الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» يدخل فيه البالغون و الصغار و حكي عن ابن عبّاس أنّ المراد الصغار و احتجّوا بأنّ الكبير من المماليك ليس له أن ينظر إلّا إلى ما يجوز للحرّ أن ينظر إليه. قال ابن المسيّب: لا ينبغي للمرأة أن ينظر عبدها إلى قرطها و شعرها و شي ء من محاسنها.

و قال آخرون: بل البالغ من المماليك له أن ينظر إلى شعر مالكه و ما شاكله قالوا: و ظاهر الآية يدلّ على اختصاص عبيد المؤمنين و الأطفال من الأحرار بإباحة ما حظره اللّه من قبل على جماعة المؤمنين بقوله: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ» فإنّه أباح لهم إلّا في الأوقات الثلاثة.

و بالجملة قال بعضهم: نزلت هذه الآية في أسماء بنت أبي مرثد قالت: إنّا لندخل على الرجل و المرأة و لعلّهما يكونان في لحاف واحد و قيل: دخل عليهما غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فآتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّ خدمنا و غلماننا يدخلون علينا في وقت نكرهها فنزلت الآية.

قال ابن عمرو مجاهد: قوله «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ» عنى به الذكور دون الإناث لأنّ قوله تعالى: «الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» صيغة الذكور و هذا القول مطابق لما ورد عن الصادق و الباقر عليهما السّلام و هو الصحيح.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ] أي الّذين لم يبلغوا من أحراركم و أراد الصبيّ الّذي يميّز بين العورة و غيرها فحينئذ قال الجبّائيّ: الاستيذان واجب على كلّ بالغ و كلّ حالة و على الأطفال في هذه الأوقات الثلاثة بظاهر الآية ثلاث مرّات في ثلاث أوقات من ساعات الليل و النهار.

ثمّ فسّرها سبحانه بقوله تعالى: [مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ] و ذلك أنّ الإنسان ربّما يبيت عريانا أو على حال لا يحبّ أن يراه غيره في تلك الحالة و الوقت الثاني و [حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ] يريد عند إلقائها للقائلة و الوقت الثالث [وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ] الآخرة حين يأوي الرجل إلى امرأته و يخلو بها و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: منكم

ص: 376

أي من أنفسكم قال: عليكم الاستيذان من قد بلغ في هذه الساعات الثلاثة لأنّها أوقات التجرّد عن الثياب و أوقات الخلوة و الالتحاف و طرح الثياب.

قوله: [ثَلاثُ عَوْراتٍ] المعنى هنّ أي الأوقات ثلاث عورات جمع عورة و القاعدة أنّ ما كان على فعلة من الأسماء تحريك العين في الجمع إلّا أنّ العرب كرهوا تحريك العين فيما كان عينه واوا أو ياء لما كان يلزم من الانقلاب إلى الألف و لذلك أسكنوا.

و إنّما سمّيت هذه الأوقات عورات لأنّ الإنسان في هذه الأوقات الثلاثة غالبا يضع ثيابه و جلبابه فتبدو عورته قال بعض: كان أناس من الصحابة يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الأوقات ليغتسلوا (1) ثمّ يخرجون إلى الصلاة فأمرهم اللّه أن يأمروا غلمانهم و المملوكين أن يستأذنوا في هذه الساعات المخصوصة.

قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ] أي المؤمنين الأحرار [وَ لا عَلَيْهِمْ] يعني الخدم و الغلمان [جُناحٌ بَعْدَهُنَ] أي حرج في أن لا يستأذنوا في غير هذه الأوقات الثلاثة ثمّ بيّن العلّة بقوله تعالى: [طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ] أي هم خدمكم فلا يجدون بدّا من دخولهم عليكم في غير هذه الأوقات و يتعذّر عليهم الاستيذان في كلّ وقت لأنّهم أهل الخدمة ليلا و نهارا و لا بدّ من طواف المماليك على الموالي.

[بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ] فيطوف بعضكم و هم المماليك على بعض و هم الموالي و الطوّاف الّذي يكثر الدخول و الخروج و التردّد و رفع بعضكم على الابتداء أي بعضكم طائف على بعض و إنّما حذف لأنّ طوّافون يدلّ عليه و في الكافي عن الصادق عليه السّلام و يدخل مملوككم و غلمانكم من بعد هذه الأوقات الثلاثة بغير إذن إن شاء.

قوله: [كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] أي مثل ما بيّن لكم ما تعبّدكم به أيضا يبيّن اللّه في هذه الآيات الأحكام و اللّه عليم بمصالحكم حكيم فيما يفعله.

قوله تعالى: [وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ] المعنى أنّ الأحرار [فَلْيَسْتَأْذِنُوا]ء.

ص: 377


1- و عليه فلا وجه للوقت الثالث فانه بعد صلاة العشاء.

في جميع الأوقات إذا كبروا و بلغوا حدّ الاحتلام [كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] من الأحرار الرجال الكبار الّذين أمروا بالاستيذان على كلّ حال في الدخول عليكم و حاصل المعنى أنّ البالغ يستأذن في كلّ الأحوال و الأوقات و أمّا الطفل و العبد يستأذنان في الأوقات الثلاثة قال سعيد بن المسيّب: ليستأذن الرجل على امّه فإنّما نزلت هذه الآية في ذلك [كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] مرّ تفسيره.

و حاصل الحكم أنّه أوجب على من بلغ الحلم الجري على سنّة من قبلهم من المستأذنين في سائر الأوقات و ألحقهم بمن دخل تحت قوله: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا و تسلّموا على أهلها.

قوله تعالى: [سورة النور (24): آية 60]

وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

قال ابن السكّيت: امرأة قاعد إذا قعدت عن الحيض و قال المفسّرون: القواعد هنّ اللواتي قعدن عن الحيض و الولد من الكبر و لا مطمع لهنّ في الأزواج و الأولى أن لا يعتبر قعودهنّ عن الحيض لأنّ ذلك ينقطع و الرغبة فيهنّ باقية فالمراد قعودهنّ عن حال الزوج.

[فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ] و بأس [أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ] يعني الجلباب فوق الخمار و الرداء و قيل: ما فوق الخمار من المقانع و غيرها لا أن يكشفن عورتهنّ بل أبيح لهنّ العقود بين يدي الأجانب في ثيابهنّ من ثياب الأبدان الملاصقه و لا بأس بكشف وجهها و يدها لا كلّ الثياب [غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ] أي غير قاصدات بوضع ثيابهنّ إظهار زينتهنّ و التبرّج كشف المرأة للرجل بإظهار محاسنها فإظهار الزينة في القواعد و غيرهنّ مخطور و أمّا الشابّات فإنّهنّ يمنعن من وضع الجلباب و الخمار و يؤمرن بلبس أكثف الجلابيب لئلّا تريهنّ و تصفهنّ ثيابهنّ و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: للزوج ما تحت الدرع و للابن و الأخ ما فوق الدرع و لغير ذي محرم أربعة أثواب درع و خمار و جلباب و إزار و الخمار المقنعة.

ص: 378

قوله: [وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ] أي و استعفاف القواعد و هو أن يطلبن العفّة بلبس الجلابيب [خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ] لأقوالكم [عَلِيمٌ] بنيّاتكم.

قوله: [سورة النور (24): آية 61]

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

الحرج الضيق مشتقّ من الحرجة و هي الشجر الملتفّ بعضه ببعض لضيق المسالك لمّا تقدّم ذكر الاستيذان عقّبه سبحانه بذكر دفع الحرج عن المؤمنين في الانبساط بالأكل و الشرب فقال:

[لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ] و اختلف في تأويله على وجوه:

أحدها أنّ المعنى ليس عليكم في مؤاكلتهم حرج لأنّهم كانوا يتحرّجون من ذلك و يقولون: إنّ الأعمى لا يرى فنأكل حينئذ الطعام دونه عن ابن عبّاس و هو مكفوف البصر و الأعرج لا يتمكّن من الجلوس و المريض يضعف عن الأكل فعلى هذا «على» في الآية بمعنى «في».

و ثانيها أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم في منازلهم و كانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم و يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا ممّا في بيوتنا فكان أولئك يتحرجون من ذلك و يقولون: لا ندخلها و هم غيّب فنفى اللّه الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيت أقاربهم أو من بيت من تدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو و عن سعيد بن المسيّب و الزهريّ.

و ثالثها أن المعنى ليس على الأعمى و الأعرج و المريض ضيق و لا إثم في ترك الجهاد و التخلّف عنه و يكون قوله و لا على أنفسكم كلاما مستأنفا فأوّل الكلام في الجهاد و آخره في رخصة الأكل عن ابن زيد و الحسن و الجبّائيّ.

ص: 379

و رابعها أنّ العميان و العرجان و المرضى تركوا مؤاكلة الأصحّاء أمّا الأعمى كان يقول: إنّي لا أرى شيئا فربّما آخذ الأجود و أترك الأردء و أمّا الأعرج و المريض فخافا أن يفسدا الطعام على الأصحّاء لأجل أنّ الأصحّاء يتكرّهون منهم فلذلك تركوا المؤاكلة مع الأصحّاء فنفى اللّه الحرج عنهم و رخّصهم.

و خامسها أنّ الزمنى و العميان و المرضى رخّص اللّه لهم في الأكل من بيوت سمّاهم في الآية و ذلك أنّ قوما من أصحاب رسول اللّه كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم و امّهاتهم و قراباتهم فكان أهل الزمانة يتحرّجون من أكل ذلك الطعام لأنّه كان يطعمهم غير مالكه و كان المؤمنون يذهبون بالعميان و الضعفاء إلى بيوت أزواجهم و أولادهم و قراباتهم و أصدقائهم فيطعمونهم منها فلمّا نزل قوله تعالى: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (1) فعند ذلك امتنع الناس و امتنعوا أن يأكلوا من طعام أحد فنزلت الآية قال بعض المفسّرين: مثل قتادة كانت الأنصار في أنفسها قذارة و كانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا و يتحرّجون من أكله فأنزل اللّه هذه الرخصة.

قوله تعالى: [وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ] قيل: يعني من البيوت الّتي فيها أزواجكم و عيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأنّ بيت الولد كبيته لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنت و مالك لأبيك» و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه و إنّ ولده من كسبه» و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: ما يحلّ للرجل من مال ولده قال: قوت بغير سرف إذا اضطرّ إليه قيل: فقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للرجل الّذي قدّم أباه: أنت و مالك لأبيك فقال: عليه السّلام إنّما جاء بأبيه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه هذا أبي و قد ظلمني ميراثي من امّي فأخبره الأب أنّه قد أنفقه عليه و على نفسه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنت و مالك لأبيك و لم يكن عند الرجل شي ء أو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحبس الأب للابن.

و بالجملة [وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ] أي و ليس عليكم حرج أن تأكلوا من بيوتكم [أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ

ص: 380


1- النساء: 29.

بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ] في الكافي عن الصادق عليه السّلام في قوله: «ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ» قال: الرجل له وكيل يقوم في ماله فيأكل بغير إذنه.

و عن أحدهما عليهما السّلام ليس عليك جناح فيما أطعمت أو أكلت ممّا ملكت مفاتحه ما لم تفسده.

و الحاصل أنّ هذه الرخصة في أكل مال القرابات و هم لا يعلمون كالرخصة لمن دخل حائطا و هو جائع أن يصيب من ثمره أو مرّ في سفره بغنم و هو عطشان أن يشرب من رسله بوسعة منه على عباده و لطفا لهم و رغبة بهم عن دناءة الأخلاق.

و قال الجبّائيّ: إنّ الآية منسوخة بقوله: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ» (1) و بقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يحلّ مال أمر مسلم إلّا بطيبة نفسه و لكنّ المرويّ عن أئمّة الهدى عليه السّلام أنّهم قالوا: لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت ذكر اللّه بغير إذنهم قدر حاجتهم من غير سرف.

و قوله تعالى: «أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ» مرّ تفسيره حيث قال: وكيل الرجل في أموره و قيل: معناه ليس حرج في الأكل من بيوت عبيدكم و مماليككم و إنّ السيّد يملك منزل عبده و المفاتح هنا الخزائن لقوله «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» (2).

قوله تعالى: [أَوْ صَدِيقِكُمْ] رفع الحرج عن الأكل في بيت صديقه بغير إذنه إذا كان عالما بأنّه يطيب نفسه بذلك لا أن يعلم كراهته و يأكل و الصديق هو الّذي صدقك عن مودّته و لفظ الصديق يقع على الواحد و الجمع قال جرير:

دعون الهوى ثمّ ارتمين قلوبنابأسهم أعداء و هنّ صديق

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لهو و اللّه الرجل يأتي بيت صديقه فيأكل طعامه بغير إذنه و روي أنّ صديقا للربيع بن خيثم دخل منزله و أكل من طعامه فلمّا عاد الربيع إلى المنزل أخبرته جاريته بذلك فقال الربيع: إن كنت صادقة فأنت حرّة. و عن ابن عبّاس:

الصديق أكثر برّا من الوالدين لأنّ أهل جهنّم لمّا استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء و الأمّهات

ص: 381


1- الأحزاب: 53.
2- الانعام: 59.

بل بالأصدقاء فقالوا: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» (1).

قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً] القميّ عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: و ذلك أنّ أهل المدينة قبل أن يسلموا كانوا يعتزلون الأعمى و الأعرج و المريض و كانوا لا يأكلون معهم و عزلوا لهم طعاما على ناحية كانوا يرون في مؤاكلتهم جناح و كان الأعمى و الأعرج و المريض يقولون: لعلّنا نؤذيهم إذا أكلنا فاعتزلوا مؤاكلتهم فلمّا قدم المدينة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سألوه عن ذلك فأنزل اللّه هذه الآية:

ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا.

و قيل: نزلت الآية في حيّ من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا و ربّما كانت معه الإبل الجفل فلا يشرب من ألبانها حتّى يجد من يشاربه فأعلم اللّه سبحانه أنّ الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه و هذا قول ابن عبّاس و قيل: كانت الأنصار إذا نزل بواحد منهم ضيف لم يأكل إلّا و ضيفه معه فرخّص اللّه لهم أن يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين أو متفرّقين.

و أشتاتا جمع شتّ و شتّى جمع شتيت و شتّان تثنية شتّ و قيل: الشتّ مصدر بمعنى التفرّق ثمّ يوصف به و يجمع.

قوله تعالى: [فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ] المعنى أنّه تعالى جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله و لا تقتلوا أنفسكم قال ابن عبّاس: فإن لم يكن أحد فعلى نفسه فليقل: السلام علينا من قبل ربّنا و إذا دخل المسجد فليقل: السلام على رسول اللّه و علينا من ربّنا و إن كان في البيت أهل الذمّة فليقل: السلام على من اتّبع الهدى.

و قوله [تَحِيَّةً] نصب على المصدر تقديره: حيّوا تحيّة [مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] أي الأمر بهذه التحيّة شرعه اللّه و من أمر اللّه قال ابن عبّاس: من قال السلام عليكم معناه اسم اللّه عليكم. قوله: [مُبارَكَةً طَيِّبَةً] أي إنّ السلام مبارك ثابت لما فيه من الأجر و الثواب فإنّهم كانوا يقولون: عم صباحا فبيّن اللّه أنّ السلام دعاء بالسلامة من آفات الدنيا و الآخرة.

ص: 382


1- الشعراء: 101.

[كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] أي كما بيّن لكم الأحكام يفصّل و يشرح لكم الأدلّة على جميع ما يأمركم به لتعقلوا معالم دينكم.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 62 الى 64]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (64)

القميّ: نزلت في قوم كانوا إذا جمعهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأمر من الأمور في بعث يبعثه أو في حرب قد حضرت يتفرّقون بغير إذنه فنها هم اللّه عن ذلك.

و حاصل المعنى أنّ اللّه لما بيّن في الآيات السابقة كيفيّة المعاشرة و المؤاكلة من المؤمنين شرح في هذه الآية حكم المعاشرة مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ليس المؤمنون على الحقيقة إلّا الّذين صدقوا بتوحيد اللّه وعد له و أقرّوا بصدق رسوله [وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ] أي إذا كانوا مع الرسول على أمر يقتضي الإجماع عليه و التعاون فيه من حضور حرب أو أمر مهمّ أو صلاة جمعة و عيد و خطبة و ما أشبه ذلك [لَمْ يَذْهَبُوا] و لم ينصرفوا عن الرسول [حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ] إلّا بعد الإذن منه في الانصراف.

قال الكلبيّ في سبب النزول: كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعرض في خطبته بالمنافقين و يعيبهم فينظر المنافقون يمينا و شمالا فإذا لم يرهم أحد انسلّوا و خرجوا و لم يصلّوا و إن أبصرهم أحد ثبتوا و صلّوا خوفا فنزلت الآية فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته حتّى يستأذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان المنافقون يخرجون من غير إذن.

قوله: [إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ] يا محمّد [أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ] و هم المصدّقون على الحقيقة دون الّذين ينصرفون بغير إذن [فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ

ص: 383

شَأْنِهِمْ] أي متى استأذنك المؤمنون لبعض مهمّاتهم و حاجاتهم [فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ] خيّر سبحانه نبيّه بين الإذن و بين أن لا يأذن و هكذا حكم من قام مقامه من الأئمّة [وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ] أي اطلب المغفرة بهم من اللّه و الستر على تمسّكهم بآداب اللّه في الاستيذان في مقابلة أن لم يذهبوا من غير إذنك [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ساتر للمؤمنين ذنوبهم رحيم بهم و منعم عليهم.

ثمّ أمر سبحانه جميع المكلّفين فقال: [لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً] اختلف في تأويله على وجوه:

أحدها أنّه علّمهم تفخيم النبيّ في المخاطبة و أعلمهم فضله فيه على سائر البريّة أي لا تقولوا عند دعائه: يا محمّد أو يا ابن عبد اللّه كما يدعو بعضكم بعضا و لكن قولوا: يا رسول اللّه يا نبيّ اللّه في خفض صوت و لين و تواضع عن ابن عبّاس و جماعة.

و ثانيها أنّه نهى عن التعرّض لدعاء رسوله عليهم فالمعنى: احذروا دعاءه عليكم إذا أسخطتموه فإنّ دعاءه يجاب بغير شكّ، و ليس كدعاء غيره عن ابن عبّاس في رواية اخرى.

و ثالثها أنّ المعنى ليس الّذي يأمركم به الرسول و يدعوكم إليه كما يدعو بعضكم بعضا لأنّ في القعود عن أمره قعود عن أمر اللّه.

و في المناقب عن الصادق عليه السّلام: قالت فاطمة عليه السّلام: لمّا نزلت هذه الآية هبت (1) رسول اللّه أن أقول له: يا أبه فكنت أقول: يا رسول اللّه فأعرض عنّي مرّة أو ثنتين أو ثلاثة ثمّ أقبل عليّ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا فاطمة إنّها لم تنزل فيك و لا في أهلك و لا في نسلك أنت منّي و أنا منك إنّما نزلت في أهل الجفاء و الغلظ من قريش أصحاب البذخ و الكبر، قولي: يا أبة فإنّها أحيا للقلب و أرضى للربّ.

[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً] و «قد» في هذه الآية للتحقيق كما أنّ ربّ يجي ء للتكثير و الفعل أتى بلفظ المضارع لأنّه حكاية عن الحال الآتية و الحال الحاضر مع أنّ القياس أن يكون الفعل ماضيا قال ابن عبّاس: اللواذ هو أن يلوذب.

ص: 384


1- من هاب يهاب.

بغيره فيهرب و ذلك أنّ المنافقين كان يثقل عليهم خطبته فيلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد استتارا من غير استيذان و قيل: كان المنافقون يتسلّلون في الجهاد رجوعا عنه فقال سبحانه:

[فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ] حذّرهم اللّه عن مخالفتهم للرسول أو عن أمر اللّه [أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ] عقوبة في الدنيا [أَوْ يُصِيبَهُمْ] في الآخرة [عَذابٌ أَلِيمٌ] و الآية صريحة على أنّ مخالفة الرسول حرام و غير جائز.

ثمّ نبّه سبحانه بقوله: [أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ] له التصرّف في جميع ذلك و ليس لأحد مخالفة أمره لأنّه لا يجوز للعبد مخالفة أمر مالكه [قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا] و «قد» هاهنا للتحقيق بمعنى ربّما و إنّما أتى بلفظ المستقبل لبيان إحاطة علمه سبحانه بما يتجدّد من أعمالهم و ما عملوا من الإيمان و النفاق [وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ] كثير العلم يجازي كلّا على عمله.

تمّت السورة بحمد اللّه هنا ينتهي الجزء السابع من الكتاب، و قد حوى سور مريم، طه، الأنبياء، الحجّ، المؤمنون و النور، و نسأل المولى أن يديم التوفيق إلى ختام الأجزاء

ص: 385

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.