مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر المجلد 4

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

كلمة الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي نزّل القرآن نورا و سراجا و قمرا و منيرا. و الصلاة و السلام على رسوله الذي انزل عليه الكتاب بيانا للناس و هدى و موعظة للمتقين، و على آله الطيبين؛ ثانى الثقلين. و لعنة الله على أعدائهم أجمعين.

و بعد فقد بذل علماء الإسلام قديما و حديثا جهدهم في تفسير علوم القرآن، و تبيين لغاته و مشكلاته؛ ففريق فسروا ألفاظه و بينوا حقائقه من مجازه. و جمع جمعوا أحكامه و بينوا حلاله و حرامه و طائفة كشفوا عن تأويلاته قناعه، و كيفما كان ما و صلوا الا الى مبلغ علمهم، و منتهى هممهم؛ و انى لهم الوصول الى حقائق التنزيل و دقائق التأويل؟

لان القرآن هو النور الذي أنزل الله على قلب حبيبه محمد صلى الله عليه و آله.

الا ان المتمسكين بولاء اهل بيت الوحى، المستضيئين بنور علمهم المأمورين بالتمسك بهم في حديث الثقلين قد اغترفوا من بحار علوم اهل بيت النبي غرفا، و غاصوا فيها و اقتنوا منها دررا؛ و ها هي «مقتنيات الدرر» قد اقتناها علم من الأعلام؛ ثمرة الشجرة الطيبة، و النخبة من السلالة الطاهرة: «الحاج المير سيد على الحائرى» تغمده الله بغفرانه، و اوتى كتابه هذا بيمينه. قد اقتنى من الدرر أغلاها، و من الغرر أسناها؛ فحقيق أن يتنافس المتنافسون في الاستفادة منها.

و قد وفق الله تعالى تلميذه المستضي ء بنور علمه المقتفى أثره الحاج ميرزا عبد الحسين المعروف بمحسنيان لبذل الجهد باحياء هذا السفر الجليل القيم.

هذا و من الله سبحانه على عبده الزاكي صاحب الهمة القعساء و ارومة الفضل الحاج محمود الكاشاني؛ فأنعم عليه و شرفه بإعطاء نفقة طبع الكتاب خدمة للدين و اتحافا للطيفة والده السعيد الحاج محمد حسين الكاشاني طيب الله رمسه. و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

و نشكر جميل مساعى الشاب الفاضل الأريب السيد كاظم الموسوي المياموى حيث بذل جل أوقاته لمقابلة أجزاء الكتاب مع نسخة الأصل، و تخريج الآيات المنثورة في ثناياه، و اسناد ما يهم من رواياته و بعض الإصلاح فيه، و نسأل الله تعالى ان يوفقنا لإتمامه بمحمد و آله.

محمد الآخوندي

ص: 2

تتمة تفسير سورة المائدة

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)*

[سورة المائدة (5): آية 27]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)

و اقرأ يا محمّد على أهل الكتاب خبر ابني آدم و هما قابيل و هابيل [بِالْحَقِ أي ملبّسة بالصدق و الحقّ. قيل: إنّ حوّاء كانت تلد في كلّ بطن ولدين ذكرا و أنثى إلّا شيثا فإنّها ولدته منفردا، فولدت أوّل بطن قابيل- و قيل: قايين- (1) و توأمته إقليما بنت آدم، و البطن الثاني هابيل و توأمته ليوذا، فلمّا أدركوا جميعا أمر اللّه أن ينكح آدم قابيل توأمة هابيل و هابيل توأمة قابيل (2) فرضي هابيل و أبى قابيل لأنّ أخته كانت أحسن منها، و قال: ما أمر اللّه بهذا و لكن هذا من رأيك. فأمرهما آدم أن يقرّبا قربانا فرضيا بذلك فغدا هابيل و كان صاحب ماشية فأخذ من خيار غنمه غنما و زبدا و لبنا، و كان قابيل صاحب زرع فأخذ من أدون زرعه و أخسّه ثمّ صعدا فوضعا القربانين على الجبل، فأتت النار فأكلت قربان هابيل و تجنّبت قربان قابيل، و كان آدم غائبا عنهما بمكّة؛ خرج إليها ليزور البيت فقال قابيل: لا عشت يا هابيل في الدنيا و قد تقبّل قربانك و لم يتقبّل قرباني و تريد أن تأخذ اختي الحسناء و آخذ أختك القبيحة! فقال له هابيل ما

ص: 3


1- لعل مراده قدس سره انه قول في المليين؛ فانه لم يقل به احد من اهل الإسلام، و انما جاء في التوراة الدائرة اليوم في الأصحاح الرابع من سفر التكوين، و هذا نصه: «و عرف آدم حواء امرأته فحبلت و ولدت قايين» إلخ.
2- تظافرت الاخبار بتشنيع هذا الأمر و انه من فعال المجوس و يقبح صدوره من نبي، راجع تفسير البرهان «ج 1: 337» في أول سورة النساء. و في رواية سليمان بن خالد: قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: انهم يزعمون ان قابيل انما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما فقال: يا سليمان تقول هذا اما تستحيي ان تروى هذا على نبي اللّه آدم؟ فقلت: جعلت فداك ففيم قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية، الحديث؛ البرهان «ج 1: 463»

حكاه اللّه، فشدخه بحجر فقتله؛ روي ذلك عن أبي جعفر عليه السّلام و غيره من المفسّرين. (1) و كان سبب قبول قربان هابيل أنّ قابيل قرّب بشرّ ماله، و هابيل بخير ماله و أضمر هابيل الرضى بحكم اللّه. و كان سبب أكل النار القربان أنّه لم يكن ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرّب به إلى اللّه فكان ينزل نار من السماء فتأكله. و عن إسماعيل ابن رافع أنّ قربان هابيل كان يرتع في الجنّة حتّى فدي به إسماعيل بن إبراهيم!.

[قالَ الّذي تقبّل قربانه و هو هابيل: و ما ذنبي؟ [إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ أي القربان [مِنَ الْمُتَّقِينَ لا من غيرهم، و التقوى من صفات القلب: قال صلى اللّه عليه و آله: التقوى هاهنا و أشار إلى القلب. و حقيقة التقوى أن يكون العاقل على خوف و وجل من تقصير نفسه فيما أتى به من الطاعات و أن يكون دائما في غاية الاحتراز من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة اللّه، و أن يكون فيه شركة لغير اللّه، و يتفكّر في معرفة خالقه و تفريط نفسه في جنب اللّه. و لا يحصل التقوى مع الهوى و طلب الجاه، و المال و الجاه ركنا الدنيا فاقطع سلسلة نمروديّة شهواتك، و كن صالحا و إبراهيم وقتك.

[سورة المائدة (5): الآيات 28 الى 30]

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)

أخبر سبحانه عن هابيل أنّه قال لأخيه حين هدّده بالقتل: [لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ أي لئن مددت إليّ يدك لأن تقتلني [ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ أي لأن أقتلك.

قال أهل التفسير: إنّ القتل على سبيل المدافعة لم يكن مباحا في ذلك الوقت و كان الصبر عليه هو المأمور به ليكون اللّه هو المتولّي للانتصاف؛ قال ابن عبّاس و جماعة: إنّه قتله غيلة [إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ أي إنّي أريد باستيلامى لك و امتناعي عن التعرّض لك أن ترجع بإثم قتلي- إن قتلتني- و إثمك الّذي كان من قبل قتلي، عن ابن عبّاس و جماعة- و ذلك الإثم هو الّذي من أجله

ص: 4


1- و روى غير هذا الوجه مما هو اولى بالقبول.

لم يتقبّل قربانك- و قيل: المعنى: بإثم قتلي و إثمك الّذي هو قتل جميع الناس، حيث سبّب القتل.

فإن قيل: كما لا يجوز للإنسان أن يريد في نفسه أن يعصي اللّه فكذلك لا يجوز أن يريد من غيره أن يعصي اللّه، فكيف قال: إنّي أريد أن تبوء بإثمي و إثمك؟. فالجواب أنّ هذا الكلام إنّما دار بينهما عند ما غلب على ظنّ هابيل أنّه يريد قتله و يقتله فوعظه و نصحه فقال له: إن كنت لا تنزجر عن قصدك فلا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلّا إذا قتلتك ابتداء بمجرّد الظنّ و هذا منّي لا يجوز و معصية، فإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذا المعصية أنا و بين أن يكون أنت فأنا أريد و أحبّ أن تحصل لك لا لي؛ و من المعلوم أنّ إرادة صدور الذنب من الغير في مثل هذه الحالة على هذا الشرط لا يكون حراما بل هو عين الطاعة و محض الإخلاص و لا شكّ أنّه يجوز للمظلوم أن يريد من اللّه عقاب ظالمه.

[فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ أي سهّلت له نفسه و شجّعته، و إذا أوردت النفس أنواع وساوسها و عداوتها صار الفعل سهلا عند الفاعل.

و في الآية دلالة على بطلان مذهب الجبريّة؛ لأنّه لو كان خالق الكلّ هو اللّه لكان ذلك التزيين و التطويع مضافا إلى اللّه لا إلى النفس و لا ينافي مع القدر.

قيل: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس و أخذ طيرا و ضرب رأسه بحجر فتعلّم قابيل ذلك منه، ثمّ أنّه وجد هابيل نائما يوما فضرب رأسه بحجر فمات.

قال صلى اللّه عليه و آله: لا يقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل- أي نصيب- من دمها و ذلك أنّه أوّل من سنّ القتل فخسر دنياه و آخرته، فأسخط والديه و بقي مذموما إلى يوم القيامة، و أمّا الآخرة فهو العقاب العظيم.

قيل: إن قابيل لمّا قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس و قال:

إنّما أكلت النار قربان هابيل لأنّه كان يخدم النار و يعبدها؛ فإن عبدت النار أيضا حصل مقصودك، فبنى بيت نار و هو أوّل من عبد النار. و قتل هابيل و هو ابن عشرين سنة، و كان قتله عند عقبة حراء أو بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.

ص: 5

روي أنّه لمّا قتله أسود جسده- و كان أبيض- فسأله آدم عن أخيه فقال:

ما كنت عليه وكيلا فقال: بل أنت قتلته و لذلك اسودّ جسدك و مكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قطّ. يروى أنّه رثّاه بشعر و هو:

تغيّرت البلاد و من عليها قال الزمخشريّ: و هو كذب بحت، و ما الشعر إلّا منحول ملحون، و الأنبياء معصومون عن الشعر؛ قال الرازيّ: و صدق صاحب الكشّاف فيما قال؛ فإنّ ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلّمين فكيف نسبت إلى من جعل اللّه علمه حجّة على الملائكة؟

[سورة المائدة (5): آية 31]

فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

لمّا قتله تركه لا يدري ما يصنع به، ثمّ خاف عليه السباع فحمله في جراب (1) على ظهره مدّة حتّى تغيّر فبعث اللّه غرابا. قيل: بعث اللّه غرابا يحثو التراب على المقتول.

و قيل: بعث اللّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الأخر، فحفر له بمنقاره و رجليه، ثمّ ألقاه في الحفرة فتعلّم قابيل ذلك من الغراب. قال أبو بحر: عادة الغراب دفن الأشياء، فجاء غراب فدفن شيئا فرآه قابيل فتعلّم ذلك منه.

[لِيُرِيَهُ اللّه أو الغراب، فكأنّه قصد تعليمه على سبيل المجاز (2) [كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قيل: المعنى جيفة أخيه أو عورة أخيه- و هو مالا يجوز أن ينكشف من جسده- و السوأة: الفضيحة لقبحها [قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي و «يا ويلتى» كلمة يستعمل العرب عند وقوع الداهية و النداء، يعني يا ويلتى تعالي و احضري فإنّه من أوقات حضورك؛ و قد لزمني الويل. و كذلك يا عجباه و معناه:

يا أيّها العجب احضر فقد حان وقتك. و الألف في ويلتى بدل عن ياء المتكلّم، و النداء و إن كان أصله للعقلاء لكنّ العرب تستعمل و تجوّز النداء لما لا يعقل إظهار للتحسّر

ص: 6


1- الجراب: وعاء من جلد.
2- فان التعليم بحسب الحقيقة بيد اللّه و ما سواه وسائط و وسائل.

مثل: «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ» (1) قوله: «أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ» تعجّب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب [فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على قتله، لما وقع في الحيرة في أمره و حمله على رقبته أربعين يوما حتّى أروح، (2) و لم ينتفع بقتله، و لمّا كان ندمه لأجل هذه الأسباب لا للخوف من اللّه بارتكاب المعصية لم تنفعه الندامة.

قال مجاهد: عقّلت إحدى رجلي قابيل إلى فخذها و ساقها، و علّقت من يومئذ إلى يوم القيامة، وجهه إلى الشمس حيثما دارت، عليه في الصيف حظيرة من نار، و في الشتاء حظيرة من ثلج. و هو أوّل من عصى اللّه من ولد آدم و أوّل من يساق إلى النار و هو أب يأجوج و مأجوج (شرّ أولاد توالدوا من شرّ والد).

و اتّخذ أولاد قابيل آلات اللّهو من اليراع و الطبول و المزامير و العيدان و الطنابير، و انهمكوا في اللّهو و عبادة النار و الخمر و الزناء و الفواحش حتّى غرقهم اللّه بالطوفان أيّام نوح و بقي نسل شيث.

قال أهل التاريخ: لمّا ذهب قابيل إلى سمت اليمن كثروا و خلفوا و طفقوا يتحاربون مع أولاد آدم، يسكنون الجبال و المغارات و الغياض (3) إلى زمن مهلائيل بن قينان ابن أنوش بن شيث ففرّقهم مهلائيل إلى أقطار الأرض، و سكن هو في أرض بابل، و كان كيومرث أخاه الصغير (4) و هو أوّل السلاطين في العالم فأخذوا يبنون المدن و الحصون و استمرّ الحرب بينهم إلى آخر الزمان.

[سورة المائدة (5): آية 32]

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

ثمّ بيّن سبحانه التكليف في باب القتل فقال: [مِنْ أَجْلِ ذلِكَ الفساد الّذي

ص: 7


1- يس: 29.
2- اى أنتن و صار ذا ريح. و هذا غريب.
3- جمع الغيضة: الاجمة، و مجتمع الشجر.
4- لم يعهد فيما بأيدينا من كتب التاريخ ظهور سلطان في العالم قبل الطوفان و مهلائيل من أجداد نوح، بل ينسبون كيومرث الى سام بن نوح.

وقع في أحد ابني آدم. و روي عن نافع أنّه كان يقف على قوله: من أجل ذلك و يجعله من تمام الكلام الأوّل لكن عامّة المفسّرين قالوا: إنّ قوله: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ» ابتداء كلام و ليس بمتّصل بما قبله.

[كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي حكمنا عليهم و فرضنا [أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً] ظلما [بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قود، فإنّ القتل قد يكون بحقّ كالقود [أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي من قتل منهم نفسا بغير فساد كان منها في الأرض فاستحقّت بذلك قتلها. و فسادها في الأرض مثل إخافة السبيل أو بالحرب للّه و لرسوله مثل قوله: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» الآية (1) [فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] و في تأويله أقوال:

أحدها أنّ معناه هو أنّ الناس كلّهم خصماؤه في قتل ذلك الإنسان فكأنّه قد وترهم (2) و من استنقذها من غرق أو حرق أو هدم أو ما يميت أو استنقذها من ضلالة فكأنّما أحيا الناس جميعا، أي أجره على اللّه أجر من أحياهم جميعا. و هذا المعنى مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام ثمّ قال: و أفضل ذلك أن يخرجها من ضلال إلى هدى. (3) و ثانيها أنّ من قتل نبيّا أو إمام عدل فكأنّما قتل الناس جميعا أي يعذّب عليه كما لو قتل الناس كلّهم، و من شدّ على عضد نبيّ أو إمام عدل فكأنّما أحيا الناس جميعا في استحقاق الثواب، عن ابن عبّاس.

و ثالثها أنّ معناه من قتل نفسا بغير حقّ فعليه مآثم كلّ قاتل من الناس؛ لأنّه سنّ القتل و سهّله لغيره فكان بمنزلة المشارك كما وقع لقابيل. و من زجر عن قتلها بما فيه حياته على وجه يقتدى به فيه، و يعظّم تحريم قتلها كما حرّمه اللّه فلم يقدم على قتلها لذلك فقد أحيا الناس بسلامتهم من القتل فذلك إحياؤها. و يؤيّده قوله صلى اللّه عليه و آله: من سنّ سنّة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و من سنّ سنّة سيّئة فله وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

ص: 8


1- الآية التالية.
2- وتره: افزعه، اصابه بظلم او مكروه.
3- و الروايات في هذا المعنى مستفيضة أوردها في البرهان «ج 1: 463- 465» و في أكثرها ان الإخراج من الضلالة الى الهداية هو التأويل الأعظم.

و قيل: إنّ معناه: يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الّذي يجب عليه لو قتل الناس جميعا و من عفى عن دمها و قد وجب القود عليها كان كمن عفى عن الناس جميعا و اللّه سبحانه هو المحيي لا يقدر على خلق الحياة غيره و إنّما قال: «أحياها» على سبيل المجاز.

فإن قيل: إنّ وجوب القصاص حكم ثابت في جميع الأمم فما فائدة تخصيصه بني إسرائيل؟ فالجواب أنّ قوله: من أجل ذلك ليس إشارة إلى قصّة هابيل و قابيل بل هو إشارة إلى ما مرّ من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام الّذي أصبح من الخاسرين و أصبح من النادمين و قدّ سنّ هذه السنّة الملعونة، و وجوب القصاص في حقّ القاتل و إن كان عامّا في جميع الأديان، و لمّا كان اليهود مع علمهم بهذا النهي الصريح الّذي كتبنا عليهم أقدموا على قتل الأنبياء و الرسل و المقصود بيان قساوتهم، و نهاية بعدهم عن طاعة اللّه، و لمّا كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول في عزم اليهود على الفتك برسول اللّه فتخصيص بني إسرائيل في هذه القصّة مناسب للكلام.

فإن قيل: إنّ قتل النفس الواحدة كيف يكون مساويا لقتل جميع الناس؟ فإنّ من الممتنع أن يكون الجزء مساويا للكلّ؛ فالجواب أنّ تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كلّ الوجوه؛ لأنّ قولك: هذا يشبه ذلك أعمّ من أن يشبهه من كلّ الوجوه أو من بعض الوجوه؛ فالمقصود من الآية مشاركتهما في الاستعظام لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام، و المقصود أنّه كما أنّ قتل كلّ الخلق أمر مستعظم عند كلّ أحد فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظما مهيبا محترزا عنه.

[وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي و لقد أتت بني إسرائيل الّذين ذكرنا أخبارهم رسلنا بالبيّنات الواضحة و المعجزات الدالّة على صحّة نبوّتهم [ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ من بني إسرائيل [بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ و مجاوزون الحدّ قال: أبو جعفر عليه السلام:

المسرفون هم الّذين يستحلّون المحارم و يسفكون الدّماء. (1)

ص: 9


1- رواه الطبرسي مرسلا و عنه في البرهان «ج 1: 465».

[سورة المائدة (5): الآيات 33 الى 34]

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

اختلف في سبب النزول؛ فقيل: نزلت في قوم كان بينهم و بين النبيّ صلى اللّه عليه و آله موادعة فنقضوا العهد و أفسدوا في الأرض؛ عن ابن عبّاس. و قيل: نزلت في قوم من عرينة لمّا نزلوا المدينة مظهرين الإسلام و استوخموها (1) و اصفرّت ألوانهم، فأمرهم النبيّ أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها و أبو الها (2) ففعلوا ذلك فصحّوا ثمّ مالوا إلى الرعاة فقتلوهم و استاقوا الإبل و ارتدّوا عن الإسلام. فأخذهم النبيّ و قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و سمل أعينهم (3) عن سعيد بن جبير و قتادة و السدّيّ. و قيل:

نزلت في قطّاع الطريق، عن أكثر المفسّرين؛ قال الطبرسيّ: و عليه جلّ الفقهاء.

المعنى: لمّا ذكر سبحانه في الآية الأولى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس و لا فساد في الأرض بيّن أنّ الفساد في الأرض الّذي يوجب القتل ما هو؛ فإنّ بعض أقسام الفساد في الأرض لا يوجب القتل فقال: [إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي يحاربون أولياء اللّه [وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً] المرويّ عن أهل البيت أنّ المحارب هو كلّ من شهر السلاح و أخاف الطريق سواء كان في المصر أو خارج المصر. (4) و قيل:

إنّ المحارب هو قاطع الطريق في غير المصر، عن عطاء الخراسانيّ.

ص: 10


1- اى لم يوافق هواؤها بدنهم.
2- شربوا البول للتداوى فإنهم كانوا مرضى على ما في رواية الكلينى باسناده عن صالح عن ابى عبد اللّه عليه السلام، فروع الكافي «ج 1: 306».
3- ليس في روايات الخاصة من سمل العين اثر و انما ورد في روايات الجمهور.
4- في رواية العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام و رواية الكلينى عن محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد، عن ابى أيوب، عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام قال: من شهر السلاح في مصر من الأمصار فعقر اقتص منه و نفى من تلك البلدة، و من شهر السلاح في غير الأمصار ضرب و عقر و أخذ المال و لم يقتل فهو محارب، البرهان «ج 1: 467»، و فروع الكافي «ج 1: 307».

قال الرازيّ: و من الناس من قال: إنّ هذا الوعيد مختصّ بالكفّار و المرتدّين عن الإسلام حسبما شرح في نزول الآية. و منهم من قال: إنّ هذا الحكم في قطّاع الطريق من المسلمين، قالوا: و الّذي يدلّ على أنّه لا يجوز حمل الآية على المرتدّين أنّ قطع المرتدّ لا يتوقّف على المحاربة و لا على إظهار الفساد في دار الإسلام، و الآية تقتضي ذلك، و إنّما على المرتدّ القتل دون القطع و لا عليه النفي و الآية تقتضي ذلك.

و أيضا الآية تقتضي سقوط الحدّ بالتوبة قبل القدرة و هو قوله: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» و المرتدّ يسقط حدّه بالتوبة قبل القدرة و بعدها و الصلب غير مشروع في حقّ المرتدّ و هو مشروع هاهنا، فوجب أن لا تكون الآية مختصّة بالمرتدّ فقوله: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» يتناول كلّ من كان موصوفا بهذه الصفة سواء كان كافرا أو مرتدّا أو مسلما.

و أقصى ما في الباب أن يقال: إنّ الآية نزلت في المرتدّين لكنّك تعلم أنّ العبرة بعموم اللّفظ دون خصوص السبب.

فإن قيل: إنّ المحاربة مع اللّه غير ممكنة و مع الرسل ممكنة؛ فلفظ المحاربة إذا نسبت إلى اللّه كان مجازا؛ لأنّ المراد منه محاربة أوليائه، و إذا نسبت إلى الرسول كانت حقيقة؛ فلفظ يحاربون في الآية يلزم أن يكون محمولا على المجاز و الحقيقة معا و ذلك ممتنع! فالجواب أنّ المراد من المحاربة مخالفة الشرع و التكليف.

فمعنى الآية: إنّما يكون جزاء من يخالف أحكام اللّه و أحكام رسوله و يسعون في الأرض فسادا كذا و كذا [أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ و في «أو» في الآية قولان:

الأوّل: الإباحة و التخيير أي إن شاء الإمام قتل و إن شاء صلب و إن شاء نفى. و القول الثاني أنّها ليست للتخيير بل للترتيب و بيان أنّ الأحكام تختلف باختلاف الجنايات؛ فمن اقتصر على القتل قتل، و من قتل و أخذ المال قتل و صلب، و من اقتصر على أخذ المال قطع يده و رجله من خلاف، و من أخاف السبل و لم يأخذ المال نفي من الأرض. و هذا قول الأكثرين و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. (1)

ص: 11


1- الروايات واردة على طبق كلا القولين فمما يدل على الاول رواية العياشي و الشيخ عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال: من شهر السلاح ... و امره الى الامام ان شاء قتله و صلبه و ان شاء قطع يده و رجله، الاستبصار «ج 4: 257» و مما يدل على الثاني ما رواه الشيخ مسندا عن عبيد اللّه المدائني عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال: ... فعقده بيده ثم قال: يا عبد اللّه خذها أربعا بأربع، الاستبصار «ج 4: 256».

فصار التقدير: أن يقتّلوا إن قتلوا، أو يصلّبوا ثمّ يقتّلوا إن جمعوا القتل و أخذ المال، أو تقطّع [أَيْدِيهِمْ اليمنى من الرسغ (1) [وَ أَرْجُلُهُمْ اليسرى من الكعب إن اقتصروا على أخذ مال من مسلم أمّا أيديهم فلأخذ المال و أمّا قطع أرجلهم فلإخافة الطريق [أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن لم يفعلوا غير الإخافة. و المراد من النفي فيه أقوال:

قال الطبرسيّ: و الّذي يذهب إليه أصحابنا الإماميّة أن ينفى من بلد (2) حتّى يتوب و يرجع. و قال أهل الجماعة: المراد بالنفي الحبس فإنّه نفي عن وجه الأرض، قالوا:

المسجونون بمنزلة المخرجون من الدنيا و ممنوعون من التصرّف؛ قال الشاعر:

خرجنا من الدنيا و نحن من أهلهافلسنا من الأحياء فيها و لا الموتى

إذا جاءنا السجّان يوما لحاجةعجبنا و قلنا جاء هذا من الدنيا!

و اختلفوا أيضا في كيفيّة الصلب فقيل: يصلب حيّا ثمّ يزج بطنه برمح أو غيره حتّى يموت: و قال الشافعيّ يقتل و يصلّى عليه ثمّ يصلب [ذلِكَ أي إجراء هذه الأمور [لَهُمْ خِزْيٌ و فضيحة و هوان [فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره لغاية عظم جنايتهم. فقوله: لهم خبر مقدّم، و عذاب مبتدأ مؤخّر. و في الآخرة متعلّق بمحذوف وقع حالا من عذاب لأنّه في الأصل صفة له فلمّا قدّم انتصب حالا أي كائنا في الآخرة.

[إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثناء مخصوص بما هو من حقوق اللّه كما ينبئ عنه قوله: [فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأمّا ما هو من حقوق الآدميّين فإنّه لا يسقط بهذه التوبة؛ فإنّ قطّاع الطريق إن قتلوا إنسانا ثمّ تابوا قبل القدرة عليهم يسقط بهذه التوبة وجوب قتلهم جدّا لكن ولي الدم على حقّه من القصاص و العفو، و إن أخذوا مالا ثمّ تابوا قبل القدرة عليهم يسقط بالتوبة وجوب قطع أيديهم

ص: 12


1- الرسغ: مفصل ما بين الساعد و الكف.
2- و هو المروي عن جميل بن دراج عن ابى عبد اللّه عليه السلام، فروع الكافي «ج 1: 307»

و أرجلهم من خلاف و كان صاحب المال باقيا في ماله وجب عليهم ردّه، و أمّا إذا تاب بعد القدرة فظاهر الآية أنّ التوبة لا تنفعه و يقام الحدود عليه.

قال الطبرسيّ: و في هذه الآية حجّة على من قال: لا يصحّ التوبة عن معصية مع الإقامه على معصية اخرى يعلم صاحبها أنّها معصية؛ لأنّه علّق بالتوبة حكما لا يحلّ به الإقامة على معصية. قال الشافعيّ: و يحتمل أن يسقط كلّ حدّ للّه بالتوبة؛ لأنّ ما عزا (1) لمّا رجم أظهر توبته فلمّا تمّموا رجمه ذكروا ذلك لرسول اللّه فقال: هلّا تركتموه؟

- أو لفظ هذا معناه- و ذلك يدلّ على أنّ التوبة يسقط عن المكلّف كلّ ما يتعلّق بحكم اللّه.

[سورة المائدة (5): آية 35]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)

لمّا تقدّم ذكر القتل و أحكام المحاربين شرح بالموعظة و الأمر بالتقوى أي اتّقوا معاصيه و اجتنبوها [وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ] أي اطلبوا إليه القربة بالطاعات.

و قيل: الوسيلة أفضل درجات الجنّة، عن عطاء. و روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: سلوا اللّه لي الوسيلة فإنّها درجة في الجنة لا ينالها إلّا عبد واحد و أرجو أن أكون أنا هو (2).

و روى سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن عليّ عليه السلام قال: في الجنّة لؤلؤتان إلى بطنان العرش أحدهما بيضاء و الآخر صفراء في كلّ واحدة منها سبعون ألف غرفة فالبيضاء: الوسيلة لمحمّد و أهل بيته و الصفراء لإبراهيم و أهل بيته عليهم السلام.

و في الحديث: من قال حين بسمع الدعوة و الأذان: اللّهم ربّ هذه الدعوة التامّة و الصلاة القائمة آت سيّدنا محمّدا الوسيلة و الفضيلة و ابعثه المقام المحمود الّذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة [وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي في طريق دينه مع أعدائه [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تظفروا بنعيم الأبد. و قيل: «لعلّ و عسى» من اللّه محقّق الوقوع، فكأنّه سبحانه قال: اعملوا و جاهدوا في الدين لتفلحوا و الجهاد في سبيل اللّه له مراتب قد يكون

ص: 13


1- هو ما عز بن مالك الأسلمي معدود في المدنيين كتب له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كتابا بإسلام قومه، و هو الذي اعترف على نفسه بالزناء تائبا و كان محصنا فرجمه رسول اللّه، و قيل ان اسمه: غريب و ما عز لقبه. ترجمه في الإصابة «ج 3: 317» و الاستيعاب «ج 3: ص 418»
2- رواه مرسلا في المجمع و عنه في البرهان «ج 1: 420» و كذا الرواية التي بعدها.

باليد و اللّسان و القلب و بالسيف و القول و الكتاب و كلّها من درجات الجهاد.

و اعلم أنّ مجامع التكليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما أحدهما ترك المنهيّات و إليه الإشارة بقوله: «اتَّقُوا اللَّهَ» و ثانيهما فعل المأمورات و إليه الإشارة بقوله تعالى: «وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» و لمّا كان ترك المنهيّات مقدّما على فعل المأمورات بالذات لا جرم قدّمه في الذكر؛ لأنّ الترك عبارة عن بقاء الشي ء على عدمه الأصليّ.

و الفعل هو الإيقاع و التحصيل و لا شكّ أنّ عدم جميع المحدثات سابق على وجودها فكان الترك قبل الفعل لا محالة.

فإن قيل: لم جعلت الوسيلة مخصوصة بالفعل مع أنّا نعلم أنّ ترك المعاصي قد يتوسّل به إلى اللّه؛ لأنّ الترك كما قيل: إبقاء الشي ء على عدمه الأصليّ و ذلك العدم المستمرّ لا يمكن التوسّل به إلى شي ء بل إنّما يحصل التوسّل إذا دعا داعي الشهوة إلى فعل قبيح فتركه لطلب رضاء اللّه فيحصل التوسّل بذلك الامتناع و ذلك الامتناع من باب الأفعال؛ فإنّ ترك الشي ء عبارة عن فعل ضدّه فالفعل هو الاستغراق في الطاعة و الترك هو الإعراض عن نهيه فإعراض المنهيّ عنه هو فعل أيضا، و أهل الرياضة يسمّون الفعل و الترك بالتحلية و التخلية، و بالمحو و الصحو، و بالنفي و الإثبات، و بالفناء و البقاء، و لذلك قدّم النفي على الإثبات في قولنا: لا إله إلّا اللّه.

[سورة المائدة (5): الآيات 36 الى 37]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)

قوله تعالى:

الجملة المذكورة مع كلمة «لو» خبر إنّ. فإن قيل: لم وحّد الضمير في «به» مع أنّ المذكور السابق بيان ما في الأرض جميعا و مثله؟ فالمعنى: ليفتدوا بذلك المذكور، أي أنّ الكفّار لا سبيل لهم إلى الخلاص منه.

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: يقال للكافر يوم القيامة: لو كان لك مل ء الأرض ذهبا أ كنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت [يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ] و يتمنّون الخروج منها. قالوا: الإرادة هنا بمعنى التمنّى و قيل: معناه الارادة

ص: 14

على الحقيقة؛ لأنّ النار إذا رفعتهم بلهبها رجوا أن يخرجوا منها كقوله: «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها» (1) و قيل: معنى يريدون: يكادون أن يخرجوا منها و يقاربون الخروج إذا رفعتهم النار بلهبها. فإن قيل: كيف يجوز أن يريدوا الخروج مع علمهم بأنّهم لا يخرجون منها؟ فالجواب أنّ العلم بأنّ الشي ء لا يكون لا يصرف عن إرادته، و إنّما الداعي إلى الإرادة الحاجة إليها [وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها] يعني من جهنّم [وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم ثابت لا يزول و لا يحول؛ في الحديث: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيغمس فيها مرّة ثمّ يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قطّ؟ هل مرّ بك نعيم قطّ؟ فيقول: لا و اللّه يا ربّ و يؤتى بأشدّ الناس بؤسا من أهل الجنّة فيصبغ صبغة من الجنّة فيقال له: هل رأيت بؤسا قطّ؟ فيقول: لا و اللّه ما مرّ بي بؤس قطّ.

قال الرازيّ: و احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّه يخرج من النار من قال:

لا إله إلّا اللّه على سبيل الإخلاص، قالوا: لأنّه تعالى جعل هذا المعنى من تهديدات الكفّار و لو لا أنّ هذا المعنى مختصّ بالكفّار لم يكن لتخصيص الكفّار به معنى، و مؤيّد هذا الّذي قلناه قوله: «وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» و هذا يفيد الحصر فكان المعنى: و لهم عذاب مقيم لا لغيرهم كقوله: «لَكُمْ دِينَكُمْ»* (2) أي لكم لا لغيركم.

أقول: لعلّ ما قاله الرازيّ صحيح لكن بشروطها و هي الولاية.

[سورة المائدة (5): الآيات 38 الى 40]

وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (40)

لمّا أوجب سبحانه في الآية السابقة قطع الأيدي و الأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة بيّن في هذه الآية أنّ قطع الأيدي عند السرقة أيضا يوجب.

و اختلف النحويّون في رفع السارق و نصبها؛ قال الزجّاج و الأخفش: هو مبتدأ محذوف الخبر أي حكم السارق و السارقة ثابت فيما يتلى عليكم [فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما]

ص: 15


1- الحج: 22.
2- الكافرون: 6.

بيان لذلك الحكم المتقدّم، فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها و إنّما قدّر الخبر لأنّ الأمر إنشاء لا يقع خبرا إلّا بإضمار و تأويل و المراد بأيديهما أيمانهما و وضع الجمع موضع المثنّى بتثنية المضاف إليه كما في قوله تعالى: «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» (1) و قرأ عيسى بن عمرو السارق و السارقة بالنصب و هو اختيار سيبويه قال: هو مثل قول القائل: زيدا فاضربه، لكنّ الفرّاء عنده الرفع أولى من النصب قال: إنّ الألف و اللّام في قوله:

«وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ» يقومان مقام «الّذي» فيكون المعنى: الّذي سرق فاقطعوا أيديه و على هذا البيان حسن إدخال الفاء على الخبر لأنّه صار جزاء.

و بالجملة فالألف و اللّام في السارق للجنس أي كلّ من سرق رجلا كان أو امرأة و بدأ بالسارق هنا لأنّ الغالب وجود السرقة في الرجال كما بدأ في آية الزناء بالنساء فقال: «الزَّانِيَةُ»* (2) لأنّ الغالب وجود ذلك في النساء. فاقطعوا أيديهما أي أيمانهما عن ابن عبّاس و الحسن و السدّيّ و عامّة التابعين؛ قال الطبرسيّ: قال أبو عليّ في تخطّي المسلمين إلى قطع الرجل اليسرى بعد قطع اليد اليمنى و تركهم قطع اليد اليسرى دلالة على أنّ اليد اليسرى لم يرد بقوله: فاقطعوا أيديهما ألا ترى أنّها لو اريدت بذلك لم يكونوا ليدعوا نصّ القرآن إلى غيره؟ و قال العلماء: إنّ هذه الآية مجملة في كيفيّة إيجاب القطع على السارق و السارقة، و بيان ذلك مأخوذ من السنّة.

قال الطبرسيّ: و اختلف في القدر الّذي يقطع به يد السّارق فقال أصحابنا:

يقطع في ربع دينار فصاعدا (3) و هو مذهب الشّافعيّ و الأوزاعيّ و أبي الثور و رووا عن عائشة عن النبيّ أنّه قال: لا يقطع يد السارق إلّا في ربع دينار فصاعدا. و ذهب أبو حنيفة و أصحابه أنّه يقطع في عشر دراهم فصاعدا و احتجّوا بما روي عن عطاء عن ابن عبّاس: إنّ أدنى ما يقطع فيه ثمن المجنّ (4) قال: و كان ثمن المجنّ في عهد رسول اللّه

ص: 16


1- التحريم: 4.
2- النور: 2.
3- و هو المروي، ففي رواية الشيخ عن احمد بن محمد، عن ابن محبوب عن ابى أيوب، عن محمد بن سالم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام في كم تقطع يد السارق؟ فقال: في ربع دينار. قال: قلت له: في درهمين! قال: في ربع دينار ما بلغ الدينار ما بلغ إلخ، الاستبصار «ج 4: 238»
4- المجن و الجنة: الترس

عشرة دراهم. و ذهب مالك إلى أنّه يقطع في ثلاثة دراهم فصاعدا و روى عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه قطع سارقا بثمن مجنّ في ثلاثة دراهم (1) و قال: بعضهم لا يقطع الخمس إلّا في خمس دراهم و اختاره أبو عليّ الجبائيّ و قال: إنّه بمنزلة من منع خمس دراهم من الزكاة و قيل: يقطع يد السارق في القليل و الكثير؛ و إليه ذهب الخوارج و احتجّوا بعموم الآية و بما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: لعن اللّه السارق يسرق البيضة فيقطع يده و يسرق الحبل يقطع يده. و هذا الخبر قد طعن أصحاب الحديث في سنده إلّا أن يكون المراد من البيضة الحديد و هي المغفر و الحبل من حبال السفينة.

و اختلف أيضا في كيفيّة القطع فقال: أكثر الفقهاء: إنّه إنّما يقطع من الرسغ و هو مفصل بين الكفّ و الساعد. ثمّ إنّ عند الشافعيّ يقطع يده اليمنى في المرّة الأولى، و رجله اليسرى في المرّة الثانية، و يده اليسرى في المرّة الثالثة و رجله اليمنى في المرّة الرابعة و يحبس في المرّة الخامسة و عند أبي حنيفة لا تقطع في الثالثة و عند أصحابنا أنّه تقطع من اصول الأصابع و يترك له الإبهام و الكفّ و في المرّة الثانية تقطع رجله اليسرى من أصل الساق و يترك عقبه يعتمد عليه في الصلاة فإن سرق بعد ذلك خلّد في السجن و هو المشهور عن عليّ عليه السّلام و أجمعت الإماميّة عليه و قد استدلّ على ذلك بقوله تعالى:

«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ» (2) و لا شكّ في أنّهم يكتبونه بالأصابع (3).

و لا خلاف أنّ السارق إنّما يجب عليه الحدّ إذا سرق من حرز إلّا ما روي عن داود أنّه قال: يقطع السارق و إن سرق من غير حرز. و حدّه عندنا كلّ موضع لم

ص: 17


1- و على هذا فيكون الاختلاف بين ابى حنيفة و مالك لفظيا يرجع الى الاختلاف في ثمن المجن في زمن رسول اللّه.
2- البقرة: 79.
3- و من الطف ما استدل له ما افاده الامام الجواد في مجلس المعتصم حيث سأل الفقهاء عن موضع قطع يد السارق فقال بعضهم: يقطع من الكرسوع- اى الزند- و بعضهم: من المرفق و و استدلا بآيتي التيمم و الوضوء فاستدعى رأى الامام فاعتذر فلم يقبل و أنشده أن يجيب فقال عليه السلام: انهم أخطئوا السنة، و القطع يجب من مفصل اصول الأصابع لقول رسول الله: السجود على سبعة أعضاء- فعدها و منها اليدين- و قوله تعالى: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ» و ما كان للّه فلا يقطع، الحديث بطوله؛ البرهان «ج 1: 471».

يكن لغير مالكه الدخول إليه و التصرّف فيه إلّا بإذنه.

[جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا] أي افعلوا ذلك بهما مجازاة بكسبهما و فعلهما، عقوبة من اللّه [فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي أقلع و ندم على ما كان منه من فعل الظلم بالسرقة [وَ أَصْلَحَ أي و فعل الفعل الصلاح [فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أي يقبل توبته بإسقاط العقاب بها عن المعصية الّتي تاب منها. و في الآية ترغيب للعاصي في فعل التوبة [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و إنّ في قبول التوبة تفضّلا من اللّه تعالى لعبيده [أَ لَمْ تَعْلَمْ خطاب للنبيّ و المراد امّته و قيل: هو و المكلّفين. و اتّصال هذا الخطاب بما قبله اتّصال الحجاج و البيان عن صحّة ما تقدّم من الوعد و الوعيد و الأحكام، و المعنى: ألم تعلم يا إنسان [أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي له التصرّف فيها بلا مانع و لا منازع [يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ] إذا كان مستحقّا للعقاب [وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ] يعذّب إذا عصاه و لم يتب؛ لأنّه إذا تاب فقد وعده بأنّه لا يؤاخذه بذلك بعد التوبة [وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] لا يمتنع عليه أمر إذا أراد.

[سورة المائدة (5): آية 41]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)

لمّا بيّن سبحانه بعض التكاليف و الشرائع و كان قد علم من بعض الناس كونهم مسارعين إلى الكفر صبّر رسوله على تحمّل ذلك و أمره بأن لا يحزن و يتصبّر. و خاطب محمّدا صلى اللّه عليه و آله: يا أيّها النبيّ في مواضع كثيرة و ما خاطبه بقوله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ» إلّا في موضعين في قرآن أحدهما هاهنا و الثاني بقوله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» (1) و لا شكّ أنّه خطاب تشريف و تعظيم.

ص: 18


1- المائدة: 71.

النزول: قال الباقر عليه السّلام و جماعة من المفسّرين: إنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت برجل من أشرافهم و هما محصنان فكرهوا رجمهما فأرسلوا إلى يهود المدينة و كتبوا إليهم أن يسألوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله عن ذلك طمعا أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم: كعب بن الأشرف و كعب بن أسيد و سعيد بن عمرو و مالك بن الصيف و كنانة بن أبي الحقيق و جماعة قالوا: يا محمّد أخبرنا عن الزاني و الزانية إذا احصنا ما حدّهما؟

فقال: و هل ترضون بقضاي في ذلك؟ قالوا: نعم فنزل جبرئيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به، فقال جبرئيل: اجعل بينك و بينهم ابن صوريا و وصفه له، فقال النبيّ: صلى اللّه عليه و آله هل تعرفون شابّا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا:

نعم؛ قال: فأيّ رجل هو فيكم؟ قالوا: أعلم يهوديّ على ظهر الأرض بما أنزل اللّه على موسى؛ قال: فأرسلوا إليه ففعلوا، فأتاهم ابن صوريا فقال: له النبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّي أنشدك اللّه الّذي لا إله إلّا هو الّذي أنزل التوراة على موسى و فلق لكم البحر و أنجاكم و أغرق آل فرعون و ظلّل عليكم الغمام و أنزل عليكم المنّ و السلوى هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟ قال ابن صوريا: نعم و الّذي ذكرتني به و لو لا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك، و لكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال صلى اللّه عليه و آله: إذا شهد أربعة عدول أنّه قد أدخله فيها كالميل في المكحلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا: هكذا أنزل اللّه في التوراة على موسى.

فقال له النبيّ: فماذا كان أوّل ما ترخّصتم به أمر اللّه؟ قال ابن صوريا: كنّا إذا زنى الشريف تركناه، و إذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ فكثر الزنى في أشرافنا حتّى زنى ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه حتّى زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال له قومه:

لا حتّى ترجم فلانا- يعنون ابن عمّه- فقلنا: تعالوا نجمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف و الوضيع فوضعنا الجلد و التحميم (1) و هو أن يجلد أربعين جلدة ثمّ تسودّ وجههما ثمّ تحملان على حمارين و تجعل وجوههما من قبل دبر الحمار و يطاف بهما، فجعلوا هذا مكان الرجم.

ص: 19


1- من حمم لشي ء: إذا صيره اسود.

فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به! فقال ابن صوريا: إنّه أنشدني بالتوراة و لو لا ذلك ما أخبرته.

فأمر صلى اللّه عليه و آله بهما فرجما عند باب المسجد، فأنزل اللّه فيه: «يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ».

فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول اللّه ثمّ قال: هذا مقام العائذ باللّه و بك أن تذكر لنا الكثير الّذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض النبيّ صلى اللّه عليه و آله عن ذلك.

ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه فقال: تنام عيناي و لا ينام قلبي فقال: صدقت.

و أخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه شبه من أمّه أو بامّه ليس فيه شبه بأبيه؛ فقال صلى اللّه عليه و آله: أيّهما علا و سبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له قال: قد صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد و ما للمرأة منه؟ قال: فاغمي على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله طويلا ثمّ خلّي عنه محمرّا وجهه تفيض عرقا فقال: اللّحم و الدم و الظفر و الشحم للمرأة، و العظم و العصب و العروق للرجل قال له: صدقت أمرك أمر نبيّ، فأسلم ابن صوريا عند ذلك ثمّ قال: يا محمّد من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبرئيل، قال: صفه لي فوصفه النبيّ فقال: أشهد أنّه في التوراة كما قلت و أنّك رسول اللّه حقّا فلمّا أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود و شتموه.

فلمّا أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا: يا محمّد إخواننا بنو النضير؛ أبونا واحد و بطننا واحد و نبيّنا واحد إذا قتلوا منّا قتيلا لم يقتدونا و أعطونا ديته سبعين وسقا (1) من تمر و إذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل و أخذوا منّا مائة و أربعين وسقا من تمر، و إن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منّا و بالرجل منهم رجلين منّا، و بالعبد منهم الحرّ منّا، و جراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا و بينهم فأنزل اللّه في الرجم و القصاص الآيات، انتهى.

المعنى: [يا أَيُّهَا الرَّسُولُ خطاب التعظيم و التشريف [لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ أي صنع الّذين [يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] أي يقعون سريعا في الكفر و إظهاره إذا وجدوا منه

ص: 20


1- قال الخليل: الوسق ستون صاعا و هو حمل البعير، و الوقر حمل البغل و الحمار. منه رحمه اللّه.

فرصة، و لا تبال بتهافتهم في الكفر [مِنَ الَّذِينَ بيان للمسارعين [قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ متعلّق بقالوا، و الفائدة من بيان تعلّقه بالأفواه مع أنّ القول لا يكون إلّا بالفم و اللّسان إشارة إلى أنّ ألسنتهم ليست معبّرة بما في قلوبهم، و أنّ ما يجرون على ألسنتهم لا يجاوز أفواههم فينطقوا به غير معتقدين بقلوبهم [وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ جملة حاليّة من ضمير «قالوا» مؤكّدة عن بيان خلوّ قلوبهم عن الإيمان.

[وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا] عطف على قوله: «مِنَ الَّذِينَ قالُوا» و بيان المسارعين في الكفر بتقسيمهم إلى قسمين: المنافقين و اليهود [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي هم سمّاعون يعني المنافقين و اليهود مبالغون في سماع الكذب، و قبول ما تفتريه أحبارهم و رؤساؤهم من الكذب على اللّه و تحريف كتابهم؛ أو سمّاعون أخباركم و أحاديثكم ليكذبوا عليكم بالزيادة و التبديل؛ فإنّ منهم من يسمع من الرسول ثمّ يخرج و يقول: سمعت منه كذا و كذا و لم يسمع ذلك منه، و على المعنى الثاني فاللّام يكون لام الغرض [سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي هم سمّاعون كلامك لقوم آخرين الّذين لم يحضروا مجلسك أرسلوا السّماعين في قصّة زان محصن فقالوا لهم: إن أفتاكم محمّد بالجلد فخذوه و إن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه لأنّهم كانوا حرّفوا حكم الرجم الّذي في التوراة و قيل:

إنّما كان ذلك في قتل منهم قالوا: إن أفتاكم بالدية فاقبلوه و إن أفتاكم بالقود فاحذروه.

[يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ أي كلام اللّه و أحكامه [مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي من بعد أن وضعه مواضعه، و فرض فروضه و أحلّ حلاله و حرّم حرامه؛ يعني بذلك ما غيّروه من حكم اللّه في أمر الزناء فنقلوه من الرجم إلى أربعين جلدة، أو نقلوا حكم القتل من القود إلى الدية حتّى كثر القتل فيهم. و قيل: المراد: يحرفون كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعد سماعه و يكذبون عليه و كانوا يكتبون بذلك إلى خيبر.

[يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا] أي يقول يهود خيبر ليهود مدينة- و يهود مدينة كانوا جواسيس و عيونا ليهود خيبر-: إن أعطيتم هذا أي أمركم محمّد بالجلد فاقبلوا حكمه و إن أوتيتم بالرجم فلا تقبلوه و احذروا عن قبول قوله

ص: 21

أو إن أوتيتم الدية فاقبلوه و إن أوتيتم القصاص فاحذروه.

[وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ قيل: معنى الفتنة العذاب أي من يرد اللّه عذابه مثل قوله:

«عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» (1) أي يعذّبون و قوله: «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» (2) أي عذابكم عن الحسن و قتادة و الجبّائيّ و أبو مسلم. و قيل: إنّ معناه من يرد اللّه إهلاكه، عن السدّيّ و الضحّاك.

و ثالثها أنّ المراد: من يرد اللّه خزيه و فضيحته بسبب ما ينطوي عليه. و رابعها أنّ المراد: من يرد اللّه اختباره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدع ذلك و يحرّفه. قال الطبرسيّ: و الأصحّ الأوّل.

[فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً] أي فلن تستطيع أن تدفع عنه من أمر اللّه الّذي هو العذاب أو الفضيحة أو الهلاك شيئا [أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أي أولئك اليهود لم يرد اللّه أن يطهّرهم من عقوبات الكفر الّتي هي الختم و الطبع بسبب سوء اختيارهم و عنادهم و لعلمه تعالى بأنّه لا ينفع لهم العظة و الذكرى و غلب عليهم السفه؛ فإنّ البلوغ بلوغان فبلوغ الأطفال بخروج المنيّ و بلوغ الرجال بخروج المنى؛ فخذوا من ممرّكم لمقرّكم، كما طهّر قلوب المؤمنين بأن شرح صدورهم للإسلام بسبب متابعتهم للرسول و عدم العناد منهم.

و قيل: المعنى: لم يرد اللّه أن يطهّرها من الكفر بالحكم عليها بأنّها برئية من الكفر، ممدوحة بالإيمان و السبب انهماكهم في الكفر و تماديهم في العناد فقوله: «لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» استعارة عن سقوط وقعهم عند اللّه و أنّه غير ملتفت إليهم بسبب قبح أفعالهم و أعمالهم و نيّاتهم. قال العاصي: و هذا لا يدلّ على أنّه سبحانه لم يرد منهم الإيمان، بل أراد منهم الايمان و لكن لمّا لم يقبلوه خلّاهم و شأنهم و ما زكّاهم.

[لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أمّا خزي المنافقين بظهور فضيحتهم بين المسلمين، و أمّا خزي اليهود فبالذلّ و الجزية و ظهور كذبهم في كتمان نصّ التوراة، و أمّا في الآخرة هو الخلود في النار.

ص: 22


1- الذاريات: 13.
2- الذاريات: 14.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 42 الى 43]

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

السحت: الرشوة في الحكم و مهر البغي و عسيب الفحل و ثمن الكلب و ثمن الخمر و ثمن الميتة و حلوان (1) الساحر و الكاهن و الاستئجار في المعصية، و أصله يرجع إلى الحرام الخسيس الّذي يكون في حصوله عار بحيث يخفي آخذه عن أعين الناس لا محالة. و كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه و لا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب و يأكل السحت. و قيل: كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهوديّة، فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء، و يأكلون السحت؛ أو كانوا سمّاعين للأكاذيب الّتي كان أحبارهم ينسبونها إلى التوراة و يأخذون عليها الرشى و أكّالون للربا لقوله: «وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا» (2) قوله: [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ تكرير لما قبله [أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي الحرام حسبما شرح [فَإِنْ جاؤُكَ الفاء فصيحة أي إذا كان حالهم كما شرح إن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات [فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ أراد به اليهود الّذين تحاكموا إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله في حدّ الزناء. و قيل: أراد بني قريظة و بني النضير لمّا تحاكموا إليه فقد خيّره اللّه بين أن يحكم بينهم و بين أن يعرض عنهم و في بعض الروايات أنّ هذا التخيير ثابت في الشرع للأئمّة و الحكّام. و قيل: إنّه منسوخ بقوله: «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ».

قوله: [وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ أي عن الحكم بينهم [فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً] و لا يقدرون لك على ضرر [وَ إِنْ حَكَمْتَ أي و إن اخترت أن تحكم بينهم [فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ] و العدل و قيل: بما في القرآن و شريعة الإسلام [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين فيحفظهم من كلّ مكروه و محذور؛ و في الحديث: المقسطون عند اللّه على منابر من

ص: 23


1- الحلوان- بالضم- عطاء للدلال او المستخدم لحاجة.
2- النساء: 159.

نور [وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ أي يحكّمك يا محمّد هؤلاء اليهود على أنفسهم فيرضوا بك حكما [وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ .

و حاصل المعنى من الآية تعجيب من اللّه لنبيّه محمّد صلى اللّه عليه و آله بتحكيم اليهود إيّاه بعد علمهم بما في التوراة من حدّ الزاني ثمّ تركهم ذلك الحكم فعدلوا عمّا يعتقدونه حكما حقّا إلى ما يعتقدونه باطلا طلبا للرخصة، فعدولهم عن حكم كتابهم إلى حكمك أمر عجيب. و في الآية بيان جهلهم و عنادهم لئلّا يفتري مفتر بأنّهم أهل كتاب اللّه و من المحافظين على أمر اللّه [ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عطف على قوله: «يحكّمونك» و ذلك إشارة إلى حكم اللّه الّذي في التوراة أو إشارة إلى التحكيم.

و قوله: [وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ أي و ما هم بالمؤمنين بالتوراة و إن كانوا يظهرون الإيمان بها؛ أو إخبار بأنّهم لا يؤمنون أبدا و يكون إخبارا عن المستأنف؛ أو المعنى أنّهم و إن طلبوا الحكم منك لكنّهم ما هم بمؤمنين بك و لا بمعتقدين في صحّة حكمك و مقصودهم تحصيل منافع الدنيا فقط.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 44]

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)

تنبيه من اللّه لليهود عن المخالفة و ترغيب لهم في أن يكونوا كمتقدّميهم من مسلمي أحبارهم و الأنبياء المبعوثين إليهم قال: [إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً تهدي شرائعها و أحكامها إلى الحقّ، و ترشد الناس إلى الخير، و نور يكشف ما أبهم عليهم من الأحكام المستورة عليهم بظلمات الجهل، و ضياء لكلّ ما تشابه عليهم [يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا] و أذعنوا بحكم اللّه و أقرّوا به و نبيّنا صلى اللّه عليه و آله داخل فيهم و قيل:

هو صلى اللّه عليه و آله المفتي بذلك لما حكم في رجم المحصن و هذا لا يدلّ على أنّه كان متعبّدا بشرع موسى لأنّ اللّه هو الّذي أوجب عليه ذلك بوحي أنزله عليه لا بالرجوع إلى التوراة فصار ذلك شرعا له و إن وافق ما في التوراة. و قيل: يريد بالنبيّين الأنبياء الّذين

ص: 24

كانوا من بعد موسى، و ذلك لأنّه كان في بني إسرائيل ألوف من الأنبياء بعثهم اللّه لإقامة التوراة يحلّلون حلالها و يحرّمون حرامها.

فالمعنى: يقضي بالتوراة الّذين أسلموا من وقت موسى إلى وقت عيسى و وصفهم بالإسلام لأنّ الإسلام دين اللّه فكلّ نبيّ مسلم و ليس كلّ مسلم نبيّا؛ و لا يقال: إنّ النبوّة أعظم من الإسلام فكيف يمدح نبيّ بأنّه مسلم و ما الوصف به بعد الوصف بالنبوّة إلّا تنزّل من الأعلى إلى الأدنى؟ فإنّه ليس الأمر كذلك بل شرف النبيّ بالإسلام و العبوديّة، كما أنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله يوصف بالعبوديّة ثمّ بالرسالة. على أنّه قد يذكر الوصف مدحا للوصف و تنويه شأن الصفة و عظم قدرها، كما وصف الأنبياء بالصلاح و الملائكة بالإيمان؛ و قد قيل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف؛ قال الشاعر:

ما إن مدحت محمّدا بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمّد

قوله: [لِلَّذِينَ هادُوا] متعلّق بيحكم أي يحكمون للّذين تابوا عن الكفر. و قيل: المعنى: يحكمون لليهود بالتوراة لهم و فيما بينهم؛ قال الزجّاج: و يجوز أن يكون المعنى على التقديم و التأخير، و تقدير الكلام: إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور للّذين هادوا يحكم بها النبيّون الّذين أسلموا [وَ الرَّبَّانِيُّونَ الّذي علت درجاتهم في العلم [وَ الْأَحْبارُ] و هم العلماء [بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ أي بما أمروا بحفظ ذلك و القيام به و ترك تضييعه فيكون المعنى: يحكمون بما حفظوه من التوراة و بالّذي استحفظوه من جهة النبيّين و تلقّوا منهم و هو استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشي ء؛ فالباء سببيّة متعلّقة بيحكم أي و يحكم الربّانيّون و الأحبار أيضا بسبب ما حفظوه من كتاب اللّه حسبما وصّاهم به أنبياؤهم.

قال الفرّاء: مفرد الأحبار حبر بكسر الحاء؛ يقال ذلك للعالم، و إنّما سمّي بهذا الاسم لمناسبة الحبر الّذي يكتب به، و ذلك أنّه يكون صاحب كتب و حبر. و قيل: حبر و حبر بالفتح و الكسر من الحاء. و قال قوم: اشتقاقه من التحبير و هو التحسين في الحديث؛ يخرج من النار ذهب حبره و سبره أي ذهب جماله و بهاؤه، و لمّا كان العلم أحسن أقسام الفضيلة لا جرم سمّي العالم به.

ص: 25

[وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ] أي كان هؤلاء النبيّون و الربّانيّون و الأحبار شهداء على أنّ كلّ ما في التوراة حقّ من عند اللّه، و رقباء بحيث لا يتركونهم أن لا يراعوا حقّه [فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ يا علماء اليهود في أمر الرجم و في عدم إظهار نعوت محمّد صلى اللّه عليه و آله [وَ اخْشَوْنِ في كتمان ذلك و قيل: الخطاب للنبيّ- و المراد امّته- لا تخشوا في إقامة الحدود و إمضائها على أهلها كائنا من كان [وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا] أي لا تأخذوا لأجل الطمع. و الاشتراء: استبدال السلعة بالثمن و أخذها بدلا منه أي لا تستبدلوا بآياتي بأن تتركوا العمل بها و تأخذوا لأنفسكم بدلا منها من الرشوة و الجاه و سائر الحظوظ الدنيويّة فإنّها و إن جلّت فهي قليلة.

أقول: و هذا البيان في آخر الآية يدلّ على أنّ المخاطب في قوله: «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ» علماء اليهود و قول القائل: إنّ الخطاب للنبيّ و المراد منه أمّته بمعزل عن القبول.

[وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قال الطبرسيّ: اختلف في ذلك فمنهم من أجراه على ظاهره على العموم، عن ابن مسعود و الحسن و إبراهيم النخعيّ؛ و منهم من خصّه بالجاحد لحكم اللّه و المستهين به، عن ابن عبّاس؛ و منهم من قال: هم اليهود خاصّة، عن الجبّائيّ فإنّه قال: لا حجّة للخوارج في هذه الآية فإنّهم احتجّوا بهذه الآية فقالوا: إنّها نصّ في أنّ كلّ من حكم بغير ما أنزل اللّه فهو كافر و كلّ من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل اللّه فوجب أن يكون كافرا. و أجاب المتكلّمون أنّ هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصّة بهم. و هذا ضعيف؛ لأنّ العبرة بعموم اللّفظ و قوله: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ» كلام ادخل فيه كلمة «من» في معرض الشرط فيكون للعموم و قول من يقول: «المراد: و من لم يحكم بما أنزل اللّه من الّذين سبق ذكرهم» فهو زيادة في النصّ و ذلك غير جائز؛ قال عطا: هو كفر دون كفر. و قال طاوس: ليس بكفر ينقل عن الملّة، كأنّهم حملوا الكفر على كفر النعمة لا على كفر الدين و هذا أيضا ضعيف؛ لأنّ لفظ الكفر إذا اطلق انصرف إلى الكفر في الدين. قال عكرمة: قوله:

«وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» إنّما يتناول من أنكر بقلبه و جحد بلسانه، أمّا من عرف بقلبه كونه حكم اللّه و أقرّ بلسانه كونه حكمه إلّا أنّه أتى بما يضادّه فهو غير حاكم بما

ص: 26

أنزل اللّه و لكنّه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية؛ لأنّها خاصّة في اليهود.

و اختار عليّ بن عيسى القول الثاني، و من المعلوم أنّ من حكم بغير ما أنزل اللّه مستحلّا لذلك فهو كافر.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 45]

وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

المعنى: شرح سبحانه حكم التوراة في القصاص و المراد بيان هذا الأمر أنّه تعالى بيّن في التوراة أنّ حكم الزاني المحصن هو الرجم و اليهود غيّروه و بدّلوه، و بيّن في هذه الآية أيضا أنّه تعالى بيّن في التوراة أنّ النفس بالنفس و هؤلاء اليهود غيّروا هذا الحكم أيضا، ففضّلوا بني النضير على بني قريظة، و خصّصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير فهذا هو وجه النظم في الآية فقال:

[وَ كَتَبْنا] أي فرضنا [عَلَيْهِمْ على اليهود الّذين تقدّم ذكرهم [فِيها] أي في التوراة [أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ معناه إذا قتلت نفس نفسا اخرى عمدا فإنّه يستحقّ عليه القود إذا كان القاتل عاقلا مميّزا و كان المقتول مكافئا للقاتل إمّا بأن يكونا مسلمين حرّين أو كافرين أو مملوكين فأمّا إذا كان القاتل حرّا مسلما و المقتول كافرا أو مملوكا ففي وجوب القصاص هناك خلاف بين الفقهاء و لكن عند الإماميّة لا يجب القصاص و به قال الشافعيّ. قال الضحّاك: لم يجعل في التوراة دية في النفس (1) [وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ قرأ الكسائيّ: العين و الأنف و الأذن و السنّ و الجروح كلّها بالرفع عطفا على محلّ أنّ النفس أو على الاستئناف؛ تقديره أنّ النفس مقتولة بالنفس و العين مفقوأة بالعين نظير قوله: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى (2) و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن بأمر بنصب الكلّ سوى الجروح فإنّه بالرفع فالعين و الأنف و الاذن منصوب عطفا

ص: 27


1- بل و لا جرح و انما كان العفو او القصاص، على ما في المجمع.
2- المائدة: 73.

على النفس، ثمّ الجروح مبتدأ و قصاص خبره. و قرأ نافع و عاصم و حمزة كلّها بالنصب عطفا لبعض ذلك على بعض و خبر الجميع قصاص. و قرأ نافع الاذن بسكون الذال حيث وقع، و الباقون بالضمّ و هما لغتان.

و بالجملة لمّا ذكر اللّه تعالى بعض الأعضاء عمّم الحكم في كلّها فقال: «وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ» و القصاص هاهنا مصدر يراد به المفعول أي و الجروح متقاصّة بعضها ببعض و هو يقع بكلّ ما يمكن أن يقتصّ منه بشرط وقوع المماثلة مثل الشفتين و الأنثيين و اليدين و الرجلين و غيرهما، و يقتصّ الجراحات بمثلها؛ الموضحة بالموضحة بالموضحة و الهاشمة بالهاشمة و المنقّلة بالمنقّلة إلّا في المأمومة و الجائفة (1) فإنّه لا قصاص فيهما، و ما لا يمكن المماثلة مثل رضّة العظم (2) او اللّحم أو فكّة عظم أو جراحة يخاف منها التلف فالحكم فيها اروش مقدّرة، و تفاصيلها مذكورة في كتب الفقه.

[فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي بالقصاص الّذي وجب له فتصدّق به على صاحبه بالعفو و أسقط عنه [فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ أي للمتصدّق الّذي هو المجروح أو وليّ الدم. قال الرازيّ:

الضمير في له يحتمل أن يكون راجعا إلى العافي و هو المجروح أو الوليّ، و يحتمل أن يكون عائدا إلى المعفوّ عنه يعني كفّارة للقاتل أي أنّ المجنيّ عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفّارة للجاني لا يؤاخذه اللّه بعد ذلك العفو و أمّا المجنيّ عليه الّذي عفا فأجره على اللّه. و عن عبادة بن الصامت أنّ رسول اللّه قال: من تصدّق من جسده بشي ء كفّر اللّه عنه بقدره من ذنوبه؛ و في الحديث: من أصيب بشي ء من جسده فتركه للّه كان كفّارة له؛ قال الحقّيّ في تفسيره: في الحديث من عفا عن قاتله و من قرأ عقيب كلّ صلاة مكتوبة قل هو اللّه أحد عشر مرّات و من أدّى دينا خفيّا و جاء بهنّ يوم القيامة و هو مؤمن دخل الجنّة من أيّ أبواب الجنّة شاء و تزوّج عن الحور العين حيث شاء.

ص: 28


1- الموضحة من الشجاج ما بلغ العظم فأوضح عنه و لم يكسره و الهاشمة ما بلغه و كسره. و المنقلة ما كسره و نقله من مكانه الى مكان آخر. و المامومة ما بلغ أم الراس. و الجائفة ما بلغ جوف البدن.
2- ر ض الشي ء: دقه.

قوله: [وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام و الشرائع [فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ المتعدّون لحدوده الواضعون للشي ء في غير موضعه فإن قيل: إنّ الكفر أعظم من الظلم و هو سبحانه هدّدهم بقوله: «فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» أولا فأيّ فائدة في ذكر الأخفّ بعده؟ فالجواب أنّ الظالم يطلق على الكافر؛ قال: «وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (1) و «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (2) و أنّ الكفر من حيث إنّه إنكار لنعمة الربّ فهو كفر و من حيث إنّه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فبهذا الاعتبار هو ظلم على النفس ففي الآية الاولى ذكر اللّه ما يتعلّق بتقصيره في حقّ الخالق و في هذه الآية ذكر ما يتعلّق بالتقصّر في حقّ نفسه.

[سورة المائدة (5): الآيات 46 الى 47]

وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)

لمّا قدّم سبحانه ذكر اليهود أتبعه بذكر النصارى فقال: [وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي و أتبعنا على آثار النبيّين الّذين أسلموا. يقال: قفّيته إذا تبعته بفلان فتعديته إلى المفعول الثاني بزيادة الباء؛ فإن قيل: فأين المفعول الأوّل؟ قلنا: هو محذوف و الظرف و هو قوله: «عَلى آثارِهِمْ» سادّ مسدّه. و الضمير في آثارهم للنبيّين في قوله: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا» قوله: [مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ] وصف عيسى بكونه مصدّقا لما بين يديه و إنّما يكون كذلك إذا كان عمله على شريعة التوراة و معلوم أنّه لم يكن كذلك؛ فإنّ شريعة عيسى كانت مغايرة لشريعة موسى فلذلك قال في آخر هذه الآية: «وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ» فكيف طريق الجمع؟ فمعنى كون عيسى مصدّقا للتوراة أنّه أقرّ بأنّه كتاب منزل من عند اللّه و أنّه كان حقّا واجب العمل به قبل ورود النسخ. على أنّه ليس بينهما في الأصول اختلاف أبدا.

ص: 29


1- البقرة: 255.
2- لقمان: 12.

و إنّما قال: «بَيْنَ يَدَيْهِ» مع أنّه قد مضى؟ لأنّه إذا كان يأتي كتاب بعده و خلفه فالّذي مضى قبله يكون قدّامه و بين يديه.

فإن قيل: لم كرّر قوله: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ»؟ فالجواب أنّه ليس بتكرار؛ لأنّ في الأوّل معناه أنّ عيسى مصدّق التوراة و في الثاني أنّ الإنجيل مصدّق التوراة.

و ذكر [هُدىً مرّة اخرى لاشتمال الإنجيل على الإشارة بمقدم محمّد صلى اللّه عليه و آله فيكون سببا لاهتداء الناس إلى نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و لمّا كان أشدّ وجوه المنازعة بين المسلمين و اليهود و النصارى في ذلك أعاده اللّه تنبيها على أنّ الإنجيل كان هدى في هذه المسألة الّتي هي أشدّ المسائل احتياجا إلى البيان.

و إنّما خصّها [لِلْمُتَّقِينَ لأنّهم هم المنتفعون بها دون غيرهم (1) [وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ هذا أمر لهم. قيل في معناه قولان: أحدهما أنّ تقديره و قلنا: ليحكم أهل الإنجيل و حذف القول لدلالة ما قبله عليه من قوله: «و قفّينا» و ذلك مثل: «وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ» (2) أي يقولون: سلام عليكم. و الثاني أنّه كلام مستأنف أمر أهل الإنجيل لأنّ أحكامه لم ينسخ بعد و كانوا مأمورين بحكم الإنجيل في ذلك الوقت [بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أي في الإنجيل [وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قيل:

إنّ «من» في الآية بمعنى «الّذي» و هو إخبار عن قوم معروفين و هم اليهود و الّذين تقدّم ذكرهم عن الجبّائيّ. و قيل: إنّ «من» للجزاء أي من لم يحكم من المكلّفين بما أنزل اللّه فهو فاسق [فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فيكون معنى الفاسقين الخارجين عن الدين و الكفر و الظلم و الفسق صفة لموصوف واحد و قيل: إنّ الأوّل في الجاحد و الثاني و الثالث في المقرّ التارك. قال العقال: و ليس في أفراد هذه الثلاثة بلفظ يوحب

ص: 30


1- فان المراد بالمتقين هاهنا و فيما أشبهه من الموارد ليس من يعمل بوظائفه الدينية حتى يتوهم توقف تأثير الدين على نفسه بل المراد من يكون عقله مستضيئا عن نور التقوى، غير محجوب بأستار اللجاج و العناد مع الحق كما في أمثال ابى جهل الذين جحدوا بآيات اللّه و استيقنتها أنفسهم.
2- الرعد: 23- 24.

القدح في المعنى كما يقال: من أطاع اللّه فهو المؤمن، من أطاع اللّه فهو البرّ، من أطاع اللّه فهو المتّقي؛ لأنّ كلّ ذلك صفات مختلفة حاصلة لموصوف واحد: و قال الأصم:

الأوّل و الثاني في اليهود و الثالث في النصارى.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 48]

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

هذا خطاب لمحمّد صلى اللّه عليه و آله فقوله: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» أي القرآن و قوله:

«مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ» أي كلّ كتاب نزل من السماء سوى القرآن فاللّام في قوله: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» للعهد أي الفرد الكامل الحقيق بأن يسمّى كتابا على الإطلاق لحيازة جميع الأوصاف الكماليّة و تفوّقه على بقيّة أفراده ملبّسا [بِالْحَقِ و الصدق، حال مؤكّدة من الكتاب. و قيل: من فاعل أنزلنا و قيل: من الكاف في إليك و قوله: [مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ حال من الكتاب أي حالكونه مصدّقا لما تقدّمه موافقا له في القصص و الدعوة إلى التوحيد و المواعيد و العدل بين الناس و قوله: [مِنَ الْكِتابِ بيان لما و اللّام للجنس [وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ قال الخليل و أبو عبيدة: هيمن الرجل يهيمن إذا كان رقيبا على الشي ء و حافظا و شاهدا عليه. و قيل: الأصل في آمن يؤمن فهو مؤمن: أءمن يؤأمن فهو مؤامن- بهمزتين- ثمّ قلبت الاولى هاء كما في هرقت و أرقت و قلبت الثانية ياء فصار مهيمنا. و إنّما كان القرآن مهيمنا على الكتب، لأنّه الكتاب الّذي لا يصير منسوخا و لا يتطرّق إليه التبديل بعد أبدا و إذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أنّ التوراة و الزبور و الصحف و الإنجيل حقّ باقية فكانت حقيقة هذه الكتب بشهادة القرآن معلومة أبدا.

[فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي فاحكم بين اليهود و أهل الكتاب بما في القرآن عن ابن عبّاس قال: إذا ترافع أهل الكتاب إلى الحكّام يجب أن يحكموا بينهم بحكم

ص: 31

القرآن و شريعة الإسلام لأنّه أمر اللّه بأن يحكم بينهم و الأمر يقتضي الإيجاب به.

و قال جماعة من المفسّرين: إنّ هذا ناسخ للتخيير في الحكم بين أهل الكتاب أو الإعراض عنهم (1) [وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ أي و لا تنحرف عمّا جاءك من الحقّ متّبعا أهواءهم و لذلك عدّاه بعن روي أنّ جماعة من اليهود قالوا: تعالوا نذهب إلى محمّد- صلى اللّه عليه و آله- لعلّنا نفتّنه عن دينه ثمّ دخلوا عليه و قالوا: يا محمّد قد عرفت أنّا أحبار اليهود و أشرافهم و أنّا إن اتّبعناك اتّبعك كلّ اليهود و إنّ بيننا و بين خصومنا حكومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا و نحن نؤمن بك فأنزل اللّه الآية.

و تمسّك من طعن في عصمة الأنبياء بهذه الآية و قال: لو لا جواز المعصية عليهم لما قال: «وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» و الجواب أنّ ذلك مقدور له و لكن لا يفعله و لمّا كان مقدورا له فجاز النهي و قيل: الخطاب له و المراد امّته كقوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (2).

[لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً] الخطاب للأمم الثلاث: امّة موسى و امّة عيسى و امّة محمّد؛ لأنّ ذكر هؤلاء قد تقدّم في قوله: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ، الآية» ثم: «وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» ثمّ قال: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» و معنى شرع: بيّن و أوضح؛ يقال: شرعت الإهاب إذا شققته و سلخته إذا الشروع في الشي ء هو الدخول فيه. و الشريعة: المشرعة الّتي يشرعها الناس يشربون منها فالشريعة فعيلة بمعنى المفعول و هي الأشياء الّتي أوجب اللّه على المكلّفين أن يشرعوا فيها. و المنهاج:

الطريق الواضح؛ قال بعضهم: الشرعة و المنهاج عبارتان عن معنى واحد و التكرير للتأكيد و المراد بهما الدين. و قال آخرون: بينهما فرق: فالشرعة عبارة عن مطلق

ص: 32


1- قاله الجبائي على ما في المجمع. و يمكن ان يقال بعدم التنافي بين الحكمين لإمكان حمل هذه الآية على ما إذا شاء الرسول ان يحكم بينهم فيكون التخيير اقدم رتبة من وجوب الحكم بالقرآن كما أوضح عنه فيما تقدم بقوله: «فان جاءوك فاحكم بينهم او اعرض عنهم- و هذا هو التخيير- ... و ان حكمت- و هو اختيار احد طرفي التخيير- فاحكم بينهم بالقسط».
2- الزمر: 65.

الشريعة، و الطريقة عبارة عن مكارم الأخلاق و هي المراد بالمنهاج؛ فالشريعة أوّل، و الطريقة آخر. و قال المبرّد: الشريعة ابتداء الطريقة، و الطريقة المنهاج المستمرّ.

و في قوله تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً» دلالة على جواز النسخ و على أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله كان متعبّدا بشريعته فقط و كذلك أمّته و يقوّي ذلك قوله: [وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً] أي جماعة متّفقة على شريعة واحدة لا اختلاف فيها و المراد بالمشيئة في الآية مشيئة الإلجاء خلاف ما قالته الأشاعرة.

قال الرازيّ: إن قيل: إنّه قد وردت آيات دالّة على عدم التباين في طريقة الأنبياء و الرسل و آيات دالّة على حصول التباين فيها فالنوع الأوّل مثل قوله: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً إلى قومه أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا» (1) و قال: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» (2) و أمّا النوع الثاني فمثل هذه الآية؛ فحينئذ كيف طريق الجمع؟ نعم، فالنوع الأوّل من الآيات مصروف إلى ما يتعلّق بأصول الدين و النوع الثاني مصروف إلى ما يتعلّق بفروع الدين، انتهى.

قوله: [وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي لكن جعلكم على شرائع مختلفة للامتحان و التمييز بين المطيع و العاصي لترتّب الثواب و العقاب. قال الحسين بن عليّ المغربيّ:

معنى الآية: لو شاء اللّه لم يبعث إليكم نبيّا فتكونون متعبّدين بما في العقل و تكونون أمّة واحدة و لكن ليختبركم فيما كلّفكم من العبادات و هو عالم بما يؤول إليه أمركم [فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ و بادروا في التقدّم بالخير و ما أمرتكم به؛ فإنّي ما آمركم إلّا بما هو خير لكم [إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً] استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات و في قوله: «فاستبقوا» دلالة على وجوب المبادرة إلى أفعال الخير، و يكون محمولا على الواجبات و من قال: إنّ الأمر على الندب حمله على جميع الطاعات [فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيخبركم بما يرتفع الاختلاف و الشكوك معه من الجزاء بين محقّكم و مبطلكم و موفيكم و مقصّركم في العمل.

ص: 33


1- الانعام: 90.
2- الشورى: 11.

[سورة المائدة (5): الآيات 49 الى 50]

وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

[وَ أَنِ احْكُمْ عطف على قوله: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أَنِ احْكُمْ و أعيد ذكر الحكم و الأمر بعد ذكره في الآية الأولى إمّا للتأكيد و إمّا لأنّهما حكمان أمر بهما لأنّ اليهود احتكموا إليه في زنى المحصن أوّلا ثمّ احتكموا في قتيل كان فيهم [وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي ما يهوون من الأحكام و يطمعوك منهم من الإجابة إلى الإسلام. و قيل: المعنى: احذرهم أن يضلّوك بالكذب على التوراة بأن يقولوا: هذا الحكم كذا في التوراة، و ليس ذلك الحكم فيها بل يريدون أن تحكم لهم حسب ما يهوون و الفتنة هنا صرف من الحقّ إلى الباطل و في الآية دلالة على وجوب مجانبة أهل البدع و الضلال و ذوي الأهواء.

[فَإِنْ تَوَلَّوْا] و أعرضوا عن حكمك [فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ و يعاقبهم ببعض أجرامهم. و ذكر البعض و المراد الكلّ كما يذكر العموم و يراد به الخصوص، عن الجبّائيّ. أو أنّه ذكر البعض تغليظ للعقاب و المراد أنّه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم في إهلاكهم. و قيل: إنّه أراد تعجيل بعض العقاب بما كان من التمرّد؛ فإنّ عذاب الدنيا يختصّ ببعض الذنوب دون بعض و عذاب الآخرة يعمّ. و لعلّ المراد في الآية بنو قريظة لمّا نقضوا العهد يوم الأحزاب عوقبوا بالقتل [وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن امتناع القوم من الإقرار بنبوّته و لا زال كان أهل الإيمان قليلا و أهل الفسق كثيرا [أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ و قرء بالخطاب تبغون.

و قرء حكم بالرفع على الابتداء و تبغون خبره و العائد محذوف من الخبر للدلالة؛ و المعنى: أحكم الجاهليّة تبغون، و المراد أنّ هذا الحكم الّذي تبغونه إنّما يحكم به حكّام الجاهليّة فأراد هؤلاء اليهود المتحاكمين إلى الرسول في أمر الرجم و الدية أن يحكم رسول اللّه بموجب هو أهم كما كان أهل الجاهليّة يحكمون عن هوى أنفسهم.

ص: 34

قال مقاتل: كانت بين قريظة و النضير دماء قبل أن يبعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فلمّا بعث تحاكموا إليه فقالت بنو قريظة: بنو النضير إخواننا؛ أبونا واحد و ديننا واحد فإن قتل بنو النضير منّا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر، و إن قتلنا منهم واحدا أخذوا منّا مائة و أربعين وسقا من تمر، و أروش جراحاتنا على النصف من أروش جراحاتهم؛ فاقض بيننا و بينهم فقال صلّى اللّه عليه و آله: فإنّي أحكم أنّ دم القرظيّ وفاء من دم النضيريّ، و دم النضيريّ وفاء من دم القرظيّ؛ ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم و لا عقل و لا جراحة. فغضب بنو النضير و قالوا: لا نرضى بحكمك فإنّك عدوّ لنا فأنزل اللّه: «أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ الآية» يعني حكمهم الأوّل يطلبون و ذلك أنّهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إيّاه، و إذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به فمنعهم اللّه عن ذلك بهذه الآية.

ثمّ قال: «وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» فإنّهم هم الّذين يعرفون أنّه لا أحد أعدل من اللّه حكما و بيانا. قال الرازيّ: اللّام في قوله: «لِقَوْمٍ» للبيان كاللّام في «هبت لك» أي هذا الخطاب و هذا البيان لهؤلاء. و قال الجبّائيّ: أقيمت اللّام مقام عند و هو جائز إذا تقاربت المعاني و ارتفع اللّبس؛ قال بعضهم: إنّ الحروف يقوم بعضها مقام بعض.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 51 الى 53]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)

النزول: قيل: إنّ عبادة بن الصامت جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتبرّأ عنده من موالاته اليهود فقال عبد اللّه بن أبيّ: لكنّي لا أتبرّأ منهم لأنّي أخاف الدوائر فنزلت الآية.

ص: 35

و معنى [لا تتّخذوهم أولياء] أي لا تعتمدوا على الاستنصار بهم، و لا تتودّدوا إليهم و تمّ الكلام عند قوله: «أولياء» ثمّ ابتدأ سبحانه فقال: [بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ثمّ قال:

[وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ قال ابن عبّاس: يريد كأنّه مثلهم و هذا تغليظ و تشديد من اللّه في وجوب مجانبة المخالف في الدين [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ و خصّ اليهود و النصارى بالذكر، لأنّ سائر الكفّار بمنزلتهما في وجوب معاداتهم؛ فإنّ الكفر ملّة واحدة و اللّه لا يهدي إلى طريق الجنّة الكفّار لكفرهم و استحقاقهم العذاب الدائم. فترى يا محمّد [الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شكّ و نفاق يعني عبد اللّه بن أبيّ و أضرابه [يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي في موالاة اليهود و مناصحتهم و معاونتهم على المسلمين قال الكلبيّ: كانوا يميرونهم [يَقُولُونَ أي قائلين و هو في موضع الحال؛ عبد اللّه و أصحابه كانوا يقولون [نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ] أي نخاف أن يدور الدهر علينا بمكروه- يعنون الجدب- فلا يميروننا، و ذلك أنّ اليهود و نصاري نجران كانوا أهل ثروة و كانوا يعينون المنافقين على مهمّاتهم و يقرضونهم و المراد من الدائرة الحوادث الهائلة.

و قيل: المراد أنّا نخشى أن لا يتمّ الأمر لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله فيدور الأمر كما كان قبل ذلك فقال سبحانه: [فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ أي يقرب أن يأتي بالفتح لرسول اللّه على أعدائه و إظهار المسلمين على أعدائهم و المراد من عنده تعالى يقطع أصل اليهود أو يخرجهم من بلادهم [فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ أي فيصبح أهل النفاق من ولايتهم لليهود و النصارى و دسّ الأخبار إليهم نادمين إذا فتح اللّه على المؤمنين و كذلك إذا ما ماتوا و تحقّقوا دخول النار ندموا على ما فعلوه في الدنيا من الكفر و النفاق [وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا] أي صدقوا اللّه و رسوله ظاهرا و باطنا تعجّبا من نفاق المنافقين و جرأتهم على اللّه بالأيمان الكاذبة.

و قرأ ابن كثير و ابن عامر و نافع بغير واو، و كذلك هي في مصاحف أهل الحجاز و الشام. و الباقون بالواو و كذلك هي في مصاحف أهل العراق؛ قال الواحديّ. و حذف الواو هاهنا كإثباتها و ذلك لأنّ في الجملة ذكرا من المعطوف عليها فإنّ الموصوف بقوله:

«يسارعون» هم الّذين قال فيهم المؤمنون: [أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ فلمّا حصل

ص: 36

في كلّ واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى حسن العطف بالواو و بغير الواو.

و نظيره قوله تعالى: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ» (1) لمّا كان في كلّ واحدة من الجملتين ذكر ما تقدّم أغنى ذلك عن ذكر الواو ثمّ قال: «وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ» (2) فأدخل الواو يدلّ ذلك على أنّ حذف الواو و ذكرها جائز و بالجملة أن المؤمنين يقولون متعجّبين من حال المنافقين عند ما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود و النصارى و قالوا: إنّهم كانوا يقسمون باللّه جهد أيمانهم إنّهم معنا و من أنصارنا فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا؟ و انتصب «جهد» لأنّه مصدر أي جهدوا جهد أيمانهم.

فقوله: أ هؤلاء الّذين أقسموا باللّه [جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ الاستفهام إنكار ما فعلوه و استبعاد المؤمنين من فعل المنافقين و اسم الإشارة مبتدأ و ما بعده خبره فأقسموا بأغلظ الأيمان أنّهم لمعكم أي أنّهم مؤمنون و معكم في معاونتكم على أعدائكم [حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ و ضاعت أعمالهم الّتي عملوها و بطل ما أظهروه من الإيمان فلم تستحقّوا به الثواب يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين و يحتمل أن يكون من كلام اللّه فأصبحوا خاسرين في الدنيا و الآخرة؛ أمّا الدنيا فليسوا من أنصار اللّه و أمّا الآخرة فقرنهم اللّه مع الكفّار و ورث المؤمنون منازلهم.

[سورة المائدة (5): آية 54]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)

قرء يرتدد بدالين و يرتدّ بدال مشدّدة.

قال صاحب الكشّاف: إنّه كان أهل الردّة إحدى عشر فرقه:

ثلاث في عهد رسول اللّه: بنو مدلج «و رئيسهم» ذو الخمار و هو الأسود العنبسيّ و كان كاهنا ادّعى النبوّة في اليمن و استولى على بلادها و أخرج عمّال رسول اللّه فكتب إلى معاذ بن جبل و سادات اليمن فأهلكه اللّه على يد فيروز الديلميّ فقتله و أخبر جبرئيل

ص: 37


1- الكهف: 22.
2- الكهف: 22.

رسول اللّه بقتله ليلة قتل فسرّ المسلمون و قبض رسول اللّه من الغد، و أتى خبره في آخر شهر ربيع الأوّل. (1) و بنو حنيفة قوم مسيلمة ادّعى النبوّة و كتب إلى رسول اللّه: من مسيلمة رسول اللّه إلى محمّد رسول اللّه؛ أمّا بعد فإنّ الأرض نصفها لي و نصفها لك فأجابه الرسول من محمّد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب: أمّا بعد فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين. فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين و قتل على يد وحشيّ قاتل حمزة، و كان وحشيّ يقول: قتلت خير الناس في الجاهليّة و شرّ الناس في الإسلام، أراد: في جاهليّتي و في إسلامي.

و بنو أسد قوم طليحة بن خويلد ادّعى النبوّة فبعث إليه رسول اللّه خالدا فانهزم بعد القتال إلى الشام ثمّ أسلم.

و سبع في عهد أبي بكر: «فزارة» قوم عيينة بن حصن. و «غطفان» قوم قرّة بن سلمة العشيريّ. و «بنو سليم» قوم الفجأة بن عبد ياليل. و «بنو يربوع» قوم مالك بن نويرة.

و «بعض بني تميم» قوم سجاح بنت المنذر الّتي ادّعت النبوّة و زوّجت نفسها من مسيلمة الكذّاب. و «كندة» قوم أشعث بن قيس. و «بنو بكر بن وائل» بالبحرين قوم الحطم بن زيد و كفى اللّه جميعا.

و فرقة في عهد عمر: «غسّان» قوم جبلة بن الأيهم و ذلك أنّ جبلة أسلم على يد عمر و كان يطوف ذات يوم جارّا رداءه فوطئ رجل طرف ردائه فغضب فلطمه فتظلّم الرجل إلى عمر فقضى له بالقصاص عليه إلّا أن يعفو عنه فقال جبلة أنا أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة ألف فأبى الرجل إلّا القصاص فاستنظر جبلة من عمر فأنظره فهرب إلى الروم و ارتدّ؛ قال الشاعر:

تنصّرت الأشراف من أجل لطمة قوله: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لمّا بيّن حال المنافقين و علم أنّ قوما منهم يرتدّون بعد وفاته ظاهرا أخبر بأنّه [من يتولّ منكم الكفّار [و يرتدّ عن دينه

ص: 38


1- هذا على مذهب الجمهور من وقوع رحلته صلّى اللّه عليه و آله في شهر الربيع.

فليعلم أنّ اللّه يأتي بقوم آخرين ينصرون هذا الذين على أبلغ الوجوه و أنّه تعالى لا يخلّي دينه من أنصار يحمونه [فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أي رحماء على المؤمنين، غلاظ شداد على الكافرين قال ابن عبّاس:

تراهم للمؤمنين كالولد لوالده و كالعبد لسيّده و هم في الغلظة على الكافرين كالسبع لفريسته؛ يجاهدون في سبيل اللّه بالقتال لإعلاء كلمة اللّه و إعزاز دينه [لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ في طاعة اللّه و اختلف في من وصف بهذه الأوصاف؛ قيل: هم أبو بكر و أصحابه الّذين قاتلوا أهل الردّة، عن الحسن و قتادة و الضحاك. و قال السدّيّ: هم الأنصار. و قال مجاهد: هم أهل اليمن قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا و أرقّ أفئدة؛ الإيمان يمانيّ و الحكمة يمانيّة. و قال عياض بن غنم الأشعريّ لمّا نزلت هذه الآية أومأ رسول اللّه إلى أبي موسى الأشعريّ فقال: هم قوم هذا. و قيل: إنّهم الفرس روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سئل عن هذه الآية فضرب بيده على عاتق سلمان فقال: هذا و ذووه ثمّ قال: لو كان الدين معلّقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس. (1) و قيل: هم أمير المؤمنين عليّ و أصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين و القاسطين و المارقين و هذه الرواية عن عمّار و حذيفة و ابن عبّاس. و قال الطبرسيّ: و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و يؤيّد هذا القول أنّ النبيّ وصفه بهذه الصفات المذكورة في الآية فقال فيه- و قد ندبه لفتح خيبر-: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله كرّارا غير فرّار و لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يده؛ ثمّ أعطاها إيّاه. فأمّا الوصف باللّين لأهل الإيمان و الشدّة على الكفّار و الجهاد في سبيل اللّه مع أنّه لا يخاف لومة لائم لا يمكن لعاقل أن ينكر هذا الأمر عنه عليه السّلام لمّا ظهر من شدّته على أهل الشرك و الكفر و مقاماته المشهورة في تشديد الدين.

و يؤيّد ذلك إنذار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قريشا بقتال عليّ عليه السّلام لهم من بعده حيث جاءه سهيل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا له: يا محمّد إن أرقّائنا لحقوا بك فارددهم علينا فقال رسول اللّه: لتنتهنّ يا معاشر قريش أو ليبعثنّ اللّه عليكم رجلا يضربكم على تأويل

ص: 39


1- رواه و ما قبله مرسلا في الجمع.

القرآن كما ضربتكم على تنزيله؟ فقال له بعض أصحابه: من هو يا رسول اللّه؟ أبو بكر؟

قال: لا. قال: فعمر؟ قال: لا، و لكنّه خاصف النعل في الحجرة و كان عليّ يخصف نعل رسول اللّه.

و روي عن عليّ عليه السّلام أنّه قال يوم البصرة: و اللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم.

و روى أبو إسحاق الثعلبيّ في تفسيره بالإسناد عن الزهريّ عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال؛ يرد عليّ قوم من أصحابي يوم القيامة فيمنعون عن الحوض؛ فأقول: أصحابي أصحابي فيقال: إنّك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. و قيل: أنّ الآية عامّة في كلّ من استجمع هذه الخصال إلى يوم القيامة.

و ذكر عليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره أنّها نزلت في مهديّ الأمم و أصحابه و أنّها خطاب لمن ظلم آل محمّد و قتلهم و غصبهم حقّهم و يمكن أن يكون قوله: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ» أن يكون ذلك القوم غير موجودين في وقت نزول الخطاب فهو يتناول من يكون بعدهم و بهذه الصفة إلى قيام الساعة.

قوله: [ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ أي هذا الأمر من محبّتهم للّه و لين جانبهم للمؤمنين و شدّتهم على الكافرين بفضل و توفيق و لطف منه تعالى [يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ] يعطيه من يعلم أنّه محلّ له [وَ اللَّهُ واسِعٌ جواد لا يخاف نفاد ما عنده [عَلِيمٌ بمن يكون من أهله و لا يبذله إلّا لمن يقتضي حكمته.

قال الرازيّ في تفسيره: و قال جماعة: إنّ الآية نزلت في عليّ و يدلّ عليه و جهان: الأوّل أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا دفع الراية إلى عليّ عليه السّلام يوم خيبر و قال: لأدفعنّ الراية غدا إلى رجل يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله و هذا هو الصفة المذكورة في الآية. و الوجه الثاني أنّه تعالى ذكر بعد هذه قوله: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا، الآية» و هذه الآية نزلت في حقّ عليّ فكان الأولى جعل ما قبلها أيضا في حقّه، انتهى كلامه.

ص: 40

[سورة المائدة (5): الآيات 55 الى 56]

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (55) وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)

قوله تعالى:

الوليّ: الّذي يلي تدبير الأمر؛ يقال: فلان وليّ المرأة إذا كان يملك تدبير نكاحها، و فلان وليّ الدم: من كان إليه المطالبة بالقود. و السلطان وليّ أمر الرعيّة.

و يقال لمن يعيّنه لخلافته عليهم بعده: وليّ عهده، و الوليّ هو الّذي يلي النصرة و المعونة و لفظة «إنّما» كلمة مخصّصة لما أثبت بعده و نافية لما لم يثبت؛ يقول القائل لغيره: إنّما لك عندي درهم فيكون مثل أن يقول له: ليس لك عندي إلّا درهم.

النزول: قال الطبرسيّ في المجمع: حدّثنا السيّد أبو الحامد مهديّ بن نزار الحسينيّ القائنيّ، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ، قال: حدّثني أبو الحسن محمّد بن القاسم الفقيه الصيد لأنّي، قال: أخبرنا أبو محمّد عبد اللّه بن محمّد الشعرانيّ قال:

حدّثنا أبو عليّ أحمد بن عليّ بن رزين البياشانيّ قال: حدّثنا المظفّر بن الحسني الأنصاريّ قال: حدّثنا السنديّ بن عليّ الورّاق قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحمانيّ عن قيس بن الربيع عن الأعمش عن عباية بن ربعيّ قال:

بينا عبد اللّه بن عبّاس جالس على شفير زمزم يقول: «قال رسول اللّه» إذ أقبل رجل متعمّم بعمامة فجعل ابن عبّاس لا يقول: «قال رسول اللّه» إلّا قال الرجل: «قال رسول اللّه» فقال ابن: عبّاس سألتك باللّه من أنت فكشف العمامة عن وجهه و قال: أيّها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدريّ أبو ذرّ الغفاريّ سمعت رسول اللّه بهاتين و إلّا صمّتا و رأيته بهاتين و إلّا عميتا يقول: عليّ قائد البررة و قاتل الكفرة؛ منصور من نصره و مخذول من خذله.

أما إنّي صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء فقال: اللّهم أشهدك أنّي سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئا و كان عليّ راكعا فأومأ بخنصره اليمنى إليه و كان يتختّم بها، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره و ذلك بعين رسول اللّه

ص: 41

فلمّا فرغ النبيّ من صلاته رفع رأسه إلى السماء فقال: اللّهم إنّ أخي موسى سألك فقال: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً» اللّهم و أنا محمّد نبيّك و صفيّك اللّهمّ فاشرح لي صدري و يسّر لي أمرى و اجعل لي وزيرا من أهلي عليّا اشدد به ظهري. قال أبو ذرّ: فو اللّه ما استتمّ كلامه حتّى نزل عليه جبرئيل من عند اللّه فقال:

يا محمّد اقرأ قال: و ما أقرء؟ قال: اقرأ: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ الآية» و روى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبيّ في تفسيره بهذا الإسناد بعينه.

و روى أبو بكر الرازيّ في كتاب أحكام القرآن على ما حكاه المغربيّ عنه و الرمّانيّ و الطبريّ أنّها نزلت في عليّ حين تصدّق بخاتمه و هو راكع، قاله مجاهد و السدّيّ و المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و جميع علماء أهل البيت و قال الكلبيّ:

نزلت في عبد اللّه بن سلام و أصحابه لمّا أسلموا فقطعت اليهود موالتهم نزلت الآية و في رواية عطا: قال عبد اللّه بن سلام: يا رسول اللّه أنا رأيت عليّا يتصدّق بخاتمة و هو راكع و نحن نتولّاه.

و قد رواه السيّد أبو الحامد عن أبي القاسم الحسكانيّ بالإسناد المتّصل المرفوع إلى أبي صالح عن ابن عبّاس قال: أقبل عبد اللّه سلام و معه نفر من قومه ممّن قد آمنوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا يا رسول اللّه إنّ منازلنا بعيدة و ليس لنا مجلس و لا متحدّث دون هذا المجلس و إنّ قومنا لمّا رأونا آمنّا باللّه و رسوله و صدّقناه رفضونا و آلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا و لا يناكحونا و لا يكلّمونا فشقّ ذلك علينا فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّما وليّكم اللّه و رسوله، الآية» ثمّ إنّ النبيّ خرج إلى المسجد و الناس بين قائم و راكع فبصر بسائل فقال صلّى اللّه عليه و آله: هل أعطاك أحد شيئا؟ فقال: نعم خاتم من فضّة فقال النبيّ: من أعطاكه؟ قال: ذلك القائم- و أشار بيده إلى عليّ- فقال النبيّ: على أيّ حال أعطاك؟ قال: أعطاني و هو راكع فكبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قرأ «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ».

ص: 42

و في حديث إبراهيم بن الحكم من ظهير ما يقرب هذا و لا حاجة إلى الإطالة.

المعنى: بيّن سبحانه بقوله: [إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ من له الولاية على الخلق و القيام بأمورهم و يجب طاعته عليهم فقال: وليّكم الّذي ينبغي أن يتولّى مصالحكم هو اللّه و رسوله يفعله بأمره [وَ الَّذِينَ آمَنُوا] ثم وصف الّذين آمنوا فقال: [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ] بشرائطها [وَ يُؤْتُونَ أي و يعطون [الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ أي في حال الركوع و قوله: «وَ هُمْ راكِعُونَ» لا يجوز جعله عطفا على ما تقدّم؛ لأنّ الصلاة قد تقدّمت و الصلاة مشتملة على الركوع فكانت إعادة ذكر الركوع تكرارا فوجب جعله حالا أي يؤتون الزكاة حال كونهم راكعين. و أجمعوا على أنّ إيتاء الزكاة حال الركوع لا يكون إلّا في حقّ عليّ و تظاهرت الروايات على أنّ الآية نزلت في حقّ عليّ.

و لفظ الوليّ في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر؛ لأنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامّة في كلّ المؤمنين بدليل أنّه تعالى ذكر بكلمة إنّما و كلمة إنّما للحصر لقوله: «إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ» و الولاية بمعنى النصرة عامّة لقوله: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» و هذا يوجب القطع بأنّ الولاية المذكورة في هذه الآية ليست بمعنى النصرة و كانت بمعنى التصرّف في الأمور فصار معنى الآية: إنّما المتصرّف في أموركم أيّها المؤمنون هو اللّه و رسوله و المؤمنون الموصوفون بالصفة الفلانيّة و يجب أن يكون الموصوف بهذه الصفة إمام الامّة و متصرّفا في كلّ الأمور؛ فثبت بهذه الآية إمامة شخص موصوف بهذه الصفة و قد تظاهرت الروايات على أنّ الآية نزلت في عليّ فكانت الآية مخصوصة به و دالّة على إمامته.

قال الطبرسيّ: و في الآية دلالة على أنّ الولاية مختصّة به عليه السلام قال سبحانه:

«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ» فخاطب جميع المؤمنين و دخل في الخطاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله و غيره ثمّ قال:

«وَ رَسُولُهُ» فأخرج النبيّ من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته ثمّ قال: «الَّذِينَ آمَنُوا» فوجب أن يكون الّذي خوطب بالآية غير الّذي جعلت له الولاية و إلّا أدّى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه و إلى أن يكون كلّ واحد من المؤمنين وليّ نفسه

ص: 43

و ذلك باطل، قاله الواحديّ: انتهى.

و استدلّ أهل العلم بهذه الآية على أنّ العمل القليل لا يقطع الصلاة، و أنّ دفع الصدقة الى السائل في الصلاة جائز مع نيّة القربة.

[وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ بالقيام بطاعته [وَ رَسُولَهُ باتّباع أو امره [وَ الَّذِينَ آمَنُوا] باتّخاذهم أولياء [فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ كأنّه قيل: و من يتولّ هؤلاء فهو حزب اللّه و جنده و حزب اللّه هم الغالبون. و إضافتهم إليه تعالى تشريف لهم و تعريض بأنّ من يوالي غير هؤلاء فإنّه حزب الشيطان. و الحزب: الطائفة يجتمعون لأمر.

روي أنّ اللّه تعالى شكا من هذه الامّة ليلة المعراج شكايات: منها: إنّي لم اكلّفهم عمل الغد و هم يطلبون منّي رزق الغد.

و منها: إنّي لا أرفع أرزاقهم إلى غيرهم و هم يرفعون عملهم إلى غيري.

و الثالثة أنّهم يأكلون رزقي و يشكرون غيري و يخونون معي و يصالحون خلقي.

و الرابعة أنّ العزّة لي و أنا المعزّ و هم يطلبون العزّة من سواي.

و الخامسة أنّي خلقت النار لكلّ كافر و هم يجتهدون أن يوقعوا أنفسهم فيها.

[سورة المائدة (5): الآيات 57 الى 58]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)

قوله تعالى:

نهى سبحانه بالنهي العامّ عن اتّخاذ الكفار أولياء. قرأ أبو عمرو و الكسائيّ الكفّار في الآية بالجرّ عطفا على قوله: «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» أي و من الكفّار و الباقون بالنصب عطفا على قوله: «الَّذِينَ اتَّخَذُوا» بتقدير و لا الكفّار.

النزول: قيل: كان رفاعة بن زيد و سويد بن الحرث أظهرا الإيمان ثمّ نافقا و كان رجال من المسلمين يوادّونهما فأنزل اللّه فيهم الآية. و هذه الآية تقضي امتياز أهل الكتاب عن الكفّار؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة و قوله: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» (1) صريح في كونهم كفّارا؛ و طريق التوفيق بينهما أنّ كفر المشركين

ص: 44


1- البينة: 1.

أعظم و أغلظ و لهذا تخصّصوا باسم الكفر.

[لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً] و معنى اتّخاذهم دين المسلمين مهزوءا به إظهارهم باللّسان مع الإصرار على الكفر بالقلب و قد رتّب النهي عن موالاتهم فإنّ من هذا شأنه ينبغي أن يعاديه لا أن يواليه.

قيل: كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة لتنفر الناس عنها و كان بعض الكفّار يقولون: يا محمّد لقد أبدعت شيئا لم يسمع فيما مضى فان كنت نبيّا فقد خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير؟ (1) فأنزل اللّه: «وَ إِذا نادَيْتُمْ الآية» و لمّا كان منادي رسول اللّه ينادي للصلاة و قيام المسلمون إليها قالت اليهود:

قاموا لا قاموا، صلّوا لا صلّوا على طريق الاستهزاء.

قوله: [مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني اليهود و النصارى [وَ الْكُفَّارَ] من سائر طبقات أهل الكفر [أَوْلِياءَ] أي أخلّاء و بطانة [وَ اتَّقُوا اللَّهَ في موالاتهم بعد النهي عنها [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بوعده و وعيده فكيف يرضى المؤمن موالاة من يطمع في الدين؟ بل لا بدّ و إن يكافيه بالمقت و العداوة.

[وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أي لو كان لهم عقل كامل لعلموا أنّ تعظيم الخالق المنعم و امتثال أوامره من أحسن الأعمال و أشرف الأفعال كما قيل: أشرف الحركات الصلاة و أنفع السكنات الصيام.

قال السدّيّ: كان رجل من النصارى بالمدينة و كلّما سمع المؤذّن ينادي أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه يقول: احرق الكاذب فدخلت خادمته بنار ذات ليلة فتطايرت شرارة منها في البيت فأحرقت البيت و احترق هو و أهله.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 59]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)

و لمّا حكى سبحانه عنهم أنّهم اتّخذوا دين الإسلام لعبا و هزوا قال سبحانه:

[قُلْ يا محمّد ما الّذي تنقمون من هذا الدين و تجدون فيه ممّا يوجب اتّخاذه هزوا؟

ص: 45


1- العير بالفتح فالسكون: الحمار الأهلي و الوحشي.

يقال: نقمت الشي ء إذا كرهته و أنكرته بكسر القاف و فتحها و الفصيح: الكسر.

النزول: روي أنّ نفرا من اليهود سألوا رسول اللّه عن دينه فقال صلى اللّه عليه و آله: أومن باللّه و ما انزل إلينا و ما انزل إلى إبراهيم و إسحاق و يعقوب و الأسباط و ما اوتي موسى و عيسى و ما اوتي النبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم و نحن له مسلمون فحين سمعوا ذكر عيسى قالوا: لا نعلم أهل دين أقلّ حظّا في الدنيا و الآخرة منكم و لا دينا شرّا من دينكم فأنزل اللّه هذه الآية بأن الإيمان باللّه و الإيمان بجميع الأنبياء ليس مما ينقم فلم تنقموه علينا؟ [وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف علىّ «أَنْ آمَنَّا» أي خارجون أنتم عن الدين لأنكم لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحّة كتابنا و ديننا لآمنتم به و إسناد الفسق إلى أكثرهم مع أن كلّهم فاسقون لأنّهم الحاملون لأعقابهم على التمرّد و الفساد (1) أو أنّ قليلا منهم آمنوا.

و اعلم أنّ قراءة العامّة: أنّ بفتح الألف. و قرأ نعيم بن ميسرة: «أن» بالكسر فقوله:

«أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ» يدلّ على سبيل التعريض إنّهم لم يتّبعوهم فكان المعنى: و ما تنقمون منّا إلّا أن آمنّا و ما فسقنا مثلكم أو يكون المراد أنّه لمّا ذكر تعالى ما ينقم اليهود عليمهم من الإيمان بجميع الرسل و ليس ذلك ممّا ينقم ذكر في مقابلته فسقهم و هو ممّا ينقم، و مثل هذا حسن في صنعة الازدواج كقول القائل: هل تنقم منّي إلّا أنّي عفيف و أنّك فاجر و أنّي فقير و أنّك غنيّ، و يحسن هذا المعنى على سبيل المقابلة. و يجوز أن يكون الواو بمعنى مع أي و ما تنقمون منّا إلّا الإيمان باللّه مع أنّ أكثركم فاسقون أو يكون التقدير: و ما تنقمون منّا إلّا بأن آمنّا باللّه و بسبب فسقكم نقمتم الإيمان علينا، و لأجل أنّ أكثركم فاسقون تنقمونا فيكون تعليل معطوف على تعليل محذوف، و يكون التقدير: و ما تنقمون منّا إلّا الإيمان لقلّة إنصافكم و لأجل أنّ أكثركم فاسقون، و المعاني كلّها متقاربة و حاصل التقادير أنّ السبب في نقمتكم إيّانا إيماننا و فسقكم.

ص: 46


1- فالاعقاب قبل انحرافهم عن الحق- بسبب إغواء سالفيهم إياهم- ليسوا بفاسقين، فهم الأقلّون في مقابل هذه الأكثرين الفاسقين. هذا و لا ريب ان الوجه الثاني اقرب.

[سورة المائدة (5): آية 60]

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)

قوله تعالى:

أمر سبحانه نبيّه أن يخاطب المستهزئين من اليهود و الكفّار فقال: [قُلْ يا محمّد:

[هَلْ أخبركم [بِشَرٍّ مِنْ أهل [ذلِكَ الدين و ممّا ينقم في إيماننا [مَثُوبَةً] أي ثوابا و جزاء و التقدير: إن كان ذلك عندكم شرّا فأنا أخبركم بشرّ منه عاقبة عند اللّه و لا بدّ من حذف المضاف فمعنى «بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ» أي بشرّ من أهل ذلك لأنّه قال: «مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ» و لا يقال: الملعون شرّ من ذلك الدين بل يقال: إنّه شرّ ممّن له ذلك الدين.

فإن قيل: فهذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوما عليهم بالشرّ و معلوم أنّه ليس كذلك. فالجواب أنّه إنّما خرج الكلام على حسب زعمهم و اعتقادهم فإنّهم حكموا بأنّ دينهم شرّ فقيل لهم: هب أنّ الأمر كذلك و لكن من لعنه اللّه و غضب و مسخه شرّ من ذلك كقوله: «وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (1) و مثوبة نصب على التمييز، و وزنها مفعلة مثل مقولة و هو بمعنى جزاء و قد جاءت مصادر على مفعول كالميسور.

فإن قيل: المثوبة مختصّة بالإحسان فكيف جاءت في الإساءة؟ فالجواب أنّه بطريق قوله: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»* (2) و مثل قولهم: تحسنه بينهم ضرب وجيع.

قوله: [مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ في محلّ الرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف فإنّه لمّا قال:

«هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ» فكأنّ قائلا قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لعنه اللّه؛ و نظيره قوله تعالى: قل: «أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ» (3) معناه هو النار فكذلك هنا و يجوز أن يكون في محلّ الخفض بدلا من شرّ و المعنى انبّئكم بمن لعنه اللّه [وَ غَضِبَ عَلَيْهِ بفسقه و كفره و المراد من غضبه عليه: أراده العقوبة به أو الاستخفاف بأن ضرب عليهم الذلّة و الجزية [وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ] أي مسخهم قردة و خنازير. قال

ص: 47


1- سبأ: 24.
2- التوبة: 34.
3- الحج: 72.

المفسّرون: يعنى بالقردة أصحاب السبت، و بالخنازير: كفّار مائدة عيسى. قال ابن عبّاس:

إنّ المسخين من أصحاب السبت لأنّ شبابهم مسخوا فردة و شيوخهم مسخوا خنازير.

[وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ قال الزّجاج: هو عطف نسق على «لعنه اللّه» أي من لعنة اللّه و من عبد الطاغوت. ذكر صاحب الكشّاف في قوله: «و عبد الطاغوت» أنواعا من القراآت و كذلك صاحب المجمع الطبرسيّ قال: قرأ حمزة: و عبد الطاغوت بضمّ الباء و جرّ التاء في طاغوت، و الباقون من القرّاء السبع و عبد الطاغوت بفتح الباء و نصب التاء. و قرأ أبيّ: و عبدوا الطاغوت. و قرأ ابن مسعود: و من عبدوا الطاغوت و عابد الطاغوت عطفا على القردة. و قرء: و عابدي الطاغوت. و قرء: و عبّاد الطاغوت. و رواية عكرمة عن ابن عبّاس:

و عبّد الطاغوت بتشديد الباء و فتح الدال و خفض التاء. و قرأ أبو جعفر الرواسيّ: و عبد الطاغوت على المجهول، و رواية علقمة عن ابن مسعود: و عبد الطاغوت على وزن صرد و المشهور منها: و عبد الطاغوت بفتح الباء و نصب التاء في الطاغوت. و قرء غير هذه القراآت لا حاجة في الإطالة بذكرها.

و في قوله: «وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ» احتجّت الأشاعرة بهذه الآية على أنّ الكفر بقضاء اللّه؛ قالوا: هو الّذي جعل فيهم تلك العبادة. لكنّ هذا القول بمعزل عن القبول و لا تعلّق لهم بهذه الآية بل معنى الآية حكم عليهم بذلك و وصفهم به مثل قوله:

«وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» (1) و لا شبهة في أنّه تعالى غير ظالم لعباده و أكثر ما تضمّنته الأخبار أنّ معنى جعل: خلق، أي خلق من يعبد الطاغوت و هو على قراءة حمزة و غيره ممّن قرأ عبادا و عباد و لا شبهة في أنّه خلق الكافر و أنّه لا خالق للكافر سواه غير أنّه لا يوجب أن يكون خلق كفره و جعله كافرا و ليس لهم أن يقولوا: إنّا نستفيد من قوله: و جعل منهم من عبد الطاغوت أنّه خلق ما به كان عابدا كما نستفيد من قوله: «وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ» أنّه جعل ما به كانوا كذلك بل لأنّ الدليل قد دلّ على أنّ ما به يكون القردة قردة و الخنزير خنزيرا لا يكون إلّا من فعل اللّه و ليس كذلك ما به يكون الكافر كافرا فإنّه قد ثبت أنّه سبحانه يتعالى عن ذلك فافترق الأمران ثمّ قال: [أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً] أي هؤلاء الّذين وصفهم اللّه باللّعنة و الغضب شرّ

ص: 48


1- الزخرف: 19.

مكانا لأنّ مكانهم سقر و لا شرّ في مكان المؤمنين و هذا نظير قوله: «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا» (1) [وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي هم أبعد من النجاة و الطريق المستقيم قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية عيّر المسلمون أهل الكتاب و قالوا: يا إخوان القردة و الخنازير فنكسوا رؤوسهم.

[سورة المائدة (5): الآيات 61 الى 63]

وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)

قوله تعالى:

النزول: نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على الرسول و يظهرون له الإيمان نفاقا فأخبره اللّه تعالى بشأنهم بأنّهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا لم يتعلّق بقلبهم شي ء من دلائلك و تذكيراتك و الباء في قوله: «دَخَلُوا بِالْكُفْرِ» و خرجوا به تفيد بقاء الكفر معهم حالتي الدخول و الخروج من غير نقصان و لا تغيّر فيه البتّة كما تقول: دخل زيد بثوبه و خرج به.

و الفائدة في ذكر كلمة «قد» تقريب الماضي من الحال و الفائدة في ذكر كلمة «هم» بيان إضافة الكفر إليهم و نفي أن يكون من النبيّ في ذلك فعل و لم يسمعوا منك يا محمّد عند جلوسهم معك ما يوجب كفرا بل هم الّذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم.

قالت المعتزلة: أنّه تعالى أضاف الكفر إليهم حالتي الدخول و الخروج على سبيل الذمّ و بالغ في تقرير تلك الإضافة بقوله: «وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ» فدلّ هذا على أنّه من العبد لا من اللّه قال الرازيّ: و الجواب المعارضة بالعلم و الداعي.

أقول: هذا الجواب منه أضعف من حجّة نحويّ؛ لأنّه من أين ثبت أنّ العلم من اللّه بكفرهم يوجب و يستلزم كفرهم؟ و من أين ثبت هذه الملازمة؟ فلو كان العلم مستلزما لوقوع الأمر فلا بدّ أن نقول: إنّ من يعلم أنّ زيدا يموت غدا أو يبرأ من مرضه فيقول:

إنّ زيدا هو الّذي أماته أو أبرأه من مرضه فلذلك علمه تعالى بحال خلقه. و أمّا مسألة الداعي فلو كان الداعي غير مقدور الترك فالأمر كذلك لكنّ الداعي مقدور الترك

ص: 49


1- الفرقان: 24.

فوجود الداعي غير مستلزم للفعل فلم يقع الملازمة و بقي الاختيار و بطل الجبر فتأمّل المعنى: أخبر اللّه عن هؤلاء المنافقين بقوله: [وَ إِذا جاؤُكُمْ أيّها المؤمنون [قالُوا آمَنَّا] أي صدقنا [وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي دخلوا و خرجوا كافرين و الكفر معهم في كلتا الحالتين. أكد الكلام بالضمير تمييزا لهم عن غيرهم بهذه الصفة [وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من نفاقهم إذ أظهروا بألسنتهم ما أضمروا خلافه في قلوبهم ثمّ بيّن اللّه خصالا أخر ذميمة فقال: [وَ تَرى يا محمّد [كَثِيراً مِنْهُمْ قيل: المراد بالكثير رؤساؤهم و علماؤهم [يُسارِعُونَ و يبادرون [فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ و الفرق بين الإثم و العدوان أنّ الإثم الجرم كائنا ما كان، و العدوان الظلم و قيل: الإثم: الكذب، و العدوان:

ما يتعدّى إلى الغير [وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام و الرشوة و قد مرّ تفسير السحت. (1) قال أهل المعاني: إنّ لفظ المسارعة يستعمل في أكثر الأمر في الخير فكان اللّائق بهذا الموضع لفظ العجلة لأنّها من الشيطان إلّا أنّه تعالى ذكر لفظ المسارعة لبيان أنّهم يقدمون على هذه المنكرات كأنّهم محقّون فيه ثمّ قال: [لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بئس العمل عملهم [لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ أي هلّا ينهاهم و الكناية في ضمير «هم» يعود إلى الكثير. قال الحسن: الربّانيّون علماء أهل الإنجيل، و الأحبار علماء أهل التوراة و النسبة إلى الربّ من حيث اتّصافهم و تخلّقهم بأخلاق اللّه كما تقول: روحانيّ بالنسبة إلى الروح و بحرانيّ بالنسبة إلى البحر؛ وبّخهم اللّه بتركهم النهي عن منكر قومهم [وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ و هو كلّ قول قالوه بخلاف الحقّ من الخرافات و غيرها أو قولهم: آمنّا و ليسوا بمؤمنين [وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام مع علمهم بقبحها [لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ هو أبلغ من قوله: لبئس ما كانوا يعملون لأنّ الصنع أقوى من العمل فإنّ العمل إنّما يسمّى صناعة إذا صار مستقرّا راسخا متمكّنا.

قال الحقّيّ: جعل سبحانه معصية من عمل الإثم و العدوان و أكل السحت ذنبا غير راسخ و ذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا. و في الآية ما ينبغي على بعض العلماء من توانيهم عن المنكرات ما لا يخفى قال أمير المؤمنين في النهج: لعن اللّه الآمرين

ص: 50


1- في ص: 21.

بالمعروف التاركين له و الناهين عن المنكر العاملين به. و قيل: إنّ اللّه لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة و لكن إذا أظهروا المعاصي فلم ينكروا استحقّ القوم جميعا للعقوبة. و لو لا حقيقة هذا الأمر في التوبيخ على العلماء و المشايخ في ترك النصيحة ثابتة لما اشتغل الأخصّون المخلصون بدعوة الخلق و تربيتهم فليكن المربّي متربّيا في الأمور، بصيرا بالطريق، لا أن يكون هو أضلّ من المهتدين و يحسب أنّه يحسن صنعا و هو من الأخسرين.

قال الطبرسيّ: و في هذه الآية دلالة على أنّ تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه بل أسوأ، و وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لأنّه تعالى ذمّ الفريقين في هذه الآية بلفظ بئس و لكن قال في المقدمين على الإثم: لبئس العمل عملهم و قال في التاركين: لبئس الصنع صنعهم و قد شرحنا الفرق بين العمل و الصنع قبل هذا.

[سورة المائدة (5): آية 64]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

قوله تعالى:

إنّ اللّه حكى عنهم أنّهم قالوا هذا الكلام الركيك الفاسد، و ترى اليهود أنّهم متّفقون على أنّا لا نقول ذلك و هو أصدق القائلين في كلّ ما أخبر عنه فكيف يكون هذا الإشكال؟ قال المفسّرون: إنّ اللّه قد بسط على اليهود حتّى كانوا أكثر الناس مالا و أخصبهم ناحية، فلمّا عصوا اللّه في أمر محمّد صلى اللّه عليه و آله و كذّبوه، كفّ اللّه عليهم ما بسط عليهم من السعة فقال عند ذلك فنحاص بن عازورا: يد اللّه مغلولة؛ قال أهل المعاني: إنّما قاله فنحاص و لم ينهه الآخرون فلمّا رضوا بقوله فأشركهم اللّه في ذلك، عن ابن عبّاس.

و قيل: معناه: يد اللّه مكفوفة عن عذابنا فليس يعذّبنا إنّ بما يبرّ به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل، عن الحسن. و قيل: إنّه استفهام و تقديره: أيد اللّه مغلولة عنّا حيث قتر المعيشة علينا؟

ص: 51

قال الرازيّ: لعلّ القوم إنّما قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنّهم لمّا سمعوا قوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً»* (1) قالوا: لو احتياج إلى القرض لكان فقيرا عاجزا و الإله الّذي يستقرض شيئا من عباده لا جرم مغلول اليدين ممسكة فحكى اللّه عنهم هذا الكلام.

و قال البلخيّ: و لعلّه كان فيهم من كان على مذهب الفلاسفة و هو أنّه موجب لذاته و أنّ حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلّا على نهج واحد و سنن واحد، و أنّه غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه الّتي عليها يقع؛ مثل قولهم: الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد، فعبّر اليهود عن عدم الاقتدار على التغيّر و التبديل بغلّ اليد. فثبت أنّ هذه الحكاية صحيحة على كلّ هذه الوجوه و غلّ اليد مجاز مشهور عن البخل و بسطها عن الجود و منه قوله تعالى: «وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ» (2) و السبب و العلاقة فيه أنّ اليد آلة لدفع المال فأطلقوا اسم السبب على المسبّب.

و قوله: [غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بعدم القدرة و المكنة علّمنا اللّه أن ندعو عليهم بهذا الدعاء، أي أمسكت أيديهم عن الإنفاق في الخير. و اليهود أبخل الناس و لا امّة أبخل منهم. و قال الحسن: هذا الكلام إخبار من اللّه أي غلّت أيديهم في نار جهنّم على الحقيقة و شدّت إلى أعناقهم جزاء لهم على هذا القول. و حذف فاء التعقيب مثل قوله: «وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً» (3) و لم يقل: فقالوا أ تتّخذنا هزوا، و الحذف لفائدة و هي أنّه لمّا حذف كان قوله: «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» كالكلام المبتدأ به و كون الكلام مبتدأ به يزيده قوّة و وثاقة؛ لأنّ الابتداء بالشي ء يدلّ على قوّة الاهتمام و الاعتناء بتقريره [وَ لُعِنُوا] أي ابعدوا من رحمة اللّه [ب] سبب [ما قالُوا] كلمة الشنعاء [بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أي ليس شأنه تعالى كما و صفتموه بل هو موصوف بغاية الجود و الإحسان، و هذا المعنى يستفاد من تثنية اليد؛ فإنّ غاية ما يبذله السخيّ من ماله أن يعطيه بيديه جميعا، و يد اللّه من المتشابهات و ليس المراد أنّ له عضوا

ص: 52


1- البقرة: 245.
2- الإسراء: 29.
3- البقرة: 67.

و يدا تعالى عن ذلك! بل هي صفة من صفاته كالسمع و البصر و الوجه. و يداه في الحقيقة عبارة عن صفاته الجماليّة و الجلاليّة. و في الحديث: كلتا يديه يمين [يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ] مختار في إيقاعه يوسّع تارة و يضيّق أخرى على حسب مشيّته و حكمته.

قال الرازيّ: و قالت المجسّمة في معنى يد اللّه: أنّها عضو جسمانيّ كما في حقّ كلّ أحد، و احتجّوا عليه بقوله تعالى: «أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» (1) وجه الاستدلال أنّه تعالى قدح في إلهيّة الأصنام لأجل أنّها ليس لها شي ء من هذه الأعضاء فلو لم يحصل للّه هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إلها و لمّا بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء، و قالوا أيضا: اسم اليد موضوع لهذه العضو فحمله على شي ء آخر ترك اللّغة و إنّه لا يجوز فالجواب في إبطال هذا القول السخيف مبنيّ على أنّه تعالى ليس بجسم و الدليل عليه أنّ الجسم لا ينفكّ عن الحركة و السكون و لأنّ كلّ جسم مؤلّف من الأجزاء و كلّ ما كان كذلك يكون قابلا للتركيب و الانحلال و مفتقر إلى ما يركّبه و يؤلّفه و كلّ ما كان كذلك فهو محدث و الحركة و السكون محدثان و ما لا ينفكّ عن المحدث فهو محدث فثبت أنّه يمتنع كونه جسما فيمتنع أن تكون يده عضوا جسمانيّا انتهى.

قال الطبرسيّ: و إنّما قال: يداه على التثنية في الآية مبالغة في معنى الجود و الإنعام لأنّ ذلك أبلغ من أن يقول: بل يده مبسوطة أو المراد باليد النعمة فيكون الوجه في تثنية النعمة أنّه أراد نعمة الدنيا و نعم الآخرة فمن حيث اختص كلّ منهما بصفة يخالف صفة الاخرى كأنّهما جنسان أو أريد بهما النعم الظاهرة و الباطنة.

قوله تعالى: [وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ و هم علماؤهم و رؤساؤهم و «كثيرا» مفعول أوّل ليزيدنّ [ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ و هو القرآن و ما فيه من الأحكام و هو فاعل يزيدنّ [طُغْياناً وَ كُفْراً] مفعول ثان للزيادة أي ليزيدنّهم طغيانا على طغيانهم و كفرا على كفرهم القديمين إمّا من حيث الشدّة و الغلوّ و إمّا من حيث الكمّ و الكثرة؛ إذ كلّما نزلت آية كفروا بها فيزدادوا في الطغيان و العناد كما أنّ الطعام الصالح للأصحّاء يزيد

ص: 53


1- الأعراف: 195.

المرضى مرضا [وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ أي بين اليهود فإنّ بعضهم جبريّة و بعضهم قدريّة و بعضهم مرجئة و بعضهم مشبّهة أمّا الجبريّة فهم الّذين ينسبون فعل العبد إلى اللّه و يقولون لا فعل للعبد أصلا و لا اختيار و حركته حركة الجمادات. و أمّا القدريّة فهم الّذين يزعمون أنّ كلّ عبد خالق لفعله و المرجئة هم الّذين لا يقطعون على أهل الكبائر بشي ء من العفو أو العقوبة بل يرجعون (1) في ذلك و يؤخّرونه إلى يوم القيامة و المشبّهة هم الّذين شبّهوا اللّه تعالى بالمخلوقات و مثّلوه بالمحدثات و قيل: المراد من قوله: و ألقينا بينهم أي بين اليهود و النصارى من العداوة لأنّه جرى ذكرهم في قوله: لا تتّخذوا اليهود و النصارى و هو قول الحسن و مجاهد. و كذلك بين فرق النصارى كالملكائيّة و النسطوريّة و اليعقوبيّة و معنى ألقينا أي خلّينا بينهم و بين اختياراتهم الفاسدة حيث لم يقبلوا الصلاح فوقعت [الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ] بينهم باستحقاقهم ذلك [إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ].

ثمّ قال سبحانه: [كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ و هذا شرح آخر من انواع محن اليهود و هو أنّهم كلّما همّوا بأمر من الأمور، رجعوا خائبين، مقهورين و كلّما قصدوا لحرب محمّد صلى اللّه عليه و آله، عن الحسن و مجاهد و في هذا دلالة و معجزة لأنّ اللّه أخبرهم فوافق خبره المخبر، و قد كانت اليهود أشدّ أهل الحجاز بأسا و أمنعهم دارا حتّى أنّ قريشا كانت تعضد بهم و الأوس و الخزرج لا يستبق إلى مخالفتهم و تتكثّر بنصرتهم فأبادهم اللّه و اجتثّ أصلهم و استأصل شافتهم فأجلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله بني النضير و بني قينقاع و قتل بني قريظة و شرد أهل خيبر و غلب على فدك و دان له أهل وادي القرى [وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً] أي ليس يحصل في أمرهم منفعة و قوّة إلّا أنّهم يسعون في الأرض بالفساد و ذلك بأن يتّخذوا عضوا ضعيفا و يستخرجوا نوعا من المكر و الكيد على سبيل الخفية قيل: أنّهم لمّا خالفوا حكم التوراة سلّط عليهم بخت نصّر ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم بطرس الروميّ ثم أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين [وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ و معلوم أنّ الساعي في الأرض بالفساد ممقوت عند اللّه.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 65 الى 66]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)

ص: 54


1- كذا في الأصل، و الظاهر: يرجؤون

لمّا بالغ في تهجين طريقتهم و ذمّهم بيّن أنّهم لو آمنوا و اتّقوا أي آمنوا بمحمّد و اتّقوا الكفر و المعاصي لوجدوا سعادات الآخرة و الدنيا، أمّا سعادات الآخرة محصورة في نوعين: رفع العقاب و الثاني إيصال الثواب؛ أمّا رفع العقاب فهو المراد بقوله:

«لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» و أمّا إيصال الثواب فهو المراد بقوله: «وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» أي ذوات النعمة قال الحقّي: و في الآية تنبيه على أنّ الإسلام يجبّ ما قبله و إن جلّ و أنّ الكتابيّ لا يدخل الجنّة ما لم يسلم.

قوله: [وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ] لمّا ذكر سبحانه أنّهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الآخرة بيّن في هذه الآية أنّهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الدنيا و وجدوا طيّباتها و خيراتها. و المراد من إقامة التوراة الّتي كلّفهم اللّه بها أن يعملوا بما فيها من أحكامها و ممّا يشتمل على الدلائل الدالّة على نبوّة محمّد و بعثته و قيل: المراد إقامة أحكامها و حدودها كما يقال: أقام الصلاة إذا قام بحقوقها و لا يقال لمن لم يوف بشرائطها أنّه أقامها أو المعنى:

أقاموها نصب أعينهم لئلّا يزلّوا في شي ء منها. و هذه المعاني متقاربة و يرجع إلى معنى واحد و أمّا قوله: [وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ قيل: المراد منه القرآن و كتب سائر الأنبياء مثل كتاب شعيا، و مثل كتاب حيقوق و كتاب دانيال و كلّ ما دلّ اللّه عليه من امور دينهم فإنّها مملوءة من البشارة بمقدم محمّد صلى اللّه عليه و آله [لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ بإرسال السماء عليهم مدرارا [وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ بإعطاء الأرض خيرها و بركتها، أو المراد لأكلوا أثمار النخيل و الأشجار من فوقهم و الزرع من تحت أرجلهم. و قيل: المعنى:

لتركوا في ديارهم و لم يجلوا من بلادهم و لم يقتلوا و كانوا يتمتّعون بأموالهم و ثمارهم و زروعهم. و إنّما خصّ الأكل لأنّ ذلك معظم الانتفاع و قيل معنى آخر في قوله:

«لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» و هو التوسعة كما يقال: فلان في النعمة و الخير من قرنه إلي قدمه أي يأتيه الخير من كلّ جهة يلتمسه منها. قال الرازيّ: إنّ اليهود لمّا أصرّوا على تكذيب محمّد صلى اللّه عليه و آله أصابهم القحط و الشدّة إلى حيث قالوا: «يَدُ اللَّهِ

ص: 55

مَغْلُولَةٌ» فاللّه تعالى بيّن أنّهم لو تركوا الكفر لا نقلب الأمر و حصل الخصب و السعة قوله: [مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ] أي من هؤلاء قوم معتدلون في العمل من غير غلوّ و لا تقصير و انحراف؛ يعرفون موضع مقصوده ليس بمتحيّر حتّى يذهب تارة يمينا و تارة شمالا قال أبو عليّ الجبّائيّ: هم الّذين أسلموا منهم مثل عبد اللّه بن سلام و أصحابه و بايعوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و هو المرويّ في تفسير أهل البيت. و قيل: يريد بهم النجاشيّ و أصحابه.

و قيل: إنّهم قوم لم يناصبوا النبيّ مناصبة هؤلاء. قال الطبرسيّ: و يحتمل أن يكون أراد بهم من يقرّ منهم بأنّ المسيح عبد اللّه و لا يدّعي فيه الإلهيّة و يكون عدلا في دينه و لو أنّه كان كافرا لكن لا يكون فيه غلظة كاملة و عناد [وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ و المراد الأخلاف المذمومون المبغوضون منهم. و في الآية معنى التعجّب كأنّه قيل: و كثير منهم ما أسوأ عملهم! و هم الّذين يقيمون على الكفر و الجحود بمحمّد صلى اللّه عليه و آله.

[سورة المائدة (5): آية 67]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)

قوله تعالى:

قرأ نافع رسالاته على الجمع و ابن عامر و أبو بكر بن عاصم أيضا على الجمع و الباقون على الإفراد. حجّة من قال بالجمع أنّه أنّ الرسل يبعثون بضروب من الرسالات و أحكام مختلفة في الشريعة و كلّ آية أنزلها اللّه على رسوله فهي رسالة فحسن لفظ الجمع. و أمّا من أفرد فقال: القرآن كلّه رسالة واحدة، و أيضا فإنّ لفظ الواحد قد يدلّ على الكثرة و إن لم يجمع كقوله: «وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» فوقع الاسم الواحد على الجمع و كذا هاهنا لفظ الرسالة و إن كان واحدا إلّا أنّ المراد هو الجمع.

و ذكر المفسّرون في سبب النزول وجوها، قال الحسن: إنّ اللّه بعث النبيّ صلى اللّه عليه و آله برسالته ضاق بها ذرعا و كان يهاب قريشا فأزال اللّه بهذه الآية تلك الهيبة عن قلبه. و ذكر الرازيّ في تفسيره عشرة وجوها إلى أن قال: العاشر: نزلت الآية في عليّ بن أبي طالب قال: و لمّا نزلت هذه الآية أخذ صلى اللّه عليه و آله بيد عليّ و قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهم و ال من والاه و عاد من عاداه فلقيه عمر فقال: هنيئا لك يا ابن أبي

ص: 56

طالب أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، قال الرازيّ: و هو قول ابن عبّاس و البراء بن عازب و محمّد بن عليّ، قال الرازيّ: و اعلم أنّ هذه الروايات و إن كثرت إلّا أنّ الأولى حمله على أنّه تعالى أمنه من مكر اليهود و النصارى و أمره بإظهار التبليغ من غير مبالات منه بهم و ذلك لأنّ ما قبل هذه الآية بكثير و ما بعدها بكثير لمّا كان كلاما مع اليهود و النصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه يكون أجنبيّة عمّا قبلها و ما بعدها، انتهى كلامه.

أقول: ما أبعد هذا الاستحسان الّذي استحسنه هذا الفاضل عن القبول! حيث يقول:

«لمّا كان ما قبل هذه الآية و ما بعدها كلاما مع اليهود و النصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّة» و الحال أنّ هذه نزلت في حجّة الوداع و قد كان أمره صلى اللّه عليه و آله قد تمّ مع اليهود و النصارى لا يهابهم أصلا بل كانوا جميعا يهابوه و كان يأخذ منهم الجزية، فلو كان خائفا من اليهود و النصارى و لم يك مأمونا منهم فكيف حملهم على الجزية و الذلّ و الاستصغار؟ فهذا الكلام من مثل هذا الفاضل بمعزل عن القبول، نعم كان صلى اللّه عليه و آله خائفا من التهمة من قومه حيث امر صلى اللّه عليه و آله بنصب عليّ بالخلافة و هو ابن عمّه أن يتّهموه في هذا الأمر بسبب القرابة و يعادوه و لم يقبلوا منه فوعده اللّه بالعصمة من كيد قومه.

و قال الطبرسيّ في المجمع: روى العيّاشيّ في تفسيره بإسناده عن ابن أبي عمير عن ابن اذينة عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه قال: أمر اللّه محمّدا أن ينصب عليّا للناس فيختبرهم بولايته فتخوّف رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أن يقولوا جافى ابن عمّه و أن يطعنوا في ذلك عليه فأوحى اللّه إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير. و هذا الخبر بعينه قد حدّثنا السعيد أبو الحامد أحمد بن محمّد عن الحاكم أبي القاسم الحسكانيّ بإسناده عن ابن أبي عمير في كتاب شواهد التنزيل في قواعد التفضيل، و فيه أيضا بالإسناد المرفوع إلى الحسّان بن عليّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: نزلت هذه الآية في عليّ فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بيده فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه.

ص: 57

و قد أورد هذا الخبر بعينه أبو إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم النخعيّ الثعلبيّ في تفسيره بإسناده مرفوعا إلى ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عليّ؛ امر النبيّ أن يبلّغ فيه فأخذ رسول اللّه بيد عليّ فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه. و قد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه أن اللّه أوحى إلى نبيّه أن يستخلف عليّا فكان يخاف أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل اللّه هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره اللّه بأدائه.

و المعنى: إن تركت تبليغ ما انزل إليك و كتمته كنت كأنّك لم تبلّغ شيئا من رسالات ربّك [فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي لم تكن ممتثلا للأمر [وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ و يمنعك من أن ينالوك بسوء [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ و معنى الهداية هنا أنّه سبحانه لا يهديهم بالمعونة و الألطاف إلى الكفر بل إنّما يهديهم إلى الإيمان أن يقبلوا لأنّ من هداه إلي غرضه فقد أعانه على بلوغه و هو سبحانه يتعالى عن ذلك، عن عليّ بن عيسى قال: و لا يجوز أن يكون المعنى: إنّ اللّه لا يهديهم إلى الإيمان بل أنّه هداهم إلى الإيمان بأنّ دلّهم عليه و رغّبهم فيه و حذّرهم من خلافه. و قيل: إنّ المعنى: لا يهديهم إلى الجنّة و الثواب، عن الجبّائيّ.

[سورة المائدة (5): آية 68]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)

قوله تعالى:

[قُلْ يا محمّد مخاطبا لليهود و النصارى: [لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ] أي دين يعتدّ به و يليق أن يسمّى شيئا لوضوح فساده، و ظهور بطلانه [حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ و من إقامتها الإذعان بحكمها و من حكمها الإيمان بمحمّد فإنّ الكتب الإلهيّة بأسرها آمرة بالإيمان بما صدّقته المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة. و المراد إقامة أصولها و ما لم ينسخ من فروعها [وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي الإيمان بالقرآن المجيد و نسب الإنزال إليهم لأنّهم كانوا يدّعون عدم نزوله إلى بني إسرائيل «وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ» و هم علماؤهم و رؤساؤهم [ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن [طُغْياناً وَ كُفْراً] طغيانهم و كفرهم و هذا

ص: 58

مذكور فيما قبل و التكرير للتأكيد، ثمّ قال سبحانه: [فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي لا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم فإنّ ضرر ذلك راجع إليهم أو لا تتأسّف بسبب نزول اللّعن و العذاب عليهم فإنّهم من الكافرين المستحقّين لذلك. قال ابن عبّاس: جاء جماعة من اليهود و قالوا: يا محمّد أ لست تقرأ أنّ التورية حق من اللّه؟ قال: بلى قالوا: فإنّا مؤمنون بها و لا نؤمن بغيرها فنزلت هذه الآية.

[سورة المائدة (5): آية 69]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

قوله تعالى:

و المراد من [الَّذِينَ آمَنُوا] في هذه الآية المنافقون قال الزجّاج: الّذين آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم [وَ الَّذِينَ هادُوا] أي دخلوا في اليهوديّة [النَّصارى جمع نصران معطوف على الّذين هادوا «وَ الصَّابِئُونَ» أي الّذين صبت و مالت قلوبهم إلى الجهل و الخروج من الدين قيل: هم صنف من النصارى يقال لهم الصائحون يحلقون أوساط رؤوسهم و قيل: هم الّذين يعبدون الكواكب.

و هاهنا مسألة و هي أنّ ظاهر الإعراب يقتضي أن يقال: و الصابئين و هكذا قرأ أبيّ بن كعب و ابن مسعود و ابن كثير، و للنحويّين في علّة القراءة المشهورة وجوه نذكر وجها منها و لا حاجة إلى الإطالة و هو الوجه الّذي ذهب إليه الخليل و سيبويه:

ارتفع الصابئون بالابتداء و هو محذوف الخبر و هو في التقدير: و الصابئون كذلك، و لم يعطفوا على ما قبله لفائدة في الكلام كانّه قيل: إنّ الّذين آمنوا اتّفاقا و الّذين هادوا و النصارى من آمن باللّه و اليوم الآخر و عمل صالحا فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون و الصابئون كذلك.

و الفائدة في عدم العطف أنّ الصابئين أشدّ الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالا فكأنّه قيل: كلّ هذه إن آمنوا بالعمل الصالح حقيقة قبل اللّه توبتهم و أزال ذنبهم حتّى الصابئين فإنّهم إن آمنوا كذلك لا خوف عليهم؛ و الخوف يتعلّق بالمستقبل و الحزن يتعلّق بالماضي، فلا خوف عليهم بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة و لا هم يحزنون بسبب ما فاتهم من طيّبات الدنيا لأنّهم وجدوا أعظم منها و أطيب.

ص: 59

مسألة قالت المعتزلة: إنّه تعالى شرط عدم الخوف و الحزن بالإيمان و العمل الصالح، و المشروط بشي ء عدم عند عدم الشرط، فلزم أنّ من لم يأت مع الإيمان و العمل الصالح؛ فإنّه يحصل له الخوف و الحزن و ذلك يمنع من العفو عن صاحب الكبيرة. و الجواب أنّ صاحب الكبيرة لا يقطع بأنّ اللّه يعفو عنه فكان الخوف و الحزن حاصلا قبل إظهار العفو. و الإيمان يدخل تحته أقسام و أشرفها الإيمان باللّه و معرفة الخالق؛ لأنّ أعظم المعارف شرفا معرفته و كمال معرفته إنّما يحصل بكونه قادرا على الحشر فلا جرم شرح سبحانه في الآية بقوله: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ».

[سورة المائدة (5): آية 70]

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)

قوله تعالى:

اللّام في «لقد» لام القسم أي باللّه قد أخذنا العهد من بنيّ إسرائيل يريد الأيمان المؤكّدة الّتي أخذها أنبياؤهم عليهم بالتوحيد و العمل بما أمر اللّه به و الإقرار ببعثة محمّد و نبوّته و البشارة بمقدمه و خلقنا الدلائل بالعقل الهادي إلى الاستدلال و المقصود من الآية بيان عتوّهم و تمرّدهم عن الوفاء بعهد اللّه و البيان متعلّق بما افتتح اللّه به السورة و هو قوله «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و وجه الاحتجاج عليهم بذلك و إن كان أخذ الميثاق على آبائهم أنّهم عرفوا ذلك في كتبهم و سمعوا بذلك و أقرّوا بصحّته في كتابهم فالحجّة لازمة لهم و عتب المخالفة يلحقهم كما يلحق آباءهم.

[وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ و لا يوافق مرادهم و ميلهم و الكلام جواب لسؤال محذوف كأنّه قيل: فماذا فعلوا بالرسل؟ فقيل:

«كُلَّما جاءَهُمْ» من أولئك الرسل بما يخالف هواهم من مشاقّ التكليف عصوه و عادوه و كأنّه قيل: كيف عصوهم؟ فقيل: [فَرِيقاً كَذَّبُوا] أي طائفة منهم كذّبوا الرسل من غير أن يتعرّضوا لهم بشي ء آخر من المضارّ [وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ أي و فريقا منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوا رسلهم أيضا مثل زكريّا و يحيى.

فإن قيل: لم عطف المستقبل على الماضي؟ ليدلّ على أنّ ذلك من شأنهم و عادتهم.

ص: 60

فإن قيل: أنّ الرسول الواحد لا يمكن أن يكونوا فريقين لكن قوله: «كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ» يدلّ على كثرة الرسل فصحّ جعلهم فريقين.

[سورة المائدة (5): آية 71]

وَ حَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)

أي و ظنّ اليهود أن لا يكون فيه عقوبة و أنّ اللّه لا يعذّب و الآية دالّة على أن عماهم و صممهم عن الهداية حصل مرّتين قيل: المراد بهاتين المرّتين أنّهم عموا و صمّوا في زمان زكريّا و يحيى و عيسى ثمّ تاب اللّه على بعضهم حيث أمّن بعضهم ثمّ عموا و صمّوا كثير منهم في زمان محمّد صلى اللّه عليه و آله بأن أنكروا رسالته. و قيل: عموا و صمّوا حين عبدوا العجل ثمّ تابوا عنه فتاب اللّه عليهم ثم عموا و صمّوا كثير منهم بالتعنّت و هو طلبهم رؤية اللّه و نزول الملائكة.

و قال المولى أبو السعود في تفسيره: المراد من المرّة الاولى حين خالف بنو إسرائيل أحكام التوراة و ركبوا المحارم، و قتلوا شعيا، و حسبوا أرميا ثمّ تاب اللّه عليهم حين تابوا و رجعوا عما كانوا عليه من الفساد و بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بخت نصّر سارى في غاية الذلّ و الوهن فوجّه اللّه ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس ليعمّره و ينجي بقايا بني إسرائيل من أسر بخت نصّر و ردّهم إلى وطنهم و تراجع من تفرّق منهم الأكناف، فعمّروا بيت المقدس في ثلاثين سنة فكثروا و حسنت أحوالهم كأحسن ما كانوا عليه [ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا] و هو إشارة إلى المرّة الاخرى من مرّتيهم و هو اجتراؤهم على قتل زكريّا و يحيى و قصدهم قتل عيسى [كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم وفق أعمالهم.

قيل: إنّ بني إسرائيل بعد أن عموا و صمّوا في المرّة الاولى و سلّط اللّه عليهم بخت نصّر فاستولى على بيت المقدس فقتل منهم أربعين ألفا ممّن يقرؤ التوراة أو أكثر و ذهب بالبقيّة إلى أرضه بالذلّة إلى أن أحدثوا توبة صحيحة، ثمّ عادوا مرّة ثانية إلى الفساد و قتلوا من الأنبياء بعد رجوعهم إلى أرضهم بيت المقدس، بعث اللّه عليهم الفرس فغزاهم ملك من ملوك الطوائف و فعل بهم ما فعل قيل: دخل صاحب الجيش مذبح قرا بينهم (1) فوجد فيه دما يغلي، فسألهم عن ذلك فقالوا: دم قربان لم يقبل منّا

ص: 61


1- جمع قربان: ما يتقرب به.

فقال: صاحب الجيش ما صدقتموني فقتل منهم الوفا ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا، فقالوا: إنّه دم يحيى فقال: بمثل هذا ينتقم اللّه منكم ثمّ قال: يا يحيى قد علم ربّي و ربّك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن اللّه قبل أن لا يبقى أحد منهم فهدأ. (1) و منشأ هذه الشقاوات كفرانهم نعم اللّه تعالى؛ حكي أنّ دانيال عليه السلام وجد خاتمه في عهد عمر بن الخطّاب و كان على فصّ خاتمه أسدان و بينهما رجل و الأسدان يلحسانه و ذلك أنّ بخت نصّر لمّا يتّبع الصبيان ليقتلهم فولد دانيال فألقته امّه في غيضة (2) رجاء أن ينجو فقبض اللّه أسدا يحفظه، و لبوة ترضعه و هما يلحسانه فلمّا كبر دانيال صوّر ذلك في خاتمه كي لا ينسي نعمة اللّه عليه. و العاقل لا بدّ و أن لا ينسي منعمه و يشكره دائما، نعم من انقطع إلى اللّه لقاه اللّه.

[سورة المائدة (5): الآيات 72 الى 74]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

قوله تعالى:

لمّا استقصى الكلام مع اليهود شرع هنا في الكلام مع النصارى فحكى سبحانه عن فريق منهم أنّهم قالوا: [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ و هذا هو قول اليعقوبيّة لأنّهم يقولون إنّ مريم ولدت إلها، و قال الرازيّ: و لعلّ هذا المذهب أنّهم يقولون: إنّ اللّه تعالى حلّ في ذات عيسى و اتّحد بذات عيسى. ثمّ حكى تعالى عن المسيح أنّه قال:

[يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ و هذا تنبيه على ما هو الحجّة القاطعة على فساد قولهم حيث لم يفرّق بين نفسه و بين غيره في أنّ دلائل الحدوث ظاهرة عليه و أقرّ على نفسه بالمربوبيّة. و نزلت الآية في نصارى نجران: السيّد و العاقب و من معهما.

ص: 62


1- هدا: سكن.
2- الفيضة: مجتمع الشجر.

ثمّ قال على لسان عيسى: [إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ] المعنى ظاهر أي إنّ الشان أنّ من يشرك شيئا في عبوديّته و ربوبيّته و ما يخصّ به تعالى من الصفات و الأفعال لن يدخل الجنّة أبدا فإنّها دار الموحّدين و مأوى المشرك النار، و ما للظالمين بالإشراك من أحد ينصرهم بإنقاذهم منها: إمّا بطريق المبالغة أو بطريق الشفاعة و هو من تمام كلام عيسى.

ثمّ حكى ما قاله النسطوريّة و الملكائيّة من النصارى فقال: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ] أي أحد ثلاثة آلهة و الإلهيّة مشتركة بينهم و هم اللّه و عيسى و مريم. و «ثلاثة» كسرت بالإضافة و لا يجوز نصبها لأنّ معناه: واحد ثلاثة لأنّهم قالوا إنّ اللّه و عيسى و مريم آلهة ثلاثة و الّذي يؤكّد ذلك قوله تعالى للمسيح: «أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» (1) فمعنى ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثة آلهة أو واحد من ثلاثة آلهة و الدليل على أنّ المراد ذلك قوله تعالى في الردّ عليهم: «وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ» فتقدير الآية: ثالث ثلاثة آلهة. و حذف ذكر الآلهة؛ لأنّ ذلك معلوم من سوق الكلام و من مذهبهم.

قال الواحديّ: و لا يكفر من يقول: إنّ اللّه ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة؛ فإنّه ما من شيئين إلّا و اللّه ثالثهما بالعلم لقوله: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ» (2) و المتكلّمون حكوا عن النصارى أنّهم يقولون:

جوهر واحد ثلاثة أقانيم أب و ابن و روح القدس و هذه الثلاثة إله واحد كما أنّ الشمس اسم يتناول القرص و الشعاع و الحرارة، و عنوا بالأب: الذات و بالابن: الكلمة و بالروح:

الحياة، و أثبتوا الذات و الكلمة و الحياة و قالوا: إنّ الكلمة الّتي هي كلام اللّه اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر و الماء باللّبن و زعموا أنّ الأب إله و الابن إله و الروح إله و الكلّ إله واحد، و هذا الكلام معلوم البطلان ببديهة العقل؛ فإنّ الثلاثة لا يكون

ص: 63


1- المائدة: 116.
2- المجادلة: 7.

واحدا و الواحد لا يكون ثلاثة، و لم يسمع كلام أظهر بطلانا من هذه المقالة.

[وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ] قيل: إنّ من زائدة و لكنّ الصحيح أنّها تفيد الاستغراق أي و الحال ليس في الوجود ذات مستحقّ للألوهيّة و العبادة من هذه الحقيقة إلّا فرد واحد متعالي عن قبول الشركة [وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ من قبيل هذه المقالة الفاسدة من التثليث و التشريك و أقاموا على هذا القول و الدين [لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] اللّام لام القسم أي و اللّه ليمسّنّهم و وضع الموصول موضع الضمير لتكرير الشهادة عليهم بالكفر و «من» في [مِنْهُمْ بيانيّة حال من «الَّذِينَ» و ذلك لأنّ بعضهم تابوا و رجعوا عن هذا القول و الدين [أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أمر بصورة الاستفهام و الاستفهام لإنكار الواقع و استبعاده لا لإنكار الوقوع، و تعجيب من بقائهم و إصرارهم على هذه الكلمة الشنيعة، أي أ يصرّون فلا يتوبون و يطلبون منه العفو عن هذا القبيح و ينزّهونه عن ما نسبوا إليه من الاتّحاد و الحلول و الحال أنّه تعالى يبالغ في المغفرة يغفر لهم عند استغفارهم؟

[سورة المائدة (5): الآيات 75 الى 77]

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)

قوله تعالى:

لمّا ذكر سبحانه في الآية السابقة مقالات النصارى عقّبه بالردّ عليهم و الحجاج لهم فقال: ليس المسيح إلّا رسول من جنس الّذين مضوا قبله جاء بآيات اللّه كما أتوا بأمثالها فإن كان اللّه أبرأ الأكمه و الأبرص و أحيا الموتى على يده فقد أحيا الخشب و جعلها حيّة تسعى و فلق البحر على يد موسى، و إن كان خلقه من غير أب و ذكر فقد خلق آدم من غير أب و أمّ فمن ادّعى له بالإلهيّة فهو كمن ادّعى لهم الإلهيّة لتساويهم في المنزلة.

[وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ] لأنّها صدّقت بآيات ربّها و بكلّ ما أخبر عنه ولدها بدلالة قوله تعالى: «وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها» (1) و قال سبحانه:

ص: 64


1- التحريم: 12.

«فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا» (1) فلمّا كلّمها جبرئيل و صدّقته وقع عليها اسم الصدّيقة و الحاصل ما امّه إلّا كسائر النساء اللّاتي يلازمن الصدق في الأقوال و الأفعال مع الخالق و الخلق [كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ أي هما يعيشان بالغذاء كما يعيش سائر الناس، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلّا أكل الطعام، عن ابن عبّاس. و قيل: المراد كناية عن قضاء الحاجة لأنّ من أكل الطعام لا بدّ له من الحدث، فذكر الأكل و أراد لازمه [انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الباهرة المنادية ببطلان ما تقوّلوا [ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن استماعها؟ و الإفك: الكذب و أصله الصرف و القلب، و الكذب قلب الصدق و «ثمّ» لإظهار ترتيب ما بين العجبين في التفاوت لإتياننا الآيات أمر بديع في بابه و إعراضهم عنها أعجب [قُلْ يا محمّد إلزاما لهم و من سلك مسلكهم من اتّخاذ غير اللّه إلها: [أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي متجاوزين إيّاه إلى [ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً] يعني عيسى و هو و إن ملك ذلك لكن لا يملكه من ذاته بل بتمليك اللّه، و لا يملك عيسى مثل ما يضرّ اللّه به من البلايا و المصائب و ما ينفع به من الصحّة و السعة.

و إنّما قال: «ما» مع أنّ أصله أن يطلق على غير العاقل، نظرا إلى ما هو عليه في ذاته فإنّه في أوّل أحواله لا يوصف بعقل و لا بشي ء من الفضائل فكيف يكون مثل هذا إلها؟ فإنّ مذهب النصارى أنّ اليهود صلبوه و مزّقوا أضلاعه بزعمهم و لمّا عطش و طلب الماء صبّوا الخلّ في منخريه و من كان في الضعف هكذا كيف يكون إلها؟ و إله العالم يجب أن يكون غنيّا عن كلّ ما سواه و يكون كلّ ما سواه محتاجا إليه؛ فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة اللّه لأنّ الإله لا يعبد شيئا، و لمّا عرف بالتواتر كونه مواظبا على العبادات علمنا أنّه إنّما كان بفعلها محتاجا في تحصيل المنافع و رفع المضارّ، و اليهود كانوا يعادونه و يقصدونه بالسوء فما قدر علي الإضرار بهم و الأنصار و أصحابه يحبّونه فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، فالعاجز عن الإضرار و النفع كيف يعقل أن يكون إلها؟ فكان عيسى عبدا كسائر العبيد و هذا هو عين الدليل الّذي حكاه اللّه عن إبراهيم حيث قال: لأبيه:

ص: 65


1- مريم: 17.

«لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً». (1) [وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ و المراد منه التهديد أي سميع بكفرهم عليم بضمائرهم [قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ أي غلوّا باطلا فترفّعوا عيسى إلى أن تدعوا له الألوهيّة! كما ادّعته النصارى، أو تضعوه فتزعموا أنّه لغير رشده و تنسبوه إلى الكذب و الزنى! كما زعمته اليهود و قوله: «غَيْرَ الْحَقِّ» صفة المصدر أي غلوا غير الحقّ [وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ الأهواء هاهنا المذاهب الّتي تدعو إليها الشهوة دون الحقّ و لا يستعمل الهوى إلّا في الشرّ؛ لا يقال: فلان يهوي الخير إنّما يقال: يريد الخير، و سمّي الهوى هوى لأنّه يهوي بصاحبه إلى النار؛ قال ابن عبّاس كلّ هوى ضلالة و عنى سبحانه بقوله: «قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ» رؤساء الضلالة من فريقي اليهود و النصارى. و الآية خطاب للّذين كانوا في عصر النبيّ صلى اللّه عليه و آله فيهووا أن يتّبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم و أن يقلّدوهم فيما هووا، و الاتّباع هو سلوك الثاني طريقة الأوّل على وجه الاقتداء به [وَ أَضَلُّوا كَثِيراً] يعني به هؤلاء الّذين ضلّوا عن الحقّ و غلوا في دينهم، أضلّوا كثيرا من أتباعهم [وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ و هو سبيل الإسلام بعد مبعثه صلى اللّه عليه و آله لمّا كذّبوه و حسدوه و بقوا على ضلالتهم جاحدين بنبوّته، و بقوا على زعمهم الفاسد في اعتقاد الألوهيّة في حقّ عيسى حيث نظروا بعقلهم الفاسد في أمره فوجدوه مولودا من أمّ بلا أب فحكم عقلهم أن لا يكون مولود بلا أب فينبغي أن يكون هو ابن اللّه، و استدلّوا على ذلك أيضا بأنّه يخلق من الطين كهيئة الطير، و يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيي الموتى، و يخبر عمّا يأكلون في بيوتهم و ما يدّخرون و هذه الأمور من صفات اللّه و لو لم يكن المسيح ابن اللّه لما أمكنه و إنّما أمكنه لأنّ الولد سر أبيه و بسبب هذه الاستحسانات و التخيّلات ضلّوا و أضلّوا و ما عرفوا أنّ الإنسان الكامل الّذي حمل أمانة الحقّ من بين سائر الخلق و عمل بمقتضى كماله و خصّه اللّه بالخلافة، و قوّمه بأحسن التقويم في قبول هذا الكمال صار قابلا لأن يصدر منه امور تدلّ على خلافته و خارقه عن عادات البشر بإذن اللّه تعالى و أمره فصورة الفعل تظهر منه لكنّ الفاعل هو اللّه و منشأ الصفة حضرة الإلهيّة

ص: 66


1- مريم: 42.

لا عيسى و لا موسى و هذا كما أنّ لكرة البلّور المخروط استعدادا في قبول فيض الشمس إذا كانت في محاذاتها فيقبل الفيض و يحرق المحلوج المحاذي لها بذلك الفيض فيصدر الفعل المحرق من الكرة بحسب الظاهر و منشأ الصفة المحرقيّة حضرة الشمس حقيقة فصار للكرة بحسن الاستعداد المجعول فيه قابليّة لفيض الشمس و ما حلّت الشمس في كرة البلّور و الشمس شمس و البلّور بلّور و كذلك حال الأنبياء في المعجزات.

[سورة المائدة (5): الآيات 78 الى 80]

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)

قوله تعالى:

أخبر سبحانه عمّا جرى على أسلافهم فقال: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» قال أكثر المفسّرين: المراد من الملعونين: أصحاب السبت و أصحاب المائدة و هو أنّ قوم داود و هم أهل أيلة؛ لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان، قال داود: اللّهم العنهم و اجعلهم آية.

فمسخوا قردة. و أمّا أصحاب المائدة فإنّهم لما أكلوا من المائدة و لم يؤمنوا قال عيسى:

اللّهمّ العنهم كما لعنت أصحاب السبت. فأصبحوا خنازير و كانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة و لا صبيّ. و قال ابن عبّاس: المراد في الزبور و في الإنجيل، فيكون المراد أنّ اللّه لعن في الزبور من يكفر من بني إسرائيل و في الإنجيل كذلك فلذلك قيل: على لسان داود و عيسى. و ثالث الأقوال أن يكون المعنى أنّ داود و عيسى علما أنّ محمّدا نبيّ مبعوث و لعنا من يكفر به، عن الزجّاج. قال الطبرسيّ: و القول الأوّل أصحّ.

[ذلِكَ إشارة إلى اللّعن المتقدّم ذكره [بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ بسبب عصيانهم و اعتدائهم حدود اللّه [كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ استيناف؛ أي لا ينهى بعضهم بعضا عن قبيح يعملونه و اصطلحوا على الكفّ عن نهي المنكر [لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ اللّام لام القسم تعجيب من سوء فعلهم مؤكّدا بالقسم. قال ابن عبّاس: كان بنو إسرائيل ثلاث فرق، فرقة اعتدوا في السبت و فرقة نهوهم و لكن لم يدعوا مجالستهم و لا مؤاكلتهم و فرقة ارتحلوا عنهم لمّا رأوهم يعتدون. و بقيت الفرقتان المعتدية و الناهية المخالطة فلعنوا جميعا،

ص: 67

و لذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لتأمرون بالمعروف و لتنهون عن المنكر و لتأخذنّ على السفيه و لتأطرنّه (؟) على الحقّ إطراء او ليضربنّ اللّه قلوب بعضكم على بعض و يلعنكم لعنهم. و إنّما سمّي القبيح منكرا لأنّه ينكره العقل من حيث إنّ العقل يقبل الحسن و يعترف به و لا يأباه و ينكر القبيح و يأباه. و قيل: المراد بالمنكر هنا صيدهم السماء يوم السبت و قيل: أخذهم الرشى في الأحكام أو أكلهم الرباء.

[تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي من اليهود [يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا] يريد كفّار مكّة عنه بذلك كعب بن الأشرف و أصحابه حين استجاشوا المشركين على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قيل أبو جعفر الباقر عليه السلام: يتولّون الملوك الجبّارين و يزيّنون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم [لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي بئس ما قدّمت أنفسهم لهم من العمل لمعاده في الآخرة [أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ هو المخصوص بالذمّ بتقديم المضاف أي موجب سخط اللّه و الخلود في العذاب لأنّ نفس السخط المضاف إلى لا يقال له أنّه المخصوص بالذّم إنّما المخصوص بالذمّ هو الأسباب الموجبة له قال ابو عبّاس و مجاهد و الحسن: إنّ هذه الآية في المنافقين من اليهود. و الضمير في قوله «وتره كَثِيراً مِنْهُمْ عائد إليهم، و يؤكّده ما بعد هذه الآية.

[سورة المائدة (5): آية 81]

وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)

قوله تعالى:

أي لو كانوا؛ أي الّذين يتولّون المشركين يصدّقون باللّه و النبيّ محمّد صلى اللّه عليه و آله و هم انزل إليه من القرآن و يعتقدون ذلك على الحقيقة كما يظهرونه [مَا اتَّخَذُوهُمْ يعنى الكافرين أولياء، عن ابن عبّاس و الحسن و المجاهد. و قيل: المراد بالنبيّ موسى و بمعنى انزل إليه التوراة فيكون المراد بهم اليهود الّذين جاهروا بالعداوة لرسول اللّه و التولّي للمشركين و يكون معنى الموالاة: النصر و المعاونة على معاداة محمّد أو الموالاة المصادفة و التحبّب على الحقيقة و تحريم ذلك مصرّح في شريعة ذلك النبيّ و في الكتاب المنزل إليه [وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الدين و الإيمان باللّه و نبيّهم و كتابهم فاتّخاذ الكفار و أعداء اللّه أولياء من أعظم المعاصي و المنكرات و موجب لسخط اللّه كما أنّ المداهنة مع أهل الفسوق كذلك و من موجبات لعنة اللّه، كما لعن اليهود على لسان داود؛ في الحديث: يحشر

ص: 68

يوم القيامة أناس من امّتي من قبورهم إلى المحشر على صورة القردة و الخنازير بما داهنوا أهل المعاصي و كفّوا عن نهيهم و هم يستطيعون.

[سورة المائدة (5): الآيات 82 الى 84]

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)

قوله تعالى:

شرح سبحانه معاداة اليهود للمسلمين فقال: «لَتَجِدَنَّ» الآية، فوصف اليهود و المشركين بأنّهم أشدّ الناس عداوة للمؤمنين، لأنّ اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين، مع أنّ المؤمنين يؤمنون بنبوّة موسى و التوراة الّتي أتى بها، فكان ينبغي أن يكونوا بمن وافقهم في الإيمان بنبيّهم و كتابهم أقرب، و إنّما فعلوا ذلك حسدا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم. و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: ما خلا يهوديّان بمسلم إلّا همّا بقتله.

ثمّ ذكر سبحانه أنّ النصارى ألين عريكة من اليهود، و أقرب إلى المسلمين.

قال ابن عبّاس و سعيد بن جبير و عطاء و السدّيّ: المراد من الآية النجاشيّ و قومه الّذين قدموا من الحبشة على الرسول و آمنوا به فقط، و لم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين؛ و قال آخرون: السبب أنّ مذهب اليهود يوجب عليهم إيصال الشرّ إلى من يخالفهم في دينهم بأيّ طريق كان؛ فإن قدروا على القتل فذاك، و إلّا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر و الكيد، و أمّا النصارى فليس مذهبهم ذاك، بل الإيذاء عندهم حرام، فهذا وجه التفاوت، و اللّام في قوله: «لتجدنّ» لام القسم، و التقدير:

قسما باللّه إنّك تجد اليهود و المشركين أشدّ الناس عداوة معك و المؤمنين، فلا تبال لكيدهم و مكرهم.

[وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى المراد من النصارى: النجاشيّ ملك الحبشة و الّذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب كما قاله ابن عبّاس و جماعة؛ و قال البغويّ: لم يرد به جميع النصارى، لأنّهم في عداوتهم للمسلمين

ص: 69

كاليهود في قتلهم المسلمين، و أسرهم، و تخريب بلادهم، و هدم مساجدهم- لا قوّة و لا كرامة لهم- بل الآية نزلت في طبقة مخصوصة ممّن أسلم منهم، و كان النجاشيّ نصرانيّا قبل ظهور الإسلام، ثمّ أسلم هو و أصحابه قبل الفتح، و مات قبله أيضا.

قال أهل التفسير: استمرّت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثب كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين، يؤذونهم و يعذّبونهم، فافتتن من افتتن: و عصم اللّه منهم من عصم، و منع اللّه رسوله بعمّه أبي طالب، فلمّا رأى رسول اللّه ما حلّ بأصحابه، و لم يقدر على منعهم، و لم يؤمر بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، و قال: إنّ بها ملكا صالحا لا يظلم و لا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتّى يجعل اللّه للمسلمين فرجا، فخرج إليها سرّا أحد عشر رجلا، و أربع نسوة، فخرجوا إلى البحر، و أخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار، و ذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه، و هذه هي الهجرة الاولى.

ثمّ خرج جعفر بن أبي طالب، و تتابع المسلمون إليها، فكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين و ثمانين رجلا سوى النساء و الصبيان، فلمّا علمت قريش بذلك وجّهوا عمرو بن العاص و صاحبه بالهدايا إلى النجاشيّ و بطارقته (1) ليردّوهم إليهم، فعصمهم اللّه، فلمّا انصرفا خائبين، و أقام المسلمون هناك بخير دار و حسن جوار، إلى أن هاجر رسول اللّه و علا أمره و ذلك في سنة ستّ من الهجرة. كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم إلى النجاشيّ على يد عمرو بن اميّة الضمريّ ليزوّج النبيّ امّ حبيبة (2) بنت أبي سفيان، و كانت قد هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها، فأرسل النجاشيّ إلى امّ حبيبة جارية يقال لها نزهة تخبرها بخطبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم إيّاها، و أمرها أن توكّل من يزوّجها، فوكّلت خالد بن سعيد بن العاص، فأنكحها على صداق أربعمائة دينار، و كان الخاطب لرسول اللّه النجاشيّ، ثمّ أمر الملك نساءه أن يبعثن إلى امّ حبيبة بما عندهنّ من عود و عنبر، و كان صلى اللّه عليه و آله و سلّم يراه عليها و عندها فلا ينكر.

ص: 70


1- جمع البطريق: القائد من قواد الروم.
2- المشهور أن اسمها رملة، و قيل: هند و ان رملة اسم أم سلمة.

قالت امّ حبيبة: فخرجنا في سفينتين، و بعث معنا النجاشيّ الملّاحين، فلمّا خرجنا من البحر و وردنا المدينة و رسول اللّه بخيبر و خرج من خرج إليه و أقمت بالمدينة حتّى قدم النبيّ فدخلت عليه، فكان صلى اللّه عليه و آله و سلم يسألني عن النجاشيّ؛ فشرحت له القصّة، فأنزل اللّه: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً» (1) و لمّا جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة برسول اللّه، قيل: ذاك الفحل لا يقرع أنفه، (2) ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: لا أدري أ بفتح خيبر أسرّ أم بقدوم جعفر؟.

و بعث النجاشيّ بعد قدوم جعفر إلى رسول اللّه ابنه أزهر في ستّين رجلا من الحبشة، و كتب إليه: يا رسول اللّه أشهد أنّك رسول اللّه صادقا مصدّقا و قد بايعتك و بايعت ابن عمّك و أسلمت للّه ربّ العالمين، و قد بعثت ابني أزهر، و إن شئت أن آتيك بنفسي فعلت، و السلام عليك يا رسول اللّه، فركبوا سفينة في أثر جعفر و أصحابه، فلمّا بلغوا أواسط البحر غرقوا، و كان جعفر يوم وصل المدينة وصل في سبعين رجلا، عليهم ثياب الصوف منهم اثنان و ستّون من الحبشة و ثمانية من أهل الشام، منهم بحيرا الراهب فقرأ عليهم رسول اللّه سورة: (يس) إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن فآمنوا و قالوا: ما أشبه هذا بما كان نزل على عيسى! فأنزل اللّه هذه الآية: «وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى فالمراد و قد النجاشيّ الّذين قدموا مع جعفر و هم السبعون، و كانوا أصحاب الصوامع. (3) [ذلِكَ أي كونهم أقرب مودّة للمؤمنين [بِأَنَّ مِنْهُمْ أي بسبب أنّ منهم [قِسِّيسِينَ و هم علماء النصارى و عبّادهم؛ و القسّيس: صيغة مبالغة من تقسّس الشي ء إذا تتبّعه و طلبه باللّيل، سمّوا به لمبالغتهم في تتبّع العلم؛ و القسّ في اللّغة: نشر الحديث و النميمة قاله الراغب، و قال قطرب: القسّيس بلغة الروم: العالم؛ و قال عروة بن الزبير: إنّ

ص: 71


1- الصف: 7.
2- قرع الشي ء: دقه و نقر عليه.
3- جمع الصومعة: جبل أو مكان يسكنه الراهب.

النصارى ضيّعت الإنجيل و أدخلوا فيه ما ليس فيه، و بقي من علمائهم واحد على الحقّ و الدين، و كان اسمه قسّيسا فمن كان على مذهبه و دينه فهو قسّيس. و رهبان:

جمع راهب، كراكب و ركبان، و الرهبانيّة مصدر و أصله من الرّهبة و المخافة، قال جرير:

رهبان مدين لو رأوك تنزّلواو العصم من شعف الجبال الشارد

و قيل: الرهبان يطلق على الواحد و الجمع:

لو عاينت رهبان دير في القلل لا نحدر الرهبان يمشي و نزل

و الترهّب التعبّد مع الرّهبة في صومعة، و التنكير لإفادة الكثرة، و لا بدّ من اعتبارها في القسّيسين، إذ هي الّتي تدلّ على مودّة جنس النصارى للمؤمنين، فإنّ اتّصاف أفراد كثيرة بالخصلة المعيّنة مظنّة الجنسيّة، و إلّا فمن اليهود أيضا قوم مهتدون، ألا ترى إلى عبد اللّه بن سلام (1) و أحزابه قال تعالى: «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ، وَ هُمْ يَسْجُدُونَ» الآيات؟ (2) لكنّهم لمّا لم يكونوا في الكثرة كالّذين في النّصارى لم يتعدّ حكمهم إلى جنس اليهود. قوله [وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عطف على قوله: «بِأَنَّ مِنْهُمْ» أي و بأنّهم لا يستكبرون عن قبول الحقّ إذا عرفوه، و يتواضعون و لا يتكبّرون كاليهود [وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ عطف على لا يستكبرون أي ذلك بسبب أنّهم لا يستكبرون، و بسبب أنّ أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا عند سماع القرآن، و الضمير في سمعوا راجع إلى الّذين آمنوا منهم، و المراد من «ما أُنْزِلَ» القرآن، و من «الرسول» محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم. قال ابن عبّاس: يريد النجاشيّ و أصحابه، و ذلك لأنّ جعفر الطيّار قرأ عليهم سورة مريم فأخذ النّجاشيّ تبنة من الأرض، و قال:

و اللّه، ما زاد على ما قال اللّه في الإنجيل مثل هذا، و ما زالوا يبكون حتّى فرغ جعفر

ص: 72


1- هو عبد اللّه بن سلام بن الحارث من أولاد يوسف النبي عليه السلام، حليف الخزرج، كان يهوديا عزيزا في قومه فأسلم، و استدعى رسول اللّه أن يسأل قومه عن مكانته عندهم فسألهم و اعترفوا بأنه عزيزهم و رئيسهم، فلما خرج عليهم من موقفه المستور عن أبصارهم و أظهر الإسلام قالوا: هو ذليلنا و ابن ذليلنا! مات سنة ثلاث و أربعين باتفاق أهل التاريخ على ما في الإصابة «ج 2: 313».
2- آل عمران: 113.

من القراءة، و قوله: [تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي تملأ بالدّمع، فاستعير له الفيض الّذي هو الانصباب من الامتلاء مبالغة، و «من» الاولى لابتداء الغاية، و التّقدير أنّ فيض الدّمع إنّما ابتداؤه من معرفة الحقّ و بسببه، و [مِنَ الثّانية لبيان الموصوف من قوله: [مِمَّا عَرَفُوا] [يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا] كأنّه قيل: ماذا يقولون عند سماع القرآن؟ فقيل:

يقولون: ربّنا آمنّا بهذا القرآن الّذي معنا، و شهدنا بأنّه حقّ [فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ و من جملة الّذين شهدوا بأنّه حقّ، و آمنوا به. يريد امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم لقوله: «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» (1) و المراد من الشاهدين بالتوحيد مع كلّ نبيّ، فاكتبنا معهم في أمّ الكتاب.

[وَ ما لَنا] أي أيّ شي ء حصل لنا، و لأيّ عذر [لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ ؟ و هذا جواب لمن قال لهم من قومهم تعنيفا لهم: لم آمنتم؟ عن الزّجّاج؛ و قيل: إنّهم قدّروا في أنفسهم، كأنّ سائلا سألهم عنه، فأجابوه بذلك [وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِ المراد: القرآن و الإسلام، و وصفه بالمجي ء مجاز، كما يقال: نزل، و إنّما نزل به الملك، و كذلك جاء به الملك، [وَ نَطْمَعُ أي و الحال نرجو و نؤمّل [أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا] في الجنّة لإيماننا بالحقّ، و حذف لدلالة الكلام عليه [مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ المؤمنين.

[سورة المائدة (5): الآيات 85 الى 86]

فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)

قوله تعالى:

أي جازاهم و أعطاهم بسبب ما قالوا عن اعتقادهم، لأنّ القول المجرّد عن الاعتقاد و التّوحيد غير نافع، و يدلّ على هذا المعنى قوله: [مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ فثبت أنّه ليس مجرّد القول، و قال ابن عبّاس: المراد بما قالوا: أي ما سألوا معنى قولهم:

[فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ و ذلك عن عقيدة و معرفة ثابتة [جَنَّاتٍ أي بساتين [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] أي من تحت أشجارها الأنهار و من مساكنها و غرفها الأنهار الأربعة:

الماء و العسل و الخمر و اللّبن [خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ و ذلك الجزاء للّذين

ص: 73


1- البقرة: 143.

أحسنوا النّظر و العمل، و اعتادوا الإحسان في الأمور [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] فماتوا على ذلك، و عطف التكذيب على الكفر مع أنّه ضرب من الكفر لما أنّ القصد بيان حال المكذّبين [أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أهل النار الشديدة الوقود، فقوله: [أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ليس خاليا عن إفادة الحصر و المصاحب للشي ء هو الملازم له، و يمكن تخصيص هذا الدّوام و الملازمة بالكفّار.

و لعلّ من أقوى الدّلائل على أنّ الخلود لا تحصل للمؤمن الفاسق، قوله تعالى:

[سورة المائدة (5): الآيات 87 الى 88]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

النزول: قال المفسّرون: جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم يوما، فذكّر للناس القيامة، فرقّ الناس و بكوا، و اجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحيّ، (1) و هم: عليّ عليه السلام و عبد اللّه بن مسعود و أبو ذرّ الغفاريّ و سالم مولى أبي حذيفة و عبد اللّه بن عمر و مقداد بن الأسود الكنديّ و سلمان الفارسيّ و معقل بن مقرن و أبو بكر، (2) و اتّفقوا على أن يصوموا النّهار، و يقوموا اللّيل، و لا يناموا على الفرش، و لا يأكلوا اللّحم و لا الودك (3) و يلبسوا المسوح، (4) و يرفضوا الدّنيا، و يسيحوا في الأرض،

ص: 74


1- من معاريف الصحابة، هاجر الى الحبشة مع ابنه: السائب الهجرة الاولى، و له منزلة عظيمة عند النبي صلى اللّه عليه و آله فانه لما توفى ابراهيم ابنه قال: الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون. مات في الثانية بعد ما شهد بدرا، و هو أول من مات من المهاجرين بالمدينة، و أول من دفن بالبقيع، ترجمه ابن حجر في الإصابة «ج 2: 457».
2- الظاهران عثمان كان داخلا فيهم و هو عاشرهم فان الإفراد المعدودة هنا لا يتجاوزون عن تسعة.
3- الودك بفتحتين الدسم من اللحم و الشحم.
4- ما يلبس من نسيج الشعر قهرا للجسد.

و همّ بعضهم أن يجبّ (1) مذاكيره، فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه، فقال لامرأته أمّ حكيم بنت أبي أميّة و اسمها حولاء و كانت عطّارة: أحقّ ما بلغني عن زوجك و أصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و كرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول اللّه إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللّه، فلمّا دخل عثمان أخبرته بذلك، فأتى رسول اللّه هو و أصحابه، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: ألم انبّئكم أنّكم اتّفقتم على كذا و كذا؟، قالوا: بلى يا رسول اللّه، و ما أردنا إلّا الخير فقال النّبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم: إنّي لم اومر بذلك، ثمّ قال: إنّ لأنفسكم عليكم حقّا، فصوموا و أفطروا و قوموا و ناموا فإنّي أقوم و أنام، و أصوم و أفطر و آكل اللّحم و الدسم، و آتي النساء، و من رغب عن سنّتي فليس منّي، ثمّ جمع النّاس و خطبهم، و قال: ما بال أقوام حرّموا النساء و الطعام الطيّب و النوم و شهوات الدنيا؟

أما إنّي لست أمركم أن تكونوا قسّيسين و رهبانا، فإنّه ليس من ديني ترك اللّحم و النّساء و لا اتّخاذ الصوامع، و إنّ سياحة امّتي الصوم، و رهبانيّتهم الجهاد، اعبدوا اللّه و لا تشركوا به شيئا و حجّوا، و اعتمروا، و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و صوموا رمضان و استقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم، فأولئك بقاياهم في الأديار (2) و الصوامع، فأنزل اللّه هذه الآية.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام (3) أنّه قال: نزلت في عليّ و بلال و عثمان بن مظعون، فأمّا عليّ، فانّه حلف أن لا ينام اللّيل أبدا إلّا ما شاء اللّه، و أمّا بلال، فإنّه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا، و أمّا عثمان بن مظعون، فإنّه حلف أن لا ينكح أبدا.

و وجه النّظم في الآية بهذا التّقرير: لأنّه تعالى لمّا مدح النصارى بأنّ منهم قسّيسين و رهبانا و كان عادتهم الاحتراز عن طيّبات الدّنيا و لذّاتها، و لمّا مدحهم أوهم

ص: 75


1- جب الشي ء يجبه: قطعه.
2- جميع الدير: مسكن الرهبان.
3- رواه عنه عليه السلام الطبرسي رحمه اللّه- في المجمع «ج 3: 236» و عن الطبرسي في البرهان «ج 1: 494» و روى على بن ابراهيم في تفسيره ص 166 مسندا رواية اخرى يقرب منه الا انه مذيل بذيل ليس في هذا الخبر.

ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل تلك الطّريقة فذكر سبحانه في هذه الآية إزالة ذلك التوهّم و أنّهم ليسوا مأمورين بذلك، فلو قيل: إنّ حبّ اللّذائذ مستول على الطباع فإذا توسّع الإنسان فيها يمنعه ذلك عن الاستغراق في العبادة و المعرفة، و إذا كان الأمر كذلك فما الحكمة في نهي اللّه عن الرهبانيّة؟ فالجواب أنّ الرهبانيّة و الاحتراز التّامّ المفرط عن الطيّبات ممّا يوقع الضعف في الأعضاء الرئيسة الّتي هي القلب و الدماغ فحينئذ تشوّش العقل، و اختلّت الفكرة، و ذلك يوجب النّقص في معرفة اللّه و العمل، فلا جرم وقع النّهي عنها، و الرهبانيّة الكاملة توجب خراب العالم، و انقطاع الحرث و النّسل، و ذلك يفضي إلى الفساد في الحكمة، لا سيّما في النّفوس الضّعيفة.

المعنى: قال سبحانه في أوّل السورة: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فقال في هذه: إنّه كما لا يجوز استحلال المحرّم كذلك لا يجوز تحريم المحلّل أي لا تعتقدوا تحريم ما أحلّ اللّه لكم، كما حرّمت العرب ما لم يحرّمه اللّه و هي البحيرة، و السائبة، و الوصيلة، و الحام، (1) و لا تجتنبوا من المحلّلات اجتنابا شبيها بالاجتناب من المحرّمات، و لا تجروها مجرى المحرّمات في شدّة الاجتناب و كذلك لا تلزموا تحريمها بنذر، أو عهد، أو يمين، و معنى الآية على جميع هذه الوجوه و المراد من الطيّبات في الآية اللّذائد؛ و قيل: الحلال [وَ لا تَعْتَدُوا] حدود اللّه و أحكامه و قيل: معنى «وَ لا تَعْتَدُوا» أي لا تجبّوا أنفسكم، فسمّي الخصاء اعتداء، عن ابن عبّاس و مجاهد و قتادة، و الأوّل أعمّ فائدة؛ و قيل: معناه:

و لا تسرفوا في الطيّبات، لأنّه لمّا أباح الطيّبات حرّم الإسراف فيها [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المجاوزين الحدّ [وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً] ظاهر الأمر للوجوب، إلّا أنّ المراد هاهنا الإباحة و التّحليل؛ و قوله: [حَلالًا طَيِّباً] يحتمل أن يكون متعلّقا بالأكل، و أن يكون متعلّقا بالمأكول، فعلى الأوّل يكون التقدير: كلوا حلالا طيّبا ممّا رزقكم اللّه، و على التقدير الثاني: كلوا من الرزق الّذي يكون موصوفا بالحلال و الطيّب.

ثمّ إنّه تعالى لم يقل: كلوا ما رزقكم و قال: كلوا ممّا رزقكم- و كلمة من

ص: 76


1- النساء: 164.

للتّبعيض- فكأنّه قال: اقتصروا في الأكل على بعض و اصرفوا البقيّة إلى الخيرات و الصدقات، و هو إرشاد إلى ترك السرف.

قالت المعتزلة: إنّ الرزق لا يكون إلّا حلالا؛ و قالت الأشاعرة: إنّ الرزق قد لا يكون حلالا، لأنّه خصّص بقوله: «حلالا» و لو كان الرزق كلّه حلالا لم يكن لهذا التّخصيص و التّقييد فائدة، و أجاب المعتزلة بأنّه، إنّما ذكر «حلالا» على وجه التّأكيد، كما قال: «وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» [وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ و هذا استدعاء إلى التّقوى بألطف الوجوه، و تقديره: أيّها المؤمنون باللّه، لا تضيّعوا إيمانكم بالتّقصير في التّقوى، فيكون عليكم الحسرة العظمى.

و في هاتين الآيتين دلالة على كراهة التفرّد و الخروج عمّا عليه المسلمون في التأهّل و عمارة الأرض و الزّواج؛ و قد روي: أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأكل الدّجاج.

و الفالوذج، و كان يعجبه الحلوا و العسل؛ و قال: إنّ المؤمن حلو يحبّ الحلاوة و قال:

إنّ في بطن المؤمن زاوية لا يملؤها إلّا الحلو، و روي: أنّ الحسن كان يأكل الفالودج فدخل عليه فرقد السبخيّ؛ فقال: يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال فرقد: لا آكله، و لا احبّ أكله، فأقبل الحسن على غيره كالمتعجّب؛ و قال: لعاب النّحل بلباب البرّ مع سمن البقر هل يعيبه مسلم؟ (1) و جاء رجل إلى الحسن بن عليّ عليهما السلام؛ فقال له: إنّ لي جارا، لا يأكل الفالودج؛ قال الحسن عليه السلام: و لم؟ قال: لئلّا يؤدّي شكره، قال عليه السلام: أ فيشرب الماء البارد؟ قال: نعم، قال: إنّ جارك هذا جاهل، أن نعمة اللّه عليه في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالودج، و سئل فضل بن عياض (2) عن

ص: 77


1- روى الطبرسي مرسلا في تفسيره «ج 3: 236» و روى على بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال، كان رسول اللّه يعجبه العسل، فروع الكافي «ج 2: 173» أقول: و انما تركنا ذكر جملة (عليه السلام) بعد لفظ (الحسن) في الرواية الاخيرة لما احتملناه من أن يكون (الحسن) في الحديث هو الحسن بن مهران الذي كان يجلس مع فرقد على المائدة على ذكره في الإصابة «ج 3: 198» و الاستيعاب «ج 3: 199» و كذا ذكره الطبرسي بدون الجملة.
2- هو فضل بن عياض بن مسعود التميمي، أصله من خراسان ترجمه النجاشيّ في رجاله ص 219 بصرى ثقة عامي، روى عن أبى عبد الله عليه السلام، و هو من مشاهير الزهاد، و له مواعظ و نصائح و مجالس مع الأمراء و كان موجها عند الرشيد مات ستة تسع و ثمانين و مائة على ما في توضيح المقال ص 242 قال: و قيل: مات قبلها و ترجمه الأردبيلي في جامع الرواة ج 2 ص 10

ترك الطيّبات من الجواري و اللّحم و الخبيص للزهد.

و قال لمن قال: لا آكل الخبيص: تأكل و تتّقي إنّ اللّه لا يكره أن تأكل الحلال الصرف، كيف برّك لوالديك؟ وصلتك للرّحم؟ كيف عطفك على الجار؟ كيف رحمتك للمؤمنين؟ كيف كظمك للغيظ؟ كيف عفوك عمن ظلمك؟ كيف إحسانك إلى من أساء إليك؟ كيف صبرك و احتمالك للأذى؟ أنت إلى أحكام هذه الأمور أحوج منك إلى ترك الخبيص و بالجملة فالاعتدال في الأمور و تناول الطعام حسن جدّا، و الزهد المشروع ممدوح جدّا، فلا تفريط و لا إفراط في كلّ باب؛ انظر إلى حديث النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم حيث قال في الحديث: إنّ في بطن المؤمن زاوية لا يملؤها إلّا الحلو، و لم يقل: إنّ في بطن المؤمن هاوية، فافهم راشدا إن شاء اللّه تعالى.

[سورة المائدة (5): آية 89]

لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

قوله تعالى:

قرأ ابن عامر: عاقدتم؛ و قرأ أهل الكوفة: عقدتم بالتّخفيف؛ و الباقون: عقّدتم بالتشديد، و اليمين تقوية أحد الطّرفين بالمقسم به.

النزول: قيل: لمّا نزلت [لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ قالوا: يا رسول اللّه فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل اللّه هذه الآية؛ و قيل: نزلت الآية في عبد اللّه بن رواحة، (1) كان عنده ضيف و أخّرت زوجته عشاه؛ فحلف أن لا يأكل من الطعام، و حلفت زوجته أن لا تأكل إن لم يأكل و حلف الضيف أن لا يأكل إن لم يأكلا فأكل عبد اللّه بن رواحة و أكلا معه فأخبر النبيّ بذلك فقال: له أحسنت؛ عن ابن زيد.

ص: 78


1- خزرجى انصارى شهد العقبة الثانية، و كان احد النقباء الاثنى عشر، و حضر المشاهد كلها الا الفتح و ما بعده لأنه قتل بمؤته سنة ثمانية، و كان يحسن الشعر في الإسلام و مدح النبي صلى اللّه عليه و آله و مما قال فيه: «لو لم تكن فيه آيات مبينةكان بديهة تنبيك بالخبر» و تصويب النبي صم حداءه للإبل معروف في باب الغناء من الفقه، ترجمه ابن حجر في الإصابة «ج 2: 298» و ابو عمرو في الاستيعاب «ج 3: 284».

و مضى الكلام في لغو اليمين و حكمه في سورة البقرة و لا كفّارة فيه عند أكثر المفسرين و الفقهاء إلّا ما روي عن إبراهيم النخعيّ أنّه قال: فيها الكفّارة [لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ إن جعلت ما موصولة، فمعناه، يؤاخذكم بالّذي عقدتم عليه الأيمان و إن جعلته مصدريّة، فمعناه: بعقدكم، أو بعقيدتكم الأيمان، أو بمعاقدتكم الأيمان. و المعاقدة أن يضمن الأمر ثمّ يحلف باللّه فيعقد عليه اليمين، و قيل: هو ما عقدت عليه قلبك، و تعمّدته [فَكَفَّارَتُهُ أى كفّارة ما عقدتم إذا حنثتم، و استغني عن ذكر الحنث للدّلالة، لأنّ الامّة قد أجمعت على أنّ الكفّارة لا تجب إلّا بعد الحنث، و معنى الكفّارة، الفعلة الّتي تذهب إثمه و تستره، [إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ و اختلف في مقدار ما يعطى كلّ مسكين، فقال الشافعيّ: مدّ؛ و قال أبو حنيفة: صاع من حنطة أو صاع من شعير أوتمر، و كذلك عندهم سائر الكفّارات قال الطبرسيّ: و قال أصحابنا: يعطى كلّ واحد مدّين، أو مدّ، و المدّ رطلان و ربع.

أقول: و لا يبعد أن يكون معنى المدّ ملأ الكفّين من الشي ء من امتداد الأصابع (1) المصطلح عندنا ب [الحفنة]؛ و لا يجوز أن يعطى خمسة ما يكفي عشرة فإن كان المساكين ذكورا و إناثا جاز ذلك، و لكن دفع بلفظ التذكير لأنّه غلب في كلام العرب [مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قيل: فيه قولان: أحدهما أن يكون المأكول متوسّطا، مثل أنّ الخبز و اللّحم لا شكّ في أنّه أعلى الخبز و الملح، و الأوسط يكون الخبز و السّمن أو الزيت. و الآخر أن يكون لحاظ الأوسطيّة في الأكل، لأنّ الأكل متفاوت أيضا فتعطيهم كما تعطي أهلك في العسر و اليسر [أَوْ كِسْوَتُهُمْ قال أصحابنا الإماميّة: «الكسوة» لكلّ واحد ثوبين: مئزرا و قميصا أو سربالا، و سروالا، و عند الضّرورة يجزي قميص واحد، و لعلّ المئزر الواحد لا يكفي، لأنّه لا يصدق عليه أنّه كساه، أو يكفي لأنّه

ص: 79


1- و يساعده اللغة؛ ففي مجمع البحرين: المد بضم الميم و التشديد مقدر بان يمد يديه فيملأ كفيه طعاما، و قال الجزري في النهاية: هو رطل و ثلث بالعراقي عند الشافعى و اهل الحجاز و هو رطلان عند ابو حنيفة و اهل العراق و قيل: إن اصل المد مقدر بان يمد الرجل يديه فيملأ كفيه طعاما، انتهى. أقول: و يمكن ان يكون هذا الأصل هو المنشأ لقول الشافعي فان المد على قوله يقرب من 91 مثقالا و ملؤ الكفين المعتدلين يبلغ هذا المقدار.

يصدق عليه أنّه غير عريان أو تحرير رقبة أي عتق رقبة عبد أو أمة؛ و الرقبة يعبّر بها عن جملة الشّخص، و هو كلّ رقبة سليمة من العاهات صغيرة كانت، أو كبيرة، مؤمنة كانت، أو كافرة، فإنّ اللّفظ مطلقة مبهمة إلّا أنّ الأفضل هو المؤمن. و هذه الثّلاثة واجبة على التخيير و معنى الواجب المخيّر أنّه بأيّ واحد من هذه الثلاثة شاء و أتى به خرج عن العهدة (1) قال الرازيّ: و من الفقهاء من قال: إنّ الواجب المخيّر، واحد لا بعينه، و هذا الكلام يحتمل وجهين: الأوّل أن يقال: الواجب عليه أن يدخل في الوجود واحدا من هذه الثلاثة لا بعينه؛ و هذا محال في العقول لأنّ الشي ء الّذي لا يكون معيّنا في نفسه، يكون ممتنع الوجود لذاته، و ما كان كذلك فإنّه لا يراد به التّكليف، الثّاني: أن يقال:

الواجب عليه واحد معيّن في نفسه و في علم اللّه إلّا أنّه مجهول العين عند العامل، و ذلك أيضا محال، لأنّ معنى كون ذلك الشي ء واجبا بعينه في علم اللّه هو أنّه لا يجوز تركه بحال، و قد أجمعت الامّة على أنّه يجوز له تركه بتقدير الإتيان بغيره [فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أي فمن لم يتمكّن إحدى الثلاث، فكفّارة حنث يمينه يكون صيام ثلاثة أيّام و «صيام» مرفوع بأنّه خبر المبتدأ، أو التقدير: فعليه صيام ثلاثة أيّام، فيكون صيام مبتدءا، و حدّ من ليس بواجد هو من ليس له ما يفضل عن قوته، و قوت عياله يومه و ليلته.

و اعلم أنّ اليمين على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يكون عقدها طاعة، و يكون حلّها معصية، و هذه تتعلّق بحنثها الكفّارة بلا خلاف، و هو كما لو قيل: و اللّه لا شربت الخمر، و الثاني أن يكون عقدها معصية، و حلّها طاعة كما يقال: و اللّه لا صلّيت، و هذا لا كفّارة في حنثه عند الإماميّة، و خالف ساير الفقهاء في ذلك، و الثالث أن يكون عقدها مباحا و حلّها مباحا كما يقال: و اللّه لا لبست هذا الثوب، و هذه تتعلق بحنثه الكفّارة بلا خلاف

ص: 80


1- اختلفوا في معنى الوجوب التخييري على اقوال ستة؛ وجه الاختلاف هو ان الحكم فيه واحد و الحكم الواحد له موضوع واحد ايضا و حيث ان الإفراد التي يمكن إسقاط التكليف بها تكون اكثر من واحد اضطربت آراؤهم في تعيين ما هو المتعلق في الحقيقة لهذا الحكم. و ما ذكره المصنف قدس سره هو نتيجة الجميع لا انه قول من الأقوال، نعم ما نقله عن الرازي هو قول منها.

أيضا [ذلِكَ إشارة الى ما تقدّم من الكفّارات [كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أي إذا حلفتم و أحنثتم، لأنّ الكفّارة لا تجب بنفس اليمين، و إنّما تجب باليمين و الحنث [وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ قيل: أى احفظوا أيمانكم عن الحنث و لا تحنثوا؛ (1) و قال ابن عبّاس: معناه: لا تحلفوا، و في الآية دلالة على أنّ اليمين في المعصية لا تنعقد، لأنّها، لو انعقدت للزم حفظها، و إذا كانت لا تنعقد فلا يلزم فيها الكفّارة [كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي كما بيّن أمر الكفارة فجميع الأحكام يبيّن اللّه آياته و فروضه لتشكروه على تبيينه لكم أموركم و نعمته عليكم.

[سورة المائدة (5): الآيات 90 الى 91]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

قوله تعالى:

الخمر: عصير العنب المشتدّ الّذي يسكر كثيره و سمّي خمرا، لأنّها بالسكّر تغطي على العقل بمنزلة الخمار، (2) من قولهم: خمرت الإناء إذا أغطيته، و فلان دخل في خمار النّاس إذا خفي في ما بينهم و الميسر: القمار بأقسامه، من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار فيه، و أصله من اليسر خلاف العسر، و سمّيت يد اليسرى، تفؤّلا بتيسّر العمل بها، أو لأنّها تعين اليد اليمنى فيكون العمل أيسر. و الأنصاب: الأصنام؛ و سمّيت بذلك لأنّها كانت ينصب للعبادة لها و الانتصاب: القيام؛ و منه النصب بمعنى التّعب بسبب العمل الّذي ينتصب له، و مناصبة العدوّ: الانتصاب و القيام لعباته، قال الأعشى:

و ذا النصب المنصوب لا تنسكنّه و لا تعبد الشيطان و اللّه فاعبدا

و الأزلام: القداح، و هي سهام، كانوا يجيلونها (3) مكتوب على بعضها: أمرني

ص: 81


1- اختاره الطبرسي تبعا للجبائى و هو الأوفق بالقواعد اللفظية حيث ان الحفظ في الآية حكم محمول على الايمان و الايمان هو الموضوع و لا بد من ثبوت الموضوع بوجه ما حتى يصح الحمل كما لا يخفى.
2- ما يغطى الوجه.
3- اجال الشي ء: اداره.

ربّي، و على بعضها: نهاني ربّي يطلبون بها على ما قسّم من الخير و الشرّ، و كان أهل الجاهليّة إذا أراد أحدهم سفرا أو تجارة أو غزوا أو غير ذلك، طلب علم أنّه خير أو شرّ من الأزلام و هي قداح كانت في الكعبة عند سدنة البيت، على بعضها: أمرنى ربّي و على بعضها: نهاني ربّى و بعضها غفل لا كتابة عليها و لا علامة، فإن خرج السهم الآمر مضوا، و إن خرج الناهي يجتنبون عنه، و إن خرج الغفل أجالوها ثانية.

و قداح يقتسمون الجزور و هي عشرة هي: قد، و قوام، و رقيب و هو من أقسام القمار كاللّاتري.

المعنى: نهى اللّه سبحانه عن امور كان أهل الجاهليّة يرتكبونها، فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ قال ابن عبّاس: يريد بالخمر جمع الأشربة الّتي تسكر، و كانوا يتّخذونها من العسل و من العنب و الزبيب و من التمر و من الحنطة و الذرّة و الشعير، و غيرها [رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ و الرجس بمعنى النجس، إلّا أنّ النجس يقال في المستقذر طبعا، و الرّجس أكثر ما يقال في المستقذر عقلا، و سمّيت هذه الأمور رجسا، لوجوب اجتنابها كما يجب اجتناب الشي ء المستقذر [مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ صفة لرجس، أى رجس كائن من عمله، لأنّه هو الدّاعي و المرغّب إليه، و المزيّن له في قلوب فاعليه [فَاجْتَنِبُوهُ أى الرجس و كونوا على جانب و ناحية منه [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفوزوا بالثوّاب؛ قال الطبرسيّ: و في هذه الآية دلالة على تحريم الخمر، و هذه الأشياء المذكورة من أربعة أوجه: أحدها أنّه وصفها بالرّجس و هو النّجس و النّجس محرّم بلا خلاف و الثاني أنّه نسبها إلى عمل الشّيطان، و ذلك يوجب تحريمها؛ و الثالث أنّه أمر باجتنابها و الأمر يقتضى الإيجاب؛ و الرّابع أنّه جعل الفوز و الفلاح في اجتنابها؛ و يجوز أن يكون الهاء في قوله «فَاجْتَنِبُوهُ» راجعة إلى عمل الشيطان، و تقديره: فاجتنبوا عمل الشيطان؛ قال الباقر عليه السلام: مدمن الخمر كعابد الوثن (1) و في هذا دلالة على تحريم سائر التصرّفات في

ص: 82


1- رواه في فروع الكافي «ج 2: 182» عن ابى على الأشعري عن محمد بن حسان عن محمد بن على عن ابى جميله و زرارة ايضا و محمد بن أعين عنهما عليه السلام و بطرق أخر عن ابى عبد اللّه عليه السلام. و المد من هو الذي إذا وجد المسكر شربه على ما في رواية نعيم البصري عن الصادق عليه السلام.

في الخمر من الشرب و البيع و الشّراء، و الاستعمال على جميع الوجوه، و في الحديث:

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الإسراء: أوّل ما نهاني بعد عبادة الأوثان شرب الخمر. و الخطاب لأمّته، و إن كان المخاطب هو النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم مثل قوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (1) ثمّ بيّن سبحانه سبب النهي فقال. [إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ] قال ابن عبّاس: نزلت في سعد بن أبي وقّاص و رجل كان من الأنصار مؤاخيا لسعد فدعاه إلى الطّعام فأكلوا و شربوا نبيذا فوقع بين الأنصاريّ و سعد مراء و مفاخرة فأخذ الأنصاريّ لحي (2) جمل فضربه سعدا ففزر (3) أنفه، فأنزل اللّه تعالى ذلك فيما.

و المعنى: يريد الشّيطان إيقاع العداوة بينكم بالإغواء المزيّن لكم، حتّى إذا سكرتم زالت عقولكم و أقدمتم من القبائح من الأمور الّتي يمنعكم عقولكم ارتكابها.

قال قتادة: كان الرجل منهم يقامر في ماله و أهله فيقمر (4) و يبقى حزينا، سليبا نادما، فيكسبه ذلك العداوة و البغضاء [وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ و قوله: «فِي الْخَمْرِ» متعلّق بيوقع، على أن يكون كلمة «في» هنا لإفادة معنى السببيّة، كما في قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة أي بسبب هرّة [وَ عَنِ الصَّلاةِ] أي يمنعكم عن الذّكر للّه بالتّعظيم، و عن الصلاة الّتي هي قوام دينكم، فإنّ المخمور مع حالة نشاطه و سكره كيف يشتغل بالعبادة و الذّكر؟ و كذلك المقامر فإن صار غالبا فصار استغراقه في لذّة الغلبة فتورثه الغفلة عن العبادة، و إن صار مغلوبا صار شدّة اهتمامه بأن يحتال بحيلة يصير بها غالبا فحينئذ لا يخطر بباله شي ء سواه [فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ صيغة الاستفهام، و معناه النّهي، و إنّما جاز في صيغة الاستفهام أن يكون على معنى النّهي، لأنّ اللّه ذمّ هذه الأفعال و أظهر قبحها، و إذا ظهر قبح الفعل للمخاطب ثمّ استفهم عن تركه لم يسعه إلّا الإقرار بالتّرك، فكان هذا أبلغ في باب النّهي من أن يقال: انتهوا، و نزلت آية

ص: 83


1- الزمر: 65.
2- اللحى- بالفتح فالسكون-: عظم الحنك الذي عليه الأسنان.
3- فزر الشي ء: شقه و كسره.
4- بالبناء على المفعول اى يصير مغلوبا.

التّحريم في سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة احد.

[سورة المائدة (5): آية 92]

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)

قوله تعالى:

لمّا أمر اللّه باجتناب هذه الأمور عقّبه بالأمر بالطاعة له فيها و في غيرها فقال:

[وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ و الطاعة هي امتثال الأمر، و الانتهاء عن المنهيّ عنه، و لذلك يصحّ أن يكون الطاعة طاعة لاثنين، بأن يوافق أمرهما و إرادتهما [وَ احْذَرُوا] المناهي، قال عطاء: يريد: و احذروا سخطي. و الحذر امتناع القادر من الشي ء لما فيه من الضرر [فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم و لم تعملوا بما أمرتم به [فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ معناه: الوعيد و التّهديد، كأنّه قال سبحانه: فاعلموا أنّكم قد استحققتم العقاب لتولّيكم عمّا أدّوا رسلنا إليكم من البلاغ الظاهر الواضح، و «ما» في قوله:

«أنّما» كافّة لأنّ عن عملها.

و اعلم أنّ اللّه تعالى قرن الخمر و الميسر بالأصنام، ففيه تحريم بليغ لهما و أيضا التعبير بالرجس بمعنى اللّعنة و العذاب دليل على الحرمة؛ «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» (1) و لعلّ قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: شارب الخمر كعابد الوثن مستفاد من هذه الآية، و في الحديث: من شرب الخمر في الدنيا سقاه اللّه من سمّ الأساود و سمّ العقارب، إذا شربه تساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها، فإذا شربها تفسخ لحمه كالجيفة يتأذّى به أهل الموقف، و من مات قبل أن يتوب من شرب الخمر كان حقّا على اللّه أن يسقيه بكلّ جرعة شربها في الدنيا شربة من صديد جهنّم. و في الحديث: لعن اللّه الخمر و شاربها و ساقيها، و بائعها، و مبتاعها، و عاصرها، و حاملها، و المحمولة إليه و آكل ثمنها.

و في الحديث: من شرب الخمر بعد أن حرّمها اللّه على لساني فليس له أن يزوّج إذا خطب، و لا يصدّق إذا حدّث، و لا يشفّع إذا تشفّع، و لا يؤتمن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة، فاستهلكها فحقّ على اللّه أن لا يخلف عليه. قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الخمر امّ الخبائث، و ذلك لأنّها تهيّج الصفات الخبيثة في النفس؛ مثل الحرص و الكبر، و الغضب و العداوة،

ص: 84


1- البقرة: 249.

و الحقد، و الحسد، و بها يضلّ العبد عن سواء السبيل و أمّا الأنصاب فهي تعبد من دون اللّه، فهي تجعل العبد مشركا باللّه، و أمّا الأزلام و الالتفات إليها عند توقّع الخير و الشرّ و النفع و الضرّ من دون اللّه من المضلّات و الفتن فإنّ اللّه هو الضارّ و النافع.

فهذه الأربعة متقاربة في القبح و المفسدة.

[سورة المائدة (5): آية 93]

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

قوله تعالى:

قال ابن عبّاس و جماعة مثل أنس بن مالك و البراء بن عازب: إنّه لمّا نزلت التحريم في الخمر و الميسر، قالت الصحابة: يا رسول اللّه ما تقول في إخواننا الّذين مضوا و هم يشربون الخمور، و يأكلون الميسر؟ فنزلت هذه الآية؛ و قيل: إنّها نزلت في القوم الّذين حرموا على أنفسهم اللّحوم، و سلكوا مسلك الترهّب فبيّن اللّه لهم أنّه لا جناح في تناول المباح مع اجتناب المحرّمات فقال: [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي إثم و حرج [فِيما طَعِمُوا] أي تناولوا، و الطّعام في الأغلب من اللّغة خلاف الشّراب، فكذلك يجب أن يكون الطعم خلاف الشّرب، إلّا أنّ اسم الطّعام قد يقع و يستعمل على المشروب، كما قال تعالى: «وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» فعلى هذا يصحّ أن يكون قوله: «فِيما طَعِمُوا» أى شربوا الخمر، و يجوز أن يكون معنى الطعم راجعا إلى التلذّذ بما يؤكل و يشرب؛ قالت العرب: «تطعّم تطعم» أي ذق حتّى تشتهي (1) فإذا كان معنى الكلمة راجعا إلى الذوق صلح للمأكول و المشروب معا.

و هاهنا مسألة، و هي أنّه زعم بعض الجهّال أنّه تعالى، لمّا بيّن في الخمر أنّها محرّمة عند ما تكون موقعة للعداوة و البغضاء و صادّة عن ذكر اللّه و عن الصلاة بيّن في هذه الآية أنّه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شي ء من تلك المفاسد، بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة و التقوى و الإحسان، ثمّ بجهلهم، قالوا: و لا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التّحريم لأنّه لو كان المراد ذلك لقال:

ص: 85


1- في الأساس: ذق تشته، و هو الصحيح.

ما كان جناح على الّذين طعموا كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة فقال: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» (1) و لكنّه لم يقل ذلك، بل قال: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا» و لا شكّ أنّ «إذا» للمستقبل لا للماضي انتهى كلامهم؛ فأمّا الجواب، قال أبو بكر الأصمّ: إنّه لمّا نزلت آية تحريم الخمر قال بعض الأصحاب: يا رسول اللّه كيف بإخواننا الّذين ماتوا و قد شربوا الخمر و فعلوا القمار؟ و كيف بالغائبين عنّا في البلدان و لا يشعرون بعد بأنّ اللّه حرّم الخمر، و هم يطعمونها؟ فأنزل اللّه هذه الآية، و على هذا التّقدير فالحمل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول الآية، لكن في حقّ الغائبين الّذين لم يبلغهم النّصّ انتهى.

رجعنا إلى تفسير الآية: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات إثم [فِيما طَعِمُوا] و في تفسير أهل البيت: فيما طعموا من الحلال [إِذا مَا اتَّقَوْا] شربها بعد التحريم [وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات [ثُمَّ اتَّقَوْا] أى داموا على الاتّقاء [وَ آمَنُوا] أي داموا على الإيمان [ثُمَّ اتَّقَوْا] عن المخالفة بفعل الطّاعات و الفرائض [وَ أَحْسَنُوا] بفعل الخيرات و إتيان النوافل. قال الطبرسيّ: الاتّقاء الأوّل اتّقاء الشّرب بعد التّحريم و الاتّقاء الثاني الدوام على ذلك، و الاتّقاء الثّالث اتّقاء مطلق المعاصي مع ضمّ الإحسان إليه، فعلى هذا يكون الاتّقاء الأوّل هو اتّقاء الشرب بعد التحريم، و الاتّقاء الثّاني هو الدوام على ذلك، و الاتّقاء الثّالث اتّقاء مطلق المعاصي و ضمّ الإحسان إليه؛ و قيل: الاتّقاء الأوّل هو اتّقاء المعاصي العقليّة، و الإيمان الأوّل هو الإيمان باللّه، و بما أوجب اللّه الإيمان به، و الإيمان بقبح هذه المعاصي، و الاتّقاء الثّاني هو اتّقاء المعاصي السمعيّة و الإيمان بقبحها و وجوب اجتنابها، و الاتّقاء الثّالث مختصّ بمظالم العباد، و بما يتعدّى إلى الغير من الظلم و الفساد. و قال أبو عليّ الجبّائيّ: إنّ الشرط في قوله: «إِذا مَا اتَّقَوْا» يتعلّق بالزمان الماضي، و الشرط الثاني يتعلّق بالدوام على ذلك و الاستمرار على فعله، و الشرط الثالث يختصّ بمظالم العباد،

ص: 86


1- البقرة: 142.

و استدلّ على أنّ هذا الاتّقاء إنّما اختصّ بالمظالم لقوله: «و أحسنوا» فإنّ الإحسان إذا كان متعدّيا وجب أن يكون المعاصي الّتي أمروا باتّقائها قبله أيضا متعدّية به.

قال الطّبرسيّ: و هذا الاستدلال ضعيف لأنّه لا يمتنع أن يكون الإحسان يراد به الفعل الحسن فيكون لازما، و يراد من الباب في الفعل المبالغة كما يقولون لمن بالغ في فعل الحسن: أحسنت و أجملت، ثمّ لو سلّم أنّ المراد به الإحسان المتعدّي فلم لا يجوز أن يعطف فعل متعدّ على فعل لا يتعدّى؟.

فلو قيل: إنّه لو كان المراد في قوله: «فِيما طَعِمُوا» المباحات و الحلال لزم تقييد إباحتها باتّقاء ما عداها من المحرّمات، لقوله: «إِذا مَا اتَّقَوْا» و ليس الأمر كذلك بل الكافر إذا أكل حلالا لم يكن عليه إثم؛ فالجواب أنّه إنّما تخصصت بذلك الطارئ عليها، فالجواب أنّ هذا القيد ليس المراد منه أنّ المباح مشروط إباحته بالتّقوى، بل المراد من الآية، بيان أحوال أولئك الأقوام الّذين فيهم هذه الآية و لمّا يعلموا بعد بحرمتها و كانوا على هذه الصفة، و الآية ثناء عليهم و حمد لأحوالهم من الإيمان و التقوى و الإحسان. ثمّ إنّهم لمّا لم يعلموا بعد بحرمتها و طعموا منها لم يكن لهم حراما، فصحّ القول بأنّ المراد من قوله: «فِيما طَعِمُوا» الحلال.

و في الآية قول آخر، و هو أنّ المقصود من هذا التّكرير التأكيد و المبالغة في الحثّ على الإيمان و التّقوى.

قال الطبرسيّ: وجدت في بعض رسائل السيّد المرتضى قدّس سرّه أنّه قال:

إنّ المفسّرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التّكرار الّذي تضمّنته هذه الآية، و ظنّوا أنّه المشكل فيها و تركوا ما هو أشدّ إشكالا من التكرار، و هو أنّه قد نفي الجناح عن الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات فيما يطعمونه بشرط الاتّقاء و الإيمان و عمل الصّالحات و الحال أنّ الإيمان و عمل الصّالحات ليس بشرط في نفي الجناح فإنّ المباح إذا وقع من الكافر فلا إثم عليه، قال: و لنا في حلّ هذه الشبهة طريقان:

أحدهما أن يضمّ إلى هذا الشّرط المصرّح بذكر كلمة: (غيره) حتّى يظهر تأثيرها شرط فيكون تقدير الآية: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات جناح في ما طعموا

ص: 87

و غيره، إذا ما اتّقوا و آمنوا و عملوا الصّالحات، لأنّ الشّرط في نفي الجناح لا بدّ من أن يكون له تأثير حتّى يكون متى انتفى ثبت الجناح، و قد علمنا أنّ باتّقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم فهو الشّرط الّذي لا زيادة عليه، و لمّا ذكر الاتّقاء و الإيمان و عمل الصالحات- و لا تأثير لهما في نفي الجناح- علمنا أنّه أضمر ما تقدّم ذكره ليصحّ الشّرط و يطابق المشروط لأنّ من اتّقى الحرام لا جناح عليه فيما يطعم، و لكنّه قد يصحّ أن يثبت عليه الجناح فيما اخلّ به من واجب فإذا شرطنا أنّه وقع اتّقاء القبيح ممّن آمن باللّه و عمل الصّالحات ارتفع الجناح عنه من كلّ وجه، و ليس بمنكر حذف ما ذكرناه لدلالة الكلام عليه، فمن عادة العرب ان يحذفوا ما يجري هذا المجرى و يكون قوّة الدلالة عليه مغنية عن النطق به، قال شاعرهم:

تراه كأنّ اللّه يجدع أنفه و عينيه أن مولاه يأت له و فر

لمّا كان الجدع (1) لا يليق بالعين و كانت معطوفة على الأنف الّذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من البخص، (2) و ما يجري مجراه.

و الطّريق الثّاني هو أن يجعل الإيمان و عمل الصّالحات هنا ليس بشرط حقيقيّ، و إن كان معطوفا على الشّرط فكأنّه تعالى لمّا أراد أن يبيّن وجوب الإيمان و عمل الصّالحات عطفه على ما هو واجب من اتّقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب و إن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيما يطعم، و هذا توسّع في البلاغة يحار فيه العقل استحسانا و استغرابا انتهى كلامه.

قال الطبرسيّ: و قد قيل أيضا في الجواب عن ذلك: إنّ المؤمن يصحّ و يجوز أن يطلق عليه: لا جناح عليه، أو جناح عليه، و أمّا الكافر فمغمور في العقاب بكفره، فلا يطلق عليه هذا اللّفظ، و الكافر قد سدّ على نفسه طريق معرفة التّحريم و التّحليل، و لذلك خصّ المؤمن بالذّكر انتهى، و روي أنّ قدامة بن مظعون شرب الخمر في أيّام عمر بن الخطّاب فأراد أن يقيم عليه الحدّ، فتلا قدامة: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا»

ص: 88


1- جدع انفه: قطعه.
2- بخص العين بخصا- بسكون الخاء-: قلعها.

فأراد عمر أن يدرأ عنه الحدّ فقال عليّ عليه السلام: أديروه على الصّحابة، فإن لم يسمع أحدا منهم قرأ عليه آية التّحريم فادرؤوا عنه، فإذا كان قد سمع فاستتيبوه فأقيموا عليه الحدّ، فإن لم يتب وجب عليه القتل. (1)

[سورة المائدة (5): الآيات 94 الى 95]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)

قوله تعالى:

وجه النّظم أنّه تعالى لمّا قال: «لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ» ثمّ استثنى الخمر و الميسر فكذلك استثنى في هذه الآية هذا النوع من الصّيد عن المحلّلات و بيّن دخوله في المحرّمات، و نزلت الآية عام الحديبية في السّنة السّادسة من الهجرة، و الحديبية بتخفيف الياء الأخيرة- و قد تشدّد- موضع قريب من مكّة، و ذلك أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أراد زيارة الكعبة فسار هو و أصحابه من المدينة و هم ألف و خمسائة و أربعون رجلا، فنزلوا بالحديبية، فابتلاهم اللّه بالصيد و هم محرمون، كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث كانوا متمكّنين من صيدها أخذا بأيديهم و طعنا برماحهم فهمّوا بأخذها، قال أصحاب المعاني: امتحن اللّه امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم بصيد البرّ كما امتحن امّة موسى بصيد البحر، فأنزل اللّه [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] و اللام في قوله: [لَيَبْلُوَنَّكُمُ لام القسم لأنّ اللام و النّون قد يكونان جوابا للقسم و إذا ترك القسم جي ء بهما علامة على القسم التقدير: و اللّه ليعاملكم معاملة المختبر و الممتحن، و خصّ المؤمنين بالذّكر و إن كان الكفّار أيضا مخاطبين بالشّرائع لأنّهم القابلون لذلك المنتفعون به أو لأنّه لم يعتد

ص: 89


1- رواه الطبرسي مرسلا في تفسيره: ج 3: 242» و قدامة هو أخو عثمان بن مظعون، احد السابقين الأولين، هاجر الهجرتين- الحبشة و المدينة- و شهد بدرا، و كان زوج صفية اخت عمر، و استعمله عمر على البحرين. مات سنة ست و ثلاثين عن ثمان و ستين الإصابة «ج 3: 319- 321».

بالكفّار [بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ] أي بتحريم بعض من الصيد لأنّه عنى صيد البرّ خاصّة، منعهم اللّه عن الصّيد و هم محرمون، و لعلّ المراد من قوله: «بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ» أن يعلم أنّه ليس بفتنة من الفتن العظام الّتي يكون التكليف فيها صعبا شاقّا كالابتلاء ببذل الروح و المال و إنّما هو ابتلاء سهل [تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ قيل: الّذي تناله الأيدي، صغار الوحش و فراخ الطير، و الّذي تناله الرماح الكبار من الصّيد؛ عن ابن عبّاس، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و قيل: إنّ صيد الحرم تنال بالأيدي و الرماح لأنّه كان يأنس بالناس و لا ينفر منهم فيه، بخلاف الحلّ فإنّه كان ينفر فيه، و ذلك آية من آيات اللّه؛ عن أبي عليّ الجبّائيّ، و ثالث الأقوال أنّ المراد ما قرب من الصّيد و ما بعد [لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ و الخوف من اللّه الخوف من عقابه و غضبه، و المعنى: ليتميّز الخائف من عقابه الاخرويّ و هو غائب مترقّب لقوّة إيمانه، فلا يتعرّض للصّيد ممّن لا يخاف كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه، و لمّا كان علم اللّه مقتضى ذاته و امتنع عليه التجدّد و التغيّر كما امتنع ذلك على ذاته جعل هاهنا مجازا عن تمييز المعلوم و ظهوره على طريق إطلاق السبب على المسبّب، قال القاضي و المولى أبو السّعود: إنّما عبّر بالعلم إيذانا بمدار الجزاء ثوابا و عقابا لأنّ حصول الجزاء منوط بحصول المعلوم و تميّزه، و يجوز أن يكون معنى من يخافه بالغيب أى من يخاف حال إيمانه بالغيب كما ذكر في أوّل كتابه و هو قوله: «يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» أو المعنى من يخافه بإخلاص و تحقيق، و لا يختلف حاله بسبب حضور واحد أو غيبته كما في حقّ المنافقين الّذين إذا لقوا الّذين آمنوا قالوا: آمنّا، و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنّا معكم، و الباء في قوله: «بِالْغَيْبِ» في محلّ النّصب بالحال [فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أى بعد بيان أنّ ما وقع امتحان من جهته تعالى و تعرّض للصّيد [فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ لأنّ الاعتداء بعد ذلك مكابرة صريحة، و عدم مبالاة بحكم اللّه و انخلاع عن طاعته، و المراد عذاب الآخرة إن مات قبل التّوبة، ثمّ ذكر سبحانه ما يجب على ذلك الاعتداء من الجزاء في الدنيا فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ] و اختلف في معنى الصيد قيل:

هو كلّ الوحش أكل أو لم يؤكل، و هو قول أهل العراق، و استدلّوا بقول عليّ عليه السّلام:

ص: 90

صيد الملوك أرانب و ثعالب و إذا ركبت فصيدي الأبطال

قال الطبرسيّ: و هو مذهب أصحابنا، و قيل: هو كلّ ما يؤكل لحمه، و هو قول الشّافعيّ [وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ أى محرمون بحجّ أو عمرة؛ و قيل: معناه: و أنتم في الحرم. قال الجبّائي: الآية تدلّ على تحريم قتل الصّيد على الوجهين و هو الصّحيح لكن قال عليّ بن عيسى: الآية تدلّ على الإحرام بالحجّ أو العمرة فقط [وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً] قيل: معناه هو أن يتعمّد القتل ناسيا لإحرامه عن الحسن و مجاهد و ابن زيد و ابن جريح و إبراهيم النّخعيّ قالوا: و أمّا إذا تعمّد في القتل ذاكرا لإحرامه فلا جزاء فيه لأنّه أعظم من أن يكون له كفّارة؛ و قال ابن عبّاس و الزّهريّ و عطاء:

هو أن يتعمّد القتل و إن كان ذاكرا لإحرامه، و هو قول أكثر الفقهاء فأمّا إذا قتل الصّيد خطأ و نسيانا، فهو كالمتعمّد من وجوب الجزاء عليه و هو مذهب عامّة أهل العلم و البصيرة. قال الطبرسيّ: و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام، قال الزّهريّ: نزل القرآن بالعمد و جرت السنّة في الخطأ [فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرء جزاء منوّنا، و قرء بالإضافة و بالتّنوين. المعنى: فعليه جزاء من النّعم مماثل للمقتول و الواجب عليه جزاء من النّعم مماثل ما قتل من الصّيد، و بالإضافة أيضا يؤول المعنى إلى معنى واحد باختلاف يسير، قال الزّجاج: و يجوز أن يكون المعنى: فجزاء ذلك القتل مثل ما قتل فيكون جزاء مبتدءا، و «مثل» خبره. قال الطبرسيّ: و اختلف في هذه المماثلة أهي في القيمة أو الخلقة؟ فالّذي عليه معظم أهل العلم أنّ المماثلة معتبرة في الخلقة ففي النعامة بدنة، و في حمار الوحش و شبهه بقرة، و في الظّبي و الأرنب و أمثالها شاة، و هو المرويّ عن أهل البيت، و هو قول ابن عبّاس و الحسن و الضحّاك و السدّيّ و مجاهد و عطا و غيرهم؛ و قال إبراهيم النخعيّ: يقوّم الصّيد قيمة عادلة ثمّ يشترى بثمنه مثله من النّعم، فاعتبر المائلة بالقيمة، و الصّحيح القول الأوّل، و منشأ الاختلاف: القراءتان.

[يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ و في قراءة محمّد بن عليّ الباقر و جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السلام:

يحكم به ذو عدل منكم، و في تفسير أهل البيت منقولا عن السيّدين الإمامين صلوات اللّه عليهما أنّ المراد بذي العدل رسول اللّه و أولو الأمر من بعده لأن التّقويم مع تشخيص المماثلة

ص: 91

لا يعرفه كلّ أحد من الناس و لا يهتدي إليه إلّا الربّانيّون؛ قيل: إنّ الشافعيّ أوجب في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة من حيث إنّ كلّا منهما يعبّ و يهدر مع أن النسبة بينهما في سائر الحيثيّات كما بين الضّب و النون، و على القراءة التثنية قال ابن عبّاس: يريد: يحكم في الصّيد بالجزاء رجلان صالحان من أهل دينكم، فينظران إلى أشبه الأشياء به من النّعم، أي الأنعام الثّلاثة من الإبل و البقر و الغنم، فيحكمان به.

[هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ] أي يهديه هديا يبلغ الكعبة، قال ابن عبّاس: يريد إذا أتى مكّة ذبحه و تصدّق به، قال أصحابنا: إن كان أصاب الصّيد و هو محرم بالعمرة ذبح جزاءه أو نحر بمكّة قبالة الكعبة، و إن كان محرما بالحجّ ذبحه أو نحره بمعنى، و الهدي ما يهدى إلى البيت تقرّبا إلى اللّه من النّعم أيسره شاة و أوسطه بقرة و أعلاه بدنة أي ناقة، و «بالغ الكعبة» صفة لهديا، و الإضافة لفظيّة، و الأصل بالغا إلى الكعبة [أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ قيل: في معناه قولان: أحدهما أن يقوّم عدله و مثله من النّعم، ثمّ يجعل قيمته طعاما و يتصدّق به، عن عطاء و هو الصحيح، و الآخر أن يقوّم الصّيد المقتول حيّا، ثمّ يجعل طعاما، و قرأ نافع و أبي عامر: أو كفّارة طعام على الإضافة، و الباقون: أو كفارة منوّنا بالرّفع.

و وجه القراءة الاولى، فهو أنّه تعالى لمّا خيّر المكلّف بين ثلاثة أشياء: الهدي و الصيام و الطّعام حسنت الإضافة، لكون الكفّارة من هذه الأشياء، و أمّا وجه التّنوين فهو أنّه عطف على قوله: «فجزاؤ» فيكون «طَعامُ مَساكِينَ» عطف بيان؛ لأنّ الطّعام هو الكفّارة و لم تصف الطعام لأنّ الكفّارة ليست للطعام، و إنّما الكفّارة لقتل الصّيد.

[أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً] و ذلك إشارة إلى الطعام و «صِياماً» منصوب على التمييز للعدل، «واو» عطف على «طعام مساكين» و عدل بكسر العين: المثل من جنسه، و العدل بالفتح:

المثل من غير جنسه، فحاصل معنى الآية أنّ من جنى هذه الجناية فعليه جزاء مماثل للمقتول هو من النّعم، أو طعام مساكين حسب ما ذكر، أو صيام أيّام بعدد المساكين المطعمين و فيه قولان أيضا: أحدهما أن يصوم عن كل مد يقوّم من الطّعام يوما، و هو

ص: 92

مذهب الشّافعيّ، و الآخر أن يصوم عن كل مديّن يوما، و هو المرويّ عن أئمّتنا و هو مذهب أبي حنيفة.

ثمّ اختلفوا في هذه الكفّارات الثلاث هل هي مرتّبة أم مخيّرة؟ قيل: مخيّرة، و قيل: مرتّبة، و حجّة القائل بالتّخيير أنّ كلمة «أو» في أصل اللّغة للتّخيير، و القول بأنّها للتّرتيب ترك للظّاهر، و حجّة القائلين بالتّرتيب أنّ كلمة «أو» قد تجي ء لغير معنى التّرتيب، كما في قوله: «أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ» (1) فإنّ المراد منه تخصيص كلّ واحد من هذه الأحكام للمحارب بحالة معيّنة، فثبت أنّ هذا اللّفظ يحتمل التّرتيب؛ و قالوا: و الدليل دلّ على أنّ المراد هو الترتيب، لأنّ الواجب هنا حكم و شرّع على سبيل التّغليظ بدليل قوله: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ و التّخيير ينافي التّغليظ، و أجابوا عنه بأنّ إخراج المثل ليس أقوى عقوبة من إخراج الطّعام، فالتّخيير لا يقدح في القدر الحاصل من العقوبة في إيجاب المثل، و أمّا في موضع التّقويم فقال أكثر الفقهاء من العامّة: إنّما يقوّم في المكان الّذي قتل الصيد فيه؛ و قيل: يقوّم بمكّة.

[لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي عقوبة ما فعله و وخامة أمره و ثقله، يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه و خامة، و ماء وبيل إذا لم يستمرّ، و إنّما سمّي الجزاء و بالا مع أنّها عبادة و نعمة و مصلحة، لأنّه تعالى شدّد عليهم التّكليف و ثقل ذلك عليهم، كما حرّم الشّحم على بني إسرائيل لمّا اعتدوا في السّبت فثقل ذلك عليهم، و إن كان مصلحة، لأنّ اللّه كلّفهم و خيّرهم بين ثلاثة امور؛ اثنان منها يوجب نقصان المال و هما الجزاء بالمثل و الإطعام، و الثّالث يوجب إيلام البدن و هو الصوم.

[عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من أمر الجاهليّة، و قيل: المعنى: عفا اللّه عمّا سلف منهم قبل أن يسألوا رسول اللّه، فإن قيل: إنّهم قبل التّحريم ما كانوا خاطئين حتّى يعفوا و ذلك لأنّهم كانوا قبل الإسلام متعبّدين بشرائع من قبلهم و كان الصّيد فيها محرّما.

[وَ مَنْ عادَ] إلى قتل الصّيد بعد النّهي عنه و هو محرم [فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ خبر مبتدأ

ص: 93


1- المائدة: 33.

محذوف، أى فهو ينتقم اللّه منه، و المراد بالانتقام: التّعذيب في الآخرة، و اختلف في لزوم الجزاء بعد العود: قال ابن عبّاس و الحسن: لا جزاء عليه، و يقولون: إنّ ذنبه أعظم من أن يكفّره التصدّق بالجزاء، و على هذا القول يكون المراد من قوله: «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ» في المرّة الاولى بسبب أداء الجزاء، و من عاد إليه مرّة ثانية و صاد فلا كفّارة لجرمه، بل اللّه ينتقم منه.

و حجّة هذا القول أن الفاء في قوله: «فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ» فاء الجزاء و الجزاء هو الكافي، و كونه كافيا يمنع من وجوب شي ء آخر فلا يجب الجزاء عليه، قال الطبرسيّ: و هذا القول هو الظاهر من روايات أصحابنا، و قيل: إنّه يلزمه الجزاء، عن عطا و سعيد بن جبير و إبراهيم، و به قال بعض أصحابنا، [وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ غالب في حكمه ينتقم ممّن تعدّى أمره و يرتكب نهيه.

[سورة المائدة (5): آية 96]

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

قوله تعالى:

المراد بالصيد المصيد، علي بالبحر جميع المياه، و العرب تسمّي النهر بحرا أي أبيح لكم، و الخطاب للمحرمين و إن كان غير المحرم داخلا فيه. صيد الماء: الطريّ منه [وَ طَعامُهُ أي طعام البحر، ثمّ اختلف في معناه، فقيل: يريد به ما قذفه البحر ميتا؛ و قيل: يريد بصيد البحر السّمك الطريّ و بطعامه المملوح، عن سعيد بن المسيّب و سعيد بن جبير و مجاهد، و هذا الّذي بمذهبنا، و إنّما سمّي طعاما لأنّه يدّخر ليطعم و يؤكل كالمعتاد من الأغذية.

قال الطبرسيّ: فيكون المراد بصيد البحر: الطريّ و بطعامه: المملوح، لأنّ عندنا لا يجوز أكل ما يقذف البحر ميتا للمحرم و غير المحرم؛ و قيل: المراد بطعامه ما ينبت بمائه من الزروع و الثّمار.

قوله: [مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ] في انتصاب «متاعا» قال الزجّاج: انتصب لكونه مصدرا مؤكّدا، و لمّا قال سبحانه: «أُحِلَّ لَكُمْ» كان دليلا على أنّه منعم به و ذكر «مَتاعاً لَكُمْ» تصريحا بأنّه أنعم عليكم؛ و قال صاحب الكشّاف: انتصب لكونه مفعولا له، أى احلّ

ص: 94

لكم تمتيعا لكم و منفعة و للسيّارة، أي للمقيم و المسافر؛ فالطريّ للمقيم و المالح للمسافر؛ و قيل: معناه لأهل الأمصار و القرى؛ و قيل: للمحلّ و المحرم [وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً] اتّفق المسلمون على أنّ المحرم يحرم عليه الصّيد بنصّ الآية و اختلفوا في الصيد الّذي يصيده المحلّ هل يحلّ للمحرم؟ قال عليّ عليه السلام و ابن عبّاس و سعيد بن جبير و طاوس و جماعة: إنّه يحرم بكلّ حال للمحرم، و عوّلوا فيه على قوله تعالى في هذه الآية: «وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» و ذلك لأنّ صيد البرّ يدخل فيه ما اصطاده المحرم و المحلّ و كلّ ذلك صيد البرّ، هذا أحد الأقوال و عليه المعتمد؛ و قيل: إنّ لحم الصيد لا يحرم على المحرم إذا صاده غيره، و هذا القول عن عمر و عثمان و الحسن؛ و قال الشافعيّ: إنّ لحم الصّيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم و لا يصطاد له.

و اعلم أنّ صيد البحر هو الّذي لا يعيش إلّا في الماء، و ليس كلّه حلالا أكله، و أمّا الّذي لا يعيش إلّا في البرّ و الّذي يمكنه أن يعيش في البرّ تارة و في البحر اخرى فذاك كلّه صيد البرّ فعلى هذا فمثل السلحفاة و السرطان و الضفدع و طير الماء و أمثالها كلّ ذلك يحسب من صيد البرّ و يجب على قاتله الجزاء إذا كان محرما.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ و المقصود من الآية التهديد ليكون المرء مواظبا على الطاعة محترزا عن المعصية.

[سورة المائدة (5): آية 97]

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (97)

قوله تعالى:

اتّصال هذه الآية بما قبلها هو أنّ اللّه تعالى لمّا حرّم في الآية المتقدّمة الاصطياد على المحرم بيّن في هذه الآية أنّ الحرم كما أنّه سبب لأمن الوحش و الطير فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات و المخافات، و سبب لحصول الخيرات و السعادات.

قرأ ابن عامر: «قيما» بغير ألف، و الباقون بالألف: قياما. و سمّيت الكعبة كعبة لتربيعها، (1) و الكعوبة النتوّ و منه كعب الإنسان لنتوّه، و كعبت المرأة: إذا نتا ثديها

ص: 95


1- و هو مروى في الفقيه مرسلا في باب علل الحج: 201.

و العرب تسمّي كلّ بيت مربّع كعبة، و إنّ المتفرّد من البنيان يسمّى كعبة لنتوّه من الأرض، و البيت الحرام سمّي بذلك لأنّ اللّه تعالى حرّم أمورا فيها و عظّم حرمته، و في الحديث: مكتوب في أسفل المقام: إنّي أنا اللّه ذو بكّة حرّمتها يوم خلقت السماوات و الأرض و يوم وضعت هذين الجبلين و حففتها بسبعة أملاك ضياء، من جاءني زائرا لهذا البيت عارفا بحقّه مذعنا لي بالربوبيّة حرّمت جسده على النّار.

المعنى: [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ] أي حكم و صيّر الكعبة و حجّها [الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح دون التوضيح كما يجي ء الصفة كذلك، و الحرام بمعنى المحرّم.

قال الحقّيّ في تفسيره المسمّى بروح البيان: و قد جاء في بعض التفاسير في قوله:

«ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (1) أنّه لم تجبه بهذه المقالة من الأرض إلّا أرض الحرم؛ فلذلك حرّمها فصارت حرمتها كحرمة المؤمن إنّما حرّم دمه و عرضه و ماله بسبب طاعته لربّه، فأرض الحرم لمّا قالت: أتينا طائعين حرّم صيدها و شجرها؛ و في الخبر أنّه لم يأكل الحيتان الكبار صغارها في أرض الحرم في الطوفان لحرمتها [قِياماً لِلنَّاسِ و أصله قوام لأنّه من قام يقوم مصدر كالصيام فإذا صحّ قلب حرف العلّة في الفعل صحّ في مصدره، و إذا اعتلّ في الفعل اعتلّ في مصدره و ذكروا في كون الكعبة سببا لقوام مصالح النّاس وجوها:

منها أنّ أهل مكّة كانوا محتاجين إلى حضور أهل الآفاق عندهم ليشتروا منهم ما يحتاجون إليه. فاللّه تعالى جعل الكعبة معظّمة في القلوب حتّى صاروا أهل الدنيا راغبين في زيارتها، مسافرين إليها من كل فجّ عميق لأجل التجارة و صار ذلك سببا لإسباغ النعم على أهل مكّة.

الثاني أنّ العرب كانوا يتقاتلون و يغزون إلّا في الحرم، فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم و على أموالهم حتّى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يتعرّض له، و لو جنى الرجل أعظم الجنايات ثمّ التجأ إلى الحرم لم يتعرّض له، كما قال سبحانه:

ص: 96


1- فصلت: 11.

«أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (1).

الوجه الثالث أنّه تعالى جعل الكعبة قواما للناس في دينهم بسبب ما جعل فيها من المناسك العظيمة و الطاعات الشريفة، و جعل تلك المناسك سببا لحطّ الذنوب و رفع الدرجات و كثرة الكرامات، و الآية محمولة على جميع هذه الوجوه؛ و من المعلوم أنّ قوام امور الناس إمّا بكثرة المنافع و هو الوجه الأوّل، أو بدفع المضارّ و هو الوجه الثاني، أو بحصول الدين و السعادة و هو الوجه الثالث، فصارت الكعبة سببا لقوام الناس و المراد من الناس بعض الناس و هم العرب، و إنّما حسن هذا المجاز لأن أهل كلّ بلد إذا قالوا: الناس فعلوا كذا و صنعوا كذا فإنّهم لا يريدون إلّا أهل بلدتهم، فلهذا السبب خوطبوا على وفق عادتهم.

و قيل: إنّ معنى قياما للنّاس أنّهم لو تركوه عاما واحدا لا يحجّونه ما نوظروا أن يهلكوا عن عطا، و رواه عليّ بن إبراهيم عنهم عليهم السلام: مادامت الكعبة يحجّ الناس إليها لم يهلكوا فإذا هدمت و تركوا الحجّ هلكوا. (2) [وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ يعني أشهر الحرم و هي أربعة: واحد فرد و ثلاثة سرد أي متتابعة فالفرد رجب و السرد ذو القعدة و ذو الحجّة و المحرّم، و إنّما خرج مخرج الواحد لأنّه ذهب به مذهب الجنس و هو عطف على المفعول الأوّل لجعل أي و جعل الشهر الحرام الّذي يؤدّى فيه الحجّ قياما لهم أيضا، مثل قولك: ظنت زيدا منطلقا و عمرو، فالشهر الحرام أيضا سبب لقوام النّاس و ذلك لأنّه إذا دخل الشهر الحرام زال الخوف منهم و قدروا على الأسفار و التجارات و صاروا آمنين على أنفسهم و أموالهم و يحصلون فيه من الأقوات ما كان يكفيهم طول السنة، فلو لا حرمة الشهر لهلكوا و تفانوا من الشدّة و الجوع بزيادة اكتساب الثواب العظيم إذا أقاموا مناسك الحجّ.

قوله: [وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ] أي و جعل اللّه الهدي أيضا قياما لهم و هو ما يهدى إلى

ص: 97


1- العنكبوت: 67.
2- رواه مرسلا على بن ابراهيم في: 147 من تفسيره المطبوع. و في الفقيه «ص: 258» عن حنان بن سدير قال ذكرت لأبي جعفر عليه السلام البيت فقال: لو عطلوه سنة واحدة لم يناظروا. و في خبر آخر ينزل (لنزل خ ل) عليهم العذاب.

البيت و يذبح هناك و يفرّق لحمه بين الفقراء، فهو قوام لمعيشة الفقراء. و القلائد أي و جعل القلائد أيضا قياما للنّاس، و هي جمع قلادة و هي ما يقلّد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو علامة ليعلم أنّه هدي فلا يتعرّض له بركوب أو حمل، و المراد بالقلائد ذوات القلائد و هي البدن و البقرة و الأضاحيّ، و وجه كون القلائد سببا لقوام النّاس أنّ من قلّد هديا لم يتعرّض له أحد، و ربما كانوا يقلّدون رواحلهم إذا رجعوا من مكّة من لحاء شجر الحرم، فيأمنون بذلك، فكان أهل الجاهليّة يأكل الواحد منهم القضيب و الشجر من الجوع و هو يرى الهدي و القلائد فلا يتعرّض له تعظيما، فكانت هذه الأمور دالّة على عظمة البيت و شرفه.

[ذلِكَ لِتَعْلَمُوا] إشارة إلى الجعل منصوب بفعل مقدّر أي شرع اللّه ذلك و بيّن لتعلموا [أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنّ تشريع هذه الشرائع لدفع المضارّ الدينيّة و الدنيويّة قبل وقوعها من أوضح الدّلائل على حكمة الشارع، و على عدم خروج شي ء من علمه المحيط، فإنّه تعالى لمّا علم في الأزل أنّ مقتضى عادة العرب و حرسهم الشديد على القتل و الغارة و أنّه لو دامت بهم هذه الحالة لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه، و لأدّى ذلك إلى فنائهم و انقطاعهم بالكلّيّة دبّر في ذلك تدبيرا لطيفا و هو أنّه ألقى في قلوبهم اعتقادا قويّا في تعظيم البيت، فصار ذلك سببا لحصول الأمن في البلد الحرام و في الأشهر الحرم، فاستقامت بذلك مصالح معاشهم و قلّت مفسدتهم، و ذلك التدبير بسبب علمه الأزليّ بجميع المعلومات من الجزئيّات و الكلّيات و لهذا قال سبحانه: «ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ» ثمّ قال [وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ تعميم بعد تخصيص للتّأكيد و ما أحسن هذا الترتيب في هذا البيان!.

[سورة المائدة (5): الآيات 98 الى 99]

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (99)

لمّا ذكر سبحانه رحمته لعباده عقّبه بذكر الوعيد و الوعد فقال: [اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن انهتك محارمه و عصاه [وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب و أناب و انقطع

ص: 98

عن الانتهاك و أطاع و جمع بين الوعيد و الوعد لأنّ الإيمان لا يتمّ إلّا بالخوف و الرجاء كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: لو وزن خوف المؤمن و رجاؤه لاعتدلا. (1) ثمّ ذكر ما يدلّ على الرحمة و هو كونه غفورا رحيما، و في الآية إشعار بأنّ جانب الرحمة أغلب لأنّه اتي بوصفين من أوصاف الرحمة، و لمّا أنذر و بشّر عقّبه بقوله: [ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ و أداء الرسالة و بيان الشريعة، فأمّا القبول و الردّ فهما من شأن المكلّف [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ و لا يخفى عليه شي ء من أحوالكم الّتي تظهرونها و تخفونها، و في قوله: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» دلالة على وجوب معرفة العقاب و الثواب لكونهما لطفا في باب التكليف.

[سورة المائدة (5): آية 100]

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

قوله تعالى:

النزول: لمّا بيّن سبحانه الترغيب في الطاعة و التنفير عن المعصية بقوله: «وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ» بيّن في هذه الآية أنّ الحلال و الحرام لا يستويان، قيل:

نزلت الآية في حجّاج اليمامة لمّا همّ المسلمون أن يوقعوا بهم، و ذلك بسبب أنّه كان فيهم رجل يقال له الحطيم و قد أتى المدينة في السّنة السابقة، و استاق سرح المدينة فخرج في العام القابل- و هو عام عمرة القضاء- حاجّا، فبلغ ذلك أصحاب السرح، فقالوا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم: هذا الحطيم خرج حاجّا مع حجّاج اليمامة فخلّ بيننا و بينه، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه قلّد الهدي و ما أذن لهم أن يوقعوا به بسبب استحقاقهم الأمن من بتقليد الهدايا فنزلت الآية تصديقا له صلى اللّه عليه و آله و سلّم في نهيه إيّاهم عن تعرّض الحجّاج و إن كانوا مشركين، و قد مضت هذه القصّة في أوّل السورة أيضا عند تفسير قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ»، و بقي حكم هذه الآية إلى أن نزلت سورة البراءة فنسخ بنزولها لأنّه قد كان فيها: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» (2) و فيها أيضا: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» (3) فنسخ حكم الهدي و القلائد و الشهر

ص: 99


1- و في هذا المعنى روايات رواها الكلينى في الأصول من الكافي «ج 2: 67- 71.»
2- التوبة: 28.
3- التوبة: 5.

الحرام و الإحرام و أمنهم بدون الإسلام، و تبدّل الحكم بعد نزول سورة البراءة.

و بالجملة ففي الآية ترغيب في الجيّد و الحلال، و تحذير عن الردي، و الحرام.

و يتناول الخبيث و الطيّب أمورا كثيرة فمنها الحلال و الحرام؛ فمثقال حبّة من الحلال أرجح عند اللّه من مل ء الدنيا من الحرام، و كيف و هو خبيث مردود، و الحلال طيّب مقبول؟

و طالب الخبيث خبيث و طالب الطيّب طيّب؟ كما قال سبحانه: «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ» (1) الآية، و أيضا الخبيث من الأموال ما لم يخرج منها حقّ اللّه، و الطيّب ما أخرجت منه الحقوق، و الخبيث ما أنفق في وجوه الفساد، و الطيّب ما أنفق في وجوه الطاعات [وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يعني أنّ الّذي يكون خبيثا في عالم أحكام اللّه و في نواهيه قد يكون طيّبا و عظيم اللّذّة عندك أيّها الإنسان، إلّا أنّه مع لذّته و كثرة مقداره سبب لحرمان السعادات الباقية، و مورث للعقاب الدائم لكنّ الباقيات الصالحات الطيّبات خير عند ربّك [فَاتَّقُوا اللَّهَ و اجتنبوا الخبائث و ما حرّم اللّه عليكم [يا أُولِي الْأَلْبابِ و ذوي العقول [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفوزوا و تفلحوا بالنّعيم المقيم و الثواب العظيم.

قال أهل المعرفة: حقيقة التّقوى هو صدق قولك: لا إله إلّا اللّه و ليس في قلبك شي ء سواه، و من وصايا بعض الكاملين قبل وفاته: اوصيكم بتقوى اللّه في السرّ و العلانية و بقلّة الطعام و بقلّة المنام و بقلّة الكلام و هجر المعاصي و الآثام، و ترك الشّهوات على الدوام و احتمال الجفاء من جميع الأنام، و بترك مجالسة السفهاء و دوام مصاحبة الصالحين الكرام، فإنّ خير النّاس من ينفع النّاس و خير الكلام ما قلّ و دلّ، و اعلم أنّ اللّه يحبّ أن تعمل برخصه كما تعمل بفرائضه.

[سورة المائدة (5): آية 101]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

قوله تعالى:

ص: 100


1- النور: 26.

روي أنّه لمّا نزلت آية الحجّ و هي: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» (1) قال سراقة بن مالك: (2) أ كلّ عام؟ فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أعاد ثلاثا فقال:

لا و لو قلت: نعم لوجب و لو وجب لما استطعتم فاتركوني ما تركتكم؛ فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم (3) على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه فنزلت و عن ابن عبّاس انّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان يخطب ذات يوم غضبان كثرة ما يسألون عنه ممّا لا يعنيهم، فقال: لا اسأل عن شي ء إلّا أجبت، فقال رجل: أين أبي؟ فقال: في النّار، و قال آخر: من أبي فقال: حذافة- و كان يدعا لغيره- فنزلت.

و ذكر الرّازيّ أنّ الآية لعلّها متّصلة في النظم بقوله: «وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ» أي فاتركوا الأمور على ظواهرها، و لا تسألوا عن أحوال خفيّة إن تبد لكم تسؤكم، و إن شرطيّة و المعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم و إن تظهر لكم تغمّكم و «أشياء» جمع شي ء غير منصرفة؛ قال الخليل و سيبويه: شي ء جمعه في الأصل شياء على وزن فعلاء فاستثقلوا اجتماع الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة الاولى الّتي هي لام الفعل إلى أوّل الكلمة فجعلت لفعاء تشبيها بالمعدول كما في: عامر و عمر، و زافر و زفر؛ قال الرازيّ: إنّه لمّا كانت في الأصل على وزن فعلاء مثل حمراء لا جرم لم تنصرف- كما لم تنصرف حمراء- و أيضا إنّا لمّا قطعنا الحرف الأخير منه و جعلناه أوّله و الكلمة من حيث إنّها قطع منها الحرف الأخير صارت كنصف الكلمة و نصف الكلمة لا يقبل الإعراب، و من حيث إنّ ذلك الحرف الذي انقطع منها ما حذف بالكلّيّة بل الصق بأوّلها كانت الكلمة كأنّها باقية بتمامها فلا جرم منعت بعض وجوه الإعراب دون البعض تنبيها على هذه الحالة، لكنّ الكسائيّ قال: إنّ «أشياء» على وزن أفعال إلّا أنّهم لم يصرفوه لكونه شبيها في الظاهر بحمراء و صفراء.

ص: 101


1- آل عمران: 97.
2- قال في مجمع البيان: فقام عكاشة بن محصن و قيل: سراقه بن مالك اه «ج 3: 250»
3- اختلف الى المكان: تردد.

قوله تعالى: [عَفَا اللَّهُ عَنْها] أي عفا اللّه عن تبعة سؤالكم الّذي سلف منكم ممّا كرهه النبيّ، استئناف مسوق لبيان أنّ نهيهم عنها لم يكن لمجرّد صيانتهم عن المساءة بل لأنّها في نفسه معصية مستتبعة للمؤاخذة و قد عفي عنها، و ضمير «عنها» راجع إلى المسألة المدلول عليها بقوله: «لا تَسْئَلُوا» [وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ فبالغ في مغفرة الذنوب و الإغضاء عن المعاصي حيث لم يؤاخذكم بعقوبة ما فرط منكم، فجملة قوله: «وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ» افتراض تذييليّ مقرّر لعفوه تعالى؛ و قال بعض المفسّرين: إنّ الآية نزلت في ما سألت الأمم أنبياءها من الآيات، و يؤيّده الآية الّتي بعدها.

[سورة المائدة (5): الآيات 102 الى 103]

قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)

قوله:

أى سألوا هذه المسألة لكن لا عينها، بل مثلها في كونها محظورة و مستتبعة للوبال و عدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير [مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق ب (سألها) [ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها] أي بسببها [كافِرِينَ فإنّ بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم في أشياء؛ فإذا أمروا تركوها فهلكوا، كما سأل قوم ثمود صالحا الناقة، و سأل قوم عيسى مائدة ثمّ كفروا بها، عن ابن عبّاس، أو إنّ قريشا سألوا النبيّ عن مثل هذه الأشياء، مثل سؤال ذلك الرجل عن حال أبيه فلمّا أخبرهم بذلك قالوا: ليس الأمر كذلك فكفروا بالردّ على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

فإن قيل: ما الّذي يجوز أن يسأل عنه، و ما الّذي لا يجوز أن يسأل عنه؟ فالجواب أنّ الّذي يجوز السؤال عنه هو ما يجوز العمل به، و ما لا يجوز في الأمور الدينيّة و الدّنيويّة فلا يجوز أن يسأل الإنسان من النبيّ أنّه من أبي؟ لأنّ المصلحة اقتضت أن يحكم على كلّ من ولد على فراش إنسان بأنّه ولده و إن لم يكن مخلوقا من مائه. أو أنّ جبرئيل هل خلقة رأسه مثل خلقة رأسنا؟ و أمثال هذه السؤالات و قيل: في معنى الآية المتقدّمة تقديم و تأخير، و التقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا اللّه عنها إن تبد لكم تسؤكم، قال الرازيّ. و هذا القول ضعيف، لأنّ الكلام إذ استقام

ص: 102

من غير تغيّر النظم لم يجز المصير إلى التقديم و التأخير.

قوله تعالى: [ما جَعَلَ اللَّهُ و «جعل» يستعمل في معان: أحدها: الحكم، و منه قوله: «وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» (1) و ثانيها: الخلق، و منه قوله:

«وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ» (2) و بمعنى التقصير مثل قوله: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» (3) فمعنى قوله: «ما جَعَلَ اللَّهُ» أي ما حكم و لا شرع و لا أمر به.

ثمّ ذكر أربعة أشياء- و [من مزيدة للتأكيد في النفي-: [بَحِيرَةٍ] و هي فعيلة من من البحر و هو الشقّ يقال: بحر ناقته إذا شقّ اذنها و هي بمعنى المفعول و ذلك أنّه إذا أنتجت النافة خمسة أبطن و كان آخرها ذكرا شقّوا اذنها و امتنعوا من ركوبها و ذبحها و سيّبوها لآلهتهم و لا يجزّ لها و بر، و لا يحمل على ظهرها و لا تطرد عن ماء و لا تمنع عن مرعى و لا ينتفع بها و إذا لقيها المعيى لم يركبها تحريجا.

و لا سائبة هي فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال: سابت الحيّة و ساب الماء إذا جرى فالسائبة هي الّتي تركت حتّى تسبّب إلى حيث شاءت و هي المسيّبة ك «عِيشَةٍ راضِيَةٍ»* أي مرضيّة. قال أبو عبيدة: إنّ الرجل إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو وصل نعمة و شكر اللّه سيّب بعيرا فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها، عن الزجّاج و هو قول علقمة؛ و قيل: هي الّتي تسيّب للأصنام أي تعتق لها، و كان الرجل يسيّب من ماله يشاء فيجي ء به الى السدنة و هم خدمة آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل و نحو ذلك، عن ابن مسعود و ابن عبّاس؛ و قيل: إنّ السائبة هي النافة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهنّ ذكر سيّب فلم يركبوها و لم يجزّوا و برها و لم يشرب لبنها إلّا الضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقّ اذنها ثمّ يخلّى سبيلها مع امّها و هي البحيرة؛ عن محمّد بن إسحاق.

[وَ لا وَصِيلَةٍ] و هي في الغنم؛ كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، و إذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكرا و أنثى قالوا: وصلت أخاها و استحيوا الذكر من أجل الأنثى

ص: 103


1- الزخرف: 19.
2- الانعام: 1.
3- الزخرف: 2.

و لم يذبحوه لآلهتهم؛ و قيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جديا ذبحوه لآلهتهم و لحمه للرجال دون النساء، و إن كان عناقا استحيوها و كان في عرض الغنم، و إن ولدت في البطن السابع جديا و عناقا قالوا: إنّ الاخت وصلت أخاها فحرّمتا جميعا، و كانت المنفعة و اللّبن للرّجال دون النساء؛ و قال محمّد بن إسحاق: الشاة إذا نتجت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإناث.

[وَ لا حامٍ و هو الذكر من الإبل، كانت العرب إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه و لا يمنع من ماء و لا مرعى، عن ابن عبّاس و ابن مسعود؛ و قيل: إنّه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب عن الفرّاء، و اللّه تعالى لم يحرّم من هذه الأشياء شيئا و كلّها من آثار الجاهليّة و الشرك.

فإن قيل: إذا جاز إعتاق العبيد و الإماء فلم لا يجوز إعتاق هذه البهائم من الذبح و الإتعاب و الإيلام؟: فالجواب أنّ الإنسان مخلوق لخدمة اللّه و عبوديّته فإذا تمرّد عوقب بضرب الرقّ عليه فإذا ازيل الرقّ عنه تفرّغ لعبادة اللّه فكان ذلك أمر مستحسن، و أمّا هذه الحيوانات فإنّها مخلوفة لمنافع المكلّفين فتركها و إهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها من غير أن يحصل في مقابلتها فائدة فظهر الفرق، و أيضا إنّ الإنسان إذا كان عبدا فأعتق قدر على تحصيله مصالح نفسه، و أمّا البهيمة إذا تركت و أهملت لم تقدر على رعاية مصالح نفسها فوقعت في أنواع من المحنة أشدّ و أشقّ ممّا كانت فيها حال ما كانت مملوكة فظهر الفرق.

قوله تعالى: [وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ هذا إخبار من اللّه بأنّ الكفّار يكذبون على اللّه بادّعائهم أنّ هذه الأمور من أمره تعالى [وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ خصّ الأكثر لأنّهم أتباع و لا يعقلون أنّ ذلك كذب كما يعقله رؤساؤهم، و الجهلة يتّبعون الرؤساء و لا يعقلون ما حرّم اللّه عليهم و ما حلّل لهم، قال الطبرسيّ:

و في هذه الآية دلالة على بطلان قول المجبّرة؛ لأنّه سبحانه نفى أن يكون جعل البحيرة و غيرها، و عندهم أنّه هو الجاعل لذلك و الخالق له، لأنّه تعالى بيّن أنّ هؤلاء قد

ص: 104

كفروا بهذا القول و افتروا على اللّه و نسبوا إليه تعالى ما ليس بفعل له انتهى.

قال المفسّرون: إنّ عمرو بن لحيّ بن قمعة الخزاعيّ كان قد ملك مكّة و كان أوّل من غيّر دين إسماعيل فاتّخذ الأصنام و نصب الأوثان و شرع البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: فلقد رأيته في النّار يؤذي أهل النّار بريح قصبه- و القصب: المعى و جمعه الأقصاب- و يروى: يجرّ قصبته في النار، قال ابن عبّاس: قوله:

«يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» يريد عمرو بن لحيّ و أصحابه يقولون على اللّه هذه الأكاذيب في في تحريمهم هذه الأنعام و ما استحدثه أهل الضّلالة.

[سورة المائدة (5): آية 104]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (104)

قوله تعالى:

قال الرازيّ: الواو في قوله: «أَ وَ لَوْ كانَ» و او الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار و قيل: للعطف، و التقدير: أحسبهم ذلك و لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا و لا هم يهتدون؟

يعني: الأمر كذلك و هو ردّ على أصحاب التقليد في الأصول؛ فإنّ الاقتداء إنّما يجوز بالعالم المهتدي في الفروع إذا بنى قوله على الحجّة و الدليل، فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالما مهتديا فوجب أن لا يجوز الاقتداء به.

[سورة المائدة (5): آية 105]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

لمّا بيّن التكاليف و الأحكام و قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل اللّه و إلى الرّسول قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فكانّه قال سبحانه: إنّ هؤلاء الجهّال بقوا مصرّين على جهالتهم و ضلالتهم فلا تبالوا أيّها المؤمنون بجهالتهم بل كونوا منقادين لتكاليف اللّه، فلا يضرّكم ضلالتهم، فلهذا قال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أي ألزموا و احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي؛ قال النحويّون: كلمة «عليك و عندك و دونك» من أسماء الأفعال و يقيمونها مقام الفعل و ينصبون بها الاسم الواقع بعدها على المفعوليّة

ص: 105

و معناها الإغراء، و قد يقيم العرب غير هذه الأحرف مقام الفعل لكن لا تعدّيه إلى المفعول نحو قولهم: إليك عنّي أي تأخّر عنّي و «وراك» بمعناه، و لا يجوز ذلك إلّا في الخطاب.

و لا «يضرّكم» الأصل فيه: لا يضرركم و قرء بصيغة النّهي و في ذلك أربع لغات: ضارّه يضورّه، ضارّه يضيرّه، ضرّه يضرّه، ضرّه يضرّه، و حاصل المعنى: احفظوا أنفسكم و ألزموها عن المعاصي و لا يضرّكم ضلال من ضلّ من آبائكم و غيرهم إذا كنتم مهتدين.

فلو قيل: إنّ ظاهر الآية يوهم أنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر غير واجب فالجواب أنّ الآية لا تدلّ على ذلك بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يكون مؤاخذا بذنوب العاصي فأمّا وجوب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر فثابت بالدلائل.

قال عبد اللّه بن المبارك: هذه الآية أوكد آية في وجوبهما فإنّه قال: عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضا و يرغّب بعضكم بعضا في الخيرات و ينفّره عن القبائح لأنّ قوله: «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» معناه احفظوا أنفسكم فإذا لم يكن هذا الحفظ إلّا بالأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر كان ذلك واجبا و المؤمنون كنفس واحدة و قيل: وجه آخر و هو أنّ الآية مخصوصة بالكفّار الّذين علم أنّه لا ينفعهم التذكّر و لا يتركون الكفر بسبب الأمر و النّهي فعند ذلك لا يجب على الإنسان أن يأمرهم و ينهاهم أو أنّ الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر و النّهي على نفسه أو على عرضه أو على ماله و أيضا في الآية وجه آخر و هو أنّ قوله: «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» يعني من أداء الواجبات الّتي من جملتها الأمر بالمعروف عند القدرة فإن لم يقبلوا ذلك منكم فلا يضرّكم ضلال غيركم و لا ينبغي أن تستوحشوا من ذلك؛ فإنّكم خرجتم عن عهدة التكليف، و أنّ اللّه قال لرسوله: «فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ» و ذلك لا يدلّ على ثبوت الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فكذا هاهنا. و روي عن ابن مسعود و ابن عمر وجه آخر في تأويل الآية؛ قالا: قوله: «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» يكون في آخر الزمان.

قال الرازيّ: و هذا الوجه ضعيف؛ لأنّ قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» خطاب عامّ و هو أيضا خطاب مع الحاضرين فكيف يخرج و يخصّ الغائب؟ و روي أنّ أبا ثعلبة سأل رسول

ص: 106

اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم عن هذه الآية فقال: ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتّى إذا رأيت دنيا مؤثّرة و شحّا مطاعا و هوى متّبعا و إعجاب كلّ ذي رأي رأيه فعليك بخويصة نفسك؛ (1) و قد روي أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوما على المنبر: يا أيّها النّاس إنّكم تقرؤون هذه الآية و تضعونها في غير موضعها و لا تدرون ما هي إنّ النّاس إذا رأوا منكرا فلم يغيّروه عمّهم اللّه بعقاب فأمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر أو ليستعملنّ اللّه عليكم أشراركم فيسومونكم سوء العذاب ثمّ ليدعنّ خياركم فلا يستجاب لهم. و بالجملة إنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر فرض لا يسقط إلا عند العجز عن ذلك.

[إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً] أي إليه مصيركم و مصير من خالفكم [فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم بأعمالكم هو وعد و وعيد للفريقين المهتدين و الضالّين، و اعلم أنّ الآمر و النّاهي لا بدّ و أن يعرف المعروف و المنكر حتّى لا يأمر بالمنكر و هو يحسبه معروفا، و لا ينهى عن المعروف و هو يحسبه منكرا و يشتغل بتزكية نفسه قبل الخلق، فالهادي الجاهل هدايته إضلال كبعض الدّجاجلة الّذين في زماننا من المتصوّفة حيث يغرّون النّاس بكلمات متشابهة و ضلالات مبتدعة، و العوامّ الجهلة يقتدون بهم يرفعون لجام الشريعة و قيد بعض التّكاليف عن أنفسهم و هم يدّعون أنّهم أهل الحقّ؛ فتارة يبيحون المحرّمات و اخرى يستحرمون المحلّلات بالرياضات المبتدعة فيظنّون أنّهم بلغوا مقام الوحدة و أنّهم مجنّبون عن النقصان و لا يضرّهم مخالفات الشريعة؛ إذ هم بادّعائهم وصلوا إلى مقام الحقيقة و هم غافلون عن اللّه و جاهلون بالأمر و لم يعلموا أنّ مقام الحقيقة لا يحصل الّا بامتثال أوامر الشريعة بأسرها و ليس مقام إلّا مقام العبوديّة و هو الامتثال بالسنن و الباقي ترّهات و اصطلاحات موضوعة كثّرها الجاهلون و لا رخصة لأحد فيها و العاملون بهذه المجعولات أهل الخديعة، و لقد شاع في الآفاق هذه الفتنة بحيث ضاع تمام الأصول و الفروع منها و ماله من دافع، فإذا كان هذا حال من يدّعي الإيمان فكيف بحال الزنادقة و الطبيعيّين و الملاحدة؟

فيا للّه و للإسلام! و إنّ الخرق قد اتّسع على الراقع خصوصا منذ توسّعت دائرة نطاق

ص: 107


1- رواه في تفسير البرهان «ج 1: 507» مرسلا عن مصباح الشريعة.

الحرّيّة فعلى الإسلام فليبك الباكون و ليندب النادبون.

أرى ألف بان لا يقوم لهادم فكيف ببان خلفه ألف هادم

و بالجملة إنّ العالم و الهادي و الآمر و النّاهي لا بدّ و أن يكون يقوم بتكليفه في إرشاد الجاهل و تنبيه الغافل من طريق الشريعة حذو النعل بالنعل باحتياط وافر و جدّ متكاثر و لا يجعل هذا الشأن العظيم لعب الصبيان و ضحك الشيطان.

و في الصمت زين للخليّ و إنّماصحيفة لبّ المرء أن يتكلّما

[سورة المائدة (5): آية 106]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)

نزلت الآية في قصّة تميم الدارميّ و هي أنّ تميما و أخاه عديّا كانا نصرانيّين خرجا إلى الشام و معهما بديل مولى عمرو بن العاص و كان مسلما مهاجرا خرجوا للتجارة فلمّا قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه و ألقاه فيما بين الأقمشة و لم يخبر صاحبيه بذلك، ثمّ أوصى إليهما و أمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، فمات بديل فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشا بالذهب ثلاث مائة مثقال، و دفعا باقي المتاع إلي أهله لمّا قدما، ففتّشوا فوجدوا الصحيفة و فيها ذكر الإناء، فقالوا لتميم و عديّ: أين الإناء؟ فقالا: لا ندري، و الّذي دفع إلينا دفعناه إليكم، فرفعوا الواقعة إلي رسول اللّه فأنزل اللّه هذه الآية عن الواقديّ عن اسامة بن زيد عن أبيه و عن جماعة و و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام.

المعنى: لمّا أمر سبحانه في الآية السابقة في الإتيان بما أنزل اللّه علي رسوله عقّبه بذكر هذا الحكم المنزّل فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] قيل: في معنى الشهادة أقوال:

أحدها: أنّها الشهادة التي تقام بها الحقوق عند الحكّام أي شهادة الخصومات الجارية بينكم، و «بين» ظرف أضيف إليه «شهادة» على طريق الاتّساع في الظروف

ص: 108

بأن يجعل الظرف مفعولا للفعل الواقع فيه فيضاف ذلك الفعل إليه على طريق إضافته إلى المفعول نحو «يا سارق اللّيلة» أي يا سارق في اللّيلة. و «شهادة» مرفوع على الابتداء و خبرها «اثنان» و المعنى: شهادة هذه الحالة شهادة اثنين فحذف «شهادة» و أقيم «اثنان» مقامها، و يجوز أن يكون التقدير: و فيما فرض عليكم في شهادتكم أن يشهد اثنان إذا حضر أحدكم الموت أي شارفه و ظهرت علائمه و الظرف متعلّق بالشهادة و لا يجوز أن يكون يتعلّق بالوصيّة لأنّ الوصيّة مصدر فلا يتعلّق به ما تقدّم عليه.

و الثاني من الأقوال أنّ الشهادة بمعنى الحضور فيكون تقدير الآية و ليشهدكم في سفركم إذا حضركم الموت و أردتم الوصيّة [اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ صفة للاثنان أي صاحبا أمانة من أهل العدالة وصيّان، جعلهما اثنين تأكيدا للأمر في الوصيّة، منكم أي من أهل دينكم عن سعيد بن جبير و أبي زيد و قيل: المراد: من أقاربكم لأنّهم أعلم بحال الميّت و أنصح له.

و القول الثالث أنّ المراد شهادة إيمان باللّه أنّ أرباب الورثة بالوصيّة من قول القائل في اللّعان: أشهد باللّه أنّي لمن الصادقين. قال الطبرسىّ: و القول الأوّل أقوى و أليق بالآية.

و قال صاحب كتاب نظم القرآن: شهادة مصدر بمعنى الشهود كما يقال: رجل عدل و رجلان عدل و قدّر حذف المضاف فيكون المعنى: عدد شهود بينكم اثنان كقوله:

«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ» أي وقت الحجّ أشهر؛ و قال ابن جنّيّ: و يجوز أن يكون التقدير:

تقيموا شهادة بينكم اثنان، فيكون على هذين القولين حذف المضاف في المبتدأ و على القولين الأوّلين الحذف في الخبر.

[أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ اي من غير أهل ملّتكم، عن ابن عباس و سعيد بن المسيّب و سعيد بن جبير و مجاهد و شريح و ابن سيرين و إبراهيم و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السلام فيكون «أو» للتفصيل لا للتخيير، لأنّ المعنى: أو آخران من غيركم إن لم تجدوا شاهدين منكم و قيل: المعنى: ذوا عدل من عشيرتكم أو آخران من غير عشيرتكم و قالوا: لا يجوز شهادة كافر في سفر و لا حضر و اختاره الزجّاج و ذهب جماعة إلي أنّ

ص: 109

الآية كانت في شهادة أهل الذمّة فنسخت؛ و قد بيّن هذه الأقاويل أبو عبيدة ثمّ قال جلّ العلماء يتأوّلونها في أهل الذمّة و يرونها محكمة. قال الطبرسيّ و يقوّي هذه القول تتابع الأخبار في سورة المائدة بقلّة المنسوخ و أنّها من محكم القرآن و آخر ما نزل.

قوله تعالى: [إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي إن أنتم سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت و لمّا علم اللّه أنّ من الناس من يصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين أو ينزل القرية الّتي لا يسكنها غيرهم و يحضرهم الموت و لا يجدون شهودا من المسلمين فقال: أو آخران من غير أهل دينكم إن أنتم سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت فالعدلان من المسلمين للحضر و السفر إن أمكن إشهادهما، و الذمّيّان في السفر خاصّة إذا لم يوجد غيرهما ثمّ قال: [تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي تحبسونهما من بعد صلاة العصر لأنّ الناس كانوا يحلفون بالحجار بعد صلاة العصر لاجتماع الناس و تكاثرهم في ذلك الوقت و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام و قتادة و سعيد بن جبير و غيرهم و قيل: هي صلاة الظهر أو العصر عن الحسن و قيل: بعد صلاة أهل دينهما يعنى الذمّيّين عن ابن عبّاس و السدّيّ و معنى «تَحْبِسُونَهُما» تقفونهما كما تقول: مرّ بي فلان على فرس محتبس على دابّته أي وقفه و قيل: معناه تصيرونهما على اليمين و هو أن يحمّل علي اليمين إن شككتم أن يكونا قد غيّرا أو بدّلا أو خانا و الخطاب في تحبسونهما للورثة او الخطاب للقضاة و هو بمعنى الأمر أي احبسوهما. و الفاء في «فيقسمان» للجزاء أي فيقدمان لأجل ذلك الحبس على القسم [لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً] جواب القسم أي لا نأخذ به ثمنا و الضمير في «به» للّه أو لا نشتري بتحريف الشهادة ثمنا أي ذا ثمن لأنّ الثمن لا يشترى، و إنّما يشترى المبيع دون ثمنه و حاصل المعنى: لا نحلف باللّه كاذبين لأجل المال أو لاشتراء البيع، أي لا نبيعه بعرض من الدنيا؛ لأنّ من باع شيئا فقد اشترى ثمنه.

[وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى أي المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام و هو الميّت قريبا منّا في الرحم تأكيدا لتبّرئهم من الحلف كاذبا و مبالغة في التنزّه عنه و خصّ ذا

ص: 110

القربى بالذكر لأنّ الميل إليه أتمّ و المداهنة بسببهم أعظم و هو كقوله: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ». (1) [وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ عطف على قوله: «لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً» يعني إنّهما يقسمان حال ما يقولان «لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ» أي الشهادة التي أمر اللّه بحفظها و إظهارها [إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي إذا كتمناها كنّا من الآثمين أي العاصين.

[سورة المائدة (5): الآيات 107 الى 108]

فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)

قوله تعالى:

القراءة المشهورة: استحقّ بضمّ التاء و كسر الحاء و قرأ حفص وحده بفتح التاء و الحاء و كذلك القراءة المشهورة: الأوليان بصيغة التثنية؛ تثنية الأولى. و قرأ حمزة و عاصم: الأوليين بالجمع نعتا لجميع الورثة المذكورين في قوله: «مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ» و في اعراب كلمة الأوليان قيل فيه وجوه:

الأوّل أن يكون خبر المبتدأ محذوفا و التقدير: هما الأوليان و ذلك لأنّه لمّا قال: «فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما» و كانّه قيل: و من هما؟ فقيل: الأوليان.

و الثاني أن يكون بدلا من الضمير الذي في يقومان و يكون التقدير: فيقوم الأوليان.

و الثالث: أجاز الأخفش أن يكون قوله «الأوليان» صفة لقوله: فآخران و ذلك لأنّ النكرة إذا تقدّم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة كقوله: «كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ» فمصباح نكرة ثمّ قال: «الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ» ثمّ قال: «الزُّجاجَةُ».

الرابع: يجوز أن يكون قوله «الْأَوْلَيانِ» بدلا من قوله «آخران» و إبدال المعرفة من النكرة كثير و معنى الأوليان الأوليان إلى الميّت أو الأوليان باليمين و

ص: 111


1- المائدة: 11.

الاختلاف بسبب اختلاف القراءة و الاعراب قال الزجّاج: هذا الموضع من أصعب ما في القرآن في الإعراب و اختصرت في البيان و من أراد التفصيل فليراجع المجمع فإنّ الطبرسيّ شرحه على أحسن بيان.

النزول: قالوا: لمّا نزلت الآية الاولى و هي «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» صلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم العصر و دعا بتميم و عديّ فاستحلفهما عند المنبر باللّه أنّه ما قبضنا منه غير هذا و لا كتمناه فخلّى سبيلهما به ثمّ اطّلعوا على إناء من فضة منقوش معهما فقالوا: هذا من متاعه فقالا: اشتريناه منه و نسينا أن نخبركم به فرفعوا أمرهما إلى رسول اللّه فنزل قوله تعالى: [فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا] الآية أي اطّلع بعد التحليف على أنّهما فعلا ما يوجب إثما من تحريف و ظهر بأيديهما شي ء من التركة و ادّعيا استحقاقهما له كذبا [فَآخَرانِ أي رجلان آخران من قرابة الميّت [يَقُومانِ مَقامَهُما] أي مقام الرجلين اللّذين حلفا كذبا فيحلفان باللّه بأن اطّلعنا على خيانة الذمّيّين و كذبهما و تبديلهما و ما اعتدينا في ذلك و ما كذبنا.

روي أنّه لمّا حلّف الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم الذميّين بموجب حكم الآية السابقة و خلّى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم سبيلهما و انقضت مدّة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما فقالا:

قد اشتريناه منه و كرهنا أن نخبركم و نزلت الآية الثانية قام عمرو بن العاص و المطّلب بن أبي رفاعة السهميّان فحلفا باللّه بموجب ما في الآية فدفع النّبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم الإناء إليهما و إلى أولياء الميّت و كان تميم الدارميّ يقول بعد ما أسلم: صدق اللّه و رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى اللّه قال ابن عبّاس. إنّه بقيت تلك الواقعة مخفيّة إلى أن أسلم تميم الدارميّ فلمّا أسلم أخبر بذلك و قال: حلفت كاذبا و أنا و صاحبي خنّا في الإناء.

قوله تعالى: [مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ المراد به موالي الميّت قال الرازيّ: و قد أكثر الناس في أنّه لم وصف موالي الميّت بهذا الوصف؟ و الأصحّ عندي وجه واحد و هو أنّهم إنّما وصفوا بذلك لأنّه لمّا أخذ ما لهم فقد استحقّ عليهم ما لهم فإنّ من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلّقه بذلك المال مستعليا على تعلّق مالكه به فصحّ ان يوصف المالك بأنّه قد استحقّ عليه ذلك المال. و وصفهما بالأوليان

ص: 112

لأنّهما أقرب إلى الميّت و أولى بالمال بسبب القرابة أو بسبب اليمين الّتي حلفوا كما ذكرناه قبل ذلك.

قوله: [فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ بيان صوره تقرير الحلف و المعنى ظاهر ثمّ بيّن سبحانه وجه الحكمة في استحلاف اليهود فقال: [ذلِكَ أَدْنى أي ذلك الحلف و الإقسام أو ذلك الحكم أقرب [أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها] و صدقها و حقّها لا يكتمون شيئا و لا يزيدون شيئا خوفا من العذاب الاخرويّ بسبب اليمين الكاذبة [أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ كأنّه قيل: ذلك الإقسام أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها و يخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاح في الدنيا على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم و العمل بأيمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدّية إليه فأيّ الخوفين وقع حصل المقصود الّذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها.

و قيل في معنى الآية وجه آخر و هو: أنّ قوله: أو «يخافوا» عطف على «يأتوا» على معنى أنّ ذلك أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو إلى ان يخافوا الافتضاح بردّ اليمين على الورثة فلا يحلفوا على موجب شهادتهم إن لم يأتوا بها على وجهها فيظهر كذبهم بنكولهم [وَ اتَّقُوا اللَّهَ أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا أمانة و لا تخالفوا أحكامه [وَ اسْمَعُوا] ما توعظون به كائنا ما كان سمع طاعة و قبول [وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن الدّين و الإطاعة إلى ثوابه و حسنته.

[سورة المائدة (5): آية 109]

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)

قوله تعالى:

أي اتّقوا يوم يجمع اللّه الرسل و هو يقوم القيامة و المراد جمعهم و جمع أممهم. و انتصب «يوم» على أنّه مفعول به و لم ينتصب على الظرف لأنّهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم، و المعنى: اتّقوا عقاب يوم يجمع اللّه الرسل لأنّ اليوم لا يتّقى و لا يحذر فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و لم يذكر الأمم للدلالة و لأنّهم أتباع لهم [فَيَقُولُ اللّه تعالى: [ما ذا أُجِبْتُمْ أيّ إجابة أجبتم من جهة الأمم حين دعوتهم إلى توحيدي و طاعتي؟

ص: 113

إجابة إقرار و قبول أم إجابة إنكار و تكذيب؟ و ما الذي أجابكم قومكم فيما دعوتموهم إليه؟ و هذا تقرير في صورة الاستفهام على وجه التوبيخ للكافرين و المنافقين عند إظهار فضيحتهم على رؤوس الأشهاد [قالُوا لا عِلْمَ لَنا] كأنّه قيل: فماذا يقول الرسل هنالك؟

فقيل: يقولون: لا علم لنا بما كنت أنت تعلم و قيل: في هذا الكلام أقوال:

أحدها: الأوّل.

الثاني أنّ للقيامة أهوالا حتّى يزول القلوب عن مواضعها فإذا رجعت إلى مواضعها شهدوا لمن صدّقهم و على من كذّبهم يريد أنّه عزبت عنهم أفهامهم من هول يوم القيامة فقالوا: لا علم لنا عن عطا و ابن عبّاس و الحسن و المجاهد و السدّيّ و الكلبيّ و قيل: المعنى الأوّل هو المراد أي لا علم لنا كعلمك لأنّك تعلم ظاهرهم و باطنهم و اختار الجبّائي هذا القول و أنكر القول الثاني و قال: كيف يجوز ذهولهم مع قوله «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ»*؟ و يمكن أن يجاب عن ذلك بأنّ الفزع الأكبر دخول النار و قوله «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ»* إنّما هو كالبشارة بالنجاة مثل ما يقال للمريض: لا بأس عليك و القول الثالث أنّ معناه لا حقيقة لعلمنا إذ كنّا نعلم جوابهم و أفعالهم وقت حياتنا و ما نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا و إنّما الثواب و العقاب بما يقع به في الخاتمة على ما يموتون عليه، عن ابن الأنباري.

و رابعها لا علم لنا إلّا ما علّمتنا فحذف لدلالة الكلام عليه، عن ابن عبّاس في رواية اخرى.

و خامسها أنّ المراد تحقيق فضيحتهم أي أنت أعلم بحالهم منّا لا تحتاج إلى شهادتنا.

[إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ للمبالغة أو المراد تكثير المعلوم قال الطبرسيّ: في المجمع أنّه ذكر الحاكم أبو سعيد في تفسيره أنّها تدلّ على بطلان قول الإماميّة أنّ الأئمّة يعلمون الغيب و أقول: أنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم فإنّا لا نعلم أحدا منهم بل أحدا من أهل الإسلام يصف أحدا من الناس بعلم الغيب و من وصف مخلوقا بذلك فقد فارق الدين و الشيعة الاماميّة بريئون من هذا القول فمن نسبهم إلى ذلك فاللّه بينه و بينهم.

ص: 114

[سورة المائدة (5): آية 110]

إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

قوله تعالى:

متعلّق الظرف: يوم يجمع اللّه الرسل، أو المعنى اذكر إذ قال اللّه و المعنى: إذ يقول اللّه في الآخرة و ذكر لفظ الماضي للدلالة على قرب القيامة و تحقق وقوع القول؛ لأنّ ما هو آت قريب مكان قد وقع. أو أنّه ورد على حكاية الحال و نظيره قوله: «وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ».

قوله: [يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يجوز أن يكون عيسى في محلّ الرفع لأنّه منادى مفرد وصف بمضاف و يجوز أن يكون في محلّ النصب على الإضافة و كلّ ما كان كذلك جائز الوجهين نحو يا زيد بن عمرو و يا زيد بن عمرو. و هذا الكلام فيه إشارة إلى بطلان قول النصارى لأنّ من له امّ لا يكون إلها [اذْكُرْ نِعْمَتِي و المراد جمع النعمة لقوله «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و إنّما جاز ذلك لأنّه مضاف يصلح للجنس [عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ .

ثمّ فسّر نعمته بأن قال: [إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ هو جبرئيل؛ الروح: جبرئيل و القدس هو اللّه أضافه إلى نفسه تعالى تعظيما و تشريفا له و الأرواح مختلفة فمنها طاهرة نورانيّة و منها خبيثة ظلمانيّة كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الأرواح جنود مجنّدة فاللّه سبحانه خصّ عيسى بالروح الطاهرة المقدّسة [تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا] قيل: المراد من المهد حجر امّه أي تكلّم مع الناس في حال صباك و حال ما كنت كهلا سواء من غير أن يوجد تفاوت في الكلام بين الحالين و ذلك لقوله: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» (1) و هذه المعجزة حصلت له لنبوّته و هذه المعجزة أيضا نعمة حصلت لأمّه لأنّها على براءة ساحتها ممّا

ص: 115


1- مريم: 30- 31.

نسبوها إليه و اتّهموها به و كذلك ولادة عيسى و خلقته ما كانت من نطف الرجال و إنّما كانت كلمة ألقاها إلى مريم. و الكهل من الرجال: الّذي جاوز الثلاثين و خالطه الشيب كما قيل: إنّ المراد بتكلّمه كهلا أن يكلّم الناس بعد أن ينزّل من السماء في آخر الزمان بناء على أنّه رفع قبل أن اكهل فيكون قوله تعالى: «وَ كَهْلًا» دليلا على نزوله.

[وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ قيل: المراد من الكتاب الكتابة و الخطّ و قيل: المراد جنس الكتب فإنّ الإنسان يتعلّم أوّلا كتبا سهلة ثمّ يترقّى إلى الكتب الشريفة. و أمّا الحكمة فهي عبارة من العلوم النظرية و العملية الشرعية ثمّ فصّل الكتاب بذكر التوراة و الإنجيل.

[وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي قرأ نافع: فتكون طائرا. و طير: جمع طائر كركب جمع راكب و طعن جمع طاعن و التأنيث باعتبار الهيئة، بإذني و أمري و تيسيري [فَتَنْفُخُ فِيها] أي في الهيئة المصوّرة [فَتَكُونُ تلك الهيئة [طَيْراً بِإِذْنِي فالخلق حقيقة للّه تعالى ظاهر علي يده كما أنّ النفخ في مريم كان من جبرئيل و الخلق من اللّه.

سألوا منه على وجه التعنّت فقالوا: اخلق لنا خفّاشا و اجعل فيه روحا بسؤالك من اللّه إن كنت صادقا في مقالتك فأخذ طينا و جعل منه خفّاشا ثمّ نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء و الأرض، و إنّما طلبوا منه خلق خفّاش لأنّه أعجب من سائر الخلق، و من عجائبه أنّه لحم و دم يطير بغير ريش و يلد كما يلد الحيوان و لا يبيض كما يبيض سائر الطيور، و له ضرع يخرج منه اللبن و لا يبصر في ضوء النهار و لا في ظلمة الليل و إنّما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس و بعد طلوع الفجر قبل أن يسفرّ جدّا و يضحك كما يضحك الإنسان و يحيض كما يحيض المرأة فلمّا رأوا ذلك منه ضحكوا و قالوا: هذا سحر.

[وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي الأكمه: الذي ولد أعمى، و الأبرص هو الذي به بياض في الجلد و كان بحيث إذا غرز بإبرة لا يخرج الدم منه لا يقبل العلاج و لذا

ص: 116

خصّا بذكر و كلاهما ممّا أعيى الأطبّاء [وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي من قبورهم أحياء بفعلي ذلك عند دعائك و عند قولك للميّت اخرج بإذن اللّه قال الكلبيّ: كان يحيي الموتى ب (يا حيّ و يا قيّوم) و هو الاسم الأعظم عند أهل التحقيق. و ذكر الإذن في هذه الأفاعيل على معنى إضافة حقيقيّة الى اللّه كقوله: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» أي إلّا بخلق اللّه الموت فيها.

و سابع النعم في الذكر قوله: [وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أى منعت اليهود الذين أرادوا لك السوء عن التعرض لك. قال الرازيّ:

يحتمل أن يكون المراد منه البيّنات الّتي تقدّم ذكرها بالألف و اللّام. و يحتمل أن يكون المراد جنس البيّنات: روي أنّه لمّا أظهر هذه المعجزات قصد اليهود قتله فخلصه اللّه منهم حيث رفعه إلي السماء.

[فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ و قرء ساحر، و كلاهما حسن قال الواحديّ: و الاختيار: سحر لجواز وقوعه على الحدث و الشخص، أمّا وقوعه على الحدث فظاهر و أمّا على الشخص فيقول: هذا سحر أي ذو سحر كما قال تعالى: «وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ» (1) أي ذا البرّ قالت الخنساء: فإنّما هي إقبال و إدبار.

فان قيل: إنّه سوق الآيات في تعديد نعمه على عيسى و قول الكفّار في حقّه:

«إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» ليس من النعم فكيف ذكره هاهنا؟ لأنّ من الأمثال المشهورة أنّ «كلّ ذي نعمة محسود» و طعن الكفّار يدلّ على أنّ نعم اللّه في حقّه كثيرة، و لإفادة هذا المعنى حسن ذكره عند تعديد النعم.

[سورة المائدة (5): آية 111]

وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)

من قال: إنّ الحواريّين كانوا أنبياء قال: ذلك الوحي هو الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء، و من قال: إنّهم ما كانوا قال: المراد بذلك الوحي الإلهام و الإلقاء في القلب كما في قوله «وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ» (2) و قوله «وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» (3)

ص: 117


1- البقرة: 177.
2- القصص: 7.
3- النحل: 68.

و الحواريّ خالصة الرجل و خلصاؤه مأخوذ من الخبز الحواري لأنّه أخلصه من كلّ ما يشوبه. و الحواريّون كانوا من وزراء عيسى و أصحابه و صفوته، و يمكن أن يكون معناه مأخوذا من الحور و هو البياض الخالص، سمّوا به لخلوص نيّاتهم و نقاء سرائرهم؛ قيل: كان بعضهم من الملوك و بعضهم صيّاد السمك و بعضهم من القصّارين و بعضهم من الصبّاغين فصاروا بالصدق و الإيمان أولياء اللّه و أطبّاء النفوس.

حكي عن بعض الزهّاد أنّه اعتلّ فحمل الى البيمارستان و كتب عليّ بن عيسى الوزير إلى الخليفة المقتدر في ذلك فأرسل الخليفة اليه مقدّم الأطباء ليداويه فما أنجحت مداواته قال الطبيب للزاهد: و اللّه لو علمت أنّ مداواتك في قطعة لحم من جسدي ما عسر ذلك عليّ فقال الزاهد: دوائي في ما دون ذلك قال الطبيب: و ما هو؟ قال بقطعك الزنّار فقال الطبيب: أشهد أن لا اله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه فأخبر الخليفة فبكى و قال:

نفذنا طبيبا إلى مريض و ما علمنا أنّا نفذنا مريضا إلى طبيب. و الماحضون في الإيمان و التقوى هم أطبّاء النفوس و يعالجون المرضى حسب حذقهم فمريضا يسقونه عسلا و آخر حنظلا.

و كان فضيل بن عياض لم ير متبسّما ثلاثين سنة لمّا سمع في تفسير قوله تعالى:

«ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً» (1) عن ابن عبّاس الصغيرة: التبسّم و الكبيرة:

الضحك و رواه يوم عرفة و هو يبكي بكاء الثكلى حتّى إذا كادت الشمس تغرب قبض على لحيته و رفع رأسه إلى السماء و قال: وا سوأتاه منك و إن غفرت، و من كلامه: لو أنّ الدنيا بحذا فيرها عرضت عليّ بشرط أن لا أحاسب يوما لكنت أتقذّرها كما يتقذّر أحدكم بجيفة إذا مرّ بها أن تصيب ثوبه.

قال الفضيل: إذا قيل لك: تخاف اللّه؟ فاسكت فإنّك إن قلت: لا فقد جئت بأمر عظيم و إن قلت: نعم فالخائف لا يكون على ما أنت.

[وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي اذكر يا محمّد وقت أن أمرتهم على ألسنة الرسل أو بالإلقاء و الإلهام في قلوبهم [أَنْ آمِنُوا بِي «أن» مفسّرة لما في الإيحاء

ص: 118


1- الكهف: 49.

أي صدّقوا بوحدانيّتي بالربوبيّة و برسالة رسولي [قالُوا] كأنّه قيل: فما ذا قالوا؟ قالوا: [آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ و مخلصون في إيماننا و منقادون و مطيعون في الظاهر و القلب. روي أنّ عيسى كان يلبس الشعر و يأكل الشجر و لا يدّخر لغد شيئا و لم يكن له بيت و لا أهل و لا ولد و أينما أدركه اللّيل بات.

[سورة المائدة (5): الآيات 112 الى 113]

إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

قوله تعالى:

قرأ الكسائيّ: تستطيع بالتاء على الخطاب أي هل تستطيع سؤال ربّك؟ و هذه القراءة مرويّة عن عليّ و ابن عبّاس، و عن معاذ بن جبل قال: أقرأني رسول اللّه بالخطاب و بنصب ربّك. قال الرازيّ في تفسيره: و الخطاب أولى من الغياب، لأنّ قراءة الخطاب توجب شكّهم في استطاعة عيسى و بالغياب توجب شكّهم في استطاعة اللّه و لا شكّ أنّ الاولى أولى بجلالة شأنهم.

فلو قيل: إنّ على قراءة الغياب كيف يجوز لهم أن يكونوا باقين شاكّين في اقتدار اللّه مع أنّه سبحانه حكى عنهم أنّهم قالوا: «آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» و بعد الإيمان كيف يجوز هذا القول؟ فالجواب أنّه تعالى ما وصفهم بالإيمان و الإسلام بل حكى عنهم ادّعاءهم لهما بل دلّ قولهم: «وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا» على مرض في قلوبهم و كذلك قول عيسى لهم: «اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» يدلّ على أنّهم ما كانوا كاملين في الإيمان أو أنّهم كانوا مؤمنين إلّا أنّهم طلبوا هذه الآية ليحصل لهم كمال الإيمان كما قال إبراهيم: «وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (1) و لهذا السبب قالوا: «وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا» أو يكون المراد من طلبهم هذا الأمر استفهام أنّ ذلك هل يجوز في الحكمة أم لا؟ و ذلك لأنّ أفعال اللّه لمّا كانت موقوفة على رعاية وجوه الحكمة ففي الموضع الّذي لا يحصل فيه شي ء من الحكمة يكون الفعل ممتنعا فإنّ المنافي من جهة

ص: 119


1- البقرة: 260.

الحكمة كالمنافي من جهة القدرة، و هذه الأجوبة يتمشّى على قول المعتزلة و أمّا على قول الأشاعرة فهو محمول على أن اللّه هل قضى بذلك أم لا؟ و قال السدّيّ: معنى «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ»: هل يستطيع ربّك إن سألته؟ و هذا تفريع على أنّ (استطاع) بمعنى أطاع و السين زائدة.

قال ابن الأنباريّ: سمّيت المائدة بالمائدة لأنّها عطيّة من قول العرب: ماد فلان فلانا يميده ميدا إذا أحسن إليه؛ فالمائدة على هذا القول فاعلة من الميد بمعنى معطية و قال أبو عبيدة: المائدة فاعلة بمعنى المفعولة مثل عيشة راضية. و قال الزجّاج فاعلة من ماد يميد إذا تحرّك فكأنّها تميد بما عليها، و الحاصل المائدة: الخوان الّذي عليه الطعام.

في كتاب الشرعة قال: وضع الطعام على الأرض أحبّ إلى رسول اللّه ثمّ على السفرة و هي على الأرض، و الأكل على الخوان آداب الملوك و الجبّارين لئلّا يتطأطئوا عند الأكل و على السفرة فعل العرب. (1) [قالَ لهم عيسى بعد طلبهم المائدة: [اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا السؤال و إساءة الأدب [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بقدرته أو بصحّة نبوّتي [قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها] تمهيد عذر و بيان لما دعاهم إلى السؤال [نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها] و لا نريد إلّا اليقين و الاطمئنان و نحبّ أكلها فإنّ الجوع قد غلبنا [وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا] بأنّك رسول اللّه و هذا يقوّي قول من قال: إنّهم كانوا شاكّين في ابتداء الأمر في دينهم. قال الطبرسيّ: و الصحيح أنّهم طلبوا المعانية و العلم الضروريّ و معجزة سماويّة [وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ للّه بالتوحيد و لك بالنبوّة. أو المعنى: تكون من الشاهدين عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم.

[سورة المائدة (5): الآيات 114 الى 115]

قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)

ص: 120


1- روى الطريحي مرسلا ان رسول اللّه صم ما أكل على خوان قط لئلا يفتقر الى التطاول- و هو التمدد قائما- و منه يظهران المراد بالخوان كرسي معد للأكل.

قوله [اللَّهُمَ نداء و قوله [رَبَّنا] نداء ثان و قوله [تَكُونُ لَنا] صفة للمائدة و في قراءة عبد اللّه: تكن لنا بناء على أنّه جواب للأمر قال الفرّاء: و ما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل الجزم و الرفع مثل قوله تعالى: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي» (1) بالجزم و الرفع و مثل قوله: «فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي» (2) بالجزم و الرفع.

و العيد اسم لما عاد إليك من شي ء في وقت معلوم و اشتقاقه من عاد يعود و أصله: العود قال اللّيث: العيد كلّ يوم مجمع فسمّي العيد عيدا لأنّه يعود كلّ سنة بفرح جديد أي نتّخذ اليوم الّذي تنزل فيه المائدة عيدا نعظّمه نحن و من يأتي بعدنا. و نزلت يوم الأحد فاتّخذه النصارى عيدا [وَ آيَةً مِنْكَ كائنة دالّة على قدرتك و صحّة نبوّتي [وَ ارْزُقْنا] المائدة [وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ خير من يرزق لأنّه خالق الأرزاق.

قال الرازيّ: تأمّل في هذا الترتيب؛ فإنّ الحواريّين لمّا سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا فقدّموا ذكر الأكل فقالوا: «نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها» و أخّروا الأغراض الدينيّة الروحانيّة، فأمّا عيسى فإنّه لمّا طلب المائدة و ذكر أغراضه فيها قدّم الأغراض الدينيّة و أخّر الأغراض الدنيويّة حيث قال: «وَ ارْزُقْنا» و عند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح. ثمّ إنّه عليه السلام بصفاء دينه و شدّة إشراق روحه لمّا ذكر الرزق بقوله: «و ارزقنا» لم يقف عليه و انتقل من الرزق إلى الرازق. قال الطبرسيّ:

و في هذا دلالة على أنّ العباد قد يرزق بعضهم بعضا لأنّه لو لم يكن كذلك لم يصحّ أن يقال: و أنت خير الرازقين.

[قالَ اللَّهُ مجيبا له إلى ما التمسه: [إِنِّي مُنَزِّلُها] أي المائدة [فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ] إنزالها عليكم [فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قيل: في معناه أقوال:

أحدها أنّه أراد عالمي زمانه فجحد القوم و كفروا بعد نزولها فمسخوا قردة و خنازير. و قيل: خنازير. و ثانيها أنّه أراد عذاب الاستئصال. و الثالث أنّه أراد جنسا

ص: 121


1- مريم: 5- 6.
2- القصص: 34.

من العذاب لا يعذّب به أحدا غيرهم و ذلك لأنّهم رأوا الآية الّتي هي من أزجر الآيات عن الكفر بعد سؤالهم فاقتضت الحكمة اختصاصهم بفنّ من العذاب.

و اختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟ قال الحسن و مجاهد: إنّها لم تنزل و أنّ القوم لمّا سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها و قالوا: لا نريدها فلم تنزل، قال المحقّقون من العلماء: إنّها نزلت لقوله: «إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» و لا يجوز أن يقع في خبره الخلف و لأنّ الأخبار قد استفاضت عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الصحابة و التابعين أنّها نزلت. (1) روي أنّ عيسى اغتسل و لبس جبّته و هي من صوف و صلّى ركعتين فطأطأ رأسه و غضّ بصره ثمّ دعا و اختلف في كيفيّتها فروي عن عمّار بن ياسر عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: نزلت المائدة خبزا و لحما و ذلك لأنّهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منها فقيل لهم: فإنّها مقيمة معكم ما لم تخونوا و تخبؤوا فإن فعلتم ذلك عذّبتم قال: فما مضى يومهم حتّى خبؤوا و رفعوا و خانوا قال ابن عبّاس: إنّ عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوما ثم اسألوا اللّه ما شئتم يعطكموه فصاموا ثلاثين يوما فلمّا فرغوا قالوا: يا عيسى إنّا لو عملنا لأحد من الناس فقضينا عمله لأطعمنا طعاما و إنّا صمنا و جعنا فادع اللّه أن ينزّل علينا مائدة من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها؛ عليها سبعة أرغفة و سبعة أحوات حتّى وضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم و هو المرويّ عن الصادق. و روي أنّها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين و هم ينظرون حتّى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى و قال: اللهم اجعلنا من الشاكرين و لا تجعلها مثلة و عقوبة، ثمّ قام و توضّأ و صلّى و بكى ثمّ كشف المنديل الّذي عليها و قال: بسم اللّه خير الرازقين فإذا سمكة مشويّة بلا فلوس و لا شوكة يسيل دسمها و عند رأسها ملح و عند ذنبها خلّ و حولها من أنواع البقول ما خلا الكراث، و إذا خمسة أرغفة على واحد منها

ص: 122


1- روى البحراني (قده) في تفسير البرهان «ج 1: 511- 512» عدة روايات مسندة و مرسلة تدل على ذلك، و منها رواية عمار الآتية، و في بعضها ذكر ما كان فيها من الطعام و من أكل منها من الناس.

زيتون و على الثاني عسل و على الثالث سمن و على الرابع جبنّ و على الخامس قديد فقال شمعون رأس الحواريّين: يا روح اللّه أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال:

ليس منهما و لكنّه اخترعه اللّه بقدرته، كلوا ما سألتم و اشكروا يمددكم اللّه و يزدكم من فضله.

فقالوا: يا روح اللّه لو أريتنا من هذه الآية آية اخرى فقال عيسى: يا سمكة احي بإذن اللّه فاضطربت ثمّ قال لها: عودي كما كنت فعادت مشويّة فلبثت المائدة يوما واحدا فأكل من أكل منها ثمّ طارت و لم تنزل بعد ذلك اليوم و قيل: كانت تأتيهم أربعين يوما غبّا (1) يجتمع عليها الفقراء و الأغنياء و الصغار و الكبار يأكلون حتّى إذا فاء الفي ء طارت و هم ينظرون، و لم يأكل منها فقير إلّا غنى مدّة عمره و لا مريض إلّا برى ء و لم يمرض أبدا فأوحى اللّه إلى عيسى: اجعل مائدتي للفقراء دون الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء حتّى شكّوا و شكّكوا الناس فيها فأوحى اللّه إلى عيسى: إنّي شرطت على المكذّبين أنّ من كفر بعد نزولها اعذّبه فقال عيسى عليه السلام: «إن تعذّبهم فإنّهم عبادك و إن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم» فمسخ منهم ثلاث مائة و ثلاثة و ثلاثون رجلا باتوا من ليلهم على فراشهم مع نسائهم في بيوتهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات و الكناسات و يأكلون العذرة في الجشوش فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى و بكوا و بكى على المسوخين أهلوهم فعاشوا ثلاثة أيّام ثمّ هلكوا.

و في تفسير أهل البيت: كانت المائدة تنزل عليهم يجتمعون عليها و يأكلون منها ثمّ ترفع فقال كبراؤهم و مترفوهم: لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا فرفع اللّه المائدة ببغيهم و كبرهم و مسخوا قردة و خنازير.

و صار يوم نزل المائدة عيدا لامّة عيسى كما أنّ السبت عيدا لامّة موسى و كان لقوم إبراهيم عيد و كانوا قد خرجوا لعيدهم (2) و دخل إبراهيم معبدهم و كسر

ص: 123


1- أى يجي ء يوما و لا يجي ء يوما.
2- لا وجه ظاهرا للتشريك بين أعياد اليهود و النصارى و المسلمين و بين عيد قوم ابراهيم، فان أعياد اليهود و النصارى و المسلمين كانت بتشريع او بتصويب من اللّه تعالى بخلاف قوم ابراهيم فان عيدهم كان صناعيا من مجعولات أنفسهم و العلم عنه اهله.

أصنامهم و لامّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم أعياد، فالعيد المكرّر في الأسبوع: الجمعة و هو عيد الأسبوع مرتّب على إكمال الصلوات المكتوبات باجتماع الناس فيه مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم بأداء صلاة الجمعة و إدراك مثوباتها فإن اللّه تعالى فرض على المؤمنين في اليوم و الليلة خمس صلاة و إنّ الدنيا تدور على سبعة أيّام فكلّما كمل دور اسبوع من أيّام الدنيا و استكمل المسلمون صلاتهم شرع لهم في يوم استكمالهم عيد يوم الجمعة و هو اليوم الّذي كمل فيه الخلق (1) و فيه خلق آدم و ادخل الجنّة و اخرج منها، و فيه منتهى أمر الدنيا فتنزل و تقوم الساعة فيه فجعل فيه الاجتماع على سماع الذكر و الموعظة و صلاة الجمعة عيدا لهم.

و في اجتماع يوم الجمعة شبه من الحجّ حتّى قيل: إنّها حجّ المساكين قال سعيد بن المسيّب: شهود الجمعة أحبّ إليّ من حجّة النافلة و التكبير فيه يقوم مقام الهدي و شهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة الاخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما أنّ الحجّ المبرور يكفر ذنوب تلك السنة إلى الحجّة الاخرى. و قد روي إذا سلمت الجمعة سلمت الأيّام.

و امّا الأعياد الّتي تكرّر في السنة فعيد الفطر من صوم رمضان و هو مرتّب على إكمال الصيام و يزيد ثوابه بأداء صلاته و آدابه و الصوم الركن الثالث من أركان الإسلام و مبانيه. و العيد الثالث في الإسلام باعتبار و الثاني باعتبار عيد النحر و هو أكبرهما و أفضلهما و هو مترتّب على إكمال الحجّ و هو الركن الرابع من أركان الإسلام و مبانيه فإذا أكمل المسلمون حجّتهم غفر لهم و من أعياد المسلمين النيروز و كان عيدا للعجم و قد أمضته الشريعة و سنّه النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم (2) و من الأعياد الغدير بل من أعظمها و أتّمها و أكملها كيف لا و فيه تمّت نقائص الإسلام و قد وقع القوس بيد باريها و جرت أنهار الهداية على مجاريها.

ص: 124


1- اى خلق السموات و الأرض على ما في احتجاج النبي مع اليهود فان الاخبار الواردة في باب الخلق تدل على ان يدء خلق السماوات و الأرض يوم الأحد و اخره يوم الجمعة و السبت معطل.
2- بلسان الأخيار من اهل بيته، و اما إمضاء الشريعة فمن حيث تصويب مطلق اسباب التراؤف و التراحم.

[سورة المائدة (5): الآيات 116 الى 120]

وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (120)

قوله تعالى:

قيل: إنّ هذا الكلام قيل لعيسى حين رفعه إلى السماء و تعلّق بظاهر قوله:

[وَ إِذْ قالَ اللَّهُ و «إذ» تستعمل للماضي و قيل: عطف على قوله «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ» و على هذا القول إنّما يذكره لعيسى يوم القيامة، و هذا القول أصحّ لأنّه تعالى عقّب الكلام بقوله: «هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» و المراد به يوم القيامة [أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ صيّروني و امّي معبودين بطريق إشراكهما في العبادة معي.

فلو قيل: إنّ الاستفهام كيف يليق به تعالى على أنّه تعالى كان عالما بأنّ عيسى لم يقل ذلك فكيف بهذا الخطاب؟ فالجواب أنّه هذا الاستفهام توبيخ للقائل و استفهام لتعيين القائل حتّى يجازى.

فإن قيل: إنّ أحدا من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهيّة عيسى و مريم مع القول بنفي إلهيّة اللّه تعالى فكيف ينسب هذا القول إليهم؟ قال الرازيّ: إنّ اللّه هو الخالق و النصارى يعتقدون أنّ خالق المعجزات الّتي ظهرت على يد عيسى و مريم هو عيسى و مريم و اللّه ما خلقها فهم قالوا: إنّ الخالق لتلك الأمور هما، و اللّه ليس خالقها فأثبتوا في خلق بعض الأشياء إلهيّتهما و نفوا فيها إلهيّة اللّه فصحّ بهذا التأويل هذه الحكاية.

ص: 125

[قالَ سُبْحانَكَ كأنّه قيل: فماذا يقول عيسى حينئذ؟ فقيل: يقول سبحانك أي انزّهك تنزيها من أن أقول هذه المقالة أو من أن يقال في شأنك هذه المقالة.

[ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أي ما يستقيم لي أن أقول ما ليس بحقّ لي أن أقوله و المراعات حسن الأدب و الخضوع لم يقل: ما قلته فوّض ذلك إلى علمه تعالى. قال أبو ردق: إذا سمع عيسى هذا الخطاب- و المراد إذا يسمع- ارتعدت فرائصه و تنفجر من أصل كلّ شعرة في جسده عين من دم و هذا الخطاب و إن كان ظاهره مع عيسى و لكن حقيقته مع الامّة. و معنى «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» أنّ صدور هذا القول مستلزم لعلمك قطعا فحيث انتفى العلم انتفى الصدور قطعا ضرورة استلزام عدم اللّازم عدم الملزوم.

[تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم ما اخفي و لا أعلم ما تخفي و تعلم ما في غيبي و لا أعلم ما في غيبك و قيل: المراد: تعلم ما كان منّي في الدنيا و لا أعلم ما كان منك في الآخرة. و تمسّك المجسّمة بهذه الآية و قالوا: النفس هو الشخص و ذلك يقتضي كونه تعالى جسما و هذا الكلام لا يصدر إلّا عن أحمق بحت لأنّ النفس عبارة عن الذات، نفس الشي ء و ذاته بمعنى واحد [إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تأكيد للجملتين المتقدّمين أعني قوله: «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» و قوله: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ».

ثمّ حكى سبحانه عن عيسى: [ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ «أن» مفسّرة و المفسّر هو الهاء في «به» الراجع إلى القول المأمور به أي ما قلت لهم إلّا قولا أمرتني به و هو أن أقول لهم: اعبدوا اللّه خالقي و خالقكم [وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً] رقيبا أراقب أحوالهم و أحملهم على العمل بموجب أمرك و أمنعهم عن المخالفة أو أشاهد أحوالهم من كفر و إيمان [ما دُمْتُ فِيهِمْ أي مدّة دوامي فيما بينهم [فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي قبضتني إليك من بينهم و رفعتني إلى السماء [كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي أنت لا غيرك كنت حافظا لأعمالهم و المراقب لها [وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] مطّلع عليه مراقب له و «على» متعلّق بشهيد و التّقديم لمراعاة الفاصلة [إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ فبدأ اختيارهم

ص: 126

و لا اعتراض على المولى و المالك المطلق فيما يفعله بملكه [وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي فلا عجز و لا استقباح فإنّك القادر و القويّ على الثواب و العقاب الّذي لا يثيب و لا يعاقب إلّا عن حكمة و صواب؛ فإن عذّبت فعدل و إن غفرت ففضل.

فإن قلت: مغفرة المشرك قطعيّة الانتفاء بحسب الوجود و تعذيبه قطعي الوجود فما معنى «إن» المستعمل فيما كان كلّ واحد من جانبي وجوده و عدمه حائزا محتمل الوقوع؟

فالجواب كون غفران المشرك قطعيّ الانتفاء بحسب الوجود لا ينافي كونه حائز الوجود بحسب العقل فصحّ استعمال كلمة «إن» فيها لأنّه يكفي في صحّة استعمالها مجرّد الإمكان الذاتي و الجواز العقلي. و قيل وجه آخر و هو أنّ الترديد بالنسبة إلى فرقتين و المعنى:

إن تعذّبهم أي من كفر منهم و إن تغفر لهم أي من آمن منهم.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية أحيى رسول اللّه بها ليلته و كان بها يقوم و بها يقعد و بها يسجد ثمّ قال: امّتي امّتي يا ربّ فبكى فنزل جبرئيل فقال: اللّه يقرؤك السلام و يقول لك: إنّا سنرضيك في امّتك و لا نسؤك.

[قالَ اللَّهُ أي يقول اللّه يوم القيامة عقيب جواب عيسى مشيرا إلى صدقه في ضمن بيان حال الصادقين الّذين هو في زمرتهم: [هذا] أي يوم القيامة و هو مبتدأ و خبره ما بعده [يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ المراد الصدق في الدنيا، فإنّ النافع ما كان حال التكليف فالجاني المعترف يوم القيامة بجنايته لا ينفعه عذره و اعترافه. و المراد من الصدق في الأمور الدينيّة الّتي معظمها التوحيد؛ فالصادقون المراد بهم في الآية الرسل الناطقون بالصدق الداعون إلى ذلك و الأمم المصدّقون لهم عقدا و عملا [لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً] كأنّه قيل: ما لهم من النفع؟ فقيل: نعيم دائم و ثواب خالد [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بالطاعة [وَ رَضُوا عَنْهُ بنيل الكرامة و الرضوان فيض زائد على الجنّات لا غاية وراءه و لذلك قال سبحانه: [ذلِكَ أي الرضوان هو [الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أى النجاة الوافرة.

[لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَ تنبيه على كذب النّصارى و فساد ما

ص: 127

زعموا في حقّ المسيح و امّه أي له خاصّة تلك السماوات و الأرض و ما فيهما من العقلاء و غيرهم يتصرّف فيها كيف يشاء و عيسى و امّه فيها فكيف يكونان إلهين و هو يتصرّف كيف يشاء فيها إيجادا و إعداما و إماتة و إحياء و أمرا و نهيا من غير أن يكون لشي ء من الأشياء مدخل في ذلك لا عيسى و لا غيره؟ [وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] منزّه عن العجز و الضعف و من كان له الأمر و الإيجاد و مالك الملك فله بحكم المالكيّة أن تنسخ شرع موسى و يجعل شرع عيسى، و ليس لليهود حقّ الاعتراض على نبوّة عيسى، و كذلك يرفع شريعته و يضع شريعة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم و يخلّدها إلى يوم القيامة و ليس للنصارى الرّد و النكول.

تمّت السورة المائدة مع ما فيها من الفائدة و يتلوها ...

ص: 128

سورة الانعام

اشارة

نزلت بمكّة جملة واحدة معها سبعون ألف ملك قد سدّ و اما بين الخافقين و لهم زجل بالتسبيح و التحميد حتّى كادت الأرض ترتجّ فقال النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم: سبحان ربّي العظيم سبحان ربّي الأعلى و خرّ ساجدا و روي عنه صلى اللّه عليه و آله و سلّم مرفوعا: من قرأ ثلاث آيات من أوّل سورة الأنعام إلى قوله «تكسبون» حين يصبح وكّل اللّه به سبعين ألف ملك يحفظونه و كتب له مثل أعمالهم إلى يوم القيامة، و ينزل ملك من السماء السابعة و معه مرزبة من حديد كلّما أراد الشيطان أن يلقي في قلبه شيئا من الشرّ ضربه بها و جعل بينه و بين الشيطان سبعين ألف حجاب فإذا كان يوم القيامة قال اللّه تعالى: يا ابن آدم امش تحت ظلّي و كل من ثمار جنّتي و اشرب من ماء الكوثر و اغسل من ماء السلسبيل فأنت عبدي و أنا ربّك لا حساب عليك و لا عذاب كذا رواه الواحديّ في البسيط.

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إنّ سورة الأنعام نزلت جملت واحدة و معها سبعون ألف ملك يعظّموها و يجلوها فإنّ اسم اللّه فيها في سبعين موضعا و لو يعلم النّاس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها، ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: من كانت له حاجة إلى اللّه يريد قضاءها فليصلّ أربع ركعات بفاتحة الكتاب و الأنعام و ليقل في صلاته إذا فرغ من العبادة: يا كريم يا كريم يا كريم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا أعظم من كلّ عظيم يا سميع الدعاء يا من لا يغيّره اللّيالي و الأيّام صلّ على محمّد و آل محمّد و ارحم ضعفي و فقري و فاقتي و مسكنتي يا من رحم الشيخ يعقوب حين ردّ عليه يوسف قرّة عينه، يا من رحم أيّوب بعد طول بلائه، يا من رحم محمّدا من اليتم آواه و نصره على جبابرة قريش و طواغيتها و أمكنه منهم يا مغيث يا مغيث يا مغيث تقول ذلك مرارا فو الّذي نفسي بيده لو دعوت اللّه بها ثمّ سألت اللّه جميع حوائجك لأعطاك.

ص: 129

و روى أبو صالح عن ابن عبّاس قال: من قرأ سورة الأنعام في كلّ ليلة كان من الآمنين يوم القيامة و لم ير النار بعينه أبدا. (1) أقول: و لعلّ السبب في إنزال هذه السورة جملة واحدة أنّها مشتملة على الأصول و دلائل التوحيد و العدل و النبوّة و المعاد، و إنزال ما يدلّ على الأحكام قد يكون المصلحة أن تنزّل اللّه قدر حاجتهم و بحسب الحوادث و النوازل و لكن ما يدلّ على علم الأصول أنزل اللّه جملة واحدة و ذلك يدلّ على أنّ تعلّم الأصول واجب على الفور لا على التراخي.

ص: 130


1- رواها و بعض ما تقدم في ثواب الأعمال: 102.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأنعام (6): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)

بدأ اللّه سبحانه هذه السورة بالحمد لنفسه إعلاما بأنّه المستحقّ لجميع المحامد لأنّ اصول النعم و فروعها منه تعالى و لأنّ له الصفات العليا فقال: [الْحَمْدُ لِلَّهِ اعلم أنّ المدح أعمّ من الحمد و الحمد أعمّ من الشكر و ذلك لأنّ المدح يحصل للعاقل و لغير العاقل فكما يحسن مدح الرجل العاقل كذلك يمدح اللؤلؤ الحسن شكله و صفاته لكنّ الحمد لا يحصل إلّا للعاقل المختار بسبب ما يصدر عنه من الإنعام و الإحسان؛ فثبت أنّ المدح أعم من الحمد و أمّا بيان أنّ الحمد أعمّ من الشكر فلأنّ الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر منه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك لكنّ الشكر فهو عبارة عن تعظيم المنعم لأجل إنعام وصل إليك فصار أعمّ من الشكر.

فكان قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» تصريحا بأنّ المؤثّر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلق بالقدرة و المشيئة و لم يقل: الشكر للّه لأنّ الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر عنه و وصل إليك، و هذا مشعر بأنّ العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعم فحينئذ يكون هذا التعظيم بسبب وصول النعمة إليه و هو المطلوب الأصليّ له، و هذه درجة حقيرة فأمّا إذا قال العبد: الحمد للّه يدلّ على أنّ العبد حمده لأجل كونه مستحقّا للحمد لا لخصوص أنّه تعالى أوصل النعمة إليه فيكون حينئذ الإخلاص أكمل، و استغراق القلب أتمّ و انقطاعه عمّا سوى الحقّ أقوى و أثبت. و كلمة الحمد لفظ مفرد محلّى بالألف و اللّام فيفيد أصل الماهيّة و الحقيقة فيفيد هذه الكلمة أنّ هذه الماهيّة

ص: 131

و الحقيقة للّه و ذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير اللّه و اختصاصه على الحقيقة به تعالى فاقتضى أنّ جميع أقسام الحمد و الثناء و التعظيم ليس إلّا اللّه.

فإن قيل: إنّ شكر المنعم واجب مثل شكر الأستاذ على تعليمه و شكر السلطان على عدله و شكر المحسن على إحسانه كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه؛ فالجواب أنّ المحمود و المشكور في الحقيقة ليس إلّا اللّه لأنّ صدور الإحسان من العبد يتوقّف على داعية الإحسان، و حصول الداعية ليس من العبد و إلّا لا فتقر في حصولها إلى داعية اخرى و لزم التسلسل، بل حصولها ليس إلّا من اللّه فيكون المحسن في الحقيقة هو اللّه و كلّ إحسان يقدم عليه أحد من الخلق، فالانتفاع به لا يكون إلّا بواسطة إحسان اللّه، ألا ترى أنّه لولا أنّ اللّه خلق أنواع النعمة و إلّا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة و الفواكه و الذهب إلى الغير، و لو لا أنّه سبحانه أعطى الإنسان الحواسّ و القوى لم يمكنه الانتفاع بتلك النعم و إلّا لعجز عن الانتفاع بها فثبت أنّ كلّ إحسان يصدر عن محسن سوى اللّه فالانتفاع به يكون بواسطة إحسان اللّه.

و بالجملة فقوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» يفيد هذه المعاني فقيل: معناه: «احمدوا اللّه» و إنّما جاء بصيغة الخبر لإفادة معنى أنّه تعالى مستحقّ للحمد سواء حمده حامد أو لم يحمده.

ثمّ إنّ المقصود من الآية ذكر الحجّة فذكره بصيغة الخبر أولى.

و قيل: معناه: قولوا: الحمد للّه و قد يقرّر في العقول أنّ القلوب مجبولة على حبّ من أحسن إليها و بغض من أساء إليها فإذا أمر اللّه العبد بالتحميد و كان الأمر بالتحميد ممّا يحمله على تذكّر النعم صار ذلك الأمر موجبا للعبد على تذكّر أنواع النعم فيوجب رسوخ محبّة اللّه في قلب العبد و هو من أحسن الفوائد للعبد و من موجبات القرب و لذلك وقع الابتداء في الكتاب الكريم بهذا الكلمة فقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» في الفاتحة و في هذه السورة بقوله:

[الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و السماوات و الأرض حاوية لأكثر موادّ العالم

ص: 132

من الأجسام و الفلكيّات و ما فوقها من العرش و الكرسيّ، فينبغي للعبد أن يتأمّل و يتفكّر في طبقات السماوات و اتّساعها و أجرامها و أبعادها، و الكواكب الثابتة و السيّارة، ثمّ يتأمّل في عالم الأرض و العناصر الأربعة و المواليد الثلاثة و هي المعادن و النبات و الحيوان و كيفيّة حكمة خلق اللّه في الأشياء الحقيرة و الضعيفة و جامعيّة أجزائها مع صغرها في الحجم كالبقّ و البعوض و أمثالهما، ثمّ ينتقل إلى معرفة الأجناس و أعراضها و المنافع الحاصلة من كلّ نوع منها، ثمّ إذا استكمل نظره يتأمّل إلى تعرّف مراتب الأرواح السفليّة و العلويّة و الفلكيّة، و مراتب الأرواح المقدّسة، فإذا استحضر مجموع هذه الأشياء المحدثة المخلوقة بقدر القوّة البشريّة فقد حضر في عقله من المدركات ذرّة من معرفة قدرة اللّه من العوالم، و عرف حينئذ أنّ إيجاد اللّه هذه العوالم العظيمة من جوده تعالى و وجوده، فعند هذا يعرف من قوله: «خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» ذرّة و هذا بحر لا ساحل له و كلام لا آخر له.

فمثل هذا القادر الخالق لهذا الخلقة العظيمة منزّه عن المثل و الشبيه في الذات و الصفات و الأفعال فأفعاله تعالى لا تشبه أفعال الخلق و كذلك ذاته و صفاته، فعند ذلك يحصل معرفة التوحيد معرفة ما و المعاني المتوجّهة في هذه كثيرة مثل أنّ قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» جار مجرى ما يقال: جاءني الرجل الرجل الفقيه فإنّ هذا يدلّ على أنّ الجائي كان موصوفا بهذه الصفة؛ فالإله هو الّذي يخلق السماوات و الأرض و لا يكون غيره إلها.

و اعلم أنّ السماوات جارية مجرى الفاعل و الأرض مجرى القابل و لذلك ذكر السماوات بلفظ الجمع و الأرض بصيغة الواحد. و الكثرة و التعدّد في السماء اقتضت الاختلافات بسبب الاتّصالات الكوكبيّة ليحصل بها الفصول و سائر الأحوالات المختلفة الّتي بسببها يحصل نظام هذا العالم.

و المقصود من هذه الآية ذكر الدلالة على وجود الصانع؛ و بيانه أنّ أجرام السماوات و الأرض مقدّرات في امور مخصوصة بمقادير مخصوصة و ذلك لا يمكن حصوله إلّا بتخصيص

ص: 133

الفاعل المختار بدليل أنّ كلّ حركة فإنّه يمكن وقوعها أسرع ممّا وقع و أبطأ ممّا وقع فاختصاص تلك الحركة المعيّنة بذلك القدر المعيّن من السرعة و البطي ء اختصاص مجعول فيه، و لا بدّ لذلك من جاعل بدليل أنّ الأجسام متساوية في الطّبيعة الجسميّة باتّصاف بعضها بالحركة و بعضها بالسكون دون العكس، و بعضها بالفلكيّة و بعضها بالعنصريّة يحتاج إلى مقدّر و مخصّص بتصرّف فيها كيف شاء، و الحركة فعل حادث لا بدّ له من أوّل فإنّ وجود حركة الأوّل لها محال لأنّ حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة و هذا الانتقال و الحركة يقتضي كونها مسبوقة بالغير و وجب كون ذلك الغير و الفاعل متقدّما على هذه الحركات، و الأثر غير المؤثّر فلا يمكن أن يقال: إنّ المؤثّر علّة موجبة بالذات بل فاعل مختار خارج من ذات الأشياء خالق لها مستغن عنها خلقها إفاضة و خيرا. كذب العادلون باللّه و ضلّوا ضلالا بعيدا.

قوله: [وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ] يعنى الليل و النهار و قيل: المراد: الجنّة و النار و «الجعل» هو الإنشاء و الإبداع كالخلق و الفرق بين الخلق و الجعل أنّ الخلق فيه معنى التقدير و الإنشاء التكويني و في الجعل معنى التصيير كإنشاء شي ء من شي ء و تصيير شي ء شيئا مثل قوله تعالى: «وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» (1) «وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» (2) و إنّما حسن لفظ الجعل في الآية لأنّ النور و الظلمة لمّا تعاقبا صار كان كل واحد منها تولّد من الآخر و قدّم ذكر الظلمات لأنّ عدم المحدثات متقدّم على وجودها كما روي أنّه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثمّ رشّ عليهم من نوره. و ذكر الظلمات بصيغة الجمع فعلى قول من قال: الظلمات الكفر، و النور الإيمان فظاهر لأنّ الحقّ واحد و الباطل كثير و أمّا على قول من فسّرهما على الكيفيّة المحسوسة لأنّ النور عبارة عن تلك الكيفيّة الكاملة القويّة و الظلمة تقبل التناقص قليلا قليلا و تلك المراتب كثيرة.

ثمّ ذكر بطريق التعجّب سبحانه ممّن جعل له شريكا مع ما يرى من الآيات الدالّة على وحدانيّته فقال: [ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] و جحدوا الحقّ [بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي

ص: 134


1- النساء: 1.
2- النبأ: 8.

يسوّون به غيره بأن جعلوا له أندادا. و من وجوه التعجّب أنّ هؤلاء الكفّار مع اعترافهم بأنّ اصول النعم منه تعالى و أنّه هو الخلق و الرازق كما قال: سبحانه «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»* (1) فنقضوا ما اعترفوا به و عبدوا غيره ما لا ينفع و لا يضرّ من الحجارة و غيرها.

قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا] أي ابتدأ خلقكم أيّها الناس من تراب مخلوط بالماء لما أنّه أصل البشر قال السدّيّ: بعث اللّه جبرئيل إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها فقالت الأرض: إنّي أعوذ باللّه منك أن تنقص منّي فرجع جبرئيل و لم يأخذ شيئا حياء من اسم اللّه قال: يا ربّ إنّها عاذت بك فبعث ميكائيل فاستعاذت كالمرّة الاولى، فاستعاذت فرجع ميكائيل فبعث إسرافيل فكان كذلك فبعث ملك الموت فعاذت منه باللّه فقال ملك الموت: و انا أعوذ باللّه أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء و السوداء و البيضاء فلذلك اختلف ألوان بني آدم ثمّ عجنها بالماء العذب و الملح و المرّ فقال اللّه لملك الموت: رحم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل الأرض و لم ترحمها لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك فلمّا خلق اللّه آدم من تراب و جعله طينا ثمّ تركه حتّى كان حمأ مسنون أي أسود متغيّرا، منتنا ثمّ خلقه و صوّره و تركه حتّى كان صلصالا كالفخّار أي يابسا مصوّتا كالمطبوخ بالنار، ثمّ نفخ فيه من روحه و لمّا كان آدم أصلنا و نحن من أصله جاز أن يقول لنا: خلقكم من طين أو أنّا متولّدون من النطفة و هي تتولّد من أجزاء الأرض، فصحّ هذا القول.

«ثُمَّ قَضى أَجَلًا» أي كتب و قدّر أجلا، و القضاء يكون بمعنى الحكم و بمعنى الأمر و بمعنى الخلق و بمعنى الإتمام و الإكمال. و المعنى: كتب لموت كلّ واحد منكم أجلا خاصّا به و حدّا معيّنا من الزمان ينفى عند حلوله لا محالة و «ثمّ» للإيذان بتفاوت بين خلقهم و تفاوت آجالهم.

[وَ أَجَلٌ مُسَمًّى أي و حدّ معيّن لبعثكم جميعا و «أجل» مبتدأ و خبره [عِنْدَهُ أي ثبت معيّن في علمه لا يتغيّر و لا يقف على وقت حلوله أحد و علمه عنده و هو يوم

ص: 135


1- لقمان: 25. الزمر: 38.

القيامة و قيل: الأجل الأوّل في الآية: النوم و الثاني: الموت و قيل: الأجل الأوّل مقدار ما انقضى من عمره و الأجل الثاني مقدار ما بقي.

قال حكماء الإسلام: إنّ لكلّ إنسان أجلين أحدهما الآجال الطبيعيّة و الثاني الآجال الاختراميّة؛ أمّا الآجال الطبيعيّة فهو الّذي لو بقي الشخص على طبيعته و مزاجه و لم يتعرّضه العوارض الخارجيّة و الآفات المهلكة لانتهت مدّة بقائه إلى أن تتحلّل رطوبته و ينطفئ حرارته الغريزيّتان و أمّا الآجال الاختراميّة فهي الّتي تحصل بسبب من الأسباب الخارجيّة كالحرق و الغرق و لدغ الحشرات و شرب السمّ و أمثالها.

فان قيل: إنّ قوله: «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ»* (1) و قوله:

«فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ* [لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى»]* (2) صريح في الدلالة على السبق على المسمّى؛ فالجواب أنّ تعدّد الأجل إنّما هو بالنسبة إلينا و أمّا بالنسبة إليه فهو واحد قطعا، و بيانه أنّه تعالى عالم في الأزل بكلّ الموجودات و مقدّر لها حسبما شمله علمه، فهو يقول في الأزل مثلا: إنّ فلانا إن اتّقى و أطاع يبلغ إلى أجله المسمّى- و الأجل هاهنا الأجل الثاني الأطول- و إن لم يتّق لم يبلغ هذه المرتبة لكن يعلم أنّه يفعل أحد الفعلين معيّنا فيقدّر له الأجل المعيّن فيكون المقدّر في علم اللّه الأجل المعيّن، و إنّا لعدم اطّلاعنا من علم اللّه لم نعلم أنّ ذلك الفلان أيّ الفعلين فعل، و أيّما الأجلين قضي له؛ فإذا فعل أحدهما المعيّن، و حلّ الأجل المرتّب عليه علمنا أنّ ذلك هو المقدّر المسمّى.

فالتردّد بالنسبة إلينا لا في التقدير، و على هذا قول اللّه للكافر: أسلم تدخل الجنّة و لا تكفر تدخل النار، مع علمه عدم إسلامه في الأزل و الأمر و النهي لإظهار الإطاعة أو المخالفة في الظاهر كمن يريد إظهار عدم إطاعة عبده للحاضرين فيأمره بشي ء و هو يعلم أنّه لا يفعله، و العلم بعدم الإطاعة للحاضرين المترددين إنّما يحصل بأمره و كذا جميع

ص: 136


1- الحجر: 5.
2- نوح: 3- 4.

المقدّرات الالهيّة من أفعال العباد الاختياريّة من هذا القبيل.

فظهر أنّ التردّد بالنسبة إلينا دون علم اللّه إلّا أن يطّلعنا عليه بأخباره الواقع في علمه كما أخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم على بعض ما وقع من حال الكفّار في زمانه مثل قوله:

«أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»* (1) و مثل قوله تعالى: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» (2) فهذا إخبار بما في علمه من أنّهم لا يختارون الايمان انتهى.

قوله: [ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ خطاب للكفّار و الّذين شكّوا في البعث و النشور استبعاد لامترائهم في البعث و احتجاج عليهم بأنّه سبحانه خلقهم و قضى عليهم الموت و هم يشاهدون ذلك ثمّ بعد هذا يشكّون و يكذّبون بالبعث.

[سورة الأنعام (6): آية 3]

وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)

قوله تعالى:

قال الطبرسيّ: الأشبه أن يكون «هو» في الآية ضمير القصّة و الشأن و تقديره:

الأمر: اللّه يعلم في السماوات و في الأرض سرّكم و جهركم فاللّه مبتدأ و «يعلم» خبره و على قول من قال: إنّ أصل اللّه إله فيكون المعنى: هو المعبود في السماوات و الأرض او الشأن: المعبود في السماوات و في الأرض يعلم سرّكم و جهركم و يجوز أنّ الضمير راجع إلى المذكور.

قيل: و يكون الخطاب في سرّكم لجميع الخلق من الملائكة و الجنّ و الإنس فهو سبحانه عالم بجميع أسراركم و أحوالكم لكن إذا جعلت اسم اللّه علما ثمّ علّقت به قوله: «فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ» لم يجز و إن علّقته بمحذوف و يكون خبر «للّه» او حالا عنه أو هم بان يكون الباري سبحانه في محلّ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

و قال أبو بكر السرّاج: إنّ لفظ «اللّه» و إن كان علما ففيه معنى الثناء و التعظيم الذي يقرب من الفعل، فيجوز أن يتعلّق لذلك بالمحلّ، و تأويله: و هو المعظّم و المنزّه في

ص: 137


1- يس: 10.
2- البقرة: 6.

السماوات و في الأرض. قال الزجّاج: لو قلت: هو زيد في الدار لم يجز إلّا أن يكون في الكلام دليل على أنّ زيدا يدبّر أمر الدار فيؤول المعنى أنّ زيدا هو المدبّر في الدار و حينئذ على قول أبي بكر السرّاج و الزجّاج يكون الكلام في متعلّقه ما دلّ عليه اسم اللّه فيصحّ المعنى و يكون «هو اللّه» مبتدءا و خبرا أي هو المتفرّد بالألوهيّة في السماوات و في الأرض، يعنى في كلّ مكان إله فلا يكون إلى مكان أقرب من مكان.

ثمّ أكّد بقوله: [يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ أي الظاهر المشكوف و الخفيّ المكتوم [وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من نيّاتكم و أعمالكم و أحوالكم.

و تمسّك بعض الحمقاء القائلون بأنّ اللّه في مكان تمسّكوا بهذه الآية، قالوا:

هذه الآية تدلّ على أنّ الإله مستقرّ في السماء و هو غلط لأنّه يستلزم كونه في المكانين معا لأنّه قال: «وَ فِي الْأَرْضِ» و هو محال، و أجابوا عن هذا الجواب بأنّه أجمعوا على أنّه ليس بموجود في الأرض، و لا يلزم من ترك أحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر؛ فوجب أن يبقى ظاهر قوله: «وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ» على ذلك الظاهر ثمّ قالوا: و لأنّ من القرّاء من وقف عند قوله: «وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ» ثمّ يبتدئ فيقول: «وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ» و المعنى أنّه سبحانه يعلم سرائركم الموجودة في الأرض فيكون قوله: «فِي الْأَرْضِ» صلة لقوله: «سِرَّكُمْ» هذا تمام كلامهم الباطل.

قال الرازيّ: إنّا نقيم الدلالة أوّلا على أنّه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره من وجوه لأنّه تعالى قال في هذه السورة: «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ» و بيّن بهذه الآية و غيرها من الآيات أن كلّ ما في السماوات و الأرض فهو ملك اللّه و مملوك له فلو كان اللّه أحد الأشياء الموجودة في السماوات لزم كونه ملكا لنفسه و ذلك محال. فإن قالوا: إنّه قال: «ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»* و كلمة «ما» مختصّة بمن لا يعقل، فلا يدخل فيها ذات اللّه؛ فالجواب أنّ هذا غير مسلّم و الدليل عليه قوله: «وَ السَّماءِ وَ ما بَناها وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها» (1) و كذلك «وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ»* (2)

ص: 138


1- الشمس: 75.
2- الجحد: 3.

و لا شكّ أنّ المراد بكلمة «ما» هو اللّه سبحانه.

و الوجه الثاني أنّ قوله: «وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ» إمّا أن يكون المراد منه أنّه موجود و متمكّن في جميع السماوات أو المراد أنّه موجود في سماء واحدة، و الثاني ترك للظاهر و الأوّل على قسمين لأنّه إمّا أن يكون الحاصل منه تعالى في أحد السماوات عين ما حصل منه في سائر السماوات أو غيره، و الأوّل يقتضي حصول المتحيّز الواحد في مكانين و هو باطل ببديهة العقل و الثاني يقتضي كونه مركّبا من الأبعاض و الأجزاء و هو باطل.

و الوجه الثالث أنّه لو كان موجودا و متمكّنا في السماوات لكان محدودا متناهيا، و ما كان كذلك كان قبوله للزيادة و النقصان ممكنا، و كلّ ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعيّن لتخصيص مخصّص و تقدير مقدّر و كلّ ما كان كذلك فهو محدث.

و الدليل الرابع على بطلان قولهم أنّه تعالى قال: «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» و قال:

«نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» (1) و قال: «وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ» و كلّ ذلك تبطل القول بالمكان.

قيل: إنّ إمام الحرمين أستاذ الإمام الغزّاليّ نزل ببعض الأكابر ضيفا فاجتمع عنده العلماء فقام واحد من أهل المجلس فقال: ما الدليل على تنزّهه عن المكان و هو قال: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ؟ فقال: الدليل عليه قول يونس: في بطن الحوت:

«لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (2) فتعجّب منه الناظرون فالتمس صاحب الضيافة بيانه فقال الإمام: إنّ هاهنا فقيرا مديونا بألف درهم، أدّعنه دينه حتّى ابيّنه فقال صاحب الضيافة: عليّ دينه فقال: إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا ذهب في المعراج إلى ما شاء اللّه قال هناك: لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، و لمّا ابتلى يونس بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت قال: لا اله إلّا أنت فكلّ منهما خاطبه بقوله «أنت» و هو خطاب الحضور و لو كان هو في مكان لما صحّ ذلك فدلّ ذلك على أنّه ليس في مكان.

ص: 139


1- ق: 15.
2- الأنبياء: 87.

[سورة الأنعام (6): الآيات 4 الى 5]

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)

قوله تعالى:

«ما» نافية «و من» الاولى لاستغراق الجنس الّذي يقع في النفي كقولك: ما أتاني من أحد، و «من» الثانية للتبعيض. أخبر سبحانه عن أحوال الكفّار المذكورين في أوّل الآية فقال: لا تأتيهم حجّة من حججه و بيّناته من المعجزات [إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لا يقبلونهما و لا يستذلّون لها من التوحيد و صدق رسوله [فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ رتّب و شرح أحوالهم مراتب، الأدنى: كونهم معرضين عن التامّل و النظر في الدلائل، و المرتبة الثانية كونهم مكذّبين بها لأنّ المعرض عن الشي ء قد يكون غير مكذّب به، و المرتبة الثالثة: يستهزءون لها لأنّ المكذّب بالشي ء قد يكون لا يبلغ تكذيبه به إلى حدّ العناد و الاستهزاء فبيّن سبحانه أنّهم على هذا الترتيب أحوالهم. و المراد بالحقّ في الآية أنّه المعجزات قال ابن مسعود: المراد: انشقاق القمر. و قيل: القرآن. و قيل: إنّه محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: إنّه الشرع الذي أتى به الرسول و قيل: إنّه الوعد و الوعيد الّذي يرغّبهم به تارة و يرهّبهم و يحذّرهم به اخرى و الأولى شمول الكلّ. و المراد من الأنباء العذاب الّذي أنبأ اللّه به لا نفس الأنباء. و معنى الاستهزاء قال الزجّاج: إيهام التفخيم في معنى التحقير.

[سورة الأنعام (6): آية 6]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)

قوله تعالى:

ثمّ حذّرهم سبحانه ما نزل بالأمم قبلهم مثل قوم نوح و عاد و ثمود و فرعون، و أجرى كلامه مجرى الموعظة و النصيحة فقال سبحانه: [أَ لَمْ يَرَوْا] الهمزة للإنكار لتقرير الرؤية و الرؤية عرفانيّة متعدّية بمفعول واحد و الضمير لأهل مكّة أي ألم يعرفوا بمعاينة الآثار و سماع الأخبار المتواترة [كَمْ عبارة عن الأشخاص استفهامية كانت أو خبريّة [أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ أي من خلق أهل مكّة و أهل زمانهم من قرن و عصر من الأعصار، سمّوا بذلك لاقترانهم ببرهة من الدهر قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: خير القرون قرني ثمّ

ص: 140

الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم. و قيل: القرن عبارة عن مدّة من الزمان ثمانين سنة أو سبعين، أو ستّين، أو أربعين، أو مائة.

و منشأ هذا الاختلاف في معنى القرن بسبب اختلاف الأعمار في الأدوار و الأزمنة فعلى هذا المضاف محذوف، أي أهل قرن؛ لأنّ نفس الزمان لا يتعلّق به الهلاك فالمدّة الّتي يجتمع فيها قوم ثمّ يتفرّقون بالموت فهي قرن لأنّ الّذين يأتون بعدهم اقترنوا بالّذين مضوا.

[مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ و تمكين الشي ء في الأرض جعله قارّا فيها و مكّن استعمل باللّام و بدون اللام مثل قوله تعالى: [ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ أي أعطيناهم ما لم نعطكم من العمر و المال و غيره [وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ] أي المطر و الغيث [عَلَيْهِمْ مِدْراراً] و المدرار الكثير الجري و الصبوب و هو حال من السماء صيغة مبالغة كمفضال [وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت أشجارهم و قصورهم و أبياتهم [فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي أهلكت كلّ قرن من تلك القرون بسبب ما يخصّهم من الذنوب [وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ و أحدثنا من بعد إهلاك كلّ قرن [قَرْناً آخَرِينَ بدلا من الهالكين و هو بيان كمال قدرته وسعة سلطانه و أنّ إهلاكهم لم ينقص من ملكه و قدرته شيئا بل كلّما أهلك أمّة أنشأ عوضها اخرى.

و في تفسير روح البيان عن أبي الدرداء أنّه قال: إنّ للّه عبادا يقال لهم الأبدال لم يبلغوا ما بلغوا بكثرة الصوم و الصلاة و حسن الحلية و لكن بلغوا بصدق الروع و حسن النيّة و سلامة الصدر و الرحمة للمؤمنين اصطفاهم اللّه بعلمه و استخلصهم لنفسه، و هم أربعون رجلا على مثل قلب إبراهيم لا يموت الرجل منهم حتّى يكون اللّه قد أنشأ من يخلفه و قد قيل في حقّهم: إنّهم لا يؤذون من تحتهم و لا يحقّرونه و لا يحسدون من فوقهم أطيب الناس خبرا، و ألينهم عريكة، و أسخاهم نفسا لا تسبقهم الخيل المجراة، و لا الرياح العواصف فيما بينهم و بين ربّهم، إنّما قلوبهم تصعد في الصفوف العلى ارتياحا الى اللّه في استباق الخيرات أولئك حزب اللّه ألا إنّ حزب اللّه هم المفلحون.

ص: 141

[سورة الأنعام (6): آية 7]

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

قوله تعالى:

نزلت الآية في النضر بن الحارث و عبد اللّه بن اميّة و نوفل بن خويلد قالوا:

يا محمّد لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند اللّه و معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنّه من عند اللّه و أنّك رسوله، عن الكلبيّ.

المعنى: أخبر اللّه سبحانه عن جحودهم [وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا محمّد [كِتاباً] مصدر بمعنى مفعول أي مكتوبا في رقّ و صحيفة و قيل: كتابا معلّقا من السماء إلى الأرض، عن ابن عبّاس [فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ أي فعاينوا ذلك معاينة و مسّوه. و اللّمس باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة فلذلك قال «فلمسوه» دون أن يقول: فعاينوه [لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لقال الكفّار عنادا بعد ظهوره كما هو دأب المحجوج اللّجوج: ما هذا الكتاب إلّا السحر الظاهر. قال الطبرسيّ: و في هذه الآية دلالة على ما يقول أهل العدل في اللّطف لأنّه بيّن أنّه لم يفعل ما سألوه حيث علم أنّهم لا يؤمنون عنده.

[سورة الأنعام (6): الآيات 8 الى 10]

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

قوله تعالى:

أخبر سبحانه تعالى عن حالهم ما يقولون في إنكار نبوّته صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الضمير في «عليه» للنبيّ أي هلّا انزل عليه ملك بحيث نراه و يكلّمنا أنّه نبيّ [وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً] على هيئته حسبما اقترحوه- و الحال أنّه من هول المنظر بحيث لا يطيق مشاهدته قوى الآحاد البشريّة.

[لَقُضِيَ الْأَمْرُ] أي هلاكهم بالكلّيّة، و القضاء في اللّغة على ضروب كلّها يرجع إلى معنى انقطاع الشي ء و تمامه.

و ذلك لأنّ إنزال الملك آية باهرة فبتقدير إنزال الملك على هؤلاء فربّما لم يؤمنوا و إذا لم يؤمنوا وجب عليهم عذاب الاستئصال فانّ سنّة اللّه جارية بأنّ عند ظهور الآية الباهرة إن لم يؤمنوا جاءهم عذاب الاستئصال كناقة صالح مثلا، فما أنزل اللّه الملك لهذه الحكمة؛ أو أنّهم إذا شاهدوا الملك بصورته

ص: 142

زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون؛ ألا ترى أنّ أشرف الخلق لمّا رأى جبرئيل على صورته الأصليّة غشي عليه؟ أما ترى أنّ جميع الرسل ما عاينوا الملائكة إلّا بصورة البشر كأضياف إبراهيم و أضياف لوط و كاللّذين تسوّرا المحراب، و كجبرئيل حيث تمثّل لمريم بشرا سويّا. و الوجه الثالث أنّ إنزال الملك آية جارية مجرى الإلجاء و إزالة الاختيار و ذلك مخلّ بصحّة التكليف.

[ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون بعد نزوله طرفة العين [وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً] أي لو جعلنا الرسول ملكا و الّذي ينزل عليه ليشهد بالرسالة كما يطلبون ذلك [لَجَعَلْناهُ رَجُلًا] لأنّهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته لأنّ أعين الخلق يحار عن رؤية الملائكة إلّا بعد التجسّم بالأجسام الكثيفة [وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ أي إذا امتنع إرسال الملك للجهات الّتي بيّنا من أنّ رؤية الملك غير ممكنة و أرسلناه بصورة البشر فهم يظنّون كون ذلك الملك بشرا فيعود سؤالهم بأنّا لا نرضى برسالة هذا الشخص و لو أنّا فعلنا هكذا بأن نبعث الملك بصورة البشر لصار فعل اللّه نظيرا لفعلهم في التلبيس و يبقون في اللبس و الشبهة الّتي كانوا فيها و قيل: معنى قوله: «وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» أي و لو أنزلنا ملكا لما عرفوه إلّا بالتفكّر و هم لا يتفكّرون فيبقون في اللبس الّذي كانوا فيه فأضاف اللبس إلى ذاته لأنّه يقع عند إنزاله الملائكة.

ثمّ قال على سبيل التسلية لنبيّه من تكذيب المشركين إيّاه و استهزائهم فقال:

[وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي لقد استهزئت الأمم الماضية برسلها كما استهزأ بك قومك فلست بأوّل رسول استهزئ به [فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي فحلّ بالساخرين منهم من وعيد أنبيائهم بالعقاب في الدنيا و قيل: أحاط بهم العذاب الّذي كان توعّدهم به نبيّهم إن لم يؤمنوا و حاصل المعنى: أحاط بهم العذاب الّذي كان يسخرون بوقوعه. و الحيق: ما يشمل على الإنسان من مكروه فعله و يجوز أن يكون المراد من «ما» عبارة عن القرآن و الشريعة في قوله: «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فتصير» هذه الآية من باب حذف المضاف و التقدير: فحاق بهم عقاب [ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ .

[سورة الأنعام (6): الآيات 11 الى 13]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)

قوله تعالى:

ص: 143

[قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار المكذّبين: [سِيرُوا فِي الْأَرْضِ و سافروا [ثُمَّ انْظُرُوا] بأبصاركم و تفكّروا بقلوبكم [كَيْفَ صار و آل عاقبة أمر المكذّبين المستهزئين، و إنّما أمرهم بذلك لأنّ ديار المكذّبين من الأمم السالفة كانت باقية و أخبارهم في الخسف و الهلاك كانت شائعة فإذا سار هؤلاء في الأرض و سمعوا أخبارهم و عاينوا آثارهم دعاهم ذلك إلى الإيمان و زجرهم عن التكذيب و الطغيان.

ثمّ قال: [قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار: [لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أ للّه الّذي خلقما أم للأصنام؟ فإن أجابوك فقالوا: للّه و إلّا ف [قُلْ أنت: [لِلَّهِ .

و في تصدّي السائل للجواب قبل أن يجيب غيره إيماء إلى أنّ مثل هذا السؤال لكون جوابه متعيّنا ليس من حقّه أن ينتظر جوابه بل حقّه أن يبادر إلى الاعتراف بالجواب و لزوم الحجّة؛ و لهذه الجهة أمر اللّه نبيّه بالسؤال أوّلا ثمّ بالجواب ثانيا و هذا يحسن في الموضع الّذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر و لا يقدر على دفعه دافع.

و المقصود من تقرير هذه الآية تحذير الكفّار و تقرير إثبات الصانع الأحد، و تقرير النبوّة و المعاد؛ و بيانه أنّ أحوال العالم العلويّ و السفليّ يدلّ على أنّ جميع هذه الأجسام مملوك للّه و هو المالك و الملك المطاع المتصرّف، له الأمر و النهي على مملوكه و عبيده، و الأمر لا بدّ له من مبلّغ و ذلك يلزم بعثة المبلّغ و الرسول من جانبه تعالى إلى الخلق و لمّا كان الكلّ تحت قدرته و سلطنته فهو قادر على إيجاده و إفنائه و إعادته و الآية مقرّرة لجميع هذه الأمور.

[كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] أي أوجب على ذاته الرحمة و أوجبه إيجاب الفضل و الكرم و اختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم: المراد من الرحمة هي أنّه تعالى يمهلهم مدّة عمرهم و يرفع عنهم عذاب الاستئصال و لا يعاجلهم بالعقوبة في الدنيا و هذا لامّة محمّد،

ص: 144

و قيل: إنّ المراد أنّه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل و تاب و أناب و صدّق شريعتهم؛ و في الحديث ورد أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لمّا فرغ اللّه من الخلق كتب كتابا إنّ رحمتي سبقت غضبي.

فإن قيل: الرحمة إرادة الخير و الغضب إرادة الانتقام و ظاهر هذا الحديث يقتضي كون إحدى الإرادتين سابقة على الاخرى و المسبوق بالغير محدث فهذا يقتضي كون إرادة اللّه محدثة؛ فالجواب أنّ المراد بهذا السبق الكثرة لا سبق الزمان، قاله الرازيّ، و عن سلمان أنّه تعالى لما خلق السماوات و الأرض خلق مائة رحمة كلّ رحمة مل ء ما بين السماء و الأرض فعنده تسع و تسعون رحمة و قسّم رحمة واحدة بين الخلائق فيها يتعاطفون و و يتراحمون فإذا كان آخر الأمر قصّرها على المتّقين.

قوله: [لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] اللّام لام قسم مضمر أي و اللّه ليجمعنّكم و اختلفوا في أنّ قوله «لَيَجْمَعَنَّكُمْ» ابتداء كلام أو متعلّق بما قبله؟ فقال بعض المفسّرين:

إنّه ابتداء كلام و قالوا: إنّه تعالى بيّن كمال إلهيّته بقوله: «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ» ثمّ بيّن أنّه يرحمهم في الدنيا بالإمهال و بيّن أنّه يجمعهم إلى يوم القيامة و لا يهملهم بل يحشرهم و يحاسبهم على كلّ ما فعلوا، و قيل: إنّه متعلّق بما قبله، و التقدير: كتب ربّكم على نفسه الرحمة و كتب على نفسه ليجمعنّكم إلى يوم القيامة. و قيل: البيان يفيد هذا المعنى و هو أنّه لمّا قال: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» فكأنّه قيل: و ما تلك الرحمة؟ فقيل: إنّه ليجمعنّكم و ذلك لأنّه لو لا خوف العذاب من يوم القيامة لحصل الهرج و المرج و لارتفع الضبط و كثر الخبط، فصار التهديد بيوم القيامة من أعظم أسباب الرحمة في الدنيا فيكون قوله: «ليجمعنّكم» كالتغيّر كقوله:

«كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ».

و «إلى» في الآية بمعنى «في» و قيل: إنّها صلة فالتقدير ليجمعنّكم يوم القيامة و قيل: فيه حذف أي ليجمعنّكم إلى المحشر في يوم القيامة لأنّ الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان و قيل: المعنى ليجمعنّكم في الدنيا بخلقكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة [لا رَيْبَ فِيهِ و لا شكّ أنّه واقع لا محالة.

ص: 145

قوله: [الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ قال الأخفش: «الَّذِينَ» موضعه نصب على البدليّة من الضمير في «ليجمعنّكم» و المعنى: ليجمعنّ هؤلاء الّذين خسروا أنفسهم و قال الزجّاج: إنّ قوله: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» رفع بالابتداء و قوله «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» خبره؛ لأنّ قوله «ليجمعنّكم» مشتمل على الكلّ على الّذين خسروا و على غيرهم، فالّذين خسروا أنفسهم هم الّذين لا يؤمنون بتضييع رأس مالهم و هو الفطرة الأصليّة الّتي فطر الناس عليها.

فإن قيل: كيف يحذّر المشركين بالبعث و النشور و هم لا يصدّقون به؟ فالجواب أنّه جار مجرى الإلزام بسبب ذكر الدليل.

فان قيل: كيف نفى الريب مطلقا و الكافر منكر أو مرتاب بعضهم؟ فالجواب أنّ الحقّ حقّ و إن ارتاب المبطل فإنّ الدليل حكم بالسمع و العقل أنّ التمكين من الظلم من غير انتصاف إمّا في العاجل أو في الآجل قبيح فوجب أن يكون دار اخرى و ينتصف المظلوم من الظالم.

[وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] أي كلّ متمكّن ساكن خلقا و ملكا و ذكر في السابق السماوات و الأرض و هنا اللّيل و النهار لأنّ الأوّل مجمع المكان و الثاني مجمع الزمان و هما ظرفان لكل موجود فكأنّه تعالى أراد الأجسام و الأعراض و إنّما ذكر الساكن دون المتحرّك لأنّ عاقبة التحرّك السكون و الساكن أعمّ و أكثر من المتحرّك أو أنّ المراد الساكن و المتحرّك؛ و التقدير: ما سكن و ما تحرّك إلّا أنّ العرب قد يذكر أحد وجهي الشي ء و يحذف الآخر بسبب أنّ المذكور ينبّه عن المحذوف كقوله:

«سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» (1) و المراد الحرّ و البرد.

و المراد من الآية باختصاص الذكر في المخلوقات بالسكون و الحركة من بين سائر كيفيّاتها التنبيه على حدوث العالم و إثبات الصانع لأنّ كلّ جسم لا ينفكّ من الحوادث الّتي هي الحركة و السكون فإذا لا بدّ من محرّك و مسكّن لاستواء الوجهين في الجواز و الإمكان فلا بدّ من وجود المخصّص بأحدهما دون الآخر و قيل: المراد من السكون الحلول كما يقال: فلان يسكن بلد كذا.

ص: 146


1- النحل: 83.

و على هذا يعمّ كلّ ما خلق.

و لمّا ثبت بالبيان و الأدلّة ثبوت الصانع و وجوب ذاته عقّبه بذكر صفته.

فقال: [وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ و السميع هو الّذي على صفة يصحّ لأجلها أن يسمع المسموعات إذا وجدت و هو كونه حيّا لا آفة به و لذلك يوصف به فيما لم يزل، و العليم هو العالم بوجوه التدبير و الأمر في خلقه و بكلّ ما يصحّ أن يعلم.

قيل في سبب نزول هذه الآية: إنّ كفّار مكّة أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا:

قد علمنا أنّك ما يحملك على ما تدعونا اليه إلّا الفقر و الحاجة، فنحن نجمع لك من القبائل أموالا تكون أغنانا رجلا و ترجع عمّا أنت عليه من الدعوة فنزلت: «وَ لَهُ ما سَكَنَ»، الآية و قيل: إنّ شأن النزول في الآية الّتي بعد هذه الآية و هي «قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ» و هو الأقرب.

قيل في سبب تقديم اللّيل في الذكر: لشرافة الليل مع أنّ النهار مضي ء و الليل مظلم، و في الخبر أنّ اللّه تعالى خلق جوهرتين أحدهما مظلمة و الآخر مضيئة، فاستخلص من المضيئة كلّ نور فخلق من نورها النهار و من الباقي النار، و استخلص من الظلمة كلّ ظلمة فخلق منها اللّيل و خلق من الباقي الجنّة؛ فاللّيل من الجنّة و النهار من النار و لذلك كان الانس بالليل أكثر و اللّيل انس المحبّين و قرّة أعين المخلصين، و اللّيل لخدمة المولى و النهار لخدمة الخلق، و معراج النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان باللّيل و القدر في اللّيل و هي خير من ألف شهر و كان بعض الأولياء يقول: إذا جاء اللّيل جاء الخلق الأعظم.

قال: الحقّيّ في تفسيره: و في الخبر عن سلمان رضي اللّه عنه قال: اللّيل موكّل به ملك يقال له شراهيل فإذا حان وقت اللّيل أخذ خرزة سوداء فدلّاها من قبل المغرب فإذا نظرت إليها الشمس وجبت في أسرع من طرفة العين و قد أمرت أن لا تغرب حتّى ترى الخرزة، فإذا غربت جاء اللّيل و قد نشرت الظلمة من تحت جناحي ملك فلا تزال الخرزة معلّقة حتّى يجي ء ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء فيعلّقها من قبل المطلع فإذا رأتها الشمس طلعت في طرفة عين و قد أمرت أن لا تطلع حتّى ترى الخرزه

ص: 147

البيضاء فإذا طلعت جاء النهار فنشر النور من تحت جناحي ملك فلنور النهار ملك موكّل و لظلمة الليل ملك موكّل عند الطلوع و الغروب انتهى.

[سورة الأنعام (6): الآيات 14 الى 15]

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

قوله تعالى:

قال ابن عبّاس: ما كنت أدري معنى الفاطر حتّى احتكم إليّ أعرابيّان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأت حفرها و أصل الفطر الشقّ و منه إذا السماء انفطرت أي انشقّت. قال الزجّاج: فإن قال قائل: كيف يكون الفطر في معنى الخلق و الانفطار بمعنى الانشقاق؟ قيل: إنّهما يرجعان إلى شي ء واحد لأنّ معنى فطرهما خلقهما خلقا قاطعا.

المعنى: [قُلْ يا محمّد لكفّار مكّة و نزلت حين دعوه إلى الشرك و دين قومه [أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا] و معبودا فعلى هذا يكون شأن نزول الآية السابقة في هذه الآية أولى و قد ذكره الحقّيّ في شأن الآية السابقة و أظنّه وها منه. و «غير» منصوب على المفعول الأوّل لأتّخذ و «وليّا» مفعول ثان، أي لا أتّخذ غير اللّه ربّا و إلها [فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبدعهما ابتداء لا على مثال سبق و هو يدلّ على الجلالة [وَ هُوَ] و الحال أنّه [يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ أي يرزق الخلق و لا يرزق و تخصيص الطعام بالذكر لشدّة الحاجة إليه.

[قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وجهه للّه مخلصا له لأنّ النبيّ إمام امّته في الإسلام [وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ و قيل لي: لا تكوننّ من المشركين به في أمر من امور الدين، و حاصل المعنى: أمرت بالإسلام و نهيت عن الشرك قال الرازيّ:

و يجوز أن يكون المعنى في قوله: «وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ» أن يكون و هو يطعم تارة و لا يطعم اخرى على حسب المصالح كقوله: يعطي و يمنع و يبسط و يقدر و يغني و يفقر.

و حقيقة الإسلام الإخلاص من حبس الوجود و ما خلص منه غيره صلى اللّه عليه و آله و سلّم بالكلّيّة و لهذا يقول الأنبياء: نفسي نفسي و هو يقول: امّتي امّتي و هذا هو السرّ في تفاوت المثوبات.

[قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بمخالفة أمره و نهيه أيّ عصيان كان [عَذابَ يَوْمٍ

ص: 148

عَظِيمٍ أي عذاب يوم القيامة و فيه تعريض بأنّهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم.

[سورة الأنعام (6): آية 16]

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)

قوله تعالى:

أي من يصرف عنه العذاب في ذلك اليوم العظيم و «يومئذ» ظرف للصرف [فَقَدْ رَحِمَهُ أي نجّاه و أنعم عليه [وَ ذلِكَ الصرف [الْفَوْزُ الْمُبِينُ و النجاة الظاهرة، قال الطبرسيّ:

و يحتمل أن يكون معنى الآية أنّه لا يصرف العذاب عن أحد إلّا برحمة اللّه كما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و الّذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنّة بعمله قالوا: و لا أنت يا رسول اللّه قال: و لا أنا إلّا أن يتغمّدني اللّه برحمته و فضله و وضع يده على فوق رأسه و طوّل بها صوته رواه الحسن في تفسيره.

[سورة الأنعام (6): الآيات 17 الى 18]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)

قوله تعالى:

دليل آخر على أنّه لا يجوز للإنسان أن يتّخذ غير اللّه وليّا و إن يمسسك ببليّة أو فقر أو مرض فلا قادر على كشفه و لا مفرّج له عنك إلّا هو تعالى و لا يملك كشفه سواه ممّا يعبده المشركون [وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ] و يصبك بغنى أو سعة في الرزق أو صحّة أو شي ء من محابّ الدنيا [فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] فكان قادرا على إدامته و لا رادّ لفضله.

[وَ هُوَ الْقاهِرُ] القادر الّذي لا يعجزه غيره، و هو قادر على أن يقهر غيره و هو مستعل [فَوْقَ عِبادِهِ بالقدرة و الإحاطة [وَ هُوَ الْحَكِيمُ في كلّ ما يفعله [الْخَبِيرُ] بأفعال عباده و عبّر قدرته و قهره و علوّ شأنه بالعلوّ الحسّيّ و عبّر عنه بالفوقيّة بطريق الاستعارة التمثيليّة فإنّه تعالى يقهر المعدومات بالإيجاد و التكوين و الموجودات بالإفناء و الإعدام لا من حيث المكان لعلوّ شأنه عن ذلك.

[سورة الأنعام (6): الآيات 19 الى 20]

قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)

قوله تعالى:

ص: 149

النزول: قال الكلبيّ: أتى أهل مكّة رسول اللّه فقالوا: أما وجد اللّه رسولا غيرك؟

ما نرى أحدا يصدّقك فيما تقول، و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنّه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنّك رسول اللّه كما تزعم فأنزل اللّه هذه الآية.

[قُلْ يا محمّد- صلى اللّه عليه و آله و سلّم- لهؤلاء الكفّار: [أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً] و أعظم و أصدق حتّى آتيكم به و أدلّكم بذلك على أنّي صادق؟ و قيل: معناه: أيّ شي ء أكبر شهادة حتّى يشهد لي بالبلاغ و عليكم بالتكذيب، عن الجّباني. و قيل معناه أي شي ء أعظم حجّة و أصدق شهادة، عن ابن عبّاس، فإن قالوا: اللّه و إلّا فقل لهم: [اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ يشهد لي بالرسالة و النبوّة لأنّه أوحى إليّ هذا القرآن و هو معجزة لأنّكم أنتم الفصحاء و البلغاء و قد عجزتم عن معارضته فإذا كان إظهار اللّه إيّاه على وفق دعواي شهادة من اللّه على كوني صادقا في دعواي، و الحاصل أنّهم لمّا طلبوا شاهدا مقبول الحجّة يشهد على نبوّته سبحانه أنّ أكبر الأشياء شهادة هو اللّه و شهد له بالنبوّة، و هو المراد من قوله:

[وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ و لا خوّفكم بما فيه من الوعيد أيّها الموجودون وقت نزول القرآن [وَ مَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين في «لأنذركم» أي و من بلغه القرآن من الإنس و الجنّ إلى يوم القيامة. و العائد محذوف أي و من بلغه القرآن و قيل: معنى من بلغ أي من احتلم و بلغ حدّ التكليف فعلى هذا لا يحتاج إلى العائد، و هو قول ضعيف؛ قال محمّد بن كعب القرطبيّ من بلغه القرآن فكأنّما رأى محمّدا و سمع منه، قال أهل التفسير: و في قوله: [وَ مَنْ بَلَغَ دلالة على أنّه مبعوث إلى الكافّة.

ثمّ قال توبيخا لهم: [قُلْ يا محمّد- صلى اللّه عليه و آله و سلّم- [أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى استفهام معناه الجحد و الإبكار، و إلجاء لهم إلى الإقرار بإشراكهم أو لا سبيل لهم إلى الإنكار لاشتهارهم و إذعانهم بهذا الشرك، أي و كيف تشهدون أنّ مع اللّه آلهة اخرى بعد وضوح الحجّة بوحدانيّته؟ [قُلْ لهم: [لا أَشْهَدُ] بذلك فإنّه باطل.

[قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ] تكرير الأمر للتأكيد أي بل إنّما أشهد أنّه تعالى متفرّد بالألوهيّة [وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من إشراككم و من تعدّد الآلهة قال أهل العلم:

ص: 150

ينبغي و يستحبّ لمن أسلم بل للمسلم أن يأتي بالشهادات و يتبرّأ من كلّ دين سوى الإسلام.

ثمّ ذكر سبحانه أنّ الكفّار بين جاهل و معاند فقال: [الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ المراد بالموصول اليهود و النصارى و بالكتاب الجنس المنتظم للتوراة و الإنجيل يعرفون محمّدا بحليته و نعوته في كتابهم كما يعرفون أولادهم روي أنّ رسول اللّه لما قدم المدينة قال عمر لعبد اللّه بن سلام: أنزل اللّه على نبيّه هذه الآية فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد اللّه: يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني و أنا أشدّ معرفة بمحمّد منّي بابني لأنّي لا أدري ما صنع النساء، و أشهد أنّه حقّ من اللّه تعالى.

[الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي غبنوا أنفسهم من أهل الكتابين و المشركين بأن ضيّعوا فطرة اللّه و أعرضوا عن البيّنات الموجبة للإيمان و هو مبتدأ خبره قوله: [فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و الفاء السبية تدلّ على أنّ تضييع الفطرة الأصليّة سبب لعدم الإيمان و ذلك أنّ اللّه جعل لكل آدميّ منزلا في الجنّة و منزلا في النار فإذا كان يوم القيامة جعل اللّه للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة و لأهل النار منازل أهل الجنّة في النار و ذلك هو الخسران.

[سورة الأنعام (6): الآيات 21 الى 22]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)

قوله تعالى:

المعنى: [وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ لو صفهم محمّدا صلى اللّه عليه و آله و سلّم المبعوث في الكتابين بخلاف أوصافه فإنّ تحريف أوصافه صلى اللّه عليه و آله و سلّم افتراء على اللّه و كذلك بقولهم:

الملائكة بنات اللّه أي لا أحد أظلم منه [أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ مثل أن كذّبوا بالقرآن و بالمعجزات و سمّوها سحرا و حرّفوا بعض أحكام التوراة و غيّروا نعوته صلى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّ كلّ ذلك تكذيب بآياته. و كلمة «أو» للإيذان بأنّ كلّا من الافتراء و التكذيب وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم، كيف و هم قد جمعوا فأثبتوا ما نفاه اللّه و نفوا ما أثبته؟.

[إِنَّهُ ضمير الشأن [لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ و لا ينجحون من مكروه و لا يفوزون

ص: 151

بمطلوب و إذا كان حال الظالمين هذا فما ظنّك بمن في غاية القاصية من الظلم؟ [وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ و قرء بالياء و الحشر جمع الناس إلى موضع معلوم و الضمير للكلّ و [جَمِيعاً] حال للضمير أي و يوم نحشر الناس جميعا كلّهم [ثُمَّ نَقُولُ للمشركين خاصّة للتوبيخ و التقريع على على رؤوس الأشهاد [أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ و العطف بثمّ للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في الموقف فإنّ فيه مواقف بين كلّ موقف و موقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم، أين آلهتكم الّتي جعلتموها شركاء للّه؟ و الإضافة مجازيّة باعتبار إثباتهم الشركة في العبادة لآلهتهم [الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي الشركاء الّذين تزعمون أنّها شركاء و شفعاء. و الزعم القول الباطل و الكذب في أكثر استعمال.

قيل: لكلّ شي ء لقب و لقب الكذب الزعم، و تقدير الكلام أنّ ذلك اليوم بعد ذلك القول للمشركين كان من الأحوال و الأهوال مالا يحيط به دائرة المقال.

[سورة الأنعام (6): آية 23]

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا الفتنة مرفوع على أنّه اسم «تكن» و الخبر «إِلَّا أَنْ قالُوا» و الفتنة إمّا كفرهم يراد به عاقبة أي لم تكن عاقبة كفرهم الّذي التزموه في الدنيا بأن يقولوا: وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و قرء ربّنا بالنصب بإضمار أعني أو على النداء أي و اللّه يا ربّنا. و قرأ الباقون بكسر الباء على أنّه صفة للّه تعالى و بالجملة حلفوا أنّهم ما كانوا مشركين و وجه السؤال في الآية لأنّهم لمّا رأوا تجاوز اللّه عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض: إذا سألتم فقولوا إنّا موحّدون فلمّا جمعهم اللّه قال: أين شركاؤكم؟

ليعلموا أنّ اللّه يعرف شركهم في الدنيا و أنّه لا ينفعهم الكتمان و هم أنكروا الشرك و حلفوا فلعلّ لمّا رأوا معاملة اللّه مع أهل التوحيد قالوا: «ما كُنَّا مُشْرِكِينَ».

قال ابن عباس و قتادة: إنّ المعنى في قوله: «لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا» أي لم يكن معذرتهم إلّا أن قالوا: و اللّه ربّنا ما كنّا مشركين و هو المرويّ عن الصادق، و يجوز أن يكون الفتنة افتتانهم بالأوثان و الشرك كما قال ابن عبّاس: فتنتهم يريد شركهم في الدنيا و هذا القول يرجع إلى حذف المضاف، فحينئذ المعنى: لم يكن عاقبة فتنتهم إلّا البراءة منها و هذا المعنى قريب من القول المرويّ عن الصادق.

و قال الزجّاج في معنى الآية: إنّه لمّا ذكر أمر المشركين و أنّهم مفتونون

ص: 152

بشركهم أخبر في هذه الآية أنّه لم يكن افتتانهم بشركهم و إقامتهم عليه إلّا أن تبرّؤوا منه و انتفوا منه فحلفوا أنّهم ما كانوا مشركين قال الزجّاج: و هذا المعنى حسن شائع لا يعرف تأويله إلّا من عرف معاني الكلام و تصرّف العرب في ذلك، و مثاله أن ترى إنسانا يحبّ رجلا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تباعد و تبرّأ منه فيقال له: ما كانت محبّتك لفلان إلّا أن أتقنت منه.

فإن قيل: إنّ كلّ الناس ملجؤون في الآخرة بترك القبيح لمشاهدته الحقائق و لمعرفتهم باللّه ضرورة فكيف يجوز لهم أن يكذّبوا؟ الجواب أنّ معناه ما كنّا مشركين في اعتقادنا و هم يعتقدون في الدنيا كونهم مصيبين فيحلفون على هذا، فعلى هذا يكون قولهم و حلفهم بزعمهم يقعان على وجه الصدق. و قيل وجه آخر و هو أنّهم إنّما يحلفون على ذلك لزوال عقولهم بما يلحقهم من الدهشة من أهوال يوم القيامة.

[سورة الأنعام (6): آية 24]

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)

المعنى:

يقول اللّه عند حلف هؤلاء انظر يا محمّد كيف يفترون على أنفسهم و هذا و إن كان لفظه لفظ الاستفهام فالمراد التنبيه على التعجّب منهم و حاصل المعنى: انظر إلى إخباري عن افترائهم كيف هو بأنّه لا يمكن النظر إلى ما يوجد في الآخره و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون، المراد أوثانهم الّتي كانوا يعبدونها و يفترون الكذب بقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه غدا فذهبت عنهم فلم ينتفعوا بها، أو هو عامّ في كلّ ما يعبد من دون اللّه أنّها تضلّ عن عابديها يوم القيامة و لا يغني عنهم شيئا و اختلف في أنّ أهل الآخرة هل يجوز أن يقع منهم الكذب أم لا؟ قيل:

يجوز ذلك لما يلحقهم من الحسرة و الدهش في القيامة لكن بعد ما استقرّ أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار لا يجوز أن يقع منهم القبيح و به قال أبو بكر الاخشيديّ و أصحابه و قال بعضهم: إنّه لا يجوز وقوعه منهم على جميع الأحوال.

[سورة الأنعام (6): آية 25]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)

قوله تعالى:

النزول: قيل: إنّ نفرا من مشركي مكّة منهم النضر بن الحرث و أبو سفيان

ص: 153

ابن الحرب و الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة و أخوه شيبة و غيرهم جلسوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقرء القرآن فقالوا للنضر: ما يقول محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم؟ فقال النضر: أساطير الأوّلين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية فأنزل اللّه هذه الآية فقال:

[وَ مِنْهُمْ أى و من الكفّار الّذين تقدّم ذكرهم [مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ أي يستمعون إلى كلامك إذا قرأت القرآن [وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً] و قد مرّ شرح هذا العنوان في سورة البقرة عند قوله: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ الآية» قال القاضي أبو عاصم العامريّ: أصحّ الأقوال فيه ما روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي بالليل و يقرء القرآن في الصلاة جهرا رجاء أن يستمع إلى قراءته إنسان من قريش أو غير قريش فيتدبّر في معانيه و يؤمن به، فكان المشركون إذا سمعوه آذوه و منعوه عن الجهر بالقراءة فكان اللّه تعالى يلقي عليهم النوم أو يجعل في قلوبهم أكنّة ليمتنعوا عن أذاه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و يقطّعهم عن مرادهم و ذلك بعد أن بلغهم ما يقوم به الحجّة و ينقطع به المعذرة و أسمعهم، و بعد ما علم اللّه سبحانه أنّهم لا ينتفعون بسماعه و لا يؤمنون فشبّه إلقاء النوم بجعل الغطاء على قلوبهم و بوقر آذانهم و هذا معنى قوله: «وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً» (1) و هو قول أبي عليّ الجبّائيّ أيضا.

و يجوز أن يكون سمّى الكفر الّذي في قلوبهم تشبيها و مجازا و قرا و أكنّة توسّعا لأنّ مع الكفر و الإعراض لا يحصل الإيمان و الفهم كما لا يحصلان مع الكن و الوقر. و نسب ذلك إلى ذاته لأنّه الّذي شبّه أحدهما بالآخر كما يقول أحدنا لغيره إذا أثنى على إنسان و ذكر مناقبه: جعلته فاضلا و بالضدّ إذا ذكر مقابحه و فسقه يقال له:

جعلته فاسقا و كما يقال: جعل القاضي فلانا عدلا، و كلّ ذلك يراد به الحكم عليه بذلك و الإبانة عن حاله كما قال الشاعر:

جعلتني باخلا كلّا و ربّ مني إنّي لأسمح كفّا منك في اللزب

و معناه: سمّيتني باخلا.

ص: 154


1- الإسراء: 47.

[وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها] أي إن يروا كلّ عبرة لم يعتبروا بها، أو و إن يروا كلّ معجزة دالّة على نبوّتك لا يؤمنوا بها لعنادهم، عن الزجّاج؛ و قال تعالى في وصف بعض الكفّار: «وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، الآية» (1) و لو اجري معنى الآية على ظاهرها لم يكن لهذا معنى لأنّ من لا يمكنه أن يسمع و يفقه لا يستحقّ المذمّة لأنّه لم يعط آلة السمع فكيف يذمّ على ترك السمع؟.

[حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي أنّهم إذا دخلوا عليك يجيؤون مخاصمين رادّين عليك قولك و لم يجيؤوا مجي ء من يريد الرشاد و بلغ بهم ذلك العناد إلى أنّهم إذا جاءوك جاءوك رادّين [يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي لا يكتفون بعدم الإيمان بما سمعوا من الآيات الكريمة بل يقولون: [إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي إنّ هذا القرآن من القصص القديمة الّتي يحكونها، جمع اسطورة كالأعاجيب جمع أعجوبة.

[سورة الأنعام (6): آية 26]

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (26)

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ أي يمنعون و ينهون غيرهم عن القرآن و الإيمان به و يتباعدون عن القرآن بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم منه فإنّ اجتناب الناهي عن المنهيّ عنه من متمّمات النهي.

قال الرازيّ: الضمير في قوله «يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ» و قد سبق ذكر القرآن و ذكر محمّد فمحتمل أن يرجع إلى القرآن و أن يكون عايدا إلى محمّد، فلهذا السبب اختلف المفسّرون فقال بعضهم: أي عن القرآن و تدبّره و قال آخرون: بل المراد: ينهون عن الرسول و المراد أنّهم ينهون عن اتّباعه و الإقرار برسالته قال عطا و مقاتل: نزلت في أبي طالب كان ينهى قريشا عن إيذاء النبيّ ثمّ يتباعد منه و لا يتّبعه على دينه.

أقول: و العجب من هذين الرجلين كيف فسّروا هذه الآية بهذا المعنى مع أنّ هذا المعنى يخرج الآية عن سوقها و يجعلها غير متناسبة و غير مربوطة المعنى؟

قال الرازيّ في المفاتيح: و القول الأوّل أشبه لوجهين: الأوّل أنّ جميع الآيات المتقدّمة على هذه الآية يقتضي ذمّ طريقتهم فكذلك قوله: «وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ» ينبغي و يقتضي أن يكون محمولا على مذمّتهم فلو حملناه على أنّ أبا طالب كان ينهى عن إيذائه

ص: 155


1- لقمان: 6.

لما حصل هذا النظم و الثاني أنّه تعالى قال بعد ذلك: «وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» يعني به ما تقدّم ذكره، و لا يليق ذلك بأن يكون المراد من قوله: «وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ» النهي عن أذيّته صلى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّ ذلك أمر حسن جدّا لا يوجب الهلاك.

فإن قيل: إنّ قوله: «وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» يرجع إلى قوله: «وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ» لا إلى قوله: «وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ» لأنّ المراد بذلك أنّهم يبعدون عنه بمفارقة دينه، و ذلك ذمّ فلا يصحّ ما رجّحتم به هذا القول. قلنا: إنّ ظاهر قوله: «إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» يرجع إلى كلّ ما تقدّم ذكره؛ لأنّ هذا الكلام بمنزلة أن يقال: إنّ فلانا يبعد عن الشي ء الفلانيّ و ينفر عنه و لا يضرّ بذلك إلّا نفسه فلا يكون هذا الضرر معلّقا بأحد الأمرين دون الآخر انتهى كلامه.

قال الطبرسيّ: و قول عطاء و مقاتل لا يصحّ لأنّ هذه الآية معطوفة على ما تقدّمها و ما تأخّر عنها معطوف عليها و كلّها في ذمّ الكفّار المعاندين للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم هذا و قد ثبت إجماع أهل البيت على إيمان أبي طالب سالم اللّه عليه، و إجماعهم حجّة لأنّهم أحد الثقلين اللّذين أمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم بالتمسّك بهما بقوله: «إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».

و يدلّ على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر من أنّ أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة اسمه عتبة- يوم الفتح إلى رسول اللّه فأسلم فقال النبيّ لأبي بكر: هلّا تركت الشيخ فأنا آتيه و كان أعمى؟ فقال أبو بكر: أردت أن يأجره اللّه و الّذي بعثك بالحقّ لأنّي كنت بإسلام أبي طالب أشدّ فرحا منّي بإسلام أبي ألتمس بذلك قرّة عينك فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: صدقت.

و أشعار أبي طالب المنبئة عن إسلامه كثيرة لا تحصى لا يسعه هذا المختصر؛ فمن ذلك:

أ لم تعلموا أنّا وجدنا محمّدانبيّا كموسى خطّ في أول الكتب

و قوله في قصيدة:

ألا إنّ أحمد قد جاءهم بحقّ و لم يأتهم بالكذب

و قوله في قصيدة يحضّ و يحثّ أخاه حمزة على اتّباع النبيّ و الصبر في طاعته:

صبرا أبا يعلى على دين أحمدو كن مظهرا للدين وفّقت صابرا

ص: 156

فقد سرّني إذ قلت أنّك مؤمن فكن لرسول اللّه في اللّه ناصرا

و قوله أيضا يحضّ النجاشيّ على نصر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم:

تعلّم مليك الحبش إنّ محمّداوزير لموسى و المسيح بن مريم

أتى بهدى مثل الّذي أتيا به و كلّ بأمر اللّه يهدي و يعصم

و أنّكم تتلونه في كتابكم بصدق حديث لا حديث المرجّم

فلا تجعلوا للّه ندّا و أسلمواو إنّ طريق الحقّ ليس بمظلم

و أمثال هذه البيانات كثيرة في قصائده المشهورة و كذلك في وصاياه و خطبه، يطول بها الدفاتر على أنّ أبا طالب لم ينأ عن النبيّ قطّ بل كان ملازما له صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قائما بنصرته فكيف يكون المعنى كما قال مقاتل و عطاء؟.

أقول: بل هو صرف الخطا و لو اقتل على تخطئة قول مقاتل انتهى.

[سورة الأنعام (6): الآيات 27 الى 28]

وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)

قوله تعالى:

الخطاب للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم أو لكلّ أحد من شأنه المشاهدة و العيان و الوقف الحبس و جواب «لو» و مفعول «ترى» محذوف، أي لو تراهم حين يوقفون على النار حتّى يعاينوها لرأيت مالا يساعده التعبير [فَقالُوا] أي الموقوفون: [يا لَيْتَنا نُرَدُّ] إلى الدنيا [وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا] القرآنيّة [وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بها العاملين بمقتضاها حتّى لا نرى هذا الموقف، و نصب الفعلين على جواب التمنّي بإضمار «أن» بعد الواو و إجرائها مجرى الفاء و المعنى: إن رددنا لم نكذّب و نكن من المؤمنين.

[بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ أي ليس الأمر على ما قالوه من أنّهم لو ردّوا إلى الدنيا لآمنوا فإنّ التمنّي الواقع منهم يوم القيامة ليس لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العقاب الّذي يعاينوه و ظهر لهم في الآخرة ما أخفوه في الدنيا بشهادة جوارحهم و ظهور جزاء كفرهم الّذي أخفوه.

و قد اختلفوا في ذلك الّذي أخفوه على وجوه؛ قال الزجّاج: بدا للتابعين ما

ص: 157

أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث و النشور، قال: و الدليل على صحّة هذا القول أنّه تعالى ذكر عقيبه: «وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ». و الوجه الثاني في معنى الآية أنّها في المنافقين و قد كانوا يرون الكفر و يظهرون الإسلام و بدا لهم يوم القيامة حالهم لغيرهم، و عرف غيرهم بأنّهم كانوا كفّارا. و الوجه الثالث: بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوّة الرسول و نعته و صفته في الكتب و البشارة به صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ما يحرّفونه من التوراة.

و قال المبرّد: و بدا لهم وبال عقائدهم و سوء عاقبتها، و ذلك لأنّ كفرهم ما كان مضارّه باديا لهم فلمّا ظهرت يوم القيامة ظهر لهم فقال اللّه: «بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ» فانّ التكذيب بالشي ء كفر و ستر به فإخفاء له لا محالة. و حاصل تمام الأقوال أنّه ظهرت فضيحتهم في الآخرة و تهتّكت أستارهم و هو معنى: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» (1).

ثمّ قال تعالى: [وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ أي علم اللّه أنّه تعالى لو ردّهم لم يحصل لهم ترك التكذيب و فعل الإيمان، بل كانوا يستمرّون على طريقتهم الاولى في الكفر و التكذيب.

فإن قيل: إنّ أهل القيامة قد عرفوا اللّه بالضرورة و شاهدوا ثمرات الكفر فلو ردّهم اللّه إلى الدنيا كيف يتصوّر أن يقال: إنّهم يعودون إلى الكفر و إلى معصيته تعالى قال القاضي: تقرير الآية: و لو ردّوا إلى حالة التكليف، و إنّما يحصل الردّ لو لم يحصل في القيامة معرفة اللّه بالضرورة، و هذا الشرط يكون مضمرا لا محالة في الآية لا أنّهم بعد ما علموا بالضرورة أمرهم و امور العذاب لو يردّون يعودون.

[وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي هم قوم ديدنهم الكذب؛ فقال الطبرسيّ لو قيل: إنّ التمنّي كيف يصحّ فيه الكذب و إنّما يقع الكذب في الخبر؟ فالجواب أنّ المعنى أنّهم كاذبون إن خبّروا عن أنفسهم بأنّهم متى ردّوا آمنوا، و يجوز أن يحمل كلامهم على غير الكذب الحقيقيّ بأن يكون المراد أنّهم تمنّوا مالا سبيل إليه فكذّب تمنّيهم و

ص: 158


1- الطارق: 9.

أملهم، و هذا مشهور في كلام العرب؛ يقولون: كذّبك أملك، لمن تمنّى ما لم يدرك؛ قال شاعرهم:

كذبتم و بيت اللّه لا تأخذونهامراغمة مادام للسيف قائم

و المراد: الخيبة في الأمل. و قرأ أبو عمرو بن العلا: «لا يكذب و يكون» بالرفع و استدلّ بأنّ قوله «وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» فيه دلالة على أنّهم أخبروا بذلك عن أنفسهم و لن يتمنّوه؛ لأنّ التمنّي لا يقع فيه الكذب، و التمنّي وقع منهم للردّ فبعضهم جعل بعض الكلام تمنّيا و بعضه إخبارا، و علّق تكذيبهم بالخبر دون «ليتنا» و إذا كان بعض الكلام خبرا فيكون الإعراب بالرفع دون النصب.

[سورة الأنعام (6): الآيات 29 الى 30]

وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

قوله تعالى:

في الآية قولان: الأوّل أنّه تعالى ذكر في الآية الاولى أنّه بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل فبيّن في هذه الآية: إنّ ذلك الّذي يخفونه هو أمر المعاد و الحشر، و ذلك لأنّهم كانوا ينكرونه و يخفون صحّته و كانوا يقولون: ما لنا إلّا هذه الحياة الدنيويّة و ليس بعد هذه الحياة لا ثواب و لا عقاب. و الثاني أنّ التقدير: و لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه و لأنكروا الحشر و النشر، و قالوا: إن هي إلّا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين فيكون عطفا على «عادوا».

[وَ قالُوا إِنْ هِيَ أي ما الحياة، فإنّ من الضمائر ما يذكر مبهما و لا يعلم مرجعه إلّا بذكر ما بعده [إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد ما فارقنا هذه الحياة [وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا] و حبسوا للسؤال كما توقف العبد الجاني، و جواب «لو» محذوف أي لرأيت أمرا عظيما [قالَ و أتى بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه و الماضي و الحال و الاستقبال عنده تعالى سواء. قال لهم على لسان الملائكة على سبيل التقريع و التوبيخ: [أَ لَيْسَ هذا] البعث و الحساب [بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا إنّه لحقّ قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ الّذي عاينتموه [بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم و تكذيبكم و خصّ لفظ الذوق لبيان أنّ

ص: 159

ما يجدونه من العذاب في كلّ حال هو ما يجده الذائق لكون ما يجدون بعده أشدّ من الأوّل، و هكذا إلى مالا يتناهى لأنّ عذاب الكافرين كذلك.

[سورة الأنعام (6): الآيات 31 الى 32]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (32)

ثمّ أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفّار فقال: [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي كانوا مكذّبين بلقاء ما وعد اللّه من الثواب و العقاب و جعل لقاءهم لذلك لقاءه مجازا كما يقال للميّت: لقي فلان عمله أي لقي جزاء عمله، أي كذّبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة فندموا حيث لا ينفعهم الندامة.

[قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها] كأنّه قيل: يا حسرتنا تعالي فهذا أوان حضورك كما يقال: يا للعجب احضر و ابصر خسراننا و هذا الكلام أبلغ من أن يقول: إنّا متحسّرون على التفريط في ما فعلنا و قصّرنا في الدنيا و ضيّعنا و تركنا من تقديم أعمال الآخرة. و قيل:

إنّ الهاء في قوله «فيها» يعود إلى الساعة. و قيل: يعود إلى الجنّة و طلبها لمّا يروا منازلهم في الجنة و حرمانهم عنها و حصول الخسران، و حمل الأوزار لهم و ما أعظم هذه الخسارة! لأنّ اللّه سبحانه بعث جوهر النفس الناطقة القدسيّة إلى هذا العالم الجسماني و أعطاه هذه الآلات الجسمانيّة و أعطاه التفكّر و التدبّر لأجل أن يتوصّل باستعمال هذه الأدوات إلى تحصيل المعارف و الأخلاق الفاضلة الّتي يعظم منافعها بعد الموت، فإذا استعمل الإنسان هذه الآلات و القوّة العقليّة في تحصيل هذه اللذّات الفانية، ثمّ انتهى إلى آخر عمره فقد خسر؛ لأنّ رأس المال قد فنى، و الربح الّذي ظنّ أنّه هو المطلوب فنى أيضا فلم يبق في يده لا من رأس المال أثر و لا من الربح شي ء و حصل العقاب العظيم.

[وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ أي أثقال ذنوبهم [عَلى ظُهُورِهِمْ حال من فاعل «قالوا» و الأوزار جمع وزر و هو الحمل و الثقل؛ يقال: وزرته أي حملته ثقيلا. و منه: وزير الملك لأنّه يتحمّل أعباء ما قلّده الملك من مؤونة رعيّته و حشمه. سمّي به الإثم لغاية ثقله على صاحبه و تثقّل ظهر من عمل بها. و أوزار الحرب أثقالها من السلاح.

ص: 160

و اختلف في كيفيّة حملهم الأوزار؛ قال بعضهم: هذا على سبيل التمثيل و التشبيه مجازا، قالوا: الحمل من توابع الأعيان الكثيفة لأمن عوارض المعاني فلا يوصف به العرض إلّا على التمثيل مجازا. و قال جماعة: لا مانع من حمل الكلام على الحقيقة، و في الحديث: إنّ المؤمن إذ خرج من قبره استقبله أحسن شي ء صورة و أطيبه ريحا فيقول:

هل تعرفني؟ فيقول: لا فيقول: أنا عملك الصالح فاركبني، فقد طال ماركتك في الدنيا فذلك قوله: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» (1) أي ركبانا، و إنّ الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شي ء صورة و أخبثه ريحا فيقول: أنا عملك السيّئ طال ما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم و ذلك قوله: «وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ» (2) فيكون الحمل على حقيقته؛ لأنّ للأعمال صورا تظهر في الآخرة و إن كان نفسها أعراضا.

[أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي بئس الحمل حملهم. أو المعنى: ساء ما ينالهم جزاء ذنوبهم إذ كان ذلك عذابا و نكالا ثمّ ردّ سبحانه عليهم قولهم حيث قالوا: ما هي إلّا حياتنا الدنيا فبيّن أنّ ما يتمتّع به في الدنيا يزول و يبيد فقال: [وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ] أي باطل و غرور إذا لم يجعل ذلك طريقا إلى الآخرة، و المراد أعمال الدنيا لأنّ نفس الدنيا لا يوصف باللعب [وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ] الّتي هي محلّ الحياة الباقية [خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي، لأنّ منافعها خالصة عن المضارّ و لذّاتها غير منقصه بالآلام [أَ فَلا تَعْقِلُونَ و الفاء للعطف على مقدّر أي أ تغفلون فلا تعقلون أيّ الأمرين خير؟ و في الآية تسلية للفقراء المؤمنين و تقريع للأغنياء المنهمكين في لذّات الدنيا.

[سورة الأنعام (6): الآيات 33 الى 34]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

قوله تعالى:

[قَدْ نَعْلَمُ «قد» هنا للتكثير و المراد بكثرة علمه تعالى كثرة تعلّقه [إِنَّهُ ضمير الشأن [لَيَحْزُنُكَ يا محمّد [الَّذِي يَقُولُونَ فاعل «يحزنك» و العائد محذوف أي الّذي يقوله

ص: 161


1- مريم: 88.
2- راجع فروع الكافي ج 1: 66 باب ما ينطق به موضع القبر.

كفّار مكّة، و هو ما حكى عنهم من قولهم «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ»* (1) و ساحر و شاعر و مجنون و أمثالها [فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ و قرء لا يكذبونك بالتخفيف و هو قراءة عليّ عليه السلام أي لا تعتدّ بما يقولون فإنّهم في تكذيبهم آيات اللّه لا يكذبونك في الحقيقة.

و اختلف في معناه على وجوه: أحدها: هذا الّذي ذكرناه. و الثاني أنّ معناه:

لا يكذّبونك بقلوبهم اعتقادا و إن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا، و يجحدون القرآن و النبوّة كما أنّ حرث بن عامر من قريش قال: يا محمّد ما كذبتنا قطّ و لكنّا إن اتّبعناك نتخطّف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب. و قال أخنس بن شريق لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمّدا صادق هو أم كاذب؟ فإنّه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له: إنّ محمّدا لصادق و ما كذب قطّ و لكن إذا ذهب بنو قصيّ باللّواء و السقاية و الحجابة و النبوّة فماذا يكون لسائر قريش؟.

قال الرازيّ: و هذا الوجه في معنى الآية غير مستبعد، و نظيره قوله تعالى في قصّة موسى و فرعون: «وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا». (2) و الوجه الثالث في تأويل الآية أنّهم لا يقولون: إنّك كذّاب لأنّهم جرّبوك الدهر الطويل و ما وجدوا منك كذبا و سمّوك بالأمين فلا يقولون: إنّك كاذب و لكن جحد واضحة نبوّتك لأنّهم اعتقدوا أنّ محمّدا عرض له نوع خبل و نقصان في عقله، فلأجله تخيّل في نفسه أنّه رسول و بهذا التقدير لا ينسبونه إلى الكذب.

و الوجه الرابع أنّ معناه أنّهم لا يصادفونك كاذبا فقول العرب: قاتلناكم فما أجبنّاكم أي ما وجدناكم جبناء؛ و قال الأعشى:

«فمضى و أخلف من قبيله موعدا» أراد:

صادف منها خلف الوعد.

[وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي و لكنّهم ينكرون آيات اللّه و يكذّبون بها فما يفعلون في حقّك، و التقديم للقصر.

ص: 162


1- الانعام: 26.
2- النمل: 14.

[وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا] تسلية للرسول فإنّ البليّة إذا عمّت طابت أي و باللّه لقد كذّبت من قبل تكذيبك رسل كانوا قبل زمانك فصبر الرسل على تكذيبهم و إيذائهم إيّاهم [حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا] أي كان غاية صبرهم نصر اللّه لهم فتأسّ بهم و اصطبر على ما نالك من قومك، و النصر الموعود للصابرين إمّا بطريق الحجج و إمّا بطريق الغلبة و بإهلاك الأعداء [وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا خلف في مواعيده بالنصر و الغلبة [وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ من خبرهم ما يسكن به قلبك و سمعت بعض أخبارهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 35 الى 37]

وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)

قوله تعالى:

قال ابن عبّاس: أتى الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم في نفر من قريش فقالوا: يا محمّد ائتنا بآية نقترحها من عند اللّه كما كانت الأنبياء تفعل فإنّا نصدّق بك فأبى اللّه أن يأتيهم بها فأعرضوا عن رسول اللّه، فشقّ ذلك عليه فبيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفّار لا يؤمنون فخاطب نبيّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه إن كان عظم عليك و شقّ و اشتدّ إعراضهم عليك بسبب امتناعهم من اتّباعك و لم يقبلوا القرآن و لم يعدّوه من قبيل الآيات و أحببت أن تجيبهم إلى ما سألوا اقتراحا لحرصك على إسلامهم.

[فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً] و سربا و منفذا في الأرض. و النفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر. و منه ما فقأ اليربوع (1) لأنّ اليربوع يخرق الأرض إلى القعر ثمّ يصعد من ذلك إلى وجه الأرض من جانب آخر [أَوْ سُلَّماً] أي مصعدا [فِي السَّماءِ] دروجا [فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ] أي حجّة تلجئهم إلى الإيمان و تجمعهم على ترك الكفر فافعل ذلك، و الجواب فافعل، و حذف الجواب شائع في كلّ موضع يعرف فيه معنى

ص: 163


1- فقأ الشي ء: شقه. العين: قلعها.

الجواب؛ ألا ترى أنّك تقول للرجل: إن استطعت أن تتصدّق؟ فتترك الجواب للمعرفة به و لكن حذف الجواب ليس في كلّ موضع فإذا قلت: إن تصم تصب خيرا فلا بدّ من الجواب (1) لأنّ معناه لا يعرف إذا ترك الجواب. و السلّم مأخوذ من السلامة لأنّه الّذي يسلّمك إلى مصعدك قال ابن عبّاس: المراد أنّه لا آية أفضل و أظهر ممّا أتيت به و هو القرآن.

[وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بالإلجاء و لم يفعل ذلك لأنّه ينافي التكليف و يسقط استحقاق الثواب الّذي هو الغرض بالتكليف و إنّما نفى سبحانه المشيئة لما يلجئهم إلى الإيمان لا أنّه نفى مشيئة إيمانهم؛ و ليس في الآية أنّه سبحانه لا يشاء منهم أن يؤمنوا بل إنّهم مختارون في الإيمان و الكفر، و الغرض من الآية أنّهم لم يغلبوه بكفرهم فإنّه تعالى لو أراد أن يحول بينهم و بين الكفر لفعل.

[فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي لا تجزع في مواطن الصبر و قيل: إنّ هذا إثبات لعلمه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و نفي للجهل عنه، أي بعد أن كنت عالما لا تكن تقارب حالك حال من لا يعلم و هو الجاهل و التغليظ في الخطاب للزجر و التبعيد عن مثل هذه الحالة بأن لا يقترح المقترحون في طلب الآيات.

[إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كلامك و يصغون إليك و إلى ما تقرء عليهم من القرآن و يتفكّر في آياته، و من لم يتدبّر و لم يستدلّ بآياتك بمنزلة من لم يسمع؛ قال الشّاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حيّاو لكن لا حياة لمن تنادي

[وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ يريد أنّ الّذين لا يصغون إليك من هؤلاء الكفّار و لا يتدبّرون فيما تقرؤه عليهم من القرآن و الحجج بمنزلة الموتى فكما أنت مأيوس أن تسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم اللّه و لا يقدرون على إجابتك فكذلك فأيس من هؤلاء أن يستجيبوا لك و إنّما يستجيب المؤمن السامع للحقّ فأمّا الكافر فهو بمنزلة الميّت فلا يجيب إلى أن يبعثه اللّه يوم القيامة فيلجئه إلى الإيمان ضرورة. و الفرق بين «يستجيب» و «يجيب» أنّ

ص: 164


1- أى جواب الشرط و هو «تصب خيرا».

«يستجيب» أي قبل لما دعي إليه و ليس كذلك «يجيب» لأنّه قد يكون يجيب بالمخالفة و الردّ [ثُمَّ إِلَيْهِ تعالى لا إلى غيره [يُرْجَعُونَ يردّون إلى جزاء أعمالهم فحينئذ يستجيبون. و قرء «يرجعون» على البناء للفاعل.

[وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ هذا إخبار عن رؤساء قريش لمّا عجزوا من معارضته في ما اوتي له من القرآن اقترحوا عليه مثل آيات الأوّلين كعصا موسى و ناقة ثمود، فقالوا لإلقاء الشبهة: لو كان رسولا من عند اللّه فهلّا انزل عليه آية قاهرة؟

و قد طعن بعض الملاحدة فقال: لو كان محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم قد أتى بآية معجزة لما صحّ أن يقول أولئك الكفّار: لو لا انزل عليه و لما قال سبحانه: إنّ اللّه قادر على أن ينزّل آية؛ و الجواب عنه أنّ القرآن معجزة قاهرة باقية إلى القيامة بدليل أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم تحدّاهم به فعجزوا عن معارضته، و ليس المراد من المعجزة إلّا أمر يعجز عن إتيان بمثله جميع الخلق.

بقي أن يقال: فإذا كان الأمر كذلك فكيف قالوا: لو لا انزل عليه آية من ربّه؟

فالجواب أنّهم طعنوا في كون القرآن معجزا على سبيل العناد، و قالوا: إنّه من جنس الكتب، و الكتاب لا يكون من جنس المعجزات فطلبوا من جنس معجزات سائر الأنبياء مثل فلق البحر، لا أنّهم ما أقرّوا بعجزهم بالإتيان بمثله فإذا ثبت إقرارهم و عجزهم ثبت المعجزة، لأنّه لا نعني بالمعجزة إلّا هذا الأمر، و لمّا كان غرضهم التعنّت و العناد فلو كان يأتي صلى اللّه عليه و آله و سلّم بما يقترحونه فينسبونه إلى السحر أيضا كما نسبوا.

[قُلْ يا محمّد [إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً] أي إنّه يجمعهم على الهدى، عن الزجّاج. و قيل: المراد آية كما يسألونها [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما في اقتراحهم و إنزالها من وجوب الاستئصال إذا لم يؤمنوا بعد إنزال الآية المقترحة و ما في الاقتصار على ما أوتوه من المصلحة و لهذا السبب ما أعطاهم مطلوبهم، و لعلمه سبحانه أنّهم طلبوا هذا الأمر على سبيل التعنّت و العناد لا لحصول اليقين، و لو أتى سبحانه على يد رسوله أيضا ما يقترحونه ممّا كانوا يؤمنون به فلا فائدة فيه.

[سورة الأنعام (6): الآيات 38 الى 39]

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

قوله تعالى:

ص: 165

قال القاضي: لمّا قدّم ذكر الكفّار و بيّن أنّهم يرجعون إلى اللّه و يحشرون بيّن بعده: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» في أنّهم يحشرون و هذا هو الوجه في النظم.

الحيوان إمّا أن يكون بحيث يدبّ أو يكون بحيث يطير؛ فجميع ما خلق اللّه من ذي الروح فإنّه لا يخلو عن هاتين الصفتين حتّى ما يسيح في الماء و يعيش فيه فيوصف بعضها بالدبيب النهاية دبيبه في الماء، و بعضها يسيح في الماء كما أن الطير يسيح في الهواء إلّا أنّ البحريّة وصفها بالدبيب أقرب من وصفها بالطيران و خصّ ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء احتجاجا بالأظهر لأنّ ما في السماء و إن كان كذلك لكن غير ظاهر لنا و الفائدة في قوله: «يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» مع أنّ كلّ طائر إنّما يطير بجناحيه التأكيد كقوله: نعجة أنثى. و مثل قوله: رأيت بعيني و مشيت برجلي.

و في الآية ذكر في المماثلة بيننا و بين كلّ الدوابّ، و لا يمكن أن يقال: إنّ حصول المماثلة من جميع الوجوه، و لا بدّ أن يكون المماثلة من وجه. قال الواحديّ: عن ابن عبّاس أنّه قال: يريد سبحانه: يعرفونني و يوحّدونني و يسبّحونني، و إلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسّرين و قالوا: إنّها تعرف اللّه و تحمده و تسبّحه، و احتجّوا بقوله تعالى: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (1) و بقوله في صفة الحيوانات: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ» (2) و عن أبي الدرداء أنّه قال: ابهمت عقول البهائم عن كلّ شي ء إلّا عن أربعة أشياء: معرفة اللّه، و طلب الرزق، و معرفة الذكر و الأنثى، و تهيّؤ كلّ واحد لصاحبه، و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة يعجّ إلى اللّه يقول: يا ربّ إنّ هذا قتلني عبثا لم ينتفع بي و لم يدعني آكل من حشاش الأرض و قيل: المراد بالمثليّة في كونها امما و جماعات و في كونها مخلوقة بحيث يشبه

ص: 166


1- الإسراء: 46.
2- النور: 41.

بعضها بعضا و يأنس بعضها ببعض و يتوالد بعضها من بعض كالإنس.

و القول الثالث أنّها أمثالنا في أن خلقها اللّه فكما احصي في الكتاب كلّ ما يتعلّق بأحوال البشر من العمر و الرزق و الأجل و السعادة و الشقاوة فكذلك احصي في الكتاب جميع هذه الأحوال في كلّ الحيوانات و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ» و ليس لذكر هذا الكلام عقيب قوله: «إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» فائدة إلّا ما ذكرناه.

و القول الرابع أنّها أمثالنا في أنّها تحشر يوم القيامة، يوصل إليها حقوقها كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: يقتصّ للجمّاء من القرناء.

[ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ] فرّط في الشي ء تركه و ضيّعه أي ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء المبهمة الّتي فيها مصالح العباد على ما ينبغي، بل بيّنّا كلّ شي ء فيه إمّا مفصّلا أو مجملا، أمّا المفصّل مثل قوله: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» (1) و أمّا المجمل كقوله: «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (2) و المجمل قد بيّنه على لسان الرسول و أمر باتّباعه و هو صلى اللّه عليه و آله و سلّم قد بيّن فحينئذ ما فرّط في الكتاب شيئا. روي عن ابن مسعود أنّه قال: مالي لا ألعن من لعنه اللّه في كتابه؟ يعني الواشمة و المستوشمة و الواصلة و المستوصلة فقرأت امرأة جميع القرآن ثمّ أتته و قالت: يا ابن امّ عبد: إنّي تلوت البارحة ما بين الدفّتين فلم أجد فيه لعن اللّه الواشمة و المستوشمة و الواصلة و المستوصلة فقال ابن مسعود: لو تلوتيه لوجدتيه؛ قال اللّه تعالى: «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» و ثاني الأقوال أنّ المراد بالكتاب هاهنا الكتاب المشتمل على ما كان و ما يكون و هو اللوح المحفوظ و فيه آجال الحيوان و أرزاقه و آثاره ليعلم ابن آدم أنّ عمله أولى بالإحصاء. و ثالثها أنّ المراد بالكتاب الأجل أي ما تركنا شيئا إلّا و قد أجّلنا له أجلا ثمّ يحشرون جميعا قال الطبرسيّ: و هذا الوجه بعيد.

ص: 167


1- المائدة: 49.
2- الحشر: 7.

[ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ إلى اللّه بعد موتهم يوم القيامة كما يحشر العباد فينتصف لبعضها من بعض. و عن أبي ذرّ قال: بينا أنّا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم إذا انتطحت غزالان فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تدرون فيما انتطحا؟ فقالوا: لا، قال: و لكنّ اللّه يدري و سيقضي بينهما. و على هذا فإنّما جعلت أمثالنا في الحشر و الاقتصاص و اختاره الزجّاج فقال:

يعني أمثالكم في أنّهم يبعثون؛ و يؤيّده: «وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» (1) و معنى «إِلى رَبِّهِمْ» أي إلى من لا يملك النفع و الضرّ إلّا هو.

قال الطبرسيّ: و استدلّ جماعة من أهل التناسخ بهذه الآية على أنّ البهائم و الطيور مكلّفة لقوله: «أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» و هذا باطل؛ لأنّا قد بيّنّا أنّها من أيّ وجه تكون أمثالنا و لو وجب حمل ذلك على العموم لوجب أن تكون أمثالنا في كونها على مثل صورنا و هيآتنا و خلقنا. و الحال أنّه ليس كذلك و كيف يصحّ تكليف البهائم و هي غير عاقلة و التكليف لا يصحّ إلّا مع كمال العقل؟.

قال الرازيّ: و في بيان الآية دلالة على أنّ عنايته وصلت إلى جميع الحيوانات كما وصلت إلى الإنسان و من بلغت عنايته إلى حيث لا يبخل بها على البهائم، و يقتصّ من القرناء للجمّاء كان بأن لا يبخل بها على الإنسان أولى فدلّ منع اللّه من إظهار ما اقترحوا من المعجزات القاهرة على أنّه لا مصلحة لأولئك المقترحين في إظهارها و يوجب الضرر العظيم إليهم فهذا هو الوجه في نظم هذه الآية بما قبلها انتهى كلامه.

[وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] أي القرآن أو بسائر الحجج [صُمٌّ وَ بُكْمٌ لا يسمعونها سمع تدبّر و فهم و لذا لا يعدّونها من الآيات و يقترحون غيرها. و الصمّ جمع أصمّ و المقصود تشبيه حالهم بالأصمّ و حذف حرف التشبيه للمبالغة. و بكم لا يقدرون على أن ينطقوا بالحقّ و لذلك لا يستجيبون دعوتك و هو جمع أبكم [فِي الظُّلُماتِ خبر ثالث للمبتدأ أي في ظلمات الكفر و الجهل أو في الظلمات على الحقيقة في الآخرة عقابا على كفرهم، عن الجبّائيّ.

[مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أي من يشاء يخذله و يمنعه ألطافه لأنّه تعالى أوضح له الحجج

ص: 168


1- التكوير: 5.

و الأدلّة فأعرض عنها و لم يقبلها أو من يشأ اللّه إضلاله عن طريق الجنّة و نيل ثوابها يضلله بسوء كسبه و اختياره لا ابتداء [وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي و من يشأ أن يرحمه و يهديه إلى الجنّة يجعله على الصراط الّذي يسلكه المؤمنون إلى الجنّة.

[سورة الأنعام (6): الآيات 40 الى 41]

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)

قوله تعالى:

قال الفرّاء: للعرب في «أ رأيت» لغتان إحداهما: المراد رؤية العين فإذا قلت للرجل: أ رأيتك كان المعنى أهل رأيت نفسك ثمّ يثنّى و يجمع فتقول: أ رأيتكما أ رأيتكم و المعنى الثاني أن تقول: أ رأيتك و تريد أخبرني، و إذا أردت هذا المعنى تكون التاء مفتوحة تقول: أ رأيتك أ رأيتكما أ رأيتكم أ رأيتكنّ و الكاف حرف خطاب أكد به ضمير الفاعل المخاطب، لا محلّ له من الإعراب و هذا على قول البصريّين.

و قال الفرّاء: ليس الأمر كذلك فإنّه لو كان كذلك وجي ء به للتأكيد لوقعت التشبيه و الجمع على التاء كما يقعان عليها عند عدم الكاف، فلمّا فتحت التاء في خطاب الجمع و وقعت علامة الجمع على الكاف دلّ ذلك على أنّ الكاف ليس للتوكيد؛ ألا ترى أنّ الكاف لو سقطت لم يصحّ أن يقال لجماعة: أ رأيت؟ فثبت بهذا انصراف الفعل إلى الكاف و أنّها واجبة مفتقر إليها.

[قُلْ يا محمّد- صلى اللّه عليه و آله و سلّم-، أمر سبحانه رسوله بأن يبكّتهم و يلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى الإنكار: أخبروني أيّها الكفّار [إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ حسب ما أتى الأمم السابقة من أنواع العذاب الدنيويّ [أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ] الّذي لا محيص عنها [أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أي أ تدعون فيها لكشف العذاب عنكم هذه الأوثان أو تدعون اللّه الّذي هو خالقكم و سبب إلزام هذه الحجّة عليهم هو أنّهم مع كفرهم كانوا إذا مسّهم الضرّ الشديد دعوا اللّه [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و جواب الشرط محذوف أي إن كنتم في أنّ أصنامكم آلهة، و الحذف ثقة بدلالة الكلام عليه.

[بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ عطف على جملة منفيّة ينبئ عنها الجملة الّتي تعلّق بها

ص: 169

الاستخبار كأنّه قيل: لا غيره تدعون بل إيّاه تدعون [فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ] أي يكشف الضرّ الّذي من أجله طلبتم الخلاص عنه إن شاء أن يكشفه، فقبول الدعاء تابع لمشيئته فقد يقبله و قد لا يقبله كما يتعلّق بالعذاب الاخرويّ الّذي من جملته عذاب الساعة فإنّه تعالى لا يغفر أن يشرك به فلا يشاء في الآخرة، و قد يكون أنّ المصلحة تقتضي عدم إجابتهم في الدنيا [وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ عطف على تدعون أي تتركون ما تشركون به تعالى من الأصنام. و النسيان في الآية بمعنى الترك لا بمعنى الغفلة أو المعنى: تعرضون عنه إعراض الناسي لليأس من النجاة من مثله فإذا كان الأمر كذلك فلم تعبدون غيره؟

و هذا هو المعنى اللّازم في الآية.

[سورة الأنعام (6): الآيات 42 الى 45]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)

أعلم اللّه رسوله حال الأمم السابقة في مخالفة رسله و المراد أنّ حال هؤلاء إذا سلكوا طريق المخالفة كحالهم فقال: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ كثيرة كائنة قبل زمانك و «من» لابتداء الغاية في الزمان أي من زمان قبل زمانك كقولهم: نمت من أوّل اللّيل و صمت من أوّل الشهر. و في الآية تقدير أي فخالفوهم و حسن الحذف للإيجاز من غير إخلال لدلالة مفهوم الكلام عليه.

[فَأَخَذْناهُمْ و الفاء فصيحة مفصحة عن المحذوف، فبعد المخالفة و التكذيب أخذناهم [بِالْبَأْساءِ] أي بالشدّة و الفقر [وَ الضَّرَّاءِ] أي الآفات و الأسقام [لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ لكي يدعوا اللّه في كشفها بالإيمان و التذلّل و التوبة عن معاصيهم فأخبر اللّه أنّه أرسل الرسل إلى أقوام بلغوا من القسوة إلى أن أخذوا بالشدّة في أنفسهم و أموالهم ليذلّوا لأمر اللّه فلم يخضعوا و لم يتضرّعوا و هو كالتسلية للرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم [فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا] أي فهلّا تضرّعوا لمّا رأوا بأسنا؟ [وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ فأقاموا على

ص: 170

كفرهم و يبست و جفّت قلوبهم و لو كان في قلوبهم رقّة و خوف لتضرّعوا [وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي حسّن لهم الكفر و المعاصي بأن أغواهم و دعاهم إلى اللّذّة و الراحة دون التدبّر و العبادة، و لم يخطر ببالهم أنّ ما اعتراهم من البأساء و الضرّاء ما اعتراهم إلّا لأجله.

[فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ عطف على مقدّر، أي فانهمكوا فيه و نسوا ما ذكّروا من البأساء و الضرّاء فلمّا نسوه [فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ] من فنون النعماء على منهاج الاستدراج [حَتَّى غاية لقوله «فتحنا» [إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا] معجبين بحالهم فرح البطر كفرح قارون بما أصابه من الدنيا.

و حاصل المعنى أنّه تعالى امتحنهم بالشدائد لكي يتضرّعوا و يتوبوا فلم ينجح و تركوا التضرّع فتح عليهم أبواب النعم و التوسعة في المال ليرغبوا بذلك في نعيم الآخرة و إنّما فعل ذلك بهم و إن كان موضع العقوبة و الانتقام دون الإكرام ليدعوهم ذلك إلى الطاعة، فإنّ الدعاء إلى الطاعة يكون تارة بالعنف و تارة باللّطف أو لتشديد العذاب و العقوبة بالاستحقاق لهم بالنقل من النعيم إلى العذاب الأليم.

[أَخَذْناهُمْ بالعذاب [بَغْتَةً] و فجأة ليكون أشدّ عليهم وقعا و أفظع هولا [فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آئسون متحيّرون غاية الحيرة و الإبلاس بمعنى اليأس من النجاة عند ورود الهلكة [فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا] أي أخّرهم بحيث لم يبق منهم أحد فالدابر يقال للتابع للشي ء من خلفه، دبر فلان القوم إذا كان أخّرهم فاستوصلوا بالعذاب و لم يبق لهم باقية و وضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلّة الحكم فإنّ هلاكهم بسبب ظلمهم الّذي هو وضع الكفر موضع الشكر و المعاصي مقام الطاعات.

[وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم فإنّ هلاكهم من حيث تخليص أهل الأرض من شومهم و عقائدهم الفاسدة نعمة جليلة يحقّ أن يحمد عليها مع ما فيه من إعلاء الكلمة الّتي نطقت بها رسلهم؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا رأيت اللّه يعطي على المعاصي فإنّ ذلك استدراج من اللّه ثمّ قرأ هذه الآية.

فاستوصلوا بعذاب حصّ دابرهم فما استطاعوا له صرفا و لا انتصروا

ص: 171

احرص و فيك بقيّة على أن تكون لك نفس تقيّة قبل أن ترى الشيب المجلّل، و الصلب المهلّل (1). لتكن مشيتك في المسجد أوقر مشية، و خشيتك في الصلاة أوفر خشية و اذكر عسرة الملك العزيز، و لا تنس ما جاء من الحديث العزيز: انظر بين يدي أيّ جبّار أنت مماثل، و لأيّ مكّار أنت مقاتل، و لا يقوم في مثل هذا المقام الصعب إلّا عبد خير المنابت مثبت بالقول الثابت، أوّاه من خوف العقاب وثّاب إلى نيل الثواب، و لا أقلّ من أن تحفظ من حديث النفس مادمت في الصلاة حتّى لا يفوتك الحضور فتكون صلاتك جسدا بلا روح و لن تشايعك الدنيا إلى ما تروم و إن ساعدتك فمساعدتها لا تدوم و حديث نفسك للدنيا في صلاتك يحجب أن يصعد كلمات الدعاء، و أن تهبط بركات السماء يا عبد الدينار و الدرهم متى أنت عتيقهما؟! هيهات لا عتاق إلّا أن تكائب على دينك يا من يشبعه القرص ما هذا الحرص؟ و يا من ترويه الجرع ما هذا الجوع؟ ستعلم غدا إذا تندّمت أن ليس لك إلّا ما قدّمت و إذا لقيك المؤمنون لم ينفعك مال و لا بنون، ما تصنع بالقناطير المقنطرة؟ عابر هذه القنطرة، و لا تعبر هذه القنطرة إلّا بزهدك فيك.

[سورة الأنعام (6): الآيات 46 الى 49]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)

قوله تعالى:

احتجاج على المشركين في التوحيد فقال: [قُلْ يا محمّد لهم: [أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني، فإنّ الرؤية بصريّة كانت أو علميّة يصحّ الخبر عنه [إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ و ذهب بهما فصرتم صمّا و عميا [وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ و طبع عليها. و قيل: معناه ذهب بعقولكم و سلب عنكم التمييز حتّى لا تفقهون شيئا. و إنّما خصّ هذه الأشياء بالذكر لأنّ بها يتمّ النعمة دينا و دنيا [مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أى من يأتيكم بما أخذ منكم؟ و حاصل المعنى أنّ هؤلاء الّذين تعبدونها لا يقدرون أن يجعلوا لكم أسماعا

ص: 172


1- الظهر المنكوس.

و أبصارا و قلوبا إن أخذ اللّه منكم، فكما لا يقدر ردّها غيره تعالى فكذلك يجب أن لا تعبدوا غيره.

[انْظُرْ] يا محمّد و تعجّب [كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ و نكرّرها و نقرّرها من أسلوب إلى أسلوب تارة بالمقدّمات العقليّة، و تارة بطريق الترهيب و التنبيه و التذكّر بأحوال المتقدّمين [ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ و «ثمّ» لاستبعاد صدفهم و إعراضهم عن تلك الآيات.

قال الكعبيّ: دلت الآية على أنّه مكّنهم من الفهم و لم يخلق فيهم الإعراض و الصدّ، و لو كان تعالى هو الخالق لما فيهم من الكفر و الإعراض لم يكن لهذا الكلام معنى.

[قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً] مفاجأة أو علانية. و إنّما قابل البغتة بالجهر لأنّ البغتة تتضمّن معنى الخفية لأنّه يأتيهم من حيث لا يشعرون. و قيل:

البغتة أن يأتيهم ليلا و الجهرة أن يأتيهم نهارا [هَلْ يُهْلَكُ بهذا العذاب [إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ استفهام معناه النفي، أي لا يهلك إلّا القوم الظالمون أي الكافرون.

فإن قيل: إنّ العذاب قد يكون يعمّ الأبرار أيضا؟ لكنّ الهلاك في الحقيقة مختصّ بالظالمين و الأخيار يستوجبون بسبب ذلك الدرجات الرفيعة عند اللّه و ليس فيه لهم هلاك.

[وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ حالان مقدّرتان من المرسلين و موجب رسالتهم الاختبار بالخبر السارّ النافع و الخبر الضارّ القطع [فَمَنْ آمَنَ بهم [وَ أَصْلَحَ عمله و دخل في الصلاح [فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب الّذي أنذروه [وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات ما بشّروا به من الثواب [وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] و هي ما ينطق به الرسل عند التبشير و الإنذار [يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ الأليم و أسند المسّ إلى العذاب- مع أنّ المسّ من شأن الحيّ القاصد المختار- على طريق الاستعارة بالكناية كأنّه حيّ مدرك يطلب إيلامهم و يقصدهم [بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب خروجهم عن الدين و الطاعة. في الكلمات القدسيّة: يا ابن آدم لا تأمن مكري حتّى تجوز على الصراط.

روي أنّ اللّه تعالى قال: يا إبراهيم ما هذا الوجل الشديد الّذي أراه منك؟ فقال: يا ربّ كيف لا اوجل و آدم أبي كان محلّه من القرب أنّك خلقته بيدك و نفخت فيه من

ص: 173

روحك و أمرت الملائكة بالسجود له فبزلّة واحدة أخرجته من جوارك فأوحى اللّه إليه يا إبراهيم أما عرفت أنّ معصية الحبيب على الحبيب شديدة؟

قال مالك بن دينار: دخلت جبانة البصرة فإذا أنا بسعدون المجنون فقلت: كيف حالك و كيف أنت؟ قال: يا مالك كيف يكون حال من أمسى و أصبح يريد سفرا بعيدا بلا اهبة و لا زاد، و يقدم على ربّ عدل حاكم بين العباد، ثمّ بكى بكاء شديدا فقلت: ما يبكيك؟ فقال: و اللّه ما بكيت حرصا على الدنيا و لا جزعا من الموت و البلى لكن بكيت ليوم مضى من عمري لم يحسن فيه عملي، أبكاني و اللّه قلّة الزاد و بعد المفازة و العقبة الكؤود، و لا أدري بعد ذلك أصير إلى الجنّة أم إلى النار. فقلت له: إنّ الناس يزعمون أنّك مجنون فقال: ما بي جنّة و لكن حبّ مولاي خالط قلبي، و جرى بين لحمي و دمي و عظامي.

[قُلْ يا محمّد للكفرة الّذين يخالفونك: [لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أي لا أدّعي أنّ خزائن اللّه و مقدوراته مفوّضة إليّ أتصرّف فيها كيف أشاء حتّى تقترحوا عليّ تنزيل المعجزات أو إنزال العذاب أو قلب الجبال ذهبا أو غير ذلك ممّا لا يليق بشأن العبوديّة، و كانوا يقترحون منه بعض الآيات و كانوا يقولون: إن كنت رسولا من عند اللّه فوسّع علينا منافع الدنيا و أرزاقها، فقل لهم: لا أدّعي أنّ مفاتيح الرزق بيدي حتّى أقبض و أبسط.

[وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ أي و لا أدّعي أيضا أنّي أعلم الغيب من أفعاله تعالى حتّى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب. و «لا» في قوله «وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» زائدة تأكيد للنفي، و الحاصل أنّي لا أدّعي شيئا من هذه الأشياء الثلاثة حتّى تقترحوا عليّ و تجعلوا عدم إجابتي إلى مقترحاتكم دليلا على عدم صحّة ما أدّعيه من الرسالة بل الرسالة هي عبارة عن تلقّي الوحي من جهته تعالى و العمل بمقتضاه فحسب، حسب ما ينبئ عنه قوله: [إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ أي ما أفعل إلّا اتّباع ما يوحى إليّ من غير أن يكون لي مدخل ما في الوحي أو في الموحى.

و الوحي ثلاثة: ما ثبت بلسان الملك، و القرآن من هذا القبيل بإشارة الملك

ص: 174

من غير أن يبيّنه بالكلام و إليه الإشارة بقوله: إنّ روح القدس نفث في روعي و الثالث ما تبدي لقلبه بلا شبهة إلهاما من اللّه بأن أراه اللّه بنور من عنده كما قال: «لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ» (1) [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ] قل يا محمّد لهم: هل يستوي العارف باللّه العالم بدينه و الجاهل به و بدينه و هو مثل للضالّ و المهتدي لمّا وصف نفسه بأنّه متّبع للوحي الإلهيّ لزم منه أن يصف نفسه بالاهتداء و يصف من عانده بالضلال فالعمل بغير الوحي يجري عمل الأعمى. و العمل بمقتضى الوحي يجري مجرى عمل البصير [أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ في هذا الأمر فتهتدوا باتّباع الوحي.

[سورة الأنعام (6): آية 51]

وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)

أي خوّف من العذاب بما يوحى إليك قيل: الضمير في «به» راجع إلى القرآن و قيل: إلى اللّه راجع [الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ يريد أنّ المؤمنين يخافون يوم القيامة و ما فيها من شدّة الأهوال و قيل: معناه: يعلمون، قال الزجّاج: المراد بهم كلّ معترف بالبعث من مسلم و كتّابيّ.

و إنّما خصّ الّذين يخافون الحشر دون غيرهم و هو نذير على جميع الخلق؟ لأنّ الّذين يخافون و يعلمون الحشر الحجّة عليهم أوجب لاعترافهم بالمعاد. قال الصادق عليه السلام:

أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربّهم ترغبهم فيما عنده فإنّ القرآن شافع مشفّع لهم. و قيل: المراد من قوله: «وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ» الكلّ و يتناول الجميع، لأنّه لا عاقل إلّا و هو يخاف الحشر سواء قطع بحصوله أو كان شاكا فيه لأنّه بالاتّفاق أنّه غير معلوم البطلان، النهاية أنّ بعضهم ينكرونه من غير دليل، فكان هذا الخوف قائما في حقّ الكل.

و تمسّكت المجسّمة بهذه الآية على كون اللّه مختصّا بمكان وجهة قالوا:

لأنّ كلمة «إلى» للانتهاء من الغاية، و الجواب: المراد إلى المكان الّذي جعله اللّه مجمعا لهم للقضاء عليهم.

ص: 175


1- النساء: 106.

[لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ موضع «ليس» نصب على الحال كأنّه قيل:

متخلّين عن الناصر و الشافع و على هذا التقدير فظاهر الكلام أنّه هذا الأمر للكافر و المفسّرون على أنّ الآية في المؤمنين فحينئذ يكون المعنى أنّ شفاعة الأنبياء و غيرهم للمؤمنين لمّا كان بإذن اللّه فذلك راجع إلى اللّه و غيره لا يكون وليّا و شفيعا ما لم يأذن [لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و الأمر بالإنذار لكي يتّقوا و يخافوا في الدنيا و ينتهوا عمّا نهاهم اللّه.

[سورة الأنعام (6): الآيات 52 الى 53]

وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

قوله تعالى:

النزول: الثعلبيّ بإسناده عن عبد اللّه بن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده صهيب و خبّاب و بلال و عمّار و غيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا:

يا محمّد أرضيت لهؤلاء من قومك أ فنحن نكون تبعا لهم؟ أ هؤلاء الّذين منّ اللّه عليهم؟

اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك فأنزل اللّه تعالى: «وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ»، الآية.

قال الطبرسيّ: قال سلمان و خبّاب: نزلت هذه الآية فينا؛ جاء الأقرع بن حابس التميميّ و عينية بن حصن الفزاريّ و ذووهم من المؤلّفة قلوبهم فوجدوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قاعدا مع بلال و صهيب و عمّار و خبّاب في ناس من ضعفاء المسلمين فحقّروهم فقالوا:

يا رسول اللّه لو نحيّتهم عنك حتّى نخلو بك فإنّ وفود العرب يأتينك فنستحيي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد ثمّ إذا انصرفنا فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك فأجابهم النبيّ إلى ذلك فقالا: اكتب لنا بهذا على نفسك كتابا فدعى بصحيفة و أحضر عليّا ليكتب قال: و نحن قعود في ناحية إذ نزلت الآية إلى قوله: «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ» فنحّى رسول اللّه الصحيفة و أقبل علينا و دنونا منه و هو يقول: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» فكنّا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام و تركنا فأنزل اللّه تعالى «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية» (1) قال: فكان رسول اللّه يقعد معنا و يدعونا حتّى كادت ركبتنا عن ركبتيه فإذا

ص: 176


1- الكهف: 27.

بلغ الساعة الّتي يقوم فيها و تركناه حتّى يقوم و قال لنا: الحمد للّه الّذي لم يمتني حتّى أمرني أن اصبر نفسي مع قوم من امّتي؛ معكم المحيا و معكم الممات. (1) المعنى: نهى سبحانه عن إجابة المشركين فيما اقترحوه عليه من طرد المؤمنين أقول: و إنّما أراد الإجابة لحرصه صلى اللّه عليه و آله و سلّم على إسلامهم [وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي يعبدون اللّه بالصلاة المكتوبة يعنى صلاة الصبح و العصر، عن ابن عبّاس و الحسن و جماعة و قيل: إنّ المراد بالدعاء هاهنا مطلق الذكر أي يذكرون ربّهم طرفي النهار، عن إبراهيم النخعيّ و روي عنه أيضا إنّ هذا في الصلوات الخمس.

[يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يطلبون ثواب اللّه و لا يعدلون باللّه شيئا و قد شهد اللّه لهم في هذه الآية بصدق النيّات و المراد من الوجه الجهة و الطريق و السبيل إليه [ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ] و اختلفوا في ضمير «حسابهم» و «عليهم» إلى ماذا يعود؛ القول الأوّل:

يعود إلى المشركين، و المعنى: ما عليك من حساب المشركين من شي ء و لا حسابك على المشركين و إنّما اللّه هو الّذي يدبّر عبيده. و القول الثاني أنّ الضمير عائد إلى الّذين يدعون ربّهم بالغداة و العشيّ و هم الفقراء قال الرازيّ و هو أشبه بالظاهر، و الدليل عليه أنّ الكناية في قوله: «فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» عائدة إلى هؤلاء الفقراء فلزم أن يكون سائر الكنايات عائدة إليهم و على هذا التقدير معنى «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ» أنّ الكفّار كانوا يطعنون في إيمان الفقراء و يقولون: يا محمّد- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- إنّهم إنّما اجتمعوا عندك و قبلوا دينك لأنّهم فقراء و يجدون عندك مأكولا و ملبوسا و إلّا فهم فارغون عن دينك، فقال اللّه:

إن كان الأمر كما يقولون فما يلزمك إلّا اعتبار الظاهر و حسابهم عليه تعالى، و لازم لهم

ص: 177


1- و في هذا الخبر آية باهرة لمن تدبر في صدره و ذيله فان الأقرع و عيينة حيث كانا جديدا الإسلام و لم يحصل لهما روح التفكر الإسلامي بعد لم يكن بد من المماشاة معهم و التسليم لما اقترحوه ظاهرا الى ان نزلت الآية و أراحت النبي مما أشكل عليه فان اللّه لا يستحيى مما يستحيى النبي، و هذا اظهر مما ستعرفه عن المصنف و ابن الأنباري.

لا يتعدّى إليك؟ كما أنّ حسابك عليك لا يتعدّى إليهم كأنّه قيل: لا تؤاخذ أنت بحسابهم و لا هم بحسابك.

و هذه القصّة شبيهة بقصّة نوح إذ قال له قومه: «أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» فأجابهم نوح: «وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ» (1) و قيل: المراد بقوله: «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ» أي من حساب رزقهم [مِنْ شَيْ ءٍ] فتملّهم و تطردهم، ليس رزقهم عليك و لا رزقك عليهم و إنّما يرزقك اللّه و يرزقهم.

[فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ عطف على قوله «فَتَطْرُدَهُمْ» على وجه التسبّب؛ لأنّ كونه ظالما معلول طردهم و مسبّب له، و يجوز أن تكون من الظالمين لنفسك بعد الطرد أو تكون من الظالمين لهم لأنّهم بما استوجبوا التقريب و الترحيب كان طردهم ظلما لهم أيضا. قال ابن الأنباريّ: عظم الأمر في هذا على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم من خوف الدخول في جملة الظالمين: لأنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لحرصه على إسلام أولئك همّ بتقديم الرؤساء و اولى الأموال على الضعفاء، مقدّرا أنّه يستجير بإسلامهم إسلام قومهم و من لفّ لفّهم، و كان صلى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقصد بذلك إلّا الخير و لم ينو إذ دراء الفقراء، فأعلمه اللّه أنّ ذلك غير جائز.

ثمّ أخبره تعالى أنّه يمتحن الفقراء بالأغنياء و الأغنياء بالفقراء فقال: [وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي كما ابتلينا قبلك الغنيّ بالفقير و الشريف بالوضيع ابتلينا هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي، فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد أمن يعني حمى أنفا أن يسلم و يقول:

سبقني هذا بالإسلام، فقال: «وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» و إنّما قال: فتنّا و هو لا يحتاج إلى الاختبار؟ لأنّه عاملهم معاملة المختبر لكون ترتّب الثواب و العقاب متوقّفا على وقوع الكفر و الإيمان و لا يكون أن يعاملهم بعلمه.

[لِيَقُولُوا] اللّام للعاقبة، أي فعلنا هذا ليصبروا أو يشكروا فانتهى و آل أمرهم إلى هذه العاقبة [أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا] و الاستفهام معناه الإنكار كأنّهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضله. قال أبو عليّ الجبّائيّ: إنّ معنى «فتنّا» شددنا التكليف على

ص: 178


1- الشعراء: 111- 113.

شرفاء العرب بأن أمرناهم بالإيمان و بتقديم هؤلاء الضعفاء عليهم لتقدّمهم إيّاهم في الإيمان، و هذا أمر شاقّ عليهم فلهذا سمّاه اللّه فتنة ليرضوا بذلك من فعل رسول اللّه و لم يجعل هذه الفتنة و الشدّة من التكليف ليقولوا ذلك على وجه الإنكار: أ هؤلاء منّ اللّه عليهم؛ لأنّ إنكارهم لذلك كفر باللّه و معصية، و اللّه سبحانه لا يريد ذلك و لا يرضاه، لأنّه لو أراد ذلك و فعلوه كانوا مطيعين لا عاصين، و بهذا البيان ثبت فساد قول المجبّرة.

[أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ استفهام تقريريّ؛ أي إنّه كذلك و هذا دليل واضح على أنّ فقراء المؤمنين و ضعفاءهم أولى بالتقديم و التعظيم من أغنيائهم، و لقد قال أمير المؤمنين: من أتى غنيّا فتواضع لغنائه ذهب ثلثا دينه.

[سورة الأنعام (6): آية 54]

وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

قوله تعالى:

النزول: قيل: نزلت في الّذين نهى اللّه نبيّه عن طردهم، فكان النبيّ إذا رآهم بدأهم بالسلام و قيل: نزلت في جماعة من الصحابة منهم حمزة و جعفر و مصعب بن عمير و عمّار و غيرهم، عن عطاء. و قيل: إنّ جماعة أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: إنّا أصبنا ذنوبا كثيرة فسكت عنهم فنزلت الآية، عن أنس بن مالك. و قيل: نزلت في التائبين، عن الصادق عليه السلام.

فعلى هذا كلّ من تاب و آمن و أصلح دخل تحت هذا التشريف و هو الأولى؛ لأنّ الناس اتّفقوا على أنّ هذه السورة نزلت دفعة واحدة (1) و إذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كلّ واحدة من آيات السورة: إنّ سبب نزولها هو الأمر الفلانيّ؟

كما أورد هذه المناقشة الإمام الرازيّ في تفسيره.

أقول: يمكن أن يقال: إنّه لسابقة علمه تعالى بوقوع هذه الأمور متدرّجا

ص: 179


1- قال به ابى بن كعب و عكرمة و قتادة. و قال ابن عباس: نزلت ست آيات منها بمدينة و في رواية عنه: ثلاث آيات. قاله الطبرسي.

فأنزل هذه السورة جملة، فكلّ آية و حكم في ترتيبه موافق للأمور الّتي بقع متدرّجا، و الخطاب متوجّه لما يقع تدريجا بيانا لتكليفهم فصحّ إطلاق شأن النزول؛ إذ كلّ آية يختصّ بحكم حالهم موافقا لما يحتاجون بيانه.

قوله: [فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] أمر سبحانه نبيّه أن يسلّم عليهم من اللّه فهو محبّة من اللّه على لسان نبيّه، و قيل: إنّ اللّه أمر نبيّه أن يسلّم عليهم تكرمة لهم، عن الجبّائيّ. و ثالثها أنّ معناه اقبل عذرهم و اعترافهم و بشّرهم بالسلامة ممّا اعتذروا منه، عن ابن عبّاس.

و قال أبو بكر الأنباريّ: قال قوم: السلام هو اللّه فمعنى «السلام عليكم» يعني اللّه عليكم أي على حفظكم؛ قال الرازيّ؛ و هذا بعيد لتنكير السلام في قوله: سلام عليكم، و لو كان معرّفا لصحّ هذا الوجه.

أقول: و لو كان معرّفا أيضا لكان في المعنى تكلّف و بعدو «كتب» معناه الوجوب و «على» تفيد الإيجاب و الإيجاب بحكم التفضّل و الكرم، و هو لا ينافي كونه تعالى فاعلا مختارا بل هو عبارة عن تأكيد وقوع الرحمة تفضّلا.

[أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ] قال الرازيّ: إنّ هذا لا يتناول التوبة من الكفر لأنّ هذا الكلام خطاب مع الّذين وصفهم بقوله: «وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا» فثبت أنّ المراد منه توبة المسلم عن المعصية، و المراد من قوله: «بجهالة» ليس هو الخطأ و الغلط؛ لأنّ ذلك لا حاجة له إلى التوبة بل المراد أن يقدم على المعصية بسبب الميل و الشهوة فعمل عملا متلبّسا بجهالة حقيقة أو حكما بأن يكون جاهلا بمقدار المكروه فيه أو أنّه علم أنّ عاقبته قبيحة و مكروهة و لكنّه آثر العاجلة فهو جاهل؛ لأنّه آثر النفع القليل على الراحة الكثيرة الدائمة [ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي بعد المعصية تاب و رجع عن فعله و أصلح ما أفسده من عمله فهو تعالى يمنّ عليه بالغفران و الرحمة.

[وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ و قرء «و لتستبين» بالتاء و سبيل بالرفع. و السبيل استعمل مؤنّثة مثل قوله: «هذِهِ سَبِيلِي» و استعمل مذكّرا مثل «وَ إِنْ يَرَوْا

ص: 180

سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» (1).

المعنى: أي كما قدّمناه من الآيات و الدلالات على التوحيد و النبوّة فكذلك نخبر و نشرّح و نفصّل لك دلائلنا في كلّ حقّ ينكره أهل الباطل، و «ليستبين» عطف على محذوف؛ و التقدير: ليظهر الحقّ و ليستبين و جاز الحذف؛ لأنّ في ما ابقي دليلا على ما القي. و ليستبين سبيل المجرمين و سبيل المؤمنين.

(في النهج: اعلموا رحمكم اللّه أنّكم في زمان القائل فيه بالحقّ قليل، و اللسان عن الصدق كليل، و اللّازم للحقّ ذليل، أهله معتكفون على العصيان مصطلحون على الإدهان فتاهم عارم، و شائبهم آثم، و عالمهم منافق، و قارءوهم ممازق، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم، و لا يعول غنيّهم فقيرهم.

أقول: لازموا الحقّ و جانبوا الباطل، و اعرف الحقّ من الباطل، يا ابن مسجود الملك! لم تعبد الشيطان؟ و يا ابن خليفة اللّه لمّ تخرّب البنيان؟ و يا بعل الحور لا تباضع هذه العجوز الدردبيس، (2) و لا تبادل الكوثر بالخندريس؛ (3) تسعى للدنيا و عن قليل تقلعك، و ترفل (4) على وجه الأرض و عن قريب تبلعك).

و لم يذكر سبيل المؤمنين؛ لأنّ ذكر أحد القسمين يدلّ على القسم الآخر، نحو قوله: «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» (5) و على قراءة التاء فبعض نصب السبيل و التاء للخطاب، فالمعنى: لتستبين يا محمّد سبيل هؤلاء المجرمين و بعض رفع السبيل على أنّه فاعل. و جعلوا السبيل مؤنّثا أي لتستبين السبيل.

[سورة الأنعام (6): الآيات 56 الى 57]

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57)

كان كفّار قريش يدعونه إلى طريقتهم فنزلت الآية أن قل لهم: إنّي زجرت و منعت

ص: 181


1- الأعراف: 142.
2- الدرديس: الداهية، الشيخ. العجوز الفانية.
3- الخمر القديمة.
4- رفل: جر ذيله و تبختر.
5- النحل: 83.

- بما نصب لي من الأدلّة و الوحي في أمر التوحيد- عن عبادة ما تعبدونه [مِنْ دُونِ اللَّهِ كائنا ما كان [قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ إشارة إلى الموجب للنهي كأنّهم قالوا: لمّ نهبت عما نحن فيه؟ أجاب صلى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّ ما أنتم عليه هوى و ليس بهدى، فكيف أتّبع الهوى و أترك الهدى؟ [قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً] أي إذا اتّبعت أهواءكم فقد ضللت و تركت سبيل الحقّ [وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ و من الّذين سلكوا طريق الحقّ.

[قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي كائنة حاصلة لي. و البيّنة: الحجّة الواضحة الّتي يفصل بين الحقّ و الباطل، و أنا على يقين من اللّه و المراد بها القرآن و الوحي [وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ و الضمير المجرور تذكيره باعتبار القرآن أو البيان و البرهان، أي كذّبتم بها و بما فيها من الأخبار الّتي من جملتها الوعيد بمجي ء العذاب [ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي ليس عندي ما تستعجلون به العذاب الموعود في القرآن، و تجعلون تأخيره ذريعة لتكذيبي فإنّه ليس أمره بمفوّض إليّ. و ذلك أنّ رؤساء قريش كانوا يقولون له صلى اللّه عليه و آله و سلّم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟

[إِنِ الْحُكْمُ أي ما الحكم في ذلك [إِلَّا لِلَّهِ وحده [يَقُصُّ الْحَقَ أي يقوله و يخبره و لا يحكم إلّا بما هو حقّ؛ فتأخير العذاب و تعجيله حقّ ثابت جار على حكمة بليغة. و قرء «يقضي الحقّ» قالوا: و المناسب في المعنى: «يقضي» لا «يقصّ» لقوله: «خير الفاصلين»؛ لأن الفصل في الحكم لا في القصص، و لو أنّ القول أيضا بمعنى الفصل و يؤول إليه، لكنّ القضاء أظهر [وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أي خير الحاكمين و القاضين.

و احتجّت الأشاعرة بقوله: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» على أنّه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلّا إذا قضى اللّه به فيمتنع منه فعل الكفر إلّا إذا قضى اللّه به، و هذا يفيد الحصر، و أجاب المعتزلة بقوله: «يَقْضِي بِالْحَقِّ» و المعنى أنّ كلّ ما قضى به فهو الحقّ، و هذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر و لا المعصية من العاصي لضرورة أنّ ذلك ليس الحقّ، و من المعلوم أنّ كلّ شي ء صنعه اللّه فهو حقّ و الكفر باطل، فامتنع وجود الكفر منه تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

[قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي و في قدرتي و مكنتي [ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب الّذي

ص: 182

ورد به الوعيد [لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ و لأهلكتكم غضبا لربّي باستهزائكم لآياته، و لتخلّصت سريعا [وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ و بما يجب في الحكمة من التأخير و التعجيل.

[سورة الأنعام (6): آية 59]

وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)

قوله تعالى:

المعنى: لمّا قال سبحانه إنّه أعلم بالظالمين بيّن في هذه الآية أنّه العالم بكلّ شي ء فهو يعجّل ما تعجيله أصلح و يؤخّر ما تأخيره أصلح. المفتاح جمع مفتح و مفتح فالمفتح بالكسر: المفتاح الّذي يفتح به. و المفتح بفتح الميم: الخزانة، و كلّ خزانة كانت محرزا لصنف الأشياء فهو مفتح بفتح الميم.

قال الفرّاء في قوله تعالى: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ» (1) يعني خزائنه فلفظ المفاتح يمكن أن يراد منه المفاتيح، و يمكن أن يكون المراد منه الخزائن، أمّا على التقدير الأوّل فقد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأنّ المفاتيح يتوصّل بها إلى ما في الخزائن المستوثق بالأغلاق و الأقفال، فالعالم بتلك المفاتيح يمكنه أن يتوصّل بتلك المفاتيح إلى ما في الخزائن فكذلك هاهنا الحقّ لمّا كان عالما بجميع المعلومات عبّر عن هذا المعنى بهذه العبارة. و قرء مفاتيح، و أمّا على التقدير الثاني فالمعنى: و عنده خزائن الغيب. فعلى التقدير الأوّل يكون المراد العلم بالغيب، و على التقدير الثاني المراد: القدرة على كلّ الممكنات كما في قوله: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ» (2).

و الحكماء قالوا: إنّه تعالى مبدأ لجميع الممكنات، و العلم بالمبدأ يوجب العلم بالأثر فوجب كونه تعالى عالما بكلّها، و هذه الآية أيضا دليل على أنّه تعالى عالم بجميع الجزئيّات، و معنى «و عنده خزائن الغيب» الّذي فيه علم العذاب المستعجل به و المتأخّر به و غيره من العلوم لا يعلمها أحد إلّا هو أو من هو أعلمه ببعضه. و قيل:

ص: 183


1- القصص: 76.
2- الحجر: 23.

معناه: و عنده خزائن الغيب من الأرزاق و الآجال و المقدورات. و قال ابن عمر: مفاتح الغيب خمس ثمّ قرأ «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، الآية» (1).

و لمّا ذكر سبحانه أوّلا و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلّا هو و هذا أمر معقول كلّيّ أكّد بيانه بمعاونة الأمثلة محسوسا مفهوما لكلّ أحد بجزئيّات محسوسة فقال:

[وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ] و ذلك لأنّ أحد أفراد معلومات اللّه هو جميع دوابّ البرّ و البحر، فذكر سبحانه هذا المحسوس لكشف ذلك المعقول؛ فإنّ الإنسان إذا شاهد أحوال البرّ و ما فيه من المدن و القرى و المفاوز و الجبال و كثرة الحيوان و النبات و كذلك عجائب البحر و طوله و عرضه و ما فيه من أجناس ما خلق في البحار فإذا استحضر الخيال صورة البرّ و البحر، و عرف أنّ مجموع هذه الأمور قسم حقير تحت قوله:

«وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» فيصير هذا المثال المحسوس مكمّلا للعظمة في علمه تعالى.

ثمّ ذكر جزئيّا آخر كاشفا عن عظمة علمه تعالى بقوله: [وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها] فإذا عرف الإنسان إحاطة علمه تعالى بسقوط ورقة من أوراق الأشجار تبيّن للمتأمّل درجة زائدة في علم خالقه و ربّه، ثمّ يجاوز من هذا المثال أيضا إلى مثال آخر أشدّ هيئة و أدّق إحاطة بقوله: [وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ و ذلك لأنّ الحبّة في غاية الصغر، و ظلمات الأرض موضع يكون أكبر الأجسام و أعظمها مخفيّا فيها على اتّساعها فصارت هذه الأمثلة كلّها منبّهة على عظمة علمه تعالى قال ابن عبّاس:

المراد من ظلمات الأرض تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع.

[وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ و قد جمع الأشياء كلّها في قوله: «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ» لأنّ الأجسام كلّها لا تخلو من أحد هذين. و قيل: المراد ما ينبت و ما لا ينبت و قيل:

الرطب: الحيّ، و اليابس: الميّت. و عن أبي عبد اللّه عليه السلام: الورقة: السقط، و الحبّة:

الولد، و ظلمات الأرض: الأرحام، و الرطب: ما يحيى و اليابس ما يغيض (2) [إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ

ص: 184


1- لقمان: 34.
2- رواه البحراني في البرهان «ج 1: 528» عن أبى الربيع عنه عليه السلام. و فيه: ما يحيى الناس به.

أي إلّا و هو مكتوب في اللّوح المحفوظ و هو امّ الكتاب و «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» بدل من الاستثناء الأوّل بدل الاشتمال و بدل الكلّ على الكتاب المبين المراد به علمه تعالى لأنّ بعض المفسّرين فسّروا الكتاب المبين هاهنا بعلمه تعالى و هو محفوظ غير منسيّ؛ كما يقول القائل لغيره: ما تفعله عندي مسطور و مكتوب، يريد أنّه حافظ له و عالم به.

قال الجرجانيّ صاحب النظم عبد القاهر: إنّ الكلام تمّ عند قوله: «وَ لا يابِسٍ» ثمّ استأنف خبر آخر بقوله: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» يعني و هو في كتاب مبين أيضا لأنّك لو جعلت قوله: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» متّصلا بالكلام الأوّل لفسد المعنى.

[وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ الخطاب عامّ للمؤمن و الكافر، أي ينمكم في الليل، و يجعلكم كالميّت في زوال الإحساس و التمييز، و من هنا ورد: النوم أخ الموت و التوفّي في الأصل: قبض الشي ء بتمامه؛ قال أمير المؤمنين عليه السلام: يخرج الروح عند النوم و يبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت الروح إلى الجسد بأسرع من لحظة، و إنّ الّذي يرى الرؤيا هو الروح الإنسانيّ و إنّه يرى في عالم المثال و البرزخ ما صدر عن الروح الحيوانيّ من القبيح و الحسن، و الروح الحيواني ظلّ الروح الإنسانيّ.

[وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ] و ما كسبتم فيه بعلمه تعالى و خصّ الليل بالنوم و النهار بالكسب جريا على العادة [ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يوقظكم في النهار عطف على «يتوفّاكم» و توسيط قوله «وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ» بين الجملتين لبيان ما في بعثهم من عظيم الإحسان إليهم بالتنبيه على أنّه بعد ما يكسبونه من السيّئات مع كونها موجبة لإبقائهم على التوفّي بل إهلاكهم بالمرّة يفيض عليهم بالحياة و يمهلهم كما ينبئ عنه كلمة التراخي [لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي ليبلغ المتيقّظ آخر أجله المسمّى في الدنيا المتعيّن له المدّة و المراد بقضاء الأجل: فصل مدّة العمر من غيرها بالموت؛ لأنّ معنى القضاء الفصل و الأجل آخر مدّة من الحياة.

[ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي مرجعكم بالموت إليه تعالى و إلى حكمه و جزائه

ص: 185

لا إلى غيره [ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجزئكم بأعمالكم بالمجازاة في أعمالكم الّتي كنتم تعملونها في تلك اللّيالي و الأيّام فالآية السابقة بيان علمه تعالى و هذه الآية بيان قدرته لأنّ الإحياء و الإماتة من شأن قدرته تعالى.

[سورة الأنعام (6): الآيات 61 الى 62]

وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)

قوله تعالى:

ثمّ شرح أيضا قدرته فقال: و هو القاهر أي و اللّه المقتدر المستعلي على عباده، المتفوّق عليهم بالقدرة لا بالمكان؛ لأنّ ذلك من صفة الأجسام و هو تعالى منزّه عن ذلك، كما يقال: أمر فلان فوق أمر فلان مثل قوله: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ». (1) [وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً] أي و هو الّذي يقهر عباده و يرسل ملائكة يحفظون أعمالكم و يكتبونها و هم الكرام الكاتبون، و الحكمة في البيان أنّ المكلّف إذا علم أنّ أعماله يكتب عليه ينزجر عن المعاصي و أنّهم يشهدون بها عليهم يوم القيامة لعلّ ينزجر و يتأدّب و لا يكثر العصيان.

[حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا] أي يحفظون أعمالكم مدّة حياتكم حتّى إذا انتهت مدّة الحياة و جاءه أسباب الموت و مباديه [وَ هُمْ أي الرسل [لا يُفَرِّطُونَ و لا يقصّرون فيما أمروا به من الحفظ بالتواني و التأخّر طرفة عين، و المتوفّى في الحقيقة هو اللّه و إنّ ملك الموت و أعوانه وسائط، و لذلك أضيف التوفّي إليهم، و قد يكون التوفّي بدون وساطتهم كما نقل في وفات الصدّيقة الطاهرة سلام اللّه عليها و أعوان ملك الموت على ما قيل أربعة عشر ملكا سبعة منها ملائكة الرحمة و إليهم يسلّم روح المؤمن بعد القبض، و سبعة منهم ملائكة العذاب و إليهم يسلّم روح الكافر بعد الوفاة. و قد جعلت الأرض لملك الموت كالطست يتناول من حيث يشاء (2) و إن كثرت

ص: 186


1- الفتح: 10.
2- و به ورد روايات كثيرة استوفى أكثرها المجلسي رحمه اللّه في «ج 6: 139- 145» من البحار المطبوع جديدا. و في بعضها انها جعلت له مثل جام و في بعضها كالقصعة.

و كانت في أمكنة مختلفة.

قال العلماء: الموت ليس بعدم محض و لا فناء صرف و إنّما هو انقطاع تعلّق الروح بالبدن و حيلولة بينهما، و تبدّل حال و انتقال من دار إلى دار، و لمّا خلق اللّه الموت على صورة كبش أملح قال له: اذهب إلى صفوف الملائكة على هيئتك هذه فلم يبق ملك إلّا غشي عليه ألفي عام، ثمّ أقاموا فقالوا: يا ربّنا ما هذا؟ قال الموت، قالوا: لمن ذلك؟ قال: على كلّ نفس، قالوا: لم خلقت الدنيا؟ قال: ليسكنها بنو آدم، قالوا لم خلقت النساء؟ قال ليكون النسل، قالوا: من يسلّط عليه هذا هل يشتغل بالنساء و الدنيا؟

قال: إنّ طول الأمل ينسيهم الموت. و لذلك قيل: الموت من أعظم المصائب و أعظم منه الغفلة عنه.

[ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ عطف على «توفّته» أي ردّوهم الملائكة بعد البعث إلى حكم اللّه و جزائه في موقف الحساب و قيل: المردودون الملائكة حيث لا حاكم فيه سواء [مَوْلاهُمُ الْحَقِ مالكهم الّذي يملك أمورهم على الإطلاق و أمّا قوله: «وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» (1) فالمولى بمعنى الناصر هناك فلا تناقض و الحقّ الّذي لا يقضي إلّا بالعدل و هو صفة للمولى [أَلا] أي اعلموا و تنبّهوا [لَهُ الْحُكْمُ أي القضاء بين العباد يومئذ [وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب جميع الخلائق في أسرع زمان و أقصره لا يشغله حساب عن حساب و لا شأن عن شأن لا يتكلّم بآلة و لا يحتاج إلى فكرة و رويّة و عقد يد.

و للرازيّ تحقيق حقيق في قوله: «وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ»* قال: في المفاتيح:

(و تقرير هذا القهر من وجوه: الأوّل: قهّار للعدم بالتكوين و الإيجاد. و الثاني: قهّار للوجود بالإفناء و الإفساد فإنّه تعالى تارة ينقل الممكن من العدم إلى الوجود، و تارة من الوجود إلى العدم. و الثالث أنّه قاهر لكلّ ضدّ بضدّه، مثل أن يقهر النور بالظلمة و اللّيل بالنهار و النّهار باللّيل، و حصول التضادّ بينها يقضي عليها بالمقهوريّة و العجز و النقصان مثل أنّ هذا البدن مؤلّف من الطبائع الأربع و هي متنافرة متباغضة بالطبع متباعدة بالخاصيّة فإنّ الحرارة ضدّ البرودة و اليبوسة ضدّ الرطوبة، فاجتماعها مع مضادّتها لا بدّ و أن يكون بقسر قاسر.

ص: 187


1- محمد: 12.

و أخطأ من قال، إنّ ذلك القاسر هو النفس الانسانيّ و هو الّذي ذكره ابن سينا في الإشارات لأنّ تعلق النفس بالبدن إنّما يكون بعد حصول المزاج و القاهر لهذه الطبائع المتضادّة على الاجتماع سابق على هذا الاجتماع و السابق على حصول الاجتماع مغاير للمتأخّر عن حصول الاجتماع؛ فثبت أنّ القاهر لهذه الطبائع على الاجتماع ليس إلّا اللّه فإنّ الجسد كثيف ظلمانيّ فاسد عفن و الروح لطيف علويّ نورانيّ مشرق باق نظيف و بينهما أشدّ المنافرة و المباعدة و هو سبحانه الجامع بينهما على سبيل القهر و القدرة و مع هذه المنافرة جعل سبحانه كلّ واحد منهما مستكملا لصاحبه منتفعا بالآخر فالروح تصون البدن عن العفونة و الفساد و التفرّق و البدن يصير آلة للروح في استكمال تحصيل السعادات الأبديّة؛ فهذا الاجتماع و هذا الانتفاع ليس إلّا بقهره تعالى لهذه الطباع، انتهى كلامه).

فالقاهر للعباد يحاسب عباده بسرعة؛ روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سئل كيف يحاسب اللّه الخلق و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه. و روي أنّه تعالى يحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة! فاستعدّ لحسابك. قال عليّ بن الحسين عليه السلام: يا ابن آدم إنّك لا تزال بخير مادام لك واعظا من نفسك، و ما كان الخوف شعارك، و الحزن دثارك إنّك ميّت و محاسب فأعدّ الجواب. و أوحى اللّه إلى موسى: يا موسى خفني في سرائرك أحفظك في عوراتك و اذكرني في سرائرك و خلواتك و عند سرور لذّاتك أذكرك عند غفلاتك. و املك غضبك عمّن ملّكتك أمره أكفّ غضبي عنك، و اكتم مكنون سرّي و أظهر في علانيتك المداراة عنّي لعدوّك و عدوّي. أقول: لا المداهنة.

قال الصادق عليه السلام: ما الدنيا عندي إلّا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها يا حفص إنّ اللّه علم ما العباد عاملون و إلى ما هم سائرون، فحلم عنهم عند أعمالهم السيّئة بعلمه السابق فيهم و إنّما يعجل من يخاف الفوت فلا يغرّنّك تأخير العقوبة، ثمّ تلا قوله «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (1) و جعل يبكي و يقول: ذهبت الأمانيّ عند هذه الآية؛ الحديث.

ص: 188


1- القصص: 83.

[سورة الأنعام (6): الآيات 63 الى 64]

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)

قوله تعالى:

قرء «خفية» بكسر الخاء و بضمّ الخاء و قرء «خيفة» و الآية احتجاج على الكفّار.

[قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار: [مَنْ يُنَجِّيكُمْ و يخلّصكم [مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ] و شدائد أهوالهما. أراد ظلمة اللّيل و ظلمة الغيم و ظلمة النسيئة و الحيرة في البرّ و البحر [تَدْعُونَهُ أي تدعون اللّه عند معاينة هذه الشدائد [تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً] أي علانية و سرّا، أو متضرّعين بألسنتكم و خفية في أنفسكم، قال الطبرسيّ: و المعنى الثاني أظهر [لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ أي في أيّ شدّة وقعتم قلتم هذا القول [لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لإنعامك علينا و هذا يدلّ على أنّ السنّة من الدعاء التضرّع و الإخفاء؛ و قد روي عن النبيّ أنّه قال. خير الدعاء الخفيّ و خير الرزق ما يكفي. و مرّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء قال: إنّكم لا تدعون أصمّا و لا غائبا و إنّما تدعون سميعا قريبا.

[قُلِ يا محمّد: [اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ أي ينعم عليكم بالفرج و من هذه الظلمات [وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ و غمّ [ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ باللّه بعد قيام الحجّة عليكم بأن لا يقدر على الإنجاء غيره.

[سورة الأنعام (6): آية 65]

قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

في الآية بيان من دلائل التوحيد ممزوج بنوع من التهديد و التخويف [قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار: [هُوَ] تعالى [الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ بسبب المخالفة [عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ و معنى الفوقيّة و التحتيّة قيل محمول على الحقيقة؛ فالعذاب النازل عليهم من فوق مثل المطر النازل من فوق كما في قصّة نوح و الصاعقة و كذا الصيحة و الريح و حصبة قوم لوط و كما رمي أصحاب الفيل. و أمّا العذاب الّذي ظهر

ص: 189

من تحت أرجلهم فمثل الرجفة و مثل خسف قارون، فهذه الآية تتناول جميع أنواع العذاب الّتي يمكن نزولها من فوق و ظهورها من أسفل. و قال ابن عبّاس في رواية:

المراد من عذاب الفوق: الظلم من الأمراء، و من تحت أرجلكم من العبيد و الأراذل و السفلة.

و أمّا قوله: [أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً] الشيعة الّذين يتّبع بعضهم بعضا. المراد: يلبسكم و يخلطكم خلط اضطراب لا خلط اتّفاق فيجعلكم فرقا فرقا فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضا و هذا معنى «وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» و عن ابن عبّاس: لمّا نزل جبرئيل بهذه الآية شقّ ذلك على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: ما بقاء امّتي إن عوملوا بذلك؟ فقال له جبرئيل: إنّما أنا عبد مثلك فادع ربّك لأمّتك فسأل ربّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يفعل بهم ذلك فقال جبرئيل: إنّ اللّه قد أمّتهم من اثنتين: أن لا يبعث عليهم عذابا من فوقهم كما بعث على قوم نوح و لوط، و لا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون- و المراد جميع الأمّة لا بعضها- لكن لم يجرهم من أن يلبسهم شيعا بالأهواء المختلفة و يذيق بعضهم بأس بعض بالسيف.

قال الكلبيّ: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: يا جبرئيل ما يبقى امّتي مع قتلهم بعضهم بعضا، فقام صلى اللّه عليه و آله و سلّم و عاد إلى الدعاء فنزل قوله: «الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ» (1) و في حديث أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال إذا وضع السيف في امّتي لم يرفع عنها إلى يوم الساعة. و قال ابيّ بن كعب: سيكون في هذه الأمّة بين يدي الساعة خسف و قذف و مسخ.

[انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ كيف نردد الآيات و نظهرها مرّة بعد اخرى بوجوه أدلّتها حتّى تزول الشبهة [لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ لكي يعلموا الحقّ فيتّبعوه و الباطل فيجتنبوه.

قوله تعالى: [سورة الأنعام (6): الآيات 66 الى 67]

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

ص: 190


1- العنكبوت: 1- 2.

لمّا ذكر سبحانه تصريف الآيات فقال: [وَ كَذَّبَ بما نصرّف من الآيات. أو الضمير في [بِهِ راجع إلى القرآن و كلا المعنيين متقاربان [قَوْمُكَ يعني قريشا و العرب [وَ هُوَ الْحَقُ أي القرآن و تصريف الآيات، أي يدلّ على الحقّ و ما فيه حقّ. ثمّ بيّن أنّ عاقبة تكذيبهم يعود عليهم فقال: [قُلْ يا محمّد: [لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي لم اومر أن أحول بينكم و بين اختياركم و لست بحافظ لأعمالكم لأجازيكم بها، إنّما أنا منذر و اللّه هو المجازي.

[لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ] أي لكلّ خبر من أخبار اللّه قرار على غاية ينتهي إليها و يظهر عندها. قال ابن عبّاس: المعنى لكلّ خبر حقيقة كائنة إمّا في الدّنيا و إمّا في الآخرة و سمّي الوقت مستقرّا لأنّه ظرف للفعل الواقع فيه. و قيل: المعنى: لكلّ عمل مستقرّ عند اللّه حتّى يجازي به يوم القيامة، عن الحسن.

[وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه وعيد و تهديد لهم إمّا بعذاب الآخرة و إمّا بالحرب قال السدّيّ: استقرّ الوعيد يوم بدر و تقديره: و سوف تعلمون ما يحلّ بكم من العذاب، و حذف لدلالة الكلام عليه. و المستقرّ يجوز أن يكون موضع الاستقرار و يجوز أن يكون نفس الاستقرار؛ لأنّ ما زاد على الثلاثيّ كان المصدر على زنة اسم مفعول نحو المدخل و المخرج بمعنى الإدخال و الإخراج فيكون المعنى: لكلّ خبر وقت أو مكان يحصل فيه؛ و إن جعلت المستقرّ بمعنى الاستقرار يكون المعنى: لكلّ وعيد و وعد استقرار.

[سورة الأنعام (6): آية 68]

وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)

قوله تعالى:

بيّن سبحانه أنّ أولئك المكذّبين بالقرآن و الآيات إن ضمّوا إلى كفرهم و تكذيبهم الاستهزاء بالدين و الطعن بالرسول فإنّه يجب الاحتراز عن مقارنتهم و ترك مجالستهم فقال: [وَ إِذا رَأَيْتَ قيل: إنّه خطاب للرسول و المراد به غيره و قيل: الخطاب لغيره أي إذا رأيت أيّها السامع [الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا] قال الواحديّ: إنّ المشركين

ص: 191

كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن و قالوا مالا ينبغي و استهزءوا، فأمرهم أن لا يقعد معهم حتّى يخوضوا في حديث غيره، و لفظ الخوض في اللّغة عبارة عن المفاوضة على وجه العبث و اللعب [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ بترك مجالستهم عند خوضهم في الآيات [حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي استمرّ على الإعراض إلى أن يشرعوا في كلام غير ذلك الكلام.

[وَ إِمَّا] أصله إن ما فأدغمت نون إن الشرطيّة في ما المزيدة [يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ ما أمرت به من ترك مجالستهم [فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى أي بعد أن تذكره. و الذكرى مصدر بمعنى الذكر و لم يجي ء مصدر على «فعلى» إلّا القليل [مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الّذين وضعوا التكذيب موضع التصديق و هذا الإنساء لو كان هو المخاطب فمجرّد الاحتمال و الفرض و لا يلزم وقوعه، يدلّ عليه كلمة إن الشرطيّة، و المراد بالشيطان إبليس لأنّ الشيطان الّذي هو قرينه (1) ليس إلّا ملكا فلا يأمره إلّا بخير بخلاف قرين كلّ واحد من الامّة و هو دلالة على أنّ المخاطب في الآية غيره صلى اللّه عليه و آله و سلّم مثل إيّاك أعني.

[وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ] الضمير في «حسابهم» راجع إلى الخائضين، أي و ما على المؤمنين الّذين يجتنبون عن قبائح أعمال الخائضين شي ء من الجرائم الّتي ارتكبوا بخوضهم، و ذلك لأنّ المسلمين قالوا: لئن كنّا نقوم كلّما استهزءوا هؤلاء بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام و نطوف بالبيت، لأنّهم يخوضون أبدا فرخّص اللّه لهم في مجالستهم على سبيل الوعظ و التذكير [وَ لكِنْ ذِكْرى أي عليهم أن يذكروا الخائضين ذكرى، و يمنعوهم عن الخوض بما أمكن من العظة و يظهروا لهم الكراهة و الإنكار [لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و يجتنبون الخوض و قيل: المعنى:

ليس على المتّقين من الحساب يوم القيامة مكروه و لا تبعة و لكنّه سبحانه أعلمهم أنّهم محاسبون بخوضهم و حكم بذلك عليهم لكي يعلموا أنّ اللّه يحاسبهم فيتّقوا، عن البلخيّ. و على هذا فالهاء و الميم على الوجه الأوّل يعود إلى الكفّار و في الثاني إلى المؤمنين.

قوله تعالى:

ص: 192


1- اى قرين النبي صلى اللّه عليه و آله. و في التعبير تسامح.

[سورة الأنعام (6): آية 70]

وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

بيّن سبحانه عاقبة الكفّار فقال: [وَ ذَرِ الَّذِينَ أي دعهم و أعرض عنهم و المراد من الإعراض الإنكار لأنّه قال: بعد ذلك و «ذكّر» يريد: دع ملاطفتهم و لا تدع مذاكرتهم نظير قوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ» و المراد بالموصول الخائضون في الآيات. و [دِينَهُمْ أي دين الّذي أمروا بإقامته و هو دين الإسلام الّذي هم مكلّفون به و قد أخذوه لعبا و لهوا، و اللعب عمل يشغل النفس و ينفرها عمّا تنتفع به، و اللهو صرف النفس عن الجدّ إلى الهزل [وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها].

[وَ ذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن وعظ، و قيل: باليوم القيامة ذكّرهم و قيل: بالحساب [أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ و المبتسل الّذي يعلم أنّه لا يقدر على التخلّص من أمر وقع فيه، و المعنى: لكي لا تسلّم نفس للهلكة [بِما كَسَبَتْ و عملت و قيل: معنى تبسل تهلك. و قيل: تؤخذ و قيل: تسلم إلى خزنة جهنّم. و قيل؟ يجازى و المعاني متقاربة [لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌ أي ناصر ينجّيها من العذاب [وَ لا شَفِيعٌ يشفع لها [وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أي لا خلاص لها و إن تفد كلّ فداء [لا يُؤْخَذْ مِنْها] و قيل: و إن تقسط كلّ قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها؛ لأنّ التوبة هناك غير مقبولة و إنّما تقبل في الدنيا.

[أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا] أي اهلكوا فلا مخلص لهم و جوزوا [بِما كَسَبُوا] أي بعملهم و كسبهم [لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ أي ماء مغيور شديد الحرارة [وَ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم [بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي جزاء على كفرهم و اختلف في الآية فقيل: إنّها منسوخة بآية السيف، عن قتادة. و قيل: ليست بمنسوخة و إنّما هي تهديد، و في الآية دلالة على الوعيد العظيم بالاستهزاء في الدين و بآيات اللّه قال الفرّاء: عن ابن عبّاس: ما من امّة إلّا و لهم عيد يلعبون فيه و يلهون إلّا امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّ أعيادهم صلاة و دعاء و عبادة.

قوله تعالى:

ص: 193

[سورة الأنعام (6): آية 71]

قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)

أمر سبحانه نبيّه و المؤمنين بخطاب الكفّار فقال: [قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار الّذين يدعون إلى عبادة الأصنام، أو المعنى قل: أيّها الإنسان أو أيّها السامع [أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا] إن عبدناه [وَ لا يَضُرُّنا] إن تركنا عبادته [وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا] هذا مثل يقال؛ لكلّ خائب لم يظفر بحاجته: ردّ على عقبيه. و كلّ من أعرض عن الحقّ إلى الباطل رجع على عقبيه رجع القهقرى [بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ أي أنّ نرجع عن ديننا الّذي هو خير الأديان و أنقذنا من الشرك.

[كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ صفة لمصدر محذوف و تقديره: أ ندعو من دون اللّه دعاء مثل دعاء الّذي استهوته الشياطين، و ذهبت به مردة الجنّ، و أوقعته إلى المهانة و و أضلّته؟ و مثل من هوي من حالق (1) و استغوته الغيلان في الغياض [حَيْرانَ لا يهتدي سبيلا؟

و قيل: من الهوى أي دعته الشياطين إلى اتّباع الهوى. و «حَيْرانَ» حال من «هاء» استهوته، صفة مشبّهة مؤنثه حيرى.

[لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي لذلك الحيران أصحاب يقولون له: [ائْتِنا] و هو لا يقبل منهم طريق الهداية لأنّه قد تحيّر لاستيلاء الشيطان عليه يهوي و لا يهتدي و قيل: و المراد أنّ لذلك الكافر الضالّ أصحابا يدعونه إلى ذلك الضلال و يسمّونه بأنّه هو الهدى قال الرازيّ: و الصحيح هو الأوّل.

ثمّ قال سبحانه: [قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى الكامل النافع و هو الإسلام و ما عداه ضلال محض و غيّ بحت و قل أيضا: [أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ و اللّام بمعنى الباء و العرب يقول: أمرتك لتفعل أي بأن تفعل أي نوحّده و لا نشرك به شيئا و نؤمن بكتابه و قيل: نسلم أمورنا و نفوسنا إلى اللّه.

[سورة الأنعام (6): الآيات 72 الى 73]

وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

قوله تعالى:

ص: 194


1- الحالق من الجبال: المرتفع المنيف.

أي أمرنا لأن نسلم و لأن نقيم الصلاة أو أمرنا بالإسلام و بإقامة الصلاة [وَ اتَّقُوهُ و قيل لنا: تجنّبوا معاصي اللّه و اتّقوا عذابه [وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ و تجمعون يوم القيامة، يجازى كلّ عامل منكم بعمله.

فإن قيل: كيف حسن عطف قوله: «وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» على قوله: «وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ»؟ ذكر الزجّاج أنّ التقدير: و أمرنا فقيل لنا: أسلموا لربّ العالمين و أقيموا الصلاة.

فإن قيل: هب إنّ المراد كذلك لكن ما الحكمة في العدول عن هذا اللفظ الظاهر إلى التقدير و التأويل؟ قال الرازيّ: لأنّ الكافر مادام باق على كفره كان كالغائب الأجنبيّ فلا جرم يخاطب بخطاب الغائبين فيقال: «وَ أُمِرْنا» و إذا أسلم و دخل في الإيمان صار كالقريب الحاضر فلا جرم يخاطب بخطاب الحاضرين و يقال له: «وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ» و المقصود من ذكر هذين النوعين من الخطاب التنبيه على الفرق بين حالتي الكفر و الإيمان فإنّ الكافر بعيد غائب و المؤمن قريب حاضر.

[وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ أي خلقهما للحقّ لا للباطل و خلقهما حقّا و صوابا لا خطأ و عبثا و قيل: معناه: خلق السماوات و الأرض بكلامه الحقّ فالحقّ صفة كلامه قال الطبرسيّ: و الصحيح المعنى الأوّل [وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ و يوم منصوب و معطوف على الهاء في قوله «وَ اتَّقُوهُ» و المعنى: و اتّقوه يوم يقول: كن فيكون و قيل: التقدير: و اذكروا يوم يقول: كن فيكون. أو عطف على السماوات و المعنى: و هو الّذي خلق السماوات و الأرض، و خلق يوم يقول: كن فيكون.

فإن قيل: إنّ يوم القيامة لم يأت بعد؛ فالجواب أنّ ما أنبأ اللّه بكونه حقيقة كائنة لا محالة. و الخطاب في «كن» قيل: للصور فيكون المعنى: يقول اللّه للصور: كن فيكون.

فالمراد أنّه لا يتأخّر الأمر عن إرادته تعالى و سرعة وقوعه.

[قَوْلُهُ الْحَقُ أي يأمر فيقع أمره و الحقّ صفة «قوله». و «قوله» فاعل «يكون»

ص: 195

أي ما وعد به من الثواب و العقاب حقّ [وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ] و التخصيص بهذا اليوم لأنّ هذا اليوم هو اليوم الّذي لا يظهر من أحد نفع و لا ضرّ و الأمر يومئذ للّه فلهذا السبب حسن التخصيص، و المراد من الصور ذلك القرن الّذي ينفخ فيه إسرافيل على ما ذكره اللّه هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم و قيل: إنّ الصور في هذه الآية جمع الصورة مثل صوف و صوفة و ثوم و ثومة.

قال الفرّاء: كلّ جمع على لفظ الواحد المذكّر فواحده بزيادة هاء فيه إذا سبق جمعه واحده، و ذلك مثل الصوف و الشعر و الوبر و القطن و العشب، فكلّ واحد من هذه الأسماء اسم لجميع جنسه و إذا أفردت واحدته زيدت فيها هاء؛ لأنّ جمع هذا الباب سبق واحده، و لو أنّ الصوفة كانت سابقة للصوف لقالوا: صوفة و صوف و وبرة و وبر كما قالوا: غرفة و غرف و زلفة و زلف.

و أمّا الصور بمعنى القرن فهو واحد لا يجوز أن يقال: واحدته صورة، و إنّما يجمع صورة الإنسان صورا لأنّ واحدته سبقت جمعه، و أخطأ أبو الهيثم قول من قال: إنّ المراد في الآية معنى الجمعيّة في الصور فقالوا: إنّ هذا القول تبديل في كلام اللّه لأنّ اللّه تعالى قال: «وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ»* (1) بل المراد و هو الفرق، و يؤيّد القول الأوّل ما رواه أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: كيف أنعم و قد التقم صاحب القرن القرن و جناحيه، و أصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ؟

[عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ] أي يعلم مالا يشاهده الخلق و ما يشاهدونه، و مالا يعلمه الخلق و ما يعلمون [وَ هُوَ الْحَكِيمُ في أفعاله [الْخَبِيرُ] بعباده.

[سورة الأنعام (6): الآيات 74 الى 75]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

قوله تعالى:

احتجّ سبحانه على المشركين بأحوال إبراهيم عليه السلام حيث إنّ الكلّ معترفون

ص: 196


1- غافر: 66.

بفضله و يدّعون بأنّهم من أولاده، و اليهود و النصارى يعظّمون له و هذه المرتبة المسلّمة عند أهل العالم لم يتّفق لأحد لأنّه عليه السلام سلّم قلبه للعرفان، و ماله للضيفان، و بدنه للنيران، و ولده للقربان، و لسانه للبرهان، و سأل ربّه و قال: «وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» (1) فاستجاب اللّه دعاءه و حقّق مطلوبه و جعل جميع الطوائف و الملل يعظّمونه معترفين بفضله حتّى المشركين يفتخرون بأنّهم أولاده فقال:

[وَ] اذكر [إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ] فيه أقوال: أحدها أنّه اسم أب إبراهيم، عن الحسن و السدّيّ و الضحّاك. و ثانيها أنّ اسم أب إبراهيم تارخ قال الزجّاج: ليس بين النسّابين اختلاف في أنّ اسم أب إبراهيم تارخ، و الّذي في القرآن يدلّ على أنّ اسمه آزر و قيل: آزر عندهم ذمّ في لغتهم كأنّه قال: و إذ قال إبراهيم لأبيه: يا المخطئ فإذا كان كذلك فالاختيار الرفع، و جائز أن يكون وصفا له كأنّه قال لأبيه: المخطئ و قيل: آزر اسم صنم، عن سعيد بن المسيّب و مجاهد. و قال الزجّاج: فإذا كان كذلك فآزر موضعه النصب على إضمار الفعل و التقدير: و إذ قال إبراهيم لأبيه: أ تتّخذ آزر؟

و «أصناما» بدل من آزر و أشباهه فقال بعد أن قال: أ تتّخذ آزر إلها؟: أ تتّخذ أصناما آلهة؟

قال الطبرسيّ: و هذا الّذي قاله الزجّاج من أنّه لا خلاف بين النسّابين في أنّ اسم أب إبراهيم تارخ يقوّي ما قاله أصحابنا: إنّ آزر كان جدّ إبراهيم لأمّه أو كان عمّه من حيث صحّ عندهم أنّ آباء النبيّ إلى آدم كلّهن كانوا موحّدين. و اجتمعت الطائفة على ذلك، و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: لم يزل ينقلني اللّه من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتّى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهليّة. و لو كان في آبائه كافر لم يضف جميعهم بالطهارة مع قوله: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (2) و لنا أدلّة أيضا في ذلك ليس هنا موضع ذكره (3).

ص: 197


1- الشعراء: 84.
2- التوبة: 28.
3- و استدل له ايضا بآية الشريفة: و تقلبك في الساجدين فان الجمع المحلى باللام يدل على ساجدية عموم من تحول الرسول صم في أصلابهم و أرحامهم.

[أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً] الاستفهام إنكاريّ أي لا تفعل ذلك [إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ عن الحقّ و الصواب [مُبِينٍ ظاهر و في الآية حثّ للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم على محاجّة قومه الّذين دعوه إلى عبادة الأصنام و الاقتداء بأبيه إبراهيم لقوله تعالى «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» (1) و تسلية له بذلك.

قال الرازيّ: و هاهنا يقتضي مزيد بيان و هو أنّه لا دين أقدم من دين عبدة الأصنام و الدليل عليه أنّ أقدم الأنبياء و هو نوح إنّما جاء بالردّ على عبدة الأصنام كما قال سبحانه حكاية عن قومه أنّهم قالوا: «لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً» (2). و ذلك يدلّ على أنّ دين عبدة الأصنام قد كان موجودا زمن نوح أو قبله، و قد بقي ذلك الدين إلى هذا الزمان، و المذهب الّذي هذا شأنه مع العلم بأنّ هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني و خلق السماوات، و العلم الضروريّ يحكم ببداهة العقل بطلانه، كيف يكون بينهما التوفيق؟ لأنّه يمتنع إطباق الخلق الكثير في المدّة المتطاولة في أمر ضروريّ البطلان.

و العلماء ذكروا في كشف هذا المعنى وجوها كثيرة:

الأوّل أنّ الناس رأوا تغيّرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيّرات أحوال الكواكب فإنّه بحسب قرب الشمس و بعدها من سمت الرأس تحدث الفصول الأربعة، و بسبب حدوث الفصول الأربعة تحدث الأحوال المختلفة في هذا العالم، ثمّ إنّ الناس ترصّدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادات و النحوسات بكيفيّة وقوعها في طالع الناس على أحوال مختلفة، فلمّا اعتقدوا ذلك غلب على ظنون أكثر الخلق أنّ مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتّصالات الفلكيّة و المناسبات الكوكبيّة، فلمّا اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ثمّ منهم اعتقدوا أنّها واجبة الوجود لذواتها، و منهم من اعتقد حدوثها و كونها مخلوفة للإله الأكبر إلّا أنّهم قالوا: إنّها و إن كانت مخلوقة للإله الأكبر إلّا أنّها هي المدبّرة لأحوال هذا العالم و هؤلاء هم

ص: 198


1- الانعام: 90.
2- نوح: 23.

الّذين أثبتوا الوسائط بين الإله الأكبر و بين أحوال هذا العالم و على كلا التقديرين فالقوم اشتغلوا بعبادتها و تعظيمها.

ثمّ إنّهم لمّا رأوا أن هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتّخذوا لكلّ كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه؛ فاتّخذوا صنم الشمس من الذهب و زيّنوه بالأحجار المنسوبة إلى الشمس مثل الياقوت و الألماس، و اتّخذوا صنم القمر من الفضّة و على هذا القياس، ثمّ أقبلوا على عبادة هذه الأصنام، و غرضهم من عبادة هذه الأصنام هو عبادة تلك الكواكب و التقرّب إليها، و المقصود الأصليّ من عبادة هذه الأصنام كان عبادة الكواكب، و سبب عبادة الأصنام كان هذا البيان الّذي ذكرناه.

الوجه الثاني في سبب عبادة الأصنام ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمّد المنجّم البلخيّ أنّ كثيرا من أهل الصين و الهند كانوا يثبتون الإله و الملائكة إلّا أنّهم يعتقدون أنّه تعالى جسم و صورة كأحسن ما يكون من الصور، و للملائكة أيضا صور حسنة إلّا أنّهم كلّهم محتجبون عنّا بالسماوات فلا جرم اتّخذوا صورا و تماثيل أنيقة حسنة الرؤيا و الهيكل، فيتّخذون صورة في غاية الحسن و يقولون: إنّها صورة الإله و صورة اخرى دون الصورة الاولى و يجعلونها على صورة الملائكة، ثمّ يواظبون على عبادتها، قاصدين بتلك العبادة طلب الزلفى من اللّه و من الملائكة.

الوجه الثالث أنّ القوم يعتقدون أنّ اللّه فوّض تدبير كلّ واحد من الأقاليم إلى ملك بعينه و فوّض تدبير كلّ قسم من أقسام العالم إلى روح سماويّ بعينه مثل أنّ مدبّر البحار ملك و مدبّر الجبال ملك آخر فلمّا اعتقدوا ذلك اتّخذوا لكلّ واحد من أولئك الملائكة صنما مخصوصا و هيكلا مخصوصا و يطلبون من كلّ صنم ما يليق بذلك الروح الفلكيّ من الآثار و التدبيرات و ذكروا أيضا وجوها آخر لا حاجة إلى الإطالة انتهى.

و الأنبياء بيّنوا في إقامة الدلائل على أنّ هذه الكواكب لا تأثير لها في أحوال

ص: 199

هذا العالم كما قال اللّه: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ» (1) بعد أن بيّن في الكواكب أنّها مسخّرة و بتقدير أنّها يصدر عنها تأثيرات في هذا العالم إلّا أنّ دلائل الحدوث حاصلة فيها فوجب كونها مخلوقة و الاشتغال بعبادة الأصل أولى بعبادة الفرع، سيّما إذا ورد المنع كما أفتى إبراهيم لمّا قال لأبيه: «أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» بأنّ عبادة الأصنام جهل و ضلالة.

قوله: [وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ الكاف للتشبيه و ذلك إشارة إلى غائب جرى ذكره و المذكور هاهنا هو أنّه استقبح عبادة الأصنام و هو قوله: «إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» و المعنى: و مثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام نريه [مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و مثل ذلك التبصير نبصّره مالكيّته تعالى لهما. و «الملكوت» مصدر على وزن صيغة المبالغة كالرهبوت و الجبروت. و معنى الملكوت السلطنة القاهرة أو آثارها مثل الشمس و القمر و ما في الأرض من البحار و المياه و الرياح ليستدلّ بها على معرفة اللّه فاجري الملكوت على المملوك الّذي هو فيها مجازا قال أبو جعفر: كشف اللّه له عن الأرضين حتّى رآهنّ و ما تحتهنّ، و عن السماوات حتّى رآهنّ و ما فيهنّ من الملائكة و حملة العرش.

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لمّا رئي إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات، ثمّ رأى آخر فدعا عليه فمات، ثمّ رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا، فأوحى اللّه إليه يا إبراهيم: إنّ دعوتك مستجابة فلا تدع على عبادي فإنّي لو شئت أن أميتهم بدعائك ما خلقتهم، إنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا فأثيبه، و صنف يعبد غيري لا يفوتني، و صنف يعبد غيري فاخرج من صلبه من يعبدني. (2) و اعلم أنّ دلالة ملك اللّه و ملكوته على نعوت جلاله تعالى و سمات عظمته غير متناهية، و حصول المعلومات الّتي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال،

ص: 200


1- الأعراف: 52.
2- رواه على بن ابراهيم في تفسيره ص 194 و أورد فيه ايضا قصة نشوئه في الغار و رواه البحراني في البرهان عن تفسير الامام و غيره ج 1 532- 533.

فإذن لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلّا بأن يحصل بعضها عقيب بعض لا إلى نهاية و لا إلى آخر؛ فلهذا السبب لم يقل: و كذلك أريناه ملكوت السماوات و الأرض كما قال المحقّقون: السفر إلى اللّه له نهاية و أمّا السفر في اللّه لا نهاية له.

[وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي من المتّقين بأنّه سبحانه هو المالك و الخالق لها.

«و اللام» متعلّقة بمحذوف مؤخّر مقرّر لما قبلها، تقديره: ليكون من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين فعلنا ما فعلنا من التبصّر البديع.

[فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أي ستره بظلامه [رَأى كَوْكَباً] جواب «لمّا» بأنّ رؤيته إنّما تحقّق بزوال نور الشمس، عن الحسن. قيل: كان الكوكب هو الزهرة، و قيل:

هو المشتري [قالَ كأنّه قيل: ماذا صنع عليه السلام حين رأى الكوكب؟ فقيل: قال على سبيل الموافقة مع الخصم لإبطال حجّة الخصم و إثبات حجّته: [هذا رَبِّي .

فإن قيل: إنّه عليه السلام بعد أن رأى الشمس بازغة قال. «هذا رَبِّي» و أتى بلفظ التذكير، فالمراد أنّ هذا النور الطالع، أو أنّ تأنيث الشمس على لغة العرب و أمّا في كلام غير العرب فيجوز أن لا يكون مؤنّثة و إبراهيم لم يكن عربيّا فحكى اللّه كلامه على ما كان في لغته.

فإن قيل: لم انّثت الشمس و ذكّر القمر؟ قيل: إنّ تأنيثها تفخيم لها لكثرة ضيائها، على حدّ قولهم «نسّابة و علّامة» و ليس القمر كذلك لأنّه دونها في الضياء.

[فَلَمَّا أَفَلَ أي غرب [قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ و اختلف في تفسيره قيل: إنّ إبراهيم إنّما قال ذلك عند كمال عقله عند النظر لأنّه أكمل اللّه عقله و حرّك دواعيه على التأمّل.

و أصل القضيّة أنّ ملك ذلك الزمان رأى رؤيا، و عبّرها المعبّرون بأنّه غلام ينازعه في الملك؛ فأمر ذلك الملك بذبح كلّ غلام يولد فحملت امّ إبراهيم اسمها أو في بنت نمر، و ما أظهرت حبلها للناس فلمّا جاءها الطلق ذهبت إلى كهف من جبل، و وضعت إبراهيم و سدّت الباب بحجر جاء جبرئيل و وضع إصبعه في فيه فمصّه فخرج منه رزقه و كان يتعهّده جبرئيل عليه السلام، و كانت امّه تأتيه أحيانا و ترضعه و تميّزه و بقي على هذه

ص: 201

الصفة حتّى كبر و عقل و عرف أنّ له ربّا، و كانت امّ إبراهيم بعد ما وضعته أخبرت زوجها أنّي وضعت ما في بطني فمات و دفنته في الغار فصدّقها تارخ و بقي إبراهيم في الغار سبعة سنين أو ثلاثة عشر سنة أو سبعة عشر.

فلمّا شبّ إبراهيم أخبرت أو في زوجها أنّ ابنك قد كبر و أنّي كتمت أمره خوفا من نمرود فأرت إبراهيم لأبيها فأسرّ تارخ بذلك غاية، فقال تارخ لأوفى: لا بدّ أن نخرجه من الغار إلى البلدة فأخرجوه من الغار وقت المساء فرأى إبراهيم لمّا اخرج من الغار غنما و خيلا تحت هضبة الغار، فسأل امّه إنّ لهذه الخيل و الأغنام ربّا يرزقها و يخلقها و لا بدّ لي من ربّ فمن ربّي؟ فقالت أنا. فقال: و من ربّك؟ قالت:

أبوك. فقال: من ربّ أبي؟ فقالت: ملك البلد فعرف إبراهيم جهلها.

فنظر من باب الغار ليرى شيئا يستدلّ به على وجود الربّ، فرأى النجم الّذي هو أضوأ النجوم إمّا الزهرة أو المشتري- حسب ما ذكرنا و كان ذلك وقت اضمحلال نور الشمس قريبا من الغروب فقال: «هذا رَبِّي».

و قيل: كان هذا الأمر بعد بلوغ إبراهيم، و جريان قلم التكليف عليه. و منهم من قال: قبل البلوغ و اتّفق أكثر المحقّقين على فساد قول الأوّل بوجوه: الأوّل أنّ القول بربوبيّة النجم كفر بالإجماع، و الكفر غير جائز بالإجماع على الأنبياء. الثاني أنّه عليه السلام دعا لآزر إلى التوحيد و ترك عبادة الأصنام حيث قال: «يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً» (1) و من دعا غيره إلى اللّه و لا شكّ أنّه إنّما اشتغل بدعوة أبيه يعني عمّه بعد فراغه من مهمّ نفسه ثبت أنّ هذه الوقعة إنّما وقعت بعد أن عرف اللّه.

ثمّ إنّ دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من خمسة عشر وجها كما شرحوها، كيف يليق بأعقل العقلاء أن يقول بربوبيّة الكواكب و من كان منصبه في الدين كذلك بعد أن أراه اللّه ملكوت السماوات و الأرض حتّى رأى من فوق العرش و الكرسيّ و ما تحتها إلى ما تحت الثرى، و قد شهد اللّه له حيث قال: «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (2)

ص: 202


1- مريم: 43.
2- الصافات: 82.

و أقلّ سلامة القلب سلامته عن الكفر و قال: «وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ» (1) أي آتيناه رشده من قبل من أوّل زمان الكفرة و كنّا به عالمين أي بطهارته و كما له.

و قوله: «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» أي و ليكون بسبب تلك الإراءة من الموقنين.

ثمّ قال بعده: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» و الفاء تقضي الترتيب، فثبت أنّ هذه الواقعة إنّما حصلت بعد أن صار إبراهيم من الموقنين العارفين بربّه، فعلم أنّ هذه المباحثة إنّما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان، لا لأجل أنّ إبراهيم كان يطلب الدين و المعرفة لنفسه.

قال الرازيّ: إنّ الّذين يقولون: إنّ إبراهيم إنّما اشتغل بالنظر إلى الكواكب و الشمس و القمر حال ما كان في الغار غلط لأنّه لو كان الأمر كذلك فكيف يقول:

«يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» لأنّه ما كان معه في الغار لا قوم و لا صنم و أنّ اللّه لمّا ذكر هذه القصّة قال: «وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ» و لم يقل: على نفسه، و قال سبحانه: «وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ» و كيف يحاجّونه و هم بعد و ما رأوه و هو ما رآهم فثبت أنّه عليه السلام إنّما اشتغل بالنظر إلى الكواكب و القمر و الشمس بعد أن خالط قومه و رآهم يعبدون الأصنام و دعوه إلى عبادة الأصنام و هو ينكرهم بقوله: «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» ردّا عليهم، و لا يجوز أن يكون النظر إلى الكواكب لأجل معرفة نفسه؛ لأنّ تلك اللّيلة كانت مسبوقة بالنهار و لا شكّ أنّ الشمس كانت طالعة في اليوم المتقدّم ثمّ غربت فكان ينبغي أن يستدلّ بغروبها السابق على أنّها لا تصلح للإلهيّة، و إذا بطل بهذا الدليل صلاحيّة الشمس للإلهيّة بطل ذلك أيضا في القمر و الكواكب بطريق أولى فتبيّن أنّ هذا الأمر و الاحتجاج لإبطال الخصم و إلزامه الحجّة، و لمّا كانت المكالمة و المناظرة مع القوم حال طلوع النجم و امتدّت المناظرة إلى أن طلع القمر و طلعت الشمس بعده صحّ نظم الكلام فثبت بهذا البيان و الدلائل أنّه لا يجوز

ص: 203


1- الأنبياء: 52.

أن يقال: إنّ إبراهيم قال على سبيل الجزم: «هذا رَبِّي» بل قال لإبطال كلام الخصم، و لمّا أبطل حجّتهم بالأفول و الحدوث و التغيّر و استحال إلهيّتها قال في آخر كلامه:

[سورة الأنعام (6): الآيات 78 الى 79]

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

أي وجّهت نفسي و توجّهت مخلصا مائلا عن الشرك إلى الإخلاص لمن خلق السماوات و الأرض و الكواكب.

[سورة الأنعام (6): الآيات 80 الى 81]

وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)

قوله:

ثمّ ذكر سبحانه محاجّة إبراهيم مع قومه أي خاصموه و جادلوه قومه و خوّفوه من ترك عبادة آلهتهم؛ فقال: إبراهيم، أ تحاجّونّي في اللّه و قد هداني و وفّقني لمعرفته [وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ من الأصنام لأنّ الخوف إنّما يحصل ممّن يقدر على النفع و الضرّ و هي جمادات لا تقدر.

فإن قيل: إنّه للطلسمات باعتبار ارتباطها بالكواكب قد شوهد منها آثار مخصوصة فلم لا يجوز أن يحصل الخوف منها من هذه الجهة؟ فالجواب أنّ قوى الكواكب غير مستقلّة و إنّما هي من خلق اللّه؛ فالخوف يكون من اللّه لا منها [إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي أي إلّا أن أذنب فيشاء إنزال العقوبة بي، أو إلّا أن يشاء أن يبتليني بمحن الدنيا فيقطع عنّي عادات نعمته، أو أن يحييها و يمكّنها من خيري و نفعي، و اللّفظ يحتمل كلّ هذه الوجوه، و الاستثناء متّصل و المستثنى منه محذوف، و التقدير: لا أخاف معبوداتكم في وقت من الأوقات إلّا وقت مشيئته شيئا من أصابه مكروه بي من غير دخل لآلهتكم فيه أصلا.

[وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً] أي أحاط بكلّ شي ء علما، كأنّه تعليل للاستثناء

ص: 204

فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه بسبب من الأسباب لا بالطعن فيها [أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ و لا تتأمّلون في أنّ آلهتكم جمادات غير قادرة على إضراري.

[وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ باللّه من الأصنام و المراد إنكار الوقوع و نفي الضرر منها بالكلّية [وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ أي كيف أخاف أنا ما ليس في حيّز الخوف أصلا، و أنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات و هو إشراككم باللّه، و اجترأتم عليه و جعلتم له شركاء [ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً] و حجّة على صحّته، و المراد امتناع وجود الحجّة في مثل هذه القصّة و هذا المعنى نظير قوله «وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» (1).

[فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أ نحن أم أنتم؟ و حاصل المعنى: ما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن و لا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف [إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ من أحقّ به فأخبروني.

[سورة الأنعام (6): آية 82]

الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (82)

في الآية مزيد بيان في من هو أحقّ بالأمن فقال: هم الّذين آمنوا و عرفوا اللّه و صدّقوا به و بما أوجبه عليهم و لم يخلطوا ذلك بظلم، و المراد «بظلم» في هذه الآية هو الشرك، عن أكثر المفسّرين و هو المرويّ عن سلمان الفارسيّ و حذيفة بن اليمان. و روى عبد اللّه بن مسعود قال: لمّا نزلت هذه الآية شقّ على النّاس و قالوا: يا رسول اللّه و أيّنا لم يظلم نفسه فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه ليس الّذي تعنون، ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح: «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (2) و قال الجبّائيّ و البلخيّ:

تدخل في الظلم كلّ كبيرة تحبط ثواب الطاعة قال البلخيّ: و لو اختصّ الشرك على ما قالوه لوجب أن يكون مرتكب الكبيرة إذا كان مؤمنا كان آمنا [أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ فقط من العذاب [وَ هُمْ مُهْتَدُونَ إلى الحقّ و من عداهم في ضلال و قيل: مهتدون إلى

ص: 205


1- المؤمنون: 117.
2- لقمان: 13.

الجنّة، و اختلف في هذه الآية فقيل: إنّها من تمام قول إبراهيم، و روى ذلك عن عليّ عليه السلام، و قيل: إنّ هذا القول من اللّه على جهة فصل القضاء بذلك بين إبراهيم و قومه، عن محمّد بن إسحاق و أبي زيد و الجبّائيّ.

[سورة الأنعام (6): الآيات 83 الى 87]

وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)

قوله تعالى:

[وَ تِلْكَ إشارة إلى ما احتجّ به إبراهيم على قومه من قوله: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى قوله- وَ هُمْ مُهْتَدُونَ» [حُجَّتُنا] الحجّة عبارة عن الكلام المؤلّف للاستدلال على المطلوب [آتَيْناها إِبْراهِيمَ أي أرشدناه إلى تلك الحجج و علّمناه إيّاها و أخطرناها بباله حتّى تمكّن من إيرادها على قومه عند المحاجّة [نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ] من المؤمنين و نفضّل بعضهم على بعض بحسب أحوالهم في الإيمان و اليقين [إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ يجعل التفاوت بينهم على ما توجب حكمته، و قيل: معناه نرفع درجات من نشاء على الخلق بالاصطفاء للرّسالة [وَ وَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم [إِسْحاقَ و هو ابنه من سارة [وَ يَعْقُوبَ من إسحاق [كُلًّا هَدَيْنا] أي كلّ واحد منهما أرشدنا إلى الفضائل الدينيّة.

[وَ نُوحاً] منصوب بمقدّر يفسّره [هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إبراهيم. و عدّ هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنّه أبوه و شرف الوالد يتعدّى إلى الولد [وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أي و من ذرّيّة نوح لأنّه أقرب المذكورين إليه، و لأنّ فيمن عدّدهم من ليس من ذرّيّة إبراهيم و هو لوط و إلياس و يونس و قيل: الضمير راجع إلى إبراهيم لكن قيل:

إنّ يونس عن ذرّيّة إبراهيم لأنّه كان من الأسباط في زمن شعيب [داوُدَ] ابن إيشا

ص: 206

[وَ سُلَيْمانَ ابنه و سلسلتهما تنتهي إلى يهود ابن يعقوب [وَ أَيُّوبَ ابن أموص بن رازح بن روم بن عصيا بن إسحاق بن إبراهيم [وَ يُوسُفَ بن يعقوب [وَ مُوسى ابن عمران بن يصهر بن ماهت بن لاوي بن يعقوب [وَ هارُونَ هو أخو موسى أكبر منه بسنة، و ليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم.

[وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما جزينا المذكورين برفع الدرجات نجزي من أحسن على قدر استحقاقهم أو كما تفضّلنا على هؤلاء الأنبياء بالنبوّة؛ فكذلك نتفضّل على المحسنين بنيل الثواب.

[وَ زَكَرِيَّا] ابن أدن بن بركيا [وَ يَحْيى و هو ابنه [وَ عِيسى ابن مريم بنت عمران من بني ماثان الّذين هم ملوك بني إسرائيل. قال الحقّيّ في تفسيره: و في ذكر عيسى دليل على أنّ الأولاد و الذرّيّة تتناول أولاد البنت، فيكون الحسن و الحسين عليهما السلام ذرّيّة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ إِلْياسَ ابن أخ هارون أخي موسى [كُلٌ منهم [مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح و هو الإيمان بما ينبغي و التحرّز عمّا لا ينبغي [وَ إِسْماعِيلَ عطف على «نوحا» أي و هدينا إسماعيل بن إبراهيم كما هدينا نوحا، و لعلّ الحكمة في إفراد إسماعيل عن باقي ذرّيّة إبراهيم أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان من ذرّيّة إسماعيل و الكائنات كانت تبعا لوجوده صلى اللّه عليه و آله و سلّم فما جعل اللّه إسماعيل تبعا لوجود إبراهيم فلذا أفرده بالذكر عنهم و أخّره في الذكر [وَ الْيَسَعَ بن أخطوب بن العجوز، قيل: اللّام زائدة لأنّه علم أعجميّ [وَ يُونُسَ بن متى و لوط بن حاذان بن أخي إبراهيم [وَ كلًّا] منهم [فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي عصرهم، و المقصود من هذه الآية تعديد أنواع النّعم على إبراهيم جزاء على قيامه عن دلائل التوحيد؛ فرزقه أولادا أنبياء مثل إسحاق و يعقوب و جعل أنبياء بني إسرائيل من نسلها و أخرجه من أصلاب طاهرين مثل نوح و إدريس و شيث. و كرامته عليه السلام بحسب الآباء و الأبناء.

قال الرازيّ: إنّ حرف الواو و لا يوجب الترتيب بدليل هذه الآية فإنّ حرف

ص: 207

الواو حاصل هاهنا مع أنّه لا يفيد الترتيب لا بحسب الشرف و لا بحسب الزمان، و هؤلاء المذكورون نالوا من الأمور العظيمة ما لم ينل أحد فإنّه تعالى أعطى من الملك و القدرة و السلطان و النبوّة بعضهم مثل داود و سليمان نصيبا عظيما و كذلك المحنة الشديدة و البلاء العظيم خصّ اللّه بها أيّوب و منهم من جمع له الخصلتين البلاء الشديد و الملك مثل يوسف، و منهم أعطاه المعجزات العظيمة و الصولة الشديدة مثل موسى و هارون، و منهم أعطاه الزهد الشديد بالإعراض عن الدّنيا مثل زكريّا و يحيى و عيسى و إلياس بتخصيصهم بالذكر لكمال هذه المراتب فيهم.

قوله تعالى: [وَ مِنْ آبائِهِمْ من تبعيضيّة أي و فضّلنا بعض آباء المذكورين كآدم و شيث [وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ أي و بعض ذرّياتهم من بعدهم كأولاد يعقوب [وَ إِخْوانِهِمْ و المراد منهم كلّ من آمن معهم فإنّهم كلّهم دخلوا في هداية الإسلام [وَ اجْتَبَيْناهُمْ عطف على فضّلنا أي اصطفيناهم [وَ هَدَيْناهُمْ و أرشدناهم [إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو دين اللّه [ذلِكَ الهدى [هُدَى اللَّهِ الإضافة للتشريف [يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إذا كانوا مستعدّين لقبول الهداية و الإرشاد [وَ لَوْ أَشْرَكُوا] أي لو أشرك هؤلاء الأنبياء مع علوّ شأنهم «لَحَبِطَ عَنْهُمْ» و ذهب [ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الأعمال المرضيّة فكيف من عداهم، و هم هم و أعمالهم أعمالهم، و ليس في ذلك دلالة على أنّ الثواب الّذي استحقّوه على طاعتهم المتقدّمة يتحبّط، إذ ليس في ظاهر الآية ما يقتضي ذلك على أنّا قد علمنا بالدليل أنّ المشرك لا يكون له ثواب أصلا.

[سورة الأنعام (6): آية 89]

أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)

[أُولئِكَ المذكورون من الأنبياء الثمانية عشر [الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي جنس الكتاب المتحقّق في ضمن أيّ فرد من الكتب السماويّة، و المراد بإيتائه التفهيم التامّ بما فيه من الحقائق و التمكين من الإحاطة بالدقائق منها أعمّ من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء أو بالإيراث بقاء؛ فإنّ المذكورين لم ينزل على واحد منهم كتاب معيّن [وَ الْحُكْمَ أي الحكمة أو فصل الخطاب على ما يقتضيه الصواب [وَ النُّبُوَّةَ] أي الرسالة، فأعطاهم

ص: 208

اللّه من العلوم و المعارف و الوحي ما لأجله بها يقدرون على التصرّف في بواطن الأمور و ظواهرها، ثمّ قال [فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ] يعني كفّار قريش أو الكفّار الّذين جحدوا نبوّة النبيّ في ذلك الوقت [فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً] أي غير إعادة أمر النبوّة و تعظيمها و الأخذ بالهدى [قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ في وقت من الأوقات بل مستمرّون على الإيمان بها.

و اختلف في المقصودين بذلك فقيل: عنى به الأنبياء الّذين جرى ذكرهم هم آمنوا بما أتى به محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم قبل مبعثه، عن الطبريّ و الجبّائيّ و الحسن و الزجّاج، و قيل:

عنى به الملائكة عن الفرّاء و الضحّاك، و قيل: هم الأنصار و المهاجرون، و قيل: هم الفرس، و قيل من لم يكفر فهو من القوم. قال الرازيّ: إنّ المراد الملائكة بعيد لأنّ اسم «القوم» قلّما يقع على غير بني آدم.

[أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هداهم اللّه إلى الصبروا لحقّ [فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فأمر نبيّه بطريقتهم في توحيده و اصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ؛ فإنّها بعد النسخ لا تبقى هدى بل متروكة.

و احتجّ العلماء على أنّه أفضل جميع الأنبياء لأنّ هؤلاء المذكورين كلّ منهم قد غلب عليه خصلة معيّنة كما شرحنا قبل هذا فجمع اللّه كلّ هذه الخصال في محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه إذا كان مأمورا بالاقتداء لم يقصّر في التحصيل فكان مستجمعا لها أجمع [قُلْ لكفّار قريش [لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على القرآن [أَجْراً] و جعلا من جهتكم كما لم يسأله من قبلي من الأنبياء، و هذا من جملة ما امر به من الاقتداء بهم فيه [إِنْ هُوَ] أي القرآن [إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ أي إلّا عظة و تذكيرا لهم من جهة تعالى فلا يختصّ بقوم دون قوم آخرين، و في الآية دلالة على أن نبيّنا صلى اللّه عليه و آله و سلّم مبعوث إلى كافّة العالمين و أنّ النبوّة مختومة لأنّه تعالى قال: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ».

[سورة الأنعام (6): آية 91]

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

قوله تعالى:

ص: 209

لمّا تقدّم ذكر الأنبياء و النبوّة عقّبه بمن أنكر النبوّة فقال: [وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ أي ما عرفوا اللّه حقّ معرفته و ما عظّموه حقّ عظمته [إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ] أي ما أرسل اللّه رسولا و لم ينزّل على بشر شيئا و ذلك أنّه جاء رجل من اليهود يقال له:

مالك بن الصيف فخاصم النبيّ فقال له النبيّ: أنشدك بالّذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أنّ اللّه يبغض الحبر السمين؟ و كان سمينا فغضب فقال: و اللّه ما أنزل اللّه على بشر من شي ء، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: و يحك و لا موسى؟ فنزلت الآية عن سعيد بن جبير و قيل:

إنّ الرجل كان فنحاص بن عازورا و هو قائل هذه المقالة عن السدّيّ.

و قيل: إنّ اليهود قالت: يا محمّد أنزل اللّه عليك كتابا؟ قال: نعم، قالوا: و اللّه ما أنزل اللّه من السماء كتابا، فنزلت الآية و في رواية اخرى أنّها في الكفّار أنكروا قدرة اللّه عليهم و من أقرّ أنّ اللّه على كلّ شي ء قدير فقد قدر اللّه حقّ قدره. و قيل:

نزلت في مشركي قريش.

و اعلم أنّ منكر البعثة و الرّسالة ما عرف اللّه حقّ قدره، و ذلك لأنّه إمّا أن يقول: ما كلّف اللّه أحدا من الخلق تكليفا أصلا أو يقول: إنّه كلّفهم التكاليف، و الأوّل باطل لأنّ ذلك يقتضي أنّه تعالى أباح لهم جميع المنكرات و القبائح نحو وصفه تعالى بما لا يليق به و شتمه و الاستخفاف بالأنبياء و الرسل و أهل الدّين، و ظلم بعضهم بعضا، و معلوم أنّ ذلك كلّه باطل و أمّا أن يسلّم أنّه تعالى كلّف الخلق بالأوامر و النواهي فههنا لا بدّ من مبلّغ و مبيّن و شارع، و ما ذاك إلّا الرسول.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنّ العقل كاف في إيجاب الواجبات، و اجتناب المقبّحات؟ قلنا: هب إنّ الأمر كما قلتم إلّا أنّه لا يمتنع تأكيد التعريف العقليّ بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء فثبت أنّ كلّ من منع البعثة و الرسالة فقد طعن في حكمة اللّه، و ما عرف اللّه، و كان جاهلا بصفة الإلهيّه فما قدر اللّه حق قدره

ص: 210

و بعضهم أنكروا في الإمكان خرق العادات و إيجاد شي ء على خلاف ما جرت به العادة و هؤلاء أيضا ما قدروا اللّه حقّ قدره.

ثمّ إنّه لمّا ثبت حدوث العالم بحدوثه يدلّ على أنّ الإله قديم قادر و أنّ الخلق كلّهم عبيده و هو مالك لهم على الإطلاق، و ملك لهم على الإطلاق، و الملك المطاع يجب أن يكون له أمر و نهي و تكليف على عباده، و أن يكون له وعد على الطاعة و وعيد على المعصية، و ذلك لا يتمّ و لا يكمل إلّا بإرسال الرّسل و إنزال الكتب فكلّ من أنكر ذلك فقد طعن في كونه ملكا مطاعا فهو ما قدر اللّه حقّ قدره.

فلو قيل: إنّ هؤلاء الّذين حكى اللّه عنهم أنّهم قالوا: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ» إمّا أنّهم كفّار قريش أو يقال: إنّهم أهل الكتاب من اليهود و النصارى فإن كان الأوّل فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى و ذلك لأنّ المشركين و كفّار قريش و البراهمة كما ينكرون رسالة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم فكذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء، فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم؟ و إن كان الثاني و هو أنّ قائل هذا القول قوم من اليهود و النصارى فهذا أيضا مشكل لأنّهم لا يقولون هذا القول و كيف يقولونه مع أنّ مذهبهم أنّ التوراة كتاب أنزله اللّه على موسى و الإنجيل كتاب أنزله اللّه على عيسى عليه السلام؟ و أيضا فهذه السورة مكّيّة، و المناظرات الّتي وقعت بين رسول اللّه و بين اليهود و النصارى كلّها مدنيّة فكيف هذا الإشكال؟

أمّا الجواب عن الأوّل أنّه لمّا قال رسول اللّه لمالك بن الصيف- و كان من أحبار اليهود-: هل وجدت في التوراة مذكورا بأنّ اللّه يبغض الحبر السّمين؟ و أنت الحبر السّمين و قد سمنت من الأشياء الّتي قطعك اليهود و ضحك القوم، فغضب من هذا الكلام مالك و التفت إلى عمر، فقال: ما أنزل اللّه على بشر من شي ء فقالوا له قوم: ويلك ما هذا الّذي بلغنا عنك؟ فقال: إنّه أغضبني.

ثمّ إنّ اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه عن رئاستهم و جعلوا مكانه كعب بن الأشرف.

ص: 211

قال الرازيّ: هذا هو الرواية المشهورة و لعلّ الغضب المدهش للعقل حمله على طغيان اللّسان، مع أنّه كان مفتخرا باليهوديّة.

و أمّا الجواب عن أنّ هذه السورة مكّيّة و نزلت دفعة واحدة؛ فلا يمنع أن يقال:

بأنّ سبب نزول الآية مناظرة اليهوديّ، و قال الرازيّ: القائلون بهذا القول قالوا:

السورة كلّها مكّيّة و نزلت دفعة واحدة إلّا هذه الآية، فإنّها نزلت في المدينة.

[قُلْ لهم على سبيل التبكيت و الإلزام: [مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى يعنى التوراة، حال كون ذلك الكتاب [نُوراً] بيّنا بنفسه و مبيّنا لغيره كما يستضاء بالضياء [وَ هُدىً بيانا [لِلنَّاسِ و [تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي و حال كونه تضعونه في قراطيس مقطّعة و ورقات متفرّقة، بحذف الجارّ، على تشبيه القراطيس بالظرف، جمع قرطاس بمعنى الصحيفة [تُبْدُونَها] صفة قراطيس، أي تظهرون منها ما تحبّون إبداءه [وَ تُخْفُونَ كَثِيراً] ممّا فيها ممّا كتموه من أحكام التوراة.

[وَ عُلِّمْتُمْ أيّها اليهود على لسان محمّد بالقرآن [ما لَمْ تَعْلَمُوا] و قيل: إنّه خطاب للمسلمين يذكّرهم ما أنعم به عليهم. قال أبو عليّ الفارسيّ: «تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ» أي تجعلونه ذا قراطيس و تودعونه إيّاها [ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أي دعهم و ما يختارونه من العناد و ما خاضوا فيه من الباطل و اللّعب، و ليس هذا البيان لترك الإنذار و الدعاء بل ضرب من التوعيد و التهديد، كأنّه سبحانه قال: دعهم فسيعلمون عاقبة أمرهم.

[سورة الأنعام (6): آية 92]

وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)

قوله تعالى:

لمّا احتجّ سبحانه بإنزال التوراة على موسى بيّن أنّ سبيل القرآن سبيلها، فقال: [وَ هذا كِتابٌ أي القرآن [أَنْزَلْناهُ من السماء إلى الأرض لأنّ جبرئيل أتى به [مُبارَكٌ ممدوح مستسعد به فكلّ من تمسّك به نال الفوز، و ثابت خيره لم يزل لأنّ قراءته خير و العمل به خير و فيه علم الأوّلين و الآخرين و فيه بشارة المغفرة و الحلال و الحرام، و زيادة البيان على ما في الكتب المتقدّمة و باق حكمه إلى آخر الدهر

ص: 212

و لا ينسخ إلى آخر التكليف، و قد جرت سنّة اللّه بأنّ الباحث عن علم القرآن و المتمسّك به يحصل له خير الدنيا و سعادة الآخرة؛ قال أمير المؤمنين: كونوا من خاصّة اللّه و خاصّة قرّاء كتابه العاملون به. قال رسول اللّه: إنّ هذه القلوب لتصدي كما يصدى الحديد و إنّ جلاءها قراءة القرآن. أي مع التدبّر.

و قال ابن عبّاس: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، و بنهاره إذا النّاس غافلون و ببكائه إذا النّاس ضاحكون، و بورعه إذا النّاس يطمعون و بصمته إذا النّاس يخوضون. قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: القرآن على خمسة: حلال و حرام و محكم و متشابه و أمثال؛ فاعملوا بالحلال و اجتنبوا الحرام، و اتّبعوا المحكم و آمنوا بالمتشابه و اعتبروا بالقصص، و ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه، قال الصادق عليه السلام: ما هو و اللّه حفظ آياته و تلاوة سورة؛ حفظوا حروفه و أضاعوا حدوده، و إنّما هو تدبّر آياته، و العمل بأحكامه؛ قال اللّه تعالى «وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ» و اعلموا أنّ سبيل اللّه سبيل واحد مصير العامل بها الجنّة و المخالف لها النّار، و الإيمان ليس بالتمنّي و لكن ما ثبت في القلب و عملت به الجوارح و صدّقته الأعمال الصالحة، و قد ظهر الجفاء و قلّ الوفاء و تركت السنّة و ظهرت البدعة (اه).

[مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ و تصديقه للكتب على وجهين: أحدهما أنّه يشهد بأنّها حقّ و الثاني أنّه ورد بالصفة الّتي نطق بها الكتب المتقدّمة [وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها] و المضاف محذوف أي لتنذر أهل امّ القرى. و من حولها: أهل الأرض جميعا عن ابن عبّاس. و انّما سمّيت امّ القرى لأنّ الأرض دحيت من تحتها؛ فكأنّ الأرض نشأت منها. أو لأنّ أوّل بيت وضع في الدنيا وضع بمكّة، فكأنّ القرى تنشّأت منها عن السدّيّ؛ أو لأنّ على جميع الناس أن يستقبلوها و يعظّموها لأنّها قبلتهم كما يجب تعظيم الأمّ، عن الزجّاج و الجبّائيّ.

و زعمت طائفة من اليهود أنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان رسولا إلى العرب فقط، و احتجّوا على صحّة قولهم بهذه الآية و قال: إنّه تعالى بيّن أنّه انزل عليه هذا القرآن ليبلّغه إلى أهل مكّة و إلى القرى المحيطة بها و المراد منها جزيرة العرب و لو كان مبعوثا إلى الكلّ من العالمين لكان التقييد بقوله «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها» باطلا؛ و الجواب

ص: 213

أنّ تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدلّ على انتفاء الحكم فيما سواها إلّا بدلالة المفهوم و دلالة المفهوم ضعيفة لا سيّما و قد ثبت بالتواتر الظاهر المقطوع به من دين محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يدّعي كونه رسولا إلى كلّ العالمين. و قوله «وَ مَنْ حَوْلَها» يتناول أهل الشرق و الغرب و جميع البلاد على الّذي ذكره ابن عبّاس و غيره في معنى امّ القرى.

و لقوله تعالى: «وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا» (1) و كذلك: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً» (2) و لقوله: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» (3) [وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن لأنّهم يخافون العاقبة، و يحتمل أن يكون كناية عن محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم لدلالة الكلام عليه [وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أي على أوقات صلاتهم مراعون فيؤدّوها فيها و يقوموا بإتمام ركعاتها و أركانها.

و في الآية دلالة على أنّ المؤمن لا يجوز أن يكون مؤمنا ببعض ما أوجبه اللّه دون بعض و فيها أيضا دلالة على عظيم منزلة الصلاة لأنّه سبحانه خصّها بالذكر من بين سائر الفرائض و نبّه على أنّ من كان مصدّقا بالقيامة و بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم لا يخلّ بها.

[سورة الأنعام (6): آية 93]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

قوله تعالى:

النزول: قيل: نزلت في مسيلمة حيث ادّعى النبوّة إلى قوله و لم يوح إليه شي ء و قوله: «سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح فإنّه كان يكتب الوحي للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم فكان إذا قال له: اكتب «عَلِيماً حَكِيماً»* كتب «غَفُوراً رَحِيماً»* و إذا قال له: اكتب «غَفُوراً رَحِيماً»* كتب «عَلِيماً حَكِيماً»* و ارتدّ و لحق بمكّة، و قال إنّي سأنزل مثل ما أنزل اللّه عن عكرمة و ابن عبّاس و مجاهد و السدّيّ، و إليه ذهب الفرّاء و الزجّاج و الجبّائيّ، و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام. و قال قوم: نزلت الآية في ابن أبي سرح

ص: 214


1- النساء: 81.
2- سبأ: 27.
3- الفرقان: 1.

خاصّة. و قال قوم: نزلت في مسيلمة خاصّة.

المعنى: لمّا تقدّم ذكر نبوّة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و إنزال القرآن عليه عقّبه بذكر الّذين كذّبوه و ادّعوا أنّهم يأتون بمثل ما اوتي به فقال: [وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] استفهام في معنى الإنكار أي لا أحد أظلم ممّن كذّب على اللّه فادّعى أنّه نبيّ و ليس بنبيّ [أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ] أي يدّعي الوحي و لا يأتيه و لا يجوز في حكمة اللّه أن يبعث كذّابا، و هذا و إن كان داخلا في الافتراء و إنّما أفرد بالذكر تعظيما.

[وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ هذا جواب لقولهم «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا» (1) فادّعوا و لم يتمكّنوا و بذلوا الأموال و استعملوا سائر الحيل و لم يقدروا، قيل: إنّ عبد اللّه بن أبي سرح كان يكتب لرسول اللّه فلمّا نزلت قوله: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» فلمّا بلغ «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» (2) قال عبد اللّه- تعجّبا من تفضيل خلق الإنسان-: تبارك اللّه أحسن الخالقين فقال: اكتبها؛ فكذلك نزلت فشكّ عبد اللّه و قال: إن كان محمّد صادقا في قوله فكذلك نزلت لقد اوحي إليّ كما اوحي إليه فأنا مثله، و لئن كان كاذبا لقد قلت كما قال، فعليّ أن أدّعي نزول الوحي مثله، فارتدّ عن الإسلام و لحق بالمشركين.

قال قتادة: كان مسيلمة الكذّاب يسجّمع و يتكهّن، و قال في معارضة سورة الكوثر: إنّا أعطيناك الجماهر، فصلّ لربّك و هاجر، إنّا كفيناك المكابر و المجاهر انظر أيّها المتأمّل في الألفاظ الّتي ألحقها بالقرآن كيف كان سافل البناء فاسد المعاني مخلول الأسلوب.

و الأسود العنسيّ ادّعى النبوّة في زمانه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و كان يختلق أحكاما فاسدة، خرج بصنعاء، و قتل في مرض موت النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، قتله فيروز الديلميّ فلمّا قتل اللعين بلغ خبر قتله النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: فاز فيروز، و أيضا قتل صاحب اليمامة مسيلمة الكذّاب في

ص: 215


1- الأنفال: 31.
2- المؤمنون: 12- 14.

عهد أبي بكر، قتله الوحشيّ قاتل حمزة عليه السلام، فلمّا قتله قال: قتلت خير النّاس في الجاهليّة و شرّ الناس في إسلامي.

و لمّا ارتدّ عبد اللّه بن أبي سرح و لحق مكّة هدر رسول اللّه دمه، فلمّا كان يوم الفتح جاء به عثمان و قد أخذ بيده و رسول اللّه في المسجد فقال عثمان: يا رسول اللّه اعف عنه، فسكت رسول اللّه، ثمّ أعاد فسكت صلى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ أعاد فقال: هو لك فلمّا مرّ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: لأصحابه ألم أقل: من رآه فليقتله؟ فقال عباد بشر: كانت عيني إليك يا رسول اللّه أن تشير إليّ فأقتله فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الأنبياء لا يقتلون بالإشارة.

قال القاضي عبد الجبّار: جميع من يفتري على اللّه الكذب يدخل في هذه الآية و لا يقتصر الحكم على من يدّعي الرسالة كذبا لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب فكلّ من نسب إلى اللّه تعالى ما هو بري ء منه إمّا في الذّات أو في الصفات و إمّا في الأفعال كان داخلا تحت هذا الوعيد، فالافتراء على اللّه في صفاته كالمجسّمة، و في عدله كالمجبّرة.

[وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ فقوله «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ» يفيد التخويف العظيم على سبيل الإجمال، و قوله «وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ» تفصيل لذلك المجمل و «غمرات» جمع غمرة و غمرة كلّ شي ء معظمه و منه غمرة الماء و غمرة الدّين إذا كثر عليه هذا هو الأصل، ثمّ يقال للشّدائد و المكاره: الغمرات، و جواب «لو» محذوف و تقديره: لرأيت أمرا عظيما.

[وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ قال ابن عبّاس: ملائكة العذاب باسطوا أيديهم يضربونهم و يعذّبونهم [أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أي يضربونهم و يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم و المراد من هذا الكلام العنف و التشديد في إزهاق الرّوح من غير تنفيس و إمهال و أنّهم يفعلون بهم فعل الغريم الملح الملازم يبسط يده إلى من عليه الدين و يعنف عليه في المطالبة و لا يمهله، و يقول له: أخرج إليّ مالي عليك الساعة، و لا أبرح من مكاني حتّى أنزعه من أحداقك فيكون قولهم «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» من هذا القبيل من الكلام، أو المراد أنّ الملائكة حين ينزعون أرواح الكفّار بالشدّة، يقولون: أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد إن كنتم

ص: 216

قادرين على الدفع و إلّا فإنّهم لا يقدرون على إخراج أنفسهم.

[الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ فيقول الملائكة لهم: اليوم تعذّبون عذابا تلقون فيه الهوان، إمّا يوم النّزع أو يوم القيامة [بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِ في الدنيا كنسبة الشريك أو اتّخاذ الولد و ادّعاء النّبوّة و الوحي كذبا [وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أي ناقعون عن قبول أوامره.

قال الواحديّ في تفسيره: المراد من قوله «وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» أي لا تصلّون له قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: من سجد للّه بنيّة صادقة فقد برى ء من الكبر. و في الحديث أنّ المؤمن إذا احتضر آتته الملائكة بحريرة فيها مسك و ضبائر الرّيحان، و تسلّ روحه كما تسلّ الشعرة من العجين، و يقال لها: أيّتها النفس الطيّبة اخرجي راضية مرضيّة إلى روح اللّه و كرامته، فإذا خرجت وضعت على ذلك المسك و الريحان و طويت عليها الحريرة و بعث بها إلى علّيّين، و إنّ الكافر إذا احتضر آتته الملائكة بمسح (1) فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعا شديدا و يقال لها: أيّتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة و مسخوطا عليك إلى هوان اللّه و عذابه فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة و إنّ لها نشيجا أي صوتا و يطوى عليها المسح و يذهب بها إلى سجّين.

[سورة الأنعام (6): آية 94]

وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

قوله تعالى:

يمكن أن يكون العطف على قول الملائكة: «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» فيقولون حكاية عن اللّه، و هم الملائكة الموكّلون بعقاب الكفّار، أو القائل هو اللّه.

و منشؤ الاختلاف أنّ اللّه هل يتكلّم مع الكفّار أولا؟ فقوله «وَ لا يُكَلِّمُهُمُ»* يوجب أن لا يتكلّم معهم، و قوله: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (2) يقتضي أن يكون

ص: 217


1- المسح- بالكسر-: نسيج من شعر يلبس قهرا للجسد.
2- الحجر: 92.

يتكلّم معهم فلهذا السّبب وقع هذا الاختلاف، قال الرازيّ: و القول الأوّل أقوى؛ لأنّ هذه الآية معطوفة على ما قبلها و العطف يوجب التشريك.

[وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى للحساب و الجزاء و هو بمعنى المستقبل أي يجيؤوننا، و إنّما ابرز في صورة الماضي لتحقّقه؛ كقوله «أَتى أَمْرُ اللَّهِ» (1) قيل: الخطاب لكفّار قريش لأنّهم كانوا يفتخرون بأموالهم و أولادهم و يستخفّون بفقراء المؤمنين، و يقولون:

نحن أكثر أموالا و أولادا في الدنيا و ما نحن بمعذّبين في الآخرة، فقال: و لقد جئتمونا منفردين.

[كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ] على الهيئة الّتي ولدتم عليها مشتبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة و في الخبر: «إنّهم يحشرون يوم القيامة عراة حفاة عزلا» أي ليس لهم شي ء ممّا كان في الدّنيا نحو البرص و العرج و أمثاله (2) قالت عائشة: وا سوأتاه! الرجل و المرأة كذلك؟ فقال عليه السلام: لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، لا ينظر الرّجال إلى النساء و لا النساء إلى الرّجال شغل بعضهم عن بعض.

[وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ و تفضّلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة، و و التخويل تمليك الخول أي الخدم و الأتباع أو الإعطاء على غير جزاء [وَراءَ ظُهُورِكُمْ أي ما قدّمتم منه شيئا بخلاف المؤمنين؛ فإنّهم صرفوها في الأعمال الصالحة فبقيت معهم في قبورهم و حضرت معهم يوم القيامة فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى.

[وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أي الأصنام [الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ] أي شركاء للّه في ربوبيّتكم [لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أي وقع الانقطاع بينكم و بينهم [وَ ضَلَّ عَنْكُمْ وضاع و بطل [ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنّهم شفعاؤكم، فلم يقدروا على دفع العذاب عنكم.

قيل: إنّ للإنسان أعداء أربعة: المال، و الأهل، و الأولاد، و الأصدقاء، و هي لا تدخل في القبر فيبقى فريدا منهم و أيضا له أصدقاء أربعة: هي كلمة الشهادة، و الصلاة

ص: 218


1- النحل: 1.
2- هذا بناء على قراءة عزل- بالعين و الزاى- كما أورده في الوافي. و في الأصول من الكافي جاء بالغين و الراء و هو جمع اغرل بمعنى الأغلف و هكذا نقله العلامة المجلسي في البحار.

و الصوم، و ذكر اللّه، و هي تدخل في القبر و تشفع عند اللّه فتصحب الميّت فلا يبقى وحيدا قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ عمل الإنسان يدفن معه في قبره؛ فإن كان العمل كريما أكرم صاحبه و إن كان لئيما أهانه فإن كان العمل صالحا أنس صاحبه و بشّره و وسع عليه في قبره و نوّره و حماه من الشدائد و الأهوال، و إن كان عملا سيّئا فزّع صاحبه و روّعه و أظلم عليه قبره و ضيّقه و خلّى بينه و بين الشدائد و الأهوال.

قال اليافعيّ: و قد سمعت عن بعض الصالحين في بلاد اليمن أنّه لمّا دفن بعض الموتى و انصرف النّاس سمع في القبر صوتا و دقّا عنيفا، ثمّ خرج من القبر كلب أسود فقال له الشيخ الصالح: و يحك أبشر أنت؟ فقال: أنا عمل الميّت، فقال: فهذا الضرب فيك أم فيه؟ قال: بل فيّ، وجدت عنده سورة يس و أخواتها فحالت بيني و بينه فضربت و طردت.

أقول: و لا يبعد وقوع هذه القضيّة لصفاء خاطر الشيخ الصالح؛ فإنّ أمثاله يرون أمورا لم يرها غيرهم، و بالجملة ففي قوله تعالى: «وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ» حثّ من اللّه على اقتناء الطاعات الّتي بها ينال الفوز دون اقتناء المال الّذي لا شكّ في تركه و عدم الانتفاع به بعد الموت.

[سورة الأنعام (6): الآيات 95 الى 96]

إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)

قوله تعالى:

قرّر سبحانه بعض أفاعيله الدالّة على قدرته و علمه، إذا المقصود الأصليّ من جميع المباحث العقليّة و النقليّة هو معرفة اللّه بالوحدانيّة و القدرة، و بيان صفاته تعالى و أفعاله فقال:

[إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى الفلق و الفطر متقاربان في المعنى أو مترادفان، و الحبّ مثل الحنطة و الشعير و أمثالهما، و النوى هو الشي ء الموجود في داخل التمرة:

مثل نوى التمر و الخوخ و غيرهما، و الحبّة أو النواة إذا وقعت في الأرض الرطبة ثمّ مرّ به زمان من المدّة أظهر اللّه تعالى في تلك الحبّة و النواة من أعلاها شقّا و من أسفلها شقّا آخر، فأمّا الشقّ الّذي يظهر من أعلى الحبّة و النواة يخرج منه الشجرة

ص: 219

الصاعدة إلى الهواء، و الشقّ السافل يخرج منه الشجرة الهابطة الراسخة في الأرض المسمّى بعروق الشجرة و تصير تلك الحبّة و النواة سببا لاتّصال الصاعدة و الراسخة.

ثمّ إنّ هاهنا عجائب و دلائل على إثبات الصانع الفرد تعالى شانه: فإحداها أنّ طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضي الهويّ في عمق الأرض فكيف تولّدت فيها الصاعدة في الهواء؟ و إن كانت يقتضي الصعود في الهواء فكيف تولّدت منها الهابطة؟

فلمّا تولّد منها هاتان الشجرتان الموصوفتان باقتضائين متناقضين في الصعود و الهويّ مع أنّ الحسّ و العقل يشهد باختلاف الطبيعتين مع أنّ الحبّة طبيعة مقتضاها أحد الأمرين فثبت أنّ ذلك ليس بمجرّد الطبع و الاقتضاء بل لا بدّ من مقتض و مبدع آخر.

و ثانيتها أنّ باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلّة (1) القويّة فيه و لا يغوص السكّين الحادّ القويّ فيه و نحن نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقّة و اللّطافة بحيث لو دلكها الإنسان بإصبعه بأدنى فرك لصارت كالماء، و هي مع هذه اللّطافة و الرّخوة يقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة على خلاف الطبيعة و لا بدّ أن يكون بتدبير مدبّر ماهر و تقدير العزيز العليم.

و ثالثتها أنّه يتولّد من تلك النواة شجرة، و يحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة فإنّ قشر الشجرة له طبيعة مخصوصة و في داخل ذلك القشر جرم الخشبة و في وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش. (2) ثمّ إنّه يتولّد من ساق الشجرة أغصانها و من الأغصان الأوراق أوّلا و هي مخضرّة اللّون، ثمّ الأزهار و هي محمرّة و مصفرّة بألوان مختلفة من شجرة واحدة ثمّ الفاكهة و في الفاكهة قشور و غشاء و جرم و لبّ، و كلّ منها له طبيعة مختلفة و طعوم متغايرة مع تساوي تأثيرات الطبائع و الفصول الأربعة و تساوي تأثيراتها يقتضي طبيعة واحدة، فهذه المختلفات و لو يكون من تدبير الطبيعة لكان طبيعة الشجرة يظهر منها أثر واحد أو آثار متساوية الصورة و المعنى، فإنّك تجد الطبائع المتضادّة في

ص: 220


1- المسلة- بكسر الميم و فتح السين- الابرة الكبيرة.
2- الصوف المصبوغ المتفرق اجزاؤه.

فاكهة واحدة: مثل الأترج؛ فقشره حارّ يابس و لحمه بارد رطب و خماضه بارد يابس و بزره حارّ يابس فتولّد هذه الخواصّ المتنافرة عن الحبّة الواحدة لا يكون إلّا بإبداع متصرّف قاهر.

ثمّ إنّا نرى أنّ نباتا واحدا غذاء لحيوان و سمّ لآخر، فاختلاف هذه الصفات و الآثار المتضادّة مع اتّحاد الطبائع لا يكون إلّا بتخليق الفاعل المدبّر، ثمّ إنّك إذا أخذت ورقة واحدة وجدت خطّا واحدا مستقيما في وسطها كأنّه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنّخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان، و كما أنّه ينفصل من النّخاع أعصاب كثيرة يمنة و يسرة في بدن الإنسان ثمّ لا يزال ينفصل عن كلّ شعبة شعب أخر و لا تزال تستدقّ حتّى تخرج عن الحسّ من فرط الدقّة، فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخطّ الكبير الوسط في خطوط منفصلة، و عن كلّ واحد منها خطوط مختلفة اخرى أدقّ من الاولى حتّى تخرج تلك الخطوط عن الحسّ.

فلمّا وقفت على عناية الخالق في اتّحاد الورقة علمت أنّ عنايته في تخليق تلك الشّجرة أكمل، ثمّ إذا عرفت أن عناية الخالق في تخليق الحيوان أكمل و في الإنسان الّذي هو ذو المقدّمة لهذه المقدّمات أتمّ و أكمل؛ لأنّه القابل للمعارف الإلهيّة و هو المقصود كما قال: «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (1) فاعرف أيّها الإنسان قدر نعم اللّه عليك «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و كلّ ذلك يظهر لك من تأمّل تلك الورقة.

و في كلّ شي ء له آيةتدلّ على أنّه واحد

[يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي يخرج ما ينمو من الحيوان و النّبات من النّطفة و الحبّ [وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ كالنّطفة و الحبّ فهو سبحانه بقدرته ساق الجنّة اليابسة الميّتة فيخرج منها النّبات و ساق النّواة اليابسة فيخرج منها النّخل، و يخرج النبات الغضّ الطريّ، و يخرج الحبّ اليابس من النبات الحيّ النامي، و العرب يسمّي الشّجر مادام غضّا قائما بأنّه حيّ، فإذا يبس أو قطع نموّه ميّتا، عن الزجّاج. أو المعنى

ص: 221


1- الذاريات: 56.

يخلق الحيّ من النطفة و هي موات، و يخلق النّطفة و هي موات من الحيّ أو يخرج الطير الحيّ من البيض و البيض من الطّير عن الجبّائيّ: أو يخرج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن.

[ذلِكُمُ اللَّهُ أي فاعل ذلك كلّه اللّه سبحانه [فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي كيف يذهب بكم عن هذه الأدلّة الظاهرة إلى الباطل و تصرفون من الحقّ؟ فإن قيل: إنّ عطف الاسم على الفعل بعيد بل لا يجوز فما السّبب؟ فالجواب أنّ قوله «وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» معطوف على قوله «فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى و قوله «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» كالبيان و التفسير لقوله «فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى لأنّ فلق الحبّ و النوى و النبات و الشجر النامي من جنس إخراج الحيّ من الميّت؛ لأنّ النامي في حكم الحيوان، ألا ترى إلى قوله «وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها». (1) و وجه آخر مذكور في البلاغة: و هو أنّ لفظ الاسم لا يفيد التجدّد و لفظ الفعل يدلّ على التجدّد ساعة بعد ساعة، و ضرب الشيخ عبد القاهر الجرجانيّ بهذا مثلا في كتاب دلائل الإعجاز، فقال: قوله: «هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ» (2) إنّما ذكره بلفظ الفعل لأنّ صيغة الفعل تفيد أنّه تعالى يرزقهم حالا فحالا و ساعة بعد ساعة، و أمّا الاسم فمثاله قوله تعالى: «وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» (3) فقوله باسط يفيد البقاء على تلك الحالة الواحدة.

[فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً] نوع آخر من دلائل التّوحيد من الأوضاع الفلكيّة لأنّ فلق ظلمة اللّيل بنور الصبح أعظم من فلق الحبّ و النوى بالنبات و الشّجر، و فالق الإصباح خبر آخر لإنّ و الإصباح بكسر الألف مصدر بمعنى الدخول في ضوء النهار، سمّي به الصبح، أي فالق عمود الفجر عن بياض النهار و إسفاره، و الصبح صبحان فالصبح الأوّل هو الصبح المستطيل كذنب السرحان ثمّ تعقّبه ظلمة خاصّة ثم يطلع بعده الصّبح المستطير من جميع الأفق.

ص: 222


1- الروم: 18.
2- فاطر: 3.
3- الكهف: 17.

فالصبح الأوّل أقوى دليلا على القدرة من الصبح الثاني لأنه لعل أن يقال: أنّ الصّبح الثّاني من أثر قرص الشمس لكن الصّبح الأوّل لا يقال فيه هذا لأنّه لو كان الصّبح الأوّل من أثر قرص الشّمس لامتنع كونه خطّا مستطيلا بل يجب أن يكون مستطيرا في الأفق منتشرا و أن يكون متزائدا متكاملا بحسب كلّ حين و آن و لحظة، و لمّا لم يكن الأمر كذلك بل يحصل عقيبه ظلمة خالصة، ثمّ يحصل الصّبح المستطير بعد ذلك، فعلمنا أنّ ذلك الصّبح المستطيل ليس من تأثير الشمس و لا من جنس نوره و حاصل بتخليق اللّه ابتداء تنبيها على أنّ الأنوار ليس لها وجود إلّا بتخليقه على أنّ المراد من الصّبح هو النّور المنبسط و الضّوء الحاصل من الشمس الواقع على الجرم المقابل. و المنوّر لذلك المبدء تخليق اللّه ذلك النور فيه فإنّه متغيّرا طوره و هو دليل حدوثه و لا بدّ له من محدث قادر مختار فهو تعالى فالق ظلمة العدم بصباح التكوين و الإيجاد و فالق ظلمة العالم الجسمانيّ بتخليص النّفس عن العلائق و الشّهوات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبّر المحدثات.

قوله: [وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً] تسكنون فيه للرّاحة [وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ] أي و جعلهما [حُسْباناً] و الحسبان بالضمّ مصدر بمعنى الحساب و العدد بابه نصر. و أمّا الحسبان بكسر الحاء فهو من باب علم و معناه التخمين و الظنّ فالمعنى جعلها سبحانه على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات، و الشّمس معدن الأنوار الفلكيّة من البدور و النّجوم، و أنوارها مقتبسة من نور الشّمس على قدر تقابلهم و صفوة أجرامهم.

[ذلِكَ إشارة إلى جعلهما حسبانا أي ذلك السير البديع بالحساب المعلوم تقدير العزيز العليم الّذي قهرهما على السير المخصوص و العالم بما فيهما من المنافع و المصالح المتعلّقة بمعاشهم و أوقات عباداتهم و معاملاتهم و مقتضيات فصولهم لأثمارهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 97 الى 98]

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)

قوله تعالى:

هذا هو النّوع الثّالث من الدّلائل على القدرة و الحكمة: و هو خلق هذه

ص: 223

النجوم لمنافع العباد و هي من وجوه: الأوّل خلقها ليهتدي بهما الخلق إلى المسالك في ظلمات البرّ و البحر حيث لا يرون شمسا و لا قمرا. الثاني أنّ النّاس يستدلّون بأحوال حركة الشمس على معرفة أوقات الصلاة و العبادات الوقتيّة و القبلة. و زينة للسّماء و كونها رجوما للشّياطين، و فيها مصالح أخر لا يستدرك كنهها عقولنا فبعضها سيّارة و بعضها ثابتة، و الثوابت بعضها في المنطقة و بعضها في القطبين و بعضها كبيرة درّيّة عظيمة الضوء و بعضها صغيرة خفيّة قليلة الضّوء، و الثوابت لامعة و السيّارة غير لامعة، و لمّا ثبت أنّ الأجسام متماثلة؛ فاختصاص كلّ واحد بصفة معيّنة دليل على تقدير الفاعل المختار.

و لمّا ذكر سبحانه الاستدلال بأحوال هذه النجوم قال: [قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و اختلاف أوضاع الكواكب يدلّ على أنّه لها منافع عظيمة لا ندركها بعقولنا، و لو كان خلقها فقط للاهتداء لما كان يخلقها صغارا و كبارا أو اختلافها في المسير معنى. و في تفسير عليّ بن إبراهيم بن هاشم: النجوم آل محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ و أبدعكم [مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ] أي من آدم و منّ علينا بهذا لأنّ النّاس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التعاطف و التألّف، و حوّاء مخلوقة من ضلع من أضلاعه فصار كلّهم من نفس واحدة، فإن قيل: فما القول في عيسى فهو أيضا مخلوق من مريم الّتي مخلوقة من أبويها. (1) فإن قيل: إنّ القرآن دلّ على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المنفوخ فيها؛ فالجواب أنّ كلمة «من» تفيد ابتداء الغاية و لا نزاع أنّ ابتداء تكوّن عيسى كان من مريم و هذا القدر كاف في صحّة هذا اللفظ [فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ و قرء بكسر القاف، قال ابن عبّاس: إنّ المستقرّ هو الأرحام، و المستودع الأصلاب، كما قال سبحانه «وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ» (2) و يدلّ على قوّة هذا القول أنّ النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا، و الجنين يبقى في الرّحم زمانا طويلا، فحمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى. و قيل: بالعكس و المستقرّ صلب الأب و المستودع رحم

ص: 224


1- كذا في الأصل.
2- الحج: 5.

الأمّ قالوا: محصول تلك النّطفة في رحم الأمّ من قبل الرجل مشبه بالوديعة.

و قوله: «فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ» يقتضي كون المستقرّ متقدّما على المستودع و حصول النطفة في طلب الأب مقدّم على حصولها في رحم الأمّ موجب على هذا التقرير كون المستقرّ متقدّما على المستودع و هو ما في أصلاب الآباء و المستودع ما في الأرحام. و قيل في معنى المستقرّ و المستودع: إنّ المستقرّ حالة بعد الموت لأنّه إن كان سعيدا فقد استقرّت تلك السعادة، و إن كان شقيّا فقد استقرّت تلك الشقاوة، و لا تبديل للإنسان بعد الموت، و أمّا قبل الموت فالأحوال متبدّلة؛ فالكافر قد ينقلب مؤمنا، و الزنديق قد ينقلب صدّيقا فهذه الأحوال لكونها قابلة للتغيّر و التبدّل لا يبعد تشبيهها بالوديعة الّتي تكون مشرفة على الانتقال و الزوال، عن الحسن.

و القول الرابع و هو قول الأصمّ: أنّ المستقرّ من خلق في النفس الاولى و دخل الدنيا و استقرّ فيها، و المستودع الّذي لم يخلق بعد و سيخلق، قال لبيد:

و ما المال و الأهلون إلّا ودائع و لا بدّ يوما أن نردّ الودائع

أو المستقرّ من استقرّ في قرار الدنيا و المستودع من في القبور حتّى يبعث و هذا أيضا قول الأصمّ. و قال قتادة على العكس منه فقال: مستقرّ في القبر و مستودع في الدنيا.

و قال أبو مسلم الإصبهانيّ: إنّ المعنى هو الّذي أنشأكم من نفس واحدة فمنكم مستقرّ ذكر و منكم مستودع أنثى، إلّا أنّه سبحانه عبّر عن الذكر بالمستقرّ لأنّ النطفة تتولّد في صلبه و يستقرّ هناك، و عبّر عن الأنثى بالمستودع لأنّ رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة و الاستدلال في الآية بأنّ الناس إنّما تولّدوا من شخص واحد، و مختلفة في الصّفات الّتي باعتبارها حصل التفاوت و الاختلاف في تلك الصّفات لا بدّ له من مؤثّر و سبب و ليس السبب هو الجسميّة و لوازمها فإنّ الأجسام متماثلة و إلّا لامتنع حصول التفاوت في الصفات فوجب أن يكون المؤثّر هو الفاعل المختار الحكيم.

ص: 225

[قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ و في الكلام تحثيث على الفهم و مواضع التأمّل و النظر في الأدلّة.

[سورة الأنعام (6): آية 99]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

قوله تعالى:

النوع الخامس من الدلائل على قدرته و وجوه إحسانه تعالى، و الكلام إذا كان دليلا من بعض الوجوه، و نعمة من بعض الوجوه كان تأثيره في القلب عظيما و عند هذا يظهر أنّ المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحقّ ينبغي أن يسلك هذا المسلك.

قوله: [وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً] يقتضي نزول المطر من السماء و عند هذا اختلف الناس: فقال أبو عليّ الجبّائيّ في تفسيره: إنّه تعالى ينزل الماء من السماء إلى السحاب و من السّحاب إلى الأرض قال: لأنّ ظاهر النصّ يقتضي نزول المطر من السماء و العدول عن الظاهر إلى التأويل إنّما يحتاج إليه عند قيام الدليل على أنّ إجراء اللّفظ على ظاهره غير ممكن، و في هذا الموضع لم يقم دليل على امتناع نزول المطر من السماء فوجب إجراء اللّفظ على ظاهره.

و أمّا قول من قال: إنّ البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثمّ تصعد و ترتفع إلى الهواء فينعقد الغيم منها و يتقاطر، فذلك هو المطر فقد احتجّ الجبّائيّ و غيره على فساده من وجوه: الأوّل أنّ البرد قد يوجد في وقت الحرّ بل في صميم الصيف، و نجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد و ذلك يبطل قولهم.

فلو قال قائل: إنّ البخار أجزاء مائيّة و طبيعتها البرد ففي وقت الصيف يستولي الحرّ على ظاهر السّحاب فيهرب البرد إلى باطنه فيقوى البرد هناك بسبب الاجتماع فيحدث البرد، و أمّا في وقت برد الهواء يستولي البرد على ظاهر السحّاب فلا يقوى البرد في باطنه فلا جرم لا ينعقد جمدا بل ينزل ماء.

و أجبت عن هذا الكلام بأنّ الطبقة العالية من الهواء باردة جدّا عندكم فإذا كان اليوم يوما باردا شديد البرد في صميم الشتاء فتلك الطبقة باردة جدّا و الهواء

ص: 226

المحيط بالأرض أيضا بارد جدّا؛ فوجب أن يشتدّ البرد و أن لا يحدث المطر في الشتاء البتّة و نحن نشاهد حدوث المطر في الغالب ففسد القول.

و الحجّة الثانية على فساد قولهم ما ذكره الجبّائيّ و هو أنّ البخارات إذا ارتفعت و تصاعدت تفرّقت و إذا تفرّقت لم يتولّد منها قطرات الماء؛ بل البخار إنّما يجتمع إذا اتّصل بسقف متّصل أملس كسقوف الحمّامات المزجّجة أمّا إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء فإذا تصاعدت الأبخرة في الهواء و ليس فوقها سطح أملس متّصل به تلك البخارات وجب أن لا يحصل منها شي ء من الماء. و الدليل الأقوى في بطلان قول من قال: إنّ الأمطار بسبب صعود الأبخرة أنّه لو كان تولّد المطر من صعود البخارات فالبخارات دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر و نحن نشاهد خلافه.

قال الجبّائيّ: إنّ القوم إنّما احتاجوا إلى هذا القول لأنّهم اعتقدوا أنّ الأجسام قديمة و إذا كانت قديمة امتنع دخول الزّيادة و النقصان فيها و حينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلّا اتّصاف تلك الذرّات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفات اخرى، فلهذا السبب احتالوا في تكوين كلّ شي ء عن مادّة معيّنة، و أمّا المسلمون فلمّا اعتقدوا أنّ الأجسام محدثة، و أنّ خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء و أراد فعند هذا لا حاجة إلى هذه التكلّفات، و الآيات ناطقة بنزول المطر من السماء قال: «وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» (1) «وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ» (2) فيخلق هذه الأجسام في السماء ثمّ ينزّلها إلى السحاب ثمّ من السحاب إلى الأرض.

و قيل: المعنى أنزل من السحاب ماء و سمّى اللّه السحاب سماء لأنّ العرب يسمّي كل ما فوقك سماء، و لكن هذا المعنى فيه تكلّف أيضا لأنّه خروج عن الظاهر في الجملة، و نقل الواحديّ في البسيط عن ابن عبّاس: يريد بالماء المطر هنا و لا ينزل قطرة من المطر إلّا و معها ملك، و الفلاسفة يحملون ذلك الملك على الطبيعة الحالّة في تلك الجسميّة الموجبة لذلك النزول و أنكروا كون الملك معها.

ص: 227


1- الفرقان: 50.
2- الأنفال: 11.

قوله تعالى: [فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي فأخرجنا بالماء الّذي أنزلناه من السماء ما ينبت من غذاء الأنعام و الوحش و الطير و أرزاق بني آدم ما يأكلونه و ينمون به و يتعيّشون منه، و إنّما قال سبحانه به لأنّه سبحانه جعل الماء سببا مؤدّيا إلى النبات و كان يمكنه الإنبات بغيره، و قد جعل اللّه لكلّ شي ء سببا.

[فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً] و الضمير في «منه» راجع إلى الماء أو إلى النبات «خضرا» أي زرعا رطبا مثل ساق السّنبلة و أمثالها [نُخْرِجُ مِنْهُ أي من ذلك الزّرع الخضر [حَبًّا مُتَراكِباً] قد تركّب بعضه على بعض مثل سنبل الحنطة و الدخن و السمسم على تركيب مخصوص و هيئة خاصّة.

[وَ مِنَ النَّخْلِ خبر مقدّم [مِنْ طَلْعِها] بدل منه بإعادة العامل و الطلع شي ء يخرج من النخل كأنّه نعلان مطبقان و الثمر بينهما منضود [قِنْوانٌ مبتدأ أي و حاصلة من طلع النخل قنوان جمع قنوة، و هو للتمر بمنزلة العنقود للعنب [دانِيَةٌ] سهلة المجتنى قريبة من القاطف.

و المعنى: من النخل ما قنواتها دانية، و منها ما هي بعيدة فاكتفى بذكر القريبة عن البعيدة؛ لأنّ العمّة في القربيّة أكمل، و في الحديث: أكرموا عمّاتكم النخل فإنّها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام و ليس من الشجرة شجرة أكرم عند اللّه من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران فأطعموا نساءكم الولّد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر (1).

و أوّل ما أكلت مريم حين وضعت عيسى عليه السلام هو الرطب كما قال تعالى: «وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا» (2) و في الحديث أنّه شكا بعض الأنبياء إلى اللّه من قبح أولاد امّته فأوحى اللّه إليه أن مرهم أن يطعموا نساءهم الحبالى بأكل السفر جل في الشهر الثالث و الرابع لأنّ فيه تصوّر الجنين فإنّه يحسن الولد.

ص: 228


1- أورد اخبارا كثيرة في منافع اكثر الأثمار في فروع الكافي «ج 2: 178- 181» كتاب الأطعمة و الأشربة.
2- مريم: 25.

[وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ أي و أخرجنا به بساتين كائنة من أعناب و كلّ نبت متكاثف يستر بعضه بعضا فهو جنّة من جنّ إذا أستتر [وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ و أخرجنا شجر الزّيتون و شجر الرّمان [مُشْتَبِهاً] أوراقهما. و و رقهما يشتمل على العود كلّه من أوّل الغصن إلى آخره في كلّ الشجرتين [وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ في الطعم فيكون المعنى: مشتبها ورقه مختلفا ثمره فمشتبه في الخلق و مختلف في الطعم، و قيل: المعنى مشتبها ما كان من جنس واحد و غير متشابه إذا اختلف جنسه، قال الطبرسيّ: و الأولى في المعنى أن يقال: إنّ جميع ذلك المذكور مشتبه من وجوه مختلف من وجوه.

قال الرازيّ في تفسير «مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ» وجوها: الأوّل أنّها متشابهة قد تكون في اللون و الشكل مع أنّها مختلفة في الطعم و اللذة فإنّ الأعناب و الرمّان قد تكون متشابهة في الصورة و اللّون و الشكل ثمّ إنّها مختلفة في الحلاوة و الحموضة و بالعكس.

قال قتادة: أوراق الأشجار متقاربة في التشابه أمّا ثمارها فتكون مختلفة أو الأشجار متشابهة و الثّمار مختلفة أو أنّ العنقود العنب مثلا ترى جميع حبّاته مدركة نضجة حلوة طيّبة إلّا حبّات مخصوصة منها بقيت على أوّل حالها من الخضرة و الحموضة و العفوصة و كذلك التمر مثلا، و على هذا فبعض حبّات ذلك العنقود متشابهة و بعضها غير متشابهة. و قد ذكر سبحانه من الأشجار هذه الأربعة، لشرافتها و كثرة نفعها، و قدّم النّخل؛ لكرامتها كما ذكر في الحديث سابقا.

و العنب ألذّ الفواكه، و يؤخذ منه الزبيب و الدبس و الخلّ حتّى أنّ الأطبّاء يأخذون من عجمها جوارشنات عظيمته النّفع للمعدة الضعيفة الرّطبة، و قيل: هو سلطان الفواكه، و أمّا الزيتون فهو أيضا كثير النّفع فيمكن تناوله كما هو و يتّخذ منه دهن كثير النّفع في الأكل و في سائر وجوه الاستعمال، و أمّا الرمّان فحاله عجيب جدّا و ذلك أنّ قشره و شحمه و عجمه باردة يابسة قابضة عفصة قويّة في هذه الصّفات، و أمّا ماؤه فبالضدّ فانّه ألذّ الأشربة و ألطفها و أقربها إلى الاعتدال و أشدّها مناسبة للطباع المعتدلة و فيه معونة للمزاج الضعيف فهو غذاء من وجه و دواء من وجه

ص: 229

فإذا تأمّلت في الرمّان وجدت الأقسام الثلاثة منه موصوفة بالكثافة التامّة الأرضيّة و وجدت القسم الرّابع و هو ماء الرمّان موصوفا باللطافة فجمع سبحانه فيه بين المتضادّين المتغايرين، فكانت دلائل القدرة و الرّحمة فيه أتمّ.

قوله: [انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ] تأمّلوا يا مخاطبين إلى ثمر كلّ شجر من المذكورة إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به [وَ يَنْعِهِ و إلى حال نضجه و أكله كيف ينتقل عليه الأحوال في الطعم و اللّون و الرّائحة و الصغر و الكبر لتستدلّوا بذلك على القادر المدبّر.

[إِنَّ فِي ذلِكُمْ أي في خلق هذه الثّمار و الزروع [لَآياتٍ و شواهد أنّها تكوّنت لخلقه و قدرته «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» لأنّهم بها يستدلّون و بمعرفة مدلولاتها ينتفعون قال الرّازيّ: إنّ جمع ثمرة: ثمار، ثمّ جمع ثمار ثمر فيكون ثمر جمع الجمع أو جمع ثمرة مثل بقر و بقرة و شجر و شجرة.

قوله تعالى: [سورة الأنعام (6): الآيات 100 الى 101]

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (101)

و تقرير نظم الآية أنّ الّذين أثبتوا الشريك للّه فرق و طوائف كلهم يؤولون إلى ثلاث فرق: فالطائفة الاولى عبدة الأصنام، فهم يقولون: الأصنام شركاء للّه في العبادة و لكنّهم معترفون بأنّ هذه الأصنام لا قدرة لها على الإيجاد و التكوين. و الطائفة الثّانية من المشركين الّذين يقولون: مدبّر هذا العالم هو الكواكب و هؤلاء فريقان منهم من يقول: إنّها واجبة الوجود لذواتها؛ و منهم من يقول: إنّها ممكنة الوجود لذواتها محدثة و خالقها هو اللّه، إلّا أنّه سبحانه فوّض تدبير هذا العالم الأسفل إليها و هؤلاء هم الّذين حكى اللّه عنهم أنّ الخليل عليه السلام ناظرهم بقوله: لا احبّ الآفلين. و الطّائفة الثالثة من المشركين: الّذين قالوا: لجملة هذا العالم بما فيه من السماوات و الأرض إلهان أحدهما فاعل الخير و الثاني فاعل الشرّ و المقصود في بيان هذه الآية مذهب هؤلاء فهذا تقرير نظم الآية.

ص: 230

نزلت في الّذين قالوا: إنّ اللّه و إبليس أخوان، فاللّه تعالى خالق الناس و الخيرات و الأنعام و الحيوانات النافعة، و إبليس خالق الشرور و الحيوانات الضارّة كالسباع و الحيّات و العقارب و هذا مذهب المجوس، و يطلق عليهم الزنادقة لأنّ الكتاب الّذي زعم زرادشت أنّه كتاب مذهبه مسمّى بالزند و المنسوب إليه يسمّى «زنديّ» ثمّ عرّب فقيل: زنديق، و جمعه الزنادقة، فقالوا: كلّ ما في هذا العالم من الخيرات فهو من «يزدان» و جميع ما فيه من الشرور و فهو من «أهرمن» و هو المسمّى في شرعنا بإبليس ثمّ هؤلاء الزّنادقة اختلفوا، فالأكثرون منهم على أنّ أهرمن محدث و الأقلّون منهم قالوا: إنّه قديم أزلىّ، و على القولين اتّفقوا على أنّه شريك للّه في تدبير العالم فخيراته من اللّه و شروره من إبليس.

فإن قيل: إنّه على هذا البيان فالقوم أثبتوا للّه شريكا واحدا و هو إبليس فكيف قال سبحانه حكاية عنهم: و أثبتوا للّه شركاء؟ لأنّهم كانوا يقولون: عسكر اللّه هم الملائكة و عسكر الإبليس هم الشّياطين، و الملائكة يلهمون الخلق بالخيرات و الشياطين يلقي الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشريّة أو اللّه مع عسكره من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين و هذا معنى قوله تعالى:

[وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ و شركاء الجنّ الملائكة و الأبالسة لاستتارهم عن الأعين، و قيل: إنّ قريشا كانوا يقولون أي بعضهم كان يقول: إنّ اللّه صاهر الجنّ فحدث بينهما الملائكة، فيكون على هذا القول المراد به الجنّ المعروف لا الملائكة كما قال سبحانه: «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» (1) أو المراد من قوله: «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» الملائكة لا الجنّ حيث قالوا: الملائكة بنات اللّه.

[وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ أي و جعلوا مخلوقه شريكا و المخلوق كيف يكون شريك الخالق؟ و خرقوا له أي و موّهوا و افتروا الكذب على اللّه و نسبوا البنين و البنات إلى اللّه تعالى فإنّ المشركين قالوا: الملائكة بنات اللّه، و النصارى قالوا:

المسيح ابن اللّه، و اليهود قالوا: عزير ابن اللّه [بِغَيْرِ عِلْمٍ و حجّة قاطعة و لكن جهلا منهم باللّه و بعظمته.

ص: 231


1- الصافات: 158.

[سُبْحانَهُ وَ تَعالى أي تنزيها له و هو متعال [عَمَّا يَصِفُونَ من انتسابهم له تعالى بهذه النسبة، و يجلّ من أن يوصف بما وصفوه به فإنّ الولد متولّد عن جزء من أجزاء الوالد و ذلك إنّما يعقل في حقّ من يكون مركّبا و يمكن انفصال جزء منه و ذلك في حقّ الواحد الفرد الواجب لذاته محال، يقال: فلان تخرّق الكذب أي اختلقه من عند نفسه و المراد من التعالي ليس علوّ المكان بل علوّ الشأن و المكانة. و الفرق بين «سُبْحانَهُ» و بين «تَعالى أنّ المراد من «سُبْحانَهُ» تنزيهه عمّا لا ينبغي، و المراد بقوله: «وَ تَعالى كونه في ذاته متعاليا سواء سبّحه مسبّح أو لم يسبّحه فالتسبيح يرجع إلى أقوال المسبّحين، و التّعالي يرجع إلى صفته الذاتيّة الّتي حصلت له لذاته لا لغيره.

(لا تصف اللّه بما لا يليق و اعبده مخلصا راجيا خائفا، فإنّ الرّجاء له ثلاث مراتب رجل يعمل الحسنة فيرجو قبولها، و رجل عمل السيّئة و هو نادم فيرجو غفرانها و رجل كذّاب مغرور يعمل المعاصي؛ يتهاون بالذنوب و يرجو المغفرة قيل للصادق عليه السلام:

إن قوما من شيعتكم يعلمون بالمعاصي و يقولون نرجو فقال: كذبوا ليسوا من شيعتنا كلّ من رجا شيئا عمل له، فو اللّه ما من شيعتنا منكم إلّا من اتّقى اللّه، و إنّ أحسن الناس باللّه ظنّا و أعظمهم رجاء أعملهم بطاعته؛ و لقد كان رسول اللّه و أمير المؤمنين أحسن الناس باللّه ظنّا و أبسطهم له رجاء و كانوا أعظم الناس منه خوفا و منه رهبة و كذلك سائر الأنبياء.

فدعوا الأمانيّ منكم و جدّوا و اجتهدوا و أدّوا إلى اللّه حقّه، و إلى الخلق حقّهم، فما ضرب اللّه مثل آدم من أنّه عصى بأكل حبّة إلّا تذكرة لكم و كان أمير المؤمنين يقول في تسبيحه: سبحان من جعل خطيئة آدم عبرة لأولاده مع أن أصلكم قد اصطفاه فأهبطه إلى الأرض من الجنّة لأجل أكل حبّة و أنتم تأكلون البيادر هذا هو الطّمع العظيم.

و ينبغي أن يكون الرّجاء و الخوف في قلب المؤمن كجناحي الطائر: إذا

ص: 232

استويا حصل الطيران و إذا حصل أحدهما دون الآخر فقد حصل النقص في القلب و العمل.

روي في سبب نزول قوله: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» (1) أنّ رسول اللّه مرّ بقوم يضحكون فقال: لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا فنزل جبرئيل بالآية. قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: قال جبرئيل: قال اللّه: عبدي إذا عرفتني و عبدتني و رجوتني و لم تشرك بي شيئا غفرت لك على ما كان منك، و لو استقبلتني بمل ء الأرض ذنوبا أستقبلك بملئها مغفرة و عفوا و أغفر لك و لا ابالي.

قالت امّ سلمة: سمعت رسول اللّه يقول: إنّ اللّه ليتعجّب من يأس العبد و قنوطه مع عظيم سعة رحمته.

روي أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام مرّ بالزهريّ و هو يضحك قد خولط؛ فقال:

ما باله فقالوا: هذا لحقه من قتل النفس، فقال: و اللّه لقنوطه من رحمة اللّه أشدّ عليه من قتله. فاعمل و خف و ارج (2)).

[بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الإبداع عبارة عن تكوين الشي ء من غير سبق مثال قال الرازيّ في بيان الآية: المراد ردّ قول من أثبت له ولدا بأنّه إنّكم إن تزعمون أنّ عيسى ابن اللّه لكونه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدّم نطفة و والد، فلو لزم من مجرّد كونه تعالى مبدعا لإحداث عيسى كونه والدا له لزم من كونه مبدعا للسّماوات و الأرض كونه والدا لهما، لأنّه تعالى خلقهما على سبيل الإبداع و معلوم أنّ ذلك باطل بالاتّفاق، ثمّ إنّ الولادة لا تصحّ إلّا ممّن كانت له صاحبة و شهوة و ينفصل عنه جزء و يحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة و هذه الأحوال إنّما تثبت في حقّ الجسم الّذي يصحّ عليه الاجتماع و الحركة و السكون و الحدّ و النهاية و المدّة و كلّ ذلك على اللّه محال و هو المراد بقوله:

ص: 233


1- الحجر: 49.
2- و روى: لو وزن خوف المؤمن و رجاؤه لاعتدلا. أورد اخبارا مناسبة في الأصول من الكافي «ج 2: 67- 71».

[أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ] و يحصل الولد بهذا الطريق لمن أراد الولد و عجز عن تكوينه دفعة واحدة عدل إلى تحصيله بالطريق المعتاد، و من كان مستغنيا عن هذه الأمور و خالقا لكلّ الممكنات إذا أراد إحداث شي ء قال له: كن فيكون و هو المراد من قوله: [وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ] و من كان قدرته بهذه المثابة امتنع منه إحداث شي ء بطريق الولادة.

ثمّ إنّ هذا الولد إمّا أن يكون قديما أو محدثا و لا يجوز أن يكون قديما لأنّ القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته و ما كان واجب الوجود لذاته كان غنيّا عن غيره فامتنع كونه ولدا لغيره فبقي أنّه لو كان ولدا لوجب كونه حادثا، ثمّ نقول: إنّه تعالى عالم بجميع المعلومات فإمّا أن يعلم أنّ له في تحصيل الولد كمالا و نفعا أو لا؛ فإن كان الأوّل فلا وقت يفرض أنّ اللّه خلق هذا الولد فيه إلّا و الداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلا قبل ذلك و متى كان الداعي إلى إيجاده حاصلا قبله وجب حصول الولد قبل ذلك و هذا يوجب كون ذلك الولد أزليّا و هو محال و إن كان الثاني فقد ثبت أنّه تعالى عالم بأنّه ليس له في تحصيل الولد كمال حال، و لا ازدياد مرتبة في الإلهيّة و إذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يحدثه في وقت من الأولاد، و هو المراد من قوله: [وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فكونه عالما بكلّ المعلومات و كونه أزليّا يمنع من صحّة الولد عليه انتهى كلام الرازيّ في المفاتيح.

قال الطبرسي: و من قال: إنّ في قوله «وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ» دلالة على خلق أفعال العباد فجوابه أنّ المفهوم منه أنّه أراد المخلوقات كما يفهم من قول من قال: أكلت كلّ شي ء و المخلوقات كلّها بما فيها من التقدير العجيب يضاف خلقها إليه على أنّه قد نزّه نفسه عن إفك العباد و ظلمهم و كذبهم فلو كان خلقا له لما تنزّه عنه.

[سورة الأنعام (6): الآيات 102 الى 103]

ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

قوله تعالى:

ص: 234

أي ذلك الّذي خلق هذه الأشياء لكم و دبّر هذه الصنعة هو [اللَّهُ ربّكم خالقكم و سيّدكم [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي كلّ مخلوق من الأجسام و الأعراض الّتي لا يقدر عليها غيره [فَاعْبُدُوهُ لأنّه المستحقّ للرّبوبيّة و العبادة [وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ حافظ و مدبّر فهو وكيل على الحقّ، و لا يقال وكيل لهم.

قال صاحب الكشّاف: «ذلِكُمُ» إشارة الموصوف بما تقدّم من الصفات و هو مبتدأ و ما بعده أخبار مترادفة و هي «اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ».

و نقل الرازيّ في إثبات التوحيد طرقا كثيرة؛ قال: قال المتكلّمون: الصّانع الواحد كاف لأنّ الإله القادر على كلّ المقدورات العالم بكلّ المعلومات كاف في كونه إلها للعالم و أمّا أنّ الزائد على الواحد لم يدلّ الدّليل على ثبوته و لم يكن إثبات عدد أولى من إثبات عدد آخر فيلزم إمّا إثبات آلهة لا نهاية لها و هو محال، أو إثبات عدد معيّن مع أنّه ليس ذلك العدد أولى من سائر الأعداد و هو أيضا محال و إذا كان القسمان باطلين لم يبق إلّا القول بالتوحيد.

و أيضا وجه أخر في تقرير هذه الطريقة: و هي أنّ الإله القادر على كلّ الممكنات كاف في تدبير العالم فلو قدّرنا إلها ثانيا لكان ذلك الثاني إمّا أنّ يكون فاعلا و و موجدا لشي ء من الحوادث أو لا يكون و الأوّل باطل لأنّه لمّا كان كلّ واحد منهما قادرا على جميع الممكنات فكلّ فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلا لذلك الفعل مانعا للآخر عن تحصيل مقدوره لأنّ فعله سبق و امتنع الثاني عن تحصيل مقدوره و ذلك يوجب كون كلّ واحد منها سببا لعجز الآخر، و إن كان الإله الثاني لا يفعل فعلا و لا يوجد شيئا فكان معطّلا و ناقصا فلا يصلح للإلهيّة.

و الوجه الثالث في تقرير هذه الطريقة أنّ هذا الإله الواحد لا بدّ و أن يكون كاملا في صفات الإلهيّة فلو فرضنا إلها ثانيا لكان ذلك الثّاني إمّا أن يكون مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال أولا يكون فإن كان مشاركا للأوّل في جميع الصفات فلا بدّ و أن يكون مميّزا عن الأوّل بأمرما، إذ لو لم يحصل الامتياز بأمر من الأمور لم يحصل التعدّد و الاثنينيّة و إذا حصل الامتياز بأمر مّا فذلك الأمر المميّز إمّا أن

ص: 235

يكون من صفة الكمال أولا يكون؛ فإن كان من صفات الكمال مع أنّه حصل ما به الامتياز لم يكن جميع صفات الكمال مشتركا فيه بينهما، و إن لم يكن ذلك المميّز من صفات الكمال؛ فالموصوف به يكون موصوفا بصفة ليست من صفات الكمال و ذلك نقصان و لا يصلح للإلهيّة، انتهى كلامه.

قالت الأشاعرة: إنّ قوله: «خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» يدلّ على أنّه تعالى هو الخالق لأعمال العباد قالوا: أعمال العباد أشياء و اللّه خالق كلّ شي ء بحكم الآية. و أجاب الطبرسيّ عنه، و قد ذكرناه قبيل هذا.

و لا بأس بذكر الجواب الآخر: و هو أنّ هذا اللّفظ و إن كان عامّا إلّا أنّه حصل مع هذه الآية وجوه يدلّ على أنّ أعمال العباد خارجة عن هذا العموم؛ لأنّه قال سبحانه: «خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ» فلو دخلت أعمال العباد تحت قوله: «خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» لصار تقدير الآية: أنا خلقت أعمالكم فافعلوها بأعيانها أنتم مرّة اخرى، و معلوم أنّ ذلك فاسد قطعا.

و أيضا أنّه تعالى إنّما ذكر قوله: «خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» في معرض القدرة و الثناء على نفسه فلو دخل تحته أعمال العباد لخرج عن كونه مدحا و ثناء بل ثبت قدحا لأنّه لا يليق بذاته سبحانه أن يتمدّح بخلق الزّنا و اللّواط و السرقة و الكفر.

و الجواب الثالث أنّه قال بعد هذه الآية: «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» و هذا تصريح بكون العبد مستقلّا بالفعل و التّرك، و لا مانع له من الفعل و التّرك؛ و ذلك يدلّ على أنّ فعل العبد غير مخلوق للّه؛ إذ لو كان مخلوقا للّه لما كان العبد مستقلّا به لأنّه إذا أو جده اللّه امتنع من العبد الدّفع و لا يصحّ أن يقال: فعل العبد مخلوق للّه، فقوله: «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» يوجب تخصيص ذلك العموم.

قوله [لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ] أي لا تراه العيون لأنّ الإدراك متى قرن بالبصر لم يفهم منه إلا الرّؤية كما لو قيل: أدركت باذني لم يفهم منه إلا السّماع [وَ هُوَ يُدْرِكُ

ص: 236

الْأَبْصارَ] أي لا يدركه ذووا الأبصار، أي يرى سبحانه و لا يرى كما قال: «وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ» و هذه الأبصار ليست هي الأعين إنّما هي الأبصار الّتي في القلوب أيّ لا يقع عليه الأوهام و لا يدرك كيف هو.

[وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] اللّاطف بعباده بسبوغ الأنعام. عدل عن فاعل إلى فعيل للمبالغة و قيل: معناه لطيف التدبير إلّا أنّه حذف لدلالة الكلام عليه، و قيل: إنّ معنى اللطيف هو الّذي يستقلّ الكثير من نعمه و يستكثر القليل من طاعة عباده، و قيل: اللّطيف من يكافي الوافي و يعفو عن الجاني. و قيل: اللطيف من يعزّ المفتخر به و يغني المفتقر إليه «الْخَبِيرُ» العالم بكلّ شي ء من مصالح عباده.

[سورة الأنعام (6): الآيات 104 الى 105]

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

قوله تعالى:

قرّر سبحانه أمر التبليغ و الرسالة فقال: [قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ و البصائر جمع البصيرة، و كما أنّ البصر اسم للإدراك التّام الكامل الحاصل بالعين الّتي هي في الرّأس فالبصيرة اسم للإدراك التامّ الكامل الحاصل في القلب، فالآيات المتقدّمة و هي في أنفسها ليست بصائر إلا أنّها لقوّتها توجب البصائر لمن عرفها و وقف على حقائقها، فلهذا سمّيت بالبصائر، و المعنى: من أبصر الحقّ و آمن بعد هذه الآيات فلنفسه أبصر و إيّاها نفع، و من عمي عن الحقّ و لم يهتد فعلى نفسه ضرّ بالعمى، قل لهم يا محمّد: إنّ هدايتكم و ضلالتكم نفعها و ضررها عائد إليكم [وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ] و إنّهما أنا منذر و اللّه هو الحفيظ عليكم يحفظ أعمالكم و يجازيكم عليها.

[وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ لمّا تمّم الكلام في الإلهيّات إلى هذه المواضع شرع في إثبات النبوّات فحكى شبهة المنكرين نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم بقولهم:

يا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ هذا القرآن الّذي جئتنا به كلام تستفيده من مدارسة العلماء و مباحثة الفضلاء ثمّ تنظمه من عند نفسك و تقرؤه علينا و تزعم أنه وحي ينزل عليك من اللّه، و هذا وجه النظم في الآية.

ص: 237

المعنى: [وَ كَذلِكَ أي و كما صرّفنا الآيات قبل نصرّف هذه الآيات.

و التصريف إجراء المعاني الدائرة المتعاقبة في الألفاظ لتجتمع فيه وجوه الفائدة [وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ اللام لام العاقبة و الصيرورة، و التقدير أنّ عاقبة أمرهم عند تصريفنا هذه الآيات أن يقولوا هذا القول الشنيع، و أمّا الأشاعرة فإنّهم لإثبات الجبر فسّروا الآية و أجروا الكلام على ظاهره فقالوا: المعنى في الآية: إنّا ذكرنا هذه الدلائل حالا بعد حال ليقول بعضهم: دارست و درست هذه الآيات من اليهود و غيرهم ليزدادوا كفرا على كفرهم، و هذا المعنى غير صحيح لوقوع القبيح و الظلم منه تعالى، و قال القاضي و الجبّائيّ: إنّ تقدير الآية: لئلّا يقولوا درست نظير قوله: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» (1) فإنّ المعنى لئلّا تضلّوا.

[وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي و لنبيّن هذه الآيات لقوم يعقلون لأنّهم المنتفعون بها. و الدرس في اللّغة التذليل بكثرة القراءة، حتّى خفّ من قولهم: درست الثوب إذا أخلقته، فقيل للثّوب الخلق: الدريس؟ لأنّه قد لان.

[سورة الأنعام (6): الآيات 106 الى 107]

اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)

قوله تعالى:

أمر سبحانه باتّباع الوحي فقال: [اتَّبِعْ أيّها الرّسول [ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ و الإيحاء هو إلقاء المعنى إلى النفس على وجه يخفى، و يكون تارة بالملك و هو الحقيقة و تارة بالإلهام و الرّؤيا [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] أي ادعهم إلى هذا القول أو بيان ما أوحي إليك من أنّه لا اللّه إلّا هو [وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قال ابن عبّاس: نسخته آية القتال، أو المعنى: اهجرهم و لا تخالطهم و لا تلاطفهم و لم يرد به الإعراض عن دعائهم إلى اللّه و حكمه ثابت.

[وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا] أي لو شاء اللّه أن يتركوا الشرك قهرا و إجبارا لاضطرّهم إلى ذلك إلّا أنّه لم يضطرّهم إليه بما ينافي أمر التكليف بل أمرهم سبحانه بترك

ص: 238


1- النساء: 175.

الشرك اختيارا ليستحقّوا الثواب و المدح عليه فلم يتركوه فأتوا به من قبل نفوسهم.

و في تفسير أهل البيت: لو شاء اللّه أن يجعلهم كلّهم مؤمنين معصومين حتّى كان لا يعصيه أحد لما كان يحتاج إلى جنّة و لا إلى نار و لكنّه أمرهم و نهاهم و أعطاهم ماله تعالى به عليهم الحجّة من الآلة و الاستطاعة ليستحقّوا الثواب و العقاب.

[وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً] راقبا لأعمالهم [وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ و لست يا محمّد بموكّل عليهم و إنّما أنت رسول عليك البلاغ و علينا الحساب قال الحدّاديّ: و إنّما جمع بين «حفيظ و وكيل» لاختلاف معناهما فإنّ الحافظ للشي ء هو الّذي يصونه عمّا يضرّه و الوكيل بالشي ء هو الّذي يجلب الخير إليه.

و اعلم أنّ الجبريّة تمسّكوا بقوله تعالى: «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» على صحّة مذهبهم؛ و قالوا: إنّ المعنى و لو شاء اللّه أن لا يشركوا ما أشركوا و حيث لم يحصل الجزاء علمنا أنّه لم يحصل الشّرط فعلمنا أنّ مشيئة اللّه بعدم إشراكهم غير حاصلة، و أجابت المعتزلة بأنّه ثبت بالدّلائل أنّه تعالى أراد من الكلّ الإيمان و ما شاء من أحد الكفر و الشرك و هذه الآية تقتضي أنّه تعالى ما شاء من الكلّ الإيمان فوجب التّوفيق بين الدّليلين فيحمل مشيئة اللّه لإيمانهم على مشيئته الإيمان الاختياريّ الموجب للثواب و يحمل عدم مشيئته لإيمانهم على الإيمان الحاصل بالقهر و الإلجاء فالمعنى: ما شاء أنّ يحملهم على الإيمان على سبيل القهر و الإلجاء فإنّ ذلك يبطل التكليف و يخرج الإنسان عن استحقاق الثّواب.

[سورة الأنعام (6): آية 108]

وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)

قوله تعالى:

النزول: كان المسلمون يسبّون الأصنام فقال المشركون: يا محمّد لتنتهنّ عن سبّ آلهتنا أو لنهجونّ ربّك، فنهى اللّه تعالى أن يسبّوا الأصنام لما فيه من المفسدة فقال:

[وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المراد الأصنام يدعونها آلهة و يعبدونها [مِنْ دُونِ اللَّهِ أي متجاوزين عبادة اللّه [فَيَسُبُّوا اللَّهَ أي فيقولوا لكم مثل قولكم لهم و

ص: 239

[عَدْواً] منصوب على الحاليّة مصدر أو مفعول له أي لأجل العداوة و التّجاوز [بِغَيْرِ عِلْمٍ غير عالمين باللّه و بما يجب أن يذكر به جهلا لأنّهم لو قدروا اللّه حقّ قدره لما أقدموا على الشّرك.

و في الآية تنبيه على أنّ خصمك لو شافهك بجهل و سفاهة لم يجز لك أنّ تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإنّ ذلك يوجب فتح باب السّفاهة، و ذلك لا يليق بالعقلاء فلو قيل: إنّ الكفّار و المشركين كانوا مقرّين بالإله العالم و كانوا يقولون: إنّما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند اللّه و إذا كان كذلك فكيف يعقل إقدامهم على سبّ اللّه؟.

قال الرازيّ: هاهنا احتمالات: أحدهما أنّه ربّما كان بعضهم قائلا بالدهر و نفي الصّانع فما كان يبالي بهذا النّوع من السّفاهة و ثانيها أنّ الصّحابة متى شتموا الأصنام فهم كانوا يشتمون الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم، فاللّه تعالى أجرى شتم الرسول مجرى شتم اللّه كما قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» (1) و كقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ». (2) و ثالثها أنّه ربّما كان في جهّالهم من كان يعتقد أنّ شيطانا يحمله على ادّعاء النبوّة و الرسالة ثمّ إنّه بجهله كان يسمّي ذلك الشيطان بأنّه إله محمّد، فكان يشتم إله محمّد بناء على هذا التأويل.

فلو قيل: إن شتم الأصنام و سبّها من اصول الطاعات فكيف يحقّ من اللّه أن ينهي عنها؟ فالجواب أنّ هذا الشتم و إن كان طاعة إلّا أنّه إذا وقع على وجه يستلزم منه منكر عظيم وجب الاحتراز منه، و الأمر هاهنا كذلك؛ لأنّ هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم اللّه و شتم رسوله و على فتح باب السفاهة و على تنفيرهم عن قبول الدّين و إدخال الغيظ في قلوبهم فلكونه مستلزما لهذه المنكرات وقع النّهي عنه.

و قرء «عدوا» بضمّ العين و تشديد الواو؛ قال الزجّاج: «عَدْواً» منصوب على المصدر أي فيعدوا عدوا.

قال الجبّائيّ: دلّت هذه الآية على أنّه لا يجوز أن يفعل بالكفّار ما يزدادون به بعدا عن الحقّ، إذ لو جاز أن يفعله لجاز أن يأمر به و كان لا ينهى عنه، و كان لا يأمر

ص: 240


1- الفتح: 10.
2- الأحزاب: 57.

بالرّفق بهم عند الدّعوة كقوله لموسى و هارون: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً» (1) و ذلك يبيّن بطلان مذهب المجبّرة، انتهى.

قوله تعالى: [كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ قيل في معناه أقوال:

أحدها أنّ معناه: كذلك زيّنّا لكلّ امّة عملهم بميل الطباع إليه و لكن قد عرّفناهم الحقّ مع ذلك ليأتوا الحقّ و يجتنبوا الباطل، و ذلك لصحّة التكليف؛ لأنّه لا يقال للعنّين: لا تزن و للأعمى: لا تنظر.

و ثانيها أنّ المراد زيّنّا لكم أعمالكم زيّنّا لكلّ امّة من قبلكم أعمالهم من حسن الدعوة إلى اللّه و ترك ما لا ينبغي و ترك السبّ للأصنام و نهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفّر الكفّار عن قبول الحقّ، عن الحسن و الجبّائيّ. و يسمّى ما يجب على الإنسان أن يعمله بأنّه عمله كما تقول لغلامك: اعمل عملك أي ما ينبغي لك أن تفعله.

و ثالث الأقوال أنّ المراد زيّنّا عملهم بذكر ثوابه فهو كقوله: «وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ» (2) يريد حبّب بذكر ثوابه و مدح فاعليه، و ما فسّرته الأشاعرة في معنى الآية لإثبات مدّعاهم فهو بمعزل عن القبول و لم يرد سبحانه أنّه زيّن عمل الكافرين لأنّ ذلك يقتضي الدّعوة إليه و اللّه تعالى ما دعا أحدا إلى معصيته و لكنّه نهاهم عنها و ذمّ فاعليها و نسب مثل هذه الزّينة إلى الشيطان فقال: «وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ»* (3) و لا خلاف أنّ المراد بذلك الكفر و المعاصي فثبت أنّ المراد به في الآية تزيين أعمال الطاعة.

[ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ أي مصيرهم [فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من أعمالهم الخير و الشرّ.

[سورة الأنعام (6): الآيات 109 الى 110]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

قوله تعالى:

ص: 241


1- طه: 46.
2- الحجرات: 7.
3- العنكبوت: 37.

النزول: قالت قريش: يا محمّد تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب به الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، و تخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى، و تخبرنا أنّ ثمود كان لهم ناقة فأتنا بآية من الآيات حتّى نصدّقك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّ شي ء تحبّون أن آتيكم به؟ قالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا، و ابعث لنا بعض موتانا حتّى نسألهم عمّا تقول أحقّ أم لا، و أرنا الملائكة يشهدون لك، أو ائتنا باللّه و الملائكة قبيلا، فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: فإن فعلت بعض ما تقولون أ تصدّقونني؟ قالوا: نعم و اللّه لئن فعلت لنتّبعنّك أجمعين، و سأل المسلمون رسول اللّه أن ينزّلها عليهم حتّى يؤمنوا فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يدعو أن يجعل الصّفا ذهبا فجاءه جبرئيل، فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا و لكن إن لم يصدّقوا عذّبتهم و إن شئت تركتهم حتّى يتوب تائبهم، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم:

بل يتوب تائبهم، فأنزل اللّه هذه الآية، عن الكلبيّ و محمّد بن كعب القرطبيّ.

المعنى: [وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ قال الواحديّ إنّما سمّي اليمين بالقسم؛ لأنّ اليمين موضوعة لتوكيد الخبر الّذي يخبر به الإنسان إثباتا أو نفيا. و لمّا كان الخبر يدخله الصدق و الكذب احتاج المخبر إلى طريق به يتوسّل إلى ترجيح جانب الصدق على جانب الكذب و ذلك هو الحلف و القسم، و بنوا تلك الصّيغة على «افْعَلْ» و بالحلف يبيّن قسم الصدق الّذي ادّعاه عن قسم نقيضه الّذي هو الكذب؛ و بالجملة بيّن سبحانه حال الكفّار الّذين سألوا الآيات، فقال:

[وَ أَقْسَمُوا] أي حلفوا [بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مجدّين مجتهدين مظهرين الوفاء به [لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ] ممّا سألوها [لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ يا محمّد [إِنَّمَا الْآياتُ أي الأعلام و المعجزات [عِنْدَ اللَّهِ و هو مالكها فلو علم صلاحكم في إنزالها لأنزلها [وَ ما يُشْعِرُكُمْ الخطاب متوجّه إلى المشركين؛ و قيل الخطاب متوجّه إلى المؤمنين لأنّهم ظنّوا أنّهم لو أجيبوا إلى الآيات لآمنوا [أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ أي أيّ شي ء يعلّمكم أنّ الآية الّتي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بل يبقون على ما كانوا عليه من الكفر و العناد.

[وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عطف على «لا يُؤْمِنُونَ» أخبر سبحانه أنّه تعالى يقلّب أفئدة هؤلاء الكفّار [وَ أَبْصارَهُمْ عقوبة لهم و في كيفيّة تقليبهما قولان: أحدهما أنّه يقلّبها في

ص: 242

جهنّم على حرّ الجمر و لهب النار، و الثاني أنّ المعنى: نقلّب أفئدتهم و أبصارهم بالحيرة الّتي تغمّ و تزعج النفس [كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ] أي بما جاء من الآيات أوّل مرّة من المعجزات الّتي صدرت عنه صلى اللّه عليه و آله و سلّم مثل انشقاق القمر و نحوه.

و قيل: معناه: لو أعيدوا إلى الدّنيا ثانية لم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة في الدّنيا و هذا مثل قوله: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» (1) عن ابن عبّاس. و الهاء في «بِهِ» يحتمل أن يكون عائدة إلى القرآن و ما انزل من الآيات و يحتمل أن يكون عائدة إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي نخلّيهم و ما اختاروه من الطغيان و لا نحول بينه و بينهم «يَعْمَهُونَ» متردّدين في الحيرة هائمين.

قال بعض أهل التفسير: إنّ قوله: «وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ» معترضة و حشو بين الجملتين، و المعنى أنّا نحيط علما بذات الصدور و خائنة الأعين؛ نختبر قلوبهم فنجد باطنها بخلاف ظاهرها فلا نحول بينهم و بين اختيارهم و لا نمنعهم من ذلك و نمهلهم فإن أقاموا على الكفر و الطغيان نتركهم في ذلك الطغيان و العمه، و لا نلجئهم و نقهرهم على الإيمان فبسبب إقدامهم على الكفر استحقّوا الحرمان و تقليب أفئدتهم، و إضافة التقليب إلى اللّه بهذا المعنى و السّبب. فبطل ما استدلّوا من هذه الآية في الجبر.

[سورة الأنعام (6): آية 111]

وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

قوله تعالى:

بيّن سبحانه حالهم في طغيانهم و عنادهم فقال: [وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ] حتّى يشهدون بنبوّته حتّى يرون الملائكة عيانا [وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى بعد أن أحييناهم حسب ما اقترحوه فيشهدوا لك بالنبوّة فإنّهم طلبوا منه صلى اللّه عليه و آله و سلّم إحياء اثنين من موتاهم للشهادة أحدهما قصيّ بن كلاب و جذعان بن عمرو و قالوا: لئن أحييتهما فشهدا لك بالنبوّة لشهدنا نحن أيضا [وَ حَشَرْنا] أي جمعنا [عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا] جمع قبيل، و انتصابه على

ص: 243


1- الانعام: 28.

الحاليّة أي لو حشرنا كلّ شي ء نوعا نوعا و فوجا فوجا من سائر المخلوق، قال صاحب التيسير في كتاب التفسير: أي و بعثنا كلّ حيوان من الفيل إلى البعوض أي أقمنا القيامة [ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بأن يجبرهم على الإيمان، عن الحسن و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام، و حاصل المعنى أنّهم لا يؤمنون مختارين إلّا أن يكرهوا.

[وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أنّ اللّه قادر على ذلك أو أنّ المعنى: يجهلون أنّهم لو أوتوا بكلّ آية ما آمنوا طوعا أو يجهلون مواضع المصلحة فيطلبون مالا مصلحة و لا فائدة فيه.

و في الآية دلالة على أنّ اللّه سبحانه لو علم أنّه إذا فعل ما اقترحوه من الآيات آمنوا لفعل ذلك و لكان ذلك واجبا في حكمته لأنّه لو لم يجب ذلك لم يكن لتعليله- بأنّه لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنّه لو فعلها لم يؤمنوا- معنى.

و فيها أيضا دلالة على أنّ إرادته محدثة لأنّ الاستثناء يدلّ على ذلك، إذ لو كانت قديمة لم يجز هذا الاستثناء و لم يصحّ كما أنّه لا يصحّ لو قال: ما كانوا ليؤمنوا إلّا أن يعلم اللّه لحصول هذا الوصف فيما لم يزل، و يجوز أن يكون الضمير في قوله: «أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» راجعا إلى المؤمنين أي إنّهم يجهلون عدم إيمان المقترحين عند مجي ء الآيات لأنّ المؤمنين كانوا يتمنّون مجي ء الآيات طمعا في إيمان الكافرين.

[سورة الأنعام (6): الآيات 112 الى 113]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (112) وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

قوله تعالى:

سلّى في هذه الآية محمّدا صلى اللّه عليه و آله و سلّم و بيّن ما كان عليه حال الأنبياء مع أعدائهم فقال:

[وَ كَذلِكَ أي و كما جعلنا لك شياطين الإنس و الجنّ أعداء كذلك جعلنا لمن تقدّمك من الأنبياء.

و في معنى «جَعَلْنا» هنا وجوه؛ قال الطبرسيّ:

أحدها أنّ المراد: كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين فقد أمرنا من قبلك

ص: 244

بمعاداة أعدائهم من الجنّ و الإنس، و متى ما أمر اللّه رسوله بمعاداة قوم من المشركين فقد جعلهم أعداء له، و هذا المعنى شائع كما يقول الأمير للمبارز من جيشه: جعلت فلانا قرنك في المبارزة و هو يعني بذلك أنّه أمره بمبارزته؛ لأنّه إذا أمره بمبارزته فقد جعل من يبارزه قرنا له.

و ثانيها أنّ معناه: حكمنا بأنّهم أعداء و أخبرنا بذلك لتعاملوهم معاملة الأعداء في الاحتراز عنهم و الاستعداد لدفع شرّهم. و هذا كما يقال: جعل القاضي فلانا عدلا و فلانا فاسقا إذا حكم بعدالة هذا و فسق ذلك.

و ثالثها أنّ المراد خلّينا بينهم و بين اختيارهم العداوة لم نمنعهم عن ذلك كرها و لا جبرا لأنّ ذلك يزيل التكليف.

و رابعها أنّه سبحانه إنّما أضاف ذلك إلى نفسه لأنّه سبحانه لمّا أرسل إليهم الرّسل و أمرهم بدعائهم إلى الإسلام و الإيمان و خلع الأوثان نصبوا عند ذلك العداوة لأنبيائه، و مثله قوله تعالى مخبرا عن نوح: «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» (1).

و المراد من قوله: «شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ» مردة الكفّار من الفريقين أو أنّ المراد من شياطين الإنس الّذين يغوونهم و شياطين الجنّ الّذين هم من ولد إبليس.

قال الكلبيّ في تفسيره عن ابن عبّاس: إنّ إبليس جعل جنده فريقين؛ فبعث فريقا منهم إلى الإنس و فريقا إلى الجنّ فشياطين الجنّ و الإنس أعداء بعضهم الرّسل و المؤمنين، فيلتقي شياطين الإنس و شياطين الجنّ في كلّ حين، فيقول بعضهم لبعض:

أنا أضللت صاحبي بكذا فأنت أضلّ صاحبك بمثلها، فذلك المراد بقوله: [يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ .

و روي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: إنّ الشياطين يلقى بعضهم بعضا فيلقي إليه ما يغوي به الخلق حتّى يتعلّم بعضهم من بعض [زُخْرُفَ الْقَوْلِ أي القول المموّه الّذي يستحسن ظاهره و لا حقيقة له و لا أصل [غُرُوراً] أي يغرّونهم غرورا.

[وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ أخبر سبحانه أنّه لو شاء أن يمنعهم من ذلك جبرا أو يحول

ص: 245


1- نوح: 5.

بينهم و بينه لقدر على ذلك و لكنّه خلّى سبيلهم بينهم و بين أفعالهم إبقاء للتّكليف و امتحانا للمكلّفين، و قيل: المعنى: و لو شاء ربّك ما فعلوه بأن ينزّل عليهم عذابا أو آية فتضلّ أعناقهم لها خاضعين.

[فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ أي دعهم و افترائهم الكذب فإنّي اجازيهم و أعاقبهم، أمر سبحانه بأن يخلّي بينهم و بين ما اختاروه و أن لا يمنعهم منه بالقهر تهديدا لهم، و ذلك كقوله: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» دون أن يكون أمرا واجبا أو ندبا.

[وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ عطف على الغرور و اللّام بمعنى كي أي يوحي بعضهم إلى بعض الغرور و لأن تصغى إليه [أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا] و لام «كي» نائبة عن «أن» في أكثر الموارد و اللامات في الآية قرئت بالسكون و قرئت بالحركة، و الحركة أولى أي لتميل إلى هذا القول المزخرف قلوب الّذين لا يؤمنون، و يجوز أن تكون اللّام لام العاقبة [وَ لِيَرْضَوْهُ أي لتميل أفئدتهم إلى تلك المزخرف و يرضوه لأنفسهم بعد ميل أفئدتهم [وَ لِيَقْتَرِفُوا] و يكتسبوا بموجب ارتضائهم لذلك المزخرف [ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ و مكتسبون من القبائح الّتي لا يليق ذكرها من الكفر و متابعة الضّلالة.

و في الآية إشارة إلى أنّ البلايا للسائرين إلى اللّه، و الأولياء هي المطايا لهم، و أنّ أشدّ البلاء شماتة الأعداء فلمّا كانت رتبة الأنبياء أعلى كانت عداوة الكفّار لهم أوفى و في ذلك لهم ترقّيات.

قال أهل التأويل: إنّ شيطان الإنس النفس الأمّارة بالسوء و هي أقوى من شياطين الجنّ، و إنّما يتسلّط شيطان الجنّ على ابن آدم بفضول النّظر و الكلام و الطعام و بمخالطة الناس و من اختلط فقد استمع إلى الأكاذيب.

[سورة الأنعام (6): آية 114]

أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)

قوله تعالى:

أمر سبحانه أن يقول لهؤلاء الكفّار الّذين مضى ذكرهم: [أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً] و أطلب سواه حاكما؟ و الحكم و الحاكم بمعنى واحد إلّا أنّ الحكم أبلغ: لأنّ

ص: 246

معناه من يستحقّ أن يتحاكم إليه فهو لا يقضي إلّا بالحقّ، و قد يحكم الحاكم بغير حقّ و حاصل المعنى: هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم اللّه رغبة عنه؟ و هل يجوز أن يكون حكم سوى اللّه يساويه في حكمه؟ [وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا] و الحال أنّ القرآن فصّل فيه جميع ما يحتاج إليه أو فصّل فيه بين الحلال و الحرام أو بين الصادق و الكاذب في الدّين و الكفر و الإيمان، و معنى التّفصيل تبيين المعاني بما ينفي التّخليط الوارد في اللّفظ و المعنى و يرفع التّداخل الّذي هو يوجب النقصان في المراد.

[وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني بهم مؤمني أهل التوراة و أهل الإنجيل، و قيل: المراد كبراء الصّحابة و المراد هنا بالكتاب: القرآن عن عطاء الخراسانيّ [يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي القرآن نازل من عند اللّه حالكونه متلبّسا [بِالْحَقِ و الصدق.

[فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ و الشاكّين من أنّهم يعلمون بحقيقة القرآن، فالفاء لترتيب النّهي على نفي علمهم بحال القرآن و حقّيّته و علمهم بأنّه منزل من عند للّه، أو الخطاب للنبيّ و المراد به الأمّة، و قيل: الخطاب لغيره أي أيّها الإنسان و أيّها السامع، و قيل: الخطاب له و المراد زيادة شرح صدره و طمأنينة قلبه كقوله: «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ» (1) عن أبي مسلم.

[سورة الأنعام (6): آية 115]

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

قوله تعالى:

و قرء «كلمات ربّك» و من قرأ على المفرد قال: قد وقع المفرد على الكثرة فلذلك أغنى عن الجمع لأنّ العرب يستعمل الكلمة على الخطبة و القصيدة المشروحة.

شرّح سبحانه صفة الكتاب المنزل فقال: [وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ] أي و كملت على وجه لا يمكن أخذ الزيادة فيه و النقصان كلمة [رَبِّكَ أي القرآن و قيل: المعنى أنّه انزل شيئا بعد شي ء حتّى كملت على ما تقتضيه الحكمة. و قيل: المراد من الكلمة دين اللّه كما في قوله وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا» (2) و قيل المراد: كملت حجّة اللّه على الخلق [صِدْقاً وَ عَدْلًا] ما كان في القرآن؛ فما كان فيه من الأخبار فهو صدق و ما كان فيه من الأحكام فهو عدل.

ص: 247


1- الأعراف: 2.
2- التوبة: 40.

[لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا تبديل له و لا تغيير في ما جاء به من ثواب و عقاب، و ذلك كقوله: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» (1) و الحكم الّذي حصل في الأزل هو التمام، و الزيادة عليه ممتنعة كقوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «جفّ القلم بما كائن إلى يوم القيمة» و كلّ ما حصل في القرآن نوعان: الخبر و التّكليف أمّا الخبر فكلّما أخبر اللّه عن وجود أو عن عدم مثل الخبر عن وجود ذات اللّه و عن حصول صفاته أعني كونه تعالى عالما قادرا سميعا بصيرا، و الاخبار التقديسيّة كقوله «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ» و كقوله «لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ» و أقسام أفعال اللّه مثل كيفيّة تدبيره السماوات و الأرض و الملكوت و عالم الأرواح و الأجسام، و يدخل الأحكام مثل الأمر و النهي المتوجّه على العبد ملكا كان أو بشرا جنّيّا كان أو شيطانا.

فكلّ هذه الأمور لا يتطرّق إليه التغيّر و الكذب، فالقرآن صدق من جهة الأخبار، و عدل من جهة الأحكام؛ فقوله: «وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا» ضبط في غاية الحسن في بيان جامعيّة القرآن. و معنى لا مبدّل لكلماته هذا المعنى أي إنّها تامّة لا يقبل التبديل موافقة للحكمة، دالّة على المعجزة، لا تزول بشبهات الجهّال.

[وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «السَّمِيعُ» لكلّ ما يتعلّق به السمع «الْعَلِيمُ» لكلّ ما يمكن أن يعلم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 116 الى 117]

وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)

قوله تعالى:

لمّا تقدّم ذكر الكتاب بيّن سبحانه في هذه الآية أنّ من تبع غير الكتاب ضلّ و أضلّ فقال:

[وَ إِنْ تُطِعْ يا محمّد، خاطبه و المراد غيره أو المراد هو و غيره. و الطاعة امتثال الأمر و موافقة المطيع المطاع فيما يريده منه. و الفرق بين الإطاعة و الإجابة أنّ

ص: 248


1- ق: 28.

الإجابة عامّة في موافقة الإرادة الواقعة موقع (1) و لا يراعى فيها الرتبة بخلاف الإطاعة فإنّ الرّتبة ملحوظة فيها [أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يعني الكفّار و أهل الضلالة، و إنّما ذكر الأكثر لأنّه سبحانه علم أنّ منهم من يؤمن و يدعو إلى الحقّ و لكن هم الأقلّ و الأكثر الضّلال [يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه. و في هذا دلالة على أنّه لا عبرة في دين اللّه و معرفة الحقّ بالقلّة و الكثرة لجواز أن يكون الحقّ مع الأقلّ و إنّما الاعتبار فيه بالحجّة.

[إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ أي ما يتّبع هؤلاء المشركون فيما يعتقدونه و يدعون إليه إلّا الظنّ، و ما هم إلّا يكذبون و لا يقولون عن علم و لكن عن خرص و تخمين، قال ابن عبّاس: و ذلك أنّهم كانوا يدعون النبيّ إلى أكل الميتة، و يقولون: أ تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتله اللّه؟ و من قبيل هذه التخمينات فهذا إضلالهم.

[إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ أي أنّ اللّه أعلم، يعلم من يضلّ عن سبيله، و أعلم بمن هو المهتدي فيجازي كلّا منهم بما يستحقّون، و هذا نظير قوله تعالى:

«لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى (2) و إنّما قال «أَعْلَمُ» لأنّ اللّه يعلم الشي ء من كلّ جهاته، و غيره يعلم الشي ء من بعض جهاته. و أمّا من هو غير عالم أصلا فلا يقال فيمن ليس بعالم أصلا: «أعلم منه» إلّا مجازا أي بموجب زعمهم العلم و ادّعائهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 118 الى 120]

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)

قوله تعالى:

و لمّا قالوا للمسلمين: أ تأكلون ما قتلتم أنتم و لا تأكلون ما قتله اللّه؟ نبّه سبحانه المسلمين بقوله: [فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ و الصيغة و إن كانت صيغة الأمر لكنّ المراد به الإباحة. أي ممّا ذكر اسم اللّه عند ذبحه دون الميتة و ما ذكر عليه اسم الأصنام؛ فإنّها

ص: 249


1- كذا في الأصل.
2- الكهف: 11.

محرّمة. و الذكر هو قوله «بِسْمِ اللَّهِ»* و قيل: هو كلّ اسم يختص اللّه به أو صفة تختصّه كقول:

«باسم الرحمن» أو «باسم القديم» أو «باسم القادر لذاته» و ما يجري مجراه قال الطبرسيّ:

و القول الأوّل مجمع عليه، و الظاهر يقتضي جواز غيره أيضا لقوله: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (1).

[إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ بأن عرفتم اللّه و رسوله و صحّة ما آتاكم الرسول به من عند اللّه فلو قيل: إنّ قوله: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» صيغة الأمر و هي للإباحة، و هذه الإباحة حاصلة في حقّ المؤمن و غير المؤمن و كلمة «إِنْ» في قوله «إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ» تفيد الاشتراط؛ فالجواب أنّ المعنى: اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم اللّه عليه فيكون المعنى تحريم أكل الميتة للمؤمن، و لو أنّ الكافر أيضا حرام عليه لكنّه لمّا لم يجعل الكافر الميتة حراما فقيّد الحكم بالمؤمن.

[وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ المعنى: و أيّ شي ء لكم في أن لا تأكلوا؟ فيكون ما استفهاميّة على قول البصريّين أي ما الّذي يمنعكم أن تأكلوا ممّا ذكر اسم اللّه عند ذبحه؟ و قيل: «ما» نافية يعني ليس لكم أن تأكلوا.

فإن قيل: إنّ المشركين كانوا يبيحون أكل ما ذبح على اسم اللّه و لا ينكرون أكله، و إنّما الاختلاف في أنّهم أيضا كانوا يبيحون أكل الميتة و المسلمون كانوا يحرّمونها و إذا كان كذلك كان ورود الأمر بإباحة ما ذكر اسم اللّه عليه عبثا لأنّه يقتضي إثبات الحكم في المتّفق عليه و ترك الحكم في المختلف فيه؛ فالجواب أنّ معنى الآية أن اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم اللّه فمعنى «أَلَّا تَأْكُلُوا» أن لا تجعلوا أكلكم مقصورا عليه فيقيد تحريم أكل الميتة فقط كما بيّنا قبل هذا المعنى.

[وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ أي و الحال أنّه تعالى قد بيّن لكم [ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ممّا لم يحرّمه و هو قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ» في سورة المائدة. (2) فإن قيل: إنّ سورة المائدة مدنيّة، و نزلت بعد الأنعام و الأنعام مكّيّة فلا يصحّ أن يقال: «وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ» فأجابوا أنّه يحمل على أنّه بيّن على لسان الرّسول ثمّ

ص: 250


1- الإسراء: 110.
2- الآية 5 منها.

بعد ذلك نزل به القرآن، لكنّ العلماء مثل الرازيّ و أشباهه لم يتقنّعوا بهذا الجواب و قالوا: المراد من قوله: «وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ» هذه الآية و هي قوله: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً»، الآية (1).

فإن قلت: إنّ الإيراد أيضا وارد؛ لأنّ صيغة «فَصَّلَ» يقتضي التقدّم و هذه الآية أيضا متأخّرة؛ فأجاب الرازيّ عن هذا الإشكال بحجّة ضعيفة و هي أنّ هذا القدر من التأخّر لا يمنع أن يكون هو المراد.

و الحقّ أنّ هذا الجواب عن هذا الفاضل تكلّف و الأولى ما ذكره الطبرسيّ بأن حمله على التفصيل من لسان الرّسول و الوحي الغير المتلوّ كما أشرنا إليه.

[إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أي إلّا ما خفتم على نفوسكم الهلاك من الجوع إذا تركتم الأكل منه فحينئذ يجوز لكم تناوله و إن كان ممّا حرّمه اللّه، و اختلف في مقدار ما يسوغ أكله عند الاضطرار؛ فعندنا الإماميّة لا يجوز إلّا ما يمسك به الرمق و قال قوم:

يجوز أن يشبع المضطرّ منها و أن يحمل منها حتّى يجد ما يأكل.

قال الجبّائيّ: إنّ في هذه الآية دلالة على أنّ ما يكره على أكله من هذه الأجناس يجوز أكله لأنّ المكره يخاف على نفسه مثل المضطرّ، و الاستثناء في الآية متّصل و المستثنى منه ما حرّم و «ما» مصدريّة بمعنى المدّة لكن إن جعلت «ما» موصوله تعيّن أن يكون الاستثناء منقطعا لأنّ ما اضطرّ إليه حلال فلا يدخل تحت ما حرّم عليهم.

[وَ إِنَّ كَثِيراً] من الكفّار [لَيُضِلُّونَ النّاس [بِأَهْوائِهِمْ و بما تهوي أنفسهم من تحليل الميتة و غيرها [بِغَيْرِ عِلْمٍ مقتبس من الشريعة الشريفة مستندا إلى الوحي [إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ المتجاوزين الحقّ إلى الباطل و الحلال إلى الحرام.

قال الطبرسيّ: إنّ في هذه الآية و هي «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ» دلالة على وجوب التسمية على الذبيحة، و على أنّ ذبائح الكفّار لا يجوز أكلها لأنّهم لا يسمّون اللّه تعالى عليها و أنّ من سمّى عليها منهم لا يعتقد وجوب ذلك حقيقة لأنّ الّذي يسمّي هو الّذي يؤيّد شرع موسى و عيسى و مخالف لشريعة يجب فيها التسمية فإذا لا يذكر اللّه حقيقة.

ص: 251


1- الانعام: 146.

قوله تعالى: [وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي اتركوا ايّها المؤمنون الإثم الظاهر و الإثم الباطن، من إضافة الصفة إلى الموصوف و المراد من الإثم المعاصي كلّها لأنّها لا تخلو من هذين الوجهين فيدخل فيه ما يعلن و يستسرّ سواء كان من أفعال القلوب أو الجوارح فأفعال الجوارح ظاهرة كالأقوال و الأفعال، و أعمال القلوب باطنة كالعقائد الفاسدة و العزائم الباطلة المورثة للفساد في العالم.

و قيل: المراد من «ظاهِرَ الْإِثْمِ» هو الزناء و من «باطِنَهُ» اتّخاذ الأخدان عن السدّيّ و الضحّاك. و قيل: المراد من «ظاهِرَ الْإِثْمِ» امرأة الأب «وَ باطِنَهُ» الزناء عن سعيد بن جبير. و قيل: إنّ أهل الجاهليّة كانت ترى أنّ الزناء إذا ظهر كان فيه الإثم و إذا استسرّ به صاحبه لم يكن إثما، عن الضحّاك. قال الطبرسيّ: و الأصحّ هو الأوّل؛ لأنّه يعمّ الجميع.

[إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ و يعملون المعاصي الّتي فيها الآثام و يرتكبون القبائح [سَيُجْزَوْنَ و يعاقبون [بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ و يكسبونه و الآية صريحة بأنّ كسب العبد من القبائح فعل أحدثه العبد، و لهذا يعاقب عليها فلو كان بتخليق اللّه و جعله سبحانه في العبد فالعقوبة من البري ء قبيحة فثبت بطلان مذهب الجبر.

[سورة الأنعام (6): آية 121]

وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

قوله تعالى:

أكّد سبحانه ما تقدّم بقوله: [وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ أي إنّ أكل ما لم يسمّ عليه خروج من حكم اللّه و هذا الحكم جار في ذبائح الكفّار أهل الكتاب و غيرهم قال الطبرسيّ: من سمّى منهم و من لم يسمّ لأنّهم لا يعرفون اللّه فلا يصحّ منهم التسمية إن وقعت و إن لم تقع فبطريق أولى كما أشرنا إليه سابقا.

و أمّا ذبيحة المسلم إذا لم يسمّ اللّه عليها فقد اختلف في ذلك؛ فقيل: لا يحل أكلها سواء ترك التسمية عمدا أو نسيانا، عن مالك و داود و الحسن و ابن سيرين و الجبّائيّ.

ص: 252

و قيل: يحلّ أكلها في الحالين و الدليل عليه ما روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

ذكر اللّه مع المسلم؛ سواء قال أو لم يقل، عن الشافعيّ.

و قيل: يحلّ أكلها إذا ترك التسمية ناسيا بعد أن يكون معتقدا بوجوبها، و محرّم أكلها إذا تركها متعمّدا، عن أبي حنيفة و أصحابه. قال الطّبرسيّ و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام.

قال الرّازيّ في المفاتيح: الأولى بالمسلم أن يحترز عنه؛ لأنّ ظاهر هذا النصّ قويّ.

[وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ أي إبليس و جنوده و قيل: يعني بهم علماء الكافرين و رؤساءهم المتمرّدين في كفرهم ليؤمنون و يشيرون إلى الّذين اتّبعوهم من الكفّار يوسوسون إلى المشركين، و الوحي إلقاء المعنى إلى النفس مع الخفية.

[لِيُجادِلُوكُمْ في استحلال الميتة بقولهم: قتيل اللّه أولى بالأكل من قتيلكم! فهذه مجادلتهم. و قال عكرمة: إنّ قوما من علماء مجوس فارس كتبوا إلى مشركي قريش- و كانوا أولياءهم في الجاهليّة-: إنّ محمّدا و أصحابه يزعمون أنّهم يتّبعون أمر اللّه ثمّ يزعمون أنّ ما ذبحوه حلال و ما قتله اللّه حرام، فوقع هذا الكلام في نفوس المشركين فذلك إيحاؤهم إليهم لكن قال ابن عبّاس: المراد في الآية شياطين الجنّ يوحون إلى أوليائهم من الإنس بإلقاء الوسوسة و المناقشات.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أيّها المؤمنون فيما يقولونه من استحلال الميتة و غيره [إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ضرورة أنّ من استحلّ حراما بيّنا فهو كافر بالإجماع لأنّه اختار طاعة غير اللّه و ترك طاعته عمدا و اتّبع دينا غير دين اللّه و آثر به تعالى بل آثره عليه تعالى.

لكن عطاء الخراسانيّ قال في الآية: إنّه مختصّ بذبائح العرب الّتي كانت تذبحها للأوثان و في الحديث: إنّ الشيطان يستقلّ الطعام إلّا بذكر اسم اللّه عليه فاللّعين يشارك الأكل إذا لم يسمّ و من ينسي التسمية في أوّل الطّعام فمتى ما ذكر فيقول:

بسم اللّه أوّله و آخره فإذا قال ذلك فقد تدارك تقصيرة.

ص: 253

في الحديث: كان رجل يأكل فلم يسمّ حتّى لم يبق من طعامه إلّا لقمة فلمّا رفعها إلى فيه قال بسم اللّه أوّله و آخره فضحك النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ قال: ما زال الشيطان يأكل معه فلمّا ذكر اسم اللّه استقاء ما في بطنه.

و هذا الحديث يدلّ على أنّ الشيطان يأكل بمضغ و بلع كما ذهب إليه قوم.

و قال آخرون: أكل الشيطان صحيح لكنّه تشمّم و استرواح و إنّما المضغ و البلع لذوي الجثث، و الشياطين أجسام رقاق. و في أكام المرجان قال: كلّما لم يسمّ عليه من طعام أو شراب أو لباس أو غير ذلك ممّا ينتفع به فللشيطان فيه تصرّف و استعمال إمّا بإتلاف عينه كالطعام و إمّا بقاء عينه. و في الحديث: إنّ الشيطان حسّاس لحّاس فاحذروه على أنفسكم؛ فمن بات و في يده شي ء فأصابه شي ء فلا يلومنّ إلّا نفسه.

و قال بعضهم: إنّما وجبت التسمية عند الذبح؛ لأنّ مرارة النّزع و الذّبح شديدة و ذكر اسم اللّه أحلى من كلّ شي ء فأمرنا بالتسمية عند الذّبح كي تسمع الشاة و المذبوح ذكر اللّه عند الموت فلا تشتدّ مرارة النّزع مع حلاوة ذكر اللّه، كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: لقّنوا موتاكم بشهادة أن لا إله إلّا اللّه يسهّل عليكم سكرات الموت (1)، و لمّا كان الإحياء و الإماتة من اللّه لم بجز أن يذبح باسم غيره.

[سورة الأنعام (6): الآيات 122 الى 123]

أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَ ما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (123)

قوله تعالى:

النزول: قيل: إنّ قوله تعالى «أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً» نزلت في حمزة بن عبد المطّلب و أبي جهل بن هشام المخزوميّ، و ذلك أنّ أبا جهل رمى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم بفرث، فأخبر حمزة بما فعل و هو راجع من الصيد و بيده قوس، و كان يومئذ لم يؤمن فلقي في طريقه أبا جهل فضرب رأسه بالقوس فقال أبو جهل: أما ترى ما جاء به؟ سفّه عقولنا و سبّ آلهتنا فقال حمزة: و أنتم أسفه الناس تعبدون الحجارة من دون اللّه تعالى، أشهد أن لا إله إلّا

ص: 254


1- و به ورد روايات كثيرة أورد عدة منها في فروع الكافي «ج 1 34- 35» باب تلقين الميت.

اللّه وحده لا شريك له و أنّ محمّدا عبده و رسوله، فنزلت الآية.

و الهمزة للإنكار و النفي، و الواو لعطف الجملة الاسميّة على مثلها الّذي يدلّ عليه الكلام، و التقدير: أنتم أيّها المؤمنون مثل المشركين و من كان ميتا، فمثّل سبحانه الفريقين.

أي كان كافرا [فَأَحْيَيْناهُ بأن هديناه إلى الإيمان. شبّه الكفر بالموت و الإيمان بالحياة فبيّن أنّ المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميّتا فجعل حيّا بعد ذلك و جعل له نورا يهتدي به، و أنّ الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيّرا على الدّوام.

[وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ و ذلك مثل حال المؤمن، و ليس من كان أمره هكذا [كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها] فسمّى الإيمان و الحكمة و العلم نورا و الكفر و الجهل ظلمة، و قال: «كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ» و لم يقل: كمن هو في الظلمات و ذكره بلفظ المثل إشعارا بأنّه بلغ في الحيرة و الكفر غاية يضرب به المثل فيها.

[كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ شبّه سبحانه حال هؤلاء في التّزيين بحال أولئك فيه كقوله: «كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»* و المعنى: زيّن لهؤلاء الكفر فعلموه، مثل ما زيّن لأولئك الإيمان فعملوه. قال الحسن: زيّنه و اللّه لهم الشيطان و أنفسهم. قال الطبرسيّ: و قوله: «زُيِّنَ» لا يقتضي مزيّنا غيرهم لأنّه بمنزلة قوله: «أَنَّى يُصْرَفُونَ» و «أَنَّى يُؤْفَكُونَ»* تقول العرب: أعجب فلان بنفسه و أولع كذا، و مثله كثير.

[وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ] أي مثل ذلك الّذى قصصنا عليك- من قوله زيّن للكافرين عملهم- صيّرنا في كلّ قرية أكابر [مُجْرِمِيها] أو كما صيّرنا في مكّة صناديدها [لِيَمْكُرُوا فِيها] كذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها، و الأكابر جمع الأكبر.

قال الرّازيّ: و الآية على التّقديم و التّأخير، تقديره جعلنا مجرميها أكابر، و لا يجوز أن يكون الأكابر مضافة فإنّه لا يتمّ المعنى. و لأنّك إذا أضفت الأكابر فقد

ص: 255

أضيفت الصفة إلى الموصوف و ذلك لا يجوز عنه البصريين.

قالت الأشاعرة: إنّما جعلهم بهذه الصّفة لأنّه أراد منهم أن يمكروا بالنّاس فهو دليل على أنّ الخير و الشرّ بإرادة اللّه، و ليس الأمر على ما قالوه لثبوت الظلم في حقّه تعالى، تعالى اللّه عن الظلم و عن إرادة القبيح بل اللّام لام العاقبة و لام الصيرورة كما في قوله: «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» (1) و كقول الشاعر: فللموت ما تلد الوالدة.

قال الجبّائيّ: لا شكّ أنّ اللّام في مثل هذه الموارد لام العاقبة. قالت المعتزلة:

لمّا لم يمنعهم عن المكر صار شبيها بما إذا أراد ذلك فجاء الكلام على سبيل التشبيه.

[وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ و الآية صريحة بأنّهم الماكرون و وقع الفعل بإرادتهم و اختيارهم فبطل الجبر، و ما يشعرون لأنّ عقاب ذلك المكر يحلّ بهم و قد مكروا بأنفسهم و لا شكّ أنّ قوله: «وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ» مذكور في معرض التهديد و الزّجر فلو كان ما قبل هذه يدلّ على أنّه أراد منهم أن يمكروا بالناس فكيف يليق بالرّحيم الكريم الحكيم العادل أن يريد منهم المكر و يخلق فيهم المكر ثمّ يهدّدهم عليه و يعاقبهم أشدّ العقاب؟

[سورة الأنعام (6): آية 124]

وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)

. قوله تعالى:

النزول: قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال: و اللّه لو كانت النبوّة حقّا لكنت أولى بها منك يا محمّد؛ لأنّي أكبر سنّا و أكثر مالا. و قيل: نزلت في أبي جهل قال:

زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبىّ يوحى إليه، و اللّه لا نؤمن به و لا نتّبعه أبدا إلّا أنّ يأتينا وحي كما يأتيه، عن مقاتل.

المعنى: حكى سبحانه عن الأكابر الّذين تقدم ذكرهم اقتراحاتهم الباطلة فقال سبحانه: [وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ] أي دلالة معجزة من عند اللّه يدلّ على توحيده و صدق محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم [قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ و لن نصدّق بها [حَتَّى نُؤْتى أي نعطى آية معجزة [مِثْلَ ما أُوتِيَ و اعطي [رُسُلُ اللَّهِ حسدا منهم للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

(أقول: و رأيت في بعض المجامع أنّ ما بين الجلالتين من هذه السورة من المواضع

ص: 256


1- القصص: 5.

الّتي يرجى فيها استجابة الدّعاء فليحافظ عليه انتهى (1)).

ثمّ أخبر سبحانه على وجه الإنكار عليهم بقوله: [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أنّه أعلم منهم و من جميع الخلق بمن يصلح للرسالة و يتعلّق مصالح الخلق ببعثه و من هو قابل بأن يقوم بأعباء الرسالة و من لا يقوم بها فيجعلها عند من يقوم بأدائها و يحتمل ما يلحقه من الأذى و المشقّة على تبليغها؛ فللرسالة موضع مخصوص لا يصلح وضعها إلّا فيه، و العالم بتلك الصّفات ليس إلّا اللّه تعالى.

و النفوس و الأرواح قيل: متساوية في تمام الماهيّة، و حصول النبوّة و الرسالة لبعضها دون البعض تشريف من اللّه و تفضيل لكنّ المحقّقون قالوا: إنّ النفوس البشريّة مختلفة بجواهرها و ماهيّاتها، فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيّات مشرقة بالأنوار الإلهيّة، منوّرة، و بعضها خسيسة كدرة محبّة للجسمانيّات، و النّفس ما لم تكن من القسم الأوّل لم تصلح لقبول الوحي و الرسالة ثمّ إنّ القسم الأوّل يقع الاختلاف فيه بالزّيادة و النقصان و القوّة و الضعف إلى مراتب لا نهاية لها؛ فلا جرم كانت مراتب الرسل مختلفة فمنهم من حصلت له المعجزات القويّة و التّبع القليل، و منهم من حصلت له معجزة واحدة أو اثنتان و حصل له تبع عظيم، و منهم من كان الرّفق غالبا عليه، و منهم من كان التشديد غالبا عليه بحسب مصالح العامّة.

ثمّ بيّن و هدّد سبحانه الماكرين و المنقطعين إلى الكفر الّذين سبق ذكرهم فقال: [سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ] و ينالهم من اللّه ذلّ و هوان و إن كانوا في الدنيا أكابر و هذا الذّل و الهوان معدّ لهم في الآخرة [وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ في الدنيا جزاء على كفرهم و مكرهم فإنّ الجزاء يقابل المعصية تقابل التضادّ؛ فإنّهم لمّا تمرّدوا عن طاعة محمّد استنكافا و طلبا للعزّ و الكرامة فاللّه قابلهم بضدّ مطلوبهم فأوّل ما يوصل إليهم الصّغار و الذلّ في القيامة.

[سورة الأنعام (6): آية 125]

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)

. قوله تعالى:

ص: 257


1- مراده: «اللّه» في: (رسل اللّه، اللّه اعلم).

لما تقدّم ذكر المؤمنين و الكافرين بيّن عقيبه ما يفعل بكلّ من القبيلتين ما يستحقّون من اختيارهم فقال:

[فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ و يثبّته على الهدى [يَشْرَحْ صَدْرَهُ جزاء له على إيمانه و اهتدائه. و قد يطلق لفظ الهدى و المراد به الاستدامة كما في قوله: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» أو المعنى: من يرد اللّه أن يهديه إلى الثواب و الجنّة يشرح صدره للإسلام في الدّنيا بأن يثبّت عزمه عليه و يقوّي دواعيه على التمسّك به و يزيل عن قلبه وساوس الشيطان و ما يعرض في القلوب من الخواطر الفاسدة، و إنّما يفعل ذلك منّا عليه و ثوابا على اهتدائه نظير قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» (1) «وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً» (2) و هذا المعنى أيضا قريب من المعنى الأوّل.

و قد وردت الرّواية الصّحيحة أنّه لمّا نزلت هذه الآية سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم عن شرح الصّدر ما هو؟ فقال: نور يقذفه اللّه في قلب المؤمن فيشرح له صدره و ينفسخ قالوا: فهل لذلك إمارة يعرف بها؟ قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور، و الاستعداد للموت قبل نزول الموت.

[وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي يخذله بسبب اختياره الكفر و يخلّي بينه و بين ما يريده [يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً] بأن يمنعه ألطاف شرح الصّدر لخروجه عن قبول الإيمان جزاء على سوء اختياره من غير أن يمنعه عن الإيمان أو يريد منه الكفر أو يخلق فيه الكفر كما زعمت الأشاعرة، فإنّهم استدلّوا بظاهر الآية على ثبوت مدّعاهم الفاسد و اعتمادهم في إثبات العلم و الدّاعية، و قالوا: إنّهما يوجبان الفعل و ليس كذلك، نعم الداعي من معدّات الفعل لكن في الدّاعي لم لا يقولون من العبد؟ و داعيتهم ميلهم إلى هذا الأمر الشنيع، و ذلك الميل و اختيار السوء يوجب إتيان الفعل كميل السارق إلى السّرقة لميله إلى المسروق به طمعا في استدراكه، و كيف يكون أن يخلق فيهم داعية الكفر و يريد منهم وقوعه و يأمرهم بضدّه و هو الإيمان؟ فإنّه متى ما خلق فيهم أمرا و شاء و أراد وقوع ذلك الأمر لن يقع غيره البتّة؛ فحينئذ كيف يجوز عقاب فعل

ص: 258


1- محمّد: 19.
2- مريم: 78.

يقع من فاعل لا يتمكّن أن يفعل غير ذلك الفعل فحينئذ إمّا أن يقول: إنّ الكافر غير معاقب البتّة، و إمّا أن يقول: إنّ اللّه قد أمر بما لا يطاق و لا يتمكّن، و هو أقبح أقسام الظلم، تعالى عن ذلك.

و أمّا مسألة العلم فذلك أيضا ليس من موجبات الفعل لأنّ العلم بأنّ القاضي مثلا يضحك و يلاعب امرأته فهل ذلك العلم من موجبات ضحك القاضي؟ فكذلك علمه تعالى؛ فإنّه لمّا سبق علمه المعلوم و علم أنّ المعلوم سيكون كتب: كان، فمثل هذا العلم كيف يكون من موجبات الفعل؟.

قالت المعتزلة: إنّ ما تمسّكت به الأشاعرة في هذه الآية ليس بدليل لهم، و ليس معنى الآية أنّه تعالى أضلّ قوما أو يضلّهم؛ لأنّه ليس فيها من إنّه متى ما أراد أن يهدي إنسانا فعل به كيت و كيت، و إذا أراد إضلاله فعل به كيت و كيت، و ليس في الآية أنّه تعالى يريد ذلك أولا يريده، و الدّليل عليه أنّه تعالى قال: «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» (1) فبيّن أنّه يفعل اللّهو لو أراده؛ و لا خلاف أنّه تعالى لا يريد ذلك و لا يفعله.

ثمّ إنّه تعالى لم يقل: و من يرد أن يضلّه عن الإيمان، بل قال: «وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ» فلم قلتم: إنّ المراد: و من يرد أن يضلّه عن الإيمان؟ و قد بيّن سبحانه في آخر الآية أنّه إنّما يفعل هذا الفعل بهذا الكافر جزاء على كفره و أنّه ليس ذلك على سبيل الابتداء؛ فإنّه قال: «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» فثبت بطلان الجبر.

و تفسير الآية و هو الّذي اختاره الجبّائيّ و القاضي عبد الجبّار و أبطال المعتزلة و جمهور الإماميّة أنّ من يرد اللّه أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنّة بسبب حسن قبوله يشرح صدره للإسلام حتّى يثبت عليه و لا يزول عنه؛ ثوابا على قبولهم الطّاعة.

و تفسير هذا الشرح في الصّدر هو أنّه يفعل به ألطافا يدعوه إلى البقاء على

ص: 259


1- الأنبياء: 17.

الإيمان و الثبات عليه، و هذه الألطاف إنّما تقع منه تعالى للمؤمن بعد أن صار مؤمنا كما قال سبحانه: «وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» (1) و كذلك قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» (2).

فأمّا إذا كفر و عاند و أراد اللّه أن يضلّه عن طريق الجنّة فعند ذلك يلقي في صدره الضّيق و الحرج فالعبد بسبب هذه الدرجة من قبول الإيمان وجد انشراح الصدر، و الكافر بسبب هذه الدركة من قبول الكفر و اختيار الكفر على الإيمان وجد هذا الضيق و الحرج و البأس من غير أن يكون سبحانه مانعا له عن الإيمان و سالبا إيّاه عن القدرة على الإيمان، و كيف يجوز ذلك و قد ذمّ اللّه تعالى فرعون و السامريّ على إضلالهما عن دين الهدى؟ فقال تعالى: «وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (3) و قال تعالى: «وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» (4) فكيف ينسب إليه تعالى ما ذمّ عليه غيره؟ انتهى.

قوله: [كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ] أي إنّ هذا الكافر إذا دعي إلى الإسلام كأنّه مكلّف بصعود السماء. و قيل: المعنى: كأنّهما ينزع قلبه إلى السماء لشدّة المشقّة عليه من مفارقة مذهبه الباطل بسبب ذلك الضّيق و الحرج.

قال الزجّاج: «الحرج» في اللّغة أضيق الضيق، و قرء «حَرَجاً» بكسر الرّاء؛ فمن قال: «حرج» بفتح الراء معناه: ذو حرج و «الحرج» بكسر الراء نهاية الضيق و بالفتح جمع «حرجة» و هو الموضع الكثير الأشجار الّذي لا تناله الراعية، المشتبك الّذي لا طريق فيه لأحد. شبّه سبحانه قلب الكافر بهذا الموضع الّذي لا ينتفع أحد منه، و لا طريق فيه، كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شي ء من الخير بكفره.

و أمّا قوله: «يَصَّعَّدُ» فقرء «يصّاعد» بالألف و تشديد الصاد بمعنى يتصاعد، و المشهور «يَصَّعَّدُ» بتشديد الصاد و العين بغير ألف. و قرء «يصعد» قرأه ابن كثير فهي من الصعود، و بالجملة ففي كيفيّة هذا التشبيه وجهان:

ص: 260


1- المنافقون: 11.
2- العنكبوت: 69.
3- طه: 51 و 87.
4- طه: 51 و 87.

الأوّل: كما أنّ الإنسان إذا كلّف الصعود إلى السماء ثقل ذلك التكليف عليه كذلك الكافر يثقل عليه الإيمان.

و الوجه الثاني أن يكون التقدير أنّ قلب الكافر ينبوعن الإيمان و يتباعد عنه فشبّه ذلك البعد ببعد من يصعد من الأرض إلى السماء.

[كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ و «الرِّجْسَ» العذاب و قيل: «الرِّجْسَ» مالا خير فيه، عن مجاهد. و وجه التشبيه في قوله: «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ» أنّه يجعل الرجس على هؤلاء كما يجعل ضيق الصدر في قلوب أولئك؛ فإنّ كلّ ذلك على وجه العقوبة و الاستحقاق [عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بسبب عدم إيمانهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 126 الى 127]

وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)

قوله تعالى:

أشار سبحانه إلى ما تقدّم من البيان؛ و هذا طريق ربّك و هو القرآن، عن ابن مسعود، و الإسلام عن ابن عبّاس، و أضافه إلى نفسه، لأنّه تعالى أرشد إليه [مُسْتَقِيماً] لا اعوجاج فيه، و إنّما وصف الصراط الّذي هو أدلّة بالحقّ بالاستقامة مع اختلاف وجود الأدلّة و تعدّدها؟ لأنّها مع كثرتها و اختلافها تؤدّي إلى الحقّ، فكأنّها طريق واحد مع أنّها متعدّدة، لسلامة جميع الأدلّة من التناقض و الفساد، و إنّما سمّاه صراطا لأنّ العلم به يؤدّي إلى التوحيد و السعادة و قيل: الإشارة في الآية بقوله: «وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ» يريد هذا الّذي أنت عليه يا محمّد دين ربّك مستقيما، و تفضيل الآيات معناه ذكرها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر مشروحا [لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ و أصله يتذكّرون، خصّ المتذكّرين لأنّهم المنتفعون بالحجج دون غيرهم.

[لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي للمتذكّرين و الّذين عرفوا الحقّ دار السلامة الدائمة الخالصة من كلّ آفة و بليّة يلقاه أهل النار. و قيل: إنّ السلام هو اللّه، و داره الجنّة [عِنْدَ رَبِّهِمْ و المراد من العنديّة القرب في المكانة لا المكان.

[وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ يعني أنّ اللّه سبحانه يتولّى إيصال المنافع إليهم و دفع المضارّ عنهم و ناصرهم. و قيل: يتولّاهم في الدنيا بالتوفيق و في الآخرة بالجزاء [بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطاعات فحذف لظهور المعنى، فإنّ من المعلوم أنّ ما لا يكون طاعة من الأعمال

ص: 261

فلا ثواب عليه و معلوم أنّ الإطاعة للعبد كالإكسير الأعظم و بها يبلغ العبد إلى المقام العالي، و المخالفة سمّ نقيع و بها يقع إلى الدرك السافل.

كما حكي عن بعض الصالحين من شيوخ اليمن أنه خرج يوما من زبيد إلى نحو الساحل المعروف بالأهواز و معه تلميذه، فمرّ في طريقه على قصب ذرّة كبّار جبار، فقال الشيخ لتلميذه: خذ معك من هذا القصب ففعل التلميذ و تعجّب في نفسه و قال:

ما مراد الشيخ بهذا؟ و لم يقل الشيخ شيئا حتّى إذا بلغ إلى محلّة للعبيد يقال لهم «السناكم» يأكلون الميتات و يشربون الخمور و لا يعرفون الصلاة و إذا بهم يشربون و يلعبون و يلهون و يغنّون و يضربون بالدفوف فقال الشيخ للتلميذ: ايتني بهذا الشيخ الطويل الّذي يضرب الطبل، فأتاه التلميذ، و قال: أجب هذا الشيخ، فرمى الطبل من رقبته و مشى معه إلى الشيخ، فلمّا وقف بين يديه قال الشيخ للتلميذ: اضرب هذا الرجل فضربه حتّى استوفى منه الحدّ و لم ينكر و ما تأوّه، ثمّ قال له الشيخ: امش قدّ أمنا فمشى حتّى بلغوا البحر فأمره الشيخ أن يغتسل و يغسل ثيابه و علّمه كيفيّة الصلاة و التطهير، و تقدّم الشيخ فصلّى بهما الظهر، و ظهر من حالات الشيخ الأسود الطبّال في ساعة واحدة كيفيّة و معرفة لم يظهر من التلميذ و لا من شيخه هذه السنين المتطاولة؛ فعلى الغافل التسليم لأوامره تعالى و ترك المخالفة يصل إلى مقام العنديّة.

[سورة الأنعام (6): الآيات 128 الى 129]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)

قوله تعالى:

و اذكر يا محمّد لأهل مكّة و غيرهم يوم يحشر اللّه الثقلين جميعا و يجمعهم في الموقف.

و قرء بالنون، و قيل: يريد الكفّار يقول: [يا مَعْشَرَ الْجِنِ أي يا جماعة الجن [قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي أضللتم خلقا كثيرا من الإنس، و سمّيت الجماعة بالمعشر لبلوغها غاية الكثرة فإنّ العشر هو العدد الكامل الكثير الّذي لا عدد بعده إلّا بتركيبه بما فيه من الآحاد فتقول: أحد عشر و هكذا فالعدد كلّما كثر فهو يتركّب من العشر:

ص: 262

فإذا قيل: معشر فالمراد هو الكثرة الكاملة.

[قالَ أَوْلِياؤُهُمْ أي أولياء الشياطين الّذين أطاعوهم [مِنَ الْإِنْسِ فهو حال من «أَوْلِياؤُهُمْ»: [رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي انتفع الإنس بالجنّ و الجنّ بالإنس، أمّا انتفاع الإنس بالجنّ فمن حيث إنّ الجنّ كانوا يدلّونهم بالوسوسة على أنواع الشهوات و ما يستلذّون به من إغوائهم، و أمّا انتفاع الجنّ بالإنس فمن حيث لم يضيّعوا سعيهم، و الرئيس المطاع ينتفع بانقياد أتباعه له و حصول مراده.

[وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا] أي أدركنا الوقت الّذي وقّتّ لنا و هو يوم القيامة، قالوه اعترافا بما فعلوا من اتّباع الشيطان و الهوى و تكذيب البعث و إظهارا للنّدامة و استسلاما لربّهم، و لعلّ الاقتصار على حكاية كلام الضالّين للإيذان بأنّ المضلّين قد أفحموا بالمرّة فلم يقدروا على التكلّم أصلا.

[قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ كأنّه قيل: فماذا قال اللّه تعالى حينئذ؟ فقيل: قال: النار منزلكم و محلّ إقامتكم [خالِدِينَ فِيها] قال ابن عبّاس: الخلق أربعة فخلق في الجنّة كلّهم و هم الملائكة، و خلق في النّار كلّهم فهم الشياطين و خلقان في الجنّة و النار و هما الإنس و الجنّ لهم الثواب و عليهم العقاب.

[إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قيل: في معنى هذا الاستثناء أقوال:

أحدها ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: كان وعيد الكفّار مبهما غير مقطوعا به ثمّ قطع به لقومه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»* (1).

و ثانيها أن الاستثناء إنّما هو من يوم القيامة لأنّ قوله: «وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» هو يوم القيامة فقال: خالدين فيها مذ يوم يبعثون إلّا ما شاء من مقدار حشرهم من قبورهم و مقدار مدّتهم في محاسبتهم، و مكثهم في الموقف و كما ينتقص من الآخر كذلك ينتقص من الأوّل، عن الزجّاج.

و ثالثها أنّ الاستثناء راجع إلى غير الكفّار من عصاة المسلمين الّذين هم في مشيئة اللّه تعالى؛ إن شاء اللّه عذّبهم بذنوبهم بقدر استحقاقهم عدلا و إن شاء عفا عنهم فضلا.

ص: 263


1- النساء: 116.

و رابعها أنّ معناه إلّا ما شاء اللّه ممّن آمن منهم، عن عطاء، و قيل: المراد من الاستثناء أوقات مشيئة اللّه أن ينقلوا من النار إلى الزمهرير، فقد روي أنّهم ينقلون من عذاب النار و يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميّز أوصالهم بعضا من بعض فيعاوون و يطلبون الردّ إلى الجحيم، ففي الاستثناء تهكّم بهم. و في تفسير الجلالين: إلّا ما شاء اللّه من الأوقات الّتى يخرجون فيها لشرب من حميم فإنّه خارجها كما قال اللّه: «ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» (1).

و قيل: يفتح لهم و هم في النار باب إلى الجنّة فيسرعون نحوه حتّى إذا قربوا إليه سدّ عليهم الباب.

و أمّا ما قاله بعض الحكماء من أنّ أهل النار بعد عذاب أحقاب من الزمان و بعد إحراقهم النار خمسين ألف من سنة من سني الآخرة لشرك يوم واحد من أيّام الدّنيا إلى أن ينتهي حساب عمره الّذي عاش في الدّنيا، ثمّ بعد ذلك يعتادون بالعذاب و لم يتألّموا و يؤول أمرهم إلى أن يستلذّوا به حتّى لو صبّ عليهم نسيم الجنّة استكرهوه و تعذّبوا به كالجعل يستطيب الروث؛ فهذا القول بمعرض عن القبول، و تكذيب للقرآن و السنّة، و كفر و إلحاد أجارنا اللّه منه.

[إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ محكم لأفعاله عليم بكلّ شي ء و بمن يستحقّ الثواب و بمن يستحقّ العذاب و بمقدار ما يستحقّه، فكأنّ المعنى: إنّما حكمت لهؤلاء الكفّار بعذاب الأبد لعلمي أنّهم يستحقّون ذلك.

قوله تعالى: [وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي كما خذلنا عصاة الجنّ و الإنس حتّى استمتع بعضهم ببعض بسبب سوء اختيارهم و شركهم جزاء لهم نولّي بعض الظالمين بعضا؛ نخلّي بعضهم مع بعض للامتحان الّذي معه يصحّ الجزاء، و تولينا بأن لا نمنعهم عمّا يفعلون من الظّلم و الأفعال القبيحة بطريق القهر.

قال علي بن عيسى: نجعل بعضهم يتولّى أمر بعض للعقاب الّذي يجري على الاستحقاق. و قيل: معنى الآية أنّا كما وكلّنا أمر هؤلاء الظّالمين من الجنّ و الإنس

ص: 264


1- الصافات: 66.

بعضهم إلى بعض يوم القيامة فكذلك نكل الظالمين بعضهم إلى بعض و نكل الأتباع إلى المتبوعين و نقول للأتباع: قولوا للمتبوعين حتّى يخلصوكم من العذاب.

و لمّا حكى اللّه ما يجري بين الجنّ و الإنس من الخصام و الجدال يوم القيامة فقال في هذه الآية: و كما فعلنا بأولئك من الجمع بينهم في النّار و تولية بعضهم بعضا نفعل أيضا مثله بالظالمين في تولية بعضهم بعضا جزاء على كفرهم و أعمالهم القبيحة.

قال ابن عبّاس: إذا أراد اللّه بقوم خيرا ولّى أمرهم خيارهم و إذا أراد بقوم عذابا و شرّا لاستحقاقهم ولّى أمرهم شرارهم.

و جاء في بعض الكتب الإلهيّة: إنّي أنا اللّه ملك الملوك؛ قلوب الملوك بيدي فمن عصاني جعلتهم عليهم نقمة و من أطاعني جعلتهم عليهم رحمة؛ فلا تشتغلوا بسبّ الملوك و لكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم.

و في روح البيان: و في الحديث: الظّالم عدل اللّه في الأرض ينتقم به ثمّ ينتقم منه. و في المرفوع: يقول اللّه: أنتقم ممّن أبغض بمن أبغض، ثمّ اصيّر كلّا إلى النّار، و في الزّبور: إنّي لأنتقم من المنافق بالمنافق، ثمّ أنتقم من المنافقين جميعا.

فإن قيل: كيف يجوز وصفه بالظلم و ينسب إلى أنّه عدل من اللّه؟ فالجواب أنّ المراد بالعدل هنا ما يقابل بالفضل، فالعدل أن يعامل كلّ أحد بفعله: إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ، هذا على طريق أهل السنّة، و أمّا على طريق المعتزلة فإنّهم يوجبون عقوبة المسي ء و هو عين العدل.

و قيل: معنى قوله: «نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ» نتابع بعضهم بعضا في النار من الموالات الّتي هي المتابعة، أي يدخل بعضهم النّار عقيب بعض، عن قتادة.

[بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسبب ما كسبوا من الظّلم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 130 الى 132]

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ (131) وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

قوله تعالى:

ص: 265

هذه الآية من بقيّة ما يذكره اللّه في توبيخ الكفّار يوم القيامة و بيّن أنّه لا يكون إلى الجحود سبيل فيشهدون على أنفسهم بأنّهم كانوا كافرين.

يقول اللّه يوم القيامة للثقلين الجنّ و الإنس جميعا: [أَ لَمْ يَأْتِكُمْ في الدنيا [رُسُلٌ معيّن من اللّه [مِنْكُمْ و من جنسكم، و ذلك لأنّ الجنس إلى الجنس أميل كما أنّ جبرئيل و نحوه رسل الملائكة من جنسهم، و الاستيناس و الاستفادة في الجنسيّة أظهر.

فإن قيل: قد قام الإجماع على أنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان رسولا إلى الجنّ و الإنس و لم يكن صلى اللّه عليه و آله و سلّم من الجنّ؟ إنّما بعث الرّسول ثمّ كان يرسل هو إلى الجنّ رسولا منهم و يستفيد خواصّهم من الرسل فيكونوا رسل الرّسول إلى قومهم، و سليمان أيضا لم يبعث إلى الجنّ بالرّسالة العامّة بل بالملك و السياسة على بعضهم، و يؤيّد ما قاله ابن عبّاس أنّه ثبت أنّ نفرا من الجن قد استعملوا القرآن و أنذروا به قومهم، كما قال سبحانه:

«وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ» (1) فأولئك الجنّ كانوا رسل الرّسول فكانوا رسلا للّه تعالى، و الدّليل على صحّة هذا القول أنّه تعالى سمّى رسل عيسى رسل نفسه تعالى فقال: «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ» (2) و هما أرسلهما عيسى.

قال الواحديّ: قوله «رُسُلٌ مِنْكُمْ» أراد من أحدكم و هو الإنس، و هو كقوله:

«يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ» (3) أي من أحدهما و هو الملح الّذي ليس بعذب فإنّ اللّؤلؤ يخرج من الملح لا من العذب قوله: [يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي و يقرءونها لكم [وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا] يعني يوم القيامة يخوّفونكم منها و يخبرونكم عنها.

[قالُوا] جوابا عند ذلك التوبيخ الشديد: [شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا] و هو اعتراف منهم بالكفر و استحقاق العذاب و «شَهِدْنا» إنشاء الشهادة مثل بعت و اشتريت، و لفظ الماضي في الإنشاء لا يقتضي تقدّم الشهادة.

ص: 266


1- الأحقاف: 28.
2- يس: 13.
3- الرحمن: 22.

فإن قيل: كيف أقرّوا في هنا و هذه الآية، و جحدوه في قوله: «وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» (1) فالجواب أنّ مواقف القيامة كثيرة، و الأحوال فيها مختلفة فتارة يقرّون من شدّة خوفهم و تارة يجحدون فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه.

[وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا] كأنّه تعالى يبيّن سبب كفرهم بقوله: و غرّتهم الحياة الدّنيا [وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في الآخرة بالكفر أو يشهد جوارحهم بالشّرك و الكفر [أَنَّهُمْ كانُوا] في الدّنيا [كافِرِينَ بالآيات و النّذر، و هذا البيان تحذير للسّامعين من مثل حالهم حتّى لا يصيرون مثلهم.

[ذلِكَ أي إرسال الرّسل [أَنْ اللّام مقدّرة و هي مخفّفة أي لأنّ الشان [لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ أي بسبب ظلم أقدموا عليه حتّى يبعث إليهم رسلا ينبّهونهم و يزجرونهم و لا يؤاخذهم بغته، و هذا إنّما يكون منه تعالى على وجه الاستظهار في الحجّة دون أن يكون ذلك واجبا لأنّ ما فعلوه من الظلم قد استحقّوا به العقاب. و قيل: معناه أنّه تعالى لا يهلكهم بظلم منه على غفلة منهم من غير تنبيه و تذكير، عن الجبّائيّ و الفرّاء. مثل قوله: «وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ» (2) و في هذا دلالة على أنّه منزّه عن خلق الظلم و لو كان الظّلم من خلقه لما صحّ تنزّهه عنه، تعالى اللّه عن الظلم علوّا كبيرا. و ما قالته الأشاعرة: أنّه تعالى يحكم ما يشاء و يفعل ما يريد و لا اعتراض عليه لأحد في شي ء من أفعاله كلام تامّ صحيح لكن لا يصدر منه تعالى غير الحسن و هو منزّه عن القبيح و الظّلم، و إرادته و خلقه قبيح عقلا و نصّا مثل هذه الآية، و كيف يجوز أن ينسب إلى الحكيم الغنيّ القبيح مع أنّه غير مضطرّ إلى القبيح؟ النهاية أنّهم يقولون: لمّا صدر منه تعالى لا يكون قبيحا و هذه سفسطة. فمن موادّ الخلف بين الأشاعرة و المعتزلة هذا الكلام.

[وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا] أي و لكلّ من المكلّفين من الثقلين مؤمنين كانوا أو كافرين مراتب كائنة من أعمالهم صالحة كانت أو سيّئة؛ فلأهل الخير درجات في الجنّة

ص: 267


1- الانعام: 23.
2- هود: 119.

بعضها فوق بعض، و لأهل الشّرك و السيّئات دركات في النّار بعضها أشدّ عذابا من بعض. و فسّر الدرجات بالمراتب لأنّ الدرجات غلب استعمالها في الخير، و الكفّار لا درجة و لا ثواب خير لهم. قال الطبرسيّ: عبّر بالدرجات تغليبا لصفة أهل الجنّة.

[وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فيخفى عليه عمل عامل طاعة أو معصية.

[سورة الأنعام (6): الآيات 133 الى 135]

وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

قوله تعالى:

لمّا أمر سبحانه بطاعته عليها بيّن أنّه لم يأمر بها لحاجة لأنّه يتعالى عن النّفع و الضرر فقال: [وَ رَبُّكَ أي خالقك و سيّدك [الْغَنِيُ عن أعمال عباده و لا يحتاج إلى شي ء [ذُو الرَّحْمَةِ] مترحّم عليهم بالتّكليف تكميلا لهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم.

[إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيّها العصاة و يهلككم [وَ يَسْتَخْلِفْ و يجعل [مِنْ بَعْدِكُمْ أحياء من بعد إذهابكم [ما يَشاءُ] أي خلقا آخر أطوع للّه منكم و إيثار «ما» على كلمة «مِنْ» لإظهار الكبرياء و إسقاطهم بسبب المعاصي عن رتبة العقلاء.

[كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي كما خلقكم في الأوّل من قوم تقدّموكم و هم أهل سفينة نوح لكنّه أبقاكم ترحّما عليكم، و هذا خطاب لمن سبق ذكرهم من الجنّ و الإنس و يجوز أن يكون المعنى: و يستخلف جنسا آخر أي كما قدر على إخراج الجنّ من الجنّ و الإنس من الإنس فهو قادر على أن يخرج قوما آخر لا من الجنّ و لا من الإنس، و نبّه سبحانه على أنّ قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس من الخلق و استدلّ على ذلك بقوله: «كَما أَنْشَأَكُمْ».

ثمّ قال: [إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ أي مجي ء الساعة لأنّهم كانوا ينكرون القيامة، أو المراد أنّ جميع ما وعدوا به من الثواب و العقاب و الحساب و الجنّة و النّار و تفاوت أهل الدّركات لآت لا محالة [وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين ذلك و إن ركبتم في الهرب متن كلّ صعب و ذلول.

ص: 268

و في قوله: «وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ» يفيد الحصر بالبرهان فإنّه تعالى غنيّ في ذاته و صفاته و أفعاله و أحكامه من كلّ ما سواه؛ لأنّه لو كان محتاجا لكان مستكملا بذلك الفعل و المستكمل بغيره ناقص بذاته لأنّ كلّ إيجاب أو سلب يفرض فإن كانت ذاته كافية في تحقّقه وجب دوام ذلك الإيجاب أو ذلك السلب بدوام ذاته، و إن لم يكن كافية فحينئذ يتوقّف حصول تلك الحالة و عدمها على وجود سبب منفصل و عدمه، فذاته لا تنفكّ عن ذلك الثبوت و العدم، و هما موقوفان على وجود ذلك السّبب المنفصل فليزم كون ذاته موقوفة على الغير ممكن لذاته؛ فيكون حينئذ الواجب لذاته ممكنا لذاته و هو محال.

فثبت أنّه غنيّ على الإطلاق، فلا غنيّ إلّا هو، لأنّ واجب الوجود لذاته واحد و ما سواه ممكن لذاته، و الممكن لذاته محتاج فثبت الحصر بهذا البرهان.

و أمّا إثبات الحصر في كونه تعالى ذا و الرّحمة فالدّليل عليه أنّه لا شكّ أنّ ما يدخل في الوجود بإيجاده و تكوينه و تخليقه من الراحات و الكرامات و السعادات و غيرها فهو منه، و دلّ الاستقراء على أنّ الخير غالب على الشرّ؛ فإنّ المريض و إن كان كثيرا فالصّحيح أكثر منه، و الجائع و إن كان كثيرا فالشبعان أكثر منه، و الأعمى و إن كان كثيرا إلّا أنّ البصير أكثر منه؛ فالخير أكثر من الشرّ، و مبدأ تلك الخيرات هو اللّه و الواجب لذاته واحد و ما سواه ممكن و الرّحمة داخلة فيما سواه فإيجادها منه، فثبت صحّة الحصر.

فإن قيل: كيف يمكننا إنكار رحمة الوالدين على الوالد و المولى على العبد و كذلك سائر أنواع الرحمة؟ فالجواب أنّ كلّها من اللّه و هؤلاء وسائط جعلها اللّه لنظام العالم لأنّه تعالى ألقى الرّحمة و داعيتها في قلب الوالد و المولى، و بتسخير منه تعالى، ألا ترى أنّ الإنسان قد يكون شديد الغضب قاسي القلب على إنسان، ثمّ بسبب ينقلب رؤوفا عطوفا؟

فانقلابه من الحالة الاولى إلى الثانية بتسبيبه تعالى.

فمقلّب القلوب هو اللّه في جميع الخيرات فانحصرت الرّحمة به تعالى، على أنّه

ص: 269

ذلك الّذي تصوّرت أنّه شرّ مثل المرض و الفقر و الجوع مثلا إذا تأمّلت فهو خير أيضا، إمّا للمبتلى به أو بالنسبة إلى صلاح العامّة، و يعوّض المبتلى به سعادة و كرامة إن كان غير مستحقّ للابتلاء، و إن كان مستحقّا فهو مجازاة و المجازاة أيضا عدل و تفضّل.

و من المعلوم أنّ كلّ من أعطى غيره شيئا أو رحمة الوالدة لولدها إنّما يعطي و يرحم لطلب عوض، و هو إمّا الثناء في الدّنيا أو الثواب في الآخرة أو دفع الرقّة الجنسيّة عن القلب لكنّه تعالى يعطي لا لغرض من هذه الأغراض فثبت أنّ الرّحمة و تقليب القلوب منه بالبرهان قطعا للتسلسل.

[قُلْ يا محمّد لأهل مكّة و من خالف أمرك: [يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ المكانة مصدر بمعنى التمكّن و هو القوّة و الاقتدار، أي اعملوا على قدر تمكّنكم و نهاية استطاعتكم، و اثبتوا على كفركم و عداوتكم، و الأمر للتهديد من قبيل الاستعارة للشرّ المهدّد عليه بالمأمور به الواجب الّذي لا بدّ أن يكون، و يحتمل أن يكون المراد من المكانة الحالة الّتي هم ثابتين عليها، و ذلك مثل قوله: أثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه.

[إِنِّي عامِلٌ ما كتب عليّ من المصابرة و الثبات على الإسلام و الاستمرار على الأعمال الصّالحة [فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ] «من» استفهاميّة أو موصولة أي أيّنا تكون له العاقبة المحمودة الّتي خلق اللّه تعالى هذه الدار لها؟ [إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الضمير للشأن، لا يسعد و لا ينجو [الظَّالِمُونَ .

«و العاقبة» مصدر كالعافية، و تأنيثه غير حقيقيّ فمن أنّث فكقوله: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ»* (1) و من ذكّر فكقوله: وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ (2) و قال: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» (3) و في آية اخرى: «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ». (4) قوله تعالى:

ص: 270


1- الحجر: 73- 83.
2- هود: 70.
3- يونس: 58.
4- البقرة: 276.

[سورة الأنعام (6): آية 136]

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)

ثمّ عاد الكلام إلى حجاج المشركين و بيان اعتقاداتهم الفاسدة، فقال سبحانه، أي جعلوا كفّار مكّة و من تقدّمهم من المشركين، و الجعل هنا بمعنى الحكم [مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ و خلق من الزرع [وَ الْأَنْعامِ أي المواشي من الإبل و البقر و الغنم [نَصِيباً] و حظّا، و في الكلام حذف يدلّ عليه الكلام، و التقدير: و جعلوا الأوثان ممّا خلق من الحرث و الأنعام نصيبا.

[فَقالُوا هذا] النصيب [لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أي بادّعائهم الباطل من غير أن يكون ذلك بأمر اللّه [وَ هذا] النصيب [لِشُرَكائِنا] أي آلهتنا الّتي شاركونا في أموالنا من المتاجر و الزروع و الأنعام؛ و هو من الشركة لا من الشرك.

روي أنّهم كانوا يعيّنون شيئا من الحرث و النتاج للّه و يصرفونه إلى الضيفان و المساكين، و شيئا منها لآلهتهم و ينفقونه على سدنتها و يذبحونه عند الآلهة، ثمّ إن رأوا ما عيّنوا للّه أزكى رجعوا و جعلوا الأزكى لآلهتهم، و إن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لآلهتهم معتذرين بأنّ اللّه غنيّ. و كانوا يزرعون اللّه زرعا و للأوثان فما كان أزكى جعلوه لآلهتهم، و إذا كان زكا الزرع الّذي زرعوه للّه، و لم يزك الزرع الّذي زرعوه للأوثان و فسد جعلوا بعض زرع اللّه للأصنام و إن زكا الزرع الّذي زرعوه للأصنام و لم يزك الزرع الّذي زرعوه للّه لم يجعلوا منه شيئا للّه أصلا.

و قيل: كانوا إذا تخرّق الماء من الّذي للّه في الّذي للأصنام لم يسدّوه، و إذا تخرّق من الّذي للأصنام في الّذي للّه سدّوه، و قالوا: اللّه أغنى، عن ابن عبّاس و قتادة، و هو المرويّ عن أئمّتنا. و قيل: إذا هلك ما جعل للأصنام بدّلوه بما جعل للّه، و إذا هلك ما جعل للّه لم يبدّلوه بما جعل للأصنام.

[ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي ساء الحكم حكمهم من إيثار آلهتهم على اللّه و عملهم بما لم يشرع لهم و في كيفيّة الإساءة بسبب أنّهم رجّحوا جانب الأصنام في الحفظ و الأكثريّة على جانب اللّه، و جعلوا نصيبا للّه و نصيبا لغيره مع أنّه الخالق و المعطي للجميع، و هذا سفه فلو قرز نصب الأصنام، و كان هذا التقرير حسن لحسن إقراز النصب لكلّ حجر

ص: 271

و مدر (؟) و المقصود من بيان الآية أن يعرف الناس قلّة عقول القائلين بهذه المذاهب حتّى لا يلتفت إلى كلامهم أحد.

[سورة الأنعام (6): آية 137]

وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (137)

. قوله تعالى:

قوله «وَ كَذلِكَ» عطف على قوله «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ» أي كما فعلوا ذلك زيّن لكثير شركاؤهم قتل الأولاد، و المعنى: ذلك التّزبين و هو تزيين الشرك في قسمة الحرث و الأنعام للتقريب إلى اللّه و إلى آلهتهم زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم أولياؤهم من الشياطين أو من السدنة؛ فقوله «قَتْلَ» مفعول «زَيَّنَ» و «شُرَكاءَهُمْ» فاعله فذكر سبحانه قبائح عادات بعضهم من وأد البنات أحياء خوفا من الفقر أو من التزويج بغير كفو أو من السّبى و المزيّن لهم الحميّة الجاهليّة أو الشّياطين و السّدنة كما ذكرنا.

قيل: إنّ السّبب الاولى في هذه السنّة الملعونة أنّ النعمان بن المنذر أغار على قوم فسبى نساءهم و كانت فيهنّ بنت قيس بن عاصم ثمّ اصطلحوا فأرادت كلّ امرأة منهنّ عشيرتها غير ابنة قيس فاختار سابئها على قيس فحلف قيس أن لا يولد له بنت إلّا و أدها فصار ذلك عادة فيهم [لِيُرْدُوهُمْ أي ليهلكوهم و اللّام لام العاقبة أو الصّيرورة، أي ليهلكوهم بالإغواء.

[وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي يخلطوا عليهم دينهم بإلقاء البدع و الشّبهات فيه [وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ أي لو شاء اللّه أن يمنعهم من ذلك بأن يضطرّهم إلى ترك هذه الأمور لفعل؛ و لكن كان ذلك مناف للتكليف [فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ أي دعهم و افترائهم فإنه يجازيهم، و في الآية دلالة على أنّ تزيين القتل و القتل فعلهم بصريح الآية و أنّ من أضاف ذلك إلى اللّه كاذب؛ فاللّام للتعليل إن كان التزيين من الشّياطين و للعاقبة إن كان من السّدنة إذا لم يكن قصد السدنة الإرداء و اللّبس، و إذا كان قصدهم الإرداء فالتّزيين من الشياطين و من السّدنة كليهما.

[سورة الأنعام (6): آية 138]

وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)

قوله تعالى:

ص: 272

ثمّ حكى سبحانه عن المشركين عقيدة من عقائدهم الفاسدة فقال: [وَ قالُوا هذِهِ إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم [أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ] أي حرام، و فلان في حجر القاضي أي في منع القاضي [لا يَطْعَمُها] و لا يذوقها [إِلَّا مَنْ نَشاءُ] يعنون خدم الأوثان و الرجال دون النساء بزعمهم الباطل، أي قالوه بزعمهم الفاسد من غير حجّة.

[وَ أَنْعامٌ خبر مبتدأ محذوف عطف على قوله «هذِهِ أَنْعامٌ» أي قالوا مشيرين إلى طائفة اخرى من أنعامهم، أي و هذه أنعام [حُرِّمَتْ ظُهُورُها] يعنون بها البحائر و السوائب و الحوامي.

و أنعام أي و هذه أنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها، كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يذكرون اسم اللّه عليها و لا في شي ء من شأنها بل كانوا لا يحجّون عليها، و هي الّتي إذا زكوها و ذبحوها أهلّوا عليها بأصنامهم فلا يذكرون اسم اللّه عليها.

[افْتِراءً عَلَيْهِ منصوب بقوله «لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ» و كانوا يقولون: إنّ اللّه أمرهم بذلك و كانوا كاذبين و مفترين على اللّه بهذا القول [سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ بسبب افترائهم.

[سورة الأنعام (6): آية 139]

وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)

. قوله تعالى:

ثمّ ذكر سبحانه عن المشركين مقالة اخرى فقال: [وَ قالُوا] يعني هؤلاء الّذين تقدّم ذكرهم ما في بطون هذه الأنعام يعنون به أجنّة البحائر و السوائب خالصة لذكورنا قيل: المراد ألبانها أيضا و السّبب ما ولد منها حيّا فهو خالص للذّكور دون الإناث، و ما ولد ميّتا أكله الرّجال و النّساء قيل: المراد: كلاهما خالصة لذكورنا لا يشركهم فيها أحد من الإناث و سمّي الذّكور من الذكر الّذي هو الشّرف لأنّ

ص: 273

الذّكر أنبه و أعلى و أذكر منه الأنثى [وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا] أي نسائنا و هذا الحكم منهم إن ولد ذلك حيّا.

[وَ إِنْ يَكُنْ المولود [مَيْتَةً] يعني ولدت و هي ميتة [فَهُمْ فِيهِ يعني ما في البطون من الأنعام شركاء يأكلون منه جميع ذكورهم و إناثهم.

[سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي جزاء وصفهم الكذب على اللّه في أمر التّحليل و التحريم [إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تعليل للوعد بالجزاء فإنّ الحكيم العليم بما صدر عنهم لا يترك جزاءهم الّذي من مقتضيات الحكمة.

[سورة الأنعام (6): آية 140]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

جواب قسم مقدّر [خَسِرَ] و هم ربيعة و مضر و أضرابهم من العرب الّذين جمعوا بين الأمرين من وأد البنات خوف الفقر و العار، و تحريم ما رزقهم اللّه فخسروا دينهم و دنياهم على طريق السّفاهة و عدم العلم و الافتراء على اللّه بقولهم: أمرنا اللّه بذلك التحريم.

و كلّ هذه الأمور من موجبات الخسران دنيا و دينا لأنّهم يستحقّون الذمّ و العصم في الدّنيا؛ فلأنّ النّاس يقولون: قتل ولده خوفا من أن يأكل طعامه و ليس ذمّ أشدّ منه و أمّا العقاب في الآخرة فلأنّه لا ظلم أشدّ منه و تخريب بنيان اللّه فكان موجبا لأعظم أنواع العقاب.

و لا شكّ أنّ قتل الولد إذا كان موجبه خوف الفقر، و الفقر و إن كان ضررا إلّا أنّ قتل الولد أعظم ضررا منه، و القتل ناجز، و ذلك الفقر محتمل موهوم فالتزام أعظم المضارّ على سبيل القطع حذرا من ضرر قليل موهوم لا شكّ أنّه سفاهة و السّفاهة الخفّة المذمومة النّاشئة من الجهل و الحماقة.

[سورة الأنعام (6): آية 141]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)

قوله تعالى:

ص: 274

لمّا حكى سبحانه عن المشركين أنّهم جعلوا بعض الأشياء للأوثان عقّب ذلك لبيان بأنّه الخالق لجميع الأشياء فلا يجوز إضافة شي ء منها إلى الأوثان من التحليل و التحريم إلّا بإذنه؛ فقال: [وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ] لإقامة الدّلائل على تقرير التّوحيد أي إنّه سبحانه خلق و أبدع لا على مثال [جَنَّاتٍ فيها الأشجار المختلفة.

[مَعْرُوشاتٍ أي مرفوعات بالدعائم و هو ما عرشه الناس من الكروم و نحوها عن ابن عبّاس و السدّيّ: و قيل: عرشها أن تجعل لها حظائر كالحيطان، و أصله الرفع و منه قوله: «خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها»* (1) أي ما ارتفع منها [وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ يعني ما خرج من قبل نفسه من الجبال و البراري، أو المراد من غير «مَعْرُوشاتٍ» ما كانت قائمة على أصولها مستغنية عن التعريش. عن أبي مسلم.

[وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ قال ابن عبّاس: الزرع هاهنا جميع الحبوب الّتي يقتات بها [مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي طعمه و قيل: ثمره، فأنشأ سبحانه هذه الأشياء مختلفة الطّعوم و الألوان و الصورة، فبعضها مختلفا في الصورة و متّفقا في الطعم و بعضها مختلفا في الطعم و متّفقا في الصورة، و كلّ ذلك يدلّ على توحيده و قدرته على ما يشاء.

و قوله «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ» نصب على الحال من أنشأ، و المعنى مقدّرا اختلاف اكله إذ ليس كذلك وقت الإنشاء أي أنشأ كلّ واحد منهما في حال اختلاف ثمره الّذي يؤكل بعد في الطعم و الهيئة و اللّون، و ذلك مثل قولهم: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدّرا الصّيد به غدا.

[وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ أي أنشأهما حالكونهما بعض أفرادهما يتشابه بالبعض و بعضها لا يتشابه مثل الرمّانين لونهما واحد و طعمهما مختلف؛ فأحدهما حلو و الآخر حامض.

[كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ] و الأمر للإباحة، و فائدة التقييد بقوله: «إِذا أَثْمَرَ» إباحة الأكل منه قبل إدراكه و ينعه، قال الجبّائيّ و جماعة: هذا يدلّ على جواز الأكل من الثمر و إن كان فيه حقّ الفقراء.

ص: 275


1- الحج: 44.

[وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ أمر بإيتاء الحقّ يوم الحصاد على الجملة، و الحقّ الّذي يجب إخراجه يوم الحصاد فيه قولان: أحدهما أنّه الزّكاة، عن ابن عبّاس و جماعة مثل محمّد بن الحنفيّة و زيد بن أسلم و الحسن و سعيد بن المسيّب و قتادة و الضحّاك و طاوس، و القول الثاني أنّه ما تيسّر ممّا يعطى المساكين، عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام و عطاء و مجاهد و ابن عمر و سعيد بن جبير و الرّبيع بن أنس.

قال الطبرسيّ: و روى أصحابنا أنّه الضغث بعد الضغث و الحفنة بعد الحفنة، و قال إبراهيم و السّديّ: الآية منسوخة بفرض العشر و نصف العشر؛ لأن هذه الآية مكيّة و فرض الزكاة مدنيّة، و لمّا روي أنّ الزّكاة نسخ كلّ صدقة، قالوا: و لأنّ الزكاة لا يخرج يوم الحصاد، لكن قال عليّ بن عيسى: و هذا غلط لأنّ «يَوْمَ حَصادِهِ» ظرف ل «حَقَّهُ» و ليس بظرف لإيتاء المأمور به.

[وَ لا تُسْرِفُوا] أي في التّصدّق بأن لا تبقوا لأنفسكم و للعيال شيئا كما فعل ثابت بن قيس بن شماس (1) فإنّه صرم خمسين نخلة و تصدّق بالجميع و لم يدخل منه شيئا في داره لأهله.

و قيل: المعنى: و لا تقصّروا بأن تمنعوا الواجب من الحقّ، قالوا: و التقصير أيضا سرف، عن سعيد بن المسيّب.

و ثالث الأقوال أن لا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كي لا يؤدّي إلى بخس حقّ الفقراء، عن أبي مسلم.

و رابع الأقوال أنّه لا تنفقوه في المعصية و لا تضعوه في غير موضعه، و في جميع هذه الأقوال الخطاب لأرباب الأموال.

و خامس الأقوال أنّ الخطاب للأئمّة، و المعنى: لا تأخذوا ما يجف بأرباب الأموال و لا تأخذوا فوق الحقّ، عن ابن زيد.

و سادس الأقوال أنّ الخطاب للجميع بأن لا يسرف ربّ المال في الإعطاء و لا الإمام في الأخذ و صرف ذلك إلى غير مصارفه.

ص: 276


1- خزرجى، خطيب الأنصار؛ خطب مقدم رسول اللّه صم المدينة فقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا و أولادنا. شهد أحد و ما بعدها من المشاهد قتل يوم اليمامة. راجع الإصابة «ج 1: 197» الاستيعاب «ج 1: 195.»

[إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ المعنى ظاهر لأنّه تعالى لا يرضى فعلهم، قال الزهريّ المراد من قوله: «وَ لا تُسْرِفُوا» هو المعنى الرابع الّذي ذكر بأنّه لا تنفقوا في معصية اللّه. قال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة اللّه لم يكن مسرفا و لو أنفق درهما في معصية اللّه كان مسرفا، و هذا المعنى أراده حاتم الطائيّ حين قيل له: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.

[سورة الأنعام (6): الآيات 142 الى 144]

وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

قوله تعالى:

لما ذكر سبحانه كيفيّة إنعامه على عباده بالمنافع النباتيّة أتبعها بذكر إنعامه عليهم بالمنافع الحيوانيّة فقال: [وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً] عطف على قوله: «وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ» أي و أنشأ من الأنعام حمولة و فرشا، الحمولة ما تحمل الأثقال.

الحمولة بفتح الحاء الإبل و لا واحد لها من لفظها كالرّكوبة و الحرورة، و الحمولة بضمّ الحاء هي الأحمال، و المراد من الفرش ما يفرش للذبح أو المراد ما ينسج من صوفه و وبره و شعره للفرش.

و قيل: المراد من الحمولة الكبار الّتي تصلح للحمل و الفرش الصغار كالفصلان و العجاجيل و الغنم لأنّها دانية من الأرض بسبب صغر أجرامها.

ثمّ قال: [كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يريد ما أحلّها لكم، قالت المعتزلة: إنّه تعالى أمر بأكل الرزق و منع من أكل الحرام ينتج أنّ الرزق ليس بحرام، و تخصيص الأكل بالذكر في الآية من غير تعرّض للانتفاع بالحمل و الركوب و غير ذلك لكونه معظم الانتفاع و إشعار بمنع ما حرّموه في السائبة و أخواتها.

[وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تسلكوا الطريق الّذي سوّلها الشيطان لكم

ص: 277

في أمر التحليل و التحريم؛ فإنّه لا يدعوكم إلّا إلى المعصية [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة و قد أبان عداوته لأبيكم آدم عليه السلام.

ثمّ فسّر سبحانه الحمولة و الفرش فقال: [ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي و أنشأ ثمانية أزواج إنشاء و «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» بدل من «حَمُولَةً وَ فَرْشاً» و الزّوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه و معناه ثمانية أفراد لأنّ كلّ واحد من ذلك يسمّى زوجا لأنّه الآخر؛ فالذكر زوج الأنثى و الأنثى زوج الذكر، كما قال سبحانه: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» (1) و قيل: معناه: ثمانية أصناف.

[مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يعنى الذكر و الأنثى. و الضأن ذوات الصوف من الغنم، و واحد الضأن ضائن و الأنثى ضائنة.

[وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ الذكر و الأنثى و المعز ذوات الشعر من الغنم و واحد المعز ما عز. و قيل المراد بالاثنين: الأهليّ و الوحشيّ خصّ هذه الثمانية لأنّها جميع الأنعام الّتي كانوا يحرّمون منها يحرّمونه و يجعلون منها نصيبا لآلهتهم على ما تقدّم شرحه.

[قُلْ يا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم لهؤلاء المشركين الّذين يحرّمون ما أحلّ اللّه: [آلذَّكَرَيْنِ من الضأن و المعز و من دينك النوعين و هما الكبش و التيس [حَرَّمَ اللّه كما تزعمون أنّه هو المحرّم [أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منهما و هما النعجة و العنز؟ [أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أي أم ما حملت إناث النوعين ذكرا كان أو أنثى حرّم؟.

[نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ و أخبروني بأمر معلوم من جهة اللّه؛ من أيّ كتاب و سنّة جعلتم هذه البدعة القبيحة [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التّحريم؟.

[وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ عطف على قوله تعالى: «مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ» أي و أنشأ من الإبل اثنين هما الجمل و الناقة [وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ذكرا و أنثى.

[قُلْ يا محمّد إفحاما لهم أيضا: [آلذَّكَرَيْنِ منهما [حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من ذينك النّوعين؟.

ص: 278


1- الأحزاب: 37.

و حاصل المعنى إنكار أنّ اللّه حرّم عليهم شيئا من الأنواع الأربعة ذكرا و أنثى أو ما يحمل إناثها ردّا عليهم فإنّهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام كالحام فإنّه إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرّموه و لم يمنعوه ماء و لا مرعى، و قالوا: قد حمى ظهره، و كالوصيلة فإنّ الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم و إن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم و إن ولدتهما وصلت الأنثى أخاها و يحرّمون إناثها تارة، و كالبحيرة و السائبة فإنّه إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا اذنها و خلّوا سبيلها؛ فلا تركب و لا تحلب.

و كان الرّجل منهم يقول: إن شفيت فناقتي سائبة و يجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، و كانوا إذا ولدت النوق البحائر و السوائب فصيلا حيّا حرّموا لحم الفصيل على النساء دون الرّجال و إن ولدت فصيلا ميّتا اشترك الرّجال و النساء في لحم الفصيل و لا يفرّقون بين الذكور و الإناث في حقّ الأولاد، و قد أشرنا إلى هذا البيان سابقا.

[أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ] أي أ كنتم حضورا إذ وصّاكم اللّه بهذا و أمركم به؟ و المراد أنّكم أعلتموه بالسمع و الكتب المنزلة و أنتم لا تقرّون بذلك أم شافهكم اللّه به؟ و إذا لم يكن واحدا من الأمرين سقط المذهب و علم بطلانه.

[فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] أي من أظلم لنفسه ممّن كذب على اللّه أضاف إليه تعالى ما لم يكن في أمره و حكمه. و حاصل الآية أنّ المشركين من أهل الجاهليّة لمّا حرّموا بعض الأنعام من عند أنفسهم فاحتجّ اللّه عليهم على إبطال قولهم بأنّه تعالى إن كان حرّم من هذه الأنعام الذّكر منها وجب أن يكون كلّ ذكورها حراما و إن كان حرّم الأنثى وجب أن يكون كلّ إناثها حراما، و كذلك قوله: «أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ» أي إن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلّها لأنّ الأرحام تشتمل على الذكور و الإناث فلمّا لم يكن كذلك فثبت أنّها بدع اخترعوها من عند أنفسهم.

و قال الرازيّ: الأقرب في تفسير الآية عندي غير ما فسّره المفسّرون، و هو أنّه المراد من الآية أنّكم لا تقرّون بنبوة نبيّ، و لا تعرفون شريعة شارع فكيف تحكمون

ص: 279

بأنّ هذا يحلّ و أنّ ذلك يحرّم، و تثبتون هذه الأحكام المختلفة.

[لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال ابن عبّاس: يريد عمرو بن لحيّ لأنّه هو الّذي غيّر شريعة إسماعيل، قال الرازيّ: و الأقرب أن يكون هذا محمولا على كلّ من فعل ذلك و افترى على اللّه لأنّ اللفظ عامّ و العلّة الموجبة لهذا الحكم عامّة، فالتخصيص تكلّف و تحكّم. و قال المحقّقون: إذا ثبت أنّ من افترى على اللّه الكذب في تحريم مباح استحقّ هذا الوعيد الشديد فمن افترى على اللّه الكذب في مسائل التوحيد و معرفة الصفات و النبوّات و مباحث المعاد كان وعيده أشدّ و أشقّ.

قال القاضي: و دلّ ذلك على أنّ الإضلال عن الدين مذموم لا يليق باللّه لأنّه تعالى إذا ذمّ الإضلال الّذي ليس فيه إلّا تحريم المباح فالّذي هو أعظم منه أولى بالذمّ.

و أجاب الرازيّ عن كلام القاضي أنّه ليس كلّ ما كان مذموما منّا كان مذموما من اللّه؛ ألا ترى أنّ الجمع بين العبيد و الا ماء و تسليط الشهوة عليهم و تمكينهم من أسباب الفجور مذموم منّا و غير مذموم من اللّه؟ فكذا هاهنا.

أقول: و بئس ما قاس الرازيّ؛ ففرّق بين المقيس و المقيس عليه، فما أجابه الرازيّ ما أقربه إلى الشعوذة! لأنّه من المعلوم عند العقول أنّ الضلالة ضدّ الهداية فكذلك الإضلال و هو منكر عند كل ذي لبّ كما أنّ الهداية معروف و حسن عند كلّ عاقل، فكيف ينسب إليه القبيح مع أنّه أولى بالمعروف؟ و القول بأنّه متى ما نسب إليه تعالى خرج الموضوع عن حدّ القباحة سفسطة و شعوذة.

[سورة الأنعام (6): الآيات 145 الى 147]

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)

قوله تعالى:

لمّا بيّن في الآية السابقة فساد طريقة المشركين فيما يحلّ و يحرّم أتبعه بالبيان الصحيح في هذه الآية فقال:

ص: 280

[قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار [لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ أي ما أوحاه اللّه إليّ شيئا [مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي على آكل يأكله [إِلَّا أَنْ يَكُونَ المأكول [مَيْتَةً] و قرء بالتاء أي أن تكون العين أو الجثّة أو النفس ميتة، و قرء ميتة بالرفع على معنى إلّا أن تقع و تحدث ميتة [أَوْ دَماً مَسْفُوحاً] أي مصبوبا و إنّما خصّ المصبوب بالذكر لأنّ ما يختلط باللّحم من الدم لا يمكن تخليصه منه معفوّ عنه مباح [أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي الخنزير قذر، أو الضمير إلى اللحم، و تخصيصه مع أنّ لحمه و شحمه و شعره و عظمه و جميعه نجس و حرام لكونه أهمّ ما فيه، و لأنّه يؤكل فالحلّ و الحرمة أضيف إليه أصالة و إلى غيره تبعا [أَوْ فِسْقاً] عطف على قوله أو لحم خنزير و لذلك نصب [أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ذكر وقت ذبحه اسم الأصنام و الأوثان و سمّي ما ذكر عليه اسم الصنم فسقا لخروجه عن أمر اللّه، و أصل الإهلال رفع الصوت بالشي ء.

و إنّما خصّ الأشياء المذكورة بذكر التحريم مع أنّ غيرها محرّم؟ فإنّه سبحانه ذكر في المائدة تحريم المنخنقة و الموقوذة و المتردّية و غيرها لأنّ جميع ذلك تقع عليه اسم الميتة فيكون في حكمها.

و أجود من هذا أن يقال: إنّه سبحانه خصّ هذه الأشياء بالتحريم تعظيما لحرمتها، و بيّن تحريم ما عداها في مواضع اخرى، إمّا بنصّ القرآن و إمّا بوحي غير القرآن، و أيضا أنّ هذه السورة مكّيّة و المائدة مدنيّة و يجوز أن يكون غير ما في الآية من المحرّمات إنّما حرّم فيما بعد، و الميتة في الآية عبارة عمّا كان فيه حياة فقدت من تذكية شرعيّة.

ثمّ إنّه تعالى قال: «أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» فإنّه رجس و معناه: أنّه تعالى حرّم لحم الخنزير لكونه نجسا؛ فهذا يقتضي أنّ النجاسة علّة لتحريم الأكل فوجب أن يكون كلّ نجس أكله حراما فيشمل الحكم في كلّ ما هو نجس مثل الخمر، و قال أيضا:

«وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» (1) و ذلك يقتضي تحريم كلّ الخبائث؛ و النجاسات خبائث.

ص: 281


1- الأعراف: 156.

[فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ] أي فمن أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شي ء في ذلك غير باغ على مضطرّ مثله و لا عاد و متعدّ حدّ الضرورة [فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ في المغفرة و الرحمة لا يؤاخذه بذلك.

قوله [وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا] أي على اليهود خاصّة لا على غيرهم من الأوّلين و الآخرين [حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ] اختلف في معناه؛ فقيل: هو ما يكون ليس بمنفرج الأصابع كالإبل و النعام و الإوز (1) و البطّ، عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير و قتادة و السديّ و مجاهد.

و قيل: هو الإبل، عن ابن زيد.

و قيل: يدخل فيه كلّ ما يصطاد بظفره، عن الجبّائيّ؛ فقال: كلّ ذي مخلب من الطير و كلّ ذي حافر من الدوابّ.

و قيل: ماله إصبع سواء كان ما بين أصابعه منفرجا كأنواع السباع أو لم يكن منفرجا كالإبل و النعام. و كان بعض ذوات الظفر حلالا لهم فلمّا ظلموا عمّ التحريم.

[وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا] متعلّق بقوله حرّمنا [عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما] لا لحومهما فإنّها باقية على الحلّ و الشحوم الثروب (2) و شحوم الكلية [إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما] استثناء من الشحوم، ما حملت ظهورهما من الشحم و هو اللحم السمين من شحم الكتفين إلى الوركين من داخل و خارج فإنّه لم يحرّم عليهم [أَوِ الْحَوايا] أي ما حملته الحوايا من الشحم و الحوايا جمع حاوية و هي ما يحوي في البطون فاجتمع و استدار و تسمّى المباعر و المصارين فإنّ شحومها كانت محلّلة لهم و مستثناة.

[أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ عطف على ما حملت ظهورهما قيل: هو شحم الألية، و اختلاطه بالعظم اتّصاله بالعصعص و هو عجب الذنب و أصله، و يقال: إنّه أوّل ما يخلق و آخر ما يبلى، و بالجملة فهو مستثنى من جملة ما حرّم، و قيل: الألية لم تدخل في الاستثناء عن الجبّائيّ. فكأنّه لم يعتدّ بعظم العصعص و لم يحسبه من العظم، و على هذا فالمراد

ص: 282


1- بكسر ثم فتح الاوزة: طائر مائي.
2- الثروب جمع الثرب و هو الشحم الرقيق الذي على الكرش و الأمعاء.

شحم الجنب فقط دون الألية.

قال الزجّاج: إنّما دخلت «أو» هاهنا على طريق الإباحة مثل قوله تعالى: «وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» (1) و المراد الجمع أي لا تطع الآثم و لا تطع الكفور فكذلك في الآية.

[ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ أي ذلك التحريم بسبب ظلمهم من أكل أموال الناس بالباطل و أخذهم الربا و غيرها من المعاصي، و كانوا كلّما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شي ء ممّا أحلّ اللّه لهم، و قد أنكروا ذلك و ادّعوا أنّها لم تزل محرّمة على الأمم الماضية فردّ اللّه عليهم ذلك.

و قيل: إنّ ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطّير و الشحوم فحرّم اللّه ذلك ببغيهم على فقرائهم، ذكره علىّ بن إبراهيم في تفسيره.

[وَ إِنَّا لَصادِقُونَ في الإخبار عن بغيهم و التحريم و في كلّ شي ء. فصار حاصل الآية أنّ شحوم الغنم و البقر حرّم على اليهود ثمّ استثني عن هذا التحريم ثلاثة أنواع:

الأوّل: ما حملت ظهورهما؛ أي إلّا ما علّق بالظهر من الشحم فإنّي لم احرّمه أو الجنب أيضا من داخل بطونهما على قول قتادة. و الاستثناء الثاني: الشحم الملتصق بالمصارين. و الاستثناء الثالث: كلّ شحم مختلط بالعظم قال ابن جرع: و هو كلّ شحم في القائم و الجنب و الرأس و في العينين و الأذنين؛ فقال: إنّه اختلط بعظم حتّى الألية فهو حلال لهم، و على هذا التقدير فالحشم الّذي حرّمه اللّه عليهم هو الثروب و شحم الكلية.

[فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي إن نسبوا إليك الكذب فيما تقول فقل لهم: إنّ اللّه ذو رحمة واسعة كذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة بل يمهلكم؛ و لا يدفع عذابه إذا جاء وقته عن المكذّبين لك.

[سورة الأنعام (6): الآيات 148 الى 149]

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)

قوله تعالى:

ص: 283


1- الدهر: 24.

لمّا حكى سبحانه عن أهل الجاهليّة في إقدامهم على الحكم في دين اللّه بغير حجّة و لا دليل حكى عنهم عذرهم في كلّ ما يقدمون عليه من الكفر فيقولون: [لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا] و لمنعنا عن الكفر، و حيث لم يمنعنا عنه ثبت أنّه يريد ذلك؛ فكنّا معذورين فيه، و كذلك ما أشرك آباؤنا و لا كنّا نحرّم شيئا من ذلك، أرادوا أنّ ما فعلوه حقّ مرضيّ عند اللّه.

[كَذلِكَ أي كهذا التّكذيب و هو قولهم: إنّا إنّما أشركنا و حرّمنا لكون ذلك مرضيّا عند اللّه و إنّك يا محمّد كاذب فيما قلت من أنّ اللّه منع الشرك و لم يحرّم ما حرّمتموه [كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كذّبوا متقدّميهم الرسل [حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا] الّذي أنزلنا عليهم. و العذاب الّذي ورد بهم بتكذيبهم.

[قُلْ يا محمّد لهم [هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ من أمر معلوم يصحّ الاحتجاج به على ما زعمتم [فَتُخْرِجُوهُ لَنا] و تظهروه [إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ أي ما تتّبعون فيما أنتم عليه من الشرك و التّحريم إلّا الظنّ الباطل من غير علم و يقين [وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ و تكذبون على اللّه بالتخمين.

[قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ] الفاء جواب شرط محذوف أي و إذا قد ظهر أن لا حجّة لكم فللّه الحجّة البالغة و البيّنة الواضحة، و المراد بالحجّة البالغة الكتاب و الرسول و البيان [فَلَوْ شاءَ] هدايتكم جميعا قهرا [لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بالحمل على الهداية إجبارا و لكن لم يشأ بطريق الجبر، و لكن شاء هداية قوم بصرف اختيارهم إلى سلوك طريق الحقّ حتّى يصحّ التكليف، و المشيئة الاولى مشيئة الاختيار، و الثانية مشيئة الإلجاء.

و قيل: المراد أنّه لو شاء لهداكم إلى نيل الثواب و دخول الجنّة ابتداء من غير تكليف، و لكنّه لم يفعل ذلك بل كلّفكم و عرّضكم للثواب، و لو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر من أن شاء اللّه منهم الكفر لكانت الحجّة للكافر على اللّه من حيث

ص: 284

فعلوا ما شاء اللّه، و لكانوا بذلك مطيعين له لأنّ الطاعة هي امتثال الأمر المراد، و لا يكون الحجّة للّه تعالى عليهم على قولهم من حيث إنّه خلق الكفر فيهم و أراده منهم فأي حجّة له تعالى عليهم مع ذلك؟

ثمّ بيّن سبحانه تعالى أنّ الطريق الموصل إلى صحّة مذاهبهم منسدّ غير ثابت من حجّة عقليّة و لا سمعيّة و ما هذه صفته فهو فاسد لا محالة؛ فقال: [قُلْ يا محمّد [هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ أي هاتوا شهداءكم الّذين يشهدون بصحّة ما تدّعونه من [أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا] و هم قدوتهم الّذين ينصرون قولهم و كبراؤهم المقبولين عندهم و ليس المراد كلّ من يشهد بصحّة دعواهم كائنا من كان، و لذلك قيّد الشهداء بالإضافة إليهم، فيشهدون أنّ ما جعلناه حراما من قول اللّه و كتابه.

[فَإِنْ شَهِدُوا] بعد ما حضروا بأنّ حرّم هذا [فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي فلا تصدّقهم فإنّه كذب محض، و بيّن لهم فساده، و حاصل المعنى: إن لم يجدوا شاهدا يشهد لم على تحريمها غيرهم و شهدوا بأنفسهم فلا تشهد أنت معهم و إنّما نهاه عن الشهادة معهم لأنّ شهادتهم باطلة.

فإن قيل: كيف دعاهم إلى الشهادة ثمّ منع نبيّه فقال: «و لا تشهد معهم»؟

لأنّه تعالى أمرهم أن يأتوا بالعدل و الّذين يشهدون بالحقّ، و ذلك لا يكون؛ فإذا لم يجدوا ذلك و شهد جهّالهم لأنفسهم فلا ينبغي أن تقبل شهادتهم و تشهد معهم لأنّها ترجع إلى دعوى الباطل. و قيل: معنى الآية من قوله: «هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ» أراد سبحانه هاتوا شهداءكم من غيركم و لم يكن أحد غير العرب يشهد على ذلك، لأنّ العرب شرّعوا هذه البدع من عند أنفسهم.

[وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] الخطاب للنبيّ، و المراد الامّة أي لا تتبّع أهواء المكذّبين كعبدة الأوثان، و الموصول الثاني في قوله [وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] عطف على الموصول الأوّل بطريق عطف الصّفة على الصّفة مع اتّحاد الموصوف فإنّ الّذي يكذّب بآياته لا يؤمن بالآخرة و بالعكس [وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يجعلون له عديلا عطف على لا يؤمنون.

ص: 285

فالمعنى: لا تتبّع أهواء الّذين يجمعون بين تكذيب اللّه و بين الإشراك به سبحانه و هم جامعون لهذه الأمور متّصفون بكلّها و اعلم أنّ اللّه تعالى أحل الطيّبات لعلمه بصلاحها و حرّم الخبائث كالخمر و الميتة و الدم و الخنزير لعلمه تعالى بفسادها، و ما حرّمه اللّه إمّا أن يكون بلاء و نقمة بلاء و نقمة كما فعل سبحانه باليهود جزاء على معصيتهم، و إمّا أن يكون التحريم رحمة و منّة مثل أنّ فيه ضررا نفسانيّا كضرر السمّ و أمثاله أو ضررا روحانيّا كضرر لحوم السباع و المؤذيات و أمثالها؛ فإنّه يتعدّى أخلاقها بإحداث الأخلاق الفاسدة كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الرّضاع يغيّر الطباع. (1) قيل: لمّا دخل الشيخ أبو محمّد الجوينيّ بيته و وجد ابنه أبا المعالي يرتضع ثدي غير أمّة اختطفه منها ثمّ نكس رأسه و مسح بطنه و أدخل إصبعه في فيه و لم يزل يفعل ذلك حتّى قاء و خرج اللّبن من بطنه قائلا: يسهل عليّ موته و لا يفسد طبعه لشرب لبن غير امّه ثمّ إنّ أبا المعالي لمّا كبر كان له كبوة بعض الأوقات في المناظرة يقول الشيخ: هذه من بقايا تلك الرضعة و في الحديث: عليكم بألبان البقر و سمنانها و إيّاكم و لحومها فإنّ ألبانها و سمنانها دواء و شفاء و لحومها داء انتهى.

[سورة الأنعام (6): آية 151]

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

قوله تعالى:

[قُلْ يا محمّد لكفّار مكّة: [تَعالَوْا] أمر من تعالى، و الأصل فيه أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو في مكان أسفل منه ثمّ اتسع فيه بالتعميم يتكلّم به كلّ من طلب أن يتقدّم و يقبل إليه سواء كان الطالب في علو أو سفل أو غيرهما.

[أَتْلُ جواب الأمر أي أقرؤ [ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أي أقرؤ الآيات المشتملة بالتحريم «عَلَيْكُمْ» متعلّق بحرّم [أَلَّا تُشْرِكُوا] «أن» مفسّرة و «لا» ناهية [بِهِ تعالى [شَيْئاً] من الأشياء. بدأ سبحانه بالتوحيد و نهى الشرك، و قدّم الشرك لأنّه رأس المحرّمات، و لا يقبل اللّه معه شيئا من الطّاعات.

ص: 286


1- راجع فيه فروع الكافي «ج 1: 3 و 93.»

[وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً] أي و أحسنوا بالوالدين إحسانا، و أوصينا بهما إحسانا و قد جعل اللّه بحكمه الشرعيّ نعم الوالدين تالية نعمه؛ فأمر تعالى بالإحسان إليهما بعد الأمر بعبادته.

[وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ أي لا تدفنوا بناتكم حيّة [مِنْ إِمْلاقٍ من أجل فقر، و و الإملاق نفاذ الزاد و النفقة، من الملق و هو بذل المجهود في طلب المراد [نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ لا أنتم، فلا نخافوا الفقر بناء لعجزكم عن تحصيل الرزق، و هذا هو الحكم الثالث من الأحكام التسعة.

و إنّما حرّم اللّه قتل الأولاد للظلم، و لما فيه من هدم بنيان اللّه، و ملعون من هدم بنيانه، و فيه إبطال ثمرة شجرته و قطع نسله و ترك التوكّل في أمر الرزق يؤدّي إلى تكذيب اللّه لأنّه قال: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» (1).

[وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ أي الزنا و جي ء بصيغة الجمع قصدا إلى النهي عن أنواعها و لذلك أبدل منها بدل اشتمال قوله: [ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أرذالهم، و ما يفعل سرّا باتّخاذ الأخذان كما هو عادة أشرافهم و هذا هو الحكم الرابع منها.

و توجيه النهي إلى قربها للمبالغة في النهي عنها و يدخل في الفواحش ما يبعّده من الجنّة و يدنيه من النار، و أيضا ما ظهر منها بالفعل و ما بطن بالقصد. و من الزنا زنا النظر، النهاية زنا العين.

[وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج منها الحربيّ [إِلَّا بِالْحَقِ استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلّا بالحقّ الّذي أمر الشرع، أو رخّص بقتلها و ذلك بالكفر بعد الإيمان و الزنا بعد الإحصان، و قتل النفس المعصومة و غيرها ممّا فيه الرخصة و هذا هو الحكم الخامس و في القتل بغير الحقّ ترك تعظيم أمر اللّه و ترك الشفقة على الخلق و هما من نواميس الدين.

ص: 287


1- هود: 7.

[ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الأحكام الخمسة [وَصَّاكُمْ بِهِ و أمركم ربّكم بحفظه أمرا مؤكّدا [لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تستعملون عقولكم فيما أمركم اللّه و تحبسون نفوسكم عن مباشرة القبائح المذكورة.

[سورة الأنعام (6): الآيات 152 الى 153]

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

قوله تعالى:

ثمّ ذكر بقيّة ما يتلو عليهم فقال: [وَ لا تَقْرَبُوا] أي و لا تتعرّضوا لمال اليتيم و اليتيم من الإنسان من لا أب له و من الحيوان مالا أمّ له، و إنّما خصّ مال اليتيم بالذكر لأنّه لا يستطيع الدفاع عن نفسه و لا عن ماله فيكون الطمع في ماله أشدّ و يد الرّغبة إليه أمدّ، فأكّد سبحانه النّهي عن التّصرف في ماله و الخطاب للأولياء و الأوصياء أشمل.

[إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلّا بالخصلة الحسنة كحفظه و تثميره [حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنّهي، كأنّه قيل: احفظوه حتّى يصير بالغا رشيدا؛ فحينئذ سلّموه إليه.

و الأشدّ واحدها «شد» مثل الأشرّ في جمع شرّ و الأضرّ في جمع ضرّ و الشدّ القوّة و هو استحكام قوّة الشباب و قيل: هو جمع شدّة مثل نعمة و أنعم، و قال بعض البصريّين:

الأشدّ واحد جاء على بناء الجمع، قال الجوهريّ: أشدّه أي قوّته و هذا هو الحكم السادس.

[وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ أتّموه و لا تنقصوه في المكيلات و في الموزونات [بِالْقِسْطِ] و هو العدل فإن قيل: إيفاء الكيل و الميزان هو عين القسط فما فائدة التّكرار؟

لأنّ اللّه أمر المعطي بإيفاء الكيل و الميزان لذي الحقّ و أمر صاحب الحقّ بأخذ حقّه من غير طلب زيادة.

ص: 288

و لمّا كان يجوز أن يتوهّم الإنسان أنّه يجب هذا الأمر على الحقيقة بحيث لا مختلف ذرّة واحدة في المكيل و الموزون و ذلك صعب شديد بحيث لا يقدر الإنسان من إتيانه أتبعه سبحانه بما يزيل هذا التشديد فقال: [لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها] أي الإيجاب بهذا الأمر القدر الممكن في إيفاء الكيل و الوزن.

قال القاضي: إذا كان اللّه قد حفّف على المكلّف هذا التخفيف مع أنّ هذا التضييق مقدور له مع العسر فكيف يتوهّم أنّه سبحانه يكلّف الكافر الإيمان؟ مع أنّه لا قدرة له عليه بل قالوا: يخلق الكفر فيه و يريد منه و يحكم به عليه و يخلق القدرة الموجبة لذلك الكفر و الدّاعية الموجبة له ثمّ ينهاه عنه؛ فهو تعالى لمّا لم يجوّز ذلك القدر من التشديد و التضييق في إيفاء الكيل و الوزن فكيف يجوز أن يضيّق على العبد مثل هذا التضييق و التشديد؟.

و عارضه الرازيّ و شيوخ الأشاعرة بمسألة الداعي و العلم، و هذه المعاوضة و الجواب منهم أوهن من نسج العنكبوت، كما شرّح في مواضع عديدة في الكتاب و لا حاجة إلى الإعادة.

أقول: هذه المندوحة و القدر اليسير من التفاوت لا يوجب عدم الاجتهاد و السعي في إيفاء الكيل و الوزن و المراعاة فيهما واجبة؛ لكنّ التقصير القصديّ فليس بمعفوّ قطعا، و ينبغي الاحتياط بقدر الإمكان.

[وَ إِذا قُلْتُمْ قولا في شهادة أو حكم أو نحوهما [فَاعْدِلُوا] فيه [وَ لَوْ كانَ المقول له أو عليه [ذا قُرْبى أي قرابتكم؛ لأنّ مدار الأمر العدل و طلب رضى اللّه؛ فلا فرق بين ذي قرابة و أو أجنبيّ و هذا هو الحكم الثامن.

[وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا] أي ما عهد إليكم من تأدية أو امره تعالى، و يدخل فيه ما عاهدتم اللّه عليه من الإيمان و النّذور، و يحتمل أن يراد به العهد بين الإنسانين؛ فيكون إضافته إلى اللّه من حيث إنّه أمر بحفظه و الوفاء و هذا هو الحكم التّاسع.

[ذلِكُمْ الإشارة إلى ما فصّل من التكاليف [وَصَّاكُمْ بِهِ أمركم بامتثاله [لَعَلَّكُمْ

ص: 289

تَذَكَّرُونَ تتذكّرون أي لكي تأخذوا به و لا تفعلوا عنه فتتركوا العمل به و القيامة بما يلزمكم منه.

[وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً] بتقدير اللّام علّة للفعل المؤخّر أي و لأنّ ما ذكر في هذه السّورة من آيات التوحيد و النبوّة و بيان الأحكام المذكورة مسلكي و صراطي، لأنّه يؤدّي إلى رضاي و الجنّة «مُسْتَقِيماً» حال مؤكّدة أي مستويا قويما غير معوج [فَاتَّبِعُوهُ .

[وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ أي الطرق المختلفة عدا هذا الطريق مثل اليهوديّة و النصرانيّة و الملل الباطلة [فَتَفَرَّقَ بِكُمْ منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النّهي، أصله «فَتَفَرَّقَ» و الباء للتّعدية أي فتفرّقكم و تزيلكم [عَنْ سَبِيلِهِ عن دين اللّه الّذي ارتضاه لكم و به أوصى و هو الإسلام، و هذا هو التأكيد في الأحكام التسعة، و هو المتابعة للقرآن.

[ذلِكُمْ أى اتّباع سبيل القرآن و ترك اتّباع سائر السبل [وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ سبيل الكفر و الشرك. و لمّا تلا رسول اللّه هذه الآية خطّ خطّا؛ فقال: هذا سبيل اللّه، ثمّ خطّ خطوطا عن يمينه و شماله و قال: هذه سبل على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه فشرع النّبي المصطفى هو الصّراط المستقيم، و هو أحدّ من السيف و أدقّ من الشعر كما أنّ صراط الآخرة كذلك. و لذا لا تزال في كلّ ركعة من الصلاة تقول اهدنا الصراط المستقيم. و من زلّ عن هذا الصراط في الدنيا زلّ عن صراط الآخرة أيضا قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الزالّون عن الصراط كثير و أكثر من يزلّ عنه النساء.

أقول: و أكثر الرجال في هذا الزمان في حكم النساء لاتّباع الشهوات و الأخذ بالعادات، و الدّين بدأ غريبا و عاد غريبا فلا يوجد من يستأنس به و يستأهل له إلّا نادرا قال ابن عبّاس في هذه الآيات: إنّها محكمات لم ينسخهنّ شي ء، و هي محرّمات قديما و حديثا على بني آدم كلّهم و هنّ امّ الكتاب، من عمل بهنّ دخل الجنّة و من تركهنّ دخل النار. و قال كعب الأخبار: و الّذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأوّل شي ء في التوراة، و أوّلها: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ»، الآيات.

ص: 290

[سورة الأنعام (6): الآيات 154 الى 155]

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)

قوله تعالى:

عطف على مقدّر أي فعلنا تلك التوصية باتّباع صراط اللّه قديما [ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ و ذكرت ثلمة ثمّ لتأخّر الخبر عن الخبر لا لتأخير الواقعة مثل قولك: بلغني ما صنعت اليوم ثمّ ما صنعت أمس أعجب.

[تَماماً] مصدر من أتمّ بحذف الزوائد أي إتماما للكرامة و النعمة [عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي على من أحسن القيام بالكتاب كائنا من كان من الأنبياء و المؤمنين.

[وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ] أي بيانا مفصّلا لكلّ ما يحتاج إليه في الدين، و يؤيّد هذا المعنى قراءة عبد اللّه بن مسعود: هي على الّذين أحسنوا.

و قيل: المعنى المراد إتماما للنّعمة و الكرامة على العبد الّذي أحسن الطاعة بالتبليغ و في كلّ ما امر به.

و القول الثالث: تماما على الّذي هو أحسن دينا و أرضاه.

و قيل: المراد: آتينا موسى الكتاب تماما على أحسن ما يكون حيث ذكر فيه نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ هُدىً من الضلالة [وَ رَحْمَةً] و نجاة من العذاب لمن آمن به و عمل بما فيه [لَعَلَّهُمْ أي بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى [بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ الباء متعلّقة بيؤمنون أي كي يؤمنوا بالبعث و الثّواب و العقاب.

[وَ هذا كِتابٌ الإشارة إلى القرآن [أَنْزَلْناهُ دفع لإنكار المنكرين حيث قالوا:

ليس من عند اللّه و إنّما هو من عند نفسه صلى اللّه عليه و آله و سلّم [مُبارَكٌ كثير النفع ثابت دنيا و دينا و مبارك عليك و على امّتك حيث جعله اللّه جعلا بينهم و بينه تعالى ليوصلهم إلى مقام السعادة [فَاتَّبِعُوهُ و اعملوا بما فيه [وَ اتَّقُوا] مخالفته لكي [تُرْحَمُونَ بواسطة العمل الصحيح بموجباته.

[سورة الأنعام (6): الآيات 156 الى 157]

أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)

قوله تعالى:

ص: 291

ثمّ بيّن سبحانه أنّه إنّما أنزل قطعا للمعذرة و إزاحة للعلّة فقال: [أَنْ تَقُولُوا] و سوق الكلام ينبؤ عن حذف المضاف أي كراهة أن تقولوا، و حذف المضاف يطّرد جوازه مع غير «أَنْ» فلأن يجوز مع أن أجدر، كراهة أن تقولوا: يا أهل مكّة، أو لئلا تقولوا:

[إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا] و هما اليهود و النصارى، و خصّهما بالذكر لشهرتهما و ظهور أمرهما أكثر من غيرهما فأنزلنا عليكم القرآن لنقطع حجّتكم [وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ من بقيّة قول المشركين «أَنْ» مخفّفة أي و إنّه كنّا عن دراستهم و قراءتهم، و لم يقل: عن دراستهما لأنّ كلّ طائفة جماعة [لَغافِلِينَ أي تقولون: لا ندري ما في كتابهم إذا لم يكن على لغتنا فلم نفهم و لم نقدر على قراءته.

[أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما انزل عليهم [لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ إلى الحقّ الّذي هو المقصد الأقصى من جلائل الأحكام و الشرائع و دقائقها لثقابة أفهامنا و حدّة أوهامنا لأنّا تلفّقنا فنونا من العلم كالقصص و الأشعار و الخطب مع أنّا امّيّون.

[فَقَدْ جاءَكُمْ متعلّق بمحذوف معلّل به أي لا تعتذروا بذلك القول فقد جاءكم [بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ و حجّة واضحة بلسانكم [وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ] عبّر عن القرآن بالبيّنة إيذانا بكمال تمكّنهم من قراءته لأنّه على لغتهم و هو هداية و رحمة [فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم [مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ أي القرآن [وَ صَدَفَ عَنْها] أي صرف الناس عنها فجمع بين الضلال و الإضلال.

[سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ الناس [عَنْ آياتِنا] وعيد لهم ببيان جزاء إضلالهم بحيث يفهم منه جزاء ضلالهم أيضا [سُوءَ الْعَذابِ أي شدّته [بِما كانُوا يَصْدِفُونَ بسبب

ص: 292

ما كانوا يفعلون الصدف و يمنعون الناس عن الإيمان به و العمل بموجباته، و يصدفون الناس عمّن اوتي به و هو محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال الطبرسيّ: و في الآية دلالة على أنّ إنزال القرآن لطف للمكلّفين و أنّه لو لم ينزله لكان لهم الحجّة. و إذا كان في منع اللّطف عذر و حجّة للمكلّف فمنع القدرة و خلق الكفر فيهم أولى بذلك؛ فعلى العاقل أن يعمل بالقرآن و يرغّب غيره به بقدر الإمكان لأنّه مكلّف به و يكون شريكه في الثواب الفائض من اللّه الوهّاب.

و في الحديث: انزل القرآن على سبعة أحرف أي سبع لغات: و هي لغات العرب المشهورين بالفصاحة من قريش و هذيل و هوازن و اليمن و طي ء و ثقيف و الفصحاء من مطلق طوائفهم، أو المراد من قوله «على سبعة أحرف» سبع قراءات و هي الّتي استفاضت عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و ضبطتها الامّة، و أضيف كلّ حرف منها إلى من كان أكثر قراءة به من الصحابة، ثمّ أضيف كلّ قراءة منها إلى من اختارها من القرّاء السبعة: و هم نافع و ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و عاصم و حمزة و الكسائيّ.

حكي من بعض الأخيار من أهل التلاوة للقرآن: أنّه لمّا حضرته الوفاة كان كلّما قالوا له: قل لا إله إلّا اللّه قال: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إلى قوله-: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فلم يزل يعيدها كلّما أعادوا عليه حتّى مات على هذه الآية الكريمة؛ فظهر أنّ الموت على ما عاش عليه الشخص و كان حرفة رجل يبيع الحشيش و هو غافل عن اللّه فلمّا حضرته الوفاة كان كلّما قيل له:

قل: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»* قال: حزمة بفلس.

[سورة الأنعام (6): آية 158]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

قوله تعالى:

قرأ حمزة و الكسائيّ «يأتيهم» بالياء و الباقون بالتاء.

و لمّا بيّن سبحانه أنّه إنّما أنزل القرآن إزاحة للعلّة و أنّهم لا يؤمنون؛ فقال:

[هَلْ يَنْظُرُونَ و معني «يَنْظُرُونَ» ينتظرون و هل استفهام معناه النفي؛ فالمعنى أنّهم

ص: 293

لا يؤمنون بك و بكتابك إلّا إذا جاءهم أحد امور ثلاثة: و هي مجي ء الملائكة أو مجي ء الربّ أو مجي ء الآيات القاهرة الّتي تضطرّهم إلى الإيمان، و المراد من مجي ء الملائكة قيل: لقبض أرواحهم يعني ملائكة الموت، عن مجاهد و السدّيّ و قتادة. و قيل: لإنزال العذاب و الخسف بهم. و قيل: لعذاب القبر.

[أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ فيه أقوال:

أحدها: أو يأتي أمر ربّك بانتقام فحذف المضاف، و مثله «و جاء ربّك» و جاز هذا الخذف كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ» (1) أي يؤذون أولياء اللّه، لكن قال ابن عبّاس:

معناه: يأتي أمر ربّك فيهم بالقتل.

و ثانيها: أو يأتي ربّك بجلائل آياته؛ فيكون حذف الجارّ و المجرور لدلالة الكلام عليه، و هو قيام الدليل في العقل على أنّ اللّه لا يجوز عليه الانتقال، و لا يختلف عليه الحال.

و ثالثها أنّ المعنى أو ياتي إهلاك ربّك إيّاهم بعذاب عاجل أو آجل أو بالقيامة [أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فذلك نحو خروج الدابّة أو طلوع الشمس من مغربها، عن مجاهد و قتادة و السدّيّ و روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: بادروا بالأعمال ستّا طلوع الشمس من مغربها و الدابّة و الدّجال و الدخان و خويصة أحدكم يعني الموت و أمر العامّة.

و هاهنا بحث: و هو أنّ في قوله: «أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ» إذا حملنا على أثر من أثار قدرته فهذا التقرير يصير عين قوله: «أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» و إذا حملنا على مجي ء الربّ حقيقة فذاك معنى غير معقول. فالجواب أنّ هذا حكاية مذهب الكفّار بزعمهم الفاسد فلا يكون حجّة و لا يلزم التكرار لكن يمكن أن يكون المراد من قوله: «يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» علامات القيامة أو نفس القيامة؛ فحينئذ لا يكون تكرارا.

و أجمعوا على أنّ المراد بقوله «يَأْتِيَ» بعض آيات ربّك علامات القيامة؛ فعن البراء بن عازب قال: كنّا نتذاكر أمر الساعة إذ أشرف علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ما

ص: 294


1- الأحزاب: 57.

تتذاكرون؟ قلنا: نتذاكر أمر الساعة قال: إنّها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات:

الدّخان و دابّة الأرض و خسفا بالمشرق و خسفا بالمغرب و خسفا بجزيرة العرب و الدجّال و طلوع الشمس من مغربها و يأجوج و مأجوج و نزول عيسى و نارا تخرج من أرض عدن.

قوله [لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صفة لنفسا و قوله [أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً] صفة ثانية معطوفة على الصفة الاولى، و المعنى: أنّ أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أو ان التكليف فلم ينفع الإيمان نفسا ما آمنت قبل ذلك و ما كسبت في إيمانها خيرا قبل ذلك.

ثمّ قال سبحانه: [قُلِ يا محمّد [انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد و تهديد و ذلك لأنّ تلك الحال يكون الإيمان ضروريّا و أنّها حال زوال التكليف.

قال الحاكم أبو سعيد في تفسيره: و في الآية دلالة على أنّ الإيمان لا بدّ و أن يكون منضمّا إليه أفعال الخير و الصالحات بخلاف ما يقوله المرجئة.

قال: الآية تدلّ على أنّ الإيمان بمجرّدة لا ينفع حتّى يكون معه اكتساب الخير و الصالحات.

قال الطبرسيّ: و ليت شعري كيف يدلّ الآية على ما قاله الحاكم؟ و كيف حكم لنفسه على خصمه في ما الحكم فيه لخصمه عليه؟ و هذا القول عدول عن الإنصاف فإنّه سبحانه قد صرّح فيها بأنّ اكتساب الخيرات غير الإيمان المجرّد لعطفه سبحانه كسب الخيرات في الإيمان على فعل الإيمان، فكأنّه قال: لا ينفع نفسا لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمانها، و كذا لا ينفع نفسا لم تكن كاسبة خيرا في إيمانها قبل ذلك كسبها الخيرات في ذلك اليوم.

[سورة الأنعام (6): آية 159]

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)

قوله تعالى:

اختلفوا في المقصودين بهذه الآية على أقوال:

أحدها أنّهم الكفّار و أصناف المشركين، عن السدّيّ و الحسن. و قال

ص: 295

[لَسْتَ مِنْهُمْ يا محمّد [فِي شَيْ ءٍ] و إنّما هو نهي عن مخالطتهم و مقاربتهم، و أمر له صلى اللّه عليه و آله و سلّم بمباعدتهم، و نسختها آية السيف.

و ثانيها أنّهم اليهود و النصارى لأنّهم يكفّر بعضهم بعضا و هو التفرّق، عن قتادة.

و ثالثها أنّ المراد بهم أهل الضلالة و أصحاب الشبهات و البدع من هذه الامّة و هو المرويّ، عن الباقر عليه السلام، جعلوا دين اللّه أديانا و صاروا أحزابا و فرقا لست يا محمّد- صلى اللّه عليه و آله و سلّم- منهم في شي ء، فأخبر سبحانه عن حال نبيّه بالمباعدة التّامّة من أن يجتمع معهم في أمر من مذاهبهم الفاسدة و أنّه بري ء من جميعه.

و قيل: معناه: لست من قتالهم في شي ء، ثمّ نسختها آية السيف و القتال، عن الكلبيّ.

[إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ في مجازاتهم على سوء أفعالهم و في إنظارهم و استيصالهم إلى اللّه. و قيل: الحكم بينهم في اختلافهم إلى اللّه، ثمّ ينبّؤهم و يخبرهم و يجازيهم بأفعالهم يوم القيامة فيظهر المحقّ من المبطل.

[سورة الأنعام (6): آية 160]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)

قوله تعالى:

قرء «عشر» بالرفع و التنوين، قال الواحديّ: حذفت الهاء من عشرة. و الأمثال جمع مثل، و المثل مذكّر و أريد عشر حسنات أمثالها ثمّ حذف الحسنات و أقيمت الأمثال الّتي هي صفتها مقامها، و حذف الموصوف كثير في الكلام فالأمثال ليس مميّزا للعشر بل مميّزها هو الحسنات، قالوا: إنّ الأمثال صفة لمميّزها؛ و لذا لم يذكر التاء للعشر.

قال الطبرسيّ: و حذف الموصوف و إقامة الصفة مقامه في الشعر و في غير الشعر ضعيف عند المحقّقين، و الأولى أن يكون أمثالها غير صفة بل يكون محمولا على المعنى فأنّث الأمثال لما كان في معنى الحسنات.

حكي عن أبي عمرو أنّه سمع أعرابيّا يقول: فلا جاءته كتابي فاحتقرها، قال:

ص: 296

فقلت له: أتقول: جاءته كتابي؟ قال الأعرابيّ: نعم أليس الكتاب بصحيفة؟

المعنى: لمّا ذكر سبحانه الوعيد على المعاصي عقّبه بذكر الموعد فقال: [مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها].

قال بعضهم: الحسنة قول «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»* و السيّئة الشرك، قال الرازيّ: و هذا ضعيف بل يجب أن يكون محمولا على العموم إمّا تمسّكا باللفظ و إمّا لأجل أنّه حكم مرتّب على وصف مناسب له؛ فيقتضي كون الحكم معلّلا بذلك الوصف فوجب أن يعمّ لعموم العلّة، و على هذا فالمعنى من جاء بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة من المؤمنين فله عشر أمثالها من الثواب.

[وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ] أي بالخصلة الواحدة من خصال الشرّ [فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها] و ذلك من عظيم فضل اللّه و جزيل إنعامه حيث لا يقضي في الثواب على قدر الاستحقاق بل يزيد عليه، و ربّما يعفو عن ذنوب المذنبين من المؤمنين منّة عليهم و تفضّلا، و إن عاقب عاقب على قدر الاستحقاق عدلا.

ثمّ اختلف النّاس في أنّ هذه الحسنات العشر الّتي وعدها اللّه هل يكون كلّها ثوابا أم لا؟ فقال بعضهم: لا يكون كلّها ثوابا و إنّما يكون الثواب منها الواحدة، و التسع الزائدة تكون تفضّلا، و يؤيّده قوله: «فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» (1) لكن عند الأشاعرة الثواب مطلقا تفضّل من اللّه، و المعتزلة فرّقوا بين الثواب و التفضّل بأنّ الثواب هو المنفعة المستحقّة و التفضّل هو المنفعة الّتي لا تكون مستحقّة.

ثمّ إنّهم اختلفوا فقال بعضهم: هذه العشرة تفضّل، و الثواب غيرها و هو مذهب الجبّائيّ، و قال: لأنّه لو كان الواحد ثوابا، و كانت التسعة تفضّلا لزم أن يكون الثواب دون التفضّل؛ لأنّه لو جاز أن يكون التفضّل مساويا للثواب في الكثرة و الشرف لم يبق في التكليف فائدة أصلا؛ فيصير عبثا، و لمّا بطل ذلك علمنا أنّ الثواب يجب أن يكون أعظم في القدر و في التعظيم من التفضّل.

و قال آخرون: لا يبعد أن يكون الواحد من هذه التسعة ثوابا، و يكون التسعة الباقية تفضّلا إلّا أنّ ذلك الواحد يكون أو فرو أعظم شأنا من التسعة الباقية.

ص: 297


1- النساء: 172.

و قيل: التقدير بالعشرة ليس المراد منه التحديد بل أراد الّا ضعاف مطلقا، و ذلك كقول القائل: لئن أسديت إليّ معروفا لأكافأنّك بعشر أمثالها و في الوعيد يقال: لئن كلّمتني واحدة لأكلّمنّك عشرا و لا يريد التحديد فكذا هاهنا، و الدليل على أنّه لا يحمل على التحديد قوله تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ» (1) لكنّ السيّئة واحدة عدلا. روى أبو ذرّ الغفاريّ أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ اللّه تعالى قال: الحسنة عشر و أزيد و السيّئة واحدة و أعفو و أغفر؛ فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره.

[وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب و زيادة العقاب. و اعلم أنّ الحسنات العشر أقلّ ما وعد من الأضعاف للمؤمن و قد جاء الوعد بسبعين و سبعمائة: و بغير حساب على تفاوت مراتب الخلوص و الأشخاص.

فإن قيل: إذا كانت السيّئة الواحدة بالواحدة كيف كفر ساعة يوجب عقاب الأبد؟

فما وجه المماثلة؟ فالجواب أنّ الكافر على عزم أنّه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد فلمّا كان العزم مؤبّدا عوقب بما عليه من الكفر بخلاف المسلم المذنب؛ فإنّه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب؛ فلا جرم كانت عقوبته منقطعة، و الكافر هو الّذي تسبّب على خلوده في النار و قد أوعد على الخلود و تمّت له الحجّة بتبليغ الأنبياء و كتبهم، و مع ذلك لم يتقبّل الإيمان و أعرض عنه و أقبل على الكفر و العناد؛ فاستحقّ ذلك لقبوله الكفر و بقائه عليه و عزمه التأبيد عليه. قيل: الأعمال ستّة موجبتان كلّيتان و مثل بمثل و حسنة بحسنة و حسنة بعشر و حسنة بسبعمائة و أكثر؛ فأمّا الموجبتان فهو من مات و لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنّة، و من مات و هو مشرك باللّه دخل النار. و أمّا مثل بمثل؛ فمن عمل سيّئة فجزاء سيّئة مثلها و أمّا حسنة بحسنة فمن همّ بحسنة حتّى تشعر بها نفسه و يعلمها اللّه من قلبه كتب له حسنة بعشر فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها، و أمّا حسنة بسبعمائة فبالنفقة في سبيل اللّه.

و في بعض المجامع أنّ الشارع قد يرتّب الثواب للعمل لئلّا يترك بل يرغب فيه فلا يكون ذلك العمل النفل أفضل من العمل المؤكد عليه الّذي لم يترتّب عليه

ص: 298


1- البقرة: 263.

ذلك الثواب مثل أنّه من صلّى ركعتين بالليل أو إحدى عشرة ركعة بنى اللّه له بيتا في الجنّة من ذهب مع أنّ السّنة الراتبة لفرض الظهر أفضل و لا يبلغ مرتبة الراتبة من الأحكام و إن لم يتعيّن قدر أجرها فإنّ السنن شرّعت لتتميم نقائص الفرائض و النوافل الغير الراتبة لتتميم نقائص السنن الراتبة.

و إذا تأمّلت عرفت أنّ اللّه تعالى قبل أن يجي ء العبد بالحسنة أحسن إليه بعشر حسنات حتّى قدر أن يجي ء بالحسنة و هي: حسنة الإيجاد من العدم، و حسنة الاستعداد بأن خلقه في أحسن تقويم مستعدّا للإحسان، و حسنة التربية، و حسنة الرزق، و حسنة بعثة الرسل، و حسنة إنزال الكتب للإرشاد، و حسنة تحديد الحسنات و السيّئات و حسنة التوفيق، و حسنة الإخلاص في الإحسان، و حسنة قبول الحسنات، و السرّ فيه أنّ السيّئة بذر يزرع في أرض النفس و النفس خبيثة لأنّها أمّارة بالسوء، و الحسنة بذر يزرع في أرض القلب و القلب طيّب لأنّ بذكر اللّه تطمئنّ القلوب، و قد قال سبحانه:

«وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً» (1).

[وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ لا يبخس من حسناتهم و لا يزيد على عقابهم مثقال ذرّة كما قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» (2).

[سورة الأنعام (6): الآيات 161 الى 163]

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)

المعنى: ثمّ أمر اللّه نبيّه فقال: [قُلْ يا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم للخلق جميعا و لكفّار مكّة الّذين يدّعون أنّهم على الدين الحقّ و قد فارقوه بالكلّيّة [إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي أي أرشدني بالوحي و بما نصب في الآفاق و الأنفس من الآيات التكوينيّة [إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى الحقّ [دِيناً قِيَماً] و نصب «دِيناً» على ثلاثة أوجه أحدها أنّه لمّا قال: هداني إلى صراط مستقيم استغنى بذكر الفعل عن ذكره ثانيا؛ فقال: دينا قيّما كما في قوله: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ» و إن شئت نصبت على تقدير

ص: 299


1- الأعراف: 56.
2- النساء: 44.

«ألزموا و أعرفوا» لأنّ هدايتهم إليه إلزامهم له و تعريف لهم، و إن شئت حملته على الاتّباع أي اتّبعوا دينا قيّما.

و [مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً] بدل من «دِيناً قِيَماً» و «حَنِيفاً» منصوب على الحاليّة أي مائلا عن الأديان الباطلة ميلا لا رجوع فيه. و الملّة من أمللت الكتاب أي أمليته، و ما شرّعه اللّه لعباده يسمّى ملّة من حيث إنّه يدوّن و يملى و يكتب و يتدارس.

و إنّما وصف دين النبيّ بأنّه ملّة إبراهيم ترغيبا فيه للعرب لجلالة إبراهيم في نفوسها و نفوس أهل الأديان، و لانتساب العرب إليه و اتّفاقهم على أنّه كان على الحقّ و موافقة أغلب الفروع مع سنّته كالختان و المناسك في الحجّ و غيرها.

[وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي ما كان إبراهيم منهم في أمر من امور دينهم أصلا و فرعا فردّ اللّه عليهم بأنّه عليه السلام ليس من أهل دينهم لأنّهم مشركون، فأمّا العرب فكانوا أهل الأصنام، و اليهود بقولهم «عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ» و النصارى بقولهم «الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» و المشرك في الحقيقة هو الّذي يطلب مع اللّه شيئا و يجعل غيره معه شريكا في العبادة.

[قُلْ إِنَّ صَلاتِي و أعيد الأمر لما أنّ المأمور به يتعلّق في هذه الآية بفروع الشرائع و ما سبق بأصولها و المراد بالصلاة الصلوات الخمس المفروضة [وَ نُسُكِي أي عباداتي و أصل النسك ما يتقرّب به إلى اللّه و لذا يقال للعابد: ناسك. و قيل: المراد بالصلاة صلاة العيد، و بالنسك الاضحيّة.

و عن أنس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: قرّب كبشا أملح أقرن فقال: «لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي إلى قوله تعالى-: وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» ثمّ ذبح فقال: شعره و صوفه فداء لشعري من النار، و جلده فداء لجلدي من النار، و دمه فداء لدمي من النار، و عظمه فداء لعظمى من النار، و عروقه فداء لعروقي من النار فقالوا: يا رسول اللّه هنيئا مريئا، هذا لك خاصّة؟ قال: بل لأمّتي عامّة إلى أن يقوم القيامة، أخبرني به جبرئيل عن ربّي عزّ و جلّ. و قيل: نسكي أي ديني، عن الحسن.

[وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي أي حياتي و موتي، و جمع بين صلاته و حياته و أحدهما من فعله و الآخر من فعل اللّه لأنّهما جميعا بتدبير اللّه، و قيل: معناه: إنّ صلاتي و نسكي له

ص: 300

عبادة، و حياتي و مماتي له ملكا و قدرة، عن القاضي. و حاصل المعنى أنّ ما أنا عليه في حياتي من فنون الطاعات و أكون عليه عند موتي من الإيمان للّه لا لغيره خالصة له تعالي.

[لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ لا أشرك فيها غيره [وَ بِذلِكَ الإخلاص [أُمِرْتُ لا بشي ء غيره [وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأنّ إسلام كلّ نبيّ متقدّم على إسلام أمّته، و فيه بيان مسارعته صلى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الامتثال بما امر به و أنّ ما امر به من الشريعة ليس من خصائصه بل الكلّ مأمورون به، يقتدي به من أسلم منهم، و تنبيه على أنّه لا ينبغي أن يجعل العبد حياته لشهوته و مماته لورثته.

قال أهل المعاني: إنّ قوله: «وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» يعنى أوّل من استسلم عند الإيجاد لأمركن، و عند قبول فيض الألطاف و أوّل ما خلق اللّه نوري، و جئت على التوحيد و الإخلاص و التبرّي عن كلّ شي ء سواه تعالى ظاهرا و باطنا و التحقيق بحقائق العبوديّة.

عن مالك بن دينار قال: خرجت حاجّا إلى بيت اللّه الحرام و إذا بشابّ في الطريق بلا زاد و لا راحلة؛ فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام فقلت: أيّها الشابّ من أين أقبلت؟

قال: من عنده، قلت: و إلى أين؟ قال: إليه، قلت: و أين الزاد؟ قال: عليه، قلت:

إنّ الطريق لا يقطع إلّا بالماء و الزاد و هل معك شي ء؟ قال: قد تزوّدت عند خروجي بخمسة أحرف، قلت: و ما هذه الحروف؟ قال: قوله تعالى: «كهيعص» قلت: و ما معناها؟ قال: أمّا قوله كاف فهو الكافي، و أمّا الهاء فهو الهادي، و أمّا الياء فهو المؤدّي و أمّا العين فهو العالم، و أمّا الصاد فهو الصادق، و من كان صاحبه كافيا و هاديا و مؤدّيا و عالما و صادقا لا يضيّع.

قال مالك: فلمّا سمعت هذا الكلام نزعت قميصي الّذي عليّ فأردت أن البسه إيّاه فأبى أن يقبله، و قال: أيّها الشيخ العرى خير من قميص دار الفناء؛ حلالها حساب و حرامها عقاب؟.

قال مالك: و كان الشابّ إذا جنّ عليه اللّيل يرفع وجهه نحو السماء و يقول:

ص: 301

يا من تسرّه الطاعات و لا تضرّه المعاصي هب لي ما يسرّك و اغفر لي مالا يضرّك، فلمّا أحرم الناس و لبّوا قلت له: يا شابّ لم لا تلبّي؟ فقال: يا شيخ البّي سرّا أخشى أن أقول: لبّيك فيقول: لا لبّيك و لا سعديك، و لا أسمع كلامك و لا أنظر إليك، ثمّ مضى فما رأيته إلّا يمضي و هو يقول: اللّهم إنّ الناس ذبحوا و تقرّبوا إليك بضحاياهم و هداياهم و ليس لي شي ء أتقرّب به إليك سوى نفسي فتقبّلها منّي، ثمّ شهق شهقة فخرّ ميّتا.

[سورة الأنعام (6): آية 164]

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)

قوله تعالى:

[قُلْ يا محمّد لمن يقول لك من الكفّار: توجّه إلى ديننا: [أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي أطلب حال كونه [رَبًّا] آخر فأشركه في عبادته [وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ] و الحال أنّ ما سواه مربوب له مثلي فكيف يتصوّر أن يكون شريكا له في العبادة و العبوديّة؟

[وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها] و ذلك أنّهم كانوا يقولون للمسلمين: اتّبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم، إمّا بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم، و إمّا بمعنى نحمل يوم القيامة عذاب ما حمّل عليكم من الخطايا؛ فهذا ردّ بالمعنى الأوّل أي لا يكون جناية نفس من النفوس إلّا عليها، و محال أن يكون صدورها عن شخص و قرارها على شخص آخر حتّى يتأتّى ما ذكرتم.

و قوله تعالى: [وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ردّ لهم بالمعنى الثاني أي لا تحمل يومئذ نفس حاملة حمل نفس اخرى حتّى يصحّ قولكم: و لنحمل خطاياكم. و الوزر في اللغة الثقل.

[ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي إلى مالك أمركم رجوعكم يوم القيامة [فَيُنَبِّئُكُمْ يومئذ [بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي يتبيّن الرشد من الغيّ و المحقّ من المبطل، و إذا كان هو الربّ و غيره المربوب من الفلك و الملك فعبادة غيره جهل محض؛ لأنّ العبد لا بدّ و أن يخدم مولاه و لا يخدم غير مولاه فالمولى غاية المبتغى و نهاية المرام، فمن وجده فقد وجد الكلّ، و من فقده فقد الكلّ و عاد خائبا خاسرا، و كلّ ما تكسب النفس

ص: 302

من خير أو شرّ فهو عليها و مأخوذة به و أمّا الخير فلا بدّ فيه من صحّة القصد له تعالى و الخلوص من المنافيات.

فإن قيل: إنّ قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شي ء فليستحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار و لا درهم إلّا أن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، و إن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه» يدلّ على خلاف قوله: «وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى .

فالجواب أنّ هذا الحمل هو الّذي باختياره تحمله و حمل على نفسه يرضاه بعد تبليغه الحكم فباع حظّه بالأرذل الأدنى و بسوء اختياره رضي بهذه المعاملة بإقدامه على ظلم غيره فحمل سيّئات المظلوم حمل سيّئات نفسه؛ فالآية و الحديث متّحدان.

[سورة الأنعام (6): آية 165]

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

قوله تعالى:

أخبر سبحانه و شهد لنفسه بالربوبيّة؛ فقال: [وَ هُوَ] أي اللّه تعالى [الَّذِي جَعَلَكُمْ أيّها الناس خلائف الأرض و الأمم السابقة البشريّة، و كلّ من جاء بعد من مضى فهو خليفة لأنّه يخلفه و يعقّبه و الخلائف جمع الخليفة كالوصائف جمع الوصيفة، و قيل:

المعنى: خلفاء اللّه في أرضه و على هذا المعنى تكون تتّصفون بصفاته و آدم وقته و خليفة ربّه و لو على نفسه.

[وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ في الشرف و الغنى [فَوْقَ بَعْضٍ إلى [دَرَجاتٍ كثيرة متفاوته [لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من المال و الجاه أي ليعاملكم معاملة من يختبر بكم لترتّب الجزاء لأنّ الجزاء لا يقع بالعلم بالوقوع حتّى لا يمتحن بل قرّر سبحانه الجزاء بعد الوقوع.

[إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد [سَرِيعُ الْعِقابِ لمن لا يراعي حقوق ما آتاه اللّه و لم يشكره، و إنّما قال: «سَرِيعُ الْعِقابِ» مع أنّه سبحانه موصوف بالإمهال و الحلم لأنّ ما هو آت قريب، و حقيقة الشكر أن تعرف المنعم حقّ معرفته و لا تستعين بنعمه على معاصيه.

[وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن راعاها. و افتتح السورة بالحمد على نعمه تعليما و ختمها بالمغفرة و الرحمة ليحمد على ذلك.

تمّت السورة بحمد اللّه الملك المتفضّل بالانعام

ص: 303

سورة الأعراف

اشارة

هذه السورة مكيّة غير قوله تعالى: «وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ- إلى قوله-: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» فإنّها نزلت بالمدينة.

قال ابيّ بن كعب: من قرأها جعل اللّه بينه و بين إبليس سترا و كان آدم شفيعه يوم القيامة و من قرأها يوم الجمعة كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة. قال الصّادق عليه السلام: لا تدعوا قراءتها فانّها تشهد لقاريها يوم القيامة (1).

ص: 304


1- رواها و غيرها في ثواب الأعمال: 102.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأعراف (7): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)

قال ابن عبّاس: معناه: أنا اللّه أعلم و أفصل فعلى هذا مبتدأ و خبر و أعلم خبر بعد خبر. قال القاضي: إن كانت العبرة بحرف الميم فهو أيضا موجود في الملك و الامتحان و إن كانت بالصاد فيمكن على قوله: أنا اللّه أصلح؛ فكان الحمل على المعنى الأوّل محض التحكّم.

ثمّ إذا أردنا تفسير الحروف من غير أن تكون تلك اللّفظة موضوعة في اللّغة لذلك المعنى انفتحت طريقة الباطنيّة في تفسير سائر الألفاظ ممّا يشاكل هذا الطّريق، و أمّا قول بعضهم أنّه من أسماء اللّه، و الاسم إنّما يختصّ بالمسمّى بالوضع و الاصطلاح، و لا يبعد أنّ الشارع وضعه.

و الأولى أنّ قوله: «المص» اسم لهذه السورة لقبا، و أسماء الألقاب لا تفيد فائدة في المسميّات بل هي قائمة مقام الإشارات، و للّه تعالى أن يسمّي هذه السورة بألف لام ميم صاد، كما أنّ الواحد منّا إذا حدث له ولد فإنّه يسمّيه محمّدا، و على هذا فيكون «المص» مبتدءا و كتاب خبره و جملة البعد صفة له.

فإن قيل: الدّليل الّذي دلّ على صحّة نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم هذا القرآن فما لم يفد هذا المعنى لم نعرف نبوّته و إذا لم نعرف نبوّته لا يمكننا أن نحتجّ بقوله؛ فلو أثبتنا كون هذا القرآن نازلا عليه من عند اللّه بقوله لزم الدّور.

قلنا: إنّ دلائل حقّيّة القرآن و أنّ إنزاله من اللّه غير منحصر بقوله، لكن قوله و تصديقه أحد الدّلائل و كذلك تصديق نبوّته غير منحصر بالقرآن بل القرآن أحد دلائل نبوّته.

ص: 305

و للقرآن و لنبوّته دلائل كثيرة، أمّا القرآن لأنّه مع قطع النّظر عن دلائل السّمع بداهة العقل تحكم بأنّ هذا الكتاب العزيز المشتمل على علوم الأوّلين و الآخرين بجامعيّته من حيث المعنى مع بسط أحكامه الّتي يحتاج إليه الخلق في أمور عامّتهم و رفع الخلف بسبب العلم و اختيار طريق الأصلح من الأديان، و رفع التنافس و الخصومات من نوع البشر لملازمة العدل في العمل بأحكامه لم يتّفق لكتاب قطّ، لأنّك إذا وازنت العمل به و بغيره من كلّ حكم احتجت به في دينك و دنياك رأيت أنّ العمل به أوفق للعدل و الصّلاح و أحسن ترتيبا لنظام العالم و جمع الكلمة و رفع الخصومات و الخلاف، و ما أريد من الكتاب و إنزال الكتب إلّا هذا الأمر، و هذا التّرتيب و التركيب لا يمكن صدوره إلّا من قادر عالم و حكيم خالق، و هو العالم بحقائق الأشياء دون غيره؛ فثبت أنّ صدوره لا يمكن إلّا منه.

هذا كلّه من حيث المعنى و أمّا من حيث اللّفظ و المعنى فعجز المعارضين مع شدّة عداوتهم عن الإتيان بمثله أو ببعضه يشهد بأنّه وحي من اللّه أوحى به إلى من هو أهل لوحيه.

فلمّا ثبت أنّه من عند اللّه ثبت نبوّة الموحى إليه لأنّ القرآن مشحون بالآيات المصرّحة بنبوّته، فحينئذ، ما ثبت عن قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه نازل من عند اللّه بل ثبت ببراهين أخر فمن أين لزم الدّور؟

على أنّ من تدبّر في أخلاقه الشريفة و في حالاته أنّه منذ صباه إلى أن بلغ ثلاث و ستّين سنة من عمره عجز جميع الخلق عن أن يوازوه بمكارم الأخلاق و لا ساوى عذاره من البشر بعذار و مضماره بمضمار حيث شهد اللّه له بقوله «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (1).

ثمّ تأمّل أيّها العاقل بمجامع قلبك، و انظر في أحواله في هذه المدّة من عمره أنّه لم ينقل عنه كريهة و لا خائنة، و لا أخطأ في ساعة من عمره حتّى أنّه لم يثبت الخصماء خصلة سوء له في دقيقة من عمره الشريف، حتّى أنّ أعداءه، لعجزهم عمّا اوتي من المعجزات

ص: 306


1- القلم: 4.

نسبوه إلى السّحر، و البشر و إن كان عالما و حكيما لا ينقضي من عمره يوم إلّا و يقع منه ما يكره زوجه و ولده فضلا عن الناس حتّى أنّ نفسه تنفر من نفسه، حيث وقع منه الخطاء و يلوم هو نفسه، فضلا عن الناس فلو لم يكن تأييد النبوّة من اللّه كيف تتّفق هذه الملكة الرّاسخة الإلهيّة لمن يأكل و ينام و يمشي في الأسواق.

فأنت أيّها المعترض! دع المعجزات كلّها و تأمّل في هذه الدّقيقة و لا تحتاج إلى إثبات أمر آخر، على أنّ البحر لو كان مدادا لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات اللّه و هو صلى اللّه عليه و آله و سلّم كلمة اللّه العليا؛ «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (1).

و بالجملة رجعنا إلى التفسير:

[كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي هذا الّذي أوحيته إليك كتاب أنزله الملائكة إليك بأمري [فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ و ضيق من تكذيب قومك و إجابتهم إيّاك بعدم القبول فأنذر به النّاس، و ليتذكّر به المؤمنون؛ لأنّهم المنتفعون به.

ثمّ خاطب اللّه المكلّفين:

[سورة الأعراف (7): آية 3]

اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)

اعلم أنّ الرّسالة إنّما يتمّ بالمرسل و هو اللّه و المرسل و هو النبيّ و المرسل إليه و هم الامّة بمتابعة الرّسول و أنّ النّفوس البشريّة على قسمين: بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب، غريقة في اللّذات الجسمانيّة و الشهوات الجسدانيّة، و نفوس شريفة مشرقة بالأنوار الروحانيّة الإلهيّة، مستعدّة لكسب الفضائل؛ فبعثه الأنبياء في حقّ القسم الأوّل إنذار و تخويف كما قال سبحانه: «لِتُنْذِرَ بِهِ».

و في القسم الثّاني تنبيه و تذكير عن غفلة البشريّة: لأنّه ربّما غشيها غواش من عالم الجسم فيعرض لها ذهول و غفلة فأمر بالذّكرى للقسم الثاني.

ثمّ أمر الامّة باتّباع هذا الكتاب و منع عن اتّباع من دون الكتاب من أولياء

ص: 307


1- الانعام: 124.

الشياطين من الجنّ و الإنس فيحملوكم على مخالفته و عبادة الأهواء و الأصنام و البدع فيضلّوكم عن سبيله.

ثمّ هاهنا معترضة مفيدة و هي أنّه أمر اللّه باتّباعه، و نهى اللّه عن دون القرآن و السنّة؛ فكان المعنى أنّ كلّ ما يغاير الحكم الّذي أنزله اللّه لا يجوز اتّباعه.

فنفاة القياس قالوا: العمل بالقياس متابعة لغير ما أنزل اللّه فوجب أن لا يجوز.

و أجاب مثبتوا القياس و أنّ القياس يكون حجّة بأنّ قوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (1) لمّا دلّ على العمل بالقياس كان العمل بالقياس عملا بما أنزل اللّه.

أقول: إنّ هذه الدّلالة غير معلومة و لعلّ المراد بالعبرة اصول الدين لا في اصول الفقه.

ثمّ أجاب مثبتوا القياس بأنّ كون القياس حجّة بإجماع الصّحابة قد ثبت بعموم قوله تعالى: «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى» (2) و عموم قوله: «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (3) و عموم قوله: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (4) و بعموم قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تجتمع امّتي على الخطاء» و الجواب عن هذا الكلام: أنّه أليس الأخباريّون من الامّة؟ و مطلق القياس كيف يحكم عليه بأنّه حجّة؟ نعم إذا دلّ دليل على أنّ في ذلك القياس و الإجماع نصّا من المعصوم أو رضاء منه على سبيل التحقيق فذلك حجّة و لا تصحّ حجيّة القياس إلّا بعد العلم بعمل المعصوم به فإذن ثبت حجّيته بعمل المعصوم و هو النصّ لا بمثل هذا الإجماع، و كلّ قياس وافق النصّ حجّة و غيره فاسد.

رجعنا إلى التفسير:

قل لهم يا محمّد: اتّبعوا القرآن و لا تتّبعوا غيره أولياء تطيعونهم في الأمور الدينيّة يا معشر المشركين ما أقلّ تذكّركم و اتّعاظكم؟ و المراد: تذكّروا كثيرا ما يلزمكم من أمر دينكم.

ص: 308


1- الحشر: 2.
2- النساء: 115.
3- البقرة: 137.
4- آل عمران: 106.

[سورة الأعراف (7): الآيات 4 الى 5]

وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)

لمّا أمر الرسول بالإنذار و أمر القوم بالقبول ذكر في هذه الآية الوعيد في ترك المتابعة.

«كَمْ» رفع بالابتداء و خبره «أَهْلَكْناها» و هو أحسن من أن يكون في موضع نصب؛ لأنّ قولك: «زيد ضربته» أجود من قولك: «زيدا ضربته» و لو أنّ النّصب صحيح. (1) و المعنى: و كم من أهل قرية أهلكناها، و يمكن المراد نفس القرية بخسف و هدم لكنّ التقدير أحسن أي حكمنا بالهلاك و إلّا لا يحصل الهلاك قبل البأس، بل الهلاك بعد مجي ء البأس و يمكن أن يكون البأس و الهلاك دفعة واحدة كما تقول: أعطيت فأحسنت و ما كان الإحسان بعد الإعطاء و لا قبله و إنّما وقعا معا فإذن «الفاء» فاء المفسّر لا للتعقيب و «كَمْ» كلمة موضوعة للتكثير كما أنّ «رب» موضوعة للتّقليل لأنّ «كَمْ» اسم و «رب» حرف.

[فَجاءَها] أي جاء العذاب أهل القرية [بَياتاً] باللّيل، [أَوْ هُمْ قائِلُونَ و مستريحون في نصف النّهار و من هذه المادّة الإقالة في البيع لأنّهما يستريحان عن الخصومة بالإقالة؛ فكأنّه قيل للكفّار: لا تعزّوا بالأمن و الرّاحة فإنّ عذاب اللّه إذا وقع وقع دفعة واحدة من غير أمارة، فإذن ما كان قولهم بعد نزول العذاب إلّا: [إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ و ما ينفع القول و النّدم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 6 الى 7]

فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنَّا غائِبِينَ (7)

لمّا بيّن أنّ قولهم لمّا أتاهم العذاب اعترافهم بقولهم: «إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» بيّن في هذه الآية أنّه لا يقتصر منهم بمجرد الاعتراف بل يسأل الكلّ عن كيفيّة أعمالهم، و بيّن

ص: 309


1- لان ترك التقدير اولى من التقدير و لعدم وجود موجب النصب و مرجحه. و هذا هو الصورة الخامسة من صور اشتغال العامل، و التفصيل في محله.

أنّ السّؤال لا يختص بأهل العقاب بل هو عامّ في أهل الثواب و العقاب من الامّة و من الرّسل.

فإن قيل: ما الفائدة في السؤال بعد اعترافهم؟

الجواب أنّهم بعد الاعتراف بالظّلم يسأل عنهم عن سبب الظلم لأجل التوبيخ كأنّ السؤال من الرّسل بيان أنّهم إذا أثبتوا الإطاعة و التبليغ التحق التقصير بالكلّيّة إلى الامّة فيضاعف الإكرام للرّسل و الخزي للكفّار.

[فَلَنَقُصَّنَ ما أسرّوه و ما أعلنوه من أعمالهم، و فيها دلالة على أنّ اللّه عالم بالجزئيّات [وَ ما كُنَّا غائِبِينَ عنهم و عن أفعالهم. و لعل أن يكون السؤال عن الدّواعي و إلّا كتبهم مشتملة على أعمالهم.

و في الآية دلالة على أنّه يحاسب كلّ عباده لأنّهم لا يخرجون من أن يكونوا رسلا أو مرسلا إليهم، و يبطل قول من زعم أنّه لا حساب على الأنبياء و الكفّار.

فإن قيل: إنّ آيات تدلّ على السؤال كهذه و آيات تدلّ على عدم السؤال كقوله: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ» (1) و قوله: «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» (2) الجواب أنّ مواقف القيامة كثيرة فموقف لا يسأل و يعطّل لصدور الحكم و موقف يسأل.

[سورة الأعراف (7): الآيات 8 الى 9]

وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)

لمّا ذكر أحوال القيامة من السؤال و الحساب ذكر في هذه الآية بعض كيفيّات القيامة؛ منها الميزان لوزن الأعمال.

الوزن مبتدأ و الحق خبره، و يجوز أن يكون يومئذ خبره و الحقّ صفة له.

و في وزن الأعمال قولان:

الأوّل أنّه ينصب ميزان له لسان و كفّتان يوزن به أعمال العباد من الخير و

ص: 310


1- الصافات: 24.
2- الرحمن: 39.

الشرّ. قال ابن عبّاس: أمّا المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فتوزن فتثقل حسناته على سيّئاته فذلك، قوله: «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» و أمّا أعمال الكافر فتؤتى بصورة قبيحة فتوزن تلك الصورة.

و القول الثاني أنّ صحائف الخلق توزن و الميزان تنصب بين الجنّ و الأنس فيستقبل به العرش، إحدى كفتي الميزان على الجنّة و الاخرى على جهنّم و لو وضعت السماوات و الأرض في إحداهما لوسعتهن، و جبرئيل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه. و عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه: يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان و يؤتي له بتسعة و تسعين سجلّا. كلّ سجلّ منها مدّ البصر فيها خطاياه ثمّ يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه يوضع في الاخرى فترجّح.

و قال بعض المفسّرين: المراد بالوزن العدل و القضاء، يقال: هذا الكلام في وزن ذلك الكلام أي معادل ذلك الكلام، و في الاحتجاج عن الصادق عليه السلام: أنّه سئل أو ليس توزن الأعمال؟ قال: لا لأنّ الأعمال ليست أجساما و إنّما هي صفة ما عملوا أو إنّما يحتاج إلى وزن الشي ء من جهل عدد الأشياء و وزنها و لا يعرف ثقلها و خفّتها، و أنّ اللّه لا يخفى عليه خافية فقيل له: فما معنى الميزان؟ قال: العدل، قيل: فما معنى: «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ»؟ قال: فمن رجّح عمله. و إذا حملنا الآية على ظاهرها فلا يبعد أن يكون موازين كما قال: «وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ» (1).

و قوله: [وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فيها مسائل:

الاولى أنّها تدلّ على أنّ أهل القيامة فريقان و أمّا القسم الثالث و هو الّذي تكون حسناته و سيّئاته متساوية؛ فإنّه غير مذكور في الآية.

و المرجئة تمسّكوا بهذه الآية و قالوا: الّذين خسروا أنفسهم و خفّت موازينهم الظالمون بآيات اللّه و هم الكافرون لأنّه حصر أهل الموقف في قسمين: أحدهما الّذين رجّحت حسناتهم و حكم عليهم بالفلاح، و الثاني الّذين رجّحت سيّئاتهم و حكم عليهم بأنّهم

ص: 311


1- الأنبياء: 48.

أهل الكفر الّذين كانوا يظلمون بآيات اللّه، و ذلك يدلّ على أنّ المؤمن لا يضرّه المعصية.

و الجواب أنّه أقصى ما في الباب أنّه تعالى لم يذكر هذا القسم الثالث في هذه الآية إلّا أنّه ذكره في سائر الآيات فقال: «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* و المنطوق راجح على المفهوم؛ فوجب المصير إلى إثباته.

على أنّ كتب الأخبار مشحونة بعذاب العاصي إن لم يتب؛ حتّى في بعض الروايات قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: و إنّ من امّتي لا تناله شفاعتي إلّا بعد سبعين ألف سنة. و ليس بمعلوم أنّها من سني الدّنيا أم من سني الآخرة. و المقطوع أنّ هذا الخبر لغير الكافر و إلّا فالكافر مؤبّد بالنصّ و الإجماع.

المسألة الثانية: قال أكثر المفسّرين: المراد من قوله: «وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ» الكافر، و الدّليل عليه القرآن و الخبر؛ أمّا القرآن فقوله: [فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ و لا معنى لكون الإنسان ظالما بآيات اللّه إلّا كونه كافرا بها، فدلّ هذا على أنّ المراد من هذه الآية أهل الكفر.

و أمّا الخبر فقد ذكر قيل هذا، حيث إنّه يخرج له قرطاس إلى آخر الحديث و حديث آخر رواه الواحديّ في البسيط أنّه إذا خفّت حسنات المؤمن أخرج رسول اللّه من حجرته نطاقة كالأنملة فيلقاها في كفّة الميزان الّتي فيها حسناته فترجّح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: بأبي أنت و امّي ما أحسن وجهك و أحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا نبيّك محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم و هذه صلاتك الّتي كنت تصلّي عليّ قد وفّيتك حين أحوج ما يكون إليها. أقول: و لكن بشرطها، و الشرط الأعظم أن لا تخالف في شريعته و دينه حتّى تقبل الصلاة و لا يكون لقلقة اللسان.

[سورة الأعراف (7): آية 10]

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)

لمّا بيّن في آيات الوعيد و بيان السؤال عن الأعمال شرع و أمر بشكره بتعداد

ص: 312

نعمه لأنّ بيان النعمة يوجب الشكر للمنعم؛ فقال:

[وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ أي جعلنا لكم في الأرض مكانا و قرارا، و أقدرناكم على التصرّف فيها و جعلنا لكم فيها وجوه المنافع، و هي على قسمين: منها ما يحصل بخلق اللّه ابتداء مثل خلق الكلاء و الثمار، و منها ما يحصل بالاكتساب، و كلاهما في الحقيقة يرجع بفضله و إقداره على المقدور، و هذا الخلق و التسبيب يكون موجبا للشّكر.

و مع ذلك [قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ و «ما» زائدة أو مصدريّة أي يشكرون قليلا و «الياء» في «مَعايِشَ» لا تقلب همزة، لأنّ الياء أصليّة و غير الأصليّ تبدّل همزة نحو صحائف.

[سورة الأعراف (7): آية 11]

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

النظم: لمّا بيّن بعض نعمه في الآية السابقة بيّن بعضا آخر: و هي أنّه خلق أبانا آدم و جعله مسجودا للملائكة، و الإنعام على الأب يجري مجرى الإنعام على الابن؛ [وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي خلقنا و صوّرنا أصلكم و أباكم؛ لأنّه من المعلوم أنّ الأمر بالسجود وقع قبل خلقنا، و كلمة «ثُمَّ» للتراخي؛ فالمراد من الخلق تقديره لإحداث هذه الصورة، و التصوير إثباتها في اللوح المحفوظ أو المراد خلق عالم الذرّ، و بالجملة فبعد الخلق و التصوير أمر الملائكة بالسجود له.

و في هذه السجدة ثلاثة أقوال: أحدها أنّ المراد بالسجدة مجرّد التعظيم لا نفس السجدة. و ثانيها أنّ المراد هو السجدة إلّا أنّ المسجود له هو اللّه فآدم عليه السلام كالقبلة. و ثالثها أنّ المسجود له هو آدم.

ثمّ إنّهم اختلفوا في أنّ الملائكة الّذين أمروا بالسجود جميع الملائكة أم ملائكة الأرض فقط؟

و بالجملة [فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ و اختلفوا في أنّ إبليس هل كان من الملائكة أم من

ص: 313

الجنّ؟ و ظاهر الاستثناء يدلّ على أنّه من الملائكة، قال الحسن البصريّ: إنّه من الجنّ لأنّه خلق من نار و الملائكة خلقوا من نور، و الملائكة لا يستكبرون عن عبادته و لا يعصون اللّه و ليس إبليس كذلك و قد عصى فاستكبر، ثمّ إنّ الملائكة رسل اللّه و الرسول لا يخون و لا يخالف و إبليس خان، و هو أوّل خليفة الجنّ و أصلهم و أبوهم (1) كما أنّ أبا البشر آدم أوّل خليفة الإنس، و أمّا الاستثناء فلأنّه لمّا كان إبليس داخلا في الملائكة و مأمورا بالسجود مع الملائكة لخطته مع الملائكة استثناه اللّه. و كان اسم إبليس عزازيل؛ فلمّا عصى اللّه سمّاه بذلك فاهبط إلى الأرض.

[سورة الأعراف (7): الآيات 12 الى 13]

قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)

ظاهر الآية يقتضي أنّه تعالى طلب منه ما منعه من ترك السجود و ليس الأمر كذلك، و إنّما المقصود السؤال عمّا منعه عن السجود، و لهذا الإشكال حصل في الآية قولان:

الأوّل و هو المشهور أنّ كلمة «لا» صلة زائدة و التقدير: ما منعك أن تسجد و له نظائر كثيرة في القرآن كقوله: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» و كقوله: «وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» (2) أي يرجعون، و كقوله: «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» أي ليعلم أهل الكتاب.

و القول الثاني أنّ كلمة «لا» مفيدة و ليست لغوا، قال القاضي عبد الجبّار: ذكر المنع و أراد الداعي؛ فكأنّه قال: ما دعاك إلى أن لا تسجد؟ لأنّ مخالفة اللّه حالة عظيمة يتعجّب منها و يسأل عن الداعي إليها.

و احتجّ العلماء بهذه الآية على أنّ الأمر يفيد الوجوب؛ فقالوا: إنّه ذمّ

ص: 314


1- و هذا ينافي ما مر عن ابن عباس في ص 261 من ان الملائكة كلهم في الجنة و الشياطين في النار و الجن و الانس بعضهم في الجنة و بعضهم في النار.
2- الأنبياء: 95.

إبليس على ترك ما أمر به و لو لم يفد الوجوب لما كان مجرّد ترك المأمور به موجبا للذّم.

فإن قيل: هب إنّ هذه الآية يدلّ على أنّ ذلك الأمر يفيد الوجوب، فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت يفيد الوجوب فمن أين يجب أن يكون جميع الصيغ كذلك؟ قلنا: قوله تعالى: [ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ يدلّ على تعليل ذلك الذّم بمجرّد ترك الأمر: لأنّ قوله: «إِذْ أَمَرْتُكَ» مذكور في معرض التعليل، و المذكور في قوله: «إِذْ أَمَرْتُكَ» هو الأمر من حيث إنّه أمر لا كونه أمرا مخصوصا في صورة مخصوصة، و إذا كان كذلك وجب أن يكون ترك الأمر من حيث هو أمر موجبا للذّم، و ذلك يفيد أنّ كلّ أمر فإنّه يقتضي الوجوب فالموارد المحمولة على الإباحة و الاستحباب بدليل منفصل، و هو المطلوب.

و كذلك احتجّ من قال: إنّ الأمر يفيد الفور بهذه الآية، و قال: إنّه تعالى ذمّ إبليس على ترك السجود في الحال و لو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب هذا الذّم ترك السجود في الحال.

قال: [أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أي أجاب اللعين إنّما لم أسجد لآدم لأنّه خلق من طين و خلقت من نار و النار أفضل من الطين و المخلوق من الأفضل أفضل و من الأدون أدون، و النار مشرق علويّ لطيف خفيف يابس مجاور لجواهر السماوات ملاصق لها، و الطين مظلم سفليّ كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السماوات، ثمّ النار قويّة التأثير و الفعل، و الأرض ليس لها إلّا الانفعال و القبول؛ و الفعل أشرف من الانفعال، و أيضا فالنار مناسبة للحرارة الغريزيّة، و هي مادّة الحياة، و أمّا الأرضيّة فالبرد و اليبس فهما مناسبان للموت، و الحياة أشرف من الموت، و نضج الثمار و نماء الثمار متعلّق بوقت كمال الحرارة، و وقت الذّبول و الفناء و الشيخوخيّة وقت البرد و انتفاء الحرارة الغريزيّة باليبس المناسب للأرضيّة، و شرف الأصول يوجب شرف الفروع.

و قد قاس اللعين بهذه الأقيسة الفاسدة، لأنّه لا ملازمة بين فضيلة المادّة و فضيلة الصورة، و قد يكون المادّة فاضلة و الصورة قبيحة و إنّ أصل البول الماء، و الفضيلة عطيّة من اللّه يخرج الكافر من المؤمن، و النور من الظلمة و الظلمة من النور، و الفضل إنّما يكون بالأعمال لا بسبب الموادّ ألا ترى أنّ الحبشيّ المطيع أفضل من القرشيّ العاصي؟.

ص: 315

ثمّ احتجّ من قال: إنّه لا يجوز تخصيص عموم النصّ بالقياس بهذه الآية؛ لأنّ إبليس أخرج نفسه من هذا الحكم العامّ للسجود بالقياس و لا معنى للقياس إلّا ذلك، فلو كان تخصيص النصّ بالقياس جائزا لما استحقّ الذمّ حيث قال له: [فَاهْبِطْ مِنْها] و وقد نقل الواحديّ في البسيط عن ابن عبّاس أنّه قال: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربّه و هو أوّل من قاس فكفر بقياسه؛ فمن قاس الدّين برأيه قرنه اللّه بإبليس، انتهى كلام ابن عبّاس.

و هذا الخطاب مع إبليس إمّا بواسطة الملائكة أو بلا واسطة على سبيل الإهانه فأهبط منها.

قال ابن عبّاس: من جنّة عدن و فيها خلق آدم لا جنّة الخلد و قيل: من السماء؛ لأنّ أهل السماء ملائكة يتواضعون لأمر اللّه و هو تكبّر و خالف فأهانه اللّه بالذلّة و الصغار.

[سورة الأعراف (7): الآيات 14 الى 17]

قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)

المعنى: فطلب اللعين الإنظار من اللّه إلى وقت البعث و هو النفحة الثانية، و مقصود اللعين أن لا يذوق الموت فلم يعطه اللّه ذلك بل [قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ فههنا قولان:

الأوّل أنظره إلى النفحة الاولى، لأنّه سبحانه قال في آية اخرى: «فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»* (1) و المراد منه اليوم الّذي يموت فيه الأحياء كلّهم.

و قال آخرون: لم يوقّت اللّه له أجلا بل قال له: «إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ» و قوله:

«إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»* أي المعلوم في علم اللّه، و الدليل على ذلك أنّ إبليس كان مكلّفا، و المكلّف لا يجوز أن يعلم وقت أجله لأنّه يعلم ذلك المكلّف أنّه متى تاب قبلت توبته، فإذا علم وقت موته هو الوقت الفلانيّ أقدم على المعاصي بقلب فارغ فإذا قرب

ص: 316


1- الحجر: 37- 38، ص: 81- 82.

موته تاب فينحلّ النظام؛ فتعيّن الوقت يجري مجرى الإغراء بالقبيح و ذلك غير جائز على اللّه.

ثمّ نسب اللعين الإغواء إلى اللّه فقال: [فَبِما أَغْوَيْتَنِي مع أنّ اللعين هو تسبّب الغواية حيث تكبّر عن السجود فصار إمام الجبريّة و رئيسهم. و قيل: الغواية معناه الإهلاك.

ثمّ قال اللعين: بسبب أنّك لعنتي و طردتني و خيّبتني من جنّتك لأقعدنّ لهم و أمنعهم عن السلوك إلى الجنّة، و اعوجهم عن الاستقامة في الدّين بأن ازيّن لهم الباطل و اسعي في إغوائهم و أواظب على الإفساد، و لا أفتر عن إفسادي إيّاهم، و لهذا المعنى عبّر اللعين بالقعود لأنّ القاعد في أمر أفرغ باله و جهده في إتيان أمره و قصده، و هذه الآية تدلّ على أنّه كان عالما بدين الحقّ و الصراط المستقيم؛ فكفره كفر عناد و جحود و هو أعظم أنواع الكفر.

فلو قيل: إنّ إنظار إبليس هذه المدّة الطويلة اقتضى حصول المفاسد العظيمة ثمّ بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق و علم من حال إبليس أنّه لا يدعوا إلّا إلى الكفر و الضلال فأمات الأنبياء و أبقى إبليس.

فالجواب أنّ إبقاء إبليس و أثره في الإضلال ليس بطريق الإجبار و لا يقول عاقل: إنّ إبليس أجبر أحدا على الكفر بحيث لا يتمكّن عن قبول الإيمان، فلو كان الأمر كذلك لكان للقائل بهذا القول حجّة و ليس إنظاره بأكثر من خلق الشهوة في النفس فهو كهي فكما أنّ الشهوة لا تحملكم بالإجبار على الزنا فكذلك إمهال الشيطان، كما يقول اللعين لكم يوم القيامة: «إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» (1) فثبت أنّ إطاعتك إيّاه موجب لكفرك لا إمهاله، و لو نقلت الكلام إلى الشهوة فأنت إذا تقول: لم كلّفنا اللّه بالتكليف؟ لأنّ التكليف لا بدّ و أن يقع بين أمرين: من قبول و ردّ، و لو كان من طرف و أمر واحد لكان إجبارا و ليس بتكليف؛ لأنّ التكليف لا يتحقّق ماهيّته إلّا إذا كان المكلّف متمكّنا من الردّ و القبول.

ص: 317


1- ابراهيم: 27.

ثمّ إنّه إذا أمات الأنبياء الّذين كانوا أسباب الهداية ما نقص من أسباب الهداية لكم شيئا بسبب إبقاء كتابه فيكم و أنّ نبيّه بيّن لكم الحقّ بقوله، و قوله في كتابه باق لكم؛ فأيّ عذر لكم في ترك قول النبيّ و إطاعة الشيطان؟ و جعل قوّة القبول و الردّ فيكم متساوية لأنّه مهما ترصّد لكم الشيطان بغوايته و إضلاله فقد ترصّد لكم العقل بهدايته فتساوت القوّتان فلم تركت هذه و أدركت هذه؟ و للّه الحجّة البالغة و الحمد له.

رجع إلى التفسير:

[ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي الدنيا [وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أي الآخرة أي أوسوس لهم بالتكذيب للبعث و القيامة [وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ في الصرف عن الحقّ [وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ في الترغيب إلى الباطل و أفترهم عن فعل الحسنات، أي احيط بهم من الجهات في إغوائهم.

روي أنّه لمّا قال الشيطان هذا الكلام وقت قلوب الملائكة للبشر فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلّص الإنسان من هذه العدوّ المستولي عليه من هذه الجهات الأربع؟

فأوحى اللّه إليهم: أنّه قد بقي للإنسان جهتان: الفوق و التحت؛ فإذا رفع يديه إلى السماء في الدعاء أو وضع جبينه على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة.

ثمّ هنا نكتة: و هي أنّه تعالى ذكر الجهتين الأوليين بمن و الأخريين بعن و لا بدّ من الفرق بينهما و هو أنّه إذا قال: جلس عن يمينه معناه أنّه جلس متجافيا عن صاحب اليمين غير ملتصق به؛ قال اللّه: «عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ» (1) فبيّن سبحانه أنّه حضر على هاتين الجهتين ملكان و لم يحضر في القدّام و الخلف ملكان و الشيطان يتباعد من الملك فلهذا خصّ اليمين و الشمال بكلمة «عَنْ» لأجل أفادته البعد عن الملك، أو المراد أنّ اللعين يأتي من الجهات الأربع كما هو شأن العدوّ.

ص: 318


1- ق: 16.

[سورة الأعراف (7): آية 18]

قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

«الذءم» أشدّ العيب. و «الدحر» أشدّ الهوان. و «اللام» في قوله: «لَمَنْ تَبِعَكَ» لام الابتداء. و اللّام في قوله «لَأَمْلَأَنَّ» لام القسم.

لمّا وعد إبليس بالإفساد خاطبه اللّه على طريق الزجر: اخرج من الجنّة أو من السماء محقورا مطرودا، و قيل: «اللام» في قوله «لَمَنْ تَبِعَكَ» لام القسم، و الجواب لأملأنّ و قرء «لَمَنْ تَبِعَكَ» بكسر اللّام بمعنى لمن تبعك منهم هذا الوعيد أملؤ جهنّم من التابع و المتبوع.

ثمّ إنّ الكافر تبعه فكذلك الفاسق تبعه فيجب القطع بدخول الفاسق النار، و هذا قول المعتزلة.

و أجاب بعض أنّ المذكور في الآية أنّه تعالى يملؤ جهنّم ممّن تبعه، و ليس في الآية أنّ كلّ من تبعه فإنّه يدخل جهنّم.

[سورة الأعراف (7): آية 19]

وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

قوله: [وَ يا آدَمُ عطف على قوله «قالَ» أي قال اللّه لآدم: [اسْكُنْ - من السكنى لا من السكون- أنت و حوّاء أي اسكني أنت و كلا من أين شئتما و ما شئتما [وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ] و تفصيل الشجرة ذكر في سورة البقرة. و إن أكلتما منها فتكونا من الباخسين و المتضرّرين بهذا الأكل.

و في هذه الآية عشر مسائل ليس هنا موضع ذكره، و قد مضى في سورة البقرة شرحها، و مجملها أنّ «اسْكُنْ» أمر تعبّد أو إباحة من حيث إنّه لا مشقّة فيه فلا يتعلّق به لتكليف.

الثاني: كيفيّة خلق حوّاء.

الثالث أنّ تلك الجنّة هل جنّة الخلد أو من جنان الدنيا أو من جنان السماء؟

و الرابع: أمر «فَكُلا» أمر إباحة لا أمر تكليف.

ص: 319

الخامس: «لا تَقْرَبا» نهي تحريم أو نهي تنزيه؟

السادس: هذه الشجرة شخصيّة أو نوعيّة؟

السابع: أيّ شجرة كانت؟

الثامن أنّ ذلك الذنب صغير أم كبير أو ترك أولى؟.

التاسع: ما المراد من قوله: «فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» و هل يلزم من هذا التقريب إلى الشجرة الدخول تحت قوله: «أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» (1) و حاشا أن يكونا كذلك؟

العاشر أنّ هذه الواقعة قبل النبوّة أو بعد النبوّة؟ و تفصيل المسائل من أراده فليراجع في سورة البقرة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 20 الى 22]

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

المعنى: وسوس إذا تكلّم بكلام خفيّ يكرّره و به سمّي صوت الحلي وسواسا و الفرق بين «وسوس له» و «وسوس إليه» أنّ «إليه» معناه ألقى إلى قلبه المعنى بصوت خفيّ و «اه» معناه أوهم النصيحة في ذلك الكلام الخفيّ فوسوس لآدم و حوّاء ليظهر لهما ما ستر عنهما ممّا يكون أن يستتر أي العورة، علما منه اللعين أنّ من أكل من هذه الشجرة لا بدّ أن تبدي عورته، و من بدت عورته لا يترك في الجنّة فاحتال لهما بهذا الطريق في إخراجهم عن الجنّة.

و في كيفيّة الوصول إليها أقوال لأنّ آدم كان في الجنّة و إبليس قد اخرج منها.

قيل: كان يوسوس من الأرض إلى الجنّة بالفوقيّة المجعولة في تلك الطبيعة الناريّة.

ص: 320


1- هود: 21.

و قال أبو مسلم: بل كان آدم و إبليس في الجنّة و إنّها كانت بعض جنّات الأرض و الّذي يقوله الناس من أنّ إبليس دخل في جوف الحيّة هذه قصّة ركيكة مشهورة.

و قال آخرون: إنّ آدم و حوّاء ربّما قربا باب الجنّة و يأتي إبليس من خارج الجنّة على بابها و حصلت الوسوسة هناك.

و «اللّام» في قوله «لِيُبْدِيَ» لام العاقبة و لا يبعد أنّ اللّام لام الغرض لسقوط الحرمة و زوال نعمتهما عبادة لهما، أو لعلّه رأى اللعين في اللوح أو سمع من الملائكة أنّ لازم الأكل خروج عن الجنّة قال لهما: إنّما نهاكما اللّه عن أكل هذه الشجرة كراهة أن تكونا ملكين و كراهة الخلود، فإن أكلتما صرتما من الملائكة و مخلّدين في الجنّة و قرء «ملكين» بكسر اللام و المراد جهة الملك لا الملكوت.

و يدلّ على هذا المعنى قوله: «هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (1) و حلف لهما أنّي لكما من الناصحين و إنّما قاسمهما لأنّهما قبلا قسمه ظنّا منهما أنّه لا يقسم باللّه أحد بالكذب.

ثمّ إنّ اللعين قال لهما: إنّي خلقت قبلكما و أعلم أمورا كثيرة لا تعرفونها [فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ] و أطمعهما و أصله أنّ الرجل العطشان تدلّى الدلو أو رجليه في البئر ليأخذ منها الماء فاستعملت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه فقال: «دلا» أي أطعمه فلمّا قبلا يمينه و ذاقا ظهرت عوراتهما و نزع عنهما لباسهما و كان من النور فشرعا يجعلان ورقة على ورقة كالمرقع للنّعل و يقال للمرقع خصاف.

و ناداهما اللّه ألم أنهكما عن تلك الشجرة؟

[سورة الأعراف (7): آية 23]

قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)

قال بعض علماء العامّة: إنّ الآية إذا دلّت على صدور الذنب منه فذلك قبل النبوّة فالإيراد مدفوع، لكنّ القول الصحيح أنّه من قبيل «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» و محمول على ترك الأولى.

[سورة الأعراف (7): الآيات 24 الى 25]

قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ (25)

ص: 321


1- طه: 118.

قيل: الخطاب للثلاثة، و قيل: لهما [اهْبِطُوا] من محلّكم الرفيع و حصلت العداوة بينكما و بين إبليس و الأصحّ أن خطاب الهبوط لآدم و حوّاء و ذريّتهما؛ لأنّ إبليس قبل ذلك كان مخرجا عن الجنّة. و جملة «اهْبِطُوا» حاليّة. و لكم في الأرض استقرار و تمتّع إلى حين انقطاع آجالكم و إعادة قول «قالَ» للاستيناف إيذانا بعدم اتّصال ما بعده بما قبله، و التوجّه بما بعده.

قال: [فِيها] أي في الأرض تعيشون [وَ فِيها تَمُوتُونَ و من الأرض [تُخْرَجُونَ للجزاء.

[سورة الأعراف (7): آية 26]

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

النظم: قيل: إنّ المشركين كانوا يطوفون بالبيت بعضهم عراة و يقولون: لا نطوف بثياب عصينا اللّه فيها، قيل: مرادهم أبوهم آدم أيضا فأنزل اللّه الآية، و لمّا أهبط اللّه آدم، و جعل لهم الأرض مستقرا بيّن لهم أنّه أنزلنا ما يحتاجون إليه و الأحوج يواري العورة أوّلا، و معنى الإنزال ما يحصل به اللباس من السماء و هو الماء الّذي مادّة كلّ شي ء، كقوله: «وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» (1) و كقوله: «وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» (2).

و منّ على بني آدم بثلاثة أقسام من اللباس؛ قسم ليستروا به عورتهم، و قسم للزينة و القسم الثالث لباس التقوى، أمّا الأوّل فقال: [يُوارِي سَوْآتِكُمْ و أمّا الزينة فقال: [وَ رِيشاً] استعير من ريش الطير لأنّ الريش للطير زينة و لولاه لكان مستقبحا، و قرء «و رياشا» و القسم الثالث خير منهما لأنّ به يستفدك كلّ حسن و جميل و المؤمن غير بادي العورة و إن كان عاريا، و الفاجر بادي العورة و إن كان كاسيا و أضيف اللباس إلى التقوى لأنّ به يتجمّل عند اللّه و كما أضيف إلى الجوع في قوله: فأذاقها لباس الجوع و الخوف. (3)

ص: 322


1- الحديد: 25.
2- الزمر: 8.
3- النحل: 113.

[سورة الأعراف (7): آية 27]

يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)

اعلم أنّ المقصود من ذكر قصص الأنبياء حصول العبرة، و لمّا ذكر قصّة آدم و عداوة إبليس إيّاه أتبعها لتحذير أولاده من قبول وسوسته؛ فقال: [لا يَفْتِنَنَّكُمُ كما افتنّ أبويكم فإذا افتنّكم يدخلكم النار [يَنْزِعُ عَنْهُما] جملة حاليّة و «اللام» في [لِيُرِيَهُما] لام العاقبة. و في «للباس» قيل: المراد لباس التقوى و قيل: لباس الجنّة و لباس النور.

ثمّ حذّر سبحانه أنّ الشيطان يراكم هو و قبيله، و تكرير الضمير بقوله «هُوَ» ليحسن العطف كما في قوله: «اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ»* «القبيل» الجماعة أي أصحابه و نسله و قوله: «يَراكُمْ» يتناول أوقات المستقبل. و قدرتهم على البشر بطريق الوسوسة لا غير.

قال بعض العلماء: و لو قدر الجنّ على تغيير صورهم بأيّ صورة شاءوا لوجب أن يرتفع الثقة عن معرفة الناس؛ فلعلّ هذا الّذي أشاهده و أحكم عليه بأنّه ولدي أو زوجتي شيطان صوّر نفسه بصورة ولدي، كذلك لو كانوا قادرين على تخبيط الناس، و إزالة العقل عنهم و التصرّف فيهم كيف شاؤوا مع عداوتهم على نوع البشر خصوصا في حقّ بعض الطبقات من الزهّاد و العلماء، و لمّا لم يوجد شي ء من ذلك علمنا أنّه لا قدرة لهم على البشر إلّا بطريق الوسوسة لا غير، و قد قابلها العقل، و هذا الطريق ليس بشي ء من القدرة.

[سورة الأعراف (7): آية 28]

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)

قيل في بيان الآية: إنّ الحمس (1) و هم طائفة من المشركين يطوفون البيت و هم

ص: 323


1- بضم الحاء قبائل من العرب قد تشددت في دينها فكانت لا تستظل ايام منى، و لا تدخل البيوت من ابوابها، و هي قريش و كنانة و من دان بدينهم من بنى عامر بن صعصعة. و قيل: هم قوم آخرون.

عراة يعبدون الأصنام و يقولون: نعبد إلهنا و نطوف عراة كما ولدتنا امّنا، و لا نطوف بثياب قارفنا فيها الذنوب.

قال الفرّاء: كانوا يعملون شيئا من السيور (1) يشدّونها على حقويهم و إن عمل من صوف يسمّى رهطا و كانت المرأة تضع على قبلها النسعة مع عدم كونه صوفا فيقول:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه و ما بدا منه فلا احلّه

يعني الفرج لأنّ ذلك لا يستر سترا تامّا فنهاهم اللّه عن هذا الفعل و هذه الفاحشة، و حجّتهم بإتيان هذه العادة الملعونة أنّه إنّا وجدنا آباءنا يفعلون هذا العمل زعما أنّ هذا دليلهم.

ثمّ أتوا بدليل آخر بزعمهم حيث قالوا: [وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها] فردّ اللّه عليهم بأنّ اللّه لا يأمر بالسوء و الفحشاء، فهل سمعتم منه تعالى بلا واسطة أو عرفتم ذلك بطريق الوحي إلى الأنبياء؟ أمّا الأوّل فبديهيّ البطلان و أمّا الثاني فباطل أيضا؛ لأنّكم تنكرون نبوّة الأنبياء على الإطلاق، فإذن لا طريق لكم على العلم بهذا الأمر؛ فكيف تقولون على اللّه ما لا تعلمون؟

و احتجّ نفاة القياس بهذه الآية، و قالوا: الحكم المثبت بالقياس مظنون و غير معلوم و ما لا يكون معلوما لم يجز القول به لأنّه تعالى قال في معرض الذمّ: «أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»؟

[سورة الأعراف (7): الآيات 29 الى 30]

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

لمّا بيّن اللّه أنّه لم يأمر بالفحشاء أمر في هذه الآية بالعدل و القسط، قال ابن عبّاس: هو قول «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»* هذا أمر بثلاثة أشياء: شهادة للّه بالفرديّة و هو حقيقة القسط، و الثاني معرفة اللّه في أفعاله و صفاته و أحكامه، ثمّ أمر بأهمّ العبادات و هو

ص: 324


1- السيور جمع السير و هو قطعة من جلد مستطيلة. و يقرب منه النسعة- بالكسر- فإنها حبل يشد به الرجال.

قوله: [وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي و قل لهم: بأن تقيموا الصلاة، و قدّر: قل لهم أقيموا لأنّ عطف الإنشاء على الخبر لا يجوز، (1) و المراد من «أَقِيمُوا» استقبال القبلة.

ثمّ قال: [عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] و المراد زمان الصلاة أو مكان الصلاة، و الأوّل أولى، قال ابن عبّاس: المراد إذا حضرت أوقات الصلاة و أنتم عند مسجد فصلّوا فيه و لا يقولنّ أحدكم لا أصلّي إلّا في مسجد قومي كما كانوا يقولون، ثمّ أمر بالدعاء على سبيل الخلوص و التقرّب، و المراد بالدعاء الصلاة؛ لأنّ الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء و لأنّ أشرف أجزاء الصلاة الدعاء و الذكر.

ثمّ قال: [كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أي كما كنتم تبعثون مؤمنا أو كافرا تعودون، و قيل: معناه: كما بدأكم و لم تكونوا شيئا كذلك تعودون أحياء.

و يؤيّد هذا المعنى أنّه ذكر عقيبه: [فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ] و المراد من الفريقين: فريقا هدى إلى الجنّة بسبب قبوله الإيمان و فريقا حقّ عليهم العذاب بقبولهم الكفر؛ فيحكم على الفريقين ما يستحقّون، و انتصاب «فَرِيقاً» بفعل محذوف يفسّره ما بعده كأنّه قال: «هدى فريقا و خذل فريقا».

ثمّ بيّن الّذي لأجله حقّت على هذه الفرقة الضلالة و هو [إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقبلوا دعواهم و لم يقبلوا الحقّ من اللّه و مع ذلك يزعمون أنّهم باتّخاذ الشياطين أولياء مهتدون.

[سورة الأعراف (7): الآيات 31 الى 32]

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

النظم: كانت القريش إذا وصلوا إلى معبدهم طرحوا ثيابهم و لا يأكلون من الطعام إلّا قوتا و لا يأكلون دسما، فقال المسلمون: يا رسول اللّه نحن أحقّ بذلك

ص: 325


1- احتمل الطبرسي كونه عطفا علي جملة «لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ» و عليه يكون من عطف الإنشاء لفظا على الإنشاء معنى؛ فان تقديرها: احذروا الشيطان. و هذا جائز.

أن نفعل، فنزلت الآية أي البسوا ثيابكم و كلوا اللحم و الدسم و اشربوا و لا تسرفوا، و المراد من الزينة اللباس الفاخرة لأنّ الزينة لا يحصل إلّا بستر التامّ للعورات، و لذلك صار تجويد اللّباس و التزيين بأحسن الثياب في الجمع و الأعياد سنّة.

ثمّ إنّ المفسّرين أجمعوا على أنّ المراد بالزينة هاهنا الثوب الكامل الّذي يستر به العورة فيدلّ على وجوب ستر العورة عند إقامة كلّ صلاة و قوله: «خُذُوا زِينَتَكُمْ» أمر و الأمر للوجوب.

فإن قيل: عطف سبحانه على أخذ الزينة الأكل و الشرب و لا شكّ أنّ أمر الأكل و الشرب أمر إباحة فيقتضي أنّ أمر الأخذ بالزينة و اللباس إباحة.

و جوابه أنّه لا يلزم من ترك الظاهر من حقيقة الأمر في المعطوف تركه في المعطوف عليه و قد بيّن ترك الظاهر في المعطوف من دليل منفصل، ثمّ قد يكونان واجبين أيضا في مورد مخصوص عند الحاجة.

فلو قيل: إنّ هذه الآية نزلت في المنع عن المعطوف حال العرى.

فالجواب أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإذا ثبت أنّ ستر العورة واجب في الصلاة فوجب أن تفسد الصلاة عند تركه.

ثمّ إنّ قوله: «كُلُوا وَ اشْرَبُوا» مطلق يتناول الأوقات و الأحوال و الأصل في المنافع الحل و الإباحة إلّا ما خصّه الدليل المنفصل، فقوله: «وَ لا تُسْرِفُوا» تحديد للاستعمال بأن لا يتجاوز الحدّ في الأكل و الشرب.

ثمّ قال سبحانه: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ استفهام إنكاريّ، و قد بيّنّا معنى الزينة، فإن كان معناها ما يستر العورة فالآية اعتراض على العراة في الطواف و العرب الّذين كانوا يمسكون في الأكل و الشرب و اللحوم أيّام الموسم و على القول بأنّ المراد مطلق اللباس و التجمّل فيتناول جميع أقسام الزينة، و يدخل فيه تنظيف البدن، و يدخل تحتها أنواع الحليّ و المركوب الحسن و الغذاء المستلذّ.

روي عن عثمان بن مظعون أنّه أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و قال: غلبني حديث النفس عزمت أن أختصي. فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: مهلا يا عثمان إنّ خصاء امّتي الصيام.

ص: 326

قال: فإنّ نفسي تحدّثنى بالترهّب، قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: ترهّب امّتي القعود في المساجد لانتظار الصلاة.

فقال: تحدّثني نفسي بالسياحة، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: سياحة امّتي الغزو في سبيل اللّه و الحجّ و العمرة.

فقال: إنّ نفسي تحدّثني أن اطلّق خولة زوجتي و أهجر، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الهجرة في امّتي مهاجرة ما حرّم اللّه.

قال: فإن نفسي تحدّثني أن لا أغشاها قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ المسلم إذا غشي أهله أو ما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولدا كان له و سيف في الجنّة، و إذا كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرّة عين و فرح يوم القيامة، و ان كان مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعا و رحمة يوم القيامة.

قال: فإنّ نفسي تحدّثني أن لا آكل اللحم، قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: مهلا إنّي آكل اللحم إذا وجدته و لو سألت اللّه أن يطعمنيه كلّ يوم فعله.

قال: فإنّ نفسي تحدثني أن لا أمسّ الطيب قال: مهلا فإنّ جبرئيل أمرني بالطيب غبّا، و قال: لا تتركه يوم الجمعة.

ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عثمان لا ترغب عن سنّتي فإنّ من رغب عن سنّتي و مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي.

و هذا الحديث يدلّ على أنّ في هذه الشريعة كلّ أنواع الزينة و الأطعمة مباح إلّا ما خصّه الدليل، لكن أيّها المكلّف تدبّر في ما يقع بيدك و لا تجعل أصل الإباحة مناطا لحلّيّة ما حلّ في كفّك فتكون من القائلين بأنّ الحلال ما حلّ في الكفّ، نعم إذا خلص الأشياء من الحذر فالأصل فيها الإباحة، و لا بدّ من التفقّه في المكاسب.

[قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا] المعنى أنّ النعم في الحياة الدنيا غير خالصة للمؤمنين لأنّ المشركين شركاؤهم في التمتّع منها و أمّا في الآخرة فهي خالصة للمؤمنين و أنّ هذه النعم مشوبة بالكدورات، و في الآخرة صافية.

فإن قيل: هلّا قيل في الآية: للّذين آمنوا و لغيرهم للتّنبيه على أنّها خلقت

ص: 327

للمؤمنين بالأصالة و الكفرة تبع لهم.

و حاصل المعنى أنّ النعم شائبة في الحياة الدنيا للمؤمنين و خالصة لهم في الآخرة.

[كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي مثل هذا التفصيل نفصّل سائر الأحكام للمتدبّرين.

[سورة الأعراف (7): آية 33]

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)

قيل: «الْفَواحِشَ» الكبائر و «الْإِثْمَ» الصغائر و قيل: «الْإِثْمَ» مطلق الذنب و «الْفَواحِشَ» الكبائر، و قيل «الفاحشة» اسم لما يجب عليه الحدّ و «الْإِثْمَ» اسم لما لا يجب عليه الحدّ، و قيل: «الفاحشة» اسم لما تفاحش و تزايد في الأمور إلّا أنّه في العرف مخصوص بالزنا قال اللّه في الزنا «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً»* (1) و إذا قيل: فلان فحّاش فهم منه أنّه يشتم الناس بألفاظ الوقاع و على هذا المعنى «ما بَطَنَ» منها يريد الزناء سرّا و هو الّذي يقع على سبيل العشق و المخادنة، و «ما ظَهَرَ» بأن تقع علانية، و قيل: «الْإِثْمَ» مختصّ بالخمر لأنّه تعالى قال في صفة الخمر: «وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» (2).

الثالث من المحرّمات البغي بغير حقّ و البغي لا تستعمل إلّا على الاستطالة على الناس للترؤس ظلما نفسا أو مالا أو عرضا.

فإن قيل: البغي لا يكون إلّا بغير حقّ فما الفائدة في الذكر؟ و المعنى: لا تقدموا على إيذاء الناس بالقهر إلّا أن يكون لكم فيه حقّ فحينئذ يخرج عن كونه بغيا.

الرابع: الشرك [وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ أي امتنعوا عن الشرك لأنّه ليس لكم بارتكاب الشرك سلطان و حجّة، لأنّ الإقرار بالشي ء الّذى ليس على ثبوته حجّة؛ فالثبات عليه قبيح.

ص: 328


1- الإسراء: 34.
2- البقرة: 216.

و الخامس [وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي بغير علم تحكمون في الدين تحرّمون حلاله و تحلّلون حرامه.

فإن قيل: كلمة «إِنَّما» تفيد الحصر و المحرّمات غير محصورة في هذه الخمسة؟

قلنا: إن قلنا: إنّ الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر و الإثم على مطلق الذنب دخل كلّ الذنوب و إن حملنا الفاحشة على الزنا و الإثم على الخمر فقلنا: الجنايات محصورة في خمسة أنواع:

أحدها: الجنايات على الأنساب و هي تحصل بالزنا و هي المراد بقوله «إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ».

و ثانيها: الجنايات على العقول و هي شرب الخمر و إليه الإشارة بقوله تعالى:

«وَ الْإِثْمَ».

و ثالثها: الجنايات على النفوس و الأعراض و الأموال، و إليه الإشارة بقوله:

«وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ».

و رابعها: الجنايات على الأديان و الطعن في توحيد اللّه و إليه الإشارة بقوله:

«وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ».

و خامسها: الجنايات في الأحكام العمليّة كالحرام و الحلال و إليه الإشارة بقوله:

«وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ».

فهذه اصول الجنايات و البواقي مندرجة تحت هذه الخمسة، لا جرم جعل سبحانه ذكرها جاريا مجرى ذكر الكلّ؛ فصحّ كلمة «إِنَّما» و إنّما يعرف القرآن من خوطب به.

[سورة الأعراف (7): آية 34]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

أي و لكلّ جماعة و أهل عصر مدّة من الحياة، فإذا جاء أجلهم و انقضت المدّة لا يتأخّرون عن الموت و لا يتقدّمون في وقوعه، و أتى بلفظ الساعة لأنّ هذا اللفظ أقلّ أسماء الأوقات و يعبّر عنها بالآن.

[سورة الأعراف (7): الآيات 35 الى 36]

يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)

ص: 329

لمّا ذكر في الآية السابقة ما يضرّهم من الأمور من المعاصي عقّبه بذكر ما ينفعهم من الأمور الدينيّة و خاطب جميع المكلّفين فقال: إن يأتكم رسل من جنسكم و يبيّنون رسالاتهم لكم، فمن لازم اقتفاءهم و اتّقى نواهيهم و أصلح عمله بقبول قولهم فليس عليهم خوف في الدّنيا و لا هم يحزنون في الآخرة، و الّذين استكبروا بحججنا و كذّبوا بآياتنا و خالفوهم فهم ملازمون النار و مخلّدون إلى الأبد.

و إنّما قال: «رُسُلٌ» و الخطاب إلى الرسول لأنّه أجرى الكلام على ما تقتضيه سنّته في الأمم.

و اختلف الكلاميّون في أنّ المؤمنين من أهل الطاعات هل يلحقهم خوف و حزن عند أهوال القيامة؟ فذهب بعضهم إلى أنّه لا يلحقهم ذلك، و الدليل عليه قوله: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» (1).

و ذهب بعضهم بأنّه يلحقهم الفزع لقوله: «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ الآية» (2) و أجابوا عن آية «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» بأنّ معناه أنّ أمرهم يؤول إلى العافية و السرور، كقول الطبيب للمريض: لا بأس عليك أي أمرك يؤول إلى العافية و إن كان في الوقت في بأس من علّته.

ثمّ تمسّكوا أصحاب السنّة بهذه الآية على أنّ الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلّدا في النار لأنّه تعالى قال في الجاحدين و المستكبرين: «هُمْ فِيها خالِدُونَ» و كلمة هم يفيد الحصر فذلك يقتضي أنّ من لا يكون موصوفا بهذه الصفة لا يبقى مخلدا في النار.

[سورة الأعراف (7): آية 37]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)

ص: 330


1- الأنبياء: 103.
2- الحج: 2.

المعنى: فمن أعظم ذنبا ممّن يقول على اللّه ما لم يقله أو كذّب ما قاله لأنّ الأوّل افتراء و هو الحكم بوجود ما لم يوجد، و الثاني التكذيب و هو الحكم بإنكار ما وجد، ثمّ إنّ الأوّل دخل فيه قول من أثبت للّه شريكا، و الثاني يدخل فيه من أنكر كون القرآن كتابا نازلا من عند اللّه.

ثمّ أوعد بقوله: [أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي العذاب المعيّن في اللّوح، و الأقرب أنّ المراد ما كتب لهم من الأعمار و الأرزاق.

فإذا فنيت و انقرضت جاءتهم رسلهم يتوفّونهم و هم ملك الموت و أعوانه، قال الرسل لهم: أين الآلهة الّتي كنتم تعبدونها من دون اللّه؟ قالوا: ضلّوا و غابوا عنّا لا ندري أين مكانهم و «ما» في «أَيْنَ ما» موصولة.

[وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ في الدنيا و عابدين لما لا يستحقّ العبادة أصلا.

[سورة الأعراف (7): الآيات 38 الى 39]

قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

هذه الآية شرح أحوال الكفّار بعد الموت قيل: القائل هو اللّه، و قيل: هو من كلام خازن النار: ادخلوا في النار مع امم و جماعة فحرف «فِي» بمعنى مع الّذين تقدّم زمانهم زمانكم و هذا المعنى يشعر بأنّ اللّه لا يدخل الكفّار بأجمعهم في النار دفعة واحدة بل يدخل الفوج بعد الفوج؛ فيكون فيهم سابق و مسبوق و يشاهد الداخل من الأمّة في النار من سبقها.

[كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها] أي مثلها في الدين و العقيدة فيلعن و يتبرّأ بعضهم من بعض مثل أنّ المشركين يلعنون المشركين و اليهود اليهود و النصارى النصارى و سائر فرق الكفر.

ص: 331

[حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا] و تلاحقوا و اجتمعوا في النار [قالَتْ أُخْراهُمْ دخولا فيها [لِأُولاهُمْ دخولا أو التابعين للمتبوعين و السفلة للرؤساء «و اللام» في قوله «لِأُخْراهُمْ» لام أجل أي لأجل إضلالهم إيّاهم: [رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا] لأنّهم غرّونا بالدّعوة إلى لباطل متأسّيا بهم فيستدعون من اللّه أن يزيد العذاب على المتقدّمين لهم.

[فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ] و في «الضِّعْفِ» اختلاف أقلها مثليه. قال اللّه: لكلّ من التابع و المتبوع عذاب مضاعف أي كثير؛ لأنّهم قد دخلوا الكفر جميعا [وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ و قرء بالياء أي لا يعلم كلّ فريق مقدار عذاب الآخر، أو المعنى: أنتم يا أهل الدنيا لا تعلمون مقدار عذابهم.

فإن قيل: إن كان المراد من قوله لكلّ أحد ضعف ما استحقّوه فذلك غير جائز لأنّه ظلم و إن لم يكن المراد ذلك فما معنى كونه ضعفا؟ فالجواب أنّ المراد من البيان أنّ عذاب الكفّار يزيد و لا يبقي على نهج واحد فكلّ ألم يحصل فإنّه يحصل عقبه ألم آخر إلى غير النهاية فكانت الآلام متضاعفة متزايدة لا إلى آخر، و لا ينافي هذا من أن يكون عذاب المضلّ ضعف عذاب الضالّ.

[وَ قالَتْ أُولاهُمْ أي الرؤساء في الضلال و الإضلال للتابعين: [فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي في ترك الكفر و أنّا مشاركون في الكفر و استحقاق العذاب و لو أنّ هذا الكلام منهم كذب [فَذُوقُوا الْعَذابَ يمكن أن يكون من قول اللّه، و يمكن أن يكون قول المتبوعين.

[سورة الأعراف (7): الآيات 40 الى 41]

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

بيّن سبحانه مقته و وعيده المكذّبين و المستكبرين بأوامره و شرح كيفيّة خلودهم، و المراد جميع أصناف الكفّار من منكري التوحيد و النبوّات؛ لأنّ التكذيب يتناول الكلّ و الاستكبار الترفّع بالباطل.

[لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ] قرء تفتّح مخفّفة و مشدّدة، قال ابن عبّاس: لا تفتح

ص: 332

لأعمالهم و لا يقبل منهم طاعة و هذا معنى قوله: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» (1).

و قيل: المراد: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء و تفتح لأرواح المؤمنين، و يؤيّد هذا المعنى هذا الحديث من أنّ روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال لها: مرحبا بالنفس المطمئنّة الّتي كانت في الجسد الطيّب، و يقال لها ذلك حتّى تنتهي إلى السماء السابعة.

و يستفتح لروح الكافر فيقال لها: ارجعي ذميمة فإنّه لا يفتح لك أبواب السماء لأنّ الجنّة في السماء و السماء موضع بهجة الأرواح و أماكن سعاداتها و منها ينزل الخيرات.

[وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ] و هذا وعيد شديد. «و السمّ» بالفتح و الضمّ ثقب الإبرة، و قرء بالحركات الثلاث في السين و كلّ ثقب لطيف في كلّ شي ء فهو سمّ و جمعه سموم و منه السمّ القاتل «و الجمل» قرء على أقسام، أمّا المعروف فالجمل و هو كالمثل السائر في عظم الجثّة و «ثقب الإبرة» أضيق المنافذ فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة محالا، فبيّن سبحانه أنّ هذا الأمر مشروط بوقوع هذا الشرط و أنّه محال فذلك محال.

قال ابن عبّاس «الجمل» على وزن «قمل» و قرء بوزن «القفل» و قرء بوزن «النصب» و معناه القلس الغليظ للسّفينة. و الحبل الغليظ أنسب إلى الإبرة.

و بالجملة [وَ كَذلِكَ أي و مثل هذا الّذي وصفناه [نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين بآيات اللّه، ثمّ وصف المكان الّذي يدخلون فيه و هو جهنّم، و لهم بعد دخولهم غطاء و وطاء من النار محيطة بهم من تحتهم و من فوقهم و «جَهَنَّمَ» غير منصرف للعلميّة و التأنيث و هي من الجهامة و هي الغلظ لشدّة أمرها أو من الجهائم؛ و هي بئر بعيدة القعر و «غَواشٍ» أصله «غواشي» حذف الياء للتخفيف و عوّضوا النّون.

[سورة الأعراف (7): الآيات 42 الى 43]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

ص: 333


1- فاطر: 11.

في الآية ذكر الوعد بالخلود بالجنان.

المعنى: و الّذين صدّقوا و عملوا بأوامره أولئك أصحاب الجنّة مخلّدون فيها.

و قوله: [لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها] قيل: معترضة للتأكيد لبيان أنّ الإيمان و العمل الصالح أمر دون الوسع و الطاقة و أنّ من استحقّ النار فمن نفسه و ليس الإيمان أمر صعب لا يتمكّنون منه، و الكفّار كانوا يتمكّنون أن لا يدخلوا النار، ثمّ بعد دخول المؤمنين الجنّة أخرجنا ما في قلوبهم من الحسد فلا يتحاسدون بعضهم بعضا بسبب ارتفاع درجة بعضهم من بعض فإنّ هذا أمر يوجب التباغض لكي يكونوا في غاية اللّذة.

و قال المؤمنون: الحمد للّه الّذي أعطانا هذه النعمة و هدانا إلى الجنّة و ما كنّا نرد هذا المكان المنيع لو لا هدايته و قبولنا الإيمان بنبوّة أنبيائنا، و جاءت رسل ربّنا بالحقّ بما بيّنوا لنا من كتابهم و شرعهم، و يناديهم مناد من قبل اللّه: هذه تلكم الّتي وعدتهم بها.

و يجوز أن يكون الخطاب منه سبحانه بأن يخلق كلاما، و إنّما قال: «تِلْكُمُ» لأنّهم وعدوا في الدنيا بهذه اللذائذ، أورثتموها كما أنّ الميراث اختصاص لأهله من دون معارض كذلك لكم، أو المعنى: جعلها اللّه لكم بدلا عمّا كان أعدّ للكفّار لو آمنوا.

روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من أحد إلّا و له منزل في الجنّة و منزل في النار أمّا الكافر فيرث المؤمن منزلة في النار و المؤمن يرث الكافر منزله في الجنّة و ذلك قوله:

أورثتموها بتوحيدكم و أعمالكم الصالحة.

ص: 334

[سورة الأعراف (7): الآيات 44 الى 45]

وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)

«نَعَمْ» كلمة عدة و تصديق و «العوج» في الخلقة بفتح العين و في الطريقة والدين بكسرها.

المعنى: و بعد استقرار أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار. قوله: «وَ نادى أتي بلفظ الماضي و سينادي لتحقّق الوقوع ينادي أهل الجنّة أهل النار أن قد وجدنا ما وعد ربّنا في الكتب على لسان الرسل حقّا و حقيقة ثابتة فهل وجدتم ما قيل لكم من العذاب؟ قالوا: نعم فينادي مناد بينهم يسمع الفريقين. و «أَنْ» قرء مخفّفة و مشدّدة غضبه و لعنته على القوم الموصوفين بالكفر.

و قيل: إنّ المؤذّن خازن النار. و روي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه قال:

المؤذّن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام و في تفسير عليّ بن إبراهيم القميّ عن محمّد بن الحنفيّة عن عليّ عليه السلام أنّه قال: أنا المؤذّن قال ابن عبّاس: إنّ لعليّ عليه السلام في كتاب اللّه أسماء لا يعرفها الناس منها المؤذّن فهو يقول في ذلك: ألا لعنة اللّه على الظالمين الّذين كذّبوا بولايتي و استخفّوا بحقّي.

قوله تعالى: [سورة الأعراف (7): الآيات 46 الى 47]

وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)

المعنى: و بين أهل الجنّة و النار أو بين الفريقين حجاب هو المذكور في قوله:

«فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ» (1) له باب و هو الأعراف و اختلف في الرّجال قيل: إنّهم الّذين ساوى حسناتهم و سيّئاتهم فحالت حسناتهم بينهم و بين النار و حالت سيّئاتهم بينهم و بين الجنّة فجعلوا هناك حتّى يقضي اللّه فيهم ما شاء، ثمّ يدخلهم الجنّة برحمته، عن ابن عبّاس و ابن مسعود.

ص: 335


1- الحديد: 13.

و روى الثعلبيّ في تفسيره أنّ الأعراف موضع عال على الصراط عليه حمزة و العبّاس و عليّ و جعفر يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه. و قيل: إنّهم الملائكة في صورة الرجال يعرفون أهل الجنّة و أهل النار و يكونون خزنة الجنّة و النار أو يكونون حفظة الأعمال الشاهدين بها في الآخرة و قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: هم آل محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم و عرفوه. و لا يدخل النار إلّا من أنكرهم و أنكروه، و عن الحسن و مجاهد أنّ أهل الأعراف فضلاء المؤمنين. و قيل: إنّهم الشهداء و هم عدول الآخرة.

و عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليه السلام: أنّ الأعراف كثبان بين الجنّة و النار يتوقّف عليها كلّ نبيّ و خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده، و قد سبق المحسنون إلى الجنّة فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الوافقين معه:

انظروا إلى الإخوان المحسنين و قد سبقوا إلى الجنّة، فيسلّم المذنبون عليهم و ذلك و قوله: «وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ».

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم [لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ أي يطمعون أن يدخلهم اللّه بشفاعة النبيّ و الإمام و ينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون: [رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .

[سورة الأعراف (7): الآيات 48 الى 49]

وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

المعنى: ثمّ ينادي أصحاب الأعراف و هم الأنبياء و الخلفاء أهل النار موبّخين و مقرّعين لهم:

[ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أي هؤلاء المستضعفين و الفقراء الّذين كنتم تستطيلون عليهم بدنياكم و تحقّرونهم؟

ثمّ يقولون لهؤلاء الفقراء عن أمر من اللّه لهم بذلك: [ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ و يؤيّده ما رواه عمر بن شيبة و غيره: أنّ عليّا قسيم الجنّة

ص: 336

و النار (1) و رواه أيضا بأسناده عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم إنّه قال: يا عليّ كأنّي بك يوم القيامة و بيدك عصا عوسج تسوق قوما إلى الجنّة و اخرى إلى النار. و روى أبو القاسم الحسكانيّ بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة قال: كنت جالسا عند عليّ عليه السلام فأتاه ابن الكوّاء فسأله عن هذه الآية؛ فقال: ويحك يا ابن الكوّاء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة و النار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة، و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار.

قوله: [يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ يعني هؤلاء الرجال الّذين هم على الأعراف يعرفون جميع الخلق بسيماهم. و قوله: [وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ] يعني الّذين على الأعراف ينادون أصحاب الجنّة [أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ و هذا التسليم تهنئة بما وهب اللّه لهم [لَمْ يَدْخُلُوها] أي لم يدخلوا الجنّة بعد [وَ هُمْ يَطْمَعُونَ طمع يقين؛ مثل قول إبراهيم: «وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي» و هو قول الحسن و أبو عليّ.

[سورة الأعراف (7): الآيات 50 الى 51]

وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)

ذكر سبحانه كلام أهل النار أي و سينادي أصحاب جهنّم أصحاب الجنّة- و أتى بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه-: أن صبّوا علينا من الماء يسكّن به العطش و يدفع به حرّ النار أو من الطّعام الّذي رزقكم اللّه قال أهل الجنّة جوابا: إنّ اللّه حرّم الماء و الطعام من الجنّة عليكم و «أَوْ» هنا للإباحة مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، و يزيل اللّه عنهم ما يمنع الاستماع مع بعد المسافة، أو يقوّي اللّه أسماعهم و أصواتهم و هم الّذين اتّخذوا في الدنيا دينهم مشتهياتهم و ما بالوا بأمر الدّين فحلّلوا ما شاؤوا في دنياهم فاليوم ننساهم أي كما نسوا هذا اليوم فننساهم مجازاة على عملهم و جحودهم بآياتنا.

ص: 337


1- القسيم لغة المقاسم و هو من يأخذ قسمه من شريكه و عليه فكون امير المؤمنين فسيما للنار له معنى محصل و أما انه عليه السلام قسيم الجنّة ففيه خفاء. و أورد في البصائر ص 122 روايات في هذا الباب فجاء في بعضها: قسيم النار و في بعضها: قسيم اللّه بين الجنّة و النار و في بعضها: صاحب النار و في بعضها: قسيم الجنّة و النار.

[سورة الأعراف (7): الآيات 52 الى 53]

وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)

و لمّا بيّن سبحانه حال هؤلاء الثلاثة من أهل الجنّة و النار و الأعراف كأنّه يقول لم فعلوا بأنفسهم هكذا؟ و نحن أتممنا عليهم الحجّة و جئناهم بكتاب على تفصيل يهدي إلى الرّشد و الصلاح و يؤمّن عن الغلط و الخبط، و هو هداية و رحمة لمن عمل به،؟ و ذلك التفضيل وقع على طريق العلم و الحكمة، و لمّا بيّن إزاحة العلة بتفضيل الكتاب بيّن حال المكذّبين به، فقال:

هل ينظرون أن يرون ما يؤول و ينتهي أمرهم و يتوقّعون عاقبة ما وعدوا به؟ يوم يأتي عاقبته أي يوم القيامة يقول الّذين تركوا العمل به و نبذوه وراء ظهورهم في الدّنيا و يعترفون بأنّه قد جاءت رسل ربّنا بالحقّ من ثبوت الحشر و المعاد و الثواب و العقاب يقولون: فهل لنا من شفعاء ليشفعوا لنا؟ أو هل لنا رجعة في الدنيا فنعمل غير الّذي كنّا نعمل من الكفر و المعاصي؟ فيخبر اللّه عن حالهم بأنّ الّذي طلبوه لا يمكن، و قد أهلكوا أنفسهم و غاب و بطل عنهم مفترياتهم بزعمهم أنّ أصنامهم شفعاؤهم: أولا جنّة و لا نار.

[سورة الأعراف (7): آية 54]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)

لمّا ذكر اللّه الكفّار و ضلالتهم بيّن لهم و لغيرهم مصنوعاته و دلّهم بمقدوراته و حتّى يتبصّرون بالدلائل و و يخرجون عن حالة العمى و الضلالة فخاطب جميع الخلق بقوله:

[إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أنشأ إبداعهما و أعيانهما في الست و أصله «سدس» أبدل السين الثانية تاء و لمّا كان مخرج الدّال و التاء قريبا ادغم الدال.

ص: 338

في التّاء فصار ستّ و ستّة، و الدليل عليه أنّك تقول في تصغير ستّة: سديسة.

فأبدعهما سبحانه لا من شي ء و لا على مثال.

ثمّ أمسك السماء بلا عماد يدعمها و كذلك الأرض في ستّة أيّام أي في مقدار ستّة أيّام؛ لأنّ ذلك الوقت ما كان ليل و لا نهار؛ فلمّا بيّن إبداعهما و خلقهما، و الخلق معناه: تقدير الشي ء على نحو معيّن، و العقل بالبداهة يحكم و يقضي بأنّ تقدير الشي ء بمقدار معيّن لا بدّ من مقدّر و إلّا يجوز الأزيد و الأنقص كما جاز هو، فكونه بمقدار معيّن لا يكون إلّا بتقدير المقدّر الفاعل المختار.

ثمّ إنّ كون هذه الأجسام أي الأجرام الفلكيّة و السماويّة متحرّكة في الأزل محال؛ لأنّ الحركة انتقال من حال إلى حال فالحركة يجب وجودها أن يكون مسبوقة بحركة اخرى، و الأزليّة ينافي المسبوقيّة، فكان الجمع بين الحركة و الأزل محالا قطعا؛ فإذا ثبت هذا الأصل فنقول:

الأفلاك و الكواكب و السماوات إمّا أن يقال: إنّ ذواتها كانت معدومة في الأزل ثمّ وجدت، أو يقال: إنّها كانت موجودة ذلك الوقت أو بعد ذلك الوقت، فإذا لم يكن كذلك- يعني لم تكن أزليّة لأنّ الأزليّة منافية مع الحركة و الحركة مسلّمة- فاختصاص ابتداء تلك الحركة بتلك الأوقات المعنيّة تقديرا و خلقا يدلّ و يلزم أن يكون بتقدير مخصّص قادر مختار و هو اللّه.

و دليل آخر: أنّ أجرام السماوات و الكواكب و العناصر مركّبة من أجزاء صغيرة، و لا بدّ أن يقال: إنّ بعض تلك الأجزاء حصلت في داخل تلك الأجرام و بعضها حصلت على سطوحها حتّى يتحقّق السطحيّة فاختصاص حصول كلّ واحد من تلك الأجزاء بحيّزه المعيّن و وضعه و شكله المخصوص لا بدّ و أن يكون بتخصيص مخصّص قادر مختار.

و دليل آخر أنّ كلّ واحد من الأفلاك أعلى من بعض و كلّا من الكواكب متحرّك أو الأفلاك متحرّكة إلى جهة مخصوصة و حركة مختصّة من البطي ء و السرعة، و ذلك خلق و تقدير و لا يكون التقدير إلّا من القادر المختار.

ص: 339

و كذلك أنّ كلّ واحد من الكواكب مختصّ بلون مختصّ مثل كمودة زحل و درّيّة المشتري و حمرة المرّيخ و إشراق الزهرة و صفرة عطارد، و الأجسام متماثلة في تمام الماهيّة؛ فاختصاص كلّ واحد منها بلونه المعيّن دليل على افتقارها إلى فاعل متصرّف واضع.

و لا يتوهّم من قوله تعالى «فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» و قوله: «وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» (1) تناقض لأنّه تعالى و إن كان قادرا على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنّه بحكمته جعل لكلّ شي ء حدّا محدودا و لا يدخله في الوجود إلّا على ذلك الحدّ. و ذلك أقوى دليل على كونها واقعة بإحداث محدث لأنّه إذا وقع دفعة واحدة ثمّ انقطع طريق الإحداث يخطر بالبال أنّه إنّما وقع على سبيل الاتّفاق أمّا إذا أحدث على التدريج و التعاقب يكون الدليل أكمل و أتمّ.

و قوله «كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» بيان مقام القدرة، و قوله «فِي سِتَّةِ» مقام الفعل، ثمّ قد يكون بحسب المصلحة مقام الفعل أيضا يقع «كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ».

و قوله: [ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي تمّ و استقرّ ملكه بعد خلق السماوات و الأرض و ظهر ذلك للملائكة، و اخرج الكلام على المتعارف من كلام العرب كقولهم:

استوى الملك على عرشه أي انتظمت امور مملكته كما إذا اختلّ أمر سلطنته يقال:

شلّ عرشه قال الشاعر الجاهليّ:

إن يقتلوك فقد شلّت عروشهم بعتيبة بن الحارث بن شهاب

قال الفرّاء: معنى الآية: ثمّ بعد خلق السماوات و الأرض قصد إلى خلق العرش. و يدلّ هذا المعنى حيث إنّ خلق العرش وقع بعد خلق السماوات. و أولى معاني الاستواء في الآية أن يفسّر القرآن. قال اللّه: «وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى (2) أي استتمّ شبابه و قال: «كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ» (3) أي استتمّ ذلك الزرع و المراد إتمام خلقة العرش العظيم فإنّه أعظم المخلوقات و جميع ما خلق و يخلق دنيا و اخرى لا يخرج عن دائرة العرش، لأنّه حاو لجميع

ص: 340


1- القمر: 50.
2- القصص: 13.
3- الفتح: 29.

الممكنات حتّى الحجب و السرادقات، و الحقّ سبحانه أعظم رتبة من كلّ عظيم.

و في الآية تقديم و تأخير فيكون تقدير الآية: الّذي خلق السماوات و الأرض هو الرّحمن ثمّ استوى على العرش «فالرحمن» مبتدأ و خبره مقدّم عليه و ذلك الخبر هو قوله «الَّذِي خَلَقَ» كما تقول: الّذي جاءك زيد، ثمّ استوى على العرش اعتراض.

قال الرازيّ: لا يمكن أن يكون المراد منه أن يكون مستقرّا على العرش؛ لأنّ التحيّز و التناهي من بعض الجهات لازم للزّيادة و النقصان، و الحدوث و التغيّر و الخلأ و الملأ كلّها محال على اللّه، فإنّه تعالى إذا تحيّز في جهة فالجهة الاخرى خالية عنه و هو إلى الجهة المتحيّز بها مفتقر إليها، و المحتاج ممكن لذاته و واجب الوجود غيره.

ثمّ لو كان الباري في حيّز وجهة لكان مشارا إليه بحسب الحسّ و ما يشار إليه إمّا يقبل القسمة أولا؛ فإن كان لا يقبل القسمة كان نقطة و جوهر فرد و في وجود جوهر الفرد و عدمه اختلاف، و أنّ إلها يكون في العالم يدبّر الكلّ و يخلق السماوات و الأرض و العرش و هو في الصغر و الحقارة مثلا جزء من ألف جزء من رأس إبرة أو ذرّة؛ فكلّ قول يفضي إلى مثل هذه الترّهات صراحة العقل يحكم بقبحه و يكون مثل هذا الإله كمثل ما هو أصغر من النملة بآلاف درجة.

و إمّا أن يقبل القسمة فيكون ذاته حينئذ مركّبا من أجزاء يقوّم بعضها بوجود بعض؛ فذاك المقوّم يحتاج وجوده و كونه إلى هذا المقوّم و كلّ جزء من هذا المركّب يحتاج إلى جزء غيره حتّى يتحقّق الوجود بالتركيب و هو من لوازم الحدوث و الإمكان و الاحتياج و الكلّ باطل؛ فإنّ لوازم التركيب التجسّم و التجزّء و التفرّق و النموّ و الذبول و الكون و الفساد، تعالى اللّه عن هذه الأمور.

و أمّا الدلائل السمعيّة فكثيرة أوّلها: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» و الأحد مبالغة في كونه واحدا.

و قوله تعالى: «وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» (1) فلو كان اللّه في العرش

ص: 341


1- الحاقة: 17.

لكان حامل العرش حاملا للإله لزم أن يكون حافظا و محفوظا و حاملا و محمولا، و أنّ اللّه يمسك السموات.

و قوله تعالى: «وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ» (1) و حكم لنفسه أنّه غنيّ على الإطلاق فوجب أن يكون غنيّا عن الجهة و المكان، و إذا كان المراد من الاستواء الاستقرار و التحيّز لزم أن يكون قبل الاستقرار مضطربا معوجا، و يكون متّصفا بصفة الأجسام من الانتقال و الحركة و السكون و يكون قابلا للأبعاد الثلاثة و كلّها مناف مع الجلالة الإلهيّة.

رجعنا إلى التفسير:

[يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ] فجعل ظلمة اللّيل على النهار بمنزلة الغشاوة و اللباس للنهار [يَطْلُبُهُ حَثِيثاً] و يدركه سريعا يأتي من أثره و عقبه.

[وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ مذلّلات جاريات مطيعات بتدبيره فخلقهنّ بهذه الكيفيّة لمنافع الخلق، و قرئ مسخّرات بالنصب على الحاليّة.

[أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ] و له الاختراع و يفعل بها ما يشاء [تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي تعالى بالوحدانيّة ثابتا، و هو من بروك الإبل و ثباته على الإناخة، و هو ربّ العوالم بأسرها.

[سورة الأعراف (7): الآيات 55 الى 56]

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

لمّا ذكر الدّلائل الدالّة على الوجود و القدرة أتبعه بذكر الأعمال اللائقة بتلك المعارف ليقوم العبد بوظائف العبوديّة و هي الاشتغال بالدّعاء و التضرّع فإنّ الدعاء مخّ العبادة؛ فقال:

[ادْعُوا] قال بعض: المراد: اعبدوا ربّكم. و قال آخرون: هو الدعاء، و الأظهر أنّ المراد الدعاء.

و بعض القاصرين في النظر أنكروا الدعاء و احتجّوا بحجج ضعيفة، قالوا: إنّ المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع و إن كان معلوم اللاوقوع

ص: 342


1- فاطر: 16.

فلا فائدة في طلبه؛ فإنّه إن كان قد أراد في الأزل إحداث ذلك المطلوب فهو حاصل سواء حصل هذا الدعاء أم لم يحصل، و إن كان قد أراد في الأزل المنع فهو ممتنع الوقوع فلا فائدة في الدعاء.

و هيهات من القائلين بهذا القول عن العلم! «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» (1) و لو كان الأمر كما زعموا فهذا الحكم جار في جميع أنواع التكليف و العبادات؛ فإنّه يقال: إن كان هذا الإنسان سعيدا في علم اللّه فلا حاجة إلى الطاعات و إن كان شقيّا في علمه فلا فائدة في تلك العبادات، و يلزم فيه أن يترك و يبطل التكليف بل يجب أن لا يقدم الإنسان على أمر من امور دنياه حتّى أكل الخبز؛ لأنّه إن كان هذا الإنسان شبعان في علم اللّه لا حاجة له في أكل الخبز و إن كان جائعا في علم اللّه فلا فائدة في أكل الخبز، فكما أنّ هذا الكلام باطل فذلك أيضا باطل ببداهة العقل و أنّ هذا القول لا يجوّزه ذو دين من أهل الأديان.

و الدعاء له فوائد كثيرة يفيد المعرفة في ذلّة السؤال و العبوديّة و هذا هو المقصد الأعلى من جميع العباد؛ فإنّ الداعي لا يقدم على الدعاء إلّا إذا عرف نفسه محتاجا إلى ذلك المطلوب الّذي يطلبه، و كونه عاجزا عن تحصيله، و يعرف غنى ربّه و يسمع دعوته و هو قادر على دفع تلك الحاجة لو اقتضت المصلحة و هو رحيم، و يعرف عجز نفسه و قدرة ربّه فإذا كان الدعاء مستجمعا لهذه الأمور لا جرم كان من أعظم أنواع العبادات.

و لا مقصود من جميع التكاليف إلّا معرفة عزّ الربوبيّة و ذلّ العبوديّة، فإنّ التضرّع لا يحصل إلّا من الناقص في حضرة الكامل كما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ما من شي ء أكرم على اللّه من الدعاء ثمّ قرأ صلى اللّه عليه و آله و سلم: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» (2).

و «الضراعة» ضدّ الاستكبار و معناه إظهار الذلّ الّذي في النفس، و مثله التخشّع يقال: «ضرع الرجل» إذا مال بإصبعه يمينا و شمالا خوفا و ذلّا.

ص: 343


1- الرعد: 39.
2- المؤمن: 62.

و «الخفية» ضدّ العلانية و «الهمزة» في «الإخفاء» منقلبة من التاء و «الخفية» الرهبة و الخوف و الطمع؛ فقوله «تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً» حال من الداعي، متضرّعين خائفين طامعين، و لا بدّ للدّاعي من صونها عن الزناء المبطل لحقيقة العمل و الخلوص.

و قرء «وَ خُفْيَةً» بكسر الخاء. قال بعض: إنّ الإخفاء معتبر في الدعاء لهذه الآية و ظاهر الأمر للوجوب فإن لم يكن فلا أقلّ من الندب.

و قيل: إنّ التضرّع رفع الصوت و «الخفية» سرّا و همسا فيكون المعنى: ادعوا علانية و سرّا، عن أبي مسلم و رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره. و روي عنه صلى اللّه عليه و آله و سلم:

خير الذكر الخفيّ و خير الرزق ما يكفي.

و بالجملة لعلّ الحكم على أن يكون إذا كان الداعي واثقا بنفسه عن الرياء كان الأولى في نفسه الإظهار لتحصيل فائدة الاقتداء و ظهور الذلّة، و إن كان غير واثق من نفسه بوقوع الريا فالأولى إخفاؤه بل عليه إخفاؤه.

[إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قيل: معناه هو الصياح في الدعاء خارجا عن المعتاد، و قيل: معناه يعرف الداعي طلبه و مقامه و لا يطلب منازل الأنبياء و مقامهم في الدعاء.

[وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ و لا تعلموا شيئا من المفاسد من القتل للنفوس و الغضب في الأموال و السرقة و وجوه الحيل، و في الأديان بالبدعة، في الأنساب بالزناء و إفساد العقول بالمسكرات؛ فإنّ عمدة مصالح المعتبرة في الدنيا هذه الخمسة، و مراعاتها و هي النفوس و الأموال و الأنساب و الأديان و العقول فقوله «وَ لا تُفْسِدُوا» منع إدخال ماهيّة الفساد و الإفساد في الوجود و المنع من إدخال الماهيّة في الوجود يقتضي المنع من جميع أبوابه.

«من بَعْدَ إِصْلاحِها» أي بعد أن هيّأنا أسباب صلاحها بسبب إرسال الرسل و إنزال الكتب، أو بعد أن صلح خلقتها على الوجه المطابق لمنافع الخلق و مصالح المكلّفين فكونوا منقادين.

و هاهنا مسألة: و هي أنّ المتكلّمين اتّفقوا على أنّ من عبد و دعا لأجل الخوف من العقاب و الطمع في الثواب لم يصحّ عبادته و ظاهر الآية في قوله: «وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً»

ص: 344

يقتضي أنّه أمر المكلّف بأن يأتي بالدعاء لهذا الغرض؛ فكيف طريق التكليف؟.

و ذلك لأنّ المتكلّمين فريقان: الأشاعرة و منهم أهل السنّة يقولون: التكاليف إنّما نزلت لأجل الإلهيّة و العبوديّة فكوننا عبيدا أو كونه إلها لنا يقتضي أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء فلا يعتبر منه كونه في أنفسها حسنا و صلاحا.

و الفريق الثاني: المعتزلة و هم يقولون: التكاليف إنّما وردت لكونها في أنفسها مصالح. إذا عرفت هذا فعلى القول الأوّل توجّه وجوب بعض الأعمال و حرمة بعضها بمجرّد أمر اللّه و نهيه ممّا أوجبه و نهاه فمن أتى بهذه العبادات حيث إنّه أمر بها صحّت، أمّا من أتى بها خوفا من العقاب أو طمعا في الثواب وجب أن لا يصحّ لأنّه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها.

و أمّا على قول المعتزلة فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح، فمن أتى بها للخوف من العقاب أو للطّمع في الثواب فلم يأت لأجل وجه وجوبها فوجب أن لا تصحّ.

و التوفيق بين الآية و القول أنّ المراد من قوله «وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً» الخوف من وقوع التقصير في الشرائط المعتبرة في الامتثال الذي وقع الطمع في حصول الشرائط و قبولها بكرمه و فضله؛ فحينئذ حصل التوفيق، و يؤيّد هذا المعني قوله تعالى: «يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» (1).

و الاختلاف بين الأشاعرة و المعتزلة ليس في مسألة و عشرة، و إنّما هي في مسائل كثيرة.

منها في الحسن و القبح هل هو شرعيّ أم عقليّ.

منها في الكلام هل هو قديم أو حادث، و الأشاعرة يقولون بقدم الكلام لأنّه تعالى يقول: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ» و ميّز بين الخلق و الأمر مخلوقا لما صحّ هذا التميّز و العطف.

و ردّ أبو عليّ الجبّائيّ بأنّه لا يلزم من إفراد الأمر في الذكر عقيب الخلق أن

ص: 345


1- المؤمنون: 62.

لا يكون الأمر داخلا في الخلق بل هو داخل في الخلق قال اللّه: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ» (1) مع أنّ آيات الكتاب داخلة في القرآن و قال: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ» (2) مع أنّ الإحسان داخل في العدل و كذلك قال: «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ» (3) و هما داخلان في الملائكة.

و منهم قول الكعبيّ: إنّ مدار حجّتهم على أنّ المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه و أنّه تعالى قال: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ» (3) و عطف الكلمات على اللّه فوجب أن يكون الكلمات غير اللّه، و كلّ ما كان غير فهو محدث مخلوق فوجب أن يكون الكلام محدثا مخلوقا.

و قال القاضي عبد الجبّار: أطبق المفسّرون على أنّه ليس المراد بالأمر في الآية كلام التنزيل بل المراد نفاذ إرادة اللّه فإذا سقطت الحجّة و انقطع الدليل.

قوله: [إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ تذكير القريب باعتبار المعنى من الرحمة و هو الغفران و العفو أو باكتساب التذكير من المضاف إليه كقوله: «إنارة العقل مكسوف بطوع هوى» أو صفة لمحذوف أي أمر قريب أو بمعنى الذات كما قالوا: امرأة طالق و حائض، و ذكر القريب لتحقّق وقوعه و لو في الآخرة؛ فإنّ ما هو آت قريب.

[سورة الأعراف (7): الآيات 57 الى 58]

وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

النظم: لمّا ذكر دلائل التوحيد من بيان العالم العلويّ من السماوات و العرش و الشمس و القمر و النجوم أتبعه في هذه الآية بذكر بعض أحوال العالم السفليّ و من آثار العلويّة كالرياح و السحاب و الأمطار يترتّب وجود النبات و الثمار، و يحصل للإنسان معرفة المبدء و المعاد و النشر و البعث و القيامة و تجديد الأوضاع.

ص: 346


1- الحجر: 1.
2- النحل: 92 . (3) البقرة: 92.
3- الأعراف: 158.

قرء «الريح» على لفظ الواحد، و قرء بلفظ الجمع «رياح» و في الواحد أيضا معنى الجمع الجنسيّة.

و قرء «نشر» بالنّون مضمومة و الشين مضمومة و هو جمع نشور مثل رسل و رسول، فيكون المعنى: رياح منشّرة أي مفرّقة، و القراءة المعروفة بالباء الموحّدة جمع بشير من قوله: «يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ» (1) تبشّر بالرّحمة أي المطر، و مرسلها و ناشرها هو اللّه و قد وصفوا الريح بأنّه هواء متحرّك، و لو كان كما يقولون فكون هذا الهواء متحرّكا ليس لذاته و لا للوازم ذاته و إلّا لدامت حركته بدوام ذاته؛ فلا بدّ بتحريك الفاعل جلّ جلاله.

قالت الفلاسفة: هاهنا سبب آخر: و هو أنّه يرتفع من الأرض أجزاء أرضيّة كالهباء تسخّنه الشمس تسخينا قويّا شديدا فسبب تلك السخونة ترفع و تتصاعد فإذا وصلت إلى القرب عن الفلك كان الهواء الملتصق بمقعّر الفلك متحرّكا على استدارة الفلك بالحركة المستديرة التي حصلت لفلك الطبقة من الهواء و يمنع هذه الأدخنة و الأجزاء من الصعود بل يردّها عن سمت حركتها؛ فحينئذ ترجع تلك الأدخنة و الأجزاء فتتفرّق في الجوانب و بسبب ذلك التفرّق تحصل الرياح ثمّ كلّما كانت الأدخنة أكثر و كان صعودها أقوى كان رجوعها أيضا أشدّ فكانت الرياح أقوى.

و هو باطل لوجوه؛ و ذلك لأنّ صعود الأجزاء الأرضيّة إنّما يكون لأجل شدّة تسخينها، و لا شكّ أنّ ذلك التسخين عرض لأنّ الأرض باردة يابسة بالطبع فإذا كانت الأجزاء الأرضيّة متصعّدة جدّا كانت سريعة الانفعال فإذا تصاعدت و وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء امتنع بقاء الحرارة فيها بل تبرد جدّا، و إذا بردت امتنع بلوغها في الصعود إلى الطبقة الهوائيّة المتحرّكة بحركة الفلك؛ فبطل ما ذكروه من السبب.

الثاني من الوجوه أنّ حركة تلك الأجزاء الأرضيّة النازلة لا تكون حركة قاهرة فإنّا نشاهد أنّ الرياح إذا هبّت حركت الغبار الكثير، ثمّ عاد ذلك الغبار و

ص: 347


1- الروم: 45.

نزل على السطوح لم يحسّ أحد نزولها، و نرى هذه الرياح تارة تقلع الأشجار و تهدم الجبال و تموّج البحار؛ فلو كان هبوب الرياح من طبيعة الصعود و النزول من الأجزاء فهذه الطبيعة مستقرّة دائمة فيكون الأثر على نهج واحد إمّا على رخاء دائما و إمّا على عصف دائما و ليس كذلك لأنّا نرى أنّ الشمعة في فصل مخصوص لا تطفؤ بالرّيح و نرى بذلك الفصل المخصوص أنّ الشجرة انقلعت من الرياح.

الوجه الثالث أنّه لو كان الأمر على ما قالوه لكانت الرياح كلّما كانت أشدّ وجب أن يكون حصول الأجزاء الغباريّة أكثر، و ليس الأمر كذلك لأنّ الرياح قد يشتدّ عصوفها في وجه البحر، و الحسّ يدرك أنّه ليس في ذلك الهواء المتحرّك العاصف شي ء من الغبار و الكدرة أصلا. و كذلك نرى في الأرض بعض الأوقات مع هبوب العواصف لا يكون غبار أصلا فبطل بهذا الوجه العلّة الّتي ذكروها في حركة الرياح.

ثمّ إنّ المنجّمين قالوا: إنّ قوى الكواكب هي الّتي تحرّك هذه الرياح و توجب هبوبها، و هذا أيضا ليس بشي ء لأنّ الموجب لهبوب الرياح إن كان طبيعة الكواكب وجب دوام الهبوب، و إن كان هو طبيعة الكوكب بشرط حصوله في البرج المعيّن و الدرجة المعيّنة وجب أن تتحرّك حينئذ هواء كلّ العالم لأنّا نرى أنّ في شيراز رياح عاصفة و في خارجها بمقدار فرسخ لم يكن نسيم فضلا عن رياح؛ فلا يكون إلّا بأمر الفاعل القيّوم يأمر الملك و الملكوت، انتهى.

رجعنا إلى التفسير: [بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي بين يدي المطر، و العرب يستعمل «اليد» في معنى التقدمة و القرب على سبيل المجاز و استعمل لفظ «اليد» لأنّها مقدّمة للمطر.

قوله: [حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا] أقل فلأن الشي ء إذا حمله أي إلى أن حملت الرياح سحابا ثقالا بالماء فإنّ السحاب الكثيف متضمّن للمياه الكثيرة و هو يبقي معلّقا في الهواء، و دبّر بحكمته أن يحرّك الرياح تحريكا شديدا فلأجل الحركات الشديدة ينضمّ أجزاء السحاب بعضها إلى بعض و يتراكم، و ينعقد السحاب الكثيف الماطر، و بسبب تلك الحركات يمتنع الأجزاء المائيّة من النزول دفعة واحدة و لا جرم يبقى السحاب معلّقا في الهواء و يسوقه الرياح في موضع إلى موضع علم اللّه صلاحه

ص: 348

و للمطر استحقاقه و حرمانه.

ثمّ إنّ الرياح تارة تكون جامعة لأجزاء السحاب و انضمامها و تارة لتفريقها و مبطلة لها، و تارة مقوّية للزّرع مكمّلة للنشوء و النماء و هي اللواقح و تارة مبطلة لها كرياح الخريف، و تارة مهلكة كالسموم أو من البرد الشديد، و تارة شرقيّة، و تارة غربيّة و شماليّة و جنوبيّة و من جانب دون جانب؛ فلو كان المنشأ و السبب كسب هواء المجاور لمقعّر الفلك، و سرعة حركة المقعّر فوجب حدوث الرياح فمن أين يحصل هذه الكيفيّات المتبائنة من الرياح؟ مع أنّ مدار حركة الفلك على نهج واحد فإذن لا بدّ و أن يكون الرياح على نهج واحد.

قيل: إنّ الرياح ثمان:

أربع منها عذاب: و هو العاصف و القاصف و الصرصر و العقيم.

و أربعة منها رحمة: الباشرات و المبشّرات و المرسلات و الذاريات.

قال السدّيّ: إنّه يقال: يرسل الرياح فيأتي بالسحاب ثم يبسطه في السماء و يفتّح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثمّ يمطر السحاب و يكون السحاب للماء كالغربال فيمطر، و لو ينزل الماء بغير هذا الترتيب لأفسد الزرع.

[سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ نسوق السحاب إلى مواضع من الفلاة و الأرض [فَأَنْزَلْنا بِهِ الضمير يرجع إلى البلد أو بالسحاب لأنّ السحاب آلة لإنزال الماء [فَأَخْرَجْنا بِهِ بهذا الماء أو بهذا البلد المسقيّ من كلّ أنواع الثمر.

[كَذلِكَ أي كما أخرجنا الثمرات و نحييها [نُحْيِ الْمَوْتى لكي تتذكّرون حالة البعث و النشور.

[وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أرض الطيّب ترابه يخرج زروعه حسنا ناميا زاكيا بأمر اللّه [وَ الَّذِي خَبُثَ كأرض السبخة لا يخرج منها إلّا شيئا قليلا لا يفيد.

و هذا مثل ضربه اللّه للمؤمن و الكافر؛ فالمؤمن شبّهه اللّه بالأرض الطيّبة و الكافر بالأرض الخبيثة فإنّ الروح الطاهرة إذا اتّصل بها نور القرآن ظهرت فيها

ص: 349

أنواع الخير و الطاعة، و الروح الخبيثة الكدرة و إن اتّصل بها نور القرآن لم يظهر فيها المعارف الإلهيّة و الأخلاق الحميدة إلّا اليسير.

[كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ فمثل هذا المثل بيّنّا الشواهد و الدلائل [لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ اللّه و يعرفون قدر نعمه.

[سورة الأعراف (7): الآيات 59 الى 62]

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)

قال الصادق عليه السلام عاش نوح ألفي و خمسمائة سنة، ثمان مائة سنة قبل أن يبعث و ألف سنة إلّا خمسين عام و هو يدعوهم، و مأتي سنة يعمل السفينة و خمسمائة بعد الطوفان.

لمّا ذكر سبحانه دلائل توحيده ذكر في هذه الآية أحوال من أنكر و عاند تسلية لنبيّه محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم و تثبيتا له على الأذى من قومه.

و «اللّام» للقسم و هذه اللّام غالبا تتّصل «بقد» و «قد» تأكيد و تحقيق للكلام و تقديره: و باللّه حقّا أقول إنّا بعثنا نوحا إلى قومه و امّته.

و هو أوّل نبيّ بعد إدريس جدّه قيل: إنّه كان نجّارا ولد في عام الّذي مات فيه آدم، و بعد أن بعث للنبوّة كان يدعوهم ليلا و نهارا فلم يزدهم دعاؤه إلّا فرارا و كان يضربه قومه حتّى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: «اللّهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون».

[فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ قيل كان عمره ألفا و أربعمائة و خمسين سنة، و بعث بالنبوّة حين كان عمره مائتين و خمسين، و يدعو قومه تسعمائة و خمسين، و عاش بعد الطوفان مائتين و خمسين سنة، و أمر قومه بعبادة اللّه وحده.

[ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و لم يقل على سبيل القطع لأنّه احتمل و جوّز أن يؤمنوا، و المراد بالعذاب العظيم عذاب يوم القيامة و يحتمل أن يكون مراده عذاب الطوفان.

[قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ و هم الأشراف الّذين يملؤون المجلس بتجمّعهم و حواشيهم

ص: 350

و تمتلئ العيون و القلوب من جلالتهم و هيبتهم [إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ و هذه الآية بمعنى الاعتقاد لا المشاهدة.

فأجاب عليه السلام [لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ] أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة، و هذه العبارة أبلغ في عموم السلب. و وصف نفسه بأشرف الأوصاف و هو النبوّة فقال:

[وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ و أعلم أمورا لا تعلمون كالعذاب و الطوفان و احبّ لكم ما احبّ لنفسي و أنصح لكم في امور دينكم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 63 الى 64]

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)

الهمزة للاستفهام دخلت على واو العطف فبقيت مفتوحة كما كانت، أي و هل تعجّبتم على بشر مثلكم أن جاء بكم و أتى بكتاب أو معجز أو أمر يأمركم و ينهاكم. و منشؤ عجبهم و نسبتهم الضلال إلى نوح أنّ التكليف لا منفعة له للمعبود و كلّ ما يرجى فيه من الثواب و دفع العقاب فاللّه قادر أن يعطيه بدون واسطة تكليف؛ فالتكليف عبث.

و قال بعضهم من الملأ: ما علم حسنه بالعقل فعلناه و ما علمنا قبحه تركناه، و مالا نعلم حسنه و لا نعلم قبحه فإن كنّا مضطرّين إليه فعلناه لعلمنا أنّه متعال عن أن يكلّف عبده مالا يطاق و إن لم نكن مضطرّين تركناه فأيّ حاجة إلى الرسول و بتقدير أن يكون الرسول لازما فيكون من جنس الملائكة لأولويتهم و أكمليّتهم و استغنائهم عن المأكول و المشروب و بعدهم عن الكذب.

و ظنّ آخرون منهم أنّ ما يدّعي نوح فهو من جنس التخيّلات و الجنون فلهذه العقائد الفاسدة نسبوا نوحا إلى الضلالة و كذّبوا نوحا فيما دعاهم إليه؛ فخلّصناه و من كان معه في السفينة من المؤمنين و أغرقنا الّذين كذّبوا بآياتنا في الماء.

[إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عن الحقّ يقال: «رجل عميّ» إذا كان أعمى القلب و رجل أعمى أي بلا بصر.

قال الصادق عليه السلام: آمن مع نوح ثمانية، و كان الرجل يأتي بابنه و هو صغير فيقيمه

ص: 351

على رأس نوح فيقول: يا بنيّ إن بقيت بعدي فلا تطيعنّ هذا المجنون و كانوا يحملون إلى نوح و يضربونه حتّى تسيل مسامعه دما، و حتّى لا يعقل شيئا ممّا يصنع به فيثور و يرمى به إلى بيته و على باب داره مغشيّا عليه، و كذلك يفعل به، فأوحى اللّه إليه أنّه لن يؤمن قومك إلّا من آمن فعندها أقبل في الدعاء عليهم و لم يكن دعا عليهم قبل ذلك؛ فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (1) فأعقم اللّه أصلاب الرجال و أرحام النساء و لبثوا أربعين سنة لا يولّد لهم ولد و قحطوا في تلك الأربعين سنة حتّى هلكت أموالهم و أصابهم الجهد و البلاء، ثمّ قال لهم نوح: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» (2) فجاوبوه و قالوا «لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً» (3) يعنون أصنامهم و آلهتهم.

و سيأتي إن شاء اللّه قضيّة السفينة في سورة هود على التفصيل.

[سورة الأعراف (7): آية 65]

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (65)

قوله:

عطف على قصّة نوح أي و أرسلنا إلى قوم عاد و هو عاد بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح [أَخاهُمْ في النسب لا في الدين [هُوداً] فقال لهم هود: يا قوم لا تعبدوا الأصنام و اعبدا اللّه ليس إله موجود غير اللّه أفلا تتّقون الشرك و العذاب؟

و كان قوم هود بالأحقاف و هو الرمل الّذي بين حضرموت إلى عمّان، و دعوة هود كدعوة نوح إلّا أنّ نوح هدّدهم بعذاب عظيم و لكنّ هود حذّرهم بقوله: «أَ فَلا تَتَّقُونَ» أن يرد عليكم مثل ما ورد على قوم نوح.

[سورة الأعراف (7): الآيات 66 الى 68]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68)

في قصّة نوح كانت هي «قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ» و في هذه الآية قال الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لأنّ في أشراف قوم نوح ما كان مؤمن و لكن كان في أشراف قوم هود مؤمن مثل مرثد بن سعد الحميريّ كان مؤمنا لكن يكتم إيمانه فاريدت التفرقة بالبيان.

ص: 352


1- نوح: 26.
2- نوح: 9.
3- نوح: 23.

ثمّ فرق آخر في الآية أنّ قوم نوح نسبوه إلى الضلال حيث إنّه يأمرهم بأمر النبوّة و يتعب نفسه غاية في القول و العمل بتعب اشتغال السفينة فنسبوه إلى الضلال، و هود ما اشتغل بتعب البدن بل تعبه مشقّة القول الغير المسموع؛ فنسبوه إلى قلّة العقل و السفاهة و «و الظنّ» هنا بمعنى اليقين كقوله تعالى: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» (1).

ثمّ فرق آخر بين قول نوح و هود فنوح أدّى عبارة أنصح بصيغة الفعل فقال:

«وَ أَنْصَحُ لَكُمْ» للدلالة على التجدّد و الحدوث ساعة فساعة و هود عليه السلام أتى الكلام بصيغة الاسم فقال: «وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ» لأنّها دالّة على الثبات و الاستمرار؛ هكذا قال الشيخ عبد القاهر النحويّ في كتاب دلائل الإعجاز في القرآن.

ثمّ وصف نوح نفسه بالعلم حيث قال: «إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» لأنّه كان عالما بوقوع العذاب، و هود وصف نفسه بالأمانة في النصح لأنّ نوح كان أعظم منصبا في النبوّة من هود.

[سورة الأعراف (7): آية 69]

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

قوله [أَ وَ عَجِبْتُمْ مرّ تفسيره: قبيل هذا. قوله: «وَ اذْكُرُوا» بيّن نعمه عليهم لوجوب الشكر بأن جعلهم خلفاء للسابقين بأن أورثهم أرضهم و ديارهم و ما يتّصل لهم من المنافع الّتي كان قوم نوح ينتفعون بها.

[وَ زادَكُمْ عنهم البسطة في الجسم و القوّة قال الكلبيّ: كان أطولهم مائة ذراع، و أقصرهم ستّين ذراعا. و قال آخرون فضّلوا من غيرهم مقدار مما تبلغه يد إنسان إذا رفعها، ففضّلوا أهل زمانهم هذا المقدار فاذكروا نعم اللّه و آلاءه و اعملوا عملا يليق بالإنعامات لكي تفلحوا.

قال الواحديّ. مفرد الآلاء ألي و ألو و إلي قال الأعشى:

أبيض لا يرهب الهزال و لا يقطع و لا يخون إلي

و نظير الآلاء في المفرد و الجمع الآناء.

ص: 353


1- البقرة: 43.

[سورة الأعراف (7): الآيات 70 الى 72]

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

لمّا بيّن لهم هود عليه السلام أنّ عبادة الأصنام لا تفيد و لا بدّ أن يعبدوا اللّه و ذكر لهم نعماء اللّه عليهم و لم يكن للقوم حجّة تمسّكوا بالتقليد فقالوا: [أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا] الحمقاء [فَأْتِنا بِما تَعِدُنا] و تخوفنا به لأنّ هودا قد هدّدهم بالوعيد قال هود قد وقع عليكم من ربّكم و قد جعل هود المتوقّع الّذي لا بدّ منه بمنزلة الواقع نظير قوله «أَتى أَمْرُ اللَّهِ» (1) و المراد من الرجس: العذاب. أ تناظرونني في أسماء و أصنام صنعتموها بأيديكم و اخترعتم أنتم و آباؤكم؟ و نسبتم لبعضها أنّه يشفى المريض، و للآخر يسقي المطر، و للآخر يأتي بالرزق و للآخر يصحبهم في السفر، و أمثال هذه الخرافات و الحالة أنّ اللّه ما نزّل لها قدرة و حجّة.

ثمّ ذكر لهم هود وعيدا مجدّدا فقال: [فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ .

ثمّ أخبر سبحانه عن خاتمة هذه الواقعة بأن أهلكناهم بعذاب الاستيصال، و قطع الدابر الّذي هو الريح العقيم، و أنجى هودا و المؤمنين معه برحمته و فضله و ما كانوا مؤمنين لعلمه تعالى بأنّهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضا.

و قصّة هود على ما ذكرها السدّيّ و محمّد بن إسحاق أنّ عادا كانوا ينزلون اليمن و الأحقاف و هي رمال يقال لها رمال عالج معروفة و الدهناء و يبرين ما بين عمّان و حضرموت، و كان لهم زرع و نخيل و لهم أعمار طويلة و أجساد عظيمة و كانوا أصحاب أصنام.

فبعث اللّه هودا إليهم نبيّا و كان من أوسطهم نسبا و أفضلهم حسبا فدعاهم إلى التوحيد فكذّبوه و آذوه فأمسك اللّه عنهم المطر سبع سنين أو ثلاث سنين حتّى قحطوا و كان الناس في ذلك الزمان إذا نزل عليهم البلاء التجأوا إلى بيت اللّه الحرام بمكّة مسلمهم و كافرهم.

ص: 354


1- النحل: 1.

و أهل مكّة يومئذ العماليق من ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح. و كان سيّد العمالقة إذ ذاك بمكّة رجلا يقال له: معاوية بن بكر، و كانت امّة من عاد فبعث عاد و فدا إلى مكّة خارجا من الحرم فأكرمهم و أنزلهم و أقاموا عنده شهرا يشربون الخمور فلمّا رأى معاوية طول مقامهم و قد بعثهم قومهم يتغوّثون من البلاء الّذي نزل عليهم شقّ ذلك عليه، و قال: هلك أحوالي، و هؤلاء ضيفي أستحيي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه فشكى إلى امرأتين و هما الجرادتان كانتا تغنّيانهم، فقالت الجرادتان له: قل شعرا نغنّيهم به لا يدرون من قاله فقال معاوية:

ألا يا قيل و يحك قم لأمرلعلّ اللّه يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إنّ عاداقد أمسوا ما يبينون الكلاما

و أنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركم و ليلكم التماما

قبيح وفدكم من وفد قوم و لا لقّوا التحيّة و السلاما

فلمّا غنّتهم الجرادتان بالأبيات قال بعضهم لبعض: إنّما بعثكم قومكم يتغوّثون بكم من البلاء فادخلوا هذا الحرم فاستقوا لهم؛ فقال لهم رجل منهم قد كان آمن بهود سرّا: و اللّه لا تسقون بدعائكم و لكن إنّ أطعتم نبيّكم سقيتم فزجروه و خرجوا إلى مكّة يستسقون لها بعاد.

و كان رئيس وفد عاد رجل اسمه قيل بن عمز؛ فقال: يا إلهنا إن كان هود صادقا فاسقنا فإنّا قد هلكنا فأنشأ اللّه سحابا ثلاثا بيضاء و حمراء و سوداء.

ثمّ ناداه مناد من السماء: يا قيل اختر لقومك و لنفسك فاختار السحابة السوداء الّتي فيها العذاب فساق اللّه تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد، فلمّا رأوها استبشروا بها و قالوا هذا عارض ممطرنا، فقال اللّه: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم فسخّرها اللّه سبع ليال و ثمانية أيّام حسوما أي دائمة؛ فلم تدع من عاد أحدا إلّا أهلك. و اعتزل هود و من معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه و من معه إلّا ما يليّن عليه الجلود و تلتذّ النفوس و إنّها لتمرّ على عاد بالطعن ما بين السماء و الأرض و تدمغهم بالحجارة.

ص: 355

و روي أبو حمزة الثماليّ عن سالم عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّ للّه بيت ريح مقفّل عليه لو فتح لأذرّت ما بين السّماء و الأرض، ما أرسل على قوم عاد إلّا قدر خاتم.

و كان هود و شعيب و إسماعيل و نبيّنا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم يتكلّمون بالعربيّة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 73 الى 74]

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)

المعنى: و إلى ثمود عطف على هود و نوح أي كما أرسلنا نوحا و هودا أرسلنا صالحا. و الأخ يأتي بمعنى الصاحب و قرابة القبيلة و من العشيرة يطلق عليه الأخ.

و ثمود هو ثمود بن عاشر بن إرم بن سام بن نوح. و صالح عليه السلام كان من ولد ثمود، و ثمود سمّيت لقلّة مائها أو لا سم أبيهم الأكبر، و ثمود استعملت منصرفة و غير منصرفة بتأويل القبيلة و الحيّ. قال اللّه «أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ» (1) قال لهم صالح: يا قوم اعبدوا اللّه و لا تشركوا به شيئا ثمّ ذكر البيّنة [هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ دلالة، لأنّ ثمود طالبوه بالمعجزة على صحّة نبوّته فقال: ما تريدون؟ قالوا: تخرج معنا في عيدنا و نخرج أصنامنا و تسأل إلهك و نسأل أصنامنا فإذا ظهر أثر دعائك اتّبعناك، و إن ظهر أثر دعائنا تتّبعنا.

فخرج صالح معهم فسألوه أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معيّنة بين الجبلين فأخذ منهم المواثيق أنّه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا بأجمعهم؛ فصلّى ركعتين و دعا اللّه فتمخّضت تلك الصخرة كما تتمخّض الحامل، ثمّ انفرجت و خرجت الناقة من وسطها و كانت عظيمة الجثّة، و كان الماء عندهم قليلا و جعلوا ذلك الماء بالكلّيّة شربا لها في يوم و في اليوم الثاني شربا لكلّ القوم حسب ما اشترط معهم صالح.

قال السدّيّ: و كانت الناقة في اليوم الّذي تشرب فيه الماء تمرّ بين الجبلين فتعلوهما، ثمّ تأتي فتشرب فتحلب ما يكفي الكلّ، و كأنّها تصبّ اللّبن صبّا و في اليوم الّذي لا تشرب لا تأتيهم و كان لها فصيل.

ص: 356


1- هود: 71.

فقال لهم صالح: يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يده فذبح تسعة نفر منهم أبناءهم، ثمّ ولد العاشر فأبى أنّ يذبحه أبوه فنبت سريعا.

و لمّا كبر الغلام جلس مع قوم يصبّون من الخمر، فأرادوا ماء يمزجونه به و كان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء و اشتدّ ذلك عليهم، فقال الغلام: هل لكم أن أعقر الناقة؟ فرضوا فشدّ عليها؛ فلمّا بصرت الناقة به هربت إلى خلف صخرة فأحاشوها عليه فلمّا مرّت به تناولها فعقرها فسقطت، و ذلك قوله تعالى: «فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ» (1) و أظهروا حينئذ كفرهم و بغيهم و عتوا عن أمر ربّهم.

فقال لهم صالح: إنّ آية العذاب أن تصبحوا غدا حمرا و اليوم الثاني صفرا و اليوم الثالث سودا فلمّا صبّحهم العذاب تحنّطوا و استعدّوا.

ثمّ إنّ كون الناقة معجزة و آية لا من جهة بل من جهات:

الأولى أنّ يوم مجيئها للشرب لا تأتي الحيوانات للشرب و يوم لا تأتي فتأتي الحيوانات للشرب.

و الثانية أنّ يوم شربها تحلب من اللّبن مقدار يكفيهم جميعا.

و الثالثة: خروجها من الصخرة بكمالها مرّة واحدة لا من ذكر و أنثى بل من صخرة صمّاء.

و إنّما قال: «لَكُمْ» لأنّهم اقترحوا هذا النوع من المعجزة و لو أنّها معجزة لكلّ أحد، و نسبة الناقة إلى اللّه نسبة التشريف مثل بيت اللّه.

ثمّ قال لهم صالح: [فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ] أي لا تطردوها و لا تؤذوها.

[وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ] لأنّه لمّا أهلك اللّه عادا عمّر ثمود بلادها و خلّفوهم في الأرض بين الحجاز و الشام.

[وَ بَوَّأَكُمْ أنزلكم منزلهم تتّخذون من سهولة الأرض قصورا و منازلا لأنّ القصور تبنى من الطين و الآجر و اللبن [وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ و الصخر أبنية مسقّفة [بُيُوتاً] النّصب على الحال كقولك: أبر هذا القصب قلما، و كانوا يسكنون السهول في

ص: 357


1- القمر: 29.

الصيف و الجبال في الشتاء و هذا يدلّ على أنّهم كانوا متنعّمين. و اذكروا نعماء اللّه عليكم و لا تجاوزوا عن حدود الصلاح إلى الفساد في الأرض.

[سورة الأعراف (7): الآيات 75 الى 79]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

قال الأشراف و الأغنياء من قوم صالح للمساكين منهم الّذين آمنوا بصالح، و سألوا عن الفقراء عن حال صالح في نبوّته، فقال الفقراء: نحن موقنون أنّ صالحا نبيّ و أنّ ما جاء به حقّ، فقال المستكبرون: بل نحن كافرون بما جاء به.

[فَعَقَرُوا] العقر ضرب عرقوب (1) البعير و لمّا كان العقر سببا للنحر اطلق على النّحر لاسم السبب على المسبّب و أسند العقر إلى جميعهم لأنّه كان يرضاهم مع أنّه ما باشره إلّا العاقر و هو قدار بن سالف فأخذتهم الزلزلة العظيمة.

فأصبحوا في منازلهم جاثمين كبروك الإبل، و هذه الحالة للإبل تسمّى البروك، و للنّاس و الطير تسمّى جثوما أي موتى لا يتحرّكون، و منه المجثّمة الّتي جاء النهي عنها و هي البهيمة الّتي ترتبط لترمى، فالجثوم عبارة عن الخمود و السكون.

قيل: لمّا سمعوا الصيحة العظيمة تقطّعت قلوبهم و ماتوا جاثمين على الركب.

و قيل: بل سقطوا على وجوههم.

و قيل: وصلت الصاعقة إليهم فاحترقوا.

و قيل: وقت نزول العذاب عليهم سقط بعضهم على بعض.

فلو قيل: كيف يمكن أنّ القوم لمّا عقروا الناقة و شاهدوا تلك المعجزة العظيمة من الناقة في أوّل الأمر و شاهدوا آثار العذاب في آخر الأمر بأنّهم احمرّوا و اصفرّوا

ص: 358


1- العرقوب: عصب غليظ فوق العقب.

كيف يحتمل أن يكونوا مصرّين على كفرهم و لم يتوبوا؟

فالجواب أنّهم قبل أن يشاهدوا كانوا يكذّبون صالحا فلمّا شاهدوا العذاب خرجوا عن حدّ التكليف و عن أن تكون توبتهم مقبولة، لأنّهم وصلوا إلى حدّ الإلجاء فحينئذ لا تقبل التوبة.

[فَتَوَلَّى عَنْهُمْ و الفاء تدلّ على التعقيب فدلّ على أنّ حصول التولّي بعد جثومهم.

و قيل: إنّ التولّي قبل موتهم لأنّه خاطبهم بقوله: «يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ» و الأموات لا يوصفون و لا يخاطبون و كيف يقال للميّت: إنّك لا تحبّ الناصح؟

لكن ليس بمستبعد أن يخاطبهم و هم جاثمين كما أنّ نبيّنا صلى اللّه عليه و آله و سلّم خاطب قتلى بدر، فقيل له: لم تتكلّم هذه الجيف؟ فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: ما أنتم بأسمع منهم و لكنّهم لا يقدرون على الجواب.

قال كعب: كان سبب عقر الناقة أنّ امرأة كانت قد ملكت ثمود يقال لها: ملكا؛ فلمّا أقبلت الناس على صالح و صارت إليه الرياسة حسدته، و كانت امرأة جميلة يقال لها:

قطام، و كان معشوقة قدار، و امرأة اخرى يقال لها: إقبال كانت عشيقة مصدع.

و كان قدار و مصدع متصادقان يجتمعان معهما كلّ ليلة و يشربون الخمر؛ فقالت ملكا للامرأتين: إذ آتاكما اللّيلة قدار و مصدع يجتمعان معكما فلا تطيعاهما و قولا لهما: إنّ ملكا حزنت لأجل الناقة و لأجل الصالح و نحن لا نطيعكما حتّى تعقرا الناقة فلمّا صار الليل و اجتمعا قالا لهما ما قالت ملكا فقالا: نحن من وراء الناقة نعقرها.

فانطلق قدار و مصدع و أصحابها فرصّدوا الناقة حين صدرت عن الماء و قد كمن لهما قدار في أصل صخرة على طريقها، و كمن مصدع في أصل صخرة اخرى؛ فمرّت على مصدع فرمى بسهم فأصاب به عطلة ساقها و خرجت امرأة اسمها عنيزة، و أمرت ابنتها و كانت من أحسن الناس وجها و أسفرت لقدار فشدّ قدار على الناقة بالسّيف فكشف عرقوبها فخرّت الناقة و رغت رغاة واحدة و تحذر سقبها ثمّ طعن في لبتها فنحرها

ص: 359

فخرج أهل البلدة و اقتسموا لحمها و طبخوه.

فلمّا رأى الفصيل ما فعل بامّه ولى هاربا حتّى صعد الجبل فرغا رغاء يقطع منه قلوب القوم، و أقبلوا نحو صالح يعتذرون إليه: إنّما عقرها فلان، فقال صالح: انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبوه فلم يجدوه، و كان العقر يوم الأربعاء. فقال لهم صالح: تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام فإنّ العذاب نازل بكم، انتهى.

و روى أبو الزبير عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: لمّا مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: لا يدخلنّ أحد منكم القرية، و لا تشربوا من مائها و لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلّا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ثمّ قال:

أمّا بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم فبعث اللّه لهم الناقة و كانت ترد من هذه الفجّ؛ (1) فعقروا الناقة فأهلكهم اللّه من مشارق الأرض منهم و مغاربها إلّا رجلا واحدا يقال له: أبو رغال و هو أبو ثقيف كان في حرم اللّه فمنعه حرم اللّه من العذاب فلمّا خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه فدفن و دفن معه غصن من الذهب، و أراهم قبر أبي رغال فنزل القوم فاستخرجوا ذلك الغصن.

ثمّ قنع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم رأسه و أسرع السير حتّى جاز الوادي.

[سورة الأعراف (7): الآيات 80 الى 84]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

هذه هي القصّة الرابعة؛ نوح و هود و صالح و لوط، أي و أرسلنا لوطا، صرف لخفّته و سكون وسطه.

ص: 360


1- هو الطريق الواسع الواضح بين جبلين.

قال: أ تاتون السيّئة المتمادية في القبح بحيث ما سبقكم في هذه القبيحة أحد من العالمين؟ و يمكن أن انقضى كثير من القرون و الأعصار ما أقدم على هذا الأمر القبيح أحد. أو أنّ قوم لوط بأجمعهم أقدموا على هذا المنكر، و لم يتّفق في الأعصار الماضية أنّهم بكلّيّتهم يقدمون بهذا الأمر، و كانوا لا ينكحون إلّا الغرباء و الضيف أوّلا، ثمّ استحكم عندهم حتّى فعل بعضهم ببعض.

[أَ تَأْتُونَ و تشتهون [الرِّجالَ شَهْوَةً] و قبح هذا العمل من وجوه شتّى؛ لأنّه على عكس حكمة الإلهيّة و خلاف مقتضى الطبيعة لأنّ الذكورة مظنّة الفعل و الأنوثة مظنّة الانفعال، فإذا صار الذكر منفعلا صار الأمر بعكس الطبيعة، ثمّ يوجب عدم بقاء نوع الإنسان الّذي هو أشرف الأنواع و أدّى إلى انقطاع النسل و ذلك خلاف أمر اللّه و حكمته.

ثمّ إنّ الفاعل بهذه الفعلة القبيحة بسبب لذّة ساعة يسبّب للمفعول إيجاب العار العظيم و العيب الكامل على المفعول على وجه لا يزول ذلك عند طول عمره، و كيف يرضى العاقل المسلم لأجل لذّة ساعة خسيسة منقضية إيراد العيب الدائم على غيره؟ فيوجب استحكام العداوة الدائمة بين الفاعل و المفعول و لعلّ ينجرّ إلى القتل كما أنّ هذا العمل بالنسبة إلى المرأة ينتج بالعكس، و موجب لازدياد المحبّة.

تأمّل في الحكمة الإلهيّة حتّى يحصل لك اليقين بأنّه تعالى ما حرّم حراما إلّا لمفاسد عظيمة، و ما حلّل حلالا إلّا لمنافع عظيمة جليلة.

ثمّ إنّ من مضارّ هذا العمل أنّ اللّه أودع في الرحم قوّة جاذبة شديدة للمنيّ فإذا واقع الرجل المرأة قوى الجذب فلم يبق شي ء من المنيّ في المجاري و ينفصل، أمّا إذا واقع بالرّجل لم يحصل ذلك الجذب من المفعول فيبقى شي ء من أجزاء المنيّ في المجرى فيعفن و يفسد غالبا، و يتولّد منه الأسقام العظيمة، و الأورام الشديدة.

و بالجملة لمّا منعهم لوط عن هذا الأمر ما امتنعوا نسبهم إلى السرف و تجاوز الحدّ؛ فجاوبوه قومه أن أخرجوا لوطا و أتباعه من البلدة فإنّهم يمنعونا عن هذا العمل، و قالوا على سبيل السخريّة:

ص: 361

[إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ و المراد من الأهل أنصاره و أهل دينه أو المتّصلين به بالنسب قال ابن عبّاس: المراد ابنتاه إلّا زوجته كانت من الباقين في العذاب «عبر» بمعنى مكث و إنّما لم يقل: من الغابرات لأنّه أراد المعنى أنّها عمّن بقيت مع الرجال في العذاب و أمطر عليهم الحجارة.

و لوط بن هاران بن تارخ قيل: إنّه كان ابن خالة إبراهيم، و كان سارة امرأة إبراهيم اخت لوط.

روي عن أبي حمزة الثماليّ و أبي بصير عن الباقر عليه السلام أنّ لوطا لبث في قومه ثلاثين سنة، و كان نازلا فيهم، و لم يكن منهم يدعوهم إلى اللّه و ينهاهم عن الفواحش فلم يجيبوه، و كانوا لا يتطهّرون من الجنابة، بخلاء، أشحّاء على الطعام، و كانوا على طريق السيّارة إلى الشام و مصر، و كان ينزل بهم الضيفان فيفضحوه و إنّما كانوا يفعلون ذلك بالضيف لتنكل النازلة عليهم من غير شهوة بهم إلى ذلك فأوردهم البخل هذا الدّاء. و كانوا يقولون للوط: لا تقرينّ ضيفا فإنّك إن فعلت فضحنا ضيفك و كان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه.

و لمّا استطالوا على هذا الأمر و أراد اللّه عذابهم بعث إليهم رسلا مبشّرين و منذرين جبريل في نفر من الملائكة؛ فأقبلوا إلى إبراهيم قبل لوط فلمّا رآهم إبراهيم ذبح عجلا سمينا فلمّا رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة، قالوا: يا إبراهيم إنّا رسل ربّك، و نحن لا نأكل الطعام إنّا أرسلنا إلى قوم لوط.

و خرجوا من عند إبراهيم فوقفوا على لوط و هو يسقي الزرع؛ فقال: من أنتم؟ قالوا نحن أبناء السبيل أضفنا الليلة؛ فقال لوط: إنّ أهل هذه القرية قوم سوء ينكحون الرجال في أدبارهم و يأخذون أموالهم، قالوا: أبطأنا فأضفنا.

فجاء لوط إلى أهله و كانت أهله كافرة، و قال: قد آتاني أضياف في هذه الليلة فاكمتي أمرهم قالت: أفعل؛ و كانت العلامة بينها و بين قومها أنّه إذا كان عند لوط أضياف بالنهار تدخن فوق السطح، و إذا كان بالليل توقد النار.

فلمّا دخل جبرئيل و الملائكة معه بيت لوط وثبت امرأته على السطح فأوقدت

ص: 362

النار فأقبل القوم من كلّ ناحية يهرعون إليه و دار بينهم ما قصّة اللّه في كتابه في مواضع؛ فضرب جبرئيل بجناحه عيونهم فطمسها فلمّا رأوا ذلك علموا أنّه قد أتاهم العذاب.

فقال جبرئيل: يا لوط اخرج من بينهم أنت و من معك إلّا امر أنك فقال لوط: كيف أخرج و قد اجتمعوا حولي و حول داري؟ فوضع بين يديه عمودا و قال اتّبع هذا العمود و لا يلتفت منكم أحد فخرجوا من القرية.

فلمّا طلع الفجر ضرب جبرئيل بجناحه طرف القرية فقلعها من تخوم الأرضين السابعة، ثمّ رفعها إلى الهواء حتّى سمع أهل السماء نباح كلابهم و صراخ ديوكهم، ثمّ قلّبها عليهم و هو قول اللّه: «فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها» و ذلك بعد أن أمطر اللّه عليهم حجارة من سجّيل و هلكت امرأته بأن أرسل اللّه عليها صخرة فقتلتها.

و قيل: قلّبت المدينة على الحاضرين منهم و أمطرت الحجارة على الغائبين فاهلكوا بها.

[فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ظاهر الخطاب و إن كان للرّسول لكنّ المراد الأمّة ليتحرّزوا عن عذاب الآخرة.

[سورة الأعراف (7): آية 85]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

قوله تعالى:

هذه هي القصّة الخامسة. التقدير: و أرسلنا إلى مدين أخاهم في النسب لا في الدين.

و اختلفوا في مدين قيل: اسم البلد و قيل: اسم القبيلة بسبب أنّهم أولاد مدين ابن إبراهيم الخليل.

و شعيب ابن نويب بن مدين بن إبراهيم، فأمر شعيب قومه أوّلا بعبادة اللّه و ادّعى النبوّة.

ص: 363

و المراد بالبيّنة المعجزة و أمّا أنّ المعجزة من أيّ الأنواع كانت معجزته فليس في القرآن بيان كيفيّة معجزته.

و يقال لشعيب: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه و قومه أصحاب الأيكة و أرسل إلى مدين مرّتين و إلى أصحاب الأيكة مرّة، و كان عادة الأنبياء أنّهم إذ رأوا قوما مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالا أكثر من إقبالهم على سائر المفاسد بدءوا بمنعهم عن تلك المفسدة.

قال صاحب الكشّاف: إنّ من معجزات شعيب أنّه دفع إلى موسى عصاه و هي الّتي صارت التنّين، و قال لموسى: إنّ هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد و بياض و قد وهبتها لك فكان الأمر كذلك.

ثمّ قال الزمخشريّ: و هذه الأحوال كانت معجزات شعيب لأنّ موسى في ذلك الوقت ما ادّعى الرسالة.

و هذا الكلام بناء على أصل مختلف بين الأشاعرة و المعتزلة لأنّه عند الأشاعرة يجوز أن يظهر اللّه على من يصير بعد نبيّا أنواع المعجزات، و يسمّى ذلك إرهاصا؛ فعند الأشاعرة على هذا الأصل إرهاصات لموسى، و عند المعتزلة معجزات لشعيب لأنّ الإرهاص لا يجوز عند المعتزلة.

و بالجملة أمر شعيب قومه بإيفاء الكيل لأنّهم كانوا مشغوفين بالتّطفيف، و المراد بالكيل المكيال أي ما يكال به.

ثمّ قال: [وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ و المراد المنع من التنقيص و يشمل في كلّ الأمور، فيدخل فيه السرقة و الغصب و أخذ الرشوة و انتزاع الأموال من أيدي الناس بطريق الحيل؛ لأنّ كلّ ذلك تنقيص المال، و هذه الأمور من موجبات الخصومة و الغضب و المنازعة بين الناس.

قال: [وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها] بعد أن صلحت الأرض بشرائع الأنبياء و كيفيّة الأحكام [ذلِكُمْ أي هذه الأمور [خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي كونوا مؤمنين.

ص: 364

[سورة الأعراف (7): الآيات 86 الى 87]

وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)

روي أنّهم كانوا يجلسون على الطرقات و يخوّفون من آمن بشعيب و يحرّفون الناس عن منهج الدّين، و قيل: كانوا يقطعون الطرق إلّا أنّ ما بعد الآية يدلّ على أنّهم يصدّون الناس عن الدين بإلقاء الشبهات و الشكوك بطريق الاعوجاج و الإضلال و بأنّه لو آمنتم بشعيب كذا تصيرون مثلا، و أنّه كذّاب.

[وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا] يمكن المراد تكثير المال أو تكثير النفوس، و عن ابن عبّاس، قال: إنّ مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط فولدت حتّى كثر أولادها.

[وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي تأمّلوا في عواقب من كان منكم من المفسدين كقوم عاد و ثمود و لوط و إنزال العذاب بهم.

قوله: [وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ] أي و إن كان جماعة منكم [آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ و صدّقوني [وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا] بي و المراد بيان إعلاء درجة المؤمنين و إظهار هوان الكافرين.

[فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا] في حقّ المؤمن و الكافر [وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ فإن لم تظهر في الدنيا فلا بدّ من ظهورها في الآخرة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 88 الى 89]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)

لمّا قرّر شعيب تلك الكلمات [قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا] و أنفوا [مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ و من آمن معك من بلدتنا [أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا].

ص: 365

و في هذا الكلام إشكال في الجملة و هو قولهم: «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» و كذلك قوله: «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ» ظاهره يدلّ على أنّ شعيب كان على ملّتهم الّتي هي الكفر.

و الجواب أنّ أتباع شعيب الّذين آمنوا كانوا من قبل كفّارا فخاطبوا شعيبا بخطاب أتباعه للتّغليب، أو أنّ شعيبا ما كان يظهر دينه لهم فتوهّموا أنّه على دينهم.

قال لهم شعيب: [أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ «الهمزة» للاستفهام «و الواو» للحال أي أ تعيدوننا في ملّتكم في حال كراهتنا أي لا تقدرون على ردّنا على دينكم على كره منّا بعد إذ هدانا اللّه و نجّانا.

و نظم عليه السلام نفسه الشريفة في جملتهم و إن كان بريئا من الكفر إجراء الكلام على التغليب؛ فإن فعلنا ما تريدون منّا فحينئذ افترينا على اللّه الكذب، و هذا مع قطع النظر عن قبح الكفر مناف للنبوّة لأنّ أصل الباب في النبوّات صدق اللهجة و البراءة من الشرك و الكذب.

و بعض المفسّرين يرجعون الضمير في «فِيها» إلى القرية أي نخرج منها فإن شاء اللّه نعود فيها و حينئذ سهل المعنى، أمّا إذا رجع الضمير إلى الملّة فمعناه إلى أن يشاء اللّه، و هذه قضيّة شرطيّة، و إنّما ذكر هذا للتّبعيد كما يقال: لا أفعل هذا إلّا إذا شاب الغراب و ابيضّ القار و لا يشاء اللّه الكفر فلا نعود أبدا و هذا المعنى يبطل قول من قال: إنّ اللّه قد يشاء الكفر.

قال الجبّائيّ: المراد من الاستثناء الفروع و الأحكام و العبادات كأوقات الصلاة و الصيام من الفروع الّتي يجوز فيها طريان النسخ و التبديل لا في الأصول الّتي لا يقبل التغيّر.

و قوله [وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً] في تعلّق هذا الكلام بالكلام الأوّل قال القاضي عبد الجبّار: قد نقلنا عن أبي عليّ الجبّائيّ: إلّا أن يشاء اللّه معناه: إلّا أن يعرف المصلحة في تغيّر الفروع؛ فالعالم في المصالح و التغيّر ليس إلّا من وسع علمه على كلّ شي ء فلذلك أتبعه بهذا الكلام؛ فصحّ النظم في الآية.

ص: 366

و قالت الأشاعرة: وجه النظم أنّ القوم لمّا قالوا لشعيب: إمّا أن تخرج من قريتنا، و إمّا أن تعود إلى ملّتنا فقال شعيب: «وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً» فربّما كان في علمه حصول قسم ثالث: و هو أن نبقي في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملّتكم بل نجعلكم مقهورين تحت حكمنا، و يؤيّد هذا المعنى قوله: [عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا] فختم كلامه بالعزل عن الأسباب.

ثمّ اشتغل بالدّعاء فقال: [رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا] أي احكم و اقض بيننا [بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ قال ابن عبّاس: ما كنت أدري قوله تعالى «رَبَّنَا افْتَحْ» حتّى سمعت ابنة ذي يزن يقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أحاكمك.

[سورة الأعراف (7): الآيات 90 الى 93]

وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)

في الآية بيان عظمة ضلالتهم بتكذيب شعيب و بيّن في هذه الآية أنّهم لم يقتصروا بذلك حتّى أضلّوا غيرهم و لا موهم على متابعته فقالوا: [لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ فاستحقّوا العذاب فأخذتهم الرجفة و هي الزلزلة الشديدة المهلكة فأصبحوا في منازلهم خامدين ساكنين بلا حياة و بعد ما أصابهم العذاب كأن لم يكونوا ساكنين بها فقال غنى القوم في دارهم أي طال مكثهم.

قال الزجّاج أي كان لم يعيشوا فيها مستغنين و هذا التكرار في قوله الّذين كذّبوا شعيبا لبيان قباحة فعل المكذّبين كقولك أنت أنت، و هذه معجزة عظيمة لشعيب إنّ مثل هذا العذاب العظيم النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع أنّهم مجتمعين في بلدة واحدة.

ثمّ قال: [فَتَوَلَّى عَنْهُمْ و اختلفوا في أنّ شعيب تولّى بعد نزول العذاب بهم أو قبل ذلك؛ قال الكلبيّ: قبل ذلك قال: و لم يعذّب قوم نبيّ حتّى اخرج من بينهم.

ص: 367

ثمّ قال: [فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ قيل: اشتدّ حزنه على قومه من جهة القرابة و المجاورة؛ فإنّه كان يتوقّع منهم الإجابة للإيمان فلمّا لم تقلبوا و عذّبوا حزن بحرمانهم عن السعادة ثمّ عزّى نفسه و قال: فكيف آسى. و قيل: ما حزن و مراده فكيف آسى و قد أبلغتكم و لم تقلبوا نصحى. و أنتم غير مستحقّين أن يأسى الإنسان لمثلكم. و الصحيح القول الثاني.

قال البلخيّ: و في هذه الآية دلالة على أنّه لا يجوز للمسلم أن يطلب الخير للكافر و يحزن لشدّة أمورهم.

و في عذابهم قيل: أرسل اللّه عليهم و عدة شديدة و حرّا تأخذ بأنفاسهم فدخلوا في أجواف البيوت فدخل عليهم البيوت فلم ينفعهم ظلّ و لا ماء و أنضجهم الحرّ فبعث اللّه سحابة فيها ريح طيّبة فوجدوا برد الريح و ظلّ السحابة فتنادوا عليكم بها فخرجوا إلى البرّيّة فلمّا اجتمعوا تحت السحابة ألهبها اللّه عليهم نارا و رجفت بهم الأرض فاحترقوا كالجراد المغليّ و صاروا رمادا و هو عذاب يوم الظلّة و هذا القول عن ابن عبّاس و جماعة من المفسّرين.

و قيل: بعث اللّه عليهم صيحة واحدة فماتوا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

و قيل: إنّ لشعيب قومين قوم اهلكوا بالرجفة و قوم هم أصحاب الظلّة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 94 الى 95]

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)

لمّا بيّن حال هؤلاء و ما جرى على أممهم بيّن في هذه الآية العلّة الّتي بها يفعل ذلك فقال:

[وَ ما أَرْسَلْنا] الآية، و إنّما ذكر القرية لأنّها مجتمع القوم و فيه حذف، أي فكذّبوا ذلك النبيّ المرسل إلّا أخذنا المكذّبين و العاصين بالبأساء أي الشدّة في أحوالهم، و النقصان في زروعهم و ثمارهم و ضروعهم. و الضرّاء ما ينالهم من المرض و الآلام، و قيل: بالعكس.

ص: 368

[لَعَلَّهُمْ و كلمة لعلّ في حقّ اللّه لا يمكن حمله على الشكّ بل على اليقين؛ فالمعنى:

إنّما يفعل بهم هذا لكي يتضرّعوا و يتوبوا.

[ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ] و معنى السيّئة الشدّة و ما يسوء، و معنى الحسنة الرخاء و النعمة، أي تدبيره تعالى ليس على نمط واحد، و المراد أنّه يأخذ أهل المعاصي تارة بالشدّة ليتنبّهوا و تارة بالنعمة ليطيعوا.

[حَتَّى عَفَوْا] أي كثروا و زادوا قال أهل اللغة: قد عفي الشعر أي كثر، و منه ما ورد في الحديث أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أمر أن تحفّ الشوارب و تعفى اللحى، أي توفر و تكثر.

[وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ] أي قال هؤلاء الكافرون و العاصون:

إنّ هذا الرخاء و الشدّة ليس بسبب ما نحن فيه من الدّين و العمل، و تلك عادة الدهر و ليس عقوبة من اللّه و إنّ آباءنا كذلك كانوا تارة تصيبهم الشدّة و تارة الرخاء و لا تلتفتوا إلى مثل هذه الأمور، و كونوا على ما أنتم عليه.

[فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً] أمر يأتيك من غير ترقّب و مقدّمة [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بأنّ العذاب نازل بهم.

قوله: [سورة الأعراف (7): الآيات 96 الى 99]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ (97) أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ الأمم عذّبوا بسبب كفرهم بيّن في هذه الآية أنّ الأمر بالعكس إذا آمنوا و اتّقوا، فتبدّل الشدّة بالرخاء و النعمة، و تفتح أبواب السماء و الأرض؛ بركات السماء بالخير و المطر، و بركات الأرض بكثرة الثمر و المواشي و حصول الأمن و السلامة؛ لأنّ السماء تجري مجرى الأب الرؤوف، و الأرض كالامّ العطوف.

ص: 369

ثمّ عاد الكلام بمجرى التهديد فقال على سبيل الاستفهام الإنكاري: أ فأمن أهل الأمصار أن يأتيهم عذابنا في الليل و هم نائمون؟ أو يأتيهم بالنهار وقت ظهور الشمس و هم مشغولون في الحياة الدنيا؟ لأنّ الدنيا لعب و لهذا قال: «وَ هُمْ يَلْعَبُونَ».

[أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ المراد عذاب اللّه و استعمل المكر في العذاب توسّعا لأنّ الواحد منّا إذا أراد المكر بصاحبه فإنّه يوقعه في البلاء من حيث لا يشعر بوقوعه فسمّي المكر بالعذاب لأنّه نزل بهم من حيث لا يشعرون و لا يأمن من عذاب اللّه إلّا القوم الخاسرون لأنّه أوقع نفسه في الدنيا بالضرر و في الآخرة بالعذاب الأكبر.

[سورة الأعراف (7): الآيات 100 الى 101]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101)

قرء: «أ و لم نهد» بالنون.

المعنى: أنكر بهذا الاستفهام ترك الاعتبار ممّن تقدّمهم من الأمم و استيصالهم بالعذاب، أي أو لم يبيّن اللّه و لم يهتدوا هؤلاء الّذين استقرّوا مكان المتقدّمين منهم الّذين عذّبناهم و خلفناهم مكان أولئك المعذّبين و ورثوهم أن لو نشاء لعذّبناهم كما عذّبنا قبلهم أو نطبع على قلوبهم؟ و معنى الطبع التخلية [فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ المواعظ.

[تِلْكَ الْقُرى المراد قرى الأقوام الخمسة الّذين مضى شرح حالهم و هم قوم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب [نَقُصُ أحوال إهلاكها [عَلَيْكَ يا محمّد للاحتراز لأمّتك عن مثل تلك الأعمال.

ثمّ قال إنّا أتممنا عليهم الحجّة بإرسال الرسل و المعجزات فما قبلوا و ما آمنوا و ما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات كما لم يؤمنوا قبل رؤية المعجزات. و قيل: معناه:

و لو أحييناهم بعد إهلاكهم و رددناهم إلى دار التكليف لن يؤمنوا كقوله: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» (1) و قيل: المعنى: قبل مجي ء الرسل كانوا مصرّين على الكفر

ص: 370


1- الحج: 2.

فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجي ء الرسل أيضا.

[كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ أي مثل ذلك الّذي طبع على قلوب الكفّار و الأمم الماضية نطبع على قلوب امّتك الكافرة.

[سورة الأعراف (7): آية 102]

وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)

اختلفوا في العهد: قال ابن عبّاس: يريد العهد الّذي عاهدهم اللّه و هم في الأصلاب حيث قال: «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (1) ثمّ خالفوا ذلك العهد و لهذا قال: [وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ].

و قال ابن مسعود: المراد بالعهد الإيمان و الدليل عليه قوله: «إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» (2) يعني آمن و قال: لا إله إلّا اللّه.

و القول الثالث أنّ العهد عبارة عن وضع الأدلّة الدالّة على صحّة التوحيد و النبوّة.

ثمّ قال: و إنّ الشأن و القصّة: وجدنا أكثرهم خارجين عن الدين.

إلى هنا تمّ الجزء الرابع من الكتاب مشتملا على 94 آية من سورة المائدة، و تمام سورة الأنعام و 102 آية من سورة الأعراف و للّه الحمد.

ص: 371


1- السورة: 171.
2- مريم: 90.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.