مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر المجلد 1

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

اشارة

أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الذي وفقنا لاقتناء الدرر من كلماته الغرر، و هدانا لمعرفة التقاط الثمر من الشجر، شجرة مباركة كثيرة النماء، أصلها ثابت و فرعها في السماء، قرآنا عربيا غير ذي عوج، ناطقا بالبينات و الحجج، تكاد الرواسي لهيبته تمور، و يذوب من خشيته الحديد و صم الصخور.

أنزله على عبده و حبيبه محمد المصطفى لرسالاته، و المرتضى بكمالاته، أرسله بالهدى و دين الحق، و عرفه من شعائر الشرائع ما جل و دق، صلوات اللّه عليه و على ابن عمه و خليفته المخلوق من سنخه و طينته و جعله مستودعا لعلمه و على الأئمة الأحد عشر من أولاده، الذين لم يعصوا اللّه طرفة عين و هم بأمره يعملون، و بوحيه يحكمون.

يا بني الزهراء و النور الذي ظن موسى انّه نارا قبس

لا أوالي الدهر من عاداكم انه آخر حرف من عبس

و بعد فيقول الحقير الفقير «علي بن حسين الموسوي» الطهراني مسكنا و الحائري مسقطا و مولدا، لما رأيت أن يوسف الصديق يباع في سوق العدو و الصديق، و عرض كل غنى في شرائه أموالا خطيرة، و حضروا في ذلك السوق و الحظيرة، فساقني الطمع و شاقني حبي إلى ذلك المطمع، أن اقدم بين يدي نجوي صدقة بدراهم معدودة، استجديتها برهة من الزمان من هاهنا و هاهنا، و أنا ذو بضاعة مزجاة و ظلّي فيه اقلص من ظل حصاة، فلمت نفسي من هذه الإرادة و قلت لها قفي مكانك، من أنت و ما تمنيك و أنت أحقر

ص: 2

من ذرة، و الصفقة أغلى من ملايين درة، لكني ما استطعت ان أمنعها لأن الذكرى تسوق و ذو الهوى يتوق و من يعلق به الحب يصبه.

فغلبني الغرام و الهيام، فألقيت دلوي في الدلاء، رجاء ان ينفعني حب الصديق، فما باليت عذل العدو و الصديق و أنا اعلم انه ليس من لمس درهما صيرفيا، و لا من اقتنى درا جوهريا، و معذلك اقنيت دررا من البحور الزاخرة، و التقطت ثمارا جيدة فاخرة من كتب التفاسير من الأساتيد و النحارير، مستعينا باللّه و الفت الملتقطات، و سميته [بمقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر] و أرجو من اللّه أن يتفضل عليّ بالغفران و يجعلني من أهل القرآن.

ص: 3

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و في تقديم الاستعاذة على البسملة من باب تقديم التخلية على التحلية، فأن طبيب القلوب يبدأ أولا بتنقيتها من العقائد الزائغة، ثمّ يعالجها بما يقويها على الطاعات، و كذلك طبيب الأجسام، و من أراد قراءة القرآن و الدخول في المناجاة مع الحبيب يحتاج إلى طهارة اللسان، لأنه قد تلوث بفضول الكلام، فيطهره بالاستعاذة. فهذه الكلمة فاتحة كلام المتقربين، على أنه امتثال أمر رب العالمين، حيث قال: (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

فإن قيل فاستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم أوفق دراية لمطابقته المأمور به.

فالجواب انه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال هكذا أقرأنيه جبرئيل عن القلم عن اللوح، فمعنى أعوذ التجئ و استعصم و استجير باللّه، و اختلف في أن هذا الإسم الشريف علم فرد أو صفة مشتق أو غير مشتق، قيل هو من و له لتحير العقول عن إدراك كنهه، و قال بعض أهل التحقيق مثل السعد التفتازاني في حواشي الكشاف، انه كما تحيرت الأوهام في ذاته و صفاته تعالى فكذا في اللفظ الدال عليه، و الاستعاذة تتناول جمع أقسام الشرور من مذاهب الباطلة و عقائد الزائغة و ما يضر في الدين؛ و هو منهيات للتكليف بل من جميع المكاره و البلايا النازلة كالغرق و الحرق و العمى و الزمانة و الفقر و أشباهه من المخاوف و الآفات، فأعوذ باللّه يتناول الكل فالعاقل لما علم ان التحرز من مجموع هذه الأمور لا يمكن لعدم تناهيها، و ان قدرة الخلق لا تفي ء بدفعها، فحمله و علمه العالم بأن يقول أعوذ باللّه القادر على كل المقدورات من الشيطان اي: المبعّد من رحمة اللّه؛ و الاستعاذة من الجن و الإنس لازمة و عظة الإنسان نفسه الزم.

ص: 4

قال ابن عباس لمّا عصى لعن و صار شيطانا و إنما سمّي بهذا الإسم بعد لعن اللّه له. و الشيطان من الشطن و هو البعد. او من شاط إذا بطل. و امّا قبله فاسمه عزازيل او نأيل، و في روضة الأخبار الشياطين ذكور و إناث يتوالدون و لا يموتون، بل مخلّدون حتّى تنقر من الدنيا. لكن الجن ذكور و إناث يتوالدون و يموتون، و الملائكة ليسوا بذكور و لا إناث و لا يتوالدون و لا يأكلون و لا يشربون؛ و للشيطان و الجنّة حقيقة و وجود؛ و لم ينكر الجن إلّا شرذمة قليلة من الجهّال و حمقاء الفلاسفة، و حقيقتهم عند من لم يقل بالمجردات: هي أجسام هوائية؛ و قيل ناريّة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة من الحيوان و الطير و بنى آدم؛ لها عقول و افهام تقدر على الأعمال الشاقة كما كانوا يعملون لسليمان المحاريب و التماثيل و الجفان و القدور؛ و عند من قال لها مجردات ارضية سفلية و ذلك لأن المجردات اعني الموجودات الغير المتحيزة و لا الحالة في المتحيز اما عالية مقدسة، و هم الملائكة، و يسميها المشائيون عقولا؛ و الإشراقيون أنوارا قاهرة أو متعلقة بتدبيرها؛ و يسمّونها المشائيون نفوسا سماوية و الإشراقيون أنوارا مدبّرة، و أشرفها حملة العرش ثم الحافون حوله، ثم ملائكة الكرسي، ثم ملائكة السماوات طبقة طبقة، ثم ملائكة كرة الأثير و الهواء الذي من طبع النسيم ثمّ ملائكة كرة الزمهرير، ثمّ ملائكة البحار ثم الجبال و هكذا (الرجيم) اي المرمى من السموات بإلقاء الملائكة حين لعن و طرد او المرمى بشهب السماء إذا قصدها. قيل من استعاذ باللّه من الشيطان على وجه الحقيقة بحضور القلب و بشرائطها، جعل اللّه بينه و بين الشيطان ثلاثمائة حجاب، كل حجاب كما بين السموات و الأرض و من المعلوم انّ الدعاء الذي لا يختلف عن الاستجابة المشار إليها في الآية بقوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ هو الذي يكون بلسان الاستعداد، فانّه أجمع الفقهاء على انّ الشرط إذا كان مناف لمقتضى العقد فذلك العقد فاسد، فتأمل في سبب حرمانك من الإجابة. قال ابن عباس: خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات يوم من المسجد فإذا هو بإبليس فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما الذي جاء بك الى مسجدي قال: يا محمد جاء بي اللّه قال: فلم ذا قال: لتسألني عمّا شئت قال ابن عباس فكان أول شي ء سأله الصلاة فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له يا ملعون لم تمنع امتي عن الصلاة بالجماعة قال: يا محمد إذا خرجت أمتك للصلاة، تأخذني الحمى الحارة فلا تندفع حتى يتفرقوا فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لم تمنع امتي عن

ص: 5

العلم و الدّعاء، قال: عند دعائهم يأخذني الصمم و العمى، فلا تندفع حتى يتفرقوا. و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لم تمنع امّتي عن القرآن قال: عند قراءتهم اذوب كالرصاص، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم تمنع امّتي عن الجهاد قال: إذا خرجوا إلى الجهاد يوضع على قدمي قيد حتّى يرجعوا؛ و إذا خرجوا إلى الحجّ اسلسل و اغلل حتى يرجعوا؛ و إذا همّوا بالصدقة توضع على رأسى المناشر فتنشرني كما ينشر الخشب. و كل معروف صدقة.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آتاني جبرئيل و قال انّ اللّه يقول: و عزّتي انّه ليس من الكبائر كبيرة هي أعظم عندي من حبّ الدّنيا و قال: ما عبد اللّه ابغض على اللّه من الهوى انتهى.

أقول: و من أبواب التخلّص من شرّ اللعين المراقبة و المحاسبة بمؤاخذة النفس و ملامتها، مثل أن يخاطبها يا نفس ويحك مضى ربيع الشباب فلا يفوتك خريف الشيب فإن فاتك الهرفى فلا تحرم من الرجعى يا ظالم النفس و العباد أ ما سمعت قول اللّه: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» أليس ورائك عقبة كئود و الرّجل حافية و ما لك مركب؛ و انّ قدامك يوما لو طلعت فيه شمس الضحى لعاد أظلم من ليلك؛ و قد دنوت إلى منازل دونها حتوف و الطريق مخوف. قال عليّ عليه السّلام ايّها اليفن الكبير قد لهزه القنبر اي: خالطه الشيب كيف أنت إذا التجمت أطواق النّار بعظام الأعناق؛ فاغتنم مهلة قبل قدوم الغائب المنتظر.

أقول: و كيف يكون الإنسان عاقلا و لا يقسم أوقاته؛ و في الخبر انّ إبليس يرفع الدّنيا كلّ يوم في يديه فيقول: من يشتري ما يضرّه و لا ينفعه؛ و يهمّه و لا يسرّه فيقول:

أصحاب الدّنيا نحن، فيقول: لا تعجلوا فإنها معيوبة، فيقولون: لا بأس بها، فيقول:

ثمنها ليس بدراهم و لا دنانير، انّما ثمنها نصيبكم من الجنّة؛ و انى اشتريتها بأربعة أشياء بلعنة اللّه و عذابه و قطيعته، و بعت الجنّة بها؛ فيقولون: يجوز لنا ذلك، فيقول: أريد أن تربحوني على ذلك و هو أن توطنوا قلوبكم على أن لا تدعوها أبدا، فيقولون: نعم فيأخذونها فيقول الشيطان: بئست التجارة.

و سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن وسوسة الشيطان، فقال: السارق لا يدخل بيتا ليس فيه شي ء فذلك من محض الإيمان. قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الفرق بين صلاتنا و صلاة أهل الكتاب وسوسة الشيطان، لأنّه قد فرغ من عمل الكفّار و انّهم واففوه؛ و المؤمنون

ص: 6

يخالفونه و المحاربة تكون مع المخالفة.

سورة الفاتحة

[سورة الفاتحة (1): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

(بِسْمِ اللَّهِ) قالوا: علوم جميع كتب السّماويّة في القرآن و علومه في الفاتحة و علومها في البسملة و علومها في الباء؛ و قد وقع الاختلاف بين فقهاء المدينة و الشام و البصرة و قراء مكّة و الكوفة و فقهائهما، في أنّ البسملة هل هي آية من الفاتحة و غيرها فقال: فقهاء المدينة و البصرة و الشام انّ التسمية ليست من الفاتحة و لا من غيرها من السّور؛ و إنّما كتبت للفصل و التبرك؛ و هو مذهب أبو حنيفة و من تابعه؛ و قراء مكّة و الكوفة و فقهائهما على أنّها آية من الفاتحة؛ و من كلّ سورة كما عليه ابن عبّاس فقال: هي آية في كل سورة؛ و هو الصحيح؛ و أوّل ما جرى به القلم في اللوح؛ و أوّل ما نزل على آدم؛ و كانت الكفّار و المشركون يبدءون باسم آلهتهم فيقول: باسم اللّات و العزّى فوجب أن يقصد الموحّد، معنى اختصاص اسم اللّه بالابتداء فلذلك قدر المتعلّق متأخّرا أى: باسم اللّه أتلو و اقرأ و استعين؛ و الابتداء يكون بالأهم نحو قوله: بسم اللّه مجريها و مرسيها؛ كقولك للمعرس باليمن و البركة؛ و التقدير أعرست باليمن و الاسم أحد اسماء التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا لها مبتدئين زادوا همزة لئلا يقع الابتداء بالساكن. أو من الوسم محذوف الفاء؛ و طولوا الباء في كتابه بسم اللّه تعويضا من طرح الألف و كلمة «اللّه» أصله الإله، أو من لاه يليه إذا تستر من الستر ثم ادخلت عليه الألف و اللام فجرى الإسم العلم، مثل النّاس أصله أناس فحذفت الهمزة و عوّضت منها حرف التعريف، و الصحيح انّ: معنى الإله هو الذات الذي يحقّ له العبادة و انّما حقّت له، لقدرته تعالى على اصول النعم؛ و لا يطلق هذا الاسم على غيره تعالى أبدا.

عن الصّادق عليه السّلام قال: من قال لا إله إلّا اللّه مخلصا دخل الجنة، و إخلاصه بها أن يحجزه لا إله إلّا اللّه عمّا حرم اللّه؛ و عن حذيفة بن اليمان قال لا يزال لا إله إلّا اللّه ترد غضب الربّ عن العباد ما كانوا لا يبالون ما انتقص من دنياهم إذا سلّم دينهم، فإذا كانوا لا يبالون ما انتقص من دينهم إذا سلمت دنياهم. ثم قالوا هذه الكلمة ردت عليهم و قيل لهم كذبتم و لستم بصادقين. قال على عليه السّلام: في تفسير الإمام في معنى البسملة استعين على هذا الأمر باللّه الذي لا يحق العبادة لغيره إذا استغيث و المجيب إذا دعى.

ص: 7

و قد أودع جميع العلوم في الباء أي: بي كان ما كان و بي يكون ما يكون فوجود العوالم بي. و قال بعض أهل النظر لعلّ السرّ في أن جعل افتتحاح الكتاب الكريم بحرف الباء؛ و قدّمت على سائر الحروف لا سيّما على الألف مع تجرد الألف، بل يسقط الألف و يثبت مكانه الباء في بسم اللّه: إنّ في الباء تواضعا و انكسارا و في الأنف ترفّعا و تطاولا، فمن تواضع للّه رفعه اللّه؛ و الباء للاتصال و الإلصاق، بخلاف أكثر الحروف خصوصا الألف من حروف القطع؛ و الباء مكسورة فلمّا كانت فيها انكسار في الصورة و المعنى، وجدت شرف العندية من اللّه؛ و ذكروا فيها استحساناتا أخر ليس هذا المختصر يسعها، مثل انّ للباء علوّ الهمّة بخلاف بعضها، فانّه لما عرضت عليها النقط ما قبلت إلّا واحدة، و من قبيل هذه المناسبات كثيرة ذكروها في شروحهم، قال أمير المؤمنين أنا النقطة تحت الباء لعلّ مراده بيان مرتبة دلالته و إرشاده على التوحيد، أو يصف نفسه عليه السّلام في مقام معرفة التوحيد؛ و لذا وجبت ولايته.

قال محمّد بن صفوان عن ابن عبّاس قال: كنّا عند رسول اللّه فأقبل عليّ عليه السّلام قال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرحبا بمن خلقه اللّه قبل أبيه آدم بأربعين ألف سنة، قلنا أ كان ابن قبل أبيه فقال: نعم انّ اللّه خلقني و عليّا من نور واحد قبل هذه المدة، ثمّ قسّمه نصفين، ثمّ خلق الأشياء من نوري و نور عليّ ... الحديث؛ أو مراده علمه بعلوم الكتب الأولين و الآخرين فيما أشرنا قبيل ذلك. قال صاحب التأويلات النجميّة انّ الباء شفوي و كان أوّل انفتاح فم الذرة الإنسانيّة في عهد الست بالجواب بكلمة بلى، فاختصت الباء بهذه الاختصاصات، فجعلها سبحانه مفتاح كتابه و مبدأ كلامه و خطابه؛ و أسماء اللّه تذكر فيما يصح أن يطلق عليه بالنظر إلى ذاته او باعتبار صفة من صفاته الثبوتية كالعليم او السلبيّه كالقدوس او باعتبار فعل من أفعاله كالخالق لكنها توقيفة عند الأكثر (الرَّحْمنِ) الرحمة في اللغة رقة القلب و الانعطاف و منه الرحم و المراد هنا هو التفضل و الإحسان فالمعني العاطف على خلقه بالرزق لهم و دفع الآفات عنهم؛ و الرحمن فعلان في الرحمن الذي يرحم و يبسط الرزق علينا الرحيم في دنيانا و ديننا؛ و في الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم تلك المبالغة لشمول الرحمن في الدارين و اختصاص الرحيم بالآخرة او بالمؤمنين. (الرَّحِيمِ)

ص: 8

اى المترحم إذا سئل اعطى و إذا لم يسئل غضب؛ و بنى آدم حين يسأل يغضب قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان للّه مائة رحمة اعطى واحدة منها لأهل الدنيا كلها و ادّخر تسعا و تسعين الى الآخرة يرحم بها عباده.

و اعلم ان الرحمة من الصفات الإلهية و هي حقيقة واحدة؛ لكنها تنقسم بالذاتية و الصفاتية اي تقتضيها اسماء الذات و اسماء الصفات و كل منهما عامّة و خاصّة فالرحمة العامة و الخاصة الذاتيّتان ما جاء في البسملة قيل ان للّه تعالى ثلاثة آلاف اسم، ألف عرفها الملائكة لا غير؛ و ألف عرفها الأنبياء لا غير، و ثلاثمائة في التورية؛ و ثلاثمائة في الإنجيل؛ و ثلاثمائة في الزبور؛ و تسعة و تسعون في القرآن؛ و واحد استأثر اللّه به ثم معنى هذه الثلاثة آلاف في هذه الأسماء الثلاثة اللّه و الرحمن و الرحيم فمن علمها و قال فكأنما ذكر اللّه بكل أسمائه.

و في الخبر انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ليلة اسري بي الى السماء عرض عليّ جميع الجنان، فرأيت فيها اربعة انهار: نهرا من لبن و نهرا من ماء و نهرا من خمر و نهرا من عسل فقلت: يا جبرئيل من اين تجي ء هذه الأنهار و الى اين تذهب قال نذهب الى حوض الكوثر و لا ادرى من اين تجي ء؛ فادع اللّه ليعلّمك او يراك، فدعا ربّه فجاء ملك فسلم على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم قال: يا محمد غمض عينك قال: فغمضت عيني ثم قال: افتح عينك ففتحت فإذا انا عند شجرة؛ و رأيت قبة من دره بيضاء و لها باب من ذهب و قفل لو أن جميع ما في الدنيا من الجن و الانس وضعوا على تلك القبة لكانوا مثل طائر جالس على جبل، فرأيت هذه الأنهار الأربعة تخرج من تحت هذه القبة فلما أردت ارجع قال لي ذلك الملك:

لم لا تدخل القبة قلت: كيف ادخل و على بابها قفل لا مفتاح له عندي قال الملك مفتاحه بسم اللّه الرحمن الرحيم، فلما دنوت من القفل و قلت بسم اللّه الرحمن الرحيم انفتح القفل فدخلت في القبة فرأيت هذه الأنهار تجرى من اربعة اركان القبة؛ و رأيت مكتوبا على اربعة اركان القبة بسم اللّه الرحمن الرحيم؛ و رأيت نهر الماء يخرج من ميم بسم اللّه و رأيت نهر اللبن يخرج من هاء اللّه، و نهر الخمر يخرج من ميم الرّحمن و نهر العسل من ميم الرّحيم فعلمت ان اصل هذه الأنهار الاربعة من البسملة؛ فقال اللّه سبحانه

ص: 9

يا محمد من ذكرني بهذه الأسماء من أمتك بقلب خالص من الرياء و قال: بسم اللّه الرحمن الرحيم سقيته من هذه الأنهار؛ و في الحديث: من رفع قرطاسا من الأرض مكتوبا عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم إجلالا له و لاسمه عن ان يدنس كان عند اللّه من الصديقين، و خفف عن والديه و ان كانا مشركين. و عن الرضا عليه السّلام: ان البسملة اقرب الى اسم اللّه الأعظم من سواد العين الى بياضها قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا قال المعلم للصبي: بسم اللّه بالخلوص: كتب اللّه له و لا بويه و لمعلمه برائة من النار إذا كانوا مؤمنين و لا يحصل الخلوص الا بهذه الأربع، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوصيك بأربع خصال الاولى: الصدق فلا تخرجن عن فيك كذبة ابدا (الثانية): الورع و لا تجرى على خيانة ابدا و (الثالثة)، الخوف من اللّه كأنك تراه و الرابعة، كثرة البكاء من خشية اللّه ينبي لك بكل دمعة ألف بيت في الجنة.

قال الشيخ احمد البوني في لطائف الإشارات: ان شجرة الوجود تفرعت عن البسملة و العالم كله قائم بها و من اكثر من ذكرها رزق الهيبة عند العالم العلوي و السفلى قال الشيخ اكبر في الفتوحات إذا قرأت فاتحة الكتاب، فصل بسملتها معها في نفس واحد من غير قطع. قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حالفا عن جبرئيل حالفا عن ميكائيل حالفا عن اسرافيل قال اللّه: يا اسرافيل بعزتي و جلالي و جودي و كرمي من قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم متصلة بفاتحة الكتاب مرة واحدة فاشهدوا على انى قد غفرت له و قبلت منه الحسنات و تجاوزت له عن السيئات و لا احرق لسانه بالنار و أجيره من عذاب القبر و عذاب النار و عذاب يوم القيمة و الفزع الأكبر.

(سورة فاتحة الكتاب): وجه التسمية بفاتحة الكتاب اما لافتتاح المصاحف بها، و اما لأن الحمد فاتحة كل كلام و اما لأنها أول سورة نزلت و سميت بأم القرآن و أم الشي ء أصله؛ و ذلك لان المقصود من كل القرآن تقرير امور اربعة: اقرار بالالوهية و النبوة، و اثبات المعاد، و اثبات الحكم، و الأمر له، و هذه السورة جامعة لهذه المراتب، و سميت بالسبع المثاني لأنها سبع آيات، او لان كل آية منها تقوم مقام سبع من القرآن، فمن قرأها اعطى ثواب قراءة الكل؛ او لان من قرأ آياتها السبع غلقت عنه أبواب النيران

ص: 10

السبعة. و اما وجه التسمية بالمثاني فلأنها تثنى في كل صلاة، او لان نزولها مرتين مرة في مكّة و اخرى في المدينة و سميت بسورة الصلاة و سورة الشافية و الكافية و الوافية و سورة الحمد و سورة السؤال و سورة الدعاء و سورة الكنز لما روي ان اللّه تعالى قال فاتحة الكتاب كنز من كنوز عرشىّ

[سورة الفاتحة (1): آية 2]

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)

قال الزمخشري: الحمد على الابتداء و خبره الظرف الذي هو للّه و أصله النصب بإضمار فعله، على انه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة و معنى الاخبار كقولهم شكرا و عجبا و ما أشبهه، و منها سبحانك و معاذ اللّه ينزلونها منزلة افعالها، و العدول بها عن النصب الى الرفع في الآية على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى و استقراره، و منه قوله تعالى قالوا سلاما قال ابراهيم سلام رفع السلام الثاني للدلالة على انّ ابراهيم حيّاهم بتحيّة احسن من تحيتهم، لأن الرفع دالّ على معنى ثبات السلام لهم، فيئول حقيقة المعنى نحمد اللّه حمدا فلذلك قيل إياك نعبد و إياك نستعين انتهى فقوله الحمد للّه لامه امّا للعهد اى الحمد الكامل؛ و هو حمد اللّه لنفسه و حمد الرسل او اللام للعموم و الاستغراق اى جميع المحامد و الاثنية من الملك و البشر خاص للّه. و الحمد و المدح اخوان و هو الثناء الجميل من نعمة او غيرها. و الحمد و الثناء ذاتا خاص به تعالى شانه على لسان أنبيائه، و التكليف من النعمة لان بقائك موقوف عليه، و اما الشكر فعلى النعمة خاصة، و الحمد ثناء المحمود و اظهار كماله و أفعاله و آثاره، و هو قولي و فعلي و حالي.

اما القولي فحمد اللسان و ثنائه عليه بما اثنى به نفسه على لسان أنبيائه.

و اما (الفعلى) فهو الإتيان بالأعمال البدنية من العبادات و الخيرات ابتغاء لمرضاته حتى يستعمل الحامد كل عضو فيما خلق لأجله على الوجه المشروع حتى يوافق ساير أعضائه لسانه (و اما الحالي) فهو بحسب القلب كالتخلق بأخلاق اللّه من الرضا و التسليم و الاتصاف بالكمالات العلمية و حب المعروف و بغض المنكر ورده و هو الجهاد الأكبر فيكون في حكم الشهيد ثوابا فمن ما روى في ثواب الشهداء يشمله فحينئذ يكون اهل الحال و يستحق

ص: 11

المواهب من اللّه الواردة عليه ميراثا أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس و ذلك بسبب العمل الصالح المزكّى للنفس المصفّى للقلب، و عبّر بالحال لحول العبد به من الرسوم العادية الشهوية إلى الصفات الحقية، و أول قدم الحال الدخول في باب الأبواب و هو التوبة، لأنها أول ما يدخل به العبد حضرت القرب من جبان الرب* (رَبِّ الْعالَمِينَ)* ربّه يربه فهو ربّ، و يجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة، كما وصف بالعدل؛ و الرب السيد المالك، و منه قول صفوان لأبي سفيان لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أللهم لا تجعل لفاجر عليّ يدا: بيان برهان على استحاقه تعالى الحمد بقوله مربى العالمين بإيجادهم و تربية أسباب وجودهم فيربى الظاهر بالنعمة و الباطن بالفيض و الرحمة و أحكام الشريعة التي بها قوام بقائهم في السعادة الأبدية و يربى سبحانه أجزاء العوالم كلا بحسبها فسبحان من ربي الإنسان بأحسن التربية فاسمع بعظم و بصر بشحم.

أعلم أنّه اختلف في أفضلية نعمة البصر و السمع فقال قائل بأفضلية السمع لوجوه منها أنّ اللّه قدم في الذكر في اغلب القرآن السمع على البصر و التقديم في الذكر دليل على الشرف.

و منها أنّ العمى وقع في حقّ الأنبياء و أمّا الصمم فغير جائز لأنّه مخلّ بأداء الرسالة.

و منها ان السمع تدرك من جميع الجوانب دون البصر.

و منها انّ الإنسان يستفيد من المعارف من المعلم و ذلك لا يمكن إلّا بالسمع.

و منها انّ امتياز الإنسان عن سائر الحيوانات بالنطق و الكلام، و انما ينتفع به السامعة لا الباصرة و متعلّق السمع النطق الذي به شرف الإنسان و متعلق البصر الألوان و الأشكال و ذلك أمر مشترك بين الإنسان و سائر الحيوان.

و منهم من قال بأن البصر أفضل من السمع قالوا المشهور انّه ليس الخبر كالمعاينة و ذلك تدل على أنّ أكمل وجوه الإدراك البصر.

الثّاني انّ عجائب حكمة اللّه في العين أكثر من عجائب حكمته في تخليق الأذن فركّب العين من سبع طبقات و ثلاث رطوبات و جعل لها عضلات كثيرة على صور مختلفة

ص: 12

و الأذن ليس كذلك، و كثرة العناية في التخليق في الشي ء يدلّ على كونه أفضل من غيره.

الثّالث انّ القوّة الباصرة هي النور و آلة السّامعه هي الهواء و النّور أشرف من الهواء.

الرابع انّ البصر يرى ما فوق سبع سماوات و السمع لا يدرك ما بعد على فرسخين فكان البصر أقوى.

الخامس إنّ بعض النّاس يسمع كلام اللّه و كلام الملائكة في الدنيا و لا يراه أحد و أنّ موسى سمع كلام من غير سؤال و لمّا سئل الرؤية قال لن تراني فذلك يدل على أنّ حال الرؤية أعظم و أعلى من السماع، على أنّ ذهاب العين ليس كذهاب السّمع و هي الكريمتان. و انطق بلحم و رتّب غذائه في النبات بحبوبه و ثماره و في الحيوان بحياته و آثار نفعه، و في الأراضي بأشجاره و أنهاره و في الأفلاك بكواكبه و أنواره.

و لمّا علم أنّ النفوس لو يهملوا اهلكوا أنفسهم في مدّة قليلة لعدم علمهم في تدبير أمورهم و بقائهم، وضع لهم قانونا سماويا لحفظ نفوسهم و درك سعادة الفانية و الباقية لأنّهم خلقوا للبقاء لا للفناء، فسبحان من فلحت حجته و استظهر سلطانه و اقسطت موازينه فجعل السيئة ذنبا و الذنب فتنة و الفتنة دنسا، و جعل الحسنى عتبا و العتبى توبة و التوبة طهورا، فمن تاب اهتدى و من افتتن غوى ما لم يتب إلى اللّه و يعترف بذنبه و لا يهلك على اللّه هالك. اللّه اللّه فما أوسع ما لديه من التوبة و الرحمة و البشرى و الحلم العظيم، و ما أنكل ما عنده من الإنكال و الجحيم و البطش الشديد، فمن ظفر بطاعته اجتلب كرامته و من دخل في معصيته ذاق وبال نقمته و عمّا قليل ليصبحنّ نادمين.

قال الباقر عليه السّلام صلّى عليّ عليه السّلام بالعراق صلاة الصبح ثمّ خطب خطبة فبكى و أبكى الناس من خوف اللّه ثمّ ما رؤي بعد ذلك ضاحكا إلى أن توفي فما ظنّك بنفسك.

و ربما يغتر بعض الجهّال ببعض ظواهر الأخبار بما ورد في ثواب الأعمال و هو غافل عن شرائطها الشرعية الواقعية أو يغتر بالنسب الرفيع كالسيادة و العالمية فيقول مثلا جدي يشفعني فلا يقوم بالشرعيات و لا يعمل بالفرعيات و لا ينفعه الحسب و لا النسب كما في روضة الكافي.

ص: 13

قال الباقر عليه السّلام: لا تتّخذوا من دون اللّه وليجة، فلا تكونوا مؤمنين فإنّ كل سبب و نسب و قرابة و وليجة و شبهه منقطع مضمحلّ، كالغبار الّذي يكون على الحجر الصلد إذا أصابه المطر الكثير إلّا ما أثبته القرآن و يكون بإطاعة الرسول؛ و «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» و دع عنك الفضولي و المعضلات، و إنّ سنة اللّه لا تبدّل.

و (الْعالَمِينَ) جمع عالم و العالم جمع لا واحد له من لفظه. و العالم اسم لكلّ ما يعلم به في الأصل كالحاتم اسم لما يحتم، ثمّ غلب استعماله فيما سوى اللّه.

قال وهب: للّه ثمانية عشر ألف عالم و الدنيا عالم منها. قال كعب الأحبار: العوالم لا تحصى لقوله تعالى: «وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ». (1) و عن أبي هريرة: إنّ اللّه تعالى خلق الخلق من ذوي العقول أربعة أصناف:

الملائكة و الشياطين و الجنّ و الإنس، ثمّ جعل هؤلاء عشرة أجزاء: تسعة منهم الملائكة و واحد الثلاثة الباقية، ثمّ جعل هذه الثلاثة عشرة أجزاء: تسعة منهم الشياطين و جزء واحد الجنّ و الإنس، ثمّ جعلهما عشرة أجزاء تسعة منهم الجنّ و واحد الإنس. ثمّ جعل الإنس مائة و خمسة و عشرين جزءا فجعل مائة جزء في بلاد الهند، منهم ساطوخ و هم أناس رؤوسهم مثل رؤوس الكلاب، و مالوخ و هم أناس أعينهم في صدورهم، و ماسوخ و هم أناس آذانهم كآذان الفيلة، و مألوف و هم أناس لا يطاوعهم أرجلهم يسمّون «دوالپاي» و هؤلاء كلّهم كفرة مصيرهم إلى النار. و جعل اثني عشر جزءا منهم في بلاد الروم: النسطوريّة و الملكائيّة و الإسرائيليّة و مصيرهم إلى النار جميعا. و جعل ستّة أجزاء منهم في المشرق: يأجوج و مأجوج و ترك و خاقان، و ترك حد خلخ و ترك خضر، و ترك جرجر، و جعل ستّة أجزاء في المغرب: الزنج و الزط و الحبشة و النوبة و بربر و سائر كفّار العرب و مصيرهم إلى النار، و بقي من الإنس من أهل التوحيد جزء واحد، فجزّأهم ثلاثا و سبعين فرقة: اثنتان و سبعون على خطر و هالكة، و هم أصحاب البدع و الضلالات و فرقة ناجية.

و في الحديث: إنّ بني إسرائيل تفرّقت على ثنتين و سبعين فرقة، و تفرّق امّتى

ص: 14


1- المدثر: 31.

على ثلاث و سبعين فرقة كلّهم في النار إلّا فرقة واحدة. قالوا: من هي يا رسول اللّه؟ قال:

من هم على ما أنا عليه- يريد في الاعتقاد و القول و الفعل-.

و بالجملة هو تعالى شأنه ربّ العوالم بأسرها، و «العالم» بفتح اللام اسم لذوي العلم من الملائكة و الثقلين و يطلق على كلّ ما علم به الخالق من الأجسام و الأعراض، فأقول: عالمون و عالمين جمع الواو و النون و هو جمع العقلاء.

اعلم أنّ العاقل من اجتمع فيه هذه الخصال العشرة: الاولى أن يحلم عمّن جهل عليه، و يتجاوز عمّن ظلمه، و يتواضع لمن هو دونه، و يسابق من فوقه في طلب البرّ، و إذا تكلّم تدبّر؛ فإن كان خيرا تكلّم فغنم، و إن كان شرّا فسكت فسلم، و إذا عرض له فتنة استعصم باللّه، و أمسك يده و لسانه، و إذا رأى فضيلة في الأدنية انتهز لها، لا يفارقه الحياء و لا يبدو منه الحرص فتلك عشرة خصال يعرف بها العاقل.

و أمّا الجاهل هو أن يظلم من خالطه: و يتعدّى على من هو دونه، و يتطاول على من هو فوقه، كلامه بغير تدبّر؛ إن تكلّم أثم، و إن سكت غفل، و إن عرضت له فتنة سارع إليها، فأردته، و أن رأى فضيلة أبطأ عنها، لا يخاف ذنوبه القديمة، و لا يرتدع فيما بقي من عمره من الذنوب، يتوانى عن البرّ غير مكترث لما فاته من الطاعة فتلك عشر خصال من صفة الجاهل الّذي حرم العقل بشهوته، هذا اسم لا صفة فكيف جمعت بالواو و النون؟

قالوا: ساغ ذلك لتضمّن معنى الوصفيّة فيه و هي الدلالة على معنى العلم أو للتغليب؛ لأنّ في هذه العوالم عالم العقلاء من الملك و الجنّ و البشر فصحّ أن يؤتى بجمع العاقل.

[سورة الفاتحة (1): آية 3]

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)

و في التكرار إشعار بأنّ التسمية آية مستقلّة؛ و أيضا ندب العباد بذكر رحمته و يناسب الربّيّة الرحمانيّة السائقة إليهم أرزاقهم في الدنيا. و الرحيميّة الّتي توجب الغفران لهم في العقبى، و لأنّ الرحمة تنال بعد الحمد أو بالرحمانيّة و الرحيميّة المتعلّقة بالذات، و في البسملة و هو المتعلّقة بالصفات.

[سورة الفاتحة (1): آية 4]

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

و قرئ «ملك يوم الدين» قال هرمس الهرامسه: أشدّ الأعمال ثلاثة: الجود عند القلّة، و الورع عند الخلوة، و العفو عند القدرة، و يقال لذي السلطة أيضا: ملك عادل.

و لا تدوم ملكيّته هي في الدنيا إلّا بأمور ستّة: الأوّل أن لا يتجاوز عن قانون

ص: 15

الكتب فانه متى ما عدل عنه عدل النظام عن ملكه لا محالة، الثاني فانه ان لا تأخذه في اللّه لومة لائم، الثالث صاحب شرطة توقف الرعية على حدودهم و ينتصف من الأقوياء للضعفاء و الثالثة صاحب خراج يستقصى و لا يخون و لا يظلم و الرابعة صاحب بريد صادق ينهى الاخبار بالصدق يوسع و لا يضيق على الحفد و الولد و إذا ملك الأراذل باد و قراءة اهل الحرمين ملك لقوله لمن الملك اليوم و لقوله ملك الناس و اصل الملكة الربط و الشدة و القوة و المراد من اليوم في الآية مطلق الوقت لا ما نعبّر به من انه من الطلوع الى الغروب و اضافة اليوم الى الدين كاضافة سائر الظروف الى ما وقع فيها من الحوادث، كقولهم.

يا سارق الليلة اهل الدار اى مالك الأمر في يوم الجزاء و قيل قراءة الملك ابلغ من المالك لان المالك هو الذي ملك شيئا من الدنيا و اما ملك هو الذي يملك الملوك لكنه معهذا قالوا مالك بالألف اكثر ثوابا من ملك لزيادة حرف فيه. حكي عن الثلجى انّه قال كان من عادتي قراءة مالك فسمعت من بعض اهل الفضل ان ملك ابلغ فتركت عادتي و قرأت ملك و رأيت في المنام قائلا يقول لي لم نقصت من حسناتك عشرا اما سمعت قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ القران كتب له بكل حرف عشر حسنات و محيت عنه عشر سيئات و رفعت له عشر درجات فلم اترك عادتي حتى رأيت ثانيا في المنام انّه قيل لي لم لا تترك هذه العادة اما سمعت قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اقرؤا القرآن فخما مفخما اي عظيما معظما فأتيت قطربا فسألته ما بين المالك و الملك قال الملك افخم معني من المالك و هو الأنسب بمقام الاضافة الى يوم الدين

[سورة الفاتحة (1): آية 5]

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

ايّا ضمير منفصل للمنصوب و اللواحق التي تلحقه من الكاف و الهاء و الياء لبيان الخطاب و الغيبة و التكلم و تقديم المفعول لقصد الاختصاص و العدول عن لفظ الغيبة الي الخطاب يسمى الالتفات عادتا من كلام الفصحاء لان فيه فائدة للسامع و تطربة نشاط يحصل له في الافتنان و يحصل بهذه الصنعة في الكلام استدرار اصغائه اليه بحسن الإيقاظ فبيّن اللّه سبحانه للعبد بيان الحقيق بالحمد و امره بالحمد و استشهد سبحانه في استحقاقه الحمد و اختصاصه له تعالى بربوبيّته و من صفاته برحمانيته فانكشف للعبد علم اليقين بمالكيته و خالقيته فانّ من كانت هذه

ص: 16

صفاته لم يكن غيره يستحق العبادة و الثناء إذ هو المختص بالحمد و هو الرّب المالك للعالمين بأسرها لا يخرج احد من ملكوته و ربوبيته و هو موصوف بولاية النعم الظاهرة و الباطنة من الرحمة فالمعبودية خاصة به و الفائدة المختصة من صنعة الالتفات في الآية هي انه بعد بيان شئون* (الجلالة)* بالأوصاف المذكورة تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالعبادة و الاستعانة به فخوطب ذلك المعلوم المتميز فقيل إياك نعبد و انما قدم ذكر العبادة على الطلب لان تقديم الوسيلة يكون قبل طلب الحاجة ليستوجب العبد الهداية فقال: اهدنا الصراط المستقيم. و روي ان الصادق عليه السّلام قرء اهدنا صراط المستقيم و اعلم ان المهتدي هو الذي ترك الدنيا و العادة ثم اشتغل بوظائف الطاعة و العبادة لا من اتبع هواه او خلط هواه بهداه. قال الشيخ البرسي: من استدام ذكر الهادي الخبير المبين عقيب سهر و جوع اطلع على اسرار الغيب. و كذا ذكر النور الهادي و يقول بعده اهدني يا هادي و أخبرني يا خبير فبهذا البيان الجلى صار العبد يشاهد بعين اليقين و يخاطبه و جاها و يناجيه شفاها.

أياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة و نستعين منك و لا نعبد غيرك و الضمير المستكن في نعبد و نستعين للقاري و من معه من الحفظة و حاضري الجماعة، اوله و لسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم و خلط حاجته بحاجتهم لعلها تجاب و تقبل ببركاتها و لهذا شرّعت الجماعة؛ و العبادة هي العبودية على النهج الذي امر به المعبود فمن العبادة الصلاة بلا غفلة و الصوم بلا غيبة و الصدقة بلا منة و الحج بلا ارائة و الغزو بلا طمع و لا سمعة و العتق بلا اذية و الذكر بلا ملالة و سائر الطاعات بلا آفة و كك في الأخلاق الرضى بلا ملال و كدورة و الصبر بلا شكاية و اليقين بلا شبهة و الإقبال بلا رجعة و الإيصال بلا قطيعة و يجمع كل هذه الأمور اتّباع السنة و هو مفتاح السعادة، كما قال ان كنتم تحبون اللّه فاتبعوني يحببكم اللّه. و لمّا أنعم اللّه على عبده بنعمة الصلاة قسّمها بينه و بين عبده كما قال على لسان نبيّه قسمت الصلاة بيني و بين عبدى نصفين فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سئل فنصفها الذي لحضرة جلاله: الصفات و الأسماء الحسنى و الحمد و الثناء و الشكر؛

ص: 17

و نصفها الذي للعبد الطلب و الدعاء

[سورة الفاتحة (1): آية 6]

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

بيان الطلب و المعونة المطلوبة إذ هو الذي سئله الأنبياء و الأولياء كما قال يوسف عليه السّلام توفني مسلما إذ لا يعتمد على ظاهر الحال فقد يتغير بالمآل كما لإبليس و برصيصا و بلعم، اى ارشدنا طريق الهداية و الصراط المستقيم استعارة عن ملة الإسلام و الدين الحق و أثبتنا على الهداية، و هداية اللّه على انواع منها الهداية بإرسال الرسل فانّهم الدعاة الى اللّه في عالم الأمر و الخلق اى: الباطن و الظاهر قال تعالى ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للايمان ان آمنوا بربكم فآمنا و هذا سماع يعم المعنوي شامل للمعاينة القلبية المساوق للايمان بالغيب؛ و منها الهداية بانزال الكتب سيما الفرقان. ان هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين؛ و منها الهداية القلبية: في الحديث إذا أراد اللّه بعبد خيرا فتح عينا قلبه لا يسمع بمعروف إلا عرفه و لا بمنكر الا أنكره و منها الهداية بالإلهام الرباني المخصوص بالأولياء أو المعجزات الباهرات الجاريات على أيدى الأنبياء و المعصومين و الى هذه الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي ما أن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» و الالف و اللام في الصراط للعهد يشمل جميع انواع الهدايات بقرينة بعده في قوله «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» فيعمّ هذا المعنى الكلّي في هذا الفرد، فهو من قبيل الاشتراك المعنوي لكن ليس بمشترك معنوي، بل هذه الأنواع افراده و اعداده كعدد الاول و الثاني في معني العترة، فالصراط المتصف بالاستقامة مندرج تحت هذا المفهوم الكلي، و هو صراط أوليائه. قيل فيه وجوه أخرى (أحدها) ثبتنا على الدين الحق، لأنّ اللّه قد هدى الخلق كلّهم على الفطرة الّا انّ الإنسان قد ينزل و ترد عليه الخواطر الفاسدة، فيلزم ان يسأل اللّه ان يثبته على دينه و يدعه عليه و يعطيه زيادات الهدى التي هي احد اسباب الثبات علي الدين كما قال تعالى: «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» و هذا كقول القائل لغيره و هو يأكل، كل: اى دم على الاكل. (و ثانيها) انّ الهداية هي الثواب او لازمها الثواب فمعناه اهدنا الى طريق الجنة ثوابا (و ثالثها) ان المراد دلنا على الدين الحق في مستقبل العمر كما دللتنا عليه في الماضي، قال امير المؤمنين يعنى أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضى عمرنا، حتى نطيعك لذلك في مستقبل ايّامنا.

ص: 18

و في الكلام تحقيق آخر و هو ان العبد يحتاج الي الهداية في جميع أموره آنا فآنا و لحظة فلحظة، فادامة الهداية هي هداية أخرى بعد الهداية الاولى، فتفسير الهداية بادامتها ليس خروجا عن ظاهر لفظها، و في الآية الشريفة لفظ جامع يشتمل علي مسألة احكام المعرفة و التوفيق لإقامة الشرائع في الإسلام و معرفة من أوجب اللّه طاعته و اجتناب المحارم و الآثام و البرائة من احوال الزائلين المزيلين و الضالين المضلّين ممن عاند الحق و عمى عن طريق الرشد، فقال:

[سورة الفاتحة (1): آية 7]

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

: بدل من الصراط الاول بدل الكلّ، و المنعم عليهم الذي اصطفاهم من خلقه من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و الذين اقبلوا بالقبول من طلب رضاه حتى لو امر بذبح ولده كإبراهيم، او بأن ينقاد للذبح كاسمعيل، او بأن يرى نفسه في البحر كيونس، أو بأن يتلمذ مع بلوغه أعلى درجات الغايات كموسى، أو بأن يصبر في الأمر بالمعروف على القتل و الشق بنصفين كيحيى و زكريا. و معلوم ان المنعم عليهم طبقات، و هؤلاء المذكورون و أمثالهم المكمّلون في الاهتداء بحسب قابلياتهم، فأنعم اللّه على ضمائرهم و أرواحهم أنوار العناية، و على هممهم اثار الولاية و على نفوسهم و طباعهم قمع الهوي و قهر الطبع و حفظ الشرع بالرعاية و من مكايد الشيطان بالمراقبة و الكلاية، و دونهم المؤمنون الذين معهم، و قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا في اتباع السنة و انقياد النفس للأوامر و النواهي.

و في كتاب المعاني: عن الصادق عليه السّلام الهداية هي الطريق الي معرفة اللّه و هما صراطان صراط في الدنيا و صراط في الآخرة، فأما الصراط في الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مر علي الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و عنه عليه السّلام ان الصراط امير المؤمنين، و زاد في رواية أخرى و معرفته، و في أخرى نحن صراط المستقيم فمعرفته و اتّباعه الصراط المستقيم فمن اصابه تلك المعرفة و ذلك النور فقد اهتدى، و من أخطأه فقد ضلّ، يا علي يا علي أنت أنت صراط اللّه لو انصفوك و قرأ صراط من أنعمت عليهم عن اهل البيت. و عن عمر بن الخطاب و عمر بن الزبير.

ص: 19

لكن الصحيح هو المشهور؛ و المنعم عليهم هم الذين خصهم اللّه بعصمته و احتج بهم على بريته و فضلهم على خليقته، فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة علي أكد الوجوه، كما تقول: هل ادلك علي أكرم فلان فيكون ذلك في وصفه بالكرم من قولك هل ادلك على فلان الأكرم، لأنك ذكرت كرمه مجملا اوّلا و مفصلا ثانيا و أوقعت فلانا تفسيرا للأكرم فجعلته علما في الكرم، و معني الكلام انه: من أراد رجلا جامعا للكرم ففلان: و المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب اللّه و قائدهم و رئيسهم الذي لم يشرك باللّه طرفة عين، و هو الصراط الأعظم امير المؤمنين عليه السّلام،

حبه موجب خلد و نعيم بغضه منشأ نار و سقر

ها على بشر كيف بشرنوره فيه تجلّى و ظهر

هو و المبدء شمس و ضياءهو و الواجب نور و قمر

علّة الكون و لولاه لماكان للعالم عين و أثر

ما هو اللّه و لكن مثلامعه اللّه كنار و حجر

و له أبدع ما تعقله من عقول و نفوس و صور

فلك في فلك فيه نجوم صدف في صدف فيه درر

جنس الأجناس عليّ و بنوه نوع الأنواع الى الحادي عشر

كلّ من مات و لم يعرفهم موته موت حمير و بقر

ليس من أذنب يوما بإمام كيف من أشرك دهرا و كفر

قوسه قوس نزول و عروج سهمه سهم قضاء و قدر

حبه مبدء خلد و نعيم بغضه منشأ نار و سقر

من له صاحبة كالزهراءاو سليل كشبير و شبر

من كمن هلّل في عهد صبي او كمن كبّر في عهد صغر

أيها الخصم تذكر سندامتنه صحّ بنصّ و خبر

إذ أتى احمد في خم غديربعليّ و على الرّحل نبر

قال من كنت انا مولى له فعلى له مولى و مقر

ص: 20

قبل تعيين وصىّ و وزيرمن رأى مات نبي و هجر

قال شيخ الطائفة في اماليه باسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: دخل الحارث الهمدانى علي امير المؤمنين على بن ابي طالب عليه السّلام في نفر من الشيعة و كنت فيهم، و ذكر الحديث و قال في آخره و أبشرك يا حارث و الذي فلق الحبّة و برء النسمة ليعرفني وليّي و عدوّى في مواطن شتّى ليعرفني عند الممات و عند الصّراط، و عند المقاسمة، فقال:

و ما المقاسمة يا مولاي قال: مقاسمة الجنّة و النّار أقول: هذا وليي و هذا عدوّي، ثمّ أخذ أمير المؤمنين بيد الحارث و قال يا حار أخذت بيدك كما أخذ رسول اللّه بيدي، فقال لي و قد اشتكيت حسدة قريش و المنافقين انّه إذا كان يوم القيمة أخذت بحجزة يعنى عصمة من ذي العرش تعالى، و أخذت أنت يا عليّ بحجزتي و أخذت ذريّتك بحجزتك و أخذت شيعتك بحجزتكم، فماذا يصنع بنبيّه، و ما يصنع نبيّه بوصيّه، و ما يصنع وصيّه بأهل بيته و شيعتهم. خذها إليك قصيرة من طويلة، أنت مع من أحببت و لك ما اكتسبت قالها ثلاثا، فقام الحارث يجر ردائه جذلا و قال ما أبالي و ربّى بعد هذا متي لقيت الموت او لقيني.

و عن امير المؤمنين عليه السّلام قال: قال لي رسول اللّه يا على ان اللّه أعطاني فيك سبع خصال أنت أول من ينشق القبر عنه و اوّل من يقف على الصراط معى فتقول للنار خذي هذا فهو لك و ذري هذا، فليس هو لك، و أنت أول من يكتسى إذا كسيت و يحيي إذا حييت و اوّل من يقف معى عن يمين العرش و أول من يقرع باب الجنّة و أول من يسكن معي عليين و أول من يشرب معى من الرحيق المختوم الذي ختامه مسك و في ذلك فليتنافس المتنافسون.

ابن بابويه قال: قال رسول اللّه معاشر الناس من أحسن من اللّه قيلا و اصدق من اللّه حديثا، معاشر الناس ان ربكم أمرني ان أقيم لكم عليا علما و اماما و خليفة و وصيا و ان اتخذه أخا و وزيرا، معاشر الناس ان عليا باب الهدي بعدي و الداعي الي ربي و هو صالح المؤمنين و من احسن قولا ممن دعا الى اللّه و عمل صالحا و قال: انني من المسلمين، معاشر الناس ان عليا منّى، ولده ولدي و هو زوج حبيبتي، امره امري و نهيه نهيي،

ص: 21

أيها الناس عليكم بطاعته و اجتناب معصيته، و انّ طاعته طاعتي و معصيته معصيتي معاشر الناس ان عليّا صدّيق هذه الامة و فاروقها و هارونها و يوشعها و شمعونها و آصفها، انه باب حطتها و سفينة نجاتها، انه طالوتها و ذو قرنيها، معاشر الناس انه محنة الورى و الحجة العظمى و الآية الكبرى و امام الهدى و العروة الوثقى، معاشر الناس انّ عليا قسيم لا يدخل النار ولىّ له و لا ينجو منها عدوّ له، انّه قسيم الجنّة لا يدخلها عدوّ له و لا يتزحزح منها ولىّ له، معاشر اصحابي قد نصحت لكم و بلّغتكم رسالة ربّى و لكن لا تحبون الناصحين أقول قولي هذا و استغفر اللّه لي و لكم.

و أصل الصراط سراط من السين و ابدلوا السين بالصاد لما بين الصاد و الطاء مواخاة في الاستعلاء، و لكراهة ان يتسفل بالسين، ثم يتصعد بالطاء ابدلوا بالصاد.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ جرّ غير على البدلية من الهاء و الميم في عليهم مثل قول الشاعر:

علي حالة لو انّ في القوم حاتم على جوده لضنّ بالماء حاتم

فجرّ حاتم على البدليّة من الهاء من جوده، او يكون غير مجرورا علي البدليّة من الذين، او يكون صفة للذين و كلمة غير يستعمل لمعني المغايرة و نفى الحكم. و معني الغضب ثوران النفس عند ارادة الانتقام و يحصل غليان في دم القلب لشهوة التشفي و الانتقام، و هذه الكيفية في حقّ اللّه تعالى محال، و المراد هنا نقيض الرضى، او ارادة الانتقام او الأخذ الشديد: و ذلك لأنّ القاعدة التفسيرية عند اهل التفسير انّ الأفعال التي لها اوايل بدايات و أواخر غايات إذا لم يجز و لم يمكن إسنادها الى اللّه باعتبار البدايات يراد بها حين الاسناد النهايات كالغضب و الحياء و التكبّر و الاستهزاء و السرور و الغم. و المراد من المغضوب عليهم هم اليهود، و الضالين، النصارى.

و يدل على هذا المعنى قوله تعالى: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ) و قال تعالى: (وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

و اما النصارى بدلالة قوله: (وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً

ص: 22

وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)، و الآية في حقهم و قد اشتهر تفسير المغضوب عليهم باليهود و الضالين بالنصارى، و فسر المغضوب عليهم بالعصاة في الفروع و الضالين بالمختلين في الاعتقاديات، فان المنعم عليه من وفق الجمع بين العلم و العمل بالاحكام الاعتقاديّة و العمل بالشريعة فالمقابل له من اختل احدى قوتيه العاقلة و العاملة، و لفظة «لا» تفيد تأكيد النفي الواقع قبلها، و في عدوله سبحانه عن اسناد الغضب الى نفسه تعالى مع التصريح باسناد عديله اعنى النعمة اليه تشييد لمعالم العفو و الرحمة و اشارة لمبانى الجود و الكرم حتى كان الصادر عنه هو الانعام لا غير، و ان الغضب صادر عن الغير بسبب ان الغير صار سبب الغضب و الا فالمناسب ان يقول غير الذين غضبت عليهم، فصار الكلام في قوّة التصريح في جانب الرحمة و التعريض في جانب العقاب.

و كذلك اغلب الآيات المتضمنة لذكر العفو و الانتقام، فإنك تجدها ظاهرة في ترجيح جانب العفو: مثل قوله تعالى: «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» مع ان ظاهر المقابلة و نسق الآية ان يقول و كان اللّه غفورا معذبا، و كذلك قال تعالى «غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ» حيث بعد بيان صفة الانتقام بقوله شديد العقاب جعلها محفوفة بنعوت الإحسان. و ليس المراد تخصيص نسبة الغضب باليهود و نسبة الضلال بالنصارى بل جميع الكفّار في بين النسبتين داخلون و الكفر ملّة واحدة الا إن اللّه يخص كل فريق بسمة يعرف بها و يميز بينه و بين غيره بها و ان كانوا مشتركين في صفات كثيرة.

و قال عبد القادر الجرجانى ان حق اللفظ فيه ان يكون خرج مخرج الجنس و قيل المراد من المغضوب عليهم العصاة و من الضالين الجاهلون باللّه لان المنعم عليهم هم الجامعون بين العلم و العمل فكان المقابل لهم من اختل احدى قوتيه العاقلة و العاملة و المخل بالعلم و العمل جاهل ضالّ.

فأن قيل انّ من المعلوم ان المنعم عليهم غير الفريقين فما الفائدة في البيان، أقول:

الفائدة اشعار مقام الخوف و الرجاء.

قال محمد الحلبي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام أنّه كان يقرء ملك يوم الدّين و يقرء اهدنا

ص: 23

صراط المستقيم و عند اهل السنّة بعد فراغ الفاتحة يستحب القول بكلمة آمين و روى جميل عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كنت خلف امام ففرغ من قراءة الفاتحة فقل أنت من خلفه: الحمد للّه ربّ العالمين. و روى فضيل بن يسار عنه عليه السّلام إذا قرأت الفاتحة ففرغت من قراءتها فأنت في الصلاة فقل الحمد للّه رب العالمين. و اعلم انّ المصلّى إذا توجه بوجهه الى اللّه لأداء وظيفة العبودية و احرم بالتكبيرة مع النية الخالصة لمولاه و التزم بحضور قلبه و عرف نعم اللّه بالمشاهدة و نفسه بذلك اعدل شاهد و اصدق رائد ابتدأ بالتسمية استفتاحا باسم المنعم و اعترافا بإلهيته و استرواحا الى ذكر فضله فبعد ان اعترف بالمنعم الفرد اشتغل بالشكر له و الحمد له فقال «الْحَمْدُ لِلَّهِ» و لما رأى نعم اللّه على غيره واضحة كما شاهد آثارها على نفسه لائحة عرف أنّه رب الخلائق أجمعين فقال «رَبِّ الْعالَمِينَ» و لذلك لمّا كان شمول فضله و عموم رزقه للمربوبين قال «الرحمن» و لما رأى تقصيرهم في واجب شكره و عدم مؤاخذته عاجلا بالعصيان قال «الرحيم» و لمّا رأى ما بين العباد من التباغي و الفساد و التكالب و التلاكم و ان ليس بعضهم من شرّ بعضهم بسالم علم أنّ ورائهم يوما ينتصف فيه للمظلوم من الظالم فقال.

«مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» و لما عرف هذه الجملة فقد علم انّ له خالقا رازقا يحيى و يميت و يبدي و يعيد و لمّا صار الإله الموصوف بهذا الوصف كالمدرك بالحس و العيان تحول عن لفظ الغيبة إلى الخطاب فقال.

«إِيَّاكَ نَعْبُدُ» ثم سئله الاستعانة لأموره دينا و دنيا بقوله «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ثم سئله الاستدامة على دين الحق و الثبات عليه بل طلب أمرا جامعا لجميع مراتب الخير فقال «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» صراط أوليائك الذين اصطفيتهم فسأله ان يلحقه بهم و يسلك به سبيلهم لا سبيل الزائغين و المنحرفين فقال «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ».

و القرآن أعجز الأولين و الآخرين بالبلاغة و الفصاحة. اعلم أنّه لا بدّ ان ان يكون لكلّ كلام مرغوب حظّ من البلاغة و قسط من الجزالة و البراعة فحينئذ ما ظنّك بما في ذروة الاعجاز و أعلم انّ شعب البلاغة في علم المعاني و البيان عشرة: الاستعارة، و التشبيه و الكناية و الإيجاز و الاطناب و المغالطة و التضمين و الاستدراج و المبادي و التخلص

ص: 24

و الاولى: اى الاستعارة هو ان يحاول المنشى و المتكلم تشبيه شي ء بغيره و لا يأتى باداة التشبيه طلبا لزيادة الدلالة مع الإيجاز فيستعير اسم المشبه به و يكسوه الشبه من غير تعرض لذكر المشبه فيحصل به زيادة بلاغة مثاله فأذاقها اللّه لباس الجوع و الخوف. الضمير المؤنث راجع إلى مكة باعتبار أهلها و وجه الاستعارة ان الثوب لما كان يحيط بجوانب اللابس استعار اسم اللباس للخوف و الجوع حيث أراد سبحانه الاخبار عن احاطة الجوع و الخوف من جميع الجهات فهو ابلغ في المقصود إذ لو قال جعل اللّه الجوع و الخوف محيطين بهم من جوانبهم كانّه لباس لهم لم يكن في الكلام من الحسن ما في الاستعارة.

الثانية: من أبواب البلاغة التشبيه و هو الدلالة على شيئين اشتركا في معنى لكن ذلك المعنى ثابت و معروف في الاسم الذي دخلت عليه أداة التشبيه فيجعل المنشي و المتكلم الاسم الذي لم تدخل عليه الاداة كالاسم الذي دخل عليه الاداة مثاله زيد كالأسد و وجهه كالقمر كأنّهم جراد منتشر شبّه سبحانه الناس عند خروجهم من القبور مضطربين متحيرين قد طبقوا الجهات بكثرتهم لا يلوى بعضهم على بعض بالجراد المنتشر لحصول هذا المعنى من هذا التشبيه.

الثالثة: الكناية و هو لفظ استعمل في معناه لكن المراد ما يلزم ذلك المعنى، مثاله في عيسى و امه كانا يأكلان الطعام، كنى به عن خروج الخارج منهما لأنه من لوازم الاكل و هو افصح و أوجز و الطف، و المقصود من هذه الكناية ان من خرج منه هذا الخارج فهو بمعزل عن الإلهية و ردّ محكم لقول النصارى.

الرابعة: الإيجاز و هو التعبير بالألفاظ القليلة عن المعاني الكثيرة و هو دليل على رجحان العقل، فكل نوع صحيح من الإيجاز معدود من الاعجاز، و قد اجمع ارباب المعاني و البيان انّ أوجز كلمة استعملتها العرب هي قولهم: القتل أنفي للقتل، فلمّا نزل قوله و لكم في القصاص حيوة أذعنوا برجحانه بل قولهم القتل انفي للقتل هذا الكلام ليس بتامّ فانّ بعض القتل هو موجب لكثرة القتل لا نفيه.

الخامسة: الإطناب و هو ذكر الشي ء مرّة أخرى بلفظ غير الاول لشدة الاعتناء به، مثاله: «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ»، فقوله بأفواهكم

ص: 25

اطناب لأنّ قوله يقولون دلّ على ما دلّ بأفواهكم فانّ القول لا يكون الا بالفم و لكن نبّه به على تعظيم هذا الأمر لشدة قبحه.

السادسة: المغالطة و هي ان يأتي المنشى المجيّد بكلام يدلّ على معنى و له مثل او نقيض يكون المثل و النقيض احسن موقعا، مثاله في حقّ المنافقين و قد صدر منهم كلمات في حق النبيّ بالاستهزاء، فقال: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ» فغالطوا في الجواب بهاتين الكلمتين الموهمتين صدق ما كانوا فيه، فكذّبهم اللّه بقوله: «قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ» السابعة: التضمين و هو ان يضمن المنشى كلامه شيئا من الأمثال او الشعرا و الحديث و هو يزيد الكلام عذوبة و حسنا.

الثامنة: الاستدراج و هو ان يصوغ لغرضه ألفاظا يكسوها من اللطافة ما يحيّر الألباب، و هو الركن الأعظم في هذه الصناعات، مثاله في القرآن. «وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ»، فانّ موسى عليه السّلام لمّا أراد ان ينقل قومه من أرضهم الى غيرها أسمعهم ما سرّهم ثم استدرجهم الى مطلوبه بقوله: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ».

التاسعة: المبادي و تسمّى براعة الاستهلال، و هو ان يجعل اوّل كلامه دالّا على المقصود كقول النحوي: الحمد للّه الذي رفع من انخفض لجلاله.

العاشرة: التخلّص و هو ان يجعل بين المعنى الذي ينتقل عنه و الذي ينتقل اليه ارتباطا و تعلّقا بحيث يكون الكلام المشتمل على المعاني المتعددة كالمنتظم في سلك واحد مثاله: «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ» الى ان يقول «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ»، فانّ في هذه الآيات الى قوله: ثم يحيين من حسن التخلص ما يدهش العقول فتأمّل في حسن البلاغة.

قال اهل البيان انّ من البلاغة براعة الاستهلال و حسن الابتداء و هو ان يأتي المتكلّم بكلام يفهم غرضه من كلامه، عند الابتداء من كلامه، من استهل الصبى اى صاح عند الولادة،

ص: 26

و استهل رأى الهلال و استهلت السماء اى جادت بالهلال و هو أول النظر و المقصود من إنزال القرآن حفظ الأصول التي عليها مدار الدين و الدنيا و الأصل الأول معرفة اللّه و صفاته، و الى هذا المعنى الإشارة برب العالمين الرحمن الرحيم من الصفات.

فيستحق الحمد و الإطاعة ثم الأهم معرفة النبوات، و اليه الإشارة بالذين أنعمت عليهم و معرفة المعاد، و اليه الإشارة بمالك يوم الدين، ثم علم العبادات و اليه الإشارة بايّاك نعبد، و علم السلوك و هو حمل النفس على الآداب الشرعية و الانقياد، و اليه الإشارة باهدنا الصراط المستقيم، و علم القصص و هو الاطّلاع على اخبار الأمم السابقة ليعلم المطّلع على ذلك سعادة من أطاع اللّه و شقاوة من عصاه، و اليه الإشارة بقوله:

«صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» ففي فاتحة القرآن براعة و تنبيه على الغرض من إنزال القرآن، و كذلك سورة اقرأ فيها حسن الابتداء و البراعة، فان فيها الأمر بالقرائة و البدء فيها باسم اللّه لتعريف ذاته، و فيه اشارة الي علم الاحكام بقوله «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» مثال براعة الاستهلال في الشعر قول ابى تمام يهنّى المعتصم العباسي بفتح عمورية و كان المنجمون زعموا انها لا تفتح في هذا الوقت.

السيف اصدق انباء من الكتب في حدّه الحدبين الجدّ و اللعب

بيض الصفائح لأسود الصحائف في متونهنّ جلاء الشك و الريب

قيل في معنى التفسير أصله من التفسرة و هو ماء المريض يجعلونه في القارورة ليعلم و يستنبط الطبيب مرض المريض فيستكشف منه، و قيل غيره. و القرآن معانيه على اقسام منها ان المصلحة لا تقتضي ان يعلم علمه احد حتى الأنبياء، مثاله: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» و قسم يعلمه من عرف العربية و هو المحكم، مثل: «قوله تعالى وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ* و «لا تَقْرَبُوا الزِّنى و لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ»* و اغلب القرآن من هذا القسم الثاني، و قسم ثالث و هو الذي لا يتبين المراد منه كاملا الّا إذا شرحه النبي، و هو الذي يسمّى بالمجمل نحو «أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ»* و مثل «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» و قسم رابع و هو الّذى لفظه مشترك و هو الّذى يسمّى بالمتشابه كه آن ذو احتمال بر معاني چند باشد، در

ص: 27

اين صورت پس متشابه آن باشد كه مراد أز ظاهر فهميده نشود بدون دليل سمعي نه عقلي، بعبارة اخرى لا يقدم المكلّف في العمل به الا باخبار الرسول و الامام من نقل الصحيح عنهم.

و مثال آيات متشابهه مثل و جاء ربّك و قوله فثمّ. وجه اللّه. و قرآن ناسخ است و منسوخ يعنى آيه بعد نسخ حكم ما قبل را ميكند مثل «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» كه اين آيه نسخ كرد آيه قبل را كه اين بود «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ» و هذا الحكم منسوخ لكن التلاوة غير منسوخة، هذا قسم من النسخ و اما العامّ فهو لفظ يشمل جميع افراد جنسه و الخاص لا يشمل الا الفرد و اما أسامي القرآن أولها القرآن من الضم و الجمع و فرقان و كتاب و ذكر و تنزيل و حديث و موعظة و تذكرة و تبيان و بصائر و فصل و حكم و حكيم و ذكرى و حكمة و مهيمن و شافي و هدى و هادي و صراط مستقيم و نور و حبل و رحمت و روح و قصص و حق و بيان و عصمة و مبارك و نجوم لأنّها نزلت نجما نجما قال اللّه فلا اقسم بمواقع النجوم و هو المراد من المعنى و مجيد و عزيز و كريم و عظيم و سراج و منير و بشير و نذير و عجيب و قيّم و مبين و نعمة و علىّ فهي ثلاثة و أربعون اسما لها مناسبات مع المسمى. و اما السورة سميت بها قيل السورة المنزلة العظيمه. قال النابغة الم تر ان اللّه اعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب. اي منزلة شريفة عالية و كذا سور البلد لأنه مرتفع.

هذا إذا كان بغير الهمزة لكن إذا كان مهموزا فالمعنى بقية الماء و الطعام في الإناء، و اما الآية بمعني العلامة مثل و آية منك في كلام عيسى و بمعنى الرسالة أبلغه عني آية اى رسالة و بمعنى الجماعة كقولهم خرج القوم بآيتهم اى بجماعتهم و بمعنى الأعجوبة، كل هذه المعاني مناسبة للآية و اما الكلمة لفظ موضوع يدل على معني بالوضع.

في ثواب القراءة روى شهر بن حوشب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال فضل القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن غنى لا غنى دونه و لا فقر بعده قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن أفضل كلشي ء دون اللّه فمن وقّر القرآن فقد وقر اللّه و من لم يوقّر القرآن فقد

ص: 28

استخف بحرمة اللّه و حرمة القرآن عند اللّه كحرمة الوالد عند ولده.

و عن أبى امامة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ ثلث القرآن كأنّه اوتى ثلث النبوّة. و من قرأ ثلثيه كأنّما اوتى ثلثى النبوّة و من قرأ تمام القرآن فكأنّما اوتي تمام النبوّة، ثمّ يقال له اقرأ و ارقأ بكلّ آية درجة في الجنّة.

و في رواية عن نساء النبي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حملة القرآن هم المحفوفون برحمة اللّه الملبّسون نور اللّه، المعلّمون كلام اللّه، من عاداهم فقد عادي اللّه، و من و الأهم فقد والى اللّه، يقول اللّه تعالى يا حملة القرآن تحبّبوا الى اللّه بتوقير كتابه يزدكم حبّا و يحببكم إلى خلقه و يدفع عن مستمع القرآن شرّ الدنيا و يدفع عن تالي القرآن بلوى الآخرة، و لمستمع آية من كتاب اللّه خير من مبشر ذهبا و لتالى آية من كتاب اللّه خير مما تحت العرش الى تخوم الأرضين السفلى، و في رواية عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من تلا كتاب اللّه من الصفحة لا من ظهر الخاطر خفّف اللّه عن والديه و لو كانا مشركين.

و في خبر آخر قال معاذ بن جبل: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ان أردتم عيش السعداء و موت الشهداء و النجاة يوم الحشر و الظل يوم الحرور، و الهدى يوم الضلالة فادرسوا القرآن فانّه كلام الرحمن و حرز من الشيطان و رجحان في الميزان. و روى حارث الهمدانى عن امير المؤمنين عن رسول اللّه: انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكر فتنة بعده فقلنا يا رسول اللّه فبما الخلاص منها؟ قال: بكتاب اللّه، قال عطا أنزلت فاتحة الكتاب بمكّة يوم الجمعة كرامة أكرم اللّه نبيّه بها و كان معها سبعة آلاف ملك حين نزل بها جبرئيل، روى ان عير أقدمت من الشام لأبي جهل بمال عظيم و هي سبع فرق و رسول اللّه و أصحابه ينظرون إليها و أكثر الصحابة بهم جوع و عرى فخطر ببال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان يسأل شيئا من اللّه لحاجة أصحابه فنزل قوله تعالى:

«وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي» أى مكان سبع قوافل لأبي جهل، و لمّا علم اللّه ان تمنّيه لم يكن لنفسه بل لأصحابه قال: «وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ».

و فضايل هذه السورة كثيرة، قيل انّه ليست فيها سبعة أحرف، ثاء الثبور و جيم الجهيم و خاء الخوف و زاء الزقوم و شين الشقاوة و ظاء الظلمة و فاء الفراق، و من قرأها

ص: 29

على التعظيم و الحرمة أمن من هذه الأشياء السبعة. و في الروضة من خطبة لعلىّ بن الحسين عليه السّلام: و أشعروا قلوبكم خوف اللّه و تذكّروا ما وعدكم اللّه في مرجعكم اليه من حسن ثوابه كما قد خوّفكم من شديد العقاب، فإنّه من خاف شيئا حذّره و من حذر شيئا تركه، و لا تكونوا من الغافلين. قال الصادق عليه السّلام: من عرف اللّه خاف اللّه، و من خاف اللّه سخط نفسه عن الدنيا، و ان حبّ الشرف و الذكر لا يكونان في قلب الخائف الهارب و المؤمن بين مخافتين ذنب قد مضى و عمر قد بقي لا يدرى ما يكتسب فيه من المهالك فهو لا يصبح إلا خائفا و لا يصلحه إلا الخوف و لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا، حتى يكون عاملا لما يخاف و يرجو.

روى الصدوق من ليث بن ابى سليم قال: سمعت رجلا من الأنصار يقول: بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مستظل بظل شجرة في يوم شديد الحر إذ جاء رجل فنزع ثيابه ثمّ جعل يتمرّغ في الرّمضاء يقلّب ظهره مرّة و بطنه مرّة و جبهته مرّة و يقول يا نفس ذوقى فما عند اللّه أعظم ممّا صنعت بك؛ و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينظر اليه ما يصنع ثمّ انّ الرجل لبس ثيابه ثمّ اقبل فأومى اليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيده و دعاه فقال له: يا عبد اللّه ما حملك على ما صنعت قال:

مخافة اللّه فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد خفت ربّك حق مخافته، فانّ ربّك يباهى بك اهل السماء ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه يا معشر من حضر ادنوا من صاحبكم حتّى يدعو لكم فدنوا منه، فدعا لهم فقال: اللهمّ اجمع أمرنا على الهدى و اجعل التقوى زادنا و الجنّة مآبنا.

أقول و قلّة الخوف ناشية من ضعف الايمان و شدة الغفلة، امّا ضعف الايمان لأنّك ما استكملته باليقين و إيمانك ظنيّا تخمينيا و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة، و العلاج ملازمة الفكر في اهوال القيامة و التدبّر في سيرة الأنبياء و الكمّلين فإنّهم مع عصمتهم و جلالة شأنهم كيف يخافون اللّه و يأخذهم الغشوة من الخوف و يتململون تململ السليم؟

و أما الغفلة فتزول بالتذكير و مجالسة الأخيار و مشاهدة أحوالهم فان فاتت المشاهدة فالسماع لا يخلو من تأثير. قال السجاد عليه السّلام سبحانك عجبا لمن عرفك كيف لا يخافك؟

ص: 30

أقول: ان الخوف إذا كان صادقا يظهر اثره في الظاهر و الباطن كما ترى المتصف بالغضب يحمر وجهه و يقف شعره و يشتد حركاته الى انتقام من ظلمه، كذلك من اتّصف بالخوف يصفر وجهه و من اتّصف برقة القلب تجرى دمعة عينيه بمجرّد سماع مصيبة، كلّ ذلك للعلاقة الذاتية بين الظاهر و الباطن. و هذا معنى قولهم بين الروح و الجسد علاقة طبيعية، ففي الروح كالأصل و اللب و في الجسد كالفرع و القشر و هما متلازمان، اما سمعت انّه عليه السّلام كان إذا قام الى الصلاة تغير لونه حتى يعرف ذلك من وجهه و كذلك ابنه السجاد عليه السّلام كان إذا قام للوضوء تغيرت حاله و ذلك لأنّه قد غلب عقولهم على شهواتهم فتركوا اللّذائذ الدنيويّة علما منهم بفنائها و خافوا من هيبة كبرياء اللّه و رجوا رضى اللّه و الرجاء مقام سنى. تمت سورة الفاتحة.

ص: 31

سورة البقرة مدنية

اشارة

سورة البقرة مدنيّة إلّا آية منها فانّها نزلت في حجّة الوداع بمنى و هي:

«وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مرّ تفسيره، و اعلم انّ المراد من قولهم مكيّة او مدنيّة انّه كلّما نزل قبل الهجرة يقال: مكيّة، و كلّما نزل بعد الهجرة يقال مدنيّة، سواء نزلت بالمدينة أو غيرها، و في الكافي عن العياشي عن أبى جعفر عليه السّلام قال: نزّل القرآن على أربعة أرباع ربع فينا و ربع في عدوّنا و ربع سنن و أمثال و ربع في فرائض.

و في رواية عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: نزّل القرآن أثلاثا ثلث فينا و في عدوّنا و ثلث سنن و أمثال و ثلث فرائض و أحكام. و المثل إتيان لفظ جلى لايضاح معنى خفيّ و فائدته التأكيد في اثبات الحكم للممثّل مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

مثل اهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب فيها نجي و من تخلّف عنها هلك.

[سورة البقرة (2): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1)

و قد تكلّموا في شأن فواتح السور الكريمة فقيل انها من الأسرار المحجوبة، و العلوم المستورة و من المتشابه الذي استأثر اللّه بعلمه و هي سرّ القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها و نكل العلم فيها الى اللّه، و هذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام و فسّرها لآخرون على وجوه:

أحدها: انها أسماء السور.

و ثانيها: ان المراد الدلالة على أسماء اللّه فقوله الم معنى الالف: انا اللّه، و اللام:

اللطيف، و الميم: المجيد كما في قوله «الر»* أنا اللّه أرى، و «كهيعص»: انا اللّه الكريم الهادي الحكيم العليم الصادق، فهي حروف مقطعة كل منها مأخوذ من اسم من أسمائه، و قالوا الاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العربيّة كما قال الشاعر: قلت لها قفي فقالت: ق، أي وقفت. و القول الاول أقرب إلى القبول، فيكون من المواضع المعمّيات بالحروف بين المحبين، لا يطلع عليها غيرهما.

ص: 32

قال الرازي في المفاتيح أن الألفاظ التي يتهجّي بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة، لأنّ الضاد مثلا لفظة مفردة دالة على معنى مستقل بنفسه من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى و ذلك المعنى هو الحرف الاول من ضرب، فثبت أنّها أسماء لذلك المسمّيات و لأنّها يتصرّف فيها بالتعريف و التنكير و الجمع و التصغير و الوصف و الاضافة و الاسناد، و حكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الاعجاز كأسماء الاعداد؛ فيقال:

ألف، لام، ميم، كما تقول: واحد، اثنان، ثلاثة، فإذا وليتها العوامل أدركها الاعراب كقولك هذه ألف؛ و كتب الفا، و نظرت إلى ألف، و إنّما سكنت سكون ساير الأسماء حيث لا يمسّها اعراب لفقد موجبه، و سكونها وقف لا بناء، لأنّها لو بنيت لحذي بها حذو كيف و أين، انتهى.

و الذين قالوا: انّ هذه الحروف المقطعة سرّ محجوب استأثر اللّه به، كما سئل الشعبي عن هذه الحروف، فقال سرّ اللّه فلا تطلبوه. و عن ابن عبّاس قال: عجزت العلماء عن إدراكها فقد ردّ عليهم المتكلّمون و قالوا لا يجوز أن يرد في كتاب اللّه ما لا يكون مفهوما للخلق، و احتجّوا بالآيات و الاخبار و المعقول مثل قوله تعالى: «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» أمرهم بالتدبر في القرآن و لو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه، و كذلك قوله: «وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» يدلّ على أنّه نازل بلغة العرب و إذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوما، و كذلك قوله: «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» و الاستنباط منه لا يكون يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه، و قوله: «أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» و كيف يكون الكتاب كافيا؟ و هو غير مفهوم.

و أما الأخبار: قال علي عليه السّلام: عليكم بكتاب اللّه، فيه نبأ ما قبلكم و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبّهار قصمه اللّه و من اتبع الهدى في غيره أضلّه اللّه، و هو حبل اللّه المتين، و الذكر الحكيم، هو الذي لا يزيغ به الأهواء، و لا تشبع منه العلماء، و لا يخلق على كثرة الرد، و لا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، و من حكم

ص: 33

به عدل، و من خاصم له فلج، و من دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.

أمّا المعقول انّه لو ورد شي ء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجري مخاطبة العربي باللّغة الزنجيّة و لمّا لم يجز ذلك فكذا هذا، و احتجّ مخالفوهم بالآية و الخبر و المعقول.

أما الآية فهو انّ المتشابه من القرآن و أنّه غير معلوم لقوله: «وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» و الجواب عن هذا الجواب انّه انّما استدلوا على مدّعاهم بهذه الآية حيث أوجبوا الوقف بقوله إلّا اللّه، و من أين ثبت وجوب الوقف، ثم من أين لزم فهم المتشابهات لكل احد بل كلّ احد يجب أن يفهم من القرآن ما بيّنه الشارع علي لسان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك مفهوم من المحكمات بتعليم النبي و بيانه، و أمّا العلم بتأويله و ما لا يجب عليهم فذلك علمه عند رسوله و إنّما يعرف القرآن من أنزل عليه، فيكون علم فواتح السور من العلوم المخزونة عنده و عند نبيّه، و من المعلوم أنّ معرفة كمال حقايق القرآن بأجمعها ليس من وظيفة عامّة الناس لأن القرآن بحر له بطون، و أين الثريا من يد المتناول، و لكن يجب معرفته لأداء ما يجب على المكلّف أدائه، فأيّ محذور يترتّب إذا لم يفهم المكاري من قوله (حم عسق) و هو علم غير مربوط بالاحكام، و العلم المتعلّق بالاحكام، فهو من المحكمات، و قد بينه الشارع؛ على أنّ القول بأنّ هذه الفواتح من السّور غير معلومة مروى عن أكابر الصحابة.

و الأفعال التي كلفنا بها قسمان: منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة كالصلاة، و الزكاة، و الصوم، مثل أن الصلاة تواضع محض و تضرّع للخالق، و الزكاة سعى في دفع حاجة الفقير و الصوم سعى في كسر شهوة النفس و الاستغفار مثلا حطّ للذنوب، فمن استغفر السبعين بهذا الاستغفار المذكور في صحيفة العلوية الذي في آخره: اللهمّ و استغفرك لكل ذنب جرى به علمك فيّ و علىّ الى آخر عمرى بجميع ذنوبي لأوّلها و آخرها و عمدها و خطائها و قليلها و كثيرها و دقيقها و جليلها و قديمها و حديثها و سرّها و علانيتها و جميع ما أنا مذنبه و أتوب إليك و أسألك أن تصلّي على محمّد و آل محمّد و أن تغفر لي جميع ما أحصيت من مظالم العباد قبلي فإنّ لعبادك عليّ حقوقا أنا مرتهن بها تغفرها لي

ص: 34

كيف شئت و أنّى شئت يا أرحم الراحمين، غفر اللّه ذنبه.

و منها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه و لا يلزم لنا معرفة حكمة أفعاله، مثل رمي الجمرات، و معرفة بعض متشابهات القرآن و فواتح السور يكون من هذا القبيل، انتهى رجعنا الى التفسير.

الم. قيل إنّ فواتح السّور أقسام أقسم اللّه بها و هي من أسمائه تعالى.

و قيل: إنّها أسماء القرآن و قيل: إنّها تسكيت للمشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن و أن يلغوا كما ورد به التنزيل من قولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه فربّما صفقوا و صفروا ليغلطوا النبي، فأنزل اللّه هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا استمعوا إليه، و تفكّروا، و اشتغلوا عن تغليطه، فيقع القرآن في مسامعهم، و يكون ذلك سببا لدرك منافعهم.

و قيل: إنّ المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم و كلامكم، فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنّه من عند اللّه لأنّ العادة لم تجر بأنّ النّاس يتفاوتون في القدر من الكلام هذا التفاوت العظيم و إنّما كرّرت في مواضع استظهارا في الحجّة.

و قيل: انّ كل حرف منها يدلّ على مدّة قوم و آجال آخرين يعرفه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في تأويلات القاسانية، «ألف» إشارة إلى الذات الذي أول الوجود، و «ل» اشارة إلى العقل الفعّال المسمّى بجبرئيل و هو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ و يفيض إلى المنتهى، و «م» إشارة إلى محمّد الذي هو آخر الوجود و لذا ختم به. و قيل وجوه أخر لا يسعها هذا المختصر.

و أما إعراب موضع «الم» فيختلف بحسب اختلاف هذه الوجوه، فيجوز الرفع على الابتداء أو على الخبر لمبتدأ مقدر و يجوز النصب محلا على إضمار فعل، تقديره اتل أو اقرأ. و أما على قول من جعل هذه الحروف المقطعة قسما موضعها النصب أيضا بإضمار لأنّ حرف القسم إذا حذفت يصل الفعل الى المقسم به فينصبه، فانّ معنى قولك باللّه: أقسم باللّه، ثم حذف اقسم فبقى باللّه فلو حذفت الباء لقلت اللّه لأفعلنّ بنصب اللّه. و أما علي مذهب من جعل هذه الحروف اختصارا من كلام يعلمه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القائل ابن عبّاس فلا محلّ

ص: 35

لها من الاعراب لأنّها بمنزلة قولك زيد قائم في أنّ موضعه لا محلّ له من الاعراب، و إنّما يكون للجملة موضع إذا وقعت موقع المفرد، و هذه الحروف المتهجيّة و اسماء الاعداد إذا أخبرت عنها أدخلتها في جملة الأسماء المتمكّنة و أخرجتها بذلك من حيّز الأصوات و الّا فحكمها على السكون كالمبنى؛ او هو المبنى.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 2]

ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)

إن جعلت الم اسما للسورة ففيه وجوه:

أحدها: ان يكون الم مبتدأ و ذلك مبتدأ ثانيا، و الكتاب خبره، و الجملة خبر المبتدأ الأوّل، فيكون المعنى: انّ ذلك الموعود به، الكتاب الذي يستأهل ان يسمّى كتابا، كانّ ما سواه بالنسبة اليه ناقص، كما تقول هو الرّجل اى الكامل في الرجولية.

و الوجه الثاني: ان يكون الكتاب صفة، فيكون المعنى الم هو ذلك الكتاب الموعود.

و الوجه الثالث: ان يكون التقدير هذه الم، فيكون جملة «ذلِكَ الْكِتابُ» جملة اخرى، «ذلك» يشار الى البعيد كما انّ هذا اشارة الى ما قرب، و الاسم ذا، و الكاف للخطاب و اللام مزيدة للتأكيد. قال الأخفش ذلك في الآية بمعنى هذا لأنّ الكتاب كان حاضرا.

قال الحفاف بن ندبه:

أقول له و الرمح يأطر متنه تأمّل خفافا انني انا ذلكا

اى انا هذا، و هذا الاستشهاد غير تام لأنّه يمكن اجرائه على أصله، اى انّني ذلك الرّجل الّذي سمعت به و بشجاعته.

قال الزمخشري الإشارة وقعت الى الم بعد ما سبق التكلّم به و تقضى، و المنقضى في حكم المتباعد، و هذا جار في كلّ كلام، يحدث الرجل بحديث ثم يقول: و ذلك ممّا لا شكّ فيه، و يحسب الحاسب ثم يقول: فذلك كذا و كذا، و قال تعالى: «لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ» و لأنّه لما وصل من المرسل الى المرسل اليه وقع في حدّ البعد كما تقول لصاحبك و قد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك.

ص: 36

و الحقّ انّ هذه البيانات لا يطمئن إليها النفس و أضعف من حجة نحوي، لكنّ الأوجه هو انّ اللّه وعد نبيّة ان ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، و لا يخلق على كثرة الرد فلمّا انزل القرآن قال: هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك او هذا القرآن (و القرآن يشمل على الكل و البعض و لو آية) ذلك الكتاب الذي وعدت به في الكتب السالفة و الكتاب مصدر بمعنى المكتوب، كالحساب بمعنى المحسوب، و الكتب بمعنى الضمّ لانضمام بعض الحروف ببعض، و منه يقال للجند كتيبة، و من قال انّ المراد من الكتاب في الآية: التوراة و الإنجيل فقول فاسد، لأنّه وصف الكتاب بأنه لا ريب فيه و انه هدى، و وصف ما في ايدي اليهود و النصارى بأنه محرّف بقوله: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ»* و الكتاب جاء في القرآن على وجوه:

أحدها: الفرض مثل كتب عليكم الصيام و مثل ان الصّلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا.

و ثانيها: الحجّة و البرهان مثل فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين.

و ثالثها: الأجل مثل و ما أهلكنا من قرية إلّا و لها كتاب معلوم.

و رابعها: المكاتبة مثل كتابة السيّد عبده، و الذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت ايمانكم.

قوله «لا رَيْبَ فِيهِ»- اى لا ريب و شكّ كائن في الكتاب، و انّه حقّ و صدق و معجزة، و ريب اسم لا، و فيه خبرها. و الريب من رابنى الشي ء إذا حصل فيه الريبة، و هي قلق النفس و اضطرابها، و الريب أقبح اقسام الشكوك.

فإن قيل: انّه نفى الريب و نحن نرى انّ الكفار شكّوا فيه، و المبتدعون شكّوا في معاني متشابهه، فما معنى نفي الريب على سبيل الاستغراق؟ فالجواب انّ نفي الريب عن الكتاب يعنى انّ الكتاب ليس فيه سبب ريب و لا يتمكّن فيه ريب لصدقه، لا انّ الناس لا يشكّون فيه.

و قيل معنى الآية النهي و إن كان لفظها الخبر، اى لا ترتابوا و لا تشكّوا فيه كقوله:

«فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ».

ص: 37

هُدىً اى القرآن رشد، او فيه هدى.

لِلْمُتَّقِينَ المتّصفين بالتقوى، و تخصيص الهداية بالمتّقين و إن كان القرآن هدى لجميع الناس لأنّهم هم المهتدون به، فالشمس شمس و ان لم يرها الضرير، و العسل عسل و ان لم يجد طعمه المحرور و المتقين أصله الموتقيين مفتعلين من الوقاية فقلبت الواو تاء و أدغمت تاء الاولى في الثانية التي بعدها و حذفت الكسرة من الياء استثقالا لها ثم حذفت لالتقاء الساكنين فبقي متّقين، و التقوى أصله و قوى فقلبت الواو تاء كالتراث أصله وراث، و التقوى له ثلاث مراتب:

الاولى: التوقّي عن العذاب المخلّد بالتبرّى عن الكفر، و عليه قوله تعالى: و الزمهم كلمة التقوى.

و الثانية: التجنب عن كلّ ما يؤثم من فعل او ترك حتى الصغائر و هو المتعارف بالتّقوى في لسان الشرع، و هو المعنى بقوله: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا»، و الثالثة: ان يتنزّه عمّا يشغل ضميره عن الحقّ و يتبتّل اليه بكلّيته و هو التقوى الحقيقيّة المأمور بها في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» و هذا النوع من التقوى ما انتهى اليه همم الأنبياء و الأولياء، و ما عاقهم التعلّق بعالم الأشباح عن العروج الى عالم الأرواح و لم تصدّ هم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق في شئون الحق و لم يتعدوا الحدود، و لذا احتملوا في دين اللّه حتى شتموهم: يا مذلّ المؤمنين.

و روى الصدوق في اماليه باسناده عن المفضّل بن عمر قال سئلت الصّادق عليه السّلام عن العشق فقال قلوب خلت عن ذكر اللّه فأذاقها اللّه حب غيره.

قال أفلاطون الالهي العشق قوّة غريزية متولدة عن و ساوس الطبع و أشباح التخيل للهيكل الطبيعي يحدث للشجاع جبنا و للجبان شجاعة و يكسو كلّ انسان عكس طباعه قيل انّ بعض الصلحاء غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له فقال له: تعلّق الثوب في جدار الكروم، فقال لا تضرب الوتد في جدار الناس، فقال نعلّقه في الشجر فقال انّه لعلّ يكسر الاغصان او يضرّها فقال نبسطه على الأرض، فقال انّها معلف الدواب لا نستره عنها فولى ظهره حتى جفّ جانب ثم قلّبه حتى جفّ الجانب الاخر و كان بعض الصلحاء

ص: 38

لا يجلس في ظل شجرة غريمه، و يقول في الخبر كلّ قرض جرّ نفعا فهو ربا.

[سورة البقرة (2): آية 3]

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

: صفة للمتّقين، فحينئذ الجملة محلّها الجر، و يجوز ان يكون محلّها النصب، تقديره اعنى الذين يؤمنون بالغيب، و يجوز أن يكون محلّه الرفع اي هم الذين يؤمنون بما غاب عن العباد علمه، و خفى عن حواسهم من التوحيد و البعث و الجنّة و النار و قيام القائم و الرجعة و سائر الأمور التي يلزمهم الايمان بها ممّا لا يعرف بالمشاهدة، و انّما يعرف بدلائل نصبها اللّه عليهم. و الايمان هو التصديق بالقلب و الإقرار باللسان و العمل بالأركان، و قد جاء هذا المعنى بلفظ آخر، و هو انّ الايمان قول مقول و عمل معمول و عرفان بالعقول و اتباع الرّسول، و قيل انّ المراد من الغيب في الآية القرآن، فمن اخلّ بالاعتقاد به وحده فهو منافق، و من اخلّ بالإقرار و الاعتقاد فهو كافر، و من أخل بالعمل دونهما فهو فاسق عندنا و كافر عند الخوارج و خارج عن الايمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة: و الغيب قسمان، قسم لا طريق عليه كما قال تعالى: «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» و قسم نصب عليه دليل كالتوحيد و النبوّات و اليوم الآخر و أمثاله و هو المراد هنا، و الباء للملابسة، و قيل المراد بالغيب القلب لأنّه مستور، و المعنى يؤمنون بقلوبهم حقيقة، لا كالمنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فحينئذ الباء للآلة و الاستعانة.

و قيل في معنى قوله «يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» اى غائبين عن مرأى الناس متلبسين بالغيب كقوله تعالى: «يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ»*.

و عن عمر بن الخطاب قال: بينا نحن عند رسول اللّه إذا قبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ما يرى عليه اثر السفر و لا يعرفه احد منا فاقبل حتى جلس بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ركبتيه يمس ركبة رسول اللّه، فقال يا محمّد أخبرني عن الإسلام، فقال النبي ان تشهد ان لا إله إلّا اللّه و انّ محمّدا رسول اللّه و تقيم الصلاة و تؤتى الزكاة و تصوم رمضان و تحج البيت ان استطعت اليه سبيلا، فقال: صدقت فتعجّبنا من سؤاله و تصديقه، ثمّ قال فما الايمان؟ قال: ان تؤمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و البعث بعد الموت و الجنّة و النار و بالقدر، فقال:

ص: 39

صدقت، ثم قال فما الإحسان؟ قال: ان تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فانّه يراك قال صدقت، ثم قال فاخبرني عن الساعة؛ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال صدقت، قال فاخبرني عن اماراتها، قال ان تلد الأمة ربتها و ان ترى الحفاة العراة دعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال صدقت، ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة، قال لي رسول اللّه: يا عمر هل تدري من الرّجل؟ قلت اللّه اعلم و رسوله، قال: ذاك جبرئيل أتاكم يعلّمكم امر دينكم، و ما اتاني في صورة إلّا عرفته فيها إلّا صورته هذه:

وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ- و إقامة الصلاة ادامتها على الوجه المأمور به، يقال أقام القوم سوقهم إذا لم يعطّلوها عن البيع و الشراء، و لعلّ معنى الصلاة مأخوذ أصله من رفع الصلا في الرّكوع و السجود، و الصلا عظم في العجزة و للصلاة إطلاقات. للدعاء كما في قوله: «وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ» اى ادع لهم، و للثناء كقوله: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» و القراءة مثل قوله: «وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ» و بالرحمة كقوله تعالي: (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) و بالصلوة المشروعة المخصوصة بأفعال و اذكار- سميت بها لما في قيامها من القراءة و في قعودها من الثناء و الدّعا و لفاعلها من الرحمة و المراد في الآية المداومة على الصّلوات الخمس المشتملة علي القيام و الركوع و السجود و التسبيح و مراعاة حدودها الظاهرة من الفرائض و السّنن و حقوقها الباطنة من الحضور و الإقبال بالقلب.

قال ابراهيم النخعي إذا رأيت رجلا يخفّف الرّكوع و السجود فترحم على عياله يعني من ضيق المعيشة:

فاستمع آداب الصلاة حتى لا تكون كالتاجر الذي اشتري حمل الابريشم و لم يره فلما اتي بالأحمال في معرض البيع راها التجار كلها خرق الصوف فقاموا يضحكون من بضاعته و هو مطرق برأسه خجلان، و أنت كذلك يوم تبلى السرائر قال اللّه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)

سرمايه عمر و كار و بار تو بحشربنگر چو گشايند چه خواهد بودن

فاعمل خالصا و نقّحه عن الشوائب مثل الرياء فان الرياء يتصور بصورة الحيه في قبرك و تنهشك و كذلك البخل بصورة العقرب فتلسعك، و قليل من العمل إذا كان

ص: 40

خالصا يكشف سدد الغفلة و يدفع الشبه القلبية و يزيل سوادها فتنور بنور الصدق و و يتطهر عن قذارة المعاصي السالفة و عن لوث الأجسام الرذلة المعلولة، فيكون أول باب بدر الهداية رؤية كوكب ضعيف ثم ينبسط بالخلوص و العمل شيئا فشيئا فصار قمرا و شمسا فينقلب الليل من شمس وجودك نهارا فعند ذلك تدرك ذوق حلاوة الخلوة و المناجاة و انما منعك عن الذوق و صرف وجهك عن الباب عاداتك المألوفة و شهواتك النفسيّة و مخالطتك مع أبناء الدنيا.

و في كتاب تنبيه الغافلين انّ حاتم الزاهد دخل على عاصم بن يوسف فقال له عاصم: يا حاتم هل تحسن أن تصلّي؟ فقال نعم، قال كيف تصلى؟ قال إذا تقارب وقت الصلاة أسبغ الوضوء ثم استوى في الموضع الذي أصلّي فيه حتى يستقر كل عضو منّي، و اري الكعبة بين حاجبي و المقام بحيال صدري و اللّه فوقي يعلم ما في قلبي، و كان قدمي على الصراط و الجنة عن يميني و النار عن شمالي و ملك الموت خلفي، و أظنّ انّها آخر صلاتي في الدنيا ثم أكبّر تكبيرا بإحسان و اقرأ قراءة بتفكر و اركع ركوعا بتواضع و اسجد سجودا بتضرع، فاجلس و أتشهد على الرجاء و أسلّم علي الإخلاص فأقوم و انا بين الخوف و الرجاء و اتعاهد علي الصبر، قال عاصم يا حاتم أ هكذا صلاتك قال كذا صلاتي منذ ثلاثين سنة فبكى عاصم و قال ما صلّيت من صلاتي مثل هذا قطّ.

و في ثواب الأعمال قال الصادق عليه السّلام فضل الصلاة في أول وقتها خير للمؤمن من ولده و ماله، و في حديث آخر ايضا عنه عليه السّلام كفضل الآخرة على الدنيا، و عن اصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال ان اللّه ليهمّ بعذاب اهل الأرض جميعا حتى لا يحاشي منهم أحدا إذا عملوا بالمعاصي و اجترحوا السيئات فإذا نظر الي الشيب ناقلي اقدامهم الى الصلاة و الولدان يتعلّمون القرآن رحمهم فاخّر ذلك عنهم. و النوافل لها آثار مخصوصة و هي مكمّلات لنواقص الفرائض. و للاذكار و للآيات آثار مخصوصة مثل انّ آية الكرسي مع قطع النظر عن ثواب قراءتها يدفع كيد العفاريت.

قال رسول اللّه أتانى جبرئيل فقال يا محمّد أنّ عفريتا من الجنّ يكيدك في منامك فعليك بقرائة آية الكرسي عند منامك فكان يقرئها حين منامه و إذا قام من نومه خرّ

ص: 41

للّه ساجدا ثم يقول، الحمد للّه الذي أحياني بعد موتى أنّ ربّي لغفور شكور؛ و من أفضل الطاعات الصلاة، و الصبر علي الطاعات شديد مطلقا لأنّ النفس بطبعها تنفر من العبوديّة و تشتهي الربوبيّة و من الطاعات و العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة فيحتاج الى الصّبر و منها ما يكره علي الطبع بسبب البخل و حبّ المال كالزكاة و الانفاق و كذلك الحج و الجهاد و يحتاج المطيع في أطاعته الى الصبر في ثلثة احوال، الاولي قبل الطاعة بتصحيح النية و الإخلاص، و الثانية حالة العمل كي لا يغفل عن اللّه في أثناء عمله لئلّا يكون العمل جسدا بلا روح فلا يتكاسل في آدابه و يدوم علي ذلك الى الفراغ، و الثالثة بعد الفراغ فيحتاج الي الصبر ايضا عن افشائه من السمعة و الرياء و العجب، و كذلك المعاصي يحتاج الى الصبر عن تركها، فاشدّ انواع الصبر عليها بالصبر عما كان مألوفا بالعادة فانّ العادة طبيعة خامسة فإذا انضافت الى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشياطين علي جند اللّه فلا يقوى الجند جندين، ثم ان كانت تلك المعصية مما تيسّر فعله كان الصبر عنه أثقل كالصبر عن معاصى اللسان من الكذب و الغيبه و الثناء علي النفس و جميع هذه المعاصي تحتاج الى الصبر و تركها شديد على النفس، و هيهات فأين الثريا من يد المتناول، فمن لم يقدر على حفظ لسانه كيف يتمكن من عفة بطنه و فرجه؟ مع أنّه عرف ان الصّمت سلّم الخلاص و النطق يحبس الهزار في الاقفاص. و لن تدرك لذة العبادة إلّا بالتدبّر و التفكر في خلوص العمل، و هذه القطعة من اللحم إذا ما حبسته بطابقين لا تبقي لك عملا في الغالب، أما سمعت ان الجرس آفة القوافل؟ خير القوس الكتوم و خير الشراب المختوم رشين الفتي يطرد الاحبّاء، و وسواس الحلي يوقظ الرقباء، يا اسفى على غفلة الملدوغ و معه الترياق يتداوله و لا يتناوله اما يعلم أنّ تأخير العمل عن العلم حبس الماء من النبت و إصلاح الظاهر مع فساد الباطن حيلة اصحاب السبت؟ دانق من الصلات أحب اليه من الصلاة. أ ترجو نجاة المخفين باوزار جمعتها و حقوق منعتها؟ عرض عليك زخارف الدنيا فنسيت كلمة اللّه العليا، سترى حين تبدوا الضمائر و تبلى السرائر. ثوب مطوى تبصر خروقه يوم النشر و بزّ مكتوم تظهر عيوبه يوم الحشر و لو انّ الحراثة ريعان الحداثة و الزّراعة في اوّل الخريف

ص: 42

لا في آخر المصيف، و لكن يا نفس لا تيأسي من روح اللّه ما دامت بقية فيك بشرط خلوص النيّة و الإقبال الكلي الى اللّه و الاعراض عن غيره «وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ». و القرآن شفاء و يختلف الأثر باختلاف الكلام و المتكلّم و قصة علقمة بن عطارد و تنصّره بعد إسلامه في زمن أبي بكر حيث ناقش في اهدنا الصراط المستقيم فشكى أبو بكر الى أمير المؤمنين فكتب عليه السّلام: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم تنزيل الكتاب من اللّه العزيز العليم غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب ذي الطول، ثم فسّر معنى اهدنا الصراط المستقيم في الكتاب و بعثه الى علقمة فاسلم علقمة و رجع الى المدينة، فاستشف بالقرآن و تلاوته مع التدبر في فحاويه من الأمراض الروحانية و العقائد الفاسدة و الأخلاق المذمومة، فانه يهديك الى الذي ينفعك النفع الباقي لا الفاني، تأمّل في قوله تعالى: «اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» كيف عين لك الخير الباقي و هو اجابة ربكم بالطاعة، و وقت الاجابة في أيام عمرك، و اشارة الى أنّ الطريق إليه مفتوح، و عن قريب سيغلق الباب عليكم بالموت بغتة، تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشيّة من عرار فشمّ العرار في النجد فانّك ان انتقلت الى حدّ البرزخ بزوال شمس الحيوة لا يمكنك التدارك و شمه فلا تغلق على نفسك أبواب المواهب و الفتوحات حيث أقدرك على تحصيلها، فتتبّع القرآن في الليل و النّهار يوصلك الى مقام الايمان و مرتبة اليقين و الاجابة فان اللّه جعل القرآن علاجا للقلوب المريضة التي ناشئة من نسيان اللّه كما قال: «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ»، و العلاج يكون بالذكر كما قال: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» فإذا ذكر اللّه و تدبّر في القرآن استشفي، و يكون قلب الذاكر عرش الرحمن و المنظر الإلهي، و القرآن أعظم نعم اللّه و هو حبل اللّه المتين، فالويل لمن انقطع عن هذا الحبل فما تنفعه شفاعة الشافعين و كان السلف إذا فاتهم بعض آداب الليل من الصلاة و التلاوة يبكون طول النهار لما فاتهم من الليل و يقول ما أشد المى بابى مغلق و ستر الليل مسدل و لم أقرأ حزبى البارحة و ما ذاك الا بذنب أحدثته. في اخبار داود عليه السّلام: ان اللّه اوحى الى داود. يا داود ابلغ اهل الأرض اني حبيب لمن أحبني، مونس لمن آنس بذكري، جليس لمن جالسني، و صاحب لمن صاحبني و مختار لمن اختارني و مطيع لمن أطاعني، ما

ص: 43

احبّني عبد اعلم ذلك يقينا من قلبه الا قبلته لنفسي و أحببته حبالا يتقدمه احد من خلقي من طلبنى بالحق وجدني و من طلب غيرى لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها و هلمّوا الى كرامتي و مصاحبتي و أنسوا بي أو انسكم و أسارع الى محبتكم فانى خلقت طينة احبائى من طينة ابراهيم خليلي و موسى نجيي و محمد حبيبي، و روى ان اللّه اوحى الى بعض الأنبياء انّ لي عبادا يحبوني و أحبّهم و يشتاقون الي و اشتاق إليهم و يذكروني اذكرهم فان حذوت طريقهم أحببتك و ان عدلت عنهم مقتك قال يا رب و ما علامتهم قال سبحانه يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه و يحنّون الى غروب الشمس كما يحنّ الطائر الى وكره عند الغروب فإذا جنّهم الليل و اختلط الظلال و فرشت الفرش و نصبت الأسرة و خلا كل حبيب بحبيبه نصبوا اليّ اقدامهم و افترشوا الىّ وجوههم و ناجوني بكلامي و تملّقوا الى بانعامى، فبين صارخ و باك و بين متأوه و شاك و بين قاعد و قائم و راكع و ساجد بعيني ما يتحمّلون من اجلى و بسمعي ما يشتكون من حبّى اوّل ما أعطيهم ثلاث: اقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عنّى كما أخبر عنهم، و الثانية: لو كانت السموات و الأرض و ما فيها في موازينهم لاستقللتها لهم، و الثالثة:

اقبل بوجهي عليهم أفترى من أقبلت بوجهي عليه يعلم احد ما أريد أن أعطيه، و اوحي الى داود عليه السّلام: اعلم بني إسرائيل انه ليس بيني و بين احد من خلقي نسب فلتعظم رغبتهم عندي ضعنى بين عينيك و انظر الىّ ببصر قلبك، و خذ من نفسك لنفسك، و اقطع شهوتك لي فانّما ابحت بعض الشهوات لضعفة خلقي، و امّا الأقوياء فانّ نيل الشهوات المباحة تنقص حلاوة مناجاتي، فانى لا ارضى الدنيا لحبيبي و نزهته عنها، يا داود لو يعلم المدبرون عنّى كيف انتظاري لهم و رفقي بهم و شوقي الى ترك معاصيهم لماتوا شوقا الىّ و تقطعت اوصالهم من محبّتى يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني فكيف إرادتي في المقبلين علىّ و ما اجلّ ما يكون عندي إذا رجع إليّ.

قال قطب محيى: الخروج من زمرة الخاسرين بنص القرآن المجيد الايمان و و العمل الصالح و التواصي بالحق اى المعروف و الصبر اى تحمل مشقّة التكليف كما في سورة العصر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 44

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ»، فعلى هذا إذا كان المؤمن رأى انّ أخاه جاهلا في امور دينه فلا يهتم له و لا يرفع جهله لا يخرج من زمرة الخاسرين و لو آمن و عمل صالحا لأنّه مسامح في اقامة الحدود و مداهن في دينه بل يسري جهل الجاهل اليه فانّ العالم و الجاهل من نوع واحد و الناس مشتركون في القعود في سفينة الدّنيا فإذا كان واحد من اهل السفينة بسبب جهله أخذ قدوما و اشتغل بنقر السفينة ليشرب الماء من النقب فإذا ما منعوه و ما أخذوا القدوم من يده فيغرق السفينة و أهلها جميعا كما أن البدن إذا أصاب عضوه مرض فجميع الأعضاء تكون مؤفة و ايضا يسرى الجهل و الضلالة الى ذلك المؤمن العالم الصالح لأنّ السيل إذا كان جارفا يذهب الفيل و النجار إذا لم يجده المنشار و الخشب من اين يصنع الباب فيكون بطالا و ينقطع صنعة النجارة و لا يكون باب و لا نجّار، و بالجملة فهذان العمودان و هو الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر ان لم يكونا من اصول الدين كما قالته المعتزلة فهما قواما الدين و لو لا هما ما بقي الدين فاكشفوا يا أهل الدين صحائف التعليم و صفائح التعلم و أحيوا السنة بتواصى الحق و أكثروا مجالس مذاكرة العلم النافع على طريقة محافظة السلف من دون الجدل و المراء من بيان اسباب المنجية من النار و المؤدية الى دار السلام من السنة النبويّة و القرآن العظيم الذي اخرست آياته الفصحاء و حيّرت حكمته و معانيه العقلاء؛ لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ و لا تضيّع الجوهر النفيس و هو ايّام عمرك في تحصيل بعض العلوم، و اعلم ان اجلّ العلوم ما دخل معك في القبر و هو علم التوحيد و لا ينكشف لك هذا الباب الّا بعد ان تعمل بقدر معلومك منه فما تصنع بالسيف إذا لم تك قتالا فالخرم التجنّب عن المعاصي حتى تكون النفس مطمئنة.

و أول ما يجب عليك بعد ان عرفت ان لك ربا صون النفس عن القبائح و الرذائل؛ ففي اقامة الفرائض فجاهد و على سنن الرسول فعاهد فمن لم يوقر السنة و لم يجلها لم يعرف قدر الفريضة و لا محلّها فانّ العروس يجب لها الزينة و السنة زينة الفريضة، ثم لا تغفل من هفوات تصدر منك و أنت غافل و لا تقل، انى اتقيت الكبائر فان السيل

ص: 45

اوّلها القطرة و ان شبل الزنبال تقطع أوصاله النمل و لا يقدر الزنبال دفع النمل الضعيف مع قوته عن شبله، و لا تقل انها صغيرة؛ النهاية الصغيرة تولد في قبرك حيّة؛ و الكبيرة ثعبانا، اما سمعت قول اللّه تعالى: (وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)؟

و في كتاب انس الجليل في تاريخ القدس و الخليل انّ بجانب الغربي من بيت المقدس مقبرة كانت معروفة بمقبرة ما ملا تصحيف ما من اللّه يسمّونها اليهود بيت مملو فاتّفق يوما ان قارى قرأ هذه الآية في تلك المقبرة في ضمن تلاوته فسمع من قبر؛ وجدنا وجدنا، و كان ذلك القبر معروفا بقبر وجدنا و ما عرف صاحب القبر.

و بالجملة فان كنت في ريب فعافاك اللّه و ان كنت من اهل اليقين فما هذه الغفلة فكما انّ الحكم في القود و القصاص يختلف في تنوين و اضافة في قولك: انا قاتل غلامك و انا قاتل غلامك كذلك بحركة أو كلمة أو فعلة تكون في الآخرة من اهل الشقاوة أو السعادة فاعمل و لا تغفل و لا تيأس.

اما سمعت قوله تعالى: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فانّ هذه الآية متضمنة كثرة الرحمة من وجوه الاول- خطاب اللطف بالنسبة الى ذاته، فقال يا عبادي و لم يقل يا أيّها العصاة مع ان الخطاب إليهم.

الثاني- قال: لا تقنطوا و لفظ القنوط مستلزم تحريم اليأس من المغفرة مع الإسراف و التجاوز في ارتكاب المعاصي.

الثالث- انّه تعالى لم يكتف بذكر لا تقنطوا بل أكّد بقوله: انّ اللّه يغفر الذنوب جميعا.

الرابع- وضع المظهر موضع المضمر و قال انّ اللّه و ذلك لاسناد المغفرة بصريح اسمه الذي قامت السموات و الأرض به.

الخامس- استوعب مغفرته بلفظ الجميع للتحقّق و التأكيد في وقوع المغفرة السادس- إتيان ضمير الفصل بين الاسم و الخبر ليفيد معنى الحصر من رحمته

ص: 46

و مغفرته للدلالة على التأكيد في المغفرة.

السابع- ضمّ الرحمة بالمغفرة دلالة على سعة رحمته.

عن ثوبان مولى رسول اللّه قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد نزول الآية ما أحب ان لي الدنيا و ما فيها بهذه الآية. في المنهج عن أمير المؤمنين عليه السّلام انّ هذه الآية أوسع آية دالة على الرحمة و قيل ان الحسنات يذهبن السيئات أوسع آية في القرآن

قائم باشى بخدمت حق صائم باشى ز شر مطلق

و هذا معنى قوله تعالى: (وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ)، فاسع ان تدرك المراتب الاربعة تخلية و تحلية و تجلية و فناء حتى يكون قلبك أزهر أجرد في الكافي: القلوب اربعة قلب فيه نفاق و ايمان إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك و ان أدركه على إيمانه نجى و قلب منكوس و هو قلب المشرك و الكافر و قلب مطبوع و هو قلب المنافق و قلب أزهر أجرد و هو قلب المؤمن فيه كهيئة السّراج ان أعطاه اللّه شكر و ان ابتلاه صبر فحينئذ أدرك مرتبة الرابعة من النفس و هي الامّارة و اللوامة و الملهمة و المطمئنة في البحار من الحديث: انّ في القيمة تنكشف خزانة ساعات يومك و ليلك، فساعة التي عملت فيها الخير و الحسنات يصيبك فرح و سرور لو قسم على اهل النار لما وجدوا الم النّار و كذلك ساعة التي عصيت فيها يصيبك خوف لو قسم على اهل الجنة لا يستلذّون من نعيمها، و كذلك ساعة اشتغلوا في المباحات يتحسرون غاية من تضييع الوقت فيا مغرور ترتكب الكبائر، فلو نصحك ناصح تعتّل بالضرورة، ما أشبه عذرك بعذر السارق للغمر؛ فلو اغتررت بانتسابك التشيّع و حبّ عليّ فما هذه النسبة مع إدمان المعاصي الا كذب محض و ادّعاء، انّما شيعة على عليه السّلام من شايعه و تابعه فما أشبه كلامك بكلام ذلك المداح السكران لمّا قيل له لم تشرب الخمر و ما تصنع ان لم يغفرك اللّه؟ فقال ان لم يغفرنى فعلىّ حىّ يوم القيمة فيغفر لي آه، آه! فما رعوها حق رعايتها.

و الحاصل ان اللّه سبحانه سنّ في الصلاة أمورا فبالمداومة عليها قال: «الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» و بالإقامة عليها بقوله: «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ»* و بأدائها في اوقات

ص: 47

مخصوصة بقوله: «كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً» و بأدائها في الجماعات بقوله:

«وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» و بالحضور و الخشوع فيها بقوله: «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» ثمّ بعد هذه الأوامر من اللّه في الصلاة صارت الناس على طبقات طبقة لم يقبلوها رأسا و رئيسهم أبو جهل، قال اللّه في حقّه: «فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى» فذكر سبحانه مصيرهم بقوله «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» الى قوله «وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ».

و طبقة قبلوها و لم يؤدوا حقها و هم اهل الكتاب قال اللّه: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ» فذكر سبحانه مصيرهم الى النّار فقال «فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» و هي دركة في جهنّم اهيب موضع فيها تستغيث الناس منها كل يوم كذا و كذا مرّة، و طبقة ادّوا بعضا و لم يؤدّوا بعضا متكاسلين و هم المنافقون قال اللّه تعالى «إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى و ذكر ان مصيرهم الى النار و الويل، و هو واد في جهنّم لو جعلت فيها جبال الدنيا لماعت و سالت.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من ترك صلاة حتّى مضى وقتها عذّب بالنار حقبا، و الحقب ثمانون سنة، كل سنة ثلاثمائة و ستون يوما، كل يوم ألف سنة مما تعدّون و تأخير الصلاة من غير عذر كبيرة.

و طبقة قبلوها و راعوها بشرائطها، و رأسهم المصطفى، قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ» و كذلك أصحابه، فذكرهم اللّه بقوله «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» و ذكر مصيرهم فقال: «أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ»، و هو ارفع موضع في الجنة و أبهاه، ينال المؤمن فيه مناه و ينظر الي رحمة مولاه.

و الصلاة خير موضوع فمن شاء فليستقلل و من شاء فليستكثر، قال اللّه تعالى:

«إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ». و قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصلاة قربان كل تقى.

و عليك بعد إتمام الفرائض بآدابها و إتيان قضاء ما فات من عمرك كما فات الاشتغال بالنوافل خصوصا نافلة الليل كما قال تعالى: «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ

ص: 48

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 99

قِيلًا». و قد جاء في الحديث قم من الليل و لو قدر حلب شاة او قدر اربع ركعات او ركعتين. و قيل في تفسير «تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ» هو قيام الليل كسلا او تهاونا لقلة الاعتداد بذلك يليك عليه فقد حرم من الخير الكثير، و قد يكون العبد شائقا و تائقا لقيام الليل و لا يتوفق فالسبب فيه ان ذنوب النهار قد قيّدته فليحذر العبد في نهاره، حتي قال بعض المتهجّدين حرمت قيام الليل سبعة أشهر بذنب فقيل له ما كان ذلك الذنب، قال رأيت رجلا بكاّء فقلت في نفسي هذا مراء، و قد يكون ينقطع عنك التوفيق خمسين سنة بسبب أداء حق من حقوق اللّه او حقوق الخلق مثل ان تطلق مثلا امرأتك و هي تهب لك صداقها بمحضر القاضي و أنت مديون لها و ما أوفيت صداقها مع انّها وهبتك، اما سمعت قول اللّه «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً»؟ و ابرائها لك بسبب سوء العشرة معها لا عن طيب نفسها و القاضي الفقير لا يعلم بذلك و قد حكم لك بالتخليص من الصداق.

و من آداب الصلاة انّه إذا دخل الوقت يقدم السنة النوافل الراتبة ففي ذلك سرّ و حكمة، منها انّ العبد تشعث باطنه و تفرق همّه بسبب المخالطة من الناس و الدنيا و قيامه بمهامّ المعاش من صرف همّ الى أكل أو نوم بمقتضى الحيلة فإذا قدم النافلة ينجذب باطنه الى الحضور و يتهيّأ للمناجات فيذهب بالنافلة اثر الغفلة و الكدورة من الباطن فيصير مستعدّا حاضرا للفريضة يستنزل بها البركات و تطرق النفحات، ثم بعد النافلة يجدّد التوبة عند الفريضة عن كل ذنب عمله من الذنوب عامّة و خاصة، فالعامّة، الكبائر و الصغائر مما نطق الكتاب به، و اما الخاصّة ذنوب الحال فكلّ عبد على قدر صفاء حاله له ذنوب تلائم حاله و يعرّفها صاحبها كما قيل:؛ حسنات الأبرار سيئات المقربين؛.

ثم إذا تمكّن لا يصلّى الّا جماعة، فانّها تفضّل صلاة الغد بسبع و عشرين درجة.

و بعد ان استقبل القبلة بظاهره و الحضرة الالهيّة بباطنه يقرأ سورة الناس و آية التوجّه قبل الصلاة فتوجّه ظاهرا و باطنا ثم يرفع يديه حذو منكبيه بحيث يكون كفّاه حذو منكبيه و ابهاماه عند شحمة أذنيه و يضمّ الأصابع، و الضمّ اولى من النشر، و يكبّر

ص: 49

و يجزم راء اكبر و يجعل المدّ في اللّه و لا يبالغ في ضمّ الهاء من اللّه ثم يرسل اليدين مع التكبير من غير نقص.

و صفوة الصلاة التكبيرة. و يكون النيّة باللّه للّه و من اللّه. و قال السلف كيفيّة الدخول في الصلاة هو ان تقبل على اللّه اقبالك عليه يوم القيمة و وقوفك بين يدي اللّه ليس بينك و بينه ترجمان و هو مقبل عليك و أنت تناجيه و تعلم بين يدي من أنت واقف، فان للّه عبادا إذا كبّر في الصلاة غاب في مطالعة العظمة و الكبرياء و امتلأ باطنه نورا فصار الكون بأسره في فضاء شرح صدره كخردلة في فلاة و إذا شرع في القراءة يطرق رأسه في قيامه و يكون نظره الى موضع السجود و يكمل القيام بانتصاب القامة و نزع يسر الانطواء عن الركبتين و يعاطف البدن و رعاية الاعتدال في الاعتماد على الرجلين جميعا، و يقول: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم قبل البسملة في الركعة الاولي، و يقرء الفاتحة و السورة بحضور قلب، و جمع همّ و خاطر، بين القلب و اللسان، بحظّ وافر من الوصلة و الدنو و الهيبة و الخشية و الوقار، و ان لم يكن كذلك و قال باللسان من غير مواطاة القلب، فما اللسان ترجمانا، و لا القاري متكلّما قاصدا، سماع اللّه حاجته، و لا مستمعا الى اللّه فاهما عنه سبحانه ما يخاطبه، فصلوته جسد بلا روح، و اقلّ مراتب الخاصّة الجمع بين القلب و اللسان في التلاوة، فتخرج الكلمة من لسانه، و يسمعها بقلبه، فتقع الكلمة من القرآن في فضاء قلب ليس فيه غيرها بكمال الرعي، و درك شريف فحواها من معان تلطّف عن تفصيل الذكر، فيكون الظاهر له من معاني القرآن قوت النفس، فالنفس المطمئنة متعوّضة من معاني القرآن، و بمثل هذه المطالعة يكون كمال الاستغراق في لجج الاشواق، كما حكى عن أمير المؤمنين انّه صلّى ذات يوم فاستخرجوا كسرة النشارة التي كانت في رجله و هو لم يحسّ بذلك.

ثم إذا أراد الركوع يتأملّ قدرا يسيرا، فيركع و النصف الأسفل بحاله في القيام من غير انطواء الركبتين، و تجافي مرفقيه عن جنبيه، و يمدّ عنقه مع ظهره، و يضع راحتيه على ركبتيه، منشورة الأصابع، و يستحب في الركوع نشر الأصابع و في السجود بالعكس و يقول سبحان ربي العظيم و بحمده ثلاثة، و هذا العدد ادنى الكمال، و الذكر يكون

ص: 50

بعد التمكّن من الركوع و يكون في ركوعه ناظرا نحو قدميه فهو اقرب الى الخشوع من النظر الى موضع السجود، و انّما النظر الى موضع السجود حال قيامه و يقول بعد الذكر راكعا: اللهمّ لك ركعت و لك خشعت و بك آمنت و لك أسلمت خشع لك سمعي و بصرى و عظمي و مخي و عصبي، و يكون قلبه في الرّكوع متصفا بالتواضع و الإخبات.

قيل علامة الهداية الصلاة مع الخشوع و التواضع، ثم يرفع رأسه قائلا سمع اللّه لمن حمده عالما بقلبه ما يقول، فإذا استوى قائما يحمد و يقول ربّنا لك الحمد ملأ السموات و الأرض و ملأ ما شئت الي آخر الدعاء فان أطال في القيام فيكون ذلك في النافلة بعد الرفع من الركوع فليقل لربي الحمد مكرّرا ما أراد، فامّا في الفرض فلا يطول تطويلا يزيد على الحدّ زيادة بيّنة تخرجه عن صورة الصلاة، ثم يهوى ساجدا و يكون في هويّه مستيقظا حاضرا خاشعا عالما بما يهوى فيه و اليه و له، فانّ من الساجدين من يتصور و يكاشف انّه يهوى الي تخوم الأرضين متغيّبا في أجزاء الملك من الحياء، و اظهار الانكسار و الذلّة و استشعار روحه عظيم كبريائه تعالي، كما ورد أن جبرئيل يستر بخافقة من جناحه استصغارا لنفسه، و حياء من اللّه، و يتفاوت الساجدون في مراتب العظمة و استشعار كنهها من الأنبياء و الأولياء و المؤمنين لكل منهم على قدر حظّه من ذلك، و فوق كل ذي علم عليم، فمنهم من يتّسع دعاؤه و ينشر صباؤه في سجوده و يخطى بالصنيعين و يبسط الجناحين فيتواضع بقلبه إجلالا و يرفع بروحه إكراما فيجتمع له الانس و الهيبة و الحضور و الغيبة و القرار و الفرار و الأسرار و الجهار فيكون في سجوده سابحا في بحر معرفته و شهوده لم يتخلّف منه عن السجود شعرة كما قال سيد البشر في سجوده سجد لك سوادي و خيالي الى آخره.

و يقول في سجوده الذكر ثلاثا الى السبع الذي هو الكمال و في الهويّ يضع ركبتيه أولا ثم يديه ثم جبهته و انفه، و يباشر بكفّيه من دون حائل من الأرض من ثوب و غيره، و يكون رأسه بين كفّيه و يداه حذو منكبيه من تيامن و تياسر منهما و لا يلصقهما بفخذه، و يقول بعد التسبيح بالدعاء المأثور اللهم لك سجدت و بك أمنت إلخ؛ ثم يرفع رأسه بكرا و يجلس على رجله اليسرى موجها بالأصابع الى الكعبة و يضع

ص: 51

اليدين على الفخذين و يقول: رب اغفر لي و ارحمني، و لا يطيل هذه الجلسة في الفريضة، اما في النافلة فلا بأس بالاطالة و يكرّر قوله رب اغفر و ارحم ثم يسجد السجدة الثانية مكبّرا ثم إذا أراد النهوض الى الركعة الثانية يجلس جلسة خفيفة للاستراحة، و هكذا بقيّة الركعات، و في الصلاة سرّ المعراج و هو معراج القلوب فليذهن و يفهم ما يفعل و يقول، فالتشهد مقرّ الوصول بعد قطع الهيئات على تدريج طبقات السموات و الدعوات و المناجاة و يدر ما يفعل و ما يقول، فبعد الشهادة يسلم على النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأدب كامل، ثم على عباد اللّه الصالحين، فإذا صلّى و سلّم لا يبقى عبد في السماء و لا في الأرض من عباد اللّه الصالحين الّا و يسلّم عليه بالنسبة الروحيّة و الخاصيّة الفطريّة، و يدعو في آخر صلاته لنفسه و للمؤمنين و ان كان المصلّى اماما لا ينفرد بالدعاء بل يدعو لنفسه و لمن ورائه و للمؤمنين فان الامام المتيقّظ كحاجب دخل على سلطان و ورائه اصحاب الحوائج يسأل لهم و يعرض على السلطان حاجاتهم، و المؤمنون كالبنيان يشدّ بعضه بعضا و لهذا وصفهم اللّه بقوله كانّهم بنيان مرصوص، كلّما اجتمعت ظواهرهم تجتمع بواطنهم، فالبركات تسرى من البعض الي البعض بل جميع المؤمنين المصلّين في اقطار الأرض بالصلوة يقع بينهم تناصر و تعاضد بحسب القلوب، بل يمدّهم اللّه بالملائكة الكرام كما امدّ رسول اللّه بالملائكة المسوّمين، و هذا الإمداد يقع لهم إذا اصطفوا للجماعة كما حكى عن كعب الاخبار انّه سئل كيف تجد نعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يولد بمكّة و يهاجر بطيّبة ليس بفحّاش و لا يكافئ بالسيئة السيئة و ليكن يعفوا، و امّته الحمّادون للّه و يكبّرون اللّه علي كل نجد، يوضّئون أطرافهم و يأتزرون في أوساطهم، يصفّون في صلاتهم كما يصفّون في قتالهم، دويّهم في مساجدهم كدويّ النحل، و من اقام الصلوات الخمس في جماعة بحضور القلب فقد ملأ البرّ و البحر عبادة، و هي سرّ الدين و تمحيص للذنوب، لكن يجتنب المصلّي ان يكون باطنه مرتهنا بشي ء و يدخل الصلاة، و لذا قيل من فقه الرجل ان يبدأ بقضاء حاجته قبل الصلاة و لا يدخل في الصلاة و هو مغضبا بل يكون خاشعا. قال ابن عباس ان الخشوع في الصلاة ان لا يعرف المصلّى من علي يمينه و شماله. قال بعضهم إذا كبّرت التكبيرة الاولى ان اللّه ناظر الي شخصك عالم بما

ص: 52

في ضميرك فمثّل الجنة عن يمينك و النار عن شمالك. و هذا التمثّل يكون تداويا لدفع الوسوسة. قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من صلّى ركعتين صحيحتين و لم تحدّث نفسه بشي ء من الدنيا غفر اللّه ما تقدم من ذنبه. و قد قيل وردان المؤمن إذا توضأ للصلاة تباعد عنه الشيطان خوفا منه لأنّه تأهّب للدخول علي الملك، و يضرب بينه و بين الشيطان سرادق، فإذا قال اللّه اكبر، اطّلع الملك في قلبه، فإذا لم يكن في قلبه اكبر من اللّه و اهمّ منه يقول الملك صدقت، اللّه في قلبك كما تقول، و تشعشع من قلبه نور يلحق بملكوت العرش و إذا كان في قلبه شي ء اكبر و اهمّ منه يقول له كذبت فيثور من قلبه دخان يلحق بعنان السماء فيكون حجابا لقلبه من الملكوت، فيلتقم الشيطان قلبه فلا يزال ينفخ فيه و ينفث و يوسوس اليه حتى ينصرف من صلاته. و القلوب الصافية تصير سماويّة فيدخل بالتكبير في السماء، و اللّه تعالي حرّس السماويّات من تصرّف الشياطين، و المؤمن لا زال يكون يرفع الحجاب، و رفع الحجاب لا يحصل الّا بعد فناء نفسه في رضي اللّه.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يستكمل العبد الايمان حتى تكون قلة الشي ء احبّ اليه من كثرته و حتى يكون ان لا يعرف، احبّ اليه من ان يعرف. و هذا مقام يحصل بعد مجاوزة عقبات، و طي مقامات كثيرة صعبة، أدناها الإخلاص و إلقاء حظوظ النفس بالكلّية ثم مكاتمة ذلك عن الخلق جملة، فإذا حصل هذا المقام لا يبقى للنفس انيّة و صار تسليما محضا و رضى بحتا، و لا يريد الّا ما يريد اللّه، فيتخلّص حينئذ من الكبر و الرياء و الحرص و العجب و المهلكات جميعا.

نردبان خلق اين ما و منيست عاقبت زين نردبان افتادنيست

حتى انّهم إذا لم تحضرهم النية لم يقدموا على العمل لأنّ النيّة انبعاث النفس و توجّهها الى ما ظهر، و ذلك ممّا يقدر عليه و ممّا لا يقدر عليه في بعض الأحيان، فانّ الدواعي لها اسباب مثل انّ إذا غلبت علي الإنسان شهوة النكاح كيف يتمكّن ان يكون غرضه ثواب كثرة النسل في امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل الداعي دفع الشهوة و درك اللذّة، فالقصد الشهوة لا السنّة، فمن مال قلبه الي الدنيا لم يتيسّر له القربة في غالب الأعمال حتى في الفرائض، و غايته ان يتذكّر النّار و يحذّر نفسه عقابها، او نعيم الجنة و يرغب في

ص: 53

ثوابها، فيكون ثوابه ناقصا بسبب انّه انبعثت له داعية ضعيفة فيكون الثواب بقدر الرغبة و القصد، و اما الطاعة على نيّة إجلال امر اللّه لاستحقاقه تعالى الطاعة و العبوديّة فلا يتيسّر للراغب في الدّنيا، و هي اعزّ النيّات و العبادات و يعزّ على بسيط الأرض من يفهمها فضلا عمن يتعاطاها، فافهم سبب قلة اثار الفيض من عبادتك، و قد غلط أقوام حيث اعتقدوا انّ المقصود من الصلاة ذكر اللّه فاىّ حاجة الى الصلاة و قد سلكوا سبيل الضلال، و قوم اخرون سلكوا طريقا ادّتهم الي نقصان الحال فانّهم راقبوا الفرائض و لكن أنكروا فضل النوافل و اغترّوا بسير روح الحال و أهملوا فضل الأعمال و لم يعلموا انّ لحكم اللّه في كلّ هيئة من الهيئات اسرارا و حكما لا توجد في شي ء من الاذكار فالأحوال و الأعمال روح و جسمان، فالاعمال تزكوا بالأحوال، و الأحوال تترّقى و تنمو بالأعمال، و صاحب الشريعة اعلم بصلاح الأمر منك يا فضول، و صاحب البيت ادري بما في البيت، و عليك بإجراء سنة اللّه، و عليك بالتناسب في الأحوال فمن المناسب ان يكون اللباس شاكلا للطعام و الطعام شاكلا للكلام و الكلام شاكلا للفعال، ترى بعض الناس يلبس عبائه بثلاثة دراهم، و شهوته في بطنه بخمسة دراهم، كل اكله و منكحه بدنانير، فمن خشن ثوبه ينبغي ان يكون مأكوله من جنسه، فمتى اختلف الثوب و المأكول او القول و الفعل فذلك دليل على كمون الهوى في احد الطرفين امّا في طرف الثوب لموضع نظر الخلق الى زهده و امّا في طرف المأكول لفرط الشره و كلا الوصفين مرض، الم تعلم انّ الّذين حفظوا علانيتهم و أضاعوا سرائرهم تسوّد وجوههم؟ و مما ينسب الى السجّاد عليه السّلام من الادعية؛ اللهمّ انّى أعوذ بك ان تحسن في لامعة العيون علانيتي و تقبح لك فيما أخلو سريرتي فيحلّ بي مقتك؛ و حكي عن بعض الكاملين انّهم لم يحضروا بعض الأوقات عند اساتيدهم فسئلوا عن السبب فقال انّى إذا رايته احسن له كلامي و تظهر نفسي عنده بأحسن أحوالها و في ذلك الفتنة و العجب، و كلّ ذلك لأجل التخلّص من شائبة الرياء.

في بيان حكم العمل المشوب، هل يستحق به الثواب أم هدر؟ فقد اختلف فيه بان يقتضى ثوابا أم عقابا أم لا ثوابا و لا عقابا، و ظاهر بعض الاخبار تدلّ على انّه لا ثواب

ص: 54

له، و ليس بعض الاخبار يخلو عن تعارض و العلم عند اللّه، و لعلّ ان ينظر الى قدر قوّة الداعي فان كان الداعيين مساويا في القوّة تقاوما و تساقطا فصار العمل لا له و لا عليه و ان كان باعث الدنيا اغلب فليس بنافع و مفض للعقاب نعم العقاب الذي فيه أخفّ من الرياء الخالص، و ان كان قصد التقرب اغلب بالإضافة الى الباعث الدنيوي و الرياء فله بقدر ما فضّل من قوّة الباعث الديني، و الدليل عليه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و بقوله «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها» فيحبط منه قدر الذي يساويه و بقيت زيادة، فداعية الرياء من المهلكات، و داعية الخير من المنجيات، فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادّتان فان كان يقوّيه هذا اغلب فهذا اغلب و كذلك بالعكس فكما ان المستضر بالحرارة لا يخلوا عن اثر فكذلك.

قال بعض اهل السلوك كن نجما فان لم تستطع فكن قمرا، فان لم تستطع فكن شمسا؛ اي كن مصلّيا جميع الليل كالنجم يشرق او كالقمر يضيئ بعض الليل او فصلّ بالنهار.

و أداء الفرائض بالجماعة من المستحبّات الاكيدة؛ خصوصا اليومية منها؛ و خصوصا لجيران المسجد؛ او من يسمع النداء، و قد ورد في فضلها و ذمّ تاركها من ضروب التاكيدات ما كاد تلحقها بالواجبات، ففي الصحيح الصلاة في جماعة تفضل على صلاة الفذ أي الفرد بأربع و عشرين درجة؛ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتاني جبرئيل مع سبعين ألف بعد صلاة الظهر فقال يا محمد انّ ربّك يقرئك السلام و اهدى إليك هديّتين، قلت ما تلك الهديتان؟ قال الوتر ثلث ركعات و الصلاة الخمس في الجماعة، قلت يا جبرئيل ما لأمّتي في الجماعة، قال إذا كان اثنين كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة مائة و خمسين صلاة، و إذا كانوا ثلاثة كتب اللّه لكلّ واحد بكل ركعة ستمائة صلاة، و إذا كانوا اربعة كتب لكل واحد الفا و ماتي صلاة و إذا كانوا خمسة كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة ألفين و اربعمائة صلاة، و إذا كانوا ستة فاربعة آلاف و ثمانمائة بكل ركعة، و إذا كانوا سبعة فلهم بكلّ ركعة تسعة آلاف و ستمائة صلاة، و إذا كانوا ثمانية كتب اللّه لكل واحد منهم بكل ركعة تسعة عشر الفا و مأتي صلاة، و إذا كانوا تسعة كتب لكل واحد منهم بكل ركعة ستة و ثلاثين الفا و اربعمائة صلاة، و إذا كانوا عشرة كتب اللّه

ص: 55

لكل واحد منهم بكل ركعة سبعين الفا و ألفين و ثمانمائة صلاة، فان زادوا على العشرة فلو صارت السموات كلّها مدادا و الأشجار أقلاما و الثقلان مع الملائكة كتّابا لم يقدروا ثواب ركعة، يا محمد تكبيرة يدركها المؤمن مع الأمام خير من ستين ألف حجة و عمرة، و خير من الدنيا و ما فيها بسبعين ألف مرة، و ركعة يصلّيها المؤمن مع الامام خير من مائة ألف دينار يتصدّق بها على المساكين و سجدة يسجدها المؤمن مع الأمام في جماعة خير من عتق مائة رقبه، و كذلك يتضاعف الثواب و الأجر بتضاعف الأمكنة و الائمة مثل مسجد الكوفة و ساير المساجد و مثل العالم الهاشمي و غيره. و لا يجوز ترك الجماعة رغبة عنها او استخفافا بها. ففي الخبر لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد إلا من علة، و لا غيبة لمن صلّى و رغب عن جماعتنا، و من رغب عن جماعة المسلمين وجب علي المسلمين غيبته و سقطت عدالته، و وجب هجرانه، و إذا دفع إلى امام المسلمين أنذره و حذّره فان حضر جماعة المسلمين و الا أحرقت عليه داره؛ و في خبر آخر ان امير المؤمنين عليه السّلام بلغه ان قوما لا يحضرون الصلاة في المسجد فخطب فقال: إنّ قوما لا يحضرون الصلاة معنا في مساجدنا فلا يواكلونا، و لا يشاربونا، و لا يناكحونا، أو يحضروا معنا صلاتنا جماعة، و اني لأوشك بنار تشعل في دورهم فأحرقها عليهم او ينتهون. و أمثال هذه الاخبار عندنا الامامية كثيرة. و اما عند اهل السنة: قال بعضهم: المراد من قوله تعالى: «يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ» المراد من الداعي المؤذنون الذين يدعون الى الجماعة في الصلوات الخمس و تارك الجماعة شرّ من شارب الخمر و قاتل النفس بغير حق، و من القتات و من العاق لوالديه، و من الكاهن و الساحر، و من المغتاب و هو ملعون في التورية و الإنجيل و الزبور و الفرقان، و هو ملعون على لسان الملائكة، لا يعاد إذا مرض، و لا يشهد جنازته إذا مات قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تارك الجماعة ليس منى، و لا أنا منه، و لا يقبل اللّه منه، صرفا و لا عدلا، اي نافلة و لا فريضة، فان ماتوا على حالهم، فالنار اولى بهم كذا في روضة العلماء، قال ابن عباس بعث اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بشهادة أن لا إله إلا اللّه فلمّا صدّق زاد الصلاة فلمّا صدّق زاد الزكاة فلمّا صدّق زاد الصيام فلمّا صدّق زاد الحج ثمّ الجهاد ثمّ أكمل لهم الدّين، قال مقاتل كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّى بمكّة ركعتين بالغداة، و ركعتين بالعشاء، فلما عرج به الى السماء امر بالصلوة الخمس

ص: 56

و انما فرضت الصلاة ليلة المعراج لأنّ المعراج أفضل الأوقات و اشرف الحالات، و الصلاة بعد الايمان باللّه أفضل الطاعات، و في مرتبة العبودية احسن الهيآت، ففرض أفضل العبادات و لما اسرى به شاهد ملكوت السماء و عبادات سكانها من الملائكة، فاستكثرها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غبطة، و طلب ذلك لامته، فجمع اللّه له في الصلوات الخمس عبادات الملائكة كلّها، لأنّ منهم من هو قائم، و منهم من هو راكع، و منهم من هو ساجد، و حامد، و مسبّح، الي غير ذلك، فاعطى اللّه أجور عبادات اهل السموات لأمّته إذا أقاموا الصلوات الخمس. و قيل انّ الحكمة في كونها خمس صلوات، لأنّها كانت في الأمم السالفة متفرقة فجمعها لنبيّه و امّته مجمع الفضائل كلّها، فأوّل من صلّى الفجر آدم عليه السّلام و الظهر إبراهيم عليه السّلام و العصر يونس عليه السّلام و المغرب عيسى عليه السّلام، و العشاء موسى عليه السّلام: و قيل صلّى آدم عليه السّلام الصلاة الخمس كلّها، ثم تفرقت بعده بين الأنبياء، و اوّل من صلّى الوتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة المعراج، لذلك قال زادني ربي صلاة اى الوتر على الخمس او صلاة الليل، و اوّل من بادر الى السجود جبرئيل و لذلك صار رفيق الأنبياء، و اوّل من قال: سبحان اللّه جبرئيل، و الحمد للّه آدم، و لا إله إلا اللّه نوح، و اللّه اكبر ابراهيم، و لا حول و لا قوّة إلا باللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ذكر هذا في كشف الكنوز و حل الرموز، و في بعض الشروح لمّا أراد اللّه افاضة الخيرات لنبيّه و تيسير الأمر لهم كي لا يملوا من العبادات لوّن لهم الطاعات ليستريحوا من نوع الى نوع، فجعل في اليوم خمسا و في السنة شهرا و في المأتين خمسة و في العمر نورة كيلا ينفكون عن العبودية و لا يملون، و وسع عليهم الوقت حتى لا يتأسفون بفوت أوقاتها، و تبقي لهم صفة الاختيار، و فرّق بين يد المرتعشة من الفلج و اليد التي تحركها و ترعشها أنت، فتأمل يا أخي في هذه الدقيقة كي تبين لك نكتة الجبر و الاختيار انتهى.

«وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» اى و من الذي رزقناهم و أعطيناهم ينفقون، و الرزق في اللغة العطاء، و الإنفاق إخراج المال يقال أنفق ماله اى أخرجه عن ملكه و صرفه، و تقديم المفعول في الآيه للاهتمام به، و المحافظة على رؤس الآي، و المراد بهذا الإنفاق الصرف الى سبيل الخير فرضا كان او نفلا، و من فسّره بالزكوة ذكر أفضل أنواعه او خصّصه بها لاقترانه بما هي شقيقتها و أختها، و هي الصلاة. و الأظهر في الآيه انّ المراد من النفقة

ص: 57

الزكاة، و في الانفاق فضائل لا تحصى قال اللّه تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ» الآية. و اعلم انّ انفاق المال في الخيرات إحدار كان الدّين و السرّ فيه انّ المال محبوب الخلق و هم مأمورون بحبّ اللّه و مدعوّون للحبّ بنفس الايمان فجعل تعالى بذل المال امتحانا لصدقهم في دعواهم فانّ المحبوبات تبذل لأجل المحبوب، فانقسم الخلق الى ثلاث طبقات: الطبقة الاولى الأقوياء و هم الّذين أنفقوا جميع ما ملكوا و نصف ما ملكوا فهولاء صدقوا ما عاهدوا اللّه في دعواهم، و من اوفى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه اجرا عظيما، الطبقة الثانية المتوسطون و هم الذين لم يقدروا على أخلاء اليد عن المال دفعة و لكن أمسكوها لا للتنعم بل للإنفاق عند ظهور محتاج، و يقنعون في حق أنفسهم بما يقوّيهم على العبادة، و إذا عرض محتاج بادروا الى سدّ خلّته، و لم يقتصروا على قدر الواجب من الزكاة، و انما غرضهم العمدة في الإمساك ترصّد الحاجات. و الطبقة الثالثة الضعفاء و هم المقتصرون على أداء الواجب فلا يزيدون عليها و لا ينقصون منها و لا شكّ بانّا لسنا من الطبقة الاولى و الثانية لكن ينبغي ان نتجاوز الدرجة الثالثة و لوالي أواخر طبقات المتوسّطين، و نزيد على الواجب فانّ الاكتفاء بمجرّد الواجب حدّ البخلاء. قال اللّه تعالى «إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا» فاجتهد لا ينقضي عليك يوم الّا و تتصدّق بشي ء وراء الواجب و لو شيئا يسيرا فترتفع بذلك من طبقة البخلاء، و ان لم تملك شيئا فمعونة في حاجة او شفاعة خير فيكون بذلك في الخير ممّا تقدر عليه من جاه و كلمة طيّبة إذا كنت فقيرا. و حافظ في صدقتك على خمسة امور: الأوّل الأسرار، فانّ صدقة السّر تطفى غصّب الربّ. و قد قال اللّه تعالى «وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» و بذلك تخلص عن الرياء، و الرياء محبط و مهلك ينقلب في القلب في صورة حيّة إذا وضع في القبر او يولم إيلام الحيّة كما انّ البخل ينقلب في القبر في صورة عقرب. الثاني ان يحذر من المنّ و حقيقته ان ترى نفسك محسنا الى الفقير، و علامته ان تتوقّع شكر امنه. قال اللّه تعالى: «لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى مع انّ آخذ الصدقة هو الذي يكون له على المعطى حق بقبوله منه، و الزكاة و الصدقات او ساخ الأموال فإذا أخذ الفقير منك فقد طهّر لك طهرة فله الفضل عليك، أ رايت لو انّ فصّادا فصدك مجّانا و اخرج

ص: 58

من باطنك الدّم الّذى تخشى ضرره أ ليس هو المحسن لك؟ فالّذى اخرج من الباطن رذيلة البخل مع انّ ضرره في الحيوة الآخرة اولى بان تراه متفضّلا عليك. الثالث، ان تخرج من أطيب أموالك قال اللّه تعالى: «وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ» قال اللّه تعالى «لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ»، و الإنسان يؤثر الأعزّ لحبيبه دون الأخس. الرّابع ان تعطى بوجه طلق فرح غير مستكره، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سبق درهم بمائة ألف درهم، و انّما أراد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به ما يعطيه عن بشاشة و طيب نفس من انفس أمواله فذلك أفضل من مائة ألف درهم مع الكراهيّة. الخامس ان تتحرّى بصدقتك محلّا تزكوا به الصدقة مثل الرّجل المتّقى العالم الّذى يستعين بها على تقوى اللّه و الصالح المعيل ذي الرحم، و ان لم تجتمع تمام هذه الأوصاف فباحادها ايضا تزكوا الصّدقة. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أطعموا طعامكم الأتقياء و أولوا معروفكم المؤمنين، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تأكل الّا طعام تقىّ و لا يأكل طعامك الّا تقىّ. و في ثواب الأعمال عن ابى جعفر عليه السّلام قال انّ عابدا عبد اللّه ثمانين سنة ثم اشرف على امرأة فوقعت في نفسه فنزل إليها فراودها على نفسها فطاوعته فلمّا قضى منها حاجته طرق ملك الموت فاعتقل لسانه فمرّ سائل فاشار اليه ان خذ رغيفا كان في كسائه فأحبط- اللّه عمل ثمانين سنة بتلك الزنية و غفر اللّه له بذلك الرغيف، أ تظنّ ان ينفعك في غنمته لا بل الربح في خير أمضيته او خصم أرضيته فأدّ قرضك و أوف فرضك و لا تسع لقاعد و لا تسهر لراقد. روي انّه اوحى اللّه الى بعض أنبيائه انّى قضيت عمر فلان نصفه بالفقر و نصفه بالغنى فخيّره حتى اقدّم له ايّهما شاء فدعى النبىّ و طلبه فجاء الرّجل فأخبره النبىّ بما أخبره اللّه فقال الرجل حتى أشاور زوجتي فقالت زوجته اختر الغنى حتّى يكون هو الأوّل فقال لها الرّجل انّ الفقر بعد الغنى صعب شديد و الغنى بعد الفقر طيب لذيذ فقالت لا بل أطعني في هذا فرجع الى النبىّ فقال اختار نصف عمري الّذى قضى لي فيه بالغنى ان يقدّم، فوسّع اللّه عليه الدنيا، و فتح عليه باب الغنى، فقالت له امرأته ان أردت ان تبقى هذه النعمة فاستعمل السخاء مع خلق ربّك، فكان الرجل إذا اتّخذ لنفسه ثوبا اتّخذ لفقير ثوبا مثله، فلمّا تمّ نصف عمره الذي قضى له فيه بالغنى اوحى اللّه الى نبي ذلك الزمان انّى كنت قضيت نصف عمره بالفقر و نصفه بالغنى لكنّى وجدته شاكرا لنعمائى و الشكر

ص: 59

يستوجب المزيد فبشّره انّى قضيت باقى عمره بالغنى.

[سورة البقرة (2): آية 4]

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

ثم بيّن سبحانه صفة المتّقين فقال: «وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» اى القرآن بأسره و الشريعة عن اخرها و التعبير عن انزاله بالماضي مع كون بعضه مترقّبا و لم ينزل لتغليب المحقّق وقوعه على المقدّر و لتنزيل ما في شرف الوقوع لتحققه منزلة الواقع و لأنّ القرآن شي ء واحد في الحكم، او الإنزال في هذه الآية بمعنى الوحى، و هذا النزول الثانوى على عالمه البشريّة و النزول الأوّل الى عالم نوره من غير واسطة جبرئيل و النزول الثّاني الي عالم الخلق زيادة في علمه غير مسبوق بالجهل بل نزول علم على علم أو زيادة علم على علم، و اليه الإشارة بقوله تعالى: «وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» و «قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً». و يستفاد من هذه الآية و هي قوله: «وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» انّ الكلام مخلوق لأنّ المنزل لا بدّ و أن يكون حادثا و ممكنا و لا يكون قديما خلافا للاشاعرة فانّهم قالوا بالكلام النفسي فزعموا أنّ اللّه لم يزل متكلّما مع وضوح أنّ الكلام غير المتكلّم، و يمتنع اقترانهما كما يمتنع اتحادهما مع انّه يستلزم تعدّد القدماء و هو ينافي التوحيد، فالكلام الإلهي المنزل على أنبيائه كلّه حادث و مخلوق، و المتكلّم هو الخالق فيخلق الكلام بإرادته و مشيّته؛ و الاشاعرة يقولون بالصفات الزائدة مع ما يدّعون من الإقرار بالتوحيد و يقولون بالقدماء الثمانية و منها الكلام النفسي، و هذا ينافي التوحيد ضرورة انّ مفهوم الواجب لا يصدق على كثيرين، و حقيقة الوجود البحت لا يشوبه شي ء من التركيب الذاتي و الخارجي و الذهني و الجنس و الفصل و ما قاله الاشاعرة يستلزم تركّب الواجب من الذات و الصفات بشهادة انّ الصفة غير الموصوف. و القول بالصفات الزائدة يستلزم كون الذات فاقدا للكمالات الذاتية و افتقارها الى صفاتها، و كل محتاج ممكن و يستلزم النقص، و كل ناقص ممكن، قال امير المؤمنين عليه السّلام و نظام توحيد اللّه تعالى نفى الصفات عنه، فمن وصف اللّه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّأه ايقاظ: و امّا ما قرره الحكماء من أنّ الواحد لا يصدر عنه الّا الواحد و أنّ العقل الأوّل هو المخلوق من غير واسطة و انّ العقل الأوّل هو الخالق للعقل الثّاني، و هكذا إلى أن ينتهى إلى العقول العشرة، فهذه القاعدة مع

ص: 60

عدم ورود تصديقها في شي ء من الكتاب و السنّة مخالفة لما ينساق من هذه الآية الكريمة لأنّ العقل الأوّل هو الحقيقة المحمّديّة كما يستفاد من الحديث، و هو أوّل ما خلق اللّه نور نبيك: يا جابر و قوله تعالى: «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» صريح في أنّ المنزل بالكسر انّما هو اللّه، و القول بأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خالق للعقل الثاني مخالف للادلة الاربعة و هي الكتاب و السنة و الإجماع و دليل العقل، إذ نسبة الخلق و الصنع إلى غيره غير جائز، هل من خالق غير اللّه؟ و قد صحّ انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبد و نبىّ و قوله: بما انزل إليك إشارة إلى الهدايات و الإفاضات و الوحى النازلة من اللّه بالنسبة إليه، و قد جعلهم اللّه مجرى للفيوضات، و ليس علمه ذاتيّا مستغنيا عن الافاضة و اليه الإشارة بقوله تعالى:

«وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، و لا شكّ انه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممكن فيحتاج في هدايته و ساير صفاته الى الواجب، و الضالّة بمعنى الغيبوبة لأنّ مرتبته كانت خفيّة من أول الأمر، فهدى اللّه بإظهار تلك الحقيقة المقدّسة و اعلانها و إعلاء كلمتها و اللّه متمّ نوره و لو كره المشركون قال علىّ عليه السّلام أنا الأوّل، أنا الاخر، أنا الظاهر، أنا الباطن، قيل في معناه وجوه، الاول انّه أوّل من آمن برسول اللّه في عالم الغيب و الشهادة و انّه عليه السّلام أوّل من آمن في جميع العوالم من عالم الأنوار و المثال و عالم الأرواح و النفوس و عالم الذّر الأوّل الّذى قال اللّه: «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟»، و عالم الذر الثاني المتّصف بالاجابة المشروطة و الذّر الثالث المشتمل على الاجابة المتخيّرة و عالم الملك و الناسوت، فانّه عليه السّلام اوّل من دعى و أجاب.

الثاني انّه اوّل من أجاب نداء ابراهيم حين اذّن للناس بالحجّ، و هو و الأئمّة حقيقة الرّسول و هم و الرسول اوّل الأولياء و آخرهم وجود او رتبة و تمام الأنبياء، و الأولياء و الأوصياء انّما خلقوا من اشعّة انواره محمد و اهل بيته صلوات اللّه عليهم و من قبسات فيضهم و نورهم، و هو قوله عليه السّلام بكم بدأ للّه و بكم يختم. و في الحديث قال الصادق نحن الأوّلون و نحن الآخرون، و ايضا في الحديث عنهم انّه اى عليّا عليه السّلام الأوّل و الآخر اى مرجع الأولياء بدأ و ختما و انّ له الولاية الكلّية في الدنيا و الآخرة و انّه اوّل الخلق شرفا و إياب الخلق إليهم لأنّه الواسطة في جميع الفيوضات.

ص: 61

«وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» التورية و الإنجيل و سائر الكتب السالفة و الايمان بالكلّ فرض عين جملة، و بالقرآن فرض عين تفصيلا حيث انّا متعبّدون بتفاصيله.

«وَ بِالْآخِرَةِ» تأنيث الآخر الذي يقابل الأول و سمّيت الدنيا دنيا لدنوّها من الآخرة، و سمّيت الآخرة آخرة لتأخرها و لكونها بعد الدنيا، و الآخر بفتح الخاء الذي يلي الأوّل.

«هُمْ يُوقِنُونَ» الإيقان إتقان العلم بالشي ء بنفي الشكّ و الشبهة عنه نظرا و استدلالا.

و المراد من الآخرة الدار الآخرة بحذف الموصوف لأن الآخرة صفة، و لا بدّ لها من موصوف.

«و يُوقِنُونَ» اى يعلمون، و ذلك لأنّ الكافرين ما كانوا متيقّنين بها بل كانوا يقولون:

ان هي الا حياتنا الدنيا نموت و نحيى، و لمّا كان اهل الكتاب عليه من الشكوك، و كانوا يقولون: لم تمسّنا النار الّا ايّاما معدودات و كذلك مختلفاتهم في انّ نعيم الجنّة هل هو من قبيل نعيم الدنيا او لا و هل هو دائم أولا؟ فقال فرقة منهم يجرى حالهم في التلذّذ بالمطاعم و المشارب و المناكح على حسب مجراها في الدنيا، و قال آخرون انّ ذلك انّما احتيج اليه في هذه الدنيا من أجل نماء الأجسام و التوالد و التناسل و اهل الجنّة مستغنون عنه فلا يتلذّذون الّا بالنسيم و الأرواح العبقة و السّماع اللذيذ و الفرح و السرور، فهم عن الاعتقاد في امور الآخرة بمعزل من الصحّة فضلا عن الوصول الى مرتبة اليقين، و امّا المؤمنون فهم موقنون غير مختلفين و لا شاكّين، قال علماء الأخلاق اليقين علي ثلاثة أوجه: يقين عيان و يقين خبر و يقين دلالة، فامّا يقين العيان فهو انّه إذا رأى شيئا زال عنه الشك في ذلك الشي ء، و امّا يقين الدلالة فهو ان يرى الرّجل دخانا ارتفع من موضع فيعلم باليقين انّ هناك نارا و ان لم يرها، و امّا يقين الخبر فهو انّ الرجل يعلم باليقين انّ في الدنيا مدينة يقال لها بغداد و ان لم ينته إليها، فهيهنا يقين خبر، و العلم اليقين هو العلم الحاصل بالإدراك و الاستدلال و النظر. و درجات اليقين تكمل بدوام النظر و المجاهدات المشروعة مثل دوام الوضوء و قلّة الاكل و كثرة الذكر و السكوت بالفكر في ملكوت السموات و الأرض و بأداء السنن و الفرائض و ترك ما سوى الحق و تقليل المنام و أكل الحلال و صدق المقال و المراقبة بالقلب الى اللّه، فهذه مفاتيح العلوم و المشاهدة، و ثمرة اليقين، الاستعداد

ص: 62

للآخرة، و لذا قيل عشرة من المغرورين، من أيقن انّ اللّه خالقه و لا يعبده، و من أيقن انّ اللّه رازقه و لا يطمئنّ به و من أيقن انّ الدنيا زائلة و يعتمد عليها و من أيقن انّ الورثة اعداؤه و يجمع لهم و من أيقن انّ الموت آت فلا يستعدّ له و من أيقن انّ القبر منزله فلا يعمره و من أيقن ان الدّيان يحاسبه فلا يصحّح حسابه و حجته و من أيقن ان الصراط ممرّه فلا يخفّف ثقله و من أيقن انّ النار دار الفجّار فلا يهرب منها و من أيقن انّ الجنّة دار الأبرار فلا يعمل لها. قال رجل من الزّهاد رأيت غلاما في البادية يمشى بلا زاد فقلت ان لم يكن له يقين فقد هلك، فقلت يا غلام أ تمشي في مثل هذا الموضع بلا زاد؟ فقال يا شيخ ارفع رأسك، هل تري غير اللّه تعالى؟ فقلت له الآن فاذهب حيث شئت. قال ابراهيم الخواص:

طلبت المعاش لأكل الحلال فاصطدت سمكة وقعت في الشبكة و أخرجتها و طرحت الشبكة في الماء فوقعت اخرى فيها ثم عدت فهتف بي هاتف لم تجد معاشا الّا ان تأتى الى ما يذكر اللّه فتقتلهم، فكسرت القصبة و تركت.

فعاشر اهل الرشد تهتدى و لا بدّ للمبتدي من منبّه

من الاولى فالاولى بالنسبة الى حال السالك.

[سورة البقرة (2): آية 5]

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

أولاء جمع لا واحد له من لفظه، و مفردة ذلك و الكاف للخطاب، و ما في اشارة لفظ أولئك من البعد للاشعار بعلوّ درجتهم و بعد منزلتهم في الفضل، و هو مبتداء اى الموصوفون بالصفات المذكورة كائنون على هدى و تنكير هدى لكمال تفخيمه كأنّه قيل على هدى اى هدى لا يبلغ كنهه كما تقول لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا «مِنْ رَبِّهِمْ» من عنده تعالى، و انما قال من ربّهم لأنّ كل خير و هدى من اللّه و الهداية في اتباع الرسول.

وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تكرير أولئك للتفخيم و للدلالة على انّ كلّ واحد من الحكمين مستقلّ لهم في التميّز به عن غيرهم فكيف بهما، و كلمة هم في مثل هذه المواضع يسمّونه البصريّون فصلا و الكوفيّون عمادا انما يأتون بها للدلالة على انّ الواقع بعده خبر لا صفة و انّ المسند ثابت للمسند اليه دون غيره، فالقصر قصر الصفة علي الموصوف لا العكس. و المفلح الفائز بالبغية و الفلح الشق و القطع و الفتح، و منه سمّى الزارع فلّاحا لأنه يشقّ الأرض، و حاصل المعنى هم الفائزون بالجنّة و الناجون من النار و تشبّثت الوعيدية

ص: 63

بالآية في خلود الفساق من اهل القبلة في العذاب، و أجيبوا بان المراد من المفلحين، الكاملون في الفلاح، فيلزم من المعني عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، فاما عدم الفلاح لهم رأسا لا يلزم. هذا ما اجابه البيضاوي و تمسك المرجئة بهذه الآية من وجه آخر و احتجوا بانّ اللّه حكم بالفلاح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية فوجب ان يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحا و ان زنى و ان سرق و شرب الخمر، و إذا ثبت في هذه الطائفة تحقق العفو ثبت في غيرهم ضرورة إذ لا قائل بالفرق. و الجواب عن قول المرجئة ان وصفهم بالتقوى يستلزم اتّقاء ترك الواجبات و المعاصي، و معلوم بالضرورة انّ من اتقي من المعاصي كيف يسرق و يزنى؟ و هو متّقي من المعاصي؟

[سورة البقرة (2): آية 6]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)

لما ذكر خاصة عباده بصفات الايمان و التقوي و الفلاح ذكر في هذه الآية العتاة المردة الذين لا يغني عنهم الآيات و النذر. و تعريف الموصول امّا للعهد و المراد به ناس بأعيانهم كابي لهب و ابى جهل و احبار اليهود او للجنس متناولا كل من صمّم على كفره تصميما لا يرعوي بعده، و الكفر لغة الستر و التغطية، و في الشريعة انكار ما علم بالضرورة مجيئي الرسول به. و الكافر له إطلاقات.

أحدها نقيض المؤمن، قال اللّه تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»*، و يطلق على الجاحد قال: «وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» اى جحد وجوب الحج، و يطلق نقيض الشاكر، قال تعالى: «وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ» و يطلق علي المتبري، قال تعالى: «يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ» اى يتبرأ بعضكم من بعض.

سواء عليهم اى متساو، و سواء اسم بمعني الاستواء، و خبر لأن، أ أنذرتهم يا محمد أم لم تنذرهم و هذا مثل قولك، سواء على أقبلت أم أدبرت؛ و اللفظ لفظ الاستفهام و معناه الخبر اى الإنذار و عدم الإنذار سيان لهم، و اصل الإنذار الأعلام بأمر مخوف و كان هؤلاء القوم كقوم هود الذين قالوا لهود، سواء علينا أ وعظت أم لم تكن من الواعظين.

لا يؤمنون جملة مؤكّدة مبيّنة لما قبلها من إجمال ما فيه الاستواء و تخفيف و تفريغ لقلبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فان قلت لما علم اللّه انهم لا يؤمنون فلم امر نبيه بدعائهم، فالجواب؛ لئلا يكون

ص: 64

للناس علي اللّه حجة بعد الرسل؛ و قال؛ و لو انّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك.

[سورة البقرة (2): آية 7]

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)

لما ذكر هم بصفاتهم الخبيثة ذكر عقوباتهم فهو تعليل للحكم السابق و بيان ما يقتضيه. و في معني الختم وجوه.

أحدها ان المراد بالختم العلامة فإذا انتهى الكافر من كفره الى حالة يستحق الحرمان من الفيض الأقدس ختم و طبع على قلبه علامة و نكتة سوداء تشاهدها الملائكة فيعلمون بها انّه لا يؤمن بعدها كما انّه يعلم و يكتب في قلب المؤمن علامة تعلم الملائكة بها انّه مؤمن فيمدحونه و يستغفرون له.

و ثانيها ان المراد بالختم ان اللّه شهد عليها و حكم بأنها لا تقبل الحق.

و ثالثها ان المراد بذلك انه ذمهم بأنها كالمختوم عليها في انّه لا يدخلها الايمان و لا يخرج عنها الكفر فتمكن الكفر في قلوبهم فصارت كالمختوم عليها.

و رابعها ان قلبه ضاق عن النظر و الاستدلال، فهو خلاف من ذكر في قوله: «أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» و مثل قوله «أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» و الوجوه بحسب المعني متقاربة:

«وَ عَلى سَمْعِهِمْ» اى و ختم اللّه على آذانهم فجعلها بحيث تعاف استماع الحق و لا تصغى الى خبر و لا تعيه عقوبة لهم على سوء اختيارهم فعبر سبحانه من احداث هذه الكيفية و الهيئة بالطبع و الختم على الاستعارة، فلو قيل إذا ختم اللّه على قلوبهم و على سمعهم فمنعهم الهدى فكيف يستحقون العقوبة؟ فالجواب انّ الختم و الطبع و الضلال و أمثال هذه الأمور عقوبة و مجازاة من اللّه بكفرهم، و هي مستندة الى اللّه من حيث ان الممكنات بقدرته و من حيث انها جزاء منه تعالي لكن هذا الجزاء مسبب مما اقترفوه بدليل قوله «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ»، و قوله تعالى، «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ» فالختم لاستحقاق الكفر كالعذاب الواقع على الكافر، و اللّه تعالى قد يسرّ عليهم السبل فلو سلكوا سبيله لوفّقهم، فحاصل معنى الختم عقوبة من اللّه لا تمنع العبد جبرا و لا تحمله على الكفر كرها بل هي زيادة عقوبة له على سوء إختياره، و تماديه

ص: 65

و غيّه في الكفر تسبّب عن هذا الطبع. و الأمر لهم بالإيمان بقوله تعالى: «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» يدلّ على أنّهم متمكنين من الايمان و الخطاب بقوله: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ»* يدلّ على أنّهم غير عاجزين عن الايمان و الّا لزال الخطاب و سقط اللّوم، فالعبد هو الذي أورد هذا الختم على قلبه و على سمعه. و في توحيد السمع قيل السبب فيه انّه في الأصل مصدر و المصادر لا تجمع لصلاحيتها للمفرد و الجماعة مثل انّهم يكيدون كيدا و أكيد كيدا لكن الأبصار جمع البصر و هو اسم عين لا مصدر فجمع و الاضافة الى الجماعة تغنى عن الجماعة، و قال سيبويه انّه توسّط جمعين فدلّ على الجمع و ان وحّد مثل قوله: «يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ»* دلّ على الأنوار.

«وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» أى غطاء و المراد حدوث حالة تجعل أبصارهم بسبب كفرهم لا تجتلى الآيات كما تجتليها أعين المستبصرين و معنى التنكير في الغشاوة بيان انّه على أبصارهم ضربا من الغشاوة خارجا ممّا يتعارفه الناس و هي غشاوة التعامي عن الآيات، و ترتيب الذكر يوافق الخطابات حيث يقول: أفلا تعقلون، أفلا تبصرون، أ فلا تسمعون.

«وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» و التنكير أى لهم من الآلام نوعا عظيما لا يعلم كنهه الّا اللّه نعوذ باللّه من سوء الخاتمة. حكى انّ ملكا شابّا في بني إسرائيل، قال انّي أجد في الملك لذّة فلا ادرى أ كذلك يجده الناس أم أنا أجده، فقالوا له كذلك يجده الناس، قال فماذا يقيمه و يديمه؟ قالوا يديمه و يقيمه لك ان تطيع اللّه و لا تعصيه فدعا من في بلده من العلماء و الصلحاء و قال لهم كونوا بحضرتي و مجلسي فما رأيتم من طاعة اللّه فأمروني و ما رأيتم من المعصية فازجروني عنها فعل ذلك فاستقام له الملك أربعمائة سنة ثمّ أنّ إبليس أتاه يوما على صورة رجل و قال له من أنت؟ قال الملك رجل من بني آدم قال إبليس لو كنت من بنى آدم لمتّ كما يموت بنو آدم و لكنّك اله فادع الناس الى عبادتك فدخل في قلبه شي ء ثم صعد المنبر فقال أيّها الناس انّي أخفيت عليكم امرا حان و لزم إظهاره و هو انّي ملككم منذ كذا سنة و لو كنت من بنى آدم لمت و لكنّى اله فاعبدوني فأوحى اللّه الى نبيّ ذلك الزمان، و قال أخبره انّى استقمت له ما استقام لي فتحول

ص: 66

من طاعتي الى معصيتي فبعزّتى لأسلّطن عليه بخت نصر و لم يتحول عن ذلك فسلّطه عليه فضرب عنقه و اوقر من خزينته سبعين سفينة من ذهب.

[سورة البقرة (2): آية 8]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)

لما افتتح اللّه السورة ببيان أحوال المؤمنين و اوصافهم و ثنّى بذكر اضدادهم الماحضين في الكفر ظاهرا و باطنا ثلّث في هذه الآية بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين و هم المنافقون الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم و هم أخبث الكفرة و أبغضهم الى اللّه لأنّهم موّهوا الكفر و خلطوا به خداعا و استهزاء. و الناس اسم جمع للإنسان سمّي به لأنّه عهد اليه فنسي قال اللّه: «وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و قيل سمّى به لظهوره بخلاف الجن من انس أى ابصر لأنّهم ظاهرون، و لذلك ايضا سمّوا بشر، و قيل من الانس الذي هو ضد الوحشة لأنّهم يستأنسون بأمثالهم و اللّام في؛ و من الناس؛ للجنس و من موصوفة، و تقدير الكلام؛ و من الناس ناس يقرّون باللّسان و يقولون صدقنا باللّه و باليوم القيمة؛ و سمّى آخرا لأنّه لا يوم بعده و لا ليلة بعده و متأخر عن جميع الأيّام. و الناس أصله أناس وزنه فعال فأسقطت الهمزة منها لكثرة الاستعمال إذا دخله الألف و اللّام و أدغمت اللّام في النّون كما قيل لكنا في لكن أنا.

«وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» و ما حرف مشبّه بليس من حيث يدخل على المبتدأ و الخبر كما يدخل ليس عليهما. و فيه معنى نفى الحال كما في ليس فأجرى مجراه في العمل، و الباء زائدة مؤكّدة للنفي أى ليسوا بمصدّقين في دعويهم و اظهارهم الايمان.

[سورة البقرة (2): آية 9]

يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9)

استيناف وقع جوابا عن سؤال ينساق اليه الذهن كأنّه قيل ما لهم يقولون ذلك و هم غير مؤمنين؟- فقيل يخادعون اللّه و يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم آمنا و هم غير مؤمنين فانّهم كانوا يريدون بما صنعوا ان يطلعوا على أسرار المؤمنين فيشيّعوها الى مخالفيهم و أعدائهم و ان يدفعوا أنفسهم ما يصيب ساير الكفّار من القتل و النهب و الأسر و صنع اللّه معهم من اجراء احكام المسلمين عليهم و هم عنده أخبث الكفّار و اهل الدرك الأسفل من النار استدراجا لهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنع المخادعين فتكون المخادعة بين الاثنين.

ص: 67

«وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ» النفس ذات الشي ء و حقيقته أى ان ضرر مخادعهتم راجع إليهم لا يتخطاهم الى غيرهم و ما يضرون بذلك الّا أنفسهم فيستوجبون بذلك النفاق العقاب في العقبى و في الحديث يؤمر بنفر من الناس يوم القيمة الى الجنة حتى إذا دنوا منها و استنشقوا رائحتها و نظروا الى قصور الجنة و الى ما اعدّ اللّه تعالى لأهلها نودوا ان اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بندامة و حسرة ما رجع الأولون و الآخرون بمثلها فيقولون يا ربّنا لو أدخلتنا النار قبل ان ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك فيقول ذلك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بي بارزتمونى بالمعاصي فإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين و تظهرون خلاف ما تنطوى قلوبكم عليه هبتم الدنيا و لم تهابونى، اجللتم النّاس و لم تجلّلونى، فاليوم اذيقكم اليم عذابي. قال اللّه لعيسى يا عيسى: ليكن لسانك في السر و العلانية واحدا و كذلك قلبك، و عن الصّادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه: ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق انتهى. و المنافق قسم معادل للمشرك حيث قال: «وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ» بل اشدّ عذابا لأنّهم في الدرك الأسفل من النار.

«وَ ما يَشْعُرُونَ» حال من ضمير يخدعون اى ما يحسون بذلك الفعل القبيح لتماديهم في الغواية و نزّلهم منزلة الجمادات و حطّهم من منزلة البهائم حيث سلب عنهم الحسّ الحيواني. اعلم انّ كل واحد نوع من الموجودات له كمال خاص و فعل لا يشاركه فيه غيره من حيث هو ذلك الشي ء بمعنى انّه لا يجوز ان يكون موجود آخر سواه يصلح لذلك نوعا، و هذا حكم مستمر في الأمور العلويّة و السفليّة كالشمس و الكواكب و كأنواع الحيوان و كأنواع النبات و المعادن و كالعناصر، إذا تقرر هذا فاذن نوع الإنسان له كمال و فعل خاص به لا يشاركه فيه غيره و هو ما يصدر عن قوّته المميّزة، فكل من كان تميزه و اختياره أفضل كان أكمل في انسانيته لأنّ أفضل السيوف ما كان امضى، فمن كان اقدر على فعله الخاص به و اشدّ تمسكا بشرائط جوهره الذي تميّز به عن الموجودات كان أكمل، فانّ الفرس إذا قصّر عن كماله و لم تظهر أفعاله الخاصّة به و هو العد و حطّ عن مرتبة الفرسيّة و استعمل بالإكاف كما يستعمل للحمير، فإذا قصّر الإنسان عن أفعاله

ص: 68

التي خلق لها حطّ عن مرتبة الإنسانيّة الى مرتبة البهيميّة، هذا إذا صدرت أفعاله ناقصة غير تامّة، لكن إذا صدر منه افعال ضد ما خلق له يستحق المقت و العذاب و ان دام على الضدّ استحق العذاب الدائم كما إذا دام على فعل ما خلق له استحق النعيم الدائم، و سعادة كل موجود انّما هي صدور أفعاله التي تخصّ صورته عنه تامّة كاملة فسعادة الإنسان تكون في صدور أفعاله التي خصّ بها و خلق لأجلها بحسب تميّزه و رويّته و ان كان لهذه الرويّة و المروي فيه تفاوت، فأفضل الرويّة ما كان في أفضل مروي ثم ينزل رتبة فرتبة الى ان ينتهى الى النظر في الأمور الممكنة من العالم الطبيعي و الحسّي فيكون الناظر في هذه الأشياء اعرض عن خاصّته التي بها صار إنسانا و سعيدا و اقبل في أشياء دنيّة لا فائدة له بها و استعمل نظره و فكره فيما لم يخلق لأجله فتنزل عن درجته فإذا اشتغل بالشهوات صار في زمرة البهايم و إذا اشتغل في الفتنة و الفساد صار في زمرة المؤذيات و السباع، و إذا تعطل صار في زمرة الجمادات و هكذا الى ان تفنى خاصّته و دخل في خاصّة غيره على حسب اعماله و اختياره.

و اعلم انّ الحكماء الإلهي و علماء الأخلاق اجمعوا على انّ اصول أجناس الفضائل اربع و هي الحكمة و العفّة و الشجاعة و العدالة و يتنوع منها فروع كما انّ اصول أجناس الفضائل اربع و يتنوع منها فروع و هي الجهل و الشره و الجبن و الجور و هي أضداد الاربعة الاولى لكن اشخاص الأنواع من الطرفين بلا نهاية. أما الحكمة فهي فضيلة النفس الناطقة المميّزة و هي ان يعلم الموجودات من حيث هي موجودة و ثمرة علمه ان يعرف ايّها يجب ان يفعل و ايّها يجب ان يترك و امّا العفّة فهي فضيلة الحسّ الشهواني و ثمرة هذه الفضيلة ان يصرف شهواته بحسب النظر حتى لا ينقاد لها و يكون غير متعبّد لشي ء من شهواته الضارّة حتى يصير حرّا مالكا لا مملوكا، و أمّا الشجاعة فهي فضيلة النفس الغضبيّة فيستعمل ما يوجب الرأى الحاذق و لا يخاف من الأمور الهائلة المفزعة إذا كان فعلها جميلا و تحمّلها محمودا، و امّا العدالة فهي فضيلة للنفس و يحدث للنفس بعد اجتماع هذه الفضائل الثلاث المذكورة فيحدث للإنسان بالعدالة سمة يختار بها دائما الإنصاف من نفسه على نفسه اوّلا ثم الإنصاف و الانتصاف من غيره و الفضائل التي من فروع أجناس الأربع كثيرة مثل الفروع

ص: 69

التي تحت العفّة، الحياء و الصبر و القناعة و الدماثة و معنى الدماثة حسن انقياد النفس و تبرعها في الجميل و كذلك من فروع العفّة الانتظام و معناه حال للنفس تقودها الى تقدير الأمور، منها حسن الهدى و هو تكميل النفس بالزينة الحسنة، و من فروع العفة الورع و الوقار و هي لا تعدو كذلك فروع الرذائل الأربع كثيرة، و هي اجمالا ما يضاد الفضائل الأربع لأنّه يفهم من كلّ واحدة من الفضائل الأربع، و فروعها ما يقابلها مثل انّ الجهل يقابل العلم و الوقاحة يقابل الحياء الى ما لا يتناهى.

[سورة البقرة (2): آية 10]

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)

المراد بالمرض في الآية الشك و النفاق و انّما سمّى الشك و النفاق مرضا لأنّ المرض هو الخروج عن حدّ الاعتدال فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا و كذلك القلب ما لم يصبه آفة من الريب يكون صحيحا، و المراد انّه في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في توحيد اللّه و رسالة رسوله مرض، و زاد يجي ء متعدّيا كما في هذه الآية، و لازما كما في قوله: «وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» فالمرض حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال و مجاز في الاعراض النفسانيّة التي يخلّ بكمالها كالجهل و سوء العقيدة و الحسد و حبّ المعاصي من فنون الفسق و الكفر المؤدّى الى الهلاك الروحاني، و زوال الحيوة الابديّة و كانت قلوب المنافقين متألّمة تحرقا على ما فات عنهم من الرياسة، و حسدا على ما يرون من اثبات امر الرسول و استعلاء شأنه يوما فيوما فزاد اللّه غمّهم بما زاد في إعلاء امره فزاد المرض بأن طبع على قلوبهم لعلمه بأنّه لا يؤثّر فيها التذكير و الإنذار و بازدياد التكاليف الشرعية و تكرير الوحى و تضاعف النصر لأنّهم كلّما ازداد التكاليف بنزول الوحى يزدادون كفرا و يشقّ عليهم التكلّم بالشهادة حقيقة، و ازدادوا بذلك اضطرابا و امتناعا، و ازدادوا بذلك في الآخرة عذابا على عذاب كما قال سبحانه «زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ و لهم في الآخرة عذاب اليم» يصل ألمه الى القلوب.

«بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» بسبب كذبهم المستمر، او بمقابلة كذبهم الدائم، و هو قولهم، آمنّا؛ و الكذب من قبايح الذنوب، و فواحش العيوب، لا سيّما الكذب في الدين، و رأس كلّ معصية، به يتكدّر القلوب، و انّه ابغض الأخلاق و مجانب للايمان، بمعنى انّ

ص: 70

الايمان في جانب، و الكذب في جانب آخر مقابل له. و في الحديث: ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار، و بالجملة فقبح الكذب و حسن الصدق ضروريتان مطلقتان. انظر الى الصبح الكاذب طالما قتل القوافل و الصبح الصادق ظهر به تباشير الهداية و النور لأهل المراحل، فلا تكدّر جوهر النفس بترك الفضائل فضلا عن ارتكاب الرذائل و يكون أول تجريد افعال النفس ان ترفعها عن رتبة الأخس التي يستحق بها المقت من اللّه و العذاب الأليم ثمّ تكميلها بالعلوم الشريفة الاولى فالاولى، فانّ كسب الفضائل كالصناعات في مراتب الشرف فانّ في الصناعات ما هو اشرف و ما هو أدون كصناعة الطب و صناعة الدباغة التي يستصلح بها جلود البهائم، و السيف الصمصام، غير السيف الكهّام و اعلم ان وجود الجوهر الإنساني بقدرة فاعله و خالقه تعالى، فأمّا تجويد جوهره ففوض الى الإنسان ليستعمل قوتيه اعنى العالمة و العاملة فيما خلقا له، فيختار الأشرف فالأشرف في العالمة، و هو العلم بمعرفة خالقه، و كذلك العاملة لخدمة مولاه حيث انّه عبد؛ و ما خلقت الجنّ و الانس إلّا ليعبدون؛ و لا يهمل دقيقة و لا ساعة من عمره هاتين القوّتين، و لما كان هذا الإنسان مركّب و محتاج الى امور يتعيّش بها فلا بدّ ان يصرف بعض قواه العاملة لمعاشه بقدر ما يتوقف معاشه عليه و الزائد علية تفريط للنعمة و تفويت للسعادة الانسانيّة التي خلقه اللّه لها. و اعلم ان الإنسان من بين جميع الحيوان انسيّ الطبع لا يكتفى بنفسه في تكميل ذاته و لا بدّ له من معاونة قوم كثيري العدد حتى يجرى امره على السداد، و لهذا قال الحكماء، انّ الإنسان مدنيّ بالطبع؛ و كلّ انسان بالطبع و بالضرورة يحتاج الى غيره، و لا بدّ ان يعاشر الناس بقدر الضرورة لاحتياجه و لأنّهم يكملون ذاته و يتمّمون انسانيّته، و هو أيضا يفعل بهم مثل ذلك، فإذا كان الأمر كذلك كيف يؤثر الإنسان التفرّد و التخلّى بملازمة المغارات و الكهوف او الإسكان في الصوامع او التعيش الصعب في المفاوز و يمنع نفسه عن درك هذه الفضائل، و لذا قيل كن بين الناس و لا تكن مع الناس، و النهي بسبب ان الشرور فيهم غالبة على الخير لكن بالانفراد لا تظهر أفعاله الخاصّة و صار بمنزلة الجماد، و ليست الفضائل اعداما بل هي اعمال و افعال و هي تظهر عند مشاركة الناس و مساكنتهم من ضروب الاجتماعات لأنّ العفّة مثلا

ص: 71

او الحياء او الصبر أو السخاوة او الحلم و أمثالها كيف يتحقّق وجودها من دون ان يكون الإنسان متعاشرا في أمثاله؟ و بئس العادة الجهل، و الخلق حال للنفس داعية لها الى افعالها من غير فكر و رويّة، و هذه الحالة تنقسم الى قسمين، منها ما يكون طبيعيا من اصل المزاج كالإنسان الذي يحرّكه ادنى شي ء نحو غضب و يهيّج من أقلّ سبب او يجبن من السير شي ء او يرتاع من خبر يسمعه او يغتم و يحزن من أيسر شي ء يناله. و منها ما يكون مستفادا بالعادة أولا فأولا حتى يصير ملكة و خلقا. و اختلف الناس فقال بعضهم من كان له خلق طبيعيّ لم ينتقل عنه، و قال آخرون ليس شي ء من الأخلاق طبيعيّا للإنسان بل تنتقل بالتأديب امّا سريعا او بطيئا، و هو المختار لأنّا نشاهد خلافه عيلنا و لأنّ القول الأوّل يؤدّى الى ابطال قوّة العاقلة و الى رفض السياسات و ترك الناس همجا مهملين، و هذا ظاهر الشناعة، و الرواقيّون قالوا انّ الناس كلّهم يخلقون أخيارا بالطبع ثم بعد ذلك يصيرون اشرارا بمجالسة اهل الشرّ و الميل الى الشهوات الرديئة التي لا تقمع بالتأديب، و امّا قوم آخرون قبل الرواقيين قالوا: انّ الناس خلقوا من الطينة السفلى و هي كدر العالم فهم لأجل ذلك اشرار بالطبع و انّما يصيرون أخيارا بالتأديب إلّا انّ فيهم من هو في غاية الشرّ لا يصلحه التأديب، و فيهم من ليس هو في غاية الشرّ فيمكن ان ينتقل من الشرّ الى الخير بالتأديب، و امّا جالينوس قال انّ النّاس من هو خيّر بالطبع و فيهم من هو شرير بالطبع و فيهم من هو متوسّط بين هذين و أفسد المذهبين الأوّلين و اثبت مذهبه بأن قال انّا نرى من النّاس من هو خيّر بالطبع و هم قليلون و ليس ينتقل هؤلاء الى الشرّ و منهم من هو شرير بالطبع و هم كثيرون و ليس ينتقل هؤلاء الى الخير، و منهم من هو متوسّط بين هذين و هؤلاء قد ينتقلون بمصاحبة الأخيار الى الخير و قد ينتقلون بمصاحبة الأشرار الى الشرّ.

أقول انّ في كلام جالينوس نظرا بأن يكون من الناس شرير بالطبع لأنّه لو صح هذا لكان التكليف عليهم عبثا و لغوا، فانّهم يكونون بطبعهم خارجين عن حدّ تعلّق سياسة اللّه إليهم فانّ أحدا لا يروم ان يغير حركة النار التي الى فوق بأن يعودها الحركة الى أسفل، و لا ان يعود الحجر حركة العلو و لو رامه ما صحّ له، و بهذا البيان ثبت منع

ص: 72

الشرير بالطبع، و صحّ التوسط بينهما، فحينئذ الإنسان قابل الأخلاق في الخير و الشرّ، فليتخلّق بأخلاق اللّه و سياسته التي بيّنها في الكتاب على السنة أنبيائه، فأبواب هذه السياسة متابعة الكتاب كما انّ أبواب الشرّ مخالفة الكتاب و السنة، و بالمتابعة يظهر جوهر الإنسان و اسم الإنسان و ان كان يطلق على الطرفين من هذا الباب لكن البون بينهما كبون الاضداد. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس شي ء خيرا من ألف مثله إلّا الإنسان، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة واحدة و لم أر أمثال الرجال تفاوتا الى المجد حتى عدّ ألف بواحد. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وزنت بامّتى فرجحت بهم و لذا قال سبحانه (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) مع انّه سلام اللّه عليه واحد فكن الفا و لا تكن واحدا.

[سورة البقرة (2): آية 11]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)

اى و إذا قال المسلمون لهؤلاء المنافقين هذا القول و هو قولهم لا تفسدوا في الأرض. و الفساد خروج الشي ء عن الصلاح، و الفساد في الأرض تهيّج الحروب و الفتن المتتبّعة لزوال الاستقامة في احوال العباد و اختلال النظام و المعاش و المعاد و المراد ما نهوا عنه من افشاء امر المسلمين و أسرارهم الى الكفّار.

«قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ». جواب لإذا و ردّ للناصح انّ شأننا الإصلاح و حالنا متمحّضة عن شوائب الفساد، الا تنبيه اى اعلموا ايّها المؤمنون

[سورة البقرة (2): آية 12]

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)

أثبت سبحانه لهم ما نفوه و نفى عنهم ما أثبتوه اى هم مقصورون على الفساد لأنفسهم بالكفر و للناس بالتعويق عن الايمان «وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ» و لا يحسّون فيدركون الصلاح عن الفساد فيفسدون صلاح آخرتهم بإصلاح دنياهم، و لا شعور لهم.

[سورة البقرة (2): آية 13]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)

من طرف المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف آمِنُوا حذف المؤمن به لظهوره اى «آمنوا بالله و باليوم الآخر كما أمن الناس» إيمانا مماثلا لإيمانهم، و اللام في النّاس للجنس و المراد به الكاملون في الانسانيّة، العاملون بعطيّة العقل او للعهد، و المراد به الرسول و من معه.

ص: 73

«قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ» الهمزة للإنكار، و انّما نسبوهم الى السفاهة مع انهم في الغاية من الرشد و الرزانة و العقل لكمال انهماكهم في الغواية، فمن حسب الضلال هدى فسمّى الهدى لا محالة ضلالا، و كان حينئذ كثير من المؤمنين فقراء صعاليك، و منهم موالي كصهيب و بلال و أمثالهم. فان قيل كيف يصحّ النفاق مع المجاهرة بقولهم، أ نؤمن كما آمن السفهاء؛ فالجواب انّ المنافقين كانوا يتكلّمون بهذا الكلام في أنفسهم سرّا، دون ان ينطقوا به جهرا، لكن هتك اللّه استارهم، و اظهر أسرارهم، و كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فردّ اللّه عليهم هذا القول بقوله:

«أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ» و الآية تنبيه، و ردّ، و مبالغة في تسفيههم و تجهيلهم، فانّ الجاهل بجهله، الجازم على ما هو الواقع أعظم ضلالة و أتم جهالة من المتوقف، فانّه ربّما ينفعه الآيات و النذر، و قوله لا يعلمون، بيان على أن ذلك الجهل لازم لهم، لعدم علمهم بجهلهم، و ذلك لعدم تعقلهم بما ينفعهم و ما يضرّهم، فان العلم تابع للعقل، و بئس العادة و الخلق الجهل. روى انّه لما خلق آدم أتى اليه جبرئيل بثلاث تحف: العلم و الحياء و العقل، فقال يا آدم اختر من هذه الثلاث ما تريد فاختار العقل فأشار جبرئيل الى العلم و الحياء بالرجوع الى مقرّ هما فقالا انّا كنّا في عالم الأرواح مجتمعين فلا نرضى ان يفترق بعضنا عن بعض في الأشباح ايضا فنتبع العقل حيث كان فقال جبرئيل عليه السّلام استقرّا فاستقر العقل في الدماغ و العلم في القلب و الحياء في العين فليسارع العاقل الى تحصيل العلم و المعرفة، و للعقل نجوم و هي للشيطان رجوم و للعلوم أقمار و للقلوب أنوار و استبصار، و للمعارف شموس و لها في قلوب المتقين طلوع، و للعاملين بالتقوى مشارق ليس لها مغارب، فالعلم بلا عمل يتيم، و العمل بلا علم سقيم، و هما معا صراط مستقيم. في الكافي عن السجاد عليه السّلام قال: انّ المنافق ينهى و لا ينتهى، و يأمر بما لا يأتي، و إذا قام الى الصلاة اعترض، قلت يا بن رسول اللّه و ما الاعتراض قال الالتفات و إذا رمض يمسي و همّه العشاء و هو مقطر و يصبح و همّه النوم و لم يسهر، ان حدّثك كذبك و ان ائتمنت خانك و ان غبت اغتابك و ان وعدك أخلفك

[سورة البقرة (2): آية 14]

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)

روى انّ عبد اللّه بن ابي و أصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم

ص: 74

نفر من الصحابة فقال ابن ابى انظروا كيف اردّ هذه السفهاء عنكم فلمّا دنوا منهم أخذ عبد اللّه بيد على بن أبي طالب فقال مرحبا بابن عمّ رسول اللّه و ختنه و سيّد بنى هاشم ما خلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال على عليه السّلام يا عبد اللّه اتق اللّه و لا تنافق فانّ المنافقين شرّ خلق اللّه فقال له عبد اللّه مهلا يا أبا الحسن انّى تقول هذا و اللّه انّ أيماننا كايمانكم و تصديقنا كتصديقكم ثمّ افترقوا فقال ابن ابىّ لأصحابه كيف رأيتمونى فعلت فإذا رأيتموهم فافعلوا ما فعلت فاثنوا عليه خيرا و قالوا ما نزال بخير ما دمت فينا فنزلت الآية المعنى ساق القصة في تمهيد نفاقهم و بيان مذهبهم و معاملتهم مع المؤمنين بأن يظهرون معهم الايمان و إذا اجتمعوا في الخلوة، و الى في الآية بمعنى الباء او مع مثل خلوت بفلان و اليه إذا انفردت معه و المراد من شياطينهم المشاركون في النفاق و التمرّد و كل عات متمرّد فهو شيطان و قيل المراد من شياطينهم كهنتهم في بنى قريضة كعب ابن الأشرف و في جهينة عبد الدار و في بني اسد عوف ابن عامر و في الشام عبد اللّه بن سوداء و كانت العرب تزعم فيهم انهم مطلعون على الغيب و يداوون المرضى و يعرفون الأسرار و ليس من كاهن الّا و عند العرب انّ معه شيطانا «قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ» موافقوكم على اعتقادكم و دينكم و لا يفارقكم في حال من الأحوال و كأنّه قيل لهم عند قولهم انّا معكم فما بالكم يوافقون المؤمنين بكلمة الشهادة و الحضور في جماعاتهم و مساجدهم فقالوا انّما نحن في اظهار الايمان عندهم مستهزؤن بهم و انّما نكون معهم ظاهرا لنشاركهم في غنائمهم و ننكح بناتهم و نحفظ أموالنا و نسائنا من أيديهم

[سورة البقرة (2): آية 15]

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

فرد اللّه عليهم بقوله:

: اى يجازيهم على استهزائهم و يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم او يعاملهم معاملة المستهزئ بهم في الآخرة كما أشرنا اليه سابقا يروى انّه يفتح لهم باب الى الجنة و هم في جهنم فيسرعون نحوه فإذا وصلوا اليه سدّ عليهم و ردّوا الى جهنم و المؤمنون على الأرائك في الجنة ينظرون إليهم فيضحكون منهم كما ضحكوا من المؤمنين في الدنيا فذلك بمقابلة هذا، و يفعل بهم ذلك مرّة بعد مرّة، و يمدهم اى يزيدهم من

ص: 75

مدّ الجيش و امدّه إذا زاده، و المدّ الجذب، لأنّه سبب الزيادة في الطول و المادة، كلشي ء يكون مددا لغيره و قيل كلشي ء حدثت زيادته في نفسه فهو مدد بغير ألف و كل زيادة أحدثت في الشي ء من غيره فهو امده و يمدّهم في طغيانهم قيل معناه يملى لهم ليؤمنوا و هم معذلك متمسكون بطغيانهم و عمههم و العمه في البصيرة كالعمى في البصر و هو التحيّر و قيل المعنى يدعهم و يتركهم من فوائده و منحه التي يكرم المؤمنين ثوابا لهم و يمنعها الكافرين عقابا كشرح الصدور و تنوير القلب فهم في ضلالهم يتحيّرون و ذلك بسبب انهم اعرضوا عن الحق

[سورة البقرة (2): آية 16]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)

أولئك المنافقون الموصوفون الذين اشتروا الضلالة و هي الكفر و النفاق بالهدى و هو الايمان و قبول القرآن و استبدلوها به فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فاسناد التجارة الى مثل هذا الأمر على الاتساع و لمشابهتها ايّاه من حيث انّها سبب الربح و الخسارة و التاجر الرابح من اتفق له في الصبا ان يربى على ادب الشريعة و أخذ بوظائفها حتى تعودها فقد بلغ مراتب الانسانيّة فليكثر حمد اللّه على هذه الموهبة العظيمة و من لم يتفق له ذلك في مبدأ نشوه و ابتلى بمعاشرة اهل الخلاعة و المجون و رواية الشعر الفاحش و نيل اللذّات مثل اشعار امرئ القيس و النابغة و مال طبعه الى التغزّل و التعشّق فقد أدركه الشقاء و الخسران فما ربحت تجارته و مهما تنبّه و هيهات فليجتهد على التدريج الى نظام نفسه منها ممّا لا يدرك كلّه لا يترك بعضه فإن فاته الربح فلا يفوته رأس المال و ادخل السّفينة قبل ان تغرق.

«وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ» الى طريق التجارة لأنّه قد فات منهم الربح و رأس المال لأنّهم اكتسبوا من طول العمر خذلانا و من كثرة الأموال و الأولاد حرمانا قال اللّه سبحانه لحبيبه ليلة المعراج انّ من نعمتي على امّتك انّى قصّرت أعمارهم كيلا تكثر ذنوبهم و أقللت أموالهم كيلا يشتدّ في القيمة حسابهم و أخرت زمانهم كيلا يطول في القبور حبسهم قال بعض علماء الأخلاق ينبغي للسالك ان يتحفّظ رأس ماله ثم يطلب الربح حتى إذا فاته الربح في صفقة فربما يتداركه في صفقة اخرى لبقاء الأصل حكى انّه كان للشيخ أبى علي الدقاق مريد تاجر متمول فمرض يوما فعاده الشيخ و سأل منه سبب علّته فقال

ص: 76

التاجر اشتغلت نهاري في التجارة حتى تعبت فقمت هذه الليلة لمصلحة التهجد فلمّا أردت الوضوء بدء لي من ظهري حرارة فاشتد امرى حتّى صرت محموما فقال الشيخ لا تفعل فعلا فضوليا و لا ينفعك التهجد ما دمت لم تهجر دنياك و تخرج محبتها من قلبك و تحرص عليها فاللائق لك أولا هو ذاك ثم الاشتغال بوظائف النوافل فمن كان به أذى من صداع لا يسكن ألمه بالطلاء على الرجل و من تنجست يده لا يجد الطهارة بغسل ذيله و كمّه و من علامة اتّباع الهوى المسارعة الى نوافل الخيرات و التكاسل عن القيام بالواجبات ترى الواحد منهم يقوم بالأوراد الكثيرة و النّوافل الثقيلة و لا يقوم بفرض واحد على وجهه.

و في قوله تعالى وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ صنعة الإيغال فانّ الإيغال في اصطلاح البديعين ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها فانّ في قوله أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم تم المعنى و أفاد بقوله و ما كانوا مهتدين مبالغة في ضلالتهم لأنّ المطلوب في تجارتهم سلامة رأس المال و حصول الربح و ربما تضيع الطلبتان و يبقى لهم معرفة التصرف في طريق التجارة فبيّن هذه النكتة انّهم ضلّوا الطريق، و ليس لهم طريق و معرفة في التجارة بعده أبدا، فتاجروا مع اللّه، بالأعمال الصالحة، و الصدقات، و اطلب التجافي عن دار الغرور؛ و اقرع باب الاستغفار و الاعتذار، و دع المباهات و الافتخار و لا يغرّك عزّك في دنياك، و اقبال ايّامك، فانّ الإقبال مقلوب لا بقاء، فبموتك يذهب الذهب، و الغناء عناء، و الدرهم همّ، و الدينار نار، بل لا تضيع عمرك في تحصيل العلوم الفضول، فاقنع من العلوم بقدر حاجتك للعمل، فان النحو محو، و النجوم رجوم و الرياضي رياضة، و الفلسفة فلّ و سفه، و العلم النافع، علم القرآن و الحديث، و هما اصول الشريعة و قانون الطريقة، كل العلوم سوى القرآن مشغلة غير الحديث، و إلّا الفقه في الدين، العلم ما كان فيه قال حدثنا و ما سوى ذاك وسواس الشياطين.

[سورة البقرة (2): آية 17]

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)

: اى مثل هؤلاء المنافقين لمّا أظهروا الايمان و ابطنوا الكفر كمثل الذي أوقد نارا، و اصل المثل بمعنى النظير، ثم قيل للقول الناشر

ص: 77

و استعير لكل حال أو قصّة أو صفة لها شأن عجيب و غرابة، كقوله، و للّه المثل الأعلى اى الوصف الذي له شأن من العظمة و الجلال، و التمثل الطف ذريعة الى تفهيم الجاهل و يجعل المعقول محسوسا، و الخفي جليّا، و لذا اكثر اللّه في كتبه الأمثال، و في الإنجيل سورة تسمّى سورة الأمثال، قيل و في القرآن قريب من ألف آية من الأمثال و العبر، اعلم ان التمثيل الطف ذريعة الى تفهيم الجاهل الغبي، و قمع سورة الجامح الابى كيف لا، و هو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، و إبراز لها في معرض المحسوسات و كان من عادة الأنبياء و الرسل، بيان الحكم في بعض المقامات بالأمثال، و تصوير الحقائق الغامضة العقلية، بكسوة الامثلة الحسيّة، و ذلك لأنّ اكثر الناس يغلب عليهم الجهة الحسيّة؛ قال ابراهيم النظام، في المثل، اربع خصال، لا يجتمع في غيره من الكلام، إيجاز اللفظ، و أصابة المعنى، و حسن التنبيه، وجودة الكناية، ثمّ اعلم، انّ الأمثال، تتفاوت في الدرجات، نازلة مثلا ما بعوضة فما فوقها، و صاعدة حتى ينتهى الى آل محمد صلوات اللّه عليهم، كما في فقرة الزيارة الجامعة، و المثل الأعلى، و ليس فوقهم مثل، و قد ضرب اللّه الأمثال، في السور، لهذه الحكمة، في البقرة، و آل عمران، و الانعام، و الأعراف و يونس، و هود، و الرعد، و ابراهيم، و النحل، و بنى إسرائيل، و الكهف، و الحجّ، و النور، و الفرقان، و العنكبوت، و الروم، و يس، و الزمر، و زخرف، و محمد، و الفتح، و الحديد، و الحشر، و الجمعة، و التحريم، و المدّثّر، و غيرها، و التشبيه باعتبار المشبّه و المشبّه به، على اربعة اقسام.

الاول يقال له التشبيه الملفوف، و هو ان يؤتى على طريق العطف بالمشبهات أولا، ثم تمّ بالمشبه بها، يقول امرء القيس،

كان قلوب الطير رطبا و يابسالدى و كرها العناب و الحشف البالي

و الثاني يقال له التشبيه المفروق، و هو ان يؤتى بمشبّه، و مشبّه به ثمّ آخر و آخر، كقول المرقش، يصف النساء:

النشر مسك و الوجوه دنانيرو أطراف الأكف عنم

الثالث التسوية، و هو ان يتعدد المشبه دون المشبّه به، كقول الشاعر:

ص: 78

صدغ

الحبيب و حالي كلاهما كاللئالي و ثغره في صفاء و ادمعى كاللئالى

و الرابع المجمع، و هو ان يتعدّد المشبّه به دون المشبّه، كقول البختري.

كأنّما يبسم عن لؤلؤمنضّد او برد او اقاح

و قد مثّل اللّه حال المنافقين، في سورة البقرة، كمثل الذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم و تركهم في ظلمات لا يبصرون: ثم انه لزيادة التوضيح مثّل مثالا آخر: فقال او كصيّب من السماء فيه ظلمات و رعد و برق: فقوله او كصيب او هاهنا للاباحة، نحو جالس الفقهاء او المحدثين، يعنى كلا الفريقين اهل ان تجالس، كصيّب، اى كاصحاب مطر منزل من السماء، و تنكر الصيّب أريد به نوع تهويل شديد، كالنار في التمثيل الاول، فالمعنى مثل هؤلاء المنافقين، في جهلهم كاصحاب مطر منزل عليهم من السحاب، في هذا المطر ظلمات، لأنّ السحاب يغشى الشمس بالنهار، و النجوم باللّيل، فيظلم الجو، و رعد و برق، فحاصل المعنى، انّ اللّه شبّه حالهم، في حيرتهم، بحال من أخذته السماء، في ليلة مظلمة، مع هذه الأحوال، من الرعد و البرق و خوف من الصواعق، فكلّما دعوا الى خير و غنيمة، اسرعوا لطلب النفع، كما انّ أولئك كلّما أضاء لهم البرق مشوا بضوء البرق لكن إذا وردت شدّة على المسلمين، مثل يوم احد و قفوا و تحيّروا لكفرهم، كما وقف أولئك في الظلمات متحيّرين، تأمّل في هذا التمثيل، كيف جمع بيانا شافيا واضحا مفيدا، يتعقله كل جاهل، و يفهم منه معان كثيرة، دون اطناب، مع وضوح المقصود المعنّى به، و هذا التشبيه، من القسم الثالث، من الأقسام الاربعة، لأنّ القسم الثالث، هو ان يتعدد المشبه، دون المشبه به انتهى. و قد يحذف آلة التشبيه، لأنّه يستنبط التشبيه، من الكلام، مثاله في القرآن، قوله تعالى: أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً: فانّه مثل الاغتياب بأكل الإنسان، لحم انسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك، حتى جعله لحم الأخ، ثم لم يقتصر عليه حتى جعله ميتا، ثم جعل ما هو في غاية الكراهة، ففيه اربع دلالات، و فيه لطف آخر فانّه تعالى جعل المغتاب بمعنى المفعول، بمنزلة الميت، لأنه كما لا يقدر الميت، الدفاع من السّوء عن نفسه، كذلك حال الغائب الذي اغتيب، لا يعلم حتى يدفع عن نفسه ذكر السوء.

ص: 79

«اسْتَوْقَدَ ناراً»: الاستيقاد طلب سطوع النار، و ارتفاع لهبها، و المعنى أوقد في مفازة في ليلة ظلماء، «فَلَمَّا أَضاءَتْ»: الاضائة فرط الإنارة، «ما حَوْلَهُ»: أى حول المستوقد من الأماكن و الأشياء، و اصل الحول، الدوران، و منه الحول للعام، لأنّه يدور، و جواب لمّا «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» اى اذهب و اطفأ نارهم التي هي مدار نورهم وضوئهم «وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ»: بحيث لا يبقى من النور عين و لا اثر اى صيّرهم في ظلمات لا يبصرون ما حولهم فانّ المنافقين أظهروا كلمة الايمان غدرا و مكرا، فاستناروا بنورها، و استعزوا بعزّها، فناكحوا المسلمين، و اورثوهم، و قاسموهم الغنائم، و أمنوا على أموالهم و أولادهم، فإذا بلغوا آخر العمر، كلّ لسانهم عنها و حرموا من فائدتها، و بقوا في ظلمة النفاق و الكفر و سخط اللّه، و عادوا الى الخوف و الظلمة

[سورة البقرة (2): آية 18]

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)

: اى هم صم عن الحق لا يسمعونه، كأنه انسدت خروق مسامعهم، بكم، خرس، لا يقولونه، كأنّهم لا يتمكّنون ان ينطقوا به، مثل من به آفة في لسانه، «عُمْيٌ» فاقدوا الأبصار عن النظر، و هم في الآخرة يعاقبون بجنسها؛ قال اللّه «وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا» لا يسمعون سلام اللّه، و لا يخاطبون اللّه، و لا يرون آثار رحمته، و المؤمنون يكرمون يومئذ بخطابه، و لقاء كرامته، و سلامه؛ «فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ» بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة، لا يعودون عن الضلالة الي الهدى و الفطرة السليمة التي فطر النّاس عليها،

[سورة البقرة (2): آية 19]

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)

: مثّل اللّه مثالا آخر، عن حال المنافقين، اى حالهم كحال أصحاب مطر يصوّب و يقع، و صيّب أصله صيوب، على وزن فيعل، فاجتمعت الواو و الياء، و الاولى ساكنة، فقلبت ياء، و أدغمت، مثل سيّد و جيّد، و أو في الآية للتخيير و التساوي، اى كيفيّة قصة المنافقين، شبيهة بهاتين القصتين، فان مثلت بأحدهما، او بهما جميعا، فأنت مصيب، و أو، يكون بمعنى الواو أوجه، مثل قوله تعالى: «أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ» قال الشاعر:

ص: 80

و قد زعمت ليلى بأنّي فاجرلنفسي تقاها او عليها فجورها

«مِنَ السَّماءِ»: يتعلّق بصيّب، و الصيّب ليس بعاقل، و لا يعطف غير العاقل على العاقل، فالمراد اصحاب الصيّب المنزل من السماء، قال الامام الرازي: من الناس من قال: المطر انما يتحصل من ارتفاع ابخرة رطبة من الأرض، و من البحار الى الهواء، فينعقد هناك من شدة البرد، ثم ينزل مرة اخرى، و أبطل اللّه ذلك المذهب، بأنّ ذلك الصيب نازل من السماء، و مادته منها، و عن ابن عباس ان تحت العرش بحرا، ينزل منه أرزاق الحيوانات، بوحي اليه، فيمطر ما شاء من سماء الى سماء، حتى ينزل الى سماء الدنيا، و يوحى الى السحاب، ان غربله، فيغربله، فليس من قطرة يقطر إلّا و معها ملك، يضعها موضعها، و لا ينزل من السماء قطرة، إلّا بكيل معلوم، إلّا ما كان من يوم الطوفان، فانه ما نزل بكيل؛ «فِيهِ ظُلُماتٌ»: اى في الصيب، أو في السحاب، فأيّهما أريد، فظلمة المطر تكافئه، و انسجامه بتتابع القطر، و ظلمة لازمة، و هو الغمام، و كذلك ظلمة السحاب، تطبيقه، و انسجامه، و تراكمه، و ظلمة الليل، و لما كان التعلّق بين السحاب، و المطر شديدا، جاز اجراء أحدهما مجرى الآخر، في بعض الاحكام، «وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ»: الرّعد هو صوت قاصف يسمع من السحاب، و البرق هو ما يلمع من السحاب، و المشهور بين الحكماء، انّ الرعد يحدث من اصطكاك اجرام السحاب، بعضها ببعض، او من إقلاع بعضها عن بعض، عند اضطرابها، بسوق الرياح ايّاها سوقا عنيفا، و لا يعتمد على مثل هذه الكلمات، سواء صدرت من حكيم أو غيره، ما لم يوافق الروايات المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام، بل إذا خالف قول الحكيم، بما نطق به الأئمة المعصومون، فذلك ليس بحكمة، و القائل ليس بحكيم، بل هو حجّام قال المورج: الحكمة مأخوذة من حكمة اللجام، لأنّها تضبط الدابة، و لمّا كانت الحكمة تمنع السفه، فلذا سميت حكمة، فلو قيل انّ الحكيم، يؤوّل الحديث، و لا ينكره، فالجواب، ان الضرورة باعثة على التأويل في امور لا يجوز ان يحمل على ظاهر حكمها، لا في كلّ محكم ورد في لسان الشرع، فأرادوا ان يوافقوا معنى أرادوا فأولوه فمثل هذه التأويلات، آخر باب التعطيل، و فتح أول باب الإلحاد، و حكمة المحمدية،

ص: 81

اغنتنا عن كلّ حكمة، و انفع الحكم ما أمرنا به، و هو الزهد في الدنيا، حتى يكون سلامة لنا في أخرتنا، قال عبد المؤمن الأصبهانى، في رسالته الموسومة باطباق الذهب و هي مائة مقاله، عارض بها اطراق الذهب للزمخشري و قد صنع في تمام مقالات المأة، صنعة الاقتباس، قال في المقالة السابعة، طوبى للتقى الحامل الذي سلم من إشارات الأنامل و تبّا لمن قعد في الصوامع ليعرف بالأصابع، و الكامل، كامن متضائل، و الناقص، قصير يتطاول، و العاقل قبعة، و الجاهل طلعة، و الوجاهة فتنة، و الاشتهار محنة، اجعل كنزك في التراب، و سيفك في القراب، و لو علم الجزل، صولة النجار، و عضة المنشار، لما تطاول شبرا، و لا تخايل كبرا، و سيقول البلبل العيقل، يا ليتني كنت غرابا، و يقول الكافر، يا ليتني كنت ترابا، قال اللّه، ليس لك من الأمر، و انّ الأمر كلّه للّه، فلا تختر ما نهاك اللّه، و امتثل ما أمرك اللّه و لا تعتذر بالضرورة، و بالجملة فالصحيح، الذي يعول عليه انّ الرعد صوت ملك السحاب، يزجرها، و هو يسبّح، قال الطبرسي، روى ذلك عن ابن عباس، و مجاهد و هو المروىّ عن أئمتنا عليهم الصلاة و السلام و روى الترمذي، عن ابن عباس في روح البيان، قال أقبلت يهود، الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا أخبرنا عن الرعد، ما هو، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ملك من الملائكة، موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار، تسوقه بها حيث شاء اللّه فقالوا ما هذا الصوت الذي يسمع، قال زجره حتى ينتهى الى حيث امر، فقالوا صدقت فعلى هذا المراد بالرعد، صوت ذلك الملك، لا عينه، و انّه يخور في نقرة إبهام الملك الماء و انّه يسبّح اللّه، لا يبقى ملك في السماء، الّا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل القطر؛ و في الحديث انّ الرعد، صوت ملك، اكبر من الذباب، و أصغر من الزنبور؛ و «بَرْقٌ»: قيل انه مخاريق الملائكة من حديد، يضرب بها السحاب، فينقدح منه النار، عن على سلام اللّه عليه؛ و قيل انّه سوط من نور، يزجر به الملك السحاب، و امّا في مناسبة المثل، قيل وجوه: أحدها انّه شبّه المطر المنزل من السماء بالقرآن، و ما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء، و الوعيد بزواجر القرآن، و من البرق، و الصواعق، ببيانه، و وعيده و الأقرب في بيان التشبيه، ما روى عن ابن مسعود، و جماعة من الصحابة، ان رجلين،

ص: 82

منافقين، من اهل المدينة، هربا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأصابهما المطر الّذى ذكر اللّه في الآية، و رعد و برق و صواعق، فكلما أضاء لهما الصواعق، جعلا أصابعهما في آذانهما، مخافة ان تدخل الصواعق، في آذانهما، فتقتلهما، و إذا لمع البرق، مشيا في لمعه، و إذا لم يلمع لم يبصرا، فندما، و جعلا، يقولان يا ليتنا قد أصبحنا، فنأتي محمدا، فنضع أيدينا، في يده فأصبحا، فاتياه، و أسلما، و حسن إسلامها، فضرب اللّه شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقى المدينة، فان منافقي المدينة، كانوا إذا حضروا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعلوا أصابعهم في آذانهم، فرقا من كلام النبىّ ان ينزل فيهم شي ء، كما كان ذلك الرجلان، يجعلان أصابعهما في آذانهما؛ من الصواعق: جمع صاعقة، و هي الوقع من السحاب، تسقط معه نار محترق، لكنّها مع حدّتها سريعة الخمود، قالوا بين السماء و بين الكلة الرقيقة، التي لا يرى أديم السماء، الّا من ورائها نار منها تكون الصواعق، تخرج النار، فتفتق الكلة و تكون الصوت منها؛ او جرم، ثقيل، مذاب، مفرغ من الاجزاء اللطيفة الارضيّة الصاعدة، المسمّاة دخانا، و المائية المسمّاة بخارا حارّ حاد، في غاية الحدّة و الحرارة، لا تقع على شي ء الّا ثقب و احرق، و نفذ في الأرض حتّى بلغ الماء، فانطفأ و وقف؛ قال ابن عباس، من سمع صوت الرعد فقال، سبحان الذي يسبّح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته و هو على كلشي ء قدير، فان أصابته صاعقة فعليّ ديته، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا سمع الرعد، و صواعقه، يقول، اللهم لا تقتلنا بغضبك و لا تهلكنا بعذابك و عافنا قبل ذلك.

«حَذَرَ الْمَوْتِ» منصوب بيجعلون على العلة اى خوفا من الموت.

«وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ» الاحاطة الإحداق بالشي ء من جميع جهاته و هو مجاز في حقه تعالى اى محدق بعلمه و قدرته لا يفوتونه فيحشرهم يوم القيمة و يعذبهم و الحيل لا ترد بأس اللّه و وضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بانّ ما دهمهم من الأمور الهائلة بسبب كفرهم و التصريح بكفرهم.

[سورة البقرة (2): آية 20]

يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)

الكلام وقع جوابا عن سؤال مقدّر كانّه قيل فكيف حالهم مع ذلك البرق فقيل يكاد

ص: 83

ذلك البرق يختلس و يستلب أبصارهم بسرعة، من شدّة ضوئه، و كاد من أفعال المقاربة و لا يتم بالفاعل، و يحتاج الى خبره، و خبره الفعل المضارع، و يخطف أبصارهم في موضع النصب، و خبر يكاد؛ و كلّما: أصله كلّ، و ضمّ إليه ما الجزاء، و هو منصوب بالظرف، و العامل فيه أضاء: فالمعنى متى ما أضاء البرق لهم؛ مشوا فيه: أى في ذلك المسلك و في مطرح نور البرق، خطوات يسيره.

«وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ»: و خفى البرق، و استتر صار الطريق مظلما، و وقفوا في أماكنهم متحيرين.

«وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ»: اى و لو أراد اللّه ان يذهب الأسماع التي في الرأس، و الأبصار لذهب بها بصوت الرعد و نور البرق عقوبة لهم لأنّه لا يعجز عن ذلك و ذلك مثل قول الشاعر

فلو شئت ان ابكى دما لبكيته عليه و ليكن ساحة الصبر أوسع.

«إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» فاعل له بقدرته و حاصل المعنى إن اللّه شبه حال المنافقين في حيرتهم و ضلالتهم بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد و برق و خوف من الصواعق و الموت فكلّما دعوا الى خير و غنيمة اسرعوا لطلب الخير و النفع كما إنّ أولئك كلّما أضاء لهم البرق مشوا فيه لاهتدائهم الطريق بضوء البرق فكذلك حال المنافقين لكن إذا وردت شدّة على المسلمين مثل يوم احد تحيّروا و وقفوا لكفرهم كما وقف أولئك في الظلمات متحيرين و قيل المراد انّهم إذا آمنوا صار الايمان لهم نورا و مشوا باهتداء نور الايمان فإذا ماتوا عادوا الى ظلمة العقاب لان ايمانهم ليس عن حقيقة.

[سورة البقرة (2): آية 21]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

ياء حرف نداء و اىّ اسم مبهم يقع على أجناس كثيرة و لا يتم الا بان يوصف و صفته تكون باسم الجنس مثل الناس و اىّ منادي مفرد معرفة لأنّه وقع موقع حرف الخطاب و هو الكاف و انما بنى على الحركة مع انّ الأصل في البناء السكون لأنه ليس بغريق في البناء و البناء عارض فيه و حرك بالضمّ لأنّه كان في أصله اىّ بالتنوين فلما سقط التنوين أشبه

ص: 84

قبل و بعد الذي قطع عنه الغاية و الناس مرفوع لأنه صفة لاىّ فتبعه على حركة لفظه و لا يجوز هاهنا النصب و ان كانت الأسماء المنادات المعرفة يجوز في صفاتها النصب و الرفع لان هنا الصفة هو المنادى في الحقيقة و اى وصلة اليه و يدل على ذلك لزومها هاء التنبيه و بالجملة الناس يصلح اسما للمؤمنين و الكافرين و المنافقين و النداء تنبيه الغافلين و تعريف الجاهلين و تهيج المطيعين اعبدوا ربكم يقول للكفار و حدّوا ربكم و للعاصين أطيعوا ربّكم، و للمنافقين أخلصوا معرفة ربكم، و للمطيعين اثبتوا على طاعة ربّكم و اللفظ قابل لهذه الوجوه كلها و هو من جوامع الكلم و العبادة استفراغ الطاقة في استكمال الطاعة.

«الَّذِي خَلَقَكُمْ» صفة تدل على التعظيم و التعليل و الخلق اختراع الشي ء على غير مثال سبق و خلق الذين من قبلكم من الأمم المتقدمة قبل زمانكم و انّ خلق أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» اى لعلّكم تتّقون الحرمات بينكم؛ و تكفون عما حرّم اللّه؛ و هذا كقول القائل: اقبل لعلّك ترشد؛ و إنّه ليس من ذلك على شك و إنّما يريدان يقبل فيرشد. قالوا فائدة إيراد لفظة لعلّ هي: ان لا يحل العبد ابدا محل الّا من المدلّ بعمله، بل يزداد حالا فحالا حرصا على العمل و حذرا من تركه.

و الحاصل انّ لعلّ للترجى و الأطماع؛ و هي من اللّه واجب لأنّه تعالى لا يطمع الّا فيما يفعل و استعمال لعلّ مشعر: بان العامل لا ينبغي ان يغتر بعبادته و عمله، بل يكون ذا خوف و رجاء فعليك في مراقبة الواردات من خزانة الخيال عن كتاب اسعاف الراغبين انّ الشيخ محمّدا بالمواهب الشاذلى رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال النبي له إذا كان لك حاجة فأنذر للطاهرة الخنسية و لو بدرهم يقضى اللّه حاجتك و هي بنت الحسن ابن زيد بن المجتبي عليه السّلام زوجة الإسحاق المؤتمن ابى جعفر الصادق عليه السّلام توفّت بمصر و دفن بها و كانت حفرت قبرها بيدها تنزل فيه و تصلّى و قرئت فيه ستة آلاف ختمه توفت سنة ثمان و مأتين احتضرت و هي صائمة فالتزموها لتفطر فقالت وا عجباه انّى منذ ثلثين اسئل اللّه ان ألقاه و انا صائمة أفطر الآن هذا لا يكون ثم قرئت سورة الانعام الى

ص: 85

ان وصلت لهم دار السلام عند ربهم و ماتت.

[سورة البقرة (2): آية 22]

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

صفة ثانية لربكم، الأرض بساط العالم و بسيطها، روى عن امير المؤمنين انّه قال انّما سمّيت الأرض أرضا لأنها تتأرّض ما في بطنها يعنى تأكل ما فيها و قيل لأنها تتأرض بالحوافر و الاقدام، قال اهل المساحة: انّ بسيطها من حيث يحيط بها البحر الذي يقال له المحيط اربعة و عشرون ألف فرسخ، كل فرسخ ثلاثة أميال، يصير اثنا عشر ألف ذراع و كلّ ذراع ست و ثلاثون إصبعا، كلّ إصبع ست حبّات شعير مصفوفة بطون بعضها الى بعض، فللسودان اثنا عشر ألف فرسخ، و للبيضان ثمانية، و للفرس ثلاثة، و للعرب ألف، كذا نقل صاحب الكتاب الملكوت و سمت وسط الأرض المسكونة حضرة الكعبة، و امّا وسط الأرض كلّها عامرها و خرابها فهو الموضع الذي يسمّى قبّة الأرض، و هو مكان يعتدل فيه الأزمان في الحرّ و البرد، و يستوي الليل و النهار ابدا، لا يزيد أحدهما على الاخر فِراشاً جعلها متوسطة بين الصلابة و اللين، صالحة للتوطن و القعود عليها، و النوم فيها كالبساط المفروش، و ليس من ضرورة ذلك كونها سطحا حقيقيّا، فإنها و ان سلّمنا كرويّتها لكن مع عظم جرمها قابلة للتسطيح و الافتراش، و جعل «السَّماءَ»: و هو ما علاك «بِناءً»: قبّة مضروبة عليكم، و كلّ سماء مطبّقة على الاخرى، مثل القبّة، و السماء الدنيا ملتزمة أطرافها على الأرض كذا نقل في بعض التفاسير كما في تفسير ابى الليث.

«وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» اى مطرا ينحدر من السماء على السحاب و منه على الأرض و لعلّ حكمة نزوله على السحاب بدوا ثم على الأرض لأجل ان يغربله السحاب حتى ينزل على ترتيب التقاطر حسب ما نشاهده.

«فَأَخْرَجَ بِهِ» اى أنبت اللّه بسبب الماء المنزول.

«مِنَ الثَّمَراتِ»: اى المأكولات من الحبوب و الفواكه من الأرض و الشجر.

«رِزْقاً لَكُمْ» و ذلك بانّ أودع في الماء قوّة فاعليّة و في الأرض قوّة منفعلة فتولد

ص: 86

من تفاعلهما اصناف الثمار لتعرفوه بالخالقيّة و الرازقية فتوحدوه.

«فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً»: جمع ند و هو المثل اى أمثالا تعبدونهم كعبادة اللّه، قال ابن عباس لا تقولوا لو لا فلان لأصابني كذا و لو لا كلبنا يصيح على الباب لسرق متاعنا، و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ايّاكم و لو، فانّه من كلام المنافقين، قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا.

«وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»: انّ اللّه هو الذي خلقكم و خلق الأرزاق لكم لتعبدوه و تعرفوه باستحقاقه الوحدانيّة و التفرد، و الآية تفيد انّ الإنسان لا بدّ ان يخلص عمله للّه فقط، و يترك ملاحظة الأغيار.

و اعلم انّ معرفة النفس من اهمّ الأمور فيكون نعرف ما هي، و اىّ شي ء هي، و لاىّ شي ء أوجدت فينا، حتى نستعملها فيما ينبغي، و نمنعها عمّا لا ينبغي، و ما الذي يزكيها فنفلح و ما الذي يدسيها فنخيب، كما قال اللّه قد أفلح من زكّيها و قد خاب من دسّيها، و قد اتضح انّ فينا شي ء ليس بجسم، و لا بجزء من جسم، و لا عرض، بل هو جوهر بسيط غير محسوس بشي ء من الحواس، و له افعال تضاد افعال الأجسام، و لا يشاركها في حال من الأحوال، و الدليل على انّه ليس بجسم و لا عرض، انّ كلّ جسم له صورة ما، فانّه ليس يقبل صورة اخرى، الا بعد مفارقة الصورة الاولى، مثل انّ الجسم إذا كان في صورة و شكل من الأشكال كالتثليث مثلا فليس يقبل شكلا أخر من التربيع و التدوير الا ان يفارقه الشكل الاول و ان بقي فيه شي ء من رسم الصورة الاولى، لم يقبل الصورة الثانية على التمام بل يخلط به الصورتان، و لا يخلص له أحدهما على التمام، و نحن نجد أنفسنا تقبل صور الأشياء كلها على اختلافها من المحسوسات و المعقولات على التمام من غير مفارقة للأولى و لا زوال رسم، بل يبقى الرسم الأول تاما كاملا و تقبل الرسم الثاني ايضا تاما كاملا ثم لا تزال تقبل صورة بعد صورة دائما، و هذه الخاصة مضادة الخواص الأجسام و بهذه العلّة يزداد الإنسان فهما كلما تخرج في العلوم و الآداب، فليست النفس جسما.

و امّا انّها ليست، بعرض لأن العرض في نفسه محمول ابدا، موجود في غيره، لا قوام له بذاته، فثبت ان طباع النفس و جوهرها من غير طباع الجسم و للبدن، و انها أكرم

ص: 87

جوهرا من كل ما في هذا العالم، من الأمور الجسمانية، و النفس و ان كانت تأخذ كثيرا من مبادي العلوم عن الحواس، لكن لها من نفسها مباد أخر، لا تأخذها عن الحواس، و هي المبادي العالية التي تبتنى عليها القياسات الصحيحة المقطوعة الصحة، بل الحواس تخطئ أحيانا مثل حركة السفينة و الشاطئ، لكن النفس العاقلة ترد علي الحواس هذا الحكم، و تغلطه في إدراكه، و تعلم انه ليس كما يراه، و هذا لعلم من ذاتها و جوهرها فهذه فضيلة النفس، و بهذه الفضيلة يدرك الإنسان السعادات، ما لم تتلوث النفس برذائل الشهوات الرديئة الجسمانية، فحينئذ تنقلب هذه الملكة الملكية الى ملكة الشيطانية، و خاب من دسيها.

فالعاقل ينبغي ان يقوى قوة ملكيته، و يضعف قوى بهيميّته، حتى يستدرك من فيض النور المودع فيه، و هو المعبّر بالنفس الناطقة، و بالروح القدسي و بالعقل، لان يستفيد من تلك القوة، السعادة الدائمة، و يبعد عن عالم البهيميّة و الشقاوة الابدية، و لا يحصل هذا الفيض الا إذا كان حريصا في الإطاعة و العبادة، قنوعا في الدنيا، و لم يكن حريصا في المال و زخارف الدنيا، لأن من أحب المال و الدنيا حبا مفرطا فقد هلك هلاك الأبد، و يكون حاله أسوأ من البهيمة، لان البهيمة إذا ماتت و هلكت استراحت، و هو أول عذابه، و معلوم ان حرصه على المال يصده عن استعمال الرأفة و بذل ما يجب، و يضطره الى الخيانة و الكذب و الاختلاق و منع الواجب و الاستقصاء و استجلاب الحبة و الدانق، و ربما يسعى في قتل نفسه، بسبب معارضة خصمه، فليستعمل الإنسان نفسه فيما خلق له، و لا يغير جبلّتها فيكون مستعملا الماء لإيقاد النار، و النار لدفع العطش، قد خسر و دسيها، و كان عليه ان يفلها، و معذلك جعل اللّه لك برحمته الواسعة مندوحة، و هي باب التوبة و الاستغفار، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طوبى لمن وجد في صحيفة عمله يوم القيمة تحت كل ذنب استغفر اللّه، قال الصادق عليه السّلام إذا اكثر العبد الاستغفار رفعت صحيفتة و هي تتلألأ، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يقوم من مجلس و ان خف، حتى يستغفر اللّه خمسا و عشرين مرة، و قال سلام اللّه عليه ان المؤمن ليذكره اللّه الذنب بعد بضعة و عشرين سنة، حتى يستغفر اللّه منه، فيغفر له، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قول لا اله الا اللّه و الاستغفار خير العبادة كما قال اللّه سبحانه فاعلم انه لا اله الا اللّه و استغفر لذنبك لا أقول تنسى طريقة الاستغفار من قول امير المؤمنين، أولها الندم، الثاني العزم على ترك العود،

ص: 88

الثالث أداء حقوق الناس، الرابع اذابة اللحم الذي نبت من الحرام، و ينبت لحم جديد، الخامس أداء فرائض المضيعة، السادس ان تذيق الجسم الم الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، ثم يقول استغفر اللّه.

و في توصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمعاذ يا معاذ انّي محدّثك بحديث ان أنت حفظته نفعك و ان أنت ضيّعته انقطعت حجّتك عند اللّه يا معاذ انّ اللّه خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السّموات و الأرض فجعل لكلّ سماء من السبعة ملكا بوّابا فيصعد عليه الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى له نور كنور الشمس حتّى إذا طلعت به الملائكة إلى السّماء الدنيا زكته و كثرته فيقول الملك الموكّل للحفظة قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا صاحب الغيبة أمرني ربّي ان لا ادع عمل من اغتاب الناس يتجاوزني انه كان يغتاب الناس و كذلك الى السماء الثانية ملك الفخر يردّه و هكذا إلى السّماء الثالثة فيردّه ملك التكبّر و كذلك إلى الرابعة فيردّه ملك العجب و كذلك إلى السماء الخامسة فيردّه ملك الحسد و كذلك الى السماء السادسة فيردّه ملك الرحمة و كذلك الى السماء السابعة بعمله من صلاة و صوم و فقه و اجتهاد و ورع لها دويّ كدويّ النحل وضوء كضوء الشمس معها ثلاثة آلاف ملك فيقول لهم الملك الموكّل بها قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و اقفلوا على قلبه انا احجب عن ربّي كلّ عمل لم يرد به ربّي انّه كان يعمل لغير اللّه انّه أراد به رفعة عند الناس و ذكرا عند العلماء و صيتا في المدائن أمرني ربي ان لا ادع عمله يجاوزني الى غيري و كلّ عمل لم يكن للّه خالصا فهو رياء قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يصعد الحفظة بعمل من زكاة و صوم و صلاة و حج و عمرة و خلق حسن و ذكر للّه و يشيعه ملائكة السموات حتى يقطعون الحجب كلّها الى اللّه عز و جل فيقفون بين يديه ليشهدوا له بالعمل الصالح المخلص للّه فيقول اللّه أنتم الحفظة على عمل عبدي و انا الرقيب على قلبه انّه لم يردني بهذا العمل و أراد به غيري فعليه لعنتي فيقول الملائكة كلّهم عليه لعنتك و لعنتنا فتلعنه السّموات السبع و من فيهنّ قال معاذ قلت يا رسول اللّه كيف لي بالنجاة و الخلوص قال اقتد بي و عليك باليقين و ان كان في عملك تقصير و حافظ على لسانك من الوقيعة اى الغيبة في اخوانك من حملة القرآن و لا تزك نفسك عليهم و لا تدخل

ص: 89

عمل الدنيا بعمل الآخرة و لا تمزق الناس فيمزقك كلاب النار يوم القيمة في النار و لا تراء بعملك الناس.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 23]

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)

اى في شك من القرآن الذي نزلناه على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كونه وحيا منزلا من عند اللّه و التنزيل النزول على سبيل التدريج فاتوا جواب الشرط و هو امر تعجيز «بِسُورَةٍ» و حدّ السورة قطعة من القرآن معلومة الأول و الآخر أقلّها ثلاث آيات و انّما سميت سورة لكونها أقوى من الآية مأخوذة من سورة الأسد اى قوته هذا ان كانت واوها اصلية و ان كانت منقلبة عن همزة فهي مأخوذة من السؤر الذي بقيّة الشي ء فالسورة قطعة مفرزة ما فيه من غيرها.

«مِنْ مِثْلِهِ» اى مثل القرآن في البيان الغريب و المعنى الجامع النافع و علو الطبعة في النظم و التركيب اى ائتوا بمثل ما أتى هو، ان كنتم تزعمون انّه كلام البشر إذ أنتم و هو سواء في الجوهر و اللسان و الخلقة و ليس هو اولى منكم بالاختلاق منكم.

تأمّل في إبداع هذه الآية و قيل يا ارض ابلعي مائك و يا سماء اقلعي و غيض الماء و قضي الأمر و استوت على الجودي و قيل بعدا للقوم الظالمين و قد اجمع الفصحاء على أنّ هذه الآية اشتملت على اثنين و عشرين نوعا من البديع مع انّها سبعة عشر لفظة الأول المناسبة بين ابلعي و اقلعى الثّاني الاستعارة الثّالث الطباق بين الأرض و السماء 4 المجاز 5 الارداف 6 التمثيل 7 التعليل 8 صحة التقسيم 9 الاحتراس 10 حسن النسق 11 المساواة 12 ائتلاف اللفظ مع المعنى 13 الإيجاز فانّه امر و نهى و اخبر و نادى و أهلك و أبقى و اسعد و أشقى و قصّ من الأنبياء ما لو شرح لاحتاجت الى الظواهر باخصر لفظ و ابلغ معنى 14 التسهيم 15 التهذيب لأن مفرداته موصوفة بصفات الحسن كل لفظة سهلة المخارج سليمة عن التنافر بعيدة عن التباعد و عقادة التركيب 16 حسن البيان 17 الاعتراض و هو قوله و غيض الماء و استوت على الجودي 18 الكناية فانّه لم يصرّح بمن غاض الماء و لا بمن قضى الأمر و سوى السفينة و أتى على سبيل الكناية لأنّ تلك الأمور العظام لا تأتى إلّا من ذي قدرة لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره تعالى

ص: 90

19 التعريض 20 التمكين 21 الانسجام 22 الإبداع أقول انّ الفصيح التكلّم يعرف انّ هذه الصنائع في سبعة عشر لفظة في غاية الاعجاز مثلا المساواة هي ان اللفظ لا يزيد على معناها و هذه غاية لفصاحة لأنّ المعاني الدقيقة يحتاج بألفاظ كثيرة حتى يستخرج ذلك المعنى من تلك الألفاظ المتكثّرة فحينئذ إذا كان اللفظ لا يتكثّر و أفاد المعنى غاية الفصاحة.

«وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ»: جمع شهيد بمعنى الحاضر و الناصر «مِنْ دُونِ اللَّهِ» متعلّق بادعوا اى ادعوا متجاوزين اللّه من حضركم كائنا من كان للاستظهار في معارضة القرآن او المراد الحاضرين في مشاهدكم و انديتكم من رؤسائكم و فصحائكم و اشرافكم الذين تفزعون إليهم في الملمّات و المهمّات ليعينوكم في الإتيان بمثله و قيل ان الظرف متعلق بشهدائكم و المراد بالشهداء الأصنام و دون بمعنى التجاوز اى ادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم الهة و زعمتم انهم يشهدون لكم يوم القيمة انكم على الحق متجاوزين اللّه في اتخاذها.

«إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» في أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقوله من تلقاء نفسه و جواب ان محذوف اى ما فعلوا كذلك من الإتيان بمثله.

[سورة البقرة (2): آية 24]

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)

فان لم تفعلوا ما أمرتم من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم سعيكم «وَ لَنْ تَفْعَلُوا» فيما يستقبل ابدا فانّه معجزة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اعتراض بين الشرط و الجواب و قد وقع الأمر حيث اخبر بعدم وقوعه و لو عارضوه بشي ء يدانيه في الجملة لتناقله الرّواة خلفا عن سلف.

«فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا»: و لمّا لم تؤمنوا به صرتم من اهل النّار فاتّقوها و اتركوا العناد و احذروا النار التي حطبها و هو ما يوقد به النار «النَّاسُ»: اى العصاة «وَ الْحِجارَةُ» اى حجارة الكبريت و انّما جعل حطبها منها لسرعة التهابها و بطوء خمودها و قبح رائحتها و لصوقها بالبدن او المراد من الحجارة الأصنام التي عبدوها و نحتوها من الحجارة و انما جعل التعذيب بها ليتحقّقوا انّهم عذّبوا بعبادتها و ليست نار الجحيم كلّها توقد

ص: 91

بالناس و الحجارة بل هي نيران شتّى منها نار بهذه الصفة.

«أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ»: و هيئت للذين كفروا بما نزلناه و فيه دلالة على ان النار مخلوقة موجودة الآن خلافا للمعتزلة و في الآية اشارة الى ان ثمرة الأخذ بالقرآن و القبول به و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو النجاة من النار التي وقودها الناس و الحجارة.

[سورة البقرة (2): آية 25]

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25)

البشارة الخبر السّار الذي يظهر به أثر السرور أى فرّح يا محمد قلوب الذين آمنوا بأنّ القرآن منزل من اللّه مثل قوله بشر المشائين الى المساجد في ظلم الليالى بالنور التام يوم القيمة.

«وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» و فعلوا الفعلات الصالحات و هي كل ما كان للّه تعالى حسب ما امر به و في عطف العمل على الايمان دلالة على تغايرهما و اشعار بأنّ مدار الاستحقاق مجموع الأمرين فانّ الايمان أساس و العمل الصالح كالبناء عليه و لا غناء بأساس لا بناء عليه و طلب الجنة بلا عمل حال السفهاء.

«أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ» بساتين فيها أشجار مثمرة قيل الجنة ما فيه النخيل و الفردوس ما فيه الكرم كذا قال الفراء، و لفرط التفاف اغصان أشجارها و تسترها سميت جنة كأنها ستره و الجنان ثمان دار الجلال كلّها من نور، مدائنها و قصورها و بيوتها و اوائيها و ابوابها و درجها و غرفها و أعاليها و أسافلها و خيامها و حليها، و دار القرار كلها من المرجان، و دار السلام كلها من الياقوت الأحمر، و جنة عدن من الزبرجد و هي قصبة الجنة و هي مشرفة على الجنان كلها و باب جنة عدن مصراعان من زمرد و ياقوت ما بين المصراعين كما بين المشرق و و المغرب و جنة المأوى من الذهب الأحمر، و جنة الخلد من الفضة، و جنة الفردوس من اللؤلؤ كلها و حيطانها لبنة من ذهب و لبنة من فضة و لبنة من ياقوت و لبنة من زبرجد و ملاطها و ما يجعل ما بين اللبنتين مكان الطين المسك و قصورها الياقوت و غرفها اللؤلؤ و مصاريعها الذهب و ارضها الفضة و حصباؤها المرجان و ترابها المسك و نباتها الزعفران و العنبر و جنة النعيم من الزمرد كلها و في الخبران المؤمن إذا دخل الجنة رأى سبعين ألف حديقة

ص: 92

في كل حديقة سبعون ألف شجرة، على كل شجرة سبعون ألف ورقة، و على كل ورقة مكتوب لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه على ولى اللّه، امة مذنبة، و رب غفور، كل ورقة عرضها من مشرق الشمس الى مغربها- «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ»: و الأنهار جمع نهر بسكون الهاء و فتحها و هو مجرى الواسع و عن مسروق انّ أنهار الجنّة تجرى من غير أخدود و شقّ في الأرض و أنزه البساتين و أكرمها منظرا ما كانت أشجارها مطلّلة و الأنهار في خلالها مطرّدة و الأنهار أربعة الخمر و العسل و اللبن و الماء فإذا شربوا من نهر الماء يجدون حيوة ثم انهم لا يموتون و إذا شربوا من اللبن يحصل في أبدانهم تربية ثم انهم لا ينقصون و إذا شربوا من نهر العسل يجدون شفاء و صحة ثم انهم لا يسقمون و إذا شربوا من نهر الخمر يجدون طربا و فرحا ثم انهم لا يحزنون.

روى انّه كتب عرضا على ساق العرش بسم اللّه الرحمن الرحيم فعين الماء تنبع من ميم بسم و عين اللبن تنبع من هاء اللّه و عين الخمر تنبع من ميم الرحمن و عين العسل تنبع من ميم الرحيم هذا منبع الأنهار و أمّا مصبّها فكلّها تصب في الكوثر و هو حوض النبي و هو في الجنة اليوم و ينتقل يوم القيمة الى العرصات لسقي المؤمنين ثم ينتقل إلى الجنّة و يسقى أهل الجنّة أيضا من عين الكافور و عين الزنجبيل و عين السلسبيل و عين الرحيق و مزاجه من تسنيم بواسطة الملائكة و يسقيهم اللّه الشراب الطهور بلا واسطة كما قال و سقاهم ربّهم شرابا طهورا.

«كُلَّما رُزِقُوا مِنْها»: اى متى أطعموا من الجنّة «مِنْ ثَمَرَةٍ» ليس المراد بالثّمرة التفّاحة الواحدة او الرمانة الفذة و انّما المراد نوع من انواع الثمار و من الأولى و الثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدئ من الجنّات و من الجنّات قد ابتدئ من ثمرة «رِزْقاً» مفعول رزقوا و هو ما ينتفع به الحيوان طعاما.

«قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ» اى هذا مثل الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا و لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته و انّما جعل ثمر الجنّة كثمر الدنيا لتميل النفس إليه حين تراه فانّ الطباع مائلة الى المألوف متنفّرة عن غير المعروف كأنهم

ص: 93

قالوا هذا عين ما رزقناه في الدنيا مثلا انّ هذه الرّمانة مثل الرّمانة التي أكلناها في الدنيا فمن اين لها من اللّذّة و الطيب هذه اللذة و هذا البيان لفرط استعجابهم و استغرابهم ممّا يجدون من اللذّة مع اتحادهما في الشكل و اللون و لا يقدح فيه ما روى عن ابن عباس انّه قال ليس في الجنّة من أطعمة الدنيا إلّا الاسم فانّ ذلك لبيان كمال التفاوت بينهما من حسن اللذّة و الهيئة لا لبيان ان لا تشابه بينهما أصلا كيف لا و اطلاق الأسماء منوط بالاتحاد النوعي قطعا و قيل معنى قوله هذا الذي رزقنا من قبل انّ ثمار الجنّة إذا اجتنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها فيشتبه عليهم فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل قاله يحيى ابن كثير و ابو عبيدة و القول الأول قال ابن عبّاس و اختاره الشيخ أبو جعفر الطوسي.

«وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً»: على البناء للمجهول اى جيئوا بذلك الرزق و المراد جنس الرزق متشابها اى متشابه في الجودة خيار لا رذل فيه متساوى في الفصل كقول الشّاعر:

من تلق منهم فقل لاقيت سيّدهم مثل النجوم التي يسرى بها الساري

و قيل المعنى متشابها في الصورة و اللون مختلفا في الطعم و القول الآخر في الآية ان التشابه في كل ما أتوا به من حيث الموافقة بالمسكن يوافق الساكن و الخادم يوافق المخدوم و المسكن يوافق الفرش و كذلك جميع ما يليق به.

«وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» قيل انّها حور العين و قيل هن من نساء الدنيا مهذبة من الأحوال المستقذرة كالحيض و النفاس و البول و الغائط و الصداع و الولادة و جميع الأدناس و كلمة مطهّرة ابلغ من طاهرة و اشعار بأنّ مطهّرات طهّرهن اللّه قال الحسن هن عجائزكم العمش الغمص الرمص طهرن من الأقذار و الآثام و عن ابن عبّاس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلق الحور العين من أصابع رجليها الى ركبتيها من الزعفران و من ركبتيها إلى ثدييها من المسك الإدفر و من ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب اى الأبيض و من عنقها إلى رأسها من الكافور إذا أقبلت يتلألأ نور وجهها كما يتلألأ نور الشّمس لأهل الدنيا.

«وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ»: اى في الجنّة دائمون يبقون ببقاء اللّه لا انقطاع و لا نفاد

ص: 94

لأنّ النعمة تتمّ بالبقاء و الخلود كما تنتقص بالزوال و الفناء، و الخلود هو الدوام من وقت مبتدء و لذا لا يقال في حق اللّه خالد، قال عكرمة اهل الجنة ولد ثلاث و ثلاثين سنة رجالهم و نساؤهم و قامتهم ستون ذراعا على قامه أبيهم آدم عليه السّلام شباب جرد مرد مكحلون، عليهم سبعون حلّة، تتلون كل حلّة في كل ساعة سبعين لونا، لا يبترنون و لا يمتخطون، يزدادون كل يوم جمالا و حسنا، كما يزداد اهل الدنيا هرما و ضعفا، لا يفنى شبابهم، و لا تبلى ثيابهم.

قوله تعالى [سورة البقرة (2): الآيات 26 الى 27]

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)

وجه تعلّق الآية بما قبلها أنّه لما جاء في القرآن ذكر النحل و الذباب و العنكبوت و النمل أورد المنافقون و الكفار إنّ مثل هذه الأشياء لا يليق ان يذكر في القرآن و كلام الفصحاء و ذلك يقدح في فصاحة القرآن فضلا عن كونه معجزا، فأجاب اللّه عن شبهتهم بان ذكرها مشتملا على حكم بالغة و لذلك ضرب الأمثال بالنار و الظلمات و الرعد و البرق ليس بقبيح، حتى يستحى ان يضرب بها المثل، فنزلت الآية دفعا لمقالهم، المعنى: اعلم ان الحياء تغيير و كيفية يعترى الإنسان من خوف ما يعاب به، يقال حي الرجل كما خشي و نسى، فاستحال هذا المعنى على اللّه سبحانه لأنه تغير يلحق البدن و كيفية حاصلة، و ذلك لا يعقل الا إلى الجسم فيجب تأويله و هو انّ هذا الكلام جاء على سبيل أطباق الجواب على السؤال و الشبهة التي أوردوها حيث قالوا اما يستحيى ربّ محمّد ان يضرب مثلا بالذباب و العنكبوت، فردّ سبحانه كلامهم على طبق إيرادهم فقال ان اللّه لا يستحيى الآيه.

و وجه أخر في الكلام و هو ان كل صفة تطلق للعبد إذا وصف اللّه تعالى بذلك فهو محمول على نهايات الاعراض، لا على بدايات الاعراض، مثاله ان الحياء له مبدأ و منتهى فالمبدأ هو التغيير الجسماني و المنتهى ترك ذلك الفعل الذي ينسب فاعله الى القبيح، فإذا ورد الحياء في حق اللّه ليس المراد ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء و مقدمته، بل ترك

ص: 95

الفعل الذي هو منتهاه، و كذلك استعمال الغضب في حقه فان مبدأ الغضب غليان دم القلب و شهوة الانتقام و له غاية و هو إنزال العقوبة بالمغضوب عليه، فإذا وصف اللّه بالغضب فليس المراد ذلك المبدأ أعنى شهوة الانتقام بل المراد إنزال العقاب و هو المنتهي، فهذا هو القانون الكلى في نسبة هذه الأوصاف الى جنابه تعالى، و قيل وجه آخر في معنى لا يستحى اى لا يخشى ان يضرب مثلا، و يستعمل الخشية بمعنى الحياء مثل هذا المورد، كما استعمل الخشية في معنى الحياء حيث قال: و تخشى الناس و اللّه أحق ان تخشيه، اى تستحيي الناس و اللّه أحق ان تستحييه، فالاستحياء بمعنى الخشية في هذه الآية، كما ان الخشية بمعنى الاستحياء في تلك الآية و استعمال المثل تفهيم المراد و تقريب الذهن الى المعنى، امر مستحسن شايع في العرب و العجم و لا استنكاف فيه و بالجملة.

«إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً» اى لا يخشى أن يضرب مثلا يوضحه به لعباده المؤمنين بما هو المثل، يعنى اىّ مثل كان و كلمة- ما- في الآية لزيادة الإبهام و الشيوع في النكرة، سواء كان المثل صغيرا او كبيرا «بَعُوضَةً» و تقدير الآية لا يستحيى ان يضرب مثلا بعوضة فيكون بعوضة مفعولا ثانيا ليضرب و ضرب بمعنى جعل، او يكون- ما- نكرة مفسرة ببعوضة فيكون بعوضة بدلا من ما و معنى، ما، شي ء، فحينئذ يفسر شيئا بعوضة، و قال الفراء إنّ معناه إن اللّه لا يستحيى ان يضرب مثلا، ما بين بعوضة الى ما فوقها و المثل يؤتى به لفهم المخاطب، سواء كان صغيرا كالبعوضة، او جليلا كالفيل و قد ورد في كلام العرب و العجم فقالوا في التمثيل أجرأ من الذباب و اسمع من القراد تزعم العرب انّ القراد يسمع الهمس الخفى، من مناسم الإبل، على مسافة سبع ليال، او سبعة أميال، و في المثل فلان اعمر من القراد، و ذلك انها تعيش سبعمائة سنة، و أجرأ من الذباب، لأنه يقع على أنف الملك، و جفن الأسد، فإذا ذبّ و دفع، آب و رجع، و لذلك سمّى بالذباب و في المثل يقال هو اجمع من ذرة يزعمون انها تدخر قوت سبع سنين، فانظر ايها المتأمل، كيف خلق اللّه الذباب و البعوض مع صغر حجمهما كل آلة و عضو أعطاه الفيل القوى الكبير بزيادة جناحين و اعطى البعوض و الذباب جرأة، أظهرها في طيرانهما، في وجوه الناس، مع مبالغة الناس في ذبهما و دفعهما بالمذبه، و كيف ركب الجبن في الأسد و اظهر ذلك الجبن فيه بتباعده عن

ص: 96

مساكن الناس، و طرقهم، و أمكنتهم، و لو تجاسر الأسد، تجاسر الذباب و البعوض، لهلك الناس، فجعل بقدرته في الضعيف التجاسر و الجرأة، و في القوى الجبن و اعجب من هذين الأمرين، عجزك عن هذا الضعيف، و قدرتك على ذلك الكبير.

حكى انّه خطب المأمون ذات يوم، فوقع ذباب على عينه، فطرده، فعاد مرارا حتّى عجز و قطع الخطبة، فلمّا صلّى، احضرا با هذيل شيخ الاعتزال، فقال له: لم خلق اللّه الذباب؟ قال الشيخ: ليزل به الجبابرة، قال: صدقت. و في خلق الذباب و أمثاله حكم و مصالح، قال وكيع: لو لا الريح و الذباب لا نتنت الدنيا، فسبحان القادر الذي ليس خلق العرش مع عظمته عليه أعسر، و لا خلق البعوضة عليه أيسر، و أنت ايّها الإنسان العاصي، إذا كان جزعك من هذا البعوض في الدنيا و عجزك عنه، فكيف حالك إذا تسلّطت عليك الحيّات و العقارب في لظى؟! اعلم انّه لمّا ثبت بضرورة العقل و العيان الحسّى، انّ لنا خالقا حكيما، لزم معرفة ان الموجودات، لم تخلق عبثا و انّما خلقوا ليعرفوا خالقهم، فيصيبوا بتلك المعرفة السعادة الدائمة و الفيض الدائم؛ و هذه المعرفة و العبادة تتوقف على بعث الرسل و إنزال الكتب، كي يحصل هذا الغرض من الحكيم و يعرفوا ما يصلحهم و ما يفسدهم و الّا لاختل النظام الأصلح، الواجب رعايته في مقام الحكمة، و بطل الغرض و ذلك لا يليق بالحكيم القادر، فوجب وجود الحجّة للناس و قد قام الاتفاق من جميع المذاهب و الأديان انّه اتى رجل اسمه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ادّعى النبوّة و اتى بكتاب، مجموع فيه جميع ما يحتاجونه، من النظام الأتمّ و تحدّى بذلك الكتاب، الآيتان بمثله، لفظا و معنى، حكما و حكمة، ثم انّه استقر في سنّة اللّه و طريقته، من لدن آدم في جميع الأعصار، على نصب الحجة، من رسول، او وصىّ، لئلا تبطل الحكمة و لا يفوت الغرض، و العلّة الباعثة، لوجوب الدعوة النبويّة، هي الباعثة لوجوب وجود وصىّ، يرشد الى بقاء دعوة النبي و مع القطع بعدم وجود وصىّ عن المسيح، نقطع بوجوب وجود النبي، إتماما للحجّة و معلوم بالبداهة، انّ في هذا الزمان، لا يكفى وجود المسيح، في السماء الرابعة، كما لا يمكن الاكتفاء بوجوده تعالى عن البعثة، فلو قيل؛ انّ شريعة عيسى

ص: 97

باقية، الى هذا العصر، فالجواب؛ انه لو كانت شريعته باقية، لوصل إلينا من طرف اوصيائه، لمعرفة مصالح الامّة و لم يجتمعوا امّته علي الشرك، لأنّ امّته متفقون على القول بالتثليث، و الحلول و الاتحاد، كما صرحوا به في الأناجيل، المجعولة، المحرفة المشتملة على أنحاء الكفر و الشرك و الارتداد و لم يبق عندهم شي ء مما جاء به المسيح و لو كان لمسيح، حافظا لدينهم، لم يجمعوا على الباطل، ثمّ ان المسيح، باعتقاد النصارى، مصلوب مقتول و باعتقادنا انّه رفع الى السماء، و لأجل عدم كونه متصرفا، في الشرعيات و عدم قيامه بمصالح العباد، بمنزلة النبىّ الميّت، فلا يكتفى به، في إتمام الحجّة، فالعلّة الباعثة لوجوب الدعوة من الأنبياء، هي الباعثة، لوجوب وجود الوصي، يرشد الى بقاء تلك الدعوة، في عصرنا، فمع القطع بعدم وجود وصىّ، عن المسيح، في آخر الزمان نقطع بوجود البعثة النبويّة الحقية الكاملة المحمّدية، إتماما للحجّة، و هذه الحجة منحصرة في محمّد و عترته المعصومين عليهم الصلاة و السلام.

و بوجه آخر نقول: كما انّ سائر الصفات، يستعلم من الأفعال و الأقوال و الحركات و السكنات، كذلك الصدق و الحق و العصمة و سائر كمالات الأنبياء و الأوصياء يستفاد من ملاحظة حالاتهم و سيرتهم و أقوالهم و من تتبّع و تأمل بعين الإنصاف، في اوصافهم و شئونهم، لا يبقى له ريب و لا شبهة، في حقانيتهم و يستعلم اوصافهم من التسامع و التواتر من اتصافهم بتلك الصفات الملائمة للنبوّة و الوصاية، كما انّ العادل، يعرف بالمعاشرة التامة؛ فانظر الى ما ظهر عنه و منه و به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من سيرته و أحواله و العلوم الكاملة و الحكم الربانية، التي اندرست من أجلها، الحكمة التي كانت متداولة بين الحكماء و اليونانيّين و اتفقت العقلاء، على هجران كتبهم، لعدم حاجتهم، الى تلك الكتب و الحكم، بعد ظهور القرآن، في هذه الامة المرحومة، كما لا حاجة في الاستصباح بالسراج، عند طلوع الشمس، مع وضوح انّه، ما حضر عند معلّم، في مقام التحصيل، بل كان يتيما، ما بين قوم، لا يعرفون شيئا، من الحكم و الآداب، فهذه الحكمة، الربانية و التربية الإلهية، من أعظم المعجزات، الدالة على صدقه، و تماميّة هذه الشريعة و ناسخيّته، لجميع الأديان فعلم انّ هذا الأمر، خارج عن الطبع البشرى و الحكم البالغة، المستفادة من كلماته، و

ص: 98

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 149

أفعاله، من أعظم الشواهد على نبوّته و حقيّة دينه، و الحاصل: قد ورد كثير من الأمثال، في الإنجيل، فقد مثّل سبحانه، غل الصدر، في الإنجيل بالنخالة، قال: لا تكونوا كمنخل، يخرج منه الدقيق الطيب، و يمسك النخالة كذلك أنتم، تخرج الحكمة من أفواهكم و تبقون الغلّ في صدوركم و كذلك مثل سبحانه، مخاطبة السفهاء، باثارة الزنابير، قال: لا تثيروا الزنابير، فتلدغكم، فكذلك لا تخاطبوا السفهاء، فيشتموكم و قال في الإنجيل: لا تدّخروا ذخائركم حيث السوس و الارضة، فتفسدها و لا في البرية، حيث اللصوص، و السموم، فيسرقها اللصوص و يحرقها السموم و لكن ادّخروا ذخائركم عند اللّه.

و جاء في الإنجيل مثل ملكوت السماء، كمثل رجل، زرع في قريته حنطة جيدة نقية، فلمّا نام الناس، جاء عدوّه، فزرع الزوان و هو بفتح الزاى و ضمها، حبّ، مرّ، يخالط البر، فقال الزارع لمولاهم: يا سيدنا، أ ليس حنطة جيدة، زرعت في قريتك، قال بلى، قالوا: فمن اين هذا الزوان قال غفلتم عن عدوّكم و سامحتموه، فاخلط في زرعكم فالزارع، الإنسان و القرية، العالم و الحنطة الطاعة و الزوان المعاصي.

أقول لا يجوز لأحد من المسلمين- مطالعة كتاب الإنجيل و التورية، الّا إذا كان مقصوده الاحتجاج على النصارى و اليهود، بسبب اثبات حقية القرآن، خصوصا إذا كان قليل المؤنة في العلم، فانّ فيها التحريف و الأكاذيب المحكيّة، من لسان المسيح عن قول اللّه، فمنها ما في الأناجيل الاربعة، من الاختلافات في نسب المسيح، مع انّ الإنجيل المنزل من اللّه كان منحصرا في واحد:

و منها ما في الإنجيل، من انّ المسيح، صنع خمرا و أعطاها لأمّه مريم، مرسلا ايّاها و الخمر لأهل المجلس.

و منها ما في الإنجيل، من انّ الأبن في الأب حلّ، و الأب في الأبن و هذا يستلزم تضاد الحال و المحل و مناف لمراتب التوحيد، و منها ما في التوراة من انّ نوحا، شرب الخمر، بعد خروجه من السفينة و منها ايضا في التوراة، من انّ لوطا، شرب الخمر و زنا بابنتيه،

ص: 99

و منها ما في التورية، من انّ هارون، امر بصنع العجل، فمع هذه القبائح، الّتى دونوها و سموها، الإنجيل و التورية و نسبوا الأفعال القبيحة، الى الأنبياء، كيف يكون حال امّة، ينسبون الى أنبيائهم، ما يأنف الفاسق، المتجاهر من مثل هذه الأمور و ليس ذلك الا الإلحاد او تفسيقا لأهل الوحى و اشدّ حمقا من أولئك، بعض اهل السنّة حيث كتبوا هذه الأكاذيب، في مصنفاتهم، و اعتقدوها؛ و سموا كتابهم، بخطيئة الأنبياء و الحاصل ان اللّه سبحانه، مثّل الأمثال، في هذه الآيات، لأن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف صنعه؛ ليقرّوا بوحدانيته، و كمال قدرته و حكمته، ليهتدوا.

«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا» بالقرآن و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ» اى: التمثّل «الْحَقُّ»: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره «مِنْ رَبِّهِمْ» فيفكرون و يوقنون ان اللّه خالق هذه الأشياء؛ فيؤمنون به «وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» و هم المشركون و اليهود «فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» اى: لاعراضهم عن طريق الاستدلال، و انكارهم، و جحودهم؛ ماذا أراد اللّه، بهذا المثل و اى شي ء أراد، بهذا المثل الخسيس، فلمّا حذف الالف و اللام في المثل نصب على الحال، او التميز، فأجابهم اللّه بقوله: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً» فيه و جهان، قال الفراء انّه حكاية عن قولهم، و من بقية كلامهم حيث قالوا، ماذا أراد اللّه بهذا مثلا يضلّ به كثيرا و يهدى به كثيرا؛ ثم قال اللّه: «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» و هذا وجه حسن، استحسنه الطبرسي، و الوجه الاخر، انه كلامه تعالى و إذا كان كلامه تعالى، فمعنى قوله يضل به كثيرا، انّ الكفار يكذّبونه، و ينكرونه، و يقولون: ليس هو من عند اللّه، فيضلّون بسببه، فإذا حصل الضلال بسببه، أضيف اليه، و كذلك لمّا حصلت الهداية بسببه أضيف، فمعنى الإضلال، على هذا، تشديد الامتحان الذي، يكون عنده، الضلال، لأنّ المحنة، إذا اشتدت على الممتحن، فضلّ عندها، سميت اضلالا، و إذا سهلت، فاهتدى عندها، سميت هداية، و حاصل المعنى: ان اللّه يمتحن بهذه الأمثال، عباده، فيضل بها، قوم كثير، لإنكارهم و يهدى بها، قوم كثير، لقبولهم و مثله قوله تعالى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ

ص: 100

اى ضلوا عندها، و هذا كما يقال للرجل، إذا ادخل الفضة، النار، ليظهر فسادها، من صلاحها، فظهر فسادها، أفسدت فضّتك و هو لم يفعل فيها.

و انّما يراد انّ فسادهم، ظهر عند امتحانه، و قريب من ذلك، قولهم، فلان أضل ناقته، و لا يريدون انّه اضلها، و انّما يريدون، من هذا الكلام، انها ضلّت عنه، لا من غيره، و يمكن ان يكون، الاضلال، بمعنى التخلية، على وجه العقوبة، و منع الألطاف، التي تنعل بالمؤمنين، جزاء على ايمانهم، و هذا كما يقال، لمن لا يصلح سيفه أفسدت سيفك، أريد به، انّك لم تحدث، فيه الإصلاح، في كل وقت، بالصيقل، و قد يكون الإضلال، بمعنى الإهلاك و العذاب و التدمير و منه قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ، فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ و قوله تعالى: إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ اى: هلكنا، فعلى هذا، يكون المعنى، ان اللّه، يهلك و يعذب بالكفر به، كثيرا، بان يضلّهم، عن الثواب و طريق الجنة فبسببه، يهلكوا؛ و يهدى الى الثواب، و طريق الجنة، بالإيمان به كثيرا، و هذا القول، عن ابى على الجبائي، و يدل على ذلك، قوله: و ما يضل به الّا الفاسقين. انتهى بيان وجوه المعنى، في الإضلال من كلام علمائنا.

لكن علماء العامة، المعتزلة منهم، قالوا: و اسناد الإضلال، اليه تعالى، اى: خلق الضلال مبنى علي انّ جميع الأشياء، مخلوقة له تعالى، و ان كانت، افعال العباد، من حيث الكسب، مستندة إليهم.

و امّا الاشاعرة، فتفسيرهم و عبائرهم، في مثل، موضوع الضلال و الهداية، غير قابل، للذكر، بسبب غلوّهم في الجبر.

قال الطبرسي: و كلّ ما في القرآن، من الإضلال، المنسوب اليه تعالى، فهو بمعنى المذكور، من الوجوه و لا يجوز ان ينسب، الى اللّه تعالى، إضلال، اوّلا لإضلال قبله، و لا يكون الإضلال، من فعله، بل إضلاله، سبحانه، تبعا، لضلال المكلّف، و اما الإضلال التي يضاف، الى الشيطان، مثل قوله: وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً و قوله: وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ و كذلك اضافة الإضلال، الى السامري، و هو ان يكون، بمعنى التلبيس و التغليط و التشكيك و الإيقاع في الفساد، ممّا يؤدّى الى التظليم، فذلك في حق اللّه، غير

ص: 101

جائز، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا! انتهى بيان الإضلال.

و امّا الهداية في القرآن، يطلق على وجوه:

فتارة، بمعنى الدلالة، و الإرشاد، يقال هداه الطريق، و الى الطريق، إذا دلّه عليه و هذا الوجه، عام لجميع المكلّفين، فانّه سبحانه، اهدى كلّ مكلّف و أرشده، الى الحق، على لسان رسله و كتبه، كما قال: و لقد جاءهم من ربّهم الهدى و قوله «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ» و قوله «وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى و تارة المراد بالهداية: زيادة الألطاف، التي بها، نثبت على الهدى، و منه قوله.

«وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً»، اى شرح صدورهم و ثبّتها.

و تارة يكون الهداية: بمعنى الاثابة، مثل قوله: «وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ» و معلوم، ان الهداية، التي تكون بعد القتل، هي الاثابة لا محالة، لأنه ليس بعد الموت تكليف، و رابعها الحكم بالهداية، كقوله «وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» و هذه الوجوه الثلاثة خاصّة بالمؤمنين، لإيمانهم.

و خامسها ان تكون الهداية، بمعنى جعل الإنسان، اى بخلق الهداية فيه، كما يجعل الشي ء، متحركا، بخلق الحركة، و اللّه يجعل، العلوم الضرورية، في القلوب فذلك هداية منه، و هذا المعنى الخامس، عام لجميع العقلاء كالوجه الاول.

و امّا الهداية التي، كلّف اللّه، العباد فعلها، كالايمان به، و أنبيائه، و غير ذلك، فانّها من فعل العباد، و ان كان قد أنعم عليهم، بدلالتهم، على ذلك، لكنّهم يستحقون على فعلهم، المدح و الثواب، كما انّ الكافر، بفعله، يستحق الهوان و العذاب، و الهداية، تسكن في قلب، فارغ من الدنيا، نسئل اللّه ان لا يحرمنا، من الطافه بسوء أفعالنا.

[سورة البقرة (2): آية 27]

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)

ثم وصف اللّه، احوال المنافقين، الموصوفين، في الآية السابقة فقال: «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ»: النقض، فك التركيب، و النسخ، و استعمال

ص: 102

النقض، في ابطال العهد، من حيث تسمية العهد، بالحبل، على سبيل الاستعارة، لما فيه من علاقة الوصلة، بين المتعاهدين، قيل: عهد اللّه ثلاثة، الاول، ما اخذه، على ذريّة آدم، بان تقرّوا بربوبيّته.

و الثاني، ما اخذه على الأنبياء، بان اقيموا الدين، و لا تفرقوا فيه، و الثالث، على العلماء، بان يبينوا الحق و لا يكتموه،

در روز الست بلى گفتى امروز ببستر لا خفتى.

«مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ»: اى بعد الوثيقة و توكيده بالقبول، و الضمير، راجع الى العهد أوالي اللّه، اى: بعد توثيق اللّه، ذلك العهد، بإرسال الرسل، و إنزال الكتب، و قيل:

المراد في الآية، كفار اهل الكتاب، و عهد اللّه الذي نقضوه، هو ما أخذ عليهم في التورية من اتباع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و التصديق بما جاء به، و نقضهم لذلك، تركهم و جحودهم به بعد معرفته و كتمانهم ذلك، عن الناس، و مغالطتهم، على الناس، بعد ان بينه اللّه، في كتابهم و أمرهم ان لا يكتمونه، فكتموا و نقضوا العهد.

«وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» اى: يقطعون، ما امر اللّه، بوصله، و هو يشمل كلّ قطيعة، لا يرضى اللّه، قطعه، كقطع الرحم، و موالاة المؤمنين، و إيقاع الفتنة و الفساد، بين المسلمين، و التفرقة بين الأنبياء و الكتب، في تصديق البعض و انكار البعض قال: صاحب كشف الغطاء، العجب، ثم العجب، من قوم يعترفون بنبوّة موسى عليه السّلام و عيسى عليه السّلام و غيرهما و ينكرون نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّهم، ان ادعوا، عدم حجيّة المعجزات، لزمهم انكار جميع النبوّات، فينتفى الوسائط، في اثبات الشرائع، بيننا و بين رب السموات، و ان ادعوا، نفى المعجزات: من نبينا، فما بالهم، لا ينفون المعجزات، بالنسبة الى أنبيائهم، مع تقدم عهدهم، و زيادة بعدهم، و زمانهم، فانّ انكار الاخبار، بالنسبة الى ما تقادم عهده، و طالت سلسلته، اقرب من إنكاره، بالنسبة الى القريب.

و كلّ رفض خير، فهو قطيعة، بل تعاطى الشر، ايضا، فانه يقطع الوصلة، فيما بين اللّه، و العبد.

ص: 103

و في الحديث: إذا اظهر الناس، العلم، و ضيّعوا العمل، و تحابوا بالألسن و تباغضوا بالقلوب، و تقاطعوا الأرحام، لعنهم اللّه، عند ذلك، فاصمّهم و أعمى أبصارهم انتهى.

«وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ»: بالمنع عن الايمان، و الاستهزاء بالحق، و قطع الوصل، التي عليها يدور فلك نظام العالم، و صلاحه، و قيل: أراد كلّ معصية، تعدّى ضررها، الى غير فاعلها، و الاولى، حمله على العموم.

«أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ»: المغبونون، بالعقوبة في الآخرة مكان المثوبة في الجنّة لأنّهم استبدلوا النقض بالوفاء و القطع بالوصل، و الفساد بالصلاح و عقابها بثوابها.

[سورة البقرة (2): آية 28]

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

الاستفهام انكارىّ، لا بمعنى انكار الوقوع، بل بمعنى انكار الواقع، و استبعاده، و التعجيب منه لأنّ التعجب من اللّه، يكون على وجه التعجيب، كأنه يقول: الا تتعجبون انّهم يكفرون باللّه، و معهم ما يصرفهم، عن الكفر، الى الايمان، من الدلائل.

«وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ»: و الحال انكم كنتم أجساما، لا حيوة لها، عناصرا، و اغذية، و نطفا، و مضغا، و قبل هذه الحالات كنتم اعداما، «فَأَحْياكُمْ» بخلق الأرواح و نفخها فيكم، في أرحام أمهاتكم و هذا البيان الزام لهم بالبعث، فكما انّ الأحياء أمكن لهم بعد ان كانوا أمواتا، كذلك يمكن حصوله بعد ان يموتوا، و حاصل المعنى انكم لم تكونوا أشياء فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيمة، و قيل انّ المعنى كنتم نطفا في أصلاب آبائكم، و بطون أمهاتكم، و النطفة موات، فاخرجكم في الدنيا احياء، ثمّ يميتكم، ثمّ يحييكم في القبر للمسألة، ثمّ يحييكم و يبعثكم يوم الحشر للمجازاة على الأعمال، و سمّي الحشر رجوعا الى اللّه، لأنّ رجوع أمركم اليه و في هذه الآية، دلالة على انّه لم يرد من عباده الكفر و لا خلقه، لأنّه لو أراد منهم او خلقه فيهم لم يجزان يضيفه إليهم، بقوله كيف تكفرون باللّه، كما لا يجوز ان يقال لهم، كيف كنتم طوالا، او قصارا، او ذكرا او أنثى، ممّا هو فعله فيهم؛ «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» للسؤال في القبور

ص: 104

فيحيى حتى يسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين؛ و يقال له: من ربّك و من نبيّك؛ و ما دينك، و يدل كلمة، ثم، التي للتعقيب؛ على انّه لم يرد به حيوة البعث، فان تلك الحيوة يومئذ، بالرجوع الي اللّه، بالحساب، بقوله: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

[سورة البقرة (2): آية 29]

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29)

: لما استعظم المشركون امر الإعادة، عرّفهم اللّه خلق السموات و الأرض؛ ليدلّهم بذلك على قدرته على الإعادة: اى قدّر خلقها لانتفاعكم بها في دنياكم و دينكم.

و تمسّك بعض الجهلة المتصوفة، من اهل الاباحة بهذه الآية، و حملوا اللام في لكم على الإطلاق و الاباحة، و قالوا لا حظر و لا نهى و هذا منهم كفر صريح، و مخالف لتمام كتب اللّه و رسله. و قد نهى اللّه، و امر و أباح و حظر و وعد، و أوعد و بشرّ و هدّد و النصوص ظاهرة، و الدلائل متظاهرة، و الاخبار متظافرة، فمن حمل هذه الآية، على الاباحة المطلقة، فقد انسلخ من الدين بالكليّة؛ «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ» قيل فيه وجوه أحدها و هو الأقرب قصد الى خلقها، بإرادته، و مشيّته، قصدا سويّا بلا صارف يلويه و لا عاطف يثنيه، فسوّاها، و هذا كقول القائل: كان الأمير يدبر امر الشام، ثمّ استوى الى الحجاز: اى تحوّل تدبيره إليهم.

و ثانيها انّه بمعنى استولى على السماء كما قال لتستووا على ظهورها: اى تقهروه، فيكون المعنى: ثمّ استوى الى السماء في تفرّده بملكها، و لم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه.

و ثالثها ما روى عن احمد ابن يحيى ابن تغلب: انّه سئل عن معنى الاستواء في صفة اللّه، فقال الاستواء، الإقبال على الشي ء، يقال فلان كان مقبلا على فلان ثم استوى الىّ يكلمنّى.

أقول: هذا المعنى، هو المعنى الأوّل الّذي ذكره الطبرسي و هذا المعنى الثالث، ايضا ذكره الطبرسي، مع انّ الإقبال و القصد متساويان، او متلازمان و لا يظن ظانّ انّ بين هذه الآية و بين قوله «وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» تناقض، لأنّ الدحو، البسط.

ص: 105

روى انّ اللّه خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر: اى الحجر ملئ الكف عليها دخان يلتزق بها، ثم اصعد الدخان، و خلق منه السموات و امسك الفهر في موضعه ثم بسط منه الأرض و قال اوّل ما خلق اللّه، جوهرة طولها و عرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة، فنظر إليها بالهيبة فذابت و اضطربت، ثم ثار منها دخان، فارتفع و اجتمع زبد فقام فوق الماء، فجعل الزبد أرضا و الدخان سماء فالسماء من دخان خلقت، و بريح ارتفعت و باشارة تفرقت، و بلا عماد قامت، و بنفخة تكسرت «فَسَوَّاهُنَّ» اى: اتمهن، و قوّمهنّ مصونات عن العوج و الفطور، و الضمير فيه مبهم فسر بقوله: «سَبْعَ سَماواتٍ» منصوب على التميز، نحو ربّه رجلا، قال سلمان الفارسي: هي سبع، اسم الاولى رفيع و هي من زمردة و اسم الثانية، ارقلون، و هي من فضة بيضاء و الثالثة قيدوم و هي من ياقوتة حمراء و الرابعة ما عون و هي من درة بيضاء و الخامسة دبقاء و هي من ذهب احمر و السادسة و قناء و هي من ياقوتة صفراء و السابعة عروباء و هي من نور يتلألأ.

«وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»: فيه تعليل كانّه قال لكونه عالما بكنه الأشياء كلّها، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل و الوجه الأنفع و في الآية دلالة على انّ الأصل في الأشياء، الاباحة لأنّه سبحانه ذكر انّه خلق ما في الأرض؛ لمنفعة العباد.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 30]

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)

و إذ: مفعول اذكر مقدرة: اى اذكر لهم و اخبر وقت «قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ» قيل الخطاب لجميع الملائكة، و قال ابن عباس: الخطاب لسكنة الأرض بعد الجان من الملائكة لا جميع الملائكة: و الملائكة جمع ملك، و التاء لتأكيد الجماعة، و سموا بها، فانّهم وسائط و رسل بين اللّه و الخلق، و اختلف في اشتقاقه: قيل من الالوكة و هي الرسالة، قال الخليل؛ الألوك الرسالة، و هي المألكة على مفعله، مأخوذ من ألك الفرس

ص: 106

اللجام، و قيل، انّما سمّيت الرسالة الوكا، لأنّها تمضغ و تؤلك في الفم تألك الشكيم و اللجام، فالملائكة، وزنها معافلة مقلوبة، و وزن ملأك، معفل مقلوب، مألك مفعل؛ و قال بعض: الكلمة مهموزة، و ألقيت حركة الهمزة، على اللام و حذفت الهمزة فقيل ملك؛ و قال ابو عبيدة: انّ أصله لأك، إذا أرسل، فملأك مفعل و ملائكة مفاعلة غير مقلوبة، و الميم في هذه الصور زائدة، لكن ذهب ابن كيسان، ان الميم أصليّة، و انّه من الملك، و ان وزن ملاك، فعال، مثل ثمال، و ملائكه فعائلة، و الهمزة زائدة، و قوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا،: يدل: على انّ جميع الملائكة ليسوا برسل، فعلى هذا يكون اسم جنس؛ و الملائكة عند اهل الإسلام و اكثر المسلمين، أنوار و أجسام لطيفة، قادرة على التشكل باشكال مختلفة، و الدليل على هذا، ان الأنبياء كانوا يرونهم روى في شرح كثرة الملائكة، انّ بنى آدم، عشر الجن، و هما، عشر حيوانات البر، و الكلّ، عشر الطيور، و الكلّ، عشر حيوانات البحر، و هؤلاء كلّهم، عشر ملائكة السماء الدنيا، و كلّ هؤلاء، عشر ملائكة السماء الثانية، و هكذا الى السماء السابعة، ثم كلّ أولئك في مقابلة الكرسي، نزر قليل، ثم جميع هؤلاء، عشر ملائكة سرادق، و احدى سرادقات العرش، التي عددها ستمائة ألف، طول كلّ سرادق و عرضه و سمكه إذا قوبلت به السموات و الأرض و ما فيهما و ما بينهما، لا يكون لها، عنده، قدر محسوس و ما منه من مقدار شبر، الّا و فيه ملك، ساجد، او راكع، او قائم.

«إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»: الجعل، و الخلق، و الفعل، و الأحداث، نظائر، الّا انّ الجعل قد يتعلّق بالشي ء، لا على سبيل الإيجاد، بخلاف الفعل، و الأحداث يقول جعلته متحركا، و حقيقة الجعل تغيير الشي ء عمّا كان عليه، و حقيقة الفعل و الأحداث الإيجاد، انّى جاعل، اى مصيّر؛ قيل ان اللّه خلق السماء و الأرض و خلق الملائكة و الجن فاسكن الملائكة، السماء، و اسكن الجن، الأرض، و الجنّ هم بنوا الجان، و هو ابو الجنّ، كآدم ابو البشر، و خلق اللّه الجان، من لهب، من نار، لا دخان لها، بين السماء و الأرض، قيل: الصواعق تنزل منها، ثمّ لمّا سكنوا فيها، كثر نسلهم، و ذلك قبل آدم بسنين متطاولة، قيل بألفي عام، قال الحقي: في روح البيان بستين ألف سنة، فعمروا

ص: 107

دهرا طويلا، في الأرض، مقدار سبعة آلاف سنة، ثمّ ظهر فيهم، الحسد و البغي، فأفسدوا و قتلوا، فبعث اللّه إليهم، ملائكة سماء الدنيا، و امرّ عليهم، إبليس، فهزموا الجنّ، و أخرجوهم من الأرض، الى جزائر البحور، و شعوب الجبال، و سكنوا الأرض، و اعطى اللّه إبليس، ملك الأرض، و ملك السماء الدنيا، و خزانة الجنّة، و كان له جناحان، من زمرد اخضر، و كان يعبد اللّه، تارة في الأرض، و تارة في السماء، و تارة في الجنّة، فدخله العجب، فقال في نفسه، ما أعطاني اللّه هذا الملك، الّا لأنّى أكرم الملائكة عليه.

و انما عبرّ سبحانه خليفة أراد بالخليفة آدم، لأنّه خليفته في ارضه، يحكم بالحق و كان سبحانه قد اعلم ملائكته انّه يكون من ذريته من يفسد فيها، عن ابن عباس و قيل انّما سمّى اللّه آدم خليفة لأنّه جعل آدم و ذريّته خلفاء للملائكة، لأنّ الملائكة كانوا من سكّان الأرض؛ و قيل خليفة عن الجنّ الذين أفسدوا و قتلوا و اخرجوا، فجعل آدم بدلهم، و قيل عنى بالخليفة ولد آدم، يتخلّف بعضهم، بعضا، و هم خلّفوا آدم، في اقامة الحق، و عمارة الأرض، «قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها» استيناف لبيان ما قالته الملائكة، قالوا ا تجعل في الأرض «مَنْ يُفْسِدُ فِيها» كما أفسدت الجن، و فائدة التكرار في الظرف تأكيد الاستبعاد، «وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ» ظلما كما فعل بنوا الجانّ او لأنّ اللّه أخبرهم بانّه سيكون من ذرّية هذه الخليفة من يعصى و يسفك الدماء، و انّما قالت الملائكة هذا الكلام، على سبيل الاستعلام، على وجه المصلحة و الحكمة، لا على وجه الإنكار؛ «وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ»: اى و الحال انا ننزّهك، عن كل ما لا يليق بشأنك، مشتغلين بحمدك، و التسبيح نفى ما لا يليق، و التقديس اثبات ما يليق به، و السبّوح هو المستحقّ للتنزيه، و القدوس المستحق للتطهير، و القدس السطل الذي يتطهر به؛ قال اللّه في جوابهم: «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» من الحكمة، و المصلحة باستخلاف آدم، و انّ من ذريّته، الطائع، و العاصي، فيظهر الفضل و العدل و اوّل شي ء أظهره اللّه بنور قدرته من ظلمة العدم، كان نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اوّل ما خلق اللّه نوري ثم خلق العالم بما فيه من نوره، بعضه من بعض، فلمّا ظهرت الأنوار من وجود نوره،

ص: 108

سمّى نورا، و كلّما كان اقرب الى الاختراع، كان اولى باسم النور، كما انّ عالم الأرواح، اقرب الى الاختراع من عالم الأجسام، فلمّا كان نور النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اقرب نظر في فائدة خلقه، كان اولى باسم النور، و لهذا كان يقول، انا من اللّه و المؤمنون منّى، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كنت نورا بين يدي ربي قبل خلق آدم باربعة عشر ألف عام و كان يسبّح ذلك النور و يسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق اللّه آدم القى ذلك النور في صلبه و لو لاه لما خلق اللّه آدم و لا العرش، فليس كلّ مخلوق يطّلع على غيب الخالق.

و روى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انّه قال انّ الملائكة سئلت اللّه و لم يكن جميعهم، بل بعضهم، ان يجعل الخليفة منهم و قالوا نحن نقدّسك، و نطيعك، و لا نعصيك كغيرنا، قال فلما أجيبوا بقوله انى اعلم ما لا تعلمون، علموا انّهم تجاوزوا عن حدّهم، فلاذوا بالعرش استغفارا، يقولون لبيك، ذا المعارج لبّيك، و سئلوه التوبة، فأمرهم ان يطوفوا بالضراح، و هو البيت المعمور، فمكثوا به سبع سنين، يستغفرون اللّه بما قالوا، ثمّ تاب عليهم من بعد ذلك، و رضى عنهم، فكان هذا اصل الطواف، ثم جعل اللّه البيت الحرام، حذاء البيت المعمور، توبة لمن أذنب من بنى آدم و طهورا؛ و في العلل عن الصادق عليه السّلام فحجبهم عن نوره سبعة آلاف عام، فرحمهم و تاب عليهم.

[سورة البقرة (2): آية 31]

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)

اى علم اللّه آدم معاني الأسماء، و المراد معانيها، إذ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها، و في المجمع و العياشي عن الصادق عليه السّلام انّه عليه السّلام سئل ماذا علّمه قال علّمه الأرضين، و الجبال، و الشعاب، و الأودية، ثمّ نظر الى بساط تحته، فقال و هذا البساط ممّا علّمه، و في تفسير الامام، عن السجاد عليه السّلام علّمه اسماء كلشي ء، و اسماء أنبياء اللّه و أوليائه، و عتاة أعدائه، فيكون المعنى، و علّم آدم اصحاب الأسماء، يعنى المسمّيات، فان قيل انّه كان في المسمّيات، و اصحاب الأسماء ما لا يكون عاقلا، فلم قال عرضهم؛ و لم يقل عرضها، لأنّه لمّا كان في جملتها الأنبياء و الائمة، و الملائكة، و الجن، و الانس، و هم العقلاء، فغلب الأكمل لأنّه جرت عادة اهل اللسان، و العرب بتغليب الكامل على الناقص.

ص: 109

و قال ابن عباس، و سعيد بن جبير، و مجاهد، انّه تعالى علّمه، جميع الصناعات و عمارة الأرضين، و الأطعمة، و الأدوية، و استخراج المعادن، و غرس الأشجار، و منافعها و جميع ما يتعلق بأمور الدين و الدنيا، و هذا القول، هو الحديث المنقول عن الصادق عليه السّلام الذي ذكره العياشي؛ و في كيفيّة تعليم اللّه، آدم الأسماء، فقيل علّمه بان أودع قلبه معرفة الأسماء و المسمّيات، و فتق لسانه بها، و عرّفه خواص الأشياء و هوان الفرس يصلح لما ذا، و الحمار لما ذا، فكان آدم يتكلّم بتلك الأسماء، و يعرف المعاني و اللغات، و كان ذلك معجزة له، لكونه خارقا للعادة، و اختلف في كيفيّة العرض على الملائكة، فقيل انما عرضها بان خلق معاني الأسماء التي علّمها آدم، حتى شاهدتها الملائكة، و قيل صوّر في قلوبهم هذه الأشياء، فصارت كانّهم شاهدوها، و قيل عرض عليهم من كل جنس واحدا نموذجا يتعرّف منه احوال البقية.

«فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»: إظهارا لعجزهم، و بيانا بأنّ آدم عليه السّلام أصلح لامارة الأرض، و عمارتها، الى ما يهتدى الملائكة اليه و تبكيتا لهم عن اقامة ما علّقوا به رجائهم، من امر الخلافة، فان التصرف و التدبير، بغير وقوف على مراتب الاستعدادات و مقادير الحقوق، بما لا يكاد يتحقّق و يمكن.

«إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»: اى في زعمكم انكم أحقاء بالخلافة ممّن استخلفته، فانّ ادنى مراتب الاستحقاق، هو الوقوف على العلم بأسماء ما في الأرض، و جواب الشرط محذوف لدلالة الكلام: اى ان كنتم صادقين فيما طننتم، فأخبروا بهذه الأسماء، و ذلك لأنّه خطر ببالهم انّه لم يخلق اللّه خلقا الّا و هم اعلم منه، و أفضل في سائر انواع العلم، فخوطبوا بهذا الخطاب، فان قيل، كيف أمرهم اللّه و كلّفهم بان يخبروا بما لا يعلمون، فالجواب انّ الأمر مشروط بالعلم لا مطلقا، كما يقول العالم للمتعلم ما تقول في كذا، و يعلم انّه لا يحسن الجواب، و ليس غرضه الجواب بل غرضه، ان ينبّهه على عدم علمه، فإذا تنبه المتعلّم، على انّه لا يمكنه الجواب، اجابه حينئذ، فيكون جوابه بهذا الترتيب أوقع في قلبه و اثبت، فالأمر بقوله انبئونى، للتنبيه لا للتكليف.

[سورة البقرة (2): آية 32]

قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

ص: 110

استيناف واقع موقع الجواب، كانّه قيل فماذا قالت الملائكة حينئذ، هل خرجوا من عهدة ما كلّفوه، فقالوا سبحانك لا علم لنا، قيل، سبحان، علم للتسبيح، و لا يكاد يستعمل الّا مضافا، و قد يجي ء غير مضاف على الشذوذ، و غير منصرف للتعريف، و الالف و النون، المزيدتين، و قيل مصدر منكر، لا اسم، كغفران، و معناه على الاول: نسبّحك عمّا لا يليق، و على الثاني: تنزهت عن ذلك تنزها، و هي كلمة تقدم على التوبة، و المراد الاعتذار، قال موسى عليه السّلام سبحانك تبت إليك، و قال يونس عليه السّلام سبحانك انى كنت من الظالمين.

«لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا»: اشعارا بانّ سؤالهم، لم يكن اعتراضا، و لا قدرة لنا على ما هو خارج عن دائرة استعدادنا، و انّما علمنا، ما علّمتناه، «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ» الذي لا يخفى عليه خافية «الْحَكِيمُ»: المحكم في مبتدعاته؛ سئل ابو يوسف القاضي عن مسألة، فقال لا ادرى، فقالوا له ترتزق من بيت المال كل يوم كذا و كذا، ثم تقول لا ادرى، فقال انّما ارتزق بقدر علمي، و لو أعطيت بقدر جهلي، لم يسعني مال الدنيا؛ و حكى انّ رجلا عالما، سئل عن مسألة، و هو فوق المنبر، فقال لا ادرى، فقيل له ليس المنبر موضع الجهّال، فقال انّما علوت بقدر علمي، و لو علوت بقدر جهلي لبلغت السماء.

[سورة البقرة (2): آية 33]

قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

ثمّ خاطب اللّه سبحانه، فقال يا آدم، اخبر الملائكة بأسمائهم، يعنى اسمائهم الذي عرضهم عليهم، و قد مضى بيانه، «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» روى انّه رفع على منبر و أمران ينبئ الملائكة بالأسماء، فلما انبأهم بها و هم جلوس بين يديه و ذكر منفعة كلشي ء و خواصّه، «قالَ» اللّه تعالى: «أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»، و الاستفهام للتقرير اى قد قلت لكم انّى اعلم ما غاب فيهما «وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ». و تظهرون من قولكم، حيث قلتم، أ تجعل فيها من يفسد الآيه.

«وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»: تسترون حيث زعمتم لن يخلق اللّه خلقا أكرم عليه منّا، و هو تعريض

ص: 111

بمعاتبهم على ترك الأولى من السؤال، و في الآية، دلالة صريحة، بانّ العلم شرط في الخلافة، بل العمدة فيها، و انّ آدم. تفضّل على الملائكة بالعلم، فالأعلم أفضل، لقوله هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون و ليت شعري، كيف قدموا المفضول على الفاضل، مع ذلك العلم الجم، و لو لم يكن له من الفضائل الّا القضايا التي صدرت من أحكامه التي لا تعدّ، مثل صاحب الارغفة، و الحالف ان لا يفكّ قيد غلّ عبده الّا ان يتصدّق بوزنه فضّة، و مثل جواب الأعرابي حين سأله، فقال انّى رأيت شاة فأولدها كلب ولدا، فما حكم ذلك في الحل، فقال عليه السّلام اعتبره في الأكل، فان أكل لحما فكلب، و ان أكل علفا فشاة، فقال الأعرابي، رأيته يفعل تارة هذا، و تارة هذا، فقال عليه السّلام اعتبره في الشرب، فان كرع فهو شاة، و ان ولغ فكلب، فقال الأعرابي رايته يلغ مرة، و يكرع مرة فقال عليه السّلام في المشي مع الماشية، فان تأخر عنها فكلب، و ان تقدّم او توسّط فهو شاة فقال الأعرابي: وجدته مرّة هكذا و مرّة هكذا، فقال عليه السّلام، اعتبره في الجلوس، فان برك، فشاة و ان أقعى فكلب، قال انّه يفعل مرّة هكذا و مرّة هكذا، فقال عليه السّلام اذبحه فان وجدت له كرشا فهو شاة و ان وجدت له أمعاء فكلب، فبهت الأعرابي و كيف لا و هم عيبة علم اللّه و وجهه.

روي في عدّة كتب كالقمى، و العياشي، و البرهان، و نور الثقلين، و غير ذلك في تفسير قوله تعالى «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»:

قال عليه السّلام انّ في العرش تمثال جميع ما خلقه اللّه في البرّ و البحر، فتبّصر في هذا الحديث كي تعلم، احاطة مرتبتهم، صلوات اللّه عليهم، علي العرش، بل العرش المعنوي هو حقيقتهم المقدسة المحيطة، على العرش الجسماني، فهم، مطلعون على تمثال جميع ما خلقه اللّه و لا شكّ، انّهم نقطة العلم السارية في جميع الحروف الامكانيّة و هو النقطة تحت الباء و ألف الابتداء في الآلاء.

في معاني الاخبار و غيره انّه جاء يهودي الى النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال ما معنى حروف الهجاء، و ما فائدتها، قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلّى عليه السلام اجبه، فقال علىّ عليه السّلام ما من حرف من حروف الهجاء الّا و له اسم من اسماء اللّه تعالى، امّا الالف: فاللّه الذي لا اله

ص: 112

الّا هو، و الباء: باق بعد فناء خلقه، و التاء توّاب الّذى يقبل التوبة عن عباده، و الثاء:

الثابت الكائن الذي ثبّت الذين أمنوا بالقول الثابت، الجيم: جلّ ثناؤه، الحاء: حليم حكيم، الخاء: خبير بأفعال عباده، الدال: ديّان يوم الدين، الذال: ذو الجلال و الإكرام الراء: رؤف بعباده، الزاء: زين المعبودين، السين: سميع بصير، الشين: شاكر لعباده المؤمنين، الصاد: صادق الوعد، الضاد: الضار النافع، الطاء: الطاهر، الظاء: المظهر للآيات، العين: عالم بالأمور، الغين: غياث المستغيثين، الفاء: فالق الحب و النوى، القاف قادر على خلقه؛ الكاف: كاف لم يكن له كفوء، اللام: لطيف بعباده، الميم: مالك الملك، النون: نور السموات من نور عرشه، الواو: واحد احد لم يلد و لم يولد، الهاء:

هاد لخلقه، اللّا: لا اله الّا هو، الياء: يد اللّه باسطة بالعطاء.

قال اللّه تعالى «وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» قال ابن عباس: رب الأرض امام الأرض و في الزيارة و أشرقت الأرض بنوركم، و قوله عليه السّلام الصورة الانسانيّة هي اكبر حجج اللّه على خلقه، اشارة الى مرتبة المظهريّة الجامعة، و تعبير الربية بمعنى الواسطة في الفيوضات الرحمانية، و ليس المراد من ذلك الربّ الحقيقي، بل الربّ هنا بمعنى الولىّ و الهادي و المرشد و الأب و المربى و اطلاق ذلك كلّه على الولىّ المطلق صحيح من باب الاشتراك المعنوي و هم في الممكنات بمنزلة القطب من الرحى، و الماء الذي به حيوة كلّشي ء، و خزانة الجود، و ماء الوجود، و مجرى الفيوضات، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنا عرف اللّه و لو لأنا ما عرف اللّه، و بنا عبد اللّه و لو لا نا ما عبد اللّه، و اليه الإشارة بقوله، كلّشي ء هالك الّا وجهه؛ روى الصدوق في توحيده عنه قال نحن وجه اللّه الّذى لا يهلك و ان كبر عليك هذا المقال فأقول انّ حقيقة نورانيّتهم محيطة بسائر الأنوار الامكانيّة، كاحاطة النفس و القلب في بدن الإنسان و اعلم انّ الاعتقاد باحاطة علومهم لجميع الممكنات ليس مستلزما للتشبيه المنافي للتنزيه و التقديس، فانّ علمه تعالى، قديم، ازلىّ سرمدىّ، متّحد مع ذاته تعالى، و علمهم صلوات اللّه عليهم حادث، فقير، الى اللّه، حصلت بتعليم اللّه ايّاهم متّصف بجميع لوازم الإمكان: محتاج في وجوده و بقائه الى الواجب، و النسبة بين الواجب و الممكن تباين؛ و على هذا البيان فالقول بالعلم الحضوري للنبىّ و الائمة

ص: 113

في مقامهم النورانيّة و باعتبار حقائقهم المقدّسة ليس مستلزما لشي ء من الشرك و التشبيه لكن جماعة من الشيعة فصّلوا بين مرتبتهم النورانية و الجسمانية، فقالوا بالعلم الحضوري في الاولى، و الحصولى في الثانية، و اهل النظر و التحقيق من العلماء قالوا انّ علمهم حصولى، يعنى انّما يعلمون الممكنات كلّها بتعليم اللّه ايّاهم، و احاطة علومهم بالجميع على ترتيب الحصول، و ليس لازما لذواتهم المقدّسة، و ليس العلم متّحدا، مع حقائقهم على سبيل الحضور حتى يكون حضوريّا، و استدلّ القائلون، بالعلم الحضوري، ببراهين عديدة، أحدها: انّهم حقيقة الوجود الامكانى، و العقل الأوّل، و الفيض المقدّس، و خزّان اللّه في ارضه و سمائه على علمه، و هذه المراتب مساوقة لمفهوم العلم، إذ العقل مقابل و ضدّ للجهل حيثما يستفاد من الأحاديث الواردة في العقل، فظلمة الجهل ضدّ لحقيقته، و الوجود المنبسط هو النّور لأنّه الظاهر في نفسه، و الوجود المنبسط هو الواسطة في جميع الفيوضات، و مجرى للرحمة الواسعة الرحمانيّة و الرحيميّة؛ الثاني انّهم النور و نور الأنوار الّذى نوّرت منه الأنوار باعتبار العلل الثلاثة المادّية و الصوريّة و الغائبة، و النور مساوق للعلم و ليست حقيقتهم مركّبة من العلم و الجهل، كي تتركب من النّور و الظلمة و ظلمة الجهل ضد لحقيقة النور، فساحتهم منزّهة من الجهل.

الثالث انّهم الصادر الأوّل فمرتبتهم محيطة باللوح المحفوظ، و احاطتهم على ذلك دليل على الاحاطة العلميّة إذ العالي مطّلع على ما دونه، قال اللّه تعالى وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ و هذا مفسّر بعلى عليه السّلام و الكتاب كناية عن اللوح المحفوظ و قد صحّ تنزيههم عن السهو و النسيان فكلّما علّمهم اللّه في العالم الأوّل من العلوم الربانيّة، و الفيوضات السبحانيّة من علومهم و اطلاعاتهم المحيطة باللوح المحفوظ فهي بأسرها باقية في حقائقهم الى السرمد لا يغفلون، و لا ينسون، و لا يجهلون، و هم عين اللّه الناظرة، منزهون، و مقدّسون عن شائبة العمى المستلزم للجهل المعنوي.

في الحديث: أول ما خلق اللّه نور نبيّك يا جابر فصح انّهم القلم الأعلى، و

ص: 114

بحقيقتهم حصل الانتقاش في اللوح المحفوظ، و الاحاطة بالعالي يستلزم لإحاطته بما دونه و قد صحّ بالبرهان و السمع، انّ لهم الولاية الكليّة، الى كافّة الممكنات، و هذه الولاية محيطة بامّ الكتاب و اللوح مشتمل على تمام العلوم.

الحاصل فالعلم اشرف جوهر لكن بشرط العمل و الانتفاع بثمرته، في الحديث روى أبو ذرّ حضور مجلس العلم أفضل من صلاة ألف ركعة، و عيادة ألف مريض، و شهود ألف جنازة، فقيل او من قراءة القرآن، قال و هل ينفع القرآن الّا بالعلم، و يكفيك ما في هذا الحديث الشريف من فضيلة العلم و العالم، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النظر الى وجه الوالد عبادة، و النظر الى الكعبة المكرّمة عبادة، و النظر في المصحف عبادة، و النظر الى وجه العالم عبادة، من زار عالما فكانّما زارني، و من صافح عالما فكانّما صافحنى، و من جالس عالما فكانّما جالسني، و من جالسني في الدنيا، أجلسه اللّه معى يوم القيمة؛ و في الحديث من أراد ان ينظر الى عتقاء اللّه من النار، فلينظر الى المتعلّمين، فو الّذى نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيده ما من متعلّم يختلف الى باب العالم الّا يكتب اللّه له بكلّ قدم عبادة سنة، و يبنى له بكلّ قدم مدينة بالجنّة، و يمشى على الأرض، و الأرض تستغفر له، و يمسي و يصبح مغفورا له، و بالعكس في الخبر الصحيح حكاية عن اللّه، من عادى لي وليّا، فقد بارزني بالحرب، و انّى لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث لشبله، و في التأويلات النجميّة و انّما كان آدم مخصوصا بعلم الأسماء، لأنّه خلاصة العالم، و كان روحه بذر شجرة العالم و شخصه ثمرة شجرة العالم، و كان في كلّ جزء من أجزاء الشجرة له منفعة، و مضرّة و مصلحة، و مفسدة، فسمّى كلّشي ء من تلك الاجزاء باسم ملائم تلك المنفعة و المضرّة بعلم علّمه اللّه، و هذا ما كان اللّه علّم آدم و الملائكة لا يعلمون، أقول انّما صار روحه بذر شجرة العالم و فضّل بهذه الفضيلة الّتى ما فضّل بها الملائكة من تعليم الأسماء باعتبار ثمرة الّتى كان في علم اللّه ان تحصل من تلك الشجرة، و مسمّيات حاصلة من تلك الأسماء، و هي ثمرة المحمديّة المخاطبة بلولاك لما خلقت الأفلاك، و لذلك شرّفه بهذا التشريف فاتّصف بسبب ذلك النّور المستور في صلبه هذا المقام العالي، و كان من كمال حال آدم انّ تمام اسماء اللّه او أكثرها جاءت على منفعته فضلا عن

ص: 115

اسماء غيره تعالى، و بيان ذلك انّه لمّا كان مخلوقا، كان اللّه خالقا له، و لمّا كان مرزوقا كان اللّه رازقا، و لمّا كان عبدا كان اللّه معبودا، و لمّا كان عاصيا كان اللّه غفّارا، و لما كان تائبا كان اللّه توّابا، و لمّا كان منتفعا كان اللّه نافعا، و لمّا كان متضرّرا كان اللّه ضارا، و لمّا كان مظلوما كان اللّه منتقما فعلى هذا قسّ البواقي؛ قال السيّد المرتضى ان قيل من اين علمت الملائكة صحّة قول آدم، و مطابقة الأسماء المسميّات و هي لم تكن عالمة بذلك من قبل و الكلام يقتضى انّهم لمّا انبأهم آدم بالأسماء علموا صحّتها، فالجواب انّه جعل اللّه العلم الضروري بصحّة الأسماء و مطابقاتها للمسمّيات امّا عن طريق الى العلم، او ابتداء بلا طريق، فعلموا بذلك صحّة قوله لهم، و امّا علم الملائكة بانّه نبىّ فذلك ليس بالعلم الضرورىّ، حصل لهم، بل حصل لهم بالاستدلال،

[سورة البقرة (2): آية 34]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)

ثمّ بيّن تعالى: ما أتاه آدم من الإجلال فقال و اذكر يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقت قولنا، «للملائكة لجميعهم لقوله فسجد الملائكة كلّهم أجمعون «اسْجُدُوا لِآدَمَ» اى خرّوا له، و السجود في الأصل تذلّل مع تطامن، فالمسجود له في الحقيقة، هو اللّه، فجعل اللّه آدم قبلة سجودهم تفخيما لشأنه، و هو المروىّ عن ائمّتنا و جماعة مثل قتادة، و علىّ ابن عيسى و عيسى بن الرماني، و استدلّوا بهذه الآية على انّ الأنبياء أفضل من الملائكة، لأنّه لا يجوز تقديم المفضول على الفاضل، و قال الجبائي، و ابو القاسم البلخي، و جماعة انّه تعالى جعله قبلة للملائكة فأمرهم بالسجود الى قبلتهم، و اختلف في انّ الأمر، للملائكة بالسجود: قيل: كان بخطاب من اللّه للملائكة و لإبليس و قيل بوحي من اللّه الى من بعثه من رسل الملائكة و هل كان لجميع الملائكة حيثما ذكر و قال قوم: انّ الأمر كان خاصّا لطائفة من الملائكة كانوا مع إبليس، أولئك الّذين طهّر اللّه الأرض من الجانّ، ثم اختلف في إبليس، هل كان من الملائكة أم من الجنّ، فذهب قوم انّه كان من الملائكة، و هو المروىّ عن ابن عبّاس، و ابن مسعود، و قتادة، و اختاره الشيخ السعيد ابو جعفر الطوسي، قال و

ص: 116

هو المروىّ عن أبي عبد اللّه و الظاهر في تفسيرنا، ثم اختلف من قال انّه من الملائكة، فمنهم من قال انّه كان سلطان سماء الدنيا، و سلطان الأرض، و منهم من قال انّه كان خازنا على الجنان، و منهم من قال انّه يتردّد ما بين السماء و الأرض، و قال الشيخ المفيد ابو عبد اللّه محمد بن محمد بن نعمان انّه كان من الجنّ، و لم يكن من الملائكة، قال و قد جاءت الاخبار متواترة، عن ائمّة الهدى، و هو مذهب الاماميّة، و هو المروىّ عن الحسن البصري و علىّ بن عيسى الرماني و البلخي و جماعة و احتجّوا على صحّة هذا القول بوجوه.

الأوّل قوله الّا إبليس كان من الجنّ، و من اطلق لفظ الجنّ، لم يجز له ان يعنى به الّا الجنّ المعروف، و كلّ ما في القرآن من ذكر الجنّ مع الانس يدلّ عليه، و الثاني قوله لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون فنفى المعصية عنهم نفيا عامّا، و الثالث انّ إبليس له نسل و ذريّة، قال اللّه أ فتتّخذونه و ذريّته اولياء من دوني و هم لكم عدوّ و الملائكة روحانيّون، خلقوا من الريح على قول، و من النور على قول بعض، لا يتناسلون و لا يطعمون، و لا يشربون، و قالوا انّ استثناء اللّه منهم لأنّه كان مأمورا بالسجود معهم، فلمّا دخل معهم في الأمر، جاز إخراجه بالاستثناء، و قيل انّ الاستثناء هنا منقطع، و عن جميل ابن درّاج عن أبي عبد اللّه، قال سألته عن إبليس أ كان من الملائكة او كان يلي شيئا من امر السماء، فقال لم يكن من الملائكة، و لم يكن يلي شيئا من امر السماء، و كان من الجنّ، و كانت الملائكة ترى انّه منها، و كان اللّه يعلم به و يأمره، فلما امر بالسجود لآدم كان منه الذي كان، كذا رواه العياشي في تفسيره و امّا من قال انّه من الملائكة فانّه احتجّ بانّه لو كان من غير الملائكة، لما كان ملوما بترك السجود، فانّ الأمر انّما يتناول الملائكة، دون غيرهم، فالجواب انّه يمكن ان يكون مأمورا بالسجود و ما كان من الملائكة، و يزيد هذا القول بيانا قوله «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» و لا ملازمة بين كونه ملكا و مأمورا بالسجود فما كان ملكا، لكنّه كان مورا بالسجود، و كان مخاطبا و لم يكن في جملتهم، و الدليل على كونه مخاطبا قوله «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» و لمّا أجاب بقوله خلقتني من نار و خلقته من طين، بل كان يجيب انّك ما أمرتني بالسجود، و الخطاب في الآية للملائكة و خصّو

ص: 117

بالذكر لأنّهم اكثر، و أجاب القائلون بانّه من الملائكة عن الاحتجاج الأول بانّ قوله من الجنّ بانّ الجنّ جنس من الملائكة لاجتنانهم عن العيون، و عن الثاني و هو قوله لا يعصون اللّه ما أمرهم بانّه صفة لخزنة النيران لا لجميع الملائكة، و لا يوجب عصمة لغيرهم، و عن الثالث بانّه يجوز ان يكون اللّه ركّب في إبليس شهوة النكاح تغليظا عليه في التكليف و ان لم يكن لسائر الملائكة، او بعد ان اهبطه اللّه الى الأرض تغيّرت بنيته، و أمّا أنّ الملائكة خلقوا من النور، و الجنّ من النار، و النار و النور سواء «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» أبى و استكبر اللعين عن السجود، و إبليس، قيل اسم أعجميّ، لا ينصرف للعلمية و العجمة، و قيل انه عربىّ مشتق من الإبلاس، و وزنه افعيل، و له نظائر في لغة العرب كإذميل للشفرة و اعريض للطلع، و اضريح لصبغ احمر، و سيف اصليب، ماض كثير الفرند، و ثوب اضريج مشبع الصبغ، و قيل انّه اسم كان أعجميّ فعرّب و سبيله سبيل إنجيل في انّه معرّب غير مشتق و منصوب على الاستثناء المتّصل من الكلام الموجب، او المنقطع على اختلاف القول في المسألة.

الاستثناء من المحسّنات البديعيّة لكن ليس كلّ استثناء بل يشترط فيه اشتماله على معنى يزيد على المعنى الاستثناء اللغوي و الّا لم يكن من البديع، مثل قوله تعالى فسجد الملائكة، فان في هذا الكلام معنى زائد على معنى الاستثناء اللغوي و هو تعظيم امر الكبيرة الّتى ارتكبها اللعين، من خرق اجماع الملائكة المؤكّدين بلفظ كلّ و اجمع و ذلك مثل قولك امر الأمير بالمثول بين يديه فامتثل امره جميع الناس من وزير و امير الّا فلانا، فأنت ترى ما في هذا التعبير معصية هذا العاصي، و ليس كذلك قولك امر الأمير بكذا فعصى فلان.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خلقت الملائكة من نور و من شأن النور الانقياد و الطاعة، و اوّل من سجد جبرئيل، فأكرم بانزال الوحى على النبيّين، ثمّ ميكائيل، ثم اسرافيل ثمّ عزرائيل، ثمّ ساير الملائكة، و قيل اوّل من سجد اسرافيل فرفع رأسه، و قد ظهر كلّ القرآن مكتوبا على جبهته كرامة له على سبقه الى الائتمار، و الفاء في قوله «فَسَجَدُوا» لإفادة مسارعتهم الى الامتثال الّا إبليس مرّ شرحه فما سجد

ص: 118

و انقاد طبعه الناري، و عن الحافظ انّ الجن و الملائكة جنس واحد، فمن طهر منهم فهو ملك، و من خبث فهو شيطان و من كان بين بين فهو جنّ؛ «أَبى وَ اسْتَكْبَرَ»: اى تعظّم و اظهر كبره، و التكبّر ان يرى الرجل نفسه اكبر من غيره، و الاستكبار طلب ذلك بالتتبّع و بالتزيّن بالباطل و بما ليس له، فامتنع اللعين، و لم يتوجّه الى آدم، بل ولّاه ظهره و انتصب هكذا الى ان سجدوا و بقوا في السجود مائة سنة، و قيل خمسمائة سنة و رفعوا رؤسهم و هو قائم معرض لم يندم من الامتناع و لم يعزم على الأتباع فلمّا رأوه عدل و امتنع و لم يسجد، و هم وفّقوا للسجود. سجدوا للّه تعالى، فصار لهم سجدتان، سجدة للأمر، و سجدة للّه شكرا، و إبليس ينظر ما فعلوه، قيل غيّر اللّه خلقه و هيئته، فصار أقبح من كل قبيح، و قيل جعل ممسوخا على مثال الخنازير، و وجهه كالقردة؛ و الممسوخ و ان كان لا يكون له نسل و لا يبقى، لكنّه لمّا سئل النظرة و انظر صار له نسل، و في الخبر، قيل له من قبل الحق اسجد لقبر أدم، اقبل توبتك، و اغفر معصيتك، فقال ما سجدت لجثته و قالبه، فكيف اسجد لقبره، و في الخبر قال الحقي في تفسيره انّ اللّه تعالى يخرجه على رأس مائة ألف سنة من النار، و يخرج أدم من الجنّة و يأمره بالسجود لآدم، فيأبى ثم يردّ الى النار، «وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ»: في علم اللّه او صار منهم باستقباحه امر اللّه ايّاه بالسجود لآدم و انّما قال سبحانه من الكافرين و لم يكن حينئذ كافر غيره لأنّه كان في علم اللّه ان يكون بعده كفّارا و انّ الذي علم اللّه من حاله انّه يتوفّى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذا لعبرة بالخواتم و ان كان بحكم الحال مؤمنا، في العيون عن امير المؤمنين عليه السّلام انّه اوّل من كفروا نشأ الكفر: و عن الصادق عليه السّلام الاستكبار هو اوّل المعصية عصى اللّه به، قال عليه السّلام فقال إبليس رب اعفنى عن السجود لآدم و انا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب و لا نبىّ مرسل، فقال عزّ و جل لا حاجة لي في عبادتك، انّما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد، في الصافي قال على ابن الحسين عليه السّلام حدّثنى ابى عن أبيه عن رسول اللّه قال يا عباد اللّه انّ آدم لمّا رأى النور ساطعا من صلبه إذ كان اللّه قد نقل أشباحنا من

ص: 119

ذروة العرش الى ظهره رأى النور و لم يتبيّن الأشباح. فقال يا ربّ ما هذه الأنوار، فقال تعالى أنوار أشباح نقلتهم من اشرف بقاع عرشي الى ظهرك و لذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح، فقال آدم لو بينتها لي، فقال اللّه انظر الى ذروة العرش فنظر آدم و وقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا الّتى في ظهره كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرآى أشباحنا، فقال ما هذه الأشباح يا ربّ، قال: يا آدم أفضل خلائقى و بريّاتى هذا محمّد و انا الحميد المحمود في فعالي، شققت له اسما من اسمى، و هذا علىّ و انا العلىّ العظيم شققت له اسما من اسمى، و هذه فاطمة و انا فاطر السموات و الأرض فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي و فاطم أوليائي عمّا يضرّهم و يشينهم، فشققت لها اسما من اسمى، و هذا الحسن و الحسين، و انا المحسن و المجمل، شققت اسميهما من اسمى، هؤلاء، خيار خليقتي، و كرام بريّتى، بهم أخذوا بهم اعطى، و بهم أعاقب، و بهم أثيب، فتوسل يا آدم بهم الىّ، و إذا دهتك داهية، فاجعلهم الىّ شفعائك. فانّى اليت على نفسي قسما حقّا ان لا اخيّب بهم آملا، و لا اردّ بهم سائلا انتهى الحديث. فحقيقة الفيض و السعادة من اوّل وجود الممكنات و إيجادهم:

طاعتهم؛ و حقيقة الشقاوة مخالفتهم، فهم اصل الشجرة الطيّبة، و سدرة المنتهى، و مرجع الكلّ إليهم، و الهداية، بهم، و فيهم، و منهم، و إليهم، و عنهم، و هذا معنى الزيارة، ن ذكر الخير كنتم اوّله و أصله و معدنه، و كلّما كثرت الإطاعة قربت منهم، و بالعكس.

قال صدر الدين الباغنوى: يا هذا اجعل دنياك وقاية لآخرتك؛ و لا تجعل اخرتك وقاية لدنياك، يا هذا كلّ محنة الى زوال، و كلّ نعمة الى انتقال، مال لا ينفعك وبال، و علم لا يصلحك ضلال.

قال يحيى الرازي: الليل طويل فلا تقصره بالنوم، و النهار مضيى ء فلا تظلمه بالذنوب، قيل لبشر الحافي لم لا تنام بالليل، قال انّى سليم، و السليم لا ينام و ما دمت مطيعا لهواك لا تحتاج الى أزر فلو كانت في الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما ففي صدرك اكثر، و النفس هي الصنم الأكبر،

ص: 120

مادر بتها بت نفس شما است زانكه آن بت مار و اين بت اژدها است

و لا أقول لك قم الليل الّا قليلا، بل نم الليل الّا قليلا، ما هذه النسبة الكاذبة تدّعي انّك شيعة عليّ و لا تتأسّى به مطلقا، و ان كان لو بذلت جهدك كلّ المجهود لا تحتذى حذو عبيده فضلا عن ذاته الشريفة، فانّه الامام المبين الّذى باحرفه يظهر المضمر، و هو مظهر الأسماء فانّ حروف الهجاء الّتى خزانة الكلمة و الاسم صفاته عليه السّلام فاوّل الحروف، الألف: هو الأمر عن اللّه بالعدل و الإحسان، و الباء: هو الباقر لعلوم الدين، و التاء: التالي لسور القرآن، و الثاء، الثاقب لحجاب الشيطان و الباطل، و الجيم: الجامع لأحكام القرآن، و الحاء: الحاكم بين الخلق من الانس و الجانّ و الخاء: الخلى من المعصية و العيب و النقصان، و الدال: الدليل لأهل الايمان، و الذال: الذاكر ربّه في السّر و الإعلان، و الراء: الراهب ربّه في الليالى إذا اشتدّت الظلمان، و الزاء:

الزائد في الفضل بلا نقصان، و السين: الساتر لعورات العريان، و الشين: الشاكر لمنّ الواحد المنّان، و الصاد: الصابر يوم الضرب و الطعان، و الضاد: الضارب بحسامه رؤس اهل الشرك و الطغيان، و الطاء: الطالب بحق اللّه غير متوان، و الظاء: الظاهر كلمة الحق على اهل الخسران، و العين: العالي علمه على اهل الزمان، و الغين: الغالب بنصر اللّه للشجعان، و الفاء: الفارق بين اهل الحق و البطلان، و القاف: القوى الأركان و الكاف: الكامل بلا نقصان، و اللام: اللازم لا و امر الرحمن، و الميم: المتزوّج بخير النسوان، و النون: النامي ذكره في القرآن، و الواو: الوليّ لمن والاه بالإيمان، و الهاء الهادي الى الحق لمن طلب البيان، و الياء: اليسر السهل لمن طلب منه الإحسان و بالجملة فالحقّ احقّ ان يتّبع و لا تتبّع الهوى فيضلّك عن سبيل اللّه، و قد جعل اللّه الهداية في متابعته كما انّ الغواية في مخالفته، و لا تنقص الكيل و الميزان من عبادتك، فانّ بعض الناس استحوذ عليهم الهوى، فوقع في خاطرهم من الشبهات الفاسدة مثل ان يقول انّ اللّه غنى عن العالمين، و لا يتفاوت بشأنه تعالى الطاعة و المعصية، لكنّى محتاج الى الطاعة، و عن الاحتراز عن المعصية، قال اللّه سبحانه و من تزكّى فانّما

ص: 121

يتزكّى لنفسه، و قال و من عمل صالحا فلنفسه؛ فمثل هذا الأحمق مثل المريض الّذى يأمره الطبيب بالدواء و الاحتماء، و المريض يتكاهل في الدواء و لا يحتمي، و يقول إذا لم اشرب الدواء و لا احتمى لا يترتب على الطبيب ضرّ، و لا يحصل له نفع، نعم لا يترتّب على الطبيب امر لكنّك تموت من مرضك؛ و ايضا طائفة اخرى من الحمقاء يتجاوزون من حدود اللّه؛ معتمدين بقولهم انّ اللّه كريم رحيم، هلّا يقول انّ اللّه شديد العقاب، اما يرى انّ الخلق مادام لا يزرعون و لا يحصدون، و لا تيعبون، لا يأكلون فانّ اللّه كريم، فلم لا يعطيهم من غير حصاد، و بذر، و تعب؛ و ايضا طائفة اخرى من الحمقاء اغترّوا بالتقدير في الأزل، و عطّلوا العمل و يقولون السعيد سعيد في بطن امّه و الشقىّ شقىّ في بطن امّه فاذن لا يتغيّر الحال بالطاعة و المعصية، اما سمعوا انّ النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال اعملوا و كلّ ميسّر لما خلق له، و كلّ هذه الترهات من حبائل الشيطان، و طلب الراحة من النفس الخبيثة، و النفاق، الكامن في القلب، قال اللّه لعيسى ليكن لسانك و قلبك واحدا في السرّ و العلانية، قال الصادق عليه السّلام قال رسول اللّه، ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق، فاستسلم مخلصا للأمر، فانّه العلم النافع، و اعمل خالصا، و دع هذه الفضوليّات و التصرفات فربّ علوم لا تنفع، و اعمال لا ترفع، ليس لأهلها منها الّا كدّ القرائح و كدح الجوارح، و ذلك لعدم الخلوص، لن ينال اللّه اعطاف تتهافت، و لا أطراف تتماوت، و ليكن يناله قلب مشفق من النار يتلظّى، و شوق الى الجنّة يتشظّى؛ و عمل بالخلوص و الامتثال مشفوع، و عن النقائص مدفوع، و المرء باكبريه، عمله و إيمانه، ربّ معروف بالمكارم و المساعى و هو عند اللّه اهل المكاره و المساوى، و موصوف بالحلم الراسى و العلم الراسخ و هو منها على أميال و فراسخ، لأنّه يملأ عينه من زينة الحيوة الدنيا، و تقرّ عينه برؤيتها و إقبالها، و العبادة فيها حكم و مصالح لا يعلمها الّا من امر بها، منها انّها طهرة للقلوب عن احداث الذنوب و اشتغال النفس بها عمّا فيه ضرر في الدين و النظم، و بها يكمل صلاح المعاد، و معرفتك لخالقك بالوحدانية، و بنبيّك بالرسالة، و وصيّه بالخلافة، كل هذه نافعة لك، لأنّ العبد إذا لم يعرف مولاه و اسمه و رسمه، ممّن يطلب رزقه و مسكنه،

ص: 122

و الاسم ما دلّ على الذات الموصوفة بصفة معيّنة سواء كان لفظا او حقيقة من الحقائق الموجودة في الأعيان فانّ الدلالة كما تكون بالألفاظ، كذلك تكون بالذوات، من غير فرق بينهما بل كلّ موجود من الأعيان بمنزلة كلام، و دليل صادر عنه تعالى، دالّ على معرفته بالربوبيّة، و لسان ناطق بوحدانيّته، كما انّ احتياجك شاهد، دالّ، ناطق بعبوديتك، و لما كانت النفوس جاهلة و قاصرة عن درك هذا المعنى، خلق في عالم الأنوار ابتداء نفوسا و ذوات مقدسة عن الجهل، كانوا يسبّحون اللّه و يقدّسونه، فجعلهم سبلا للخلق لمعرفته، ثم ادرجهم في عالم الهيكل النورانى العلوي، كي يعرفون الخلق خالقهم بسببهم، لأنّ اللّه لا يعرّف من نحو ذاته لاحد، و الّا لكان مدركا، و محاطا، و هو علامة الحدوث و انّما تعرّف الى عباده، بما وصف به نفسه، و لذا قال امير المؤمنين عليه السّلام معرفتي بالنورانيّة، معرفة اللّه، و معرفة اللّه معرفتي بالنورانيّة، فحصر عليه السّلام معرفة اللّه، في معرفته، و كما انّ لفظ كلمة لا اله الّا اللّه، يدلّ على التّوحيد باللفظ، كذلك ذلك الهيكل النورانى، دالّ على توحيده تعالى بالعين، و هذا التقرير معنى حديث حذيفة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا حذيفة انّ حجّة اللّه عليكم بعدي على ابن أبي طالب، الكفر به كفر باللّه، و الشرك به شرك باللّه و الشك فيه شك في اللّه، و الإلحاد عنه الحاد في اللّه، الحديث على ما في الأمالي لشيخ الصدوق قال: في شرح قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الكفر به كفر باللّه إلخ ما هذا لفظه كانّي بالمتكلّفين يرتكبون المجاز في توجيهه لأنّهم يثبتون كفرين، أحدهما غير الاخر، و ليس كذلك بل الكفر واحد، و الحاصل، افهم معنى قوله عليه السّلام، معرفتي بالنّورانية معرفة اللّه، ليس المراد انّك تعرفه انّه عليه السّلام ختن رسول اللّه، او انّه قلع باب خيبر، او انّه كان يصلّى بالليل ألف ركعة بل انّه من اللّه خليفة على الخلق، فإذا خالفت ذرّة من امره، فقد خالفت اللّه، تأمّل كيف نصحك بكلمة جامعة لجميع الخير مانعة من جميع الشر، و هي الزهد في الدنيا لأنّ العبادة و العبوديّة، لا تحصل الّا بالفراغة، فلو يتصوّر انسان، انّه يتمكّن من الجمع بينهما، هيهات، فقد ضرب في حديد بارد، و يكون مثاله مثال العابد الذي تعبّد تحت شجرة، خضرة، عظيمة، كثيرة الاغصان، كلّما توجّه في محرابه للصّلاة، و قد اجتمعت عصافير كثيرة، و بلابل و صوّتت، و شوّشت صلاته، و هو يطردها بعصاه، فيطردها

ص: 123

و يرجع الى محرابه، فترجع العصافير، الى ان أخذ مارسا فقطعها، فاستراح، و هكذا حال الدنيا، فاقلع شجرة محبة الدنيا حتّى تتمكّن من اقامة وظيفة عبوديّتك، و الّا فلا، و إذا استولت بك السلامة، فجدّد ذكر العطب، و إذا اطمئن بك الأمن استشعر الخوف، و إذا أحببت نفسك فلا تجعلنّ لها في الإساءة إليها سبيلا، و التزم بكلمة التقوى حتّى يصبك من عمل قليل خير كثير، اما سمعت حديثا رواه الكفعمي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال لعلىّ عليه السّلام ما فعلت البارحة، فقال عليه السّلام صلّيت ألف ركعة قبل ان أنام، فقال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كيف ذاك، فقال على عليه السّلام سمعتك يا رسول اللّه تقول: من قال عند منامه ثلاثا «يفعل اللّه ما يشاء بقدرته و يحكم ما يريد بعزّته» فقد صلّى ألف ركعة، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صدقت يا على؛ أقول:

بشرط الولاية، و جميع الطاعات مرهونة تحت نطاق الولاية.

في الوافي عن الصادق عليه السّلام قال: انّ اللّه تعالى خلقنا من علّيين، و خلق أرواحنا من فوق ذلك! و خلق أرواح شيعتنا من عليّين، و خلق اجسادهم من دون ذلك، فمن أجل تلك القرابة بيننا و بينهم تحنّ قلوبهم إلينا.

في امالى الطوسي عن الباقر عليه السّلام: ما اثبت اللّه حبّ على ابن أبي طالب في قلب احد فزلّت له قدم الّا ثبت له قدم اخرى، أقول انّ كلّنا يزعم انّه يحبّ عليّا لكنّ الأمر ليس بالدعوى و لكل امر حقيقة، و علامة محبّته صادقا، ان يكون المحبّ متطهّرا بطهارات الثلاث: صغيرة، و كبيرة، و وسطى، فالصغرى: غسل البدن الشهادى بالماء العنصري عن الخبث و الحدث، و الوسطى: غسل الخاطر و اللسان بماء الذكر التلقينى من خبث الشرك الخفى، و حدث الظلمة الطبيعي، و الكبرى: عبارة عن غسل القلب عن التعلق من تلويثات الدنيا، فهذه المراتب الثلاث، آداب غسل المحبّ، كما انّه ينبغي ان يتوضّأ خمسة وضوء. الأول، وضوء القلب عن المكر و الخدعة و الحسد و الكبر و العداوة، و الثاني، وضوء اللسان عن الكذب و الغيبة و الزور و البهتان، و الثالث، وضوء البطن عن الحرام و الشبهة، قال اللّه كلوا من الطيّبات، و الرابع، وضوء الطهر عن لبس الحرام قال اللّه و ريشا و لباس التقوى ذلك خير، و الخامس: وضوء الظاهر قال اللّه إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم الى المرافق، فحينئذ وقيت نفسك عما يضرّك، و دخلت في

ص: 124

حزب التقوى، و صرت من تبعة علىّ عليه السّلام، و الزمتك كلمة التقوى، و لا تصلح النفس، و لا ينجلي عنها غشوات العمى، الّا بهذه الآداب و التكاليف، و ما من شي ء يقرّب العبد من اللّه، و يبعّد من الطاغوت الّا و قد أمركم به الشرع، و نهاكم عنه حتّى آداب بطنك و أكلك، قال عليه السّلام: كلوا انصاف البطون، قال علماء الأخلاق لا تطعم و لا تشرب حتّى تشتاق النفس إليهما، و ان تناولت منهما شيئا فلتبق من شهوتك لهما، و ادّب لسانك ان تصمت عن كلّ كلمة لا يعنيك، و لا تتكلّم بكلمة الّا ان تقطع بعدم ضرر تلك الكلمة، و بدّل كلامك بذكر اللّه، و لا تنساه، فانّك ان ذكرته ذكرك، و من ذكره لا يذلّ و لا يخزى و كن عند امره و نهيه كالميّت بين يدي المغسل؛ هذا في الحال و امّا المال ان لا ترى لنفسك بما خوّلك اللّه ملكا فانّك لو صرت كذلك، هان عليك الدنيا بما فيها، و عامل الناس كما تحبّ ان يعاملوك، و قلّل معاريفك بل تنكّر ما عرفت فانّ اعلم طبقات الناس ذئاب في ثياب، و اوّل مفاسد المخالطة انّ اغلب طبقات الناس أبناء الدنيا الّا القليل من الاقلّ من الالف و احد، فإذا خالطت معهم تستكسب من طباعهم، و الطبع مكتسب من كلّ مصحوب، فتنهمك شيئا فشيئا في الدنيا فيضيع دينك، و لو تصوّرت انّك تقدر ان تجمع راحة الدنيا، و لذّت النفس مع سعادة الآخرة، فهذا امر لم يخلقه اللّه و الجمع غير ممكن، و لعلّك بحمقك زعمت انّ ايّام ظهور الحجّة تستريح من التعب و يطيب عيشك، فتستلذّ يومئذ من الدنيا لأنّك سمعت الحديث انّ في دولة الحقّة يحملون الزكاة في القرى على رؤسهم فلا يجدون من يستحقّه و ما عرفت معنى الحديث فذلك لا لأجل اقبال الدنيا عليهم قال المحدّث النوري في النجم الثاقب، انّ السبب كثرة قناعة المؤمنين، و الاقتصاد على قدر الضرورة، من المأكول، و الملبوس، و المسكن و النكاح، فلا يحتاجون الى الزائد عن قدر الحاجة، فلا يشتغلون في تحصيل كثرة المال و العقار، و ذلك لأنّه مناف مع الغرض من ظهوره عليه السّلام لأنّه انّما يأتي ليدعوا الناس الى اللّه، فيكمل علمهم، و عملهم، و حاشاه غير الزهد، كما في غيبة النعمائى عن الصادق عليه السّلام قال تطلبون خروج القائم، فو اللّه إذا خرج لا يلبس الّا الخشن، و لا يأكل الّا الجشب او من غير ادام و ليس له شغل الّا السيف، و في رواية اخرى: ذكر عند الرضا عليه السّلام

ص: 125

خروج الحجّة، فقال عليه السّلام: اليوم أنتم في الراحة، و إذا خرج ليس الّا الدّم و العرق و القوم على متون الخيل؛ و في رواية اخرى عن معلى بن خنيس، قال قلت للصادق عليه السّلام ان كان يتمّ هذا الأمر لكم كنّا في الراحة معكم، قال عليه السّلام: لو كان الأمر يردّ إلينا، ما كان عيشنا الّا عيش رسول اللّه و علىّ صلوات اللّه عليهما؛ فكن من اهل الهداية بان ترشد ضالًّا، او من اهل الاهتداء بان تقبل نصح ناصح في دينك، تكن من اهل الحكمة و من اهل القبول، قال اللّه و من يؤتى الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا، و مقرّ الحكمة، قلب فارغ من محبّة الدنيا، و لا تسكن في بطن مملوّ من الحرام، و لا تكن من الذين قضوا بالغفلة أعوامهم و شهورهم و نبذوا الحق وراء ظهورهم، إذا وجدوا زخارف الدنيا نشطوا و تحلّوا، و إذا تلوت لهم آية من القرآن ولّوا، فانتبه يا نائم، أ نسيت تاريخ عمرك، اما ترى في المرآة وجهك و قد جفّت غصون المورقات، أ زعمت ان يعود العمر، و كيف للإنسان راحة و فرح و هو لا يدرى انّ يوم القيمة حيث يقول اللّه هؤلاء في الجنّة و هؤلاء في النار و هو لا يدرى من اىّ الفريقين، او حين يقال، و امتازوا اليوم ايّها المجرمون؟ فلا تحملك القدرة اليوم على تناول ما ليس لك، و الشهوة في ارتكاب باطل، و الراحة في العدول عن حقّ، فاخرج الفضل من مالك، ليوم لا ينفع مال و لا بنون و امسك الفضل من قولك، قال الصادق عليه السّلام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه، و حضر عذابه، و ذلك لأنّ اللسان له تصرّف في كلّ موجود و موهوم و معدوم و له يد، في العقليّات، و الخيالات، و المسموعات، و المشمومات، و المبصرات، و المذوقات و الملموسات فيجتمع عليه من كلّ وجه خطيئة فتكثر خطاياه، و امّا غير اللسان فخطاياه محصورة قليلة مثل انّ السمع فقط خطيئته من المسموعات، و البصر من المبصرات، قال امير المؤمنين عليه السّلام من كثر كلامه، كثر خطاؤه و من كثر خطاؤه، قلّ حياؤه و من قلّ حياؤه، قلّ ورعه، و من قلّ ورعه، مات قلبه: و من مات قلبه، دخل النار؛ اما تعلم انّ اوّل منازل الآخرة، القبر، و هو لك بمنزلة المهد للطفل، و هو روضة دار، او حفرة نار، فما تلقاه من الكرامة فيه بواسطة الايمان و العمل، و ما يلقاه من العقاب بواسطة التقصير في العبادات و الحقوق، فأوثق نفسك بقيد التقوى، و لا تغتر بكثرة

ص: 126

الأسباب و طول الأمل، و كل رزقك باسنانك قبل ان تضرس، و أدر بالحق لسانك قبل ان تخرس، و استقم قبل ان يصير الطهر حينه و المنية منيّة.

رجعنا الى التفسير- فلذلك حين زلّت منه الزّلة دعا اللّه تعالى بهم فيتوب عليه و غفرت له، و هذا كان سبب فضيلة آدم على الملك، و سجودهم ايّاه، فاعترفوا بالعجز و القصور، و قالوا سبحانك لا علم لنا الّا ما علّمتنا لمّا قد بان لهم من فضل آدم و علمه و ما أودع فيه من الحكمة و الأنوار الطّيبة، فصغر حالهم عند أنفسهم، فغرقوا في بحر العجز و فوّضوا العلم الى اللّه، و قالوا انّك أنت العليم الحكيم، قال الفيض: و انّما لم يعرفوا حقائق الأشياء كلّها لاختلافها و تباينها و هم وحدانيّة الصفة إذ ليس في جبلّتهم خلط و تركيب و لهذا لا يفعل كلّ صنف منهم الّا فعلا واحدا، فالراكع منهم، راكع ابدا، و الساجد منهم ساجدا أبدا، و القائم منهم كذلك، كما حكى اللّه عنهم بقوله: وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ و لهذا ليس لهم تنافس و تباغض الى أمثالهم مثال الحواس، فانّ البصر لا يزاحم السمع في ادراك الأصوات، و لا الشّم يزاحمهما، و لا هما يزاحمان الشّم، و الذوق، فلا جرم مجبولون على الطاعة، يسبّحون الليل و النهار لا يفترون، فكلّ صنف منهم، مظهر لاسم واحد من الأسماء الالهيّة لا يتعدّاه و فاقهم آدم بمظهريّته الشاملة. انتهى كلامه.

[سورة البقرة (2): آية 35]

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

قيل: انّ اللّه تعالى اخرج إبليس، عند كفره، و أبعده عن الجنّة، و بعد إخراجه قال يا آدم اسكن، أى لازم الاقامة، و اتخذها سكنا، و استقرّ الجنّة و زوجك حوّاء، يقال للمرء الزوج، و الزوجة، و الزوج افصح، و انّما لم يخاطبها اوّلا تنبيها على انّه المقصود بالحكم و المعطوف عليه تبع له.

«الْجَنَّةَ» هي دار الثواب، خلافا لبعض المعتزلة حيث قالوا المراد بالجنّة هنا بستان كان في ارض فلسطين: او بين فارس و كرمان خلقه اللّه امتحانا لآدم، و اوّلوا الهبوط بالانتقال منه الى ارض الهند، كما في قوله تعالى مصرا، و قال ابو هاشم هي جنّة من جنان السّماء، غير جنّة الخلد، لأن جنّة الخلد أكلها دائم، و لا تكليف فيها، و استدل

ص: 127

بعضهم على انّها لم تكن جنّة الخلد، فقوله حكاية عن إبليس هل ادلّك على شجرة الخلد فلو كانت جنّة الخلد لكان آدم عالما بذلك و لم يحتج الى دلالته، و لم يخرج منها، و هذا الكلام ليس بمحكم لأنّ ذلك انّما يكون إذا استقرّ اهل الجنّة فيها للثواب لا يخرج منها، فامّا قبل ذلك فما ثبت و انّما كان وسوسة إبليس لعلّ من خارج الجنّة من حيث يسمعان كلامه، و اختلفوا في خلقة حواء، هل كانت قبل دخول الجنّة او بعده، و يدلّ على الأوّل ما روى عن أبن عباس انّه بعث اللّه جندا من الملائكة، فحملوا آدم و حوّاء على سرير من الذهب مكلّل بالياقوت و اللؤلؤ و الزمرّد و على آدم منطقة مكلّلة بالدّر و الياقوت حتّى أدخلوهما الجنّة، و يدلّ على الثاني ما روى عن ابن مسعود: انّه لمّا خلق اللّه الجنّة و اسكن آدم فيها، بقي فيها وحده، فالقى اللّه عليه النوم، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه، من الجانب الأيسر، و وضع مكانه لحما، و خلق منه حوّاء، و من الناس من يقول لا يجوز هذا، لأنّه يكون نقصانا منه و لا يجوز ينقص الأنبياء، لكن هذا الكلام ليس بشي ء لو كان واقعا لأنّه جعلها سكنه، و أزال بها وحشته و حزنه، فلمّا استيقظ آدم من نومه، وجدها عند رأسه قاعدة، فسألها من أنت، فقالت انّى امرأة، فقال و لم خلقت، قالت لتسكن الىّ، و اسكن إليك، فقالت الملائكة يا آدم ما اسمها، قال: حوّاء، قالوا: و لم، قال: لأنّها خلقت من حىّ، او لأنّها اصل حىّ او لأنّها كانت في ذقنها حوّة، اى حمرة مائلة الى السواد، و سمّيت مرأة لأنّها خلقت من المرء، كما انّ آدم سمّى بآدم لأنّه خلق من أديم الأرض، و عاشت بعد آدم سبع سنين و سبعة أشهر، و عمرها تسع مائة سنة، و سبع و تسعون سنة، و اعلم انّ اللّه خلق واحدا من اصل دون امّ و هو حوّاء، و آخر من امّ دون أب و هو عيسى، و آخر من أب و امّ و هو أولاد آدم، و آخر من غير أب و امّ و هو آدم.

سبحان من اظهر من عجائب صنعه ما يتحيّر العقول، في كتاب السماء و العالم قال سيّد ابن طاوس وجدت في صحف إدريس من نسخة عتيقة في حديث المشهور، و هو خلق اللّه آدم على صورته ما هذا لفظه من حديث طويل و هو فخلق اللّه آدم على صورته الّتى صوّرها في اللوح المحفوظ، قال سيّد بن طاوس: فاسقط بعض المسلمين، بعض هذا الكلام و قال انّ اللّه خلق آدم على صورته، فاعتقد التجسّم، فاحتاج المسلمون الى التأويلات في

ص: 128

الحديث، و لو نقله بتمام الحديث استغنى عن التأويل؛ و انّ اللّه خلق حواء لأمر يقتضيه الحكمة، ليدفع آدم وحشته بها لكونها من جنسه، و ليبقى الذريّة على ممرّ الأزمان، الى ساعة القيام، فانّ بقائها سبب لبعثه الأنبياء، و تشريع الشرائع، و نتيجة الأمر معرفة اللّه، و في الزوجيّة منافع كثيرة دينيّة و دنيويّة و اخرويّة، قيل فضل المتأهّل على العزب كفضل المجاهد على القاعد، و قالوا انّ يحيى قد تزوّج لنيل الفضل، و اقامة السنّة، و لكن لم يجامع لكون ذلك عزيمة في تلك الشريعة، و لذلك مدحه اللّه بكونه حصورا.

و في الحديث ركعة من المتأهّل، أفضل من سبعين ركعة من عزب؛ قال الحقىّ في روح البيان: هذا كلّه لكون التزوّج سببا لبقاء النسل، و حفظا من الزنى، و الترغيب في النكاح يجرى الى ما يجاوز المائة الاولى من الالف الثاني، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا اتى على امّتى مائه و ثمانون سنة بعد الالف، فقد حلّت العزوبة و العزلة، و الترهّب على رؤس الجبال و ذلك لأنّ الخلق في المأتين اهل الحرب و القتل فتربية جرد حينئذ خير من تربية ولد و ان تلد المرأة حيّة، خير من ان تلد الولد.

«وَ كُلا مِنْها» اى: من ثمار الجنّة اكلا «رَغَداً» واسعا رافها من غير تقدير و لا تقتير، و الأمر امر اباحة، و قيل امر تكليف قاله قتادة.

«حَيْثُ شِئْتُما»: اى مكان من الجنّة أردتما؛ «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» بالأكل، و الشجرة منصوب على انّه بدل من اسم الإشارة او نعت له بتأويلها بمشتق: اى هذه الحاضرة من الشجر، و علّق النهى بالقربان منها، مبالغة في المنع عن الأكل، و لزوم الاجتناب عنها، و المراد بها البرّ و السنبلة عن ابن عباس؛ و قيل هي الكرمة عن ابن مسعود، و قيل هي التينة، و قيل هي شجرة الكافور، و قيل غير ذلك، و المراد بالسنبلة، الحنطة، و هو اقرب عند الصوفية، لأنّ النوع الإنسانىّ ظهر في دور السنبلة و كان عليها من كلّ لون، و ثمرها احلى من العسل، و ألين من الزبد، و اشدّ بياضا من الثلج، كلّ حبّة من حنطتها مثل كلية البقر: و قد جعلها اللّه رزق أولاده في الدنيا فلمّا تناول هو السنبلة، ابتلى أولاده بحرث السنبلة.

قال الرازي: قوله و لا تقربا، انّ هذا نهى تحريم، او نهى تنزيه، فيه خلاف،

ص: 129

فقال قائلون هذه الصيغة لنهى التنزيه، و ذلك لأنّ هذه الصيغة وردت تارة في التنزيه و اخرى في التحريم و الأصل عدم الاشتراك، فلا بدّ من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين القسمين، و ما ذلك الّا ان يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل من غير ان يكون دلالة على المنع من الفعل، او على الإطلاق فيه، لكنّ الإطلاق فيه كان ثابتا بحكم الأصل فانّ الأصل في المنافع، الاباحة، فإذا ضممنا مدلول اللفظ الى هذا الأصل صار المجموع دليلا على التنزيه، قالوا و هذا هو الاولى بالمقام لأنّه حينئذ يرجع امر آدم الى ترك الاولى، و معلوم انّ كلّ مذهب يفضى الى عصمة الأنبياء كان اولى بالقبول، و قال بعض: انّ هذا النهى تحريم، و احتجّوا بدلائل ضعيفة، مثل ان قالوا انّ قوله و لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ، مثل قوله وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ و قوله فتكونا من الظالمين و قالوا: لو انّ هذا النهى نهى تنزيه لما استحقّ آدم بفعله الإخراج من الجنّة، و الجواب عن الأوّل انّ النهى و ان كان في الأصل للتنزيه، و لكنّه قد يحمل على التحريم لدلالة منفصلة، و عن الثاني انّ قوله «فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» اى فتظلما أنفسكما بفعل ما الاولى بكما تركه، لأنّكما إذا فعلتما ذلك، أخرجتما من الجنّة الّتى لو كنتما فيها لا تظمئان و لا تجوعان، و عن الثالث انّه: لا نسلّم انّ الإخراج كان لهذا السبب، أقول: انّ جملة من الناس بسبب فرعونيّتهم و كفرهم، يحسدون ذوى النعمة حيث انّهم فاقدوا تلك النعم، فيريدوا ان يستروا قبائحهم و هي لا تستر فينسبون قبيحة الى غيرهم حتّى إذا أرادوا ان يشاركوهم في الرتبة لا يكون قبائحهم مانعة عن المشاركة و يأبى اللّه الّا ان يتمّ نوره؛ فمنهم الحشويّة الذين يجوّزون الكبائر، على جهة العمد للأنبياء، و منهم من لا يجوّز عليهم الكبائر، لكنّه يتجوّز عليهم الصغائر، على جهة العمد، الّا ما ينفر كالكذب و التطفيف و أمثالها و هذا قول اكثر المعتزلة، و قال بعضهم انّه لا يقع منهم الذنب، الّا على السهو و الخطاء و لكنّهم مأخوذون بما يقع منهم على هذه الجهة، و ان كان ذلك موضوعا عن امّتهم، و ذلك لأنّ معرفتهم أقوى و دلائلهم

ص: 130

اكثر و انّهم يقدرون من التحفّظ على ما لا يقدر عليه غيرهم، و هذه الأقوال كلّها سخيفة، و القول الصحيح و المذهب الحقّ انّه لا يقع منهم الذنب، لا الكبيرة و لا الصغيرة لا على سبيل القصد، و لا على سبيل السهو و الخطاء و لا على سبيل التأويل، لأنّه لو صدر الذنب عنهم، لكانوا اقلّ درجة من الامّة، الا ترى الى قوله تعالى «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» و بتقدير اقدامه على المعصية و الفسق وجب حينئذ ان لا يكون النبىّ مقبول الشهادة لقوله «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» لكنّه مقبول الشهادة، و الّا كان اقلّ حالا من عدول الامّة، و لا معنى للنبوّة و الرسالة، الّا انّه يشهد على اللّه بانّه شرع هذا الحكم و ذاك، و ايضا فهو يوم القيمة شاهد على الكلّ لقوله «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» و ايضا فبتقدير اقدامه على المعصية يجب زجره عنها، فلم يكن إيذائه محرّما، لكنّه محرّم لقوله «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ» و الدليل الأقوى من الكلّ انّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أتى بالمعصية، لوجب علينا الاقتداء به فيها لقوله فاتّبعونى، فيفضى الى الجمع، بين الحرمة و الوجوب، و هو محال، و إذا ثبت ذلك في حقّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثبت ايضا في سائر الأنبياء ضرورة أنّه لا قائل بالفرق، ثمّ انّه وقع الاختلاف في وقت العصمة فمنهم من قال انّ وقت عصمتهم، وقت بلوغهم، و لم يجوّزوا ارتكاب الكفر و المعصية منهم قبل النبوّة، و هو قول اكثر المعتزلة، و منهم من ذهب الى انّ ذلك لا يجوز وقت النبوّة و امّا قبل النبوّة فجائز و هو قول اكثر اصحاب السنّة و الجماعة، و هذين القولين فاسد و الصحيح انّهم مهذّبون معصومون من وقت مولدهم و هو قول الاماميّة، و كيف يجوز ان يكون صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معصوما من حين بعثته و نبوّته، و امّا قبل ذلك فلا و هو يقول:

كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين، و لأنّ اللّه تعالى قال في حقّهم «وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» و قال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ» فهذه الآيات دالّة على كونهم موصوفين بالخيريّة و الاصطفاء، و هو تعالى لا يختار من هو شانه المعصية، و لا يصطفى الّا الماحض الخير، و ذلك ينافي صدور الذنب انتهى.

«فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» اى: ان تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين،

ص: 131

قيل استحقاق اللوم بالنهى التنزيهي، من قبيل حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

[سورة البقرة (2): آية 36]

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)

اى: اذهب آدم و حوّاء، و أبعدهما عن الجنّة، و الازلال: الازلاق، و الزلّة بالفتح: الخطاء و الزوال عن الصواب و قد حصلت الزلّة لهما بالوسوسة و الغرور و في كيفيّة وصول إبليس الى آدم حتّى وسوس لهما بعد ان اخرج من الجنّة، قيل انّه لم يكن ممنوعا من الدّنو منهما، بل منع من الدخول على وجه التكرمة كما يدخلها الملائكة، و لم يمنع من الدخول للوسوسة، ابتلاء لآدم و حوّاء، و قيل انّه يكلّمهما من الأرض بكلام عرفاه و فهماه منه، و قيل انّه دخل جانب الشدق من الحيّة، و القول الأوّل اصحّ لأنّه لو يقدر ان يدخل في شدق الحيّة و يدخل في شدق الحيّة و يدخل الجنّة يقدر ان يصير حيّة، و كذلك الوسوسة كلام خفىّ، و الخطاب من الأرض بحيث سمعاه مناف مع معنى الوسوسة.

«فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ»: من النعيم و الكرامة، و طريق وسوسته، بقوله ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة الّا ان تكونا ملكين، او تكونا من الخالدين فصدّقه هو و زوجته، و سئل ابو مدين عن خروج آدم من الجنّة على وجه الأرض، و لم تغذّى بأكل الشجرة بعد النهى، فقال لو كان أبونا يعلم انّه يخرج من صلبه مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكان يأكل عرق الشجرة فكيف ثمرها ليسارع في الخروج على وجه الأرض ليظهر الكمال المحمّدى و الجمال الأحمدى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و في صدور الزلّة قال جماعة: انّها صدرت عنه ناسيا، لا عامدا، و احتجّوا عليه بقوله تعالى «فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و مثّلوه بالصائم، فيشتغل بأمر يستغرقه، فيصير ساهيا عن الصوم، و يأكل في أثناء ذلك السهو، قال الرازي: و هذا باطل لأنّ قوله تعالى:

ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ و قوله: وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ يدلّ على انّه كان ذاكرا حال الاقدام، و رواية ابن عباس يدلّ على انّ آدم تعمّد لأنّه قال لمّا اكلا منها فبدت لهما سوءاتهما، خرج آدم، فتعلّقت بآدم شجرة من شجر الجنّة فحبسته، فناداه اللّه: ا فرار منّى، فقال: بل حياء منك، فقال له اما كان فيما

ص: 132

منحتك من الجنّة مندوحة عمّا حرّمت عليك، قال بلى و لكنّى و عزّتك ما كنت ارى انّ أحدا يحلف بك كاذبا، فقال و عزّتى لأهبطنّك منها ثمّ لا تنال العيش الّا كدّا، و ردّ بعض تعمّد آدم في الأكل، و قال كان على وجه النسيان كما في الآية فنسي و لم نجد له عزما، و قالوا و ما روى عن ابن عباس في الحديث المذكور فهو مروىّ بالآحاد فكيف يعارض القرآن، و كيف نسلّم انّ آدم و حوّاء قبلا من إبليس ذلك الكلام، لأن اللعين القى إليهما سوء الظّن باللّه، و دعاهما الى ترك التسليم لأمره، و مثول الأمر بان يعتقدا فيه كون إبليس ناصحا لهما، و انّ اللّه قد غشّهما، و لا شكّ مثل هذا الأشياء أقبح من أكل الشجرة، ثمّ انّ آدم كان عالما ببغضه ايّاه لمسئلة السجود و الحسد له، فكيف يقبل من مثل هذا العدوّ فان قيل إذا كان الأمر كذلك كيف مثل هذا العتاب قالوا انّما حصل على ترك التحفّظ من اسباب النسيان، و لعلّ هذا الضرب من السهو موضوع عن الامّة، و قد كان يجوز انّه يؤاخذوا به و لا يكون بموضوع عن الأنبياء لعظم خطرهم، و مثّلوه بقوله: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ الآية» و اشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ، الأولياء، ثمّ الأمثل، فالأمثل، قالوا و لقد كان على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من التشديدات في التكليف ما لم يكن على غيره (انتهى كلامهم) و الحاصل انّ الجواب في الكلمات من اهل الطبقات، انّ النهى في الآية محمولة الى التنزيه، و الأمور المترتّبة بعد الأكل من مقتضيات الحكمة؛ و الّا لا يسع هذا المختصر بيان مختلفات الكلام و اسئلتهم و اجوبتهم.

«وَ قُلْنَا اهْبِطُوا»: من قال انّ جنّة آدم في السماء فسرّ الهبوط بالنزول، من العلو الى السفل، و من قال انّها كانت في الأرض فسّره بالتحوّل من موضع الى غيره كقوله: اهبطوا مصرا، و الخطاب بالجمع، خاطب آدم و حوّاء و إبليس، لأنّ إبليس و لو كان قبل ذلك مخرجا من الجنّة، لكن ما كان إبليس ممنوعا من الدنوّ الى آدم امتحانا، فالخطاب شملهم جميعا او لأنّهم قد اجتمعوا في الهبوط، و ان كانت أوقاتهم متفرّقة، و قيل انّه أراد آدم، و حوّاء، و ذريّتهما، لأنّهما لمّا كانا اصل الذريّة، جعلا كانّهم الانس كلّهم، و الحكم عمّهم و ان لم تكن الذريّة موجودين، و قيل اقلّ الجمع اثنان، فخوطبا

ص: 133

بالجمع، قال الطبرسي و لم يكن اهباطهما الى الأرض على وجه العقوبة، لأنّ الدليل قد دلّ على انّ الأنبياء لا يجوز عليهم القبائح على حال و من أجاز العقاب على الأنبياء فقد أساء عليهم الثناء، و أعظم الفرية على اللّه، و انّما اهبطه ليكون خليفة اللّه في ارضه، و هذه منقبة عظيمة، و انّ المصلحة قد تغيّرت بتناوله الشجرة، فاقتضت حكمته ابتلاء آدم بالتكليف و المشقّة، و سلبه ايّاه من ثياب الجنّة، لأنّ انعامه عليه بذلك ابتداء كان على وجه التفّضل، فله ان يمنع ذلك بتشديد الامتحان و البلوى، و هو تعالى بحسب المصلحة، يسقم بعد الصّحة، و يفقر بعد الإغناء، و يعقّب المحنة بعد المنحة، و له ان يفعل ما يشاء، ثمّ انّه تعالى إذا سلبه ثياب النعمة من الجنّة، البسه خلعة الخلافة الالهيّة.

«بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» يعنى: آدم و ذرّيته، و إبليس و ذرّيته، فعداوة آدم له ايمان، و عداوة إبليس له كفر، و قوله بعضكم لبعض عدوّ حال استغنى فيها عن الواو بالضمير، اى متعادين بعضكم لبعض، و ليس في الآية امر بالتعادى، بل امر بالهبوط و اخبار بحصول العداوة، و انّما اسّس إبليس العداوة حيث استكبر و حسد آدم، فالعداوة حصلت بفعله اللعين، و لو انّ آدم امر بعداوته بعد عداوة إبليس ايّاه، حيث قال سبحانه «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا» و العدوّ يصلح للواحد و الجمع.

«وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ» اى: موضع قرار، و استمتاع الى حين، قيل الى فناء الآجال، و حصول الموت، او المراد مدّة الحيوة، و القبر، الى يوم القيمة. و قوله الى حين، ليعلم آدم انّه غير باق فيها، و لمّا هبطوا وقع آدم بأرض الهند على جبل سرانديب، و لذلك طابت رائحة أشجار تلك الأودية لما معه من علاقة الجنّة، و وقعت حوّاء بجدّه، و بينهما سبعمائة فرسخ، و الحيّة بسجستان او بأصفهان، بناء على صحّة الحيّة، و الطاوس بمرج الهند، و إبليس بسدّ يأجوج و مأجوج فبعد الهبوط ابتلى آدم بالحرث و الكسب، و حوّاء بالحيض و الحبل و الطلق و نقصان العقل، و جعل اللّه قوائم الحيّة في جوفها و جعل قوتها التراب، و قبح رجلي الطاوس، و جعل إبليس بأقبح صورة، و افضح حالة، و كان مكث آدم و حوّاء في الجنّة، من وقت الظهر الى وقت العصر من يوم من ايّام الآخرة، و كلّ يوم من ايّام الآخرة كألف سنة من ايّام الدنيا.

ص: 134

[سورة البقرة (2): آية 37]

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

التلقّى نظير التلقّن، تلقّنت منه اى أخذت و قبلت منه، و أصله من لقيت خيرا، اى قبل و أخذ و تناول آدم على سبيل الطاعة من ربّه كلمات و استقبلها بالقبول، و على قراءة من قرء فتلقّى آدم كلمات لا يكون معنى التلقّى، القبول، بل معناه انّ الكلمات تداركته بالنجاة و الرحمة، و اختلف في الكلمات ما هي، فقيل هي قوله تعالى ربّنا ظلمنا أنفسنا الآية.

و في الكافي عن أحدهما عليهما السلام انّ الكلمات لا اله الّا أنت سبحانك اللّهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و أنت خير الغافرين، لا اله الّا أنت سبحانك اللّهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فتب علىّ انّك أنت التوّاب الرحيم، و في رواية بحقّ محمّد و علىّ و فاطمة و الحسن و الحسين، و في رواية آخر بحقّ محمّد و آل محمّد صلاة اللّه عليهم أجمعين، و في تفسير الامام لمّا زلّت من آدم، الخطيئة و اعتذر الى ربّه قال يا ربّ تب على، و اقبل معذرتي و أعدني الى مرتبتي، و ارفع لديك درجتي، فلقد تبيّن نقص الخطيئة و ذلّها بأعضائي و سائر بدني، قال اللّه يا آدم اما تذكر امرى ايّاك، بان تدعوني بمحمّد و آله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند شدائدك و دواهيك و في النوازل تبهظك، قال آدم بلي، قال اللّه: فبهم اي بمحمّد و علىّ و فاطمة و الحسن و الحسين خصوصا فادعني أجبك الى ملتمسك و ازدك فوق مرادك، فقال آدم: يا ربّ و قد بلغ عندك من محلّهم انّك بالتوسّل بهم تقبل توبتي و تغفر خطيئتي و انا الّذى أسجدت له ملائكتك، و أبحته جنّتك، و زوّجته حوّاء أمتك، و أخدمته كرام ملائكتك، قال اللّه: يا آدم انّما أمرت الملائكة بتعظيمك بالسجود لك، إذ كنت وعاء لهذه الأنوار و لو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك ان أعصمك منها و ان أفطنك لدواعى عدوّك إبليس حتّى تحترز منه، لكنت قد جعلت ذلك و لكنّ المعلوم في سابق علمي يجرى موافقا لعلمي، و لكنّ فالان فبهم ادعني لأجبك، فعند ذلك قال آدم: اللّهم بجاه محمّد و علىّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الطيّبين من آلهم لمّا تفضّلت بقبول توبتي و غفران ذنوبي و زلّتى، و إعادتي من كراماتك الى مرتبتي، فقال اللّه: قد قبلت توبتك، و أقبلت برضواني

ص: 135

عليك، و صرفت آلائي و نعمائي إليك، و أعدتك الى مرتبتك من كراماتي، و وفّرت نصيبك من رحماتي فذلك قوله: فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه انّه هو التوّاب الرحيم انتهى. و قد صحّ بالبرهان و القرآن، افضليّة وجود محمّد و اوصيائه صلوات اللّه عليهم و انّهم هم العلّة الغائية لجميع المخلوقات، و تقدّم وجودهم في العوالم الستّة من الأنوار و العقول و الأرواح و الذّر و الطينة و هذا العالم الدنيوي؛ قال امير المؤمنين عليه السّلام انا الّذى ولايتي ولاية اللّه، و قال عليه السّلام: معرفتي بالنورانية معرفة اللّه، و معرفة اللّه معرفتي، فهم احقّ بوسائط الفيض من اللّه على العباد من كلّ خلق خلقه اللّه تعالى، فاحتاج آدم عليه السّلام الى التوسّل بانوارهم فانّ حقائقهم المقدّسة جامعة للمراتب النورانيّة و البشريّة، و اوّل الدرجات الامكانيّة، و فاق فضلهم فضل العالمين؛ و عن ابن مسعود: انّ احبّ الكلام الى اللّه تعالى، ما قال أبونا آدم عليه السّلام حين اقترف الخطيئة سبحانك اللّهم و بحمدك و تبارك اسمك و تعالى جدّك لا اله الّا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي انّه لا يغفر الذنوب الّا أنت.

قال الحقّى في روح البيان: و عن النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ آدم قال بحقّ محمّد ان تغفر لي، قال اللّه و كيف عرفت محمّدا، قال لمّا خلقتني، و نفخت فيّ الروح، فتحت عيني، فرأيت على ساق العرش، لا اله الّا اللّه، محمّد رسول اللّه، فعلمت انّه أكرم الخلق عليك حتّى قرنت اسمه باسمك، فقال اللّه نعم و غفر له بشفاعته، او الكلمات هي قول آدم عليه السّلام عند هبوطه من الجنّة: يا ربّ الم تخلقني بيدك من غير واسطة، قال بلى، قال يا ربّ الم تسكنّى جنّتك، قال بلى، قال الم تسبق رحمتك غضبك، قال بلى، قال أ رأيت ان أصلحت و رجعت و تبت، أ راجعني أنت الى الجنّة، قال نعم؛ فالكلمات هي العهود الانسانيّة و المواثيق الآدميّة، و المناجاة الربّانية، من الخليفة الى حضرت الحقّ تعالى، فتاب آدم الى اللّه بالرجوع و الاعتراف بذنبه و خطاه و سهوه، و قيل الكلمات: سبحان اللّه، و الحمد للّه و لا اله الّا اللّه، و اللّه اكبر.

«فَتابَ عَلَيْهِ»: اى فرجع الربّ عليه بالرحمة و قبول التوبة؛ «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»: اى كثير القبول للتوبة. يقبل مرّة بعد اخرى، و معنى فتاب عليه: فتاب عليهما

ص: 136

و انّما لم يقل عليهما للتغليب كقوله «وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ».

و معنى التوبة: الرجوع فإذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية الى الطاعة، و إذا وصف به الباري أريد به الرجوع عن العقوبة الى المغفرة؛ قال ابن عباس: بكى آدم و حواء على ما فاتهما من نعيم الجنّة مائتي سنة، و لم يأكلا و لم يشربا، أربعين يوما و لم يقترب آدم حوّاء مائة سنة، قال شهر ابن حوشب: بلغني انّ آدم لمّا هبط الى الأرض مكث ثلاثمائة سنة، لا يرفع رأسه، حياء من اللّه تعالى، قالوا لو انّ دموع اهل الأرض جمعت، لكانت دموع داود اكثر حيث أصاب الخطيئة، و المراد بالخطيئة ترك الأولى، و لو انّ دموع داود و دموع اهل الأرض جمعت لكانت دموع أدم اكثر، فإذا كان حال من اقترف دون صغيرة و هو ترك الأولى، فكيف حال من انغمس في بحر العصيان و الكبائر، و معذلك فقد جعل اللّه برحمته لهذا الدرن و الوسخ صابونا يزيله بشرط الرجوع و الإصلاح بالعمل الصالح فانّه يمحو الخطيئات و انّه تعالى يجيب المضطرّ إذا دعاه و يكشف السوء.

قال الغزاليّ: التوبة يتحقّق في ثلاثة امور، علم، و حال، و عمل، امّا العلم: فهو معرفة ما في الذنب من الضرر و كونه حجابا بين العبد و رحمة الرّب فإذا عرف ذلك معرفة محقّقه حصل له من هذه المعرفة تألمّ القلب بسبب فوات هذا المحبوب، فإذا كان فواته بفعل من جهته تأسّف، فذلك التأسّف يسمّى ندما، و ذلك التأسّف و الندم له تعلّق بالماضي و الحال و المستقبل، امّا تعلّقه بالحال فيترك الذنب الّذى كان ملابسا له، و امّا بالمستقبل فالعزم على ترك ذلك الفعل المفوّت للمحبوب الى أخر العمر، و امّا بالماضي فيتلافى ما فات بالجبر و القضاء ان كان قابلا للجبر، فالعلم و الندم و القصد المتعلّق بالترك في الحال و الاستقبال، و تدارك ما فات بالقضاء و الجبران معان مترتّبة في الحصول و يصدق اسم التوبة على مجموعها، و قد يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده، و يجعل العلم السابق كالمقدّمة، و الترك كالثمرة، و بهذا الاعتبار قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الندم توبة إذ لا ينفك الندم عن علم أوجبه، و عن عزم يتبعه، و قيل، لا بدّ في التوبة من ترك ذلك الذنب، و من الندم على ما سبق، و من العزم على عدم العود الى مثله، و من الإشفاق فيما بين ذلك كلّه

ص: 137

لأنّه مأمور بالتوبة، و لا سبيل له الى القطع بانّه اتى بالتوبة كما لزمه فيكون خائفا، قال اللّه تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ في البحار قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الا أخبركم بدائكم و دوائكم، دائكم الذنوب، و دوائكم الاستغفار، لكن اعلم انّ المرض إذا لم يعالج سريعا، يصعب دفعه عن البدن و لعلّ إذا طال لم يقبل العلاج، و لا ينفع الدرياق كذلك الذنوب إذا كثرت يمرض الروح و لا يقبل العلاج و يهلك صاحبه و أنت سمعت امر التوبة و قبولها لكن تسامح فيها و تؤخّرها و قد اغتررت برجاء كاذب، فانّ من رجى شيئا تقدّم اليه لا ان يتأخّر و يقول أنا راج، فما أشبه حالك بالمدّاح السكران، نعم كما يحصل للبدن امراض تارئة و تدفعها بالأدوية، يحصل ايضا من الذنوب للروح امراض فعالجها سريعا كي لا يفسد، قال امير المؤمنين عليه السّلام: التوبة اسم جامع لمعان ستّة، اوّلهنّ الندم على ما مضى، الثاني، العزم على الترك في المستقبل، الثالث، أداء كلّ فريضة ضيّعتها فيما بينك و بين اللّه، الرابع، أداء المظالم الى المخلوقين في أموالهم و اعراضهم، الخامس، اذابة كلّ لحم و دم نبت من الحرام، السادس، إذاقة البدن الم الطاعات، كما ذاق حلاوة المعصية فانّ هذه التوبة اجمع المسلمون على سقوط العقاب عندها و اختلفوا فيما عداها، و كلّ معصية اللّه فانّه يحب التوبة منها لكونها قبيحة، و عند الاماميّة يصحّ التوبة إذا كانت عن ترك المندوب و يكون ذلك على وجه الرجوع الى فعله و عليهذا يحمل توبة الأنبياء في جميع ما نطق به القرآن، قال الطبرسي و إسقاط العقاب عند التوبة تفضّل من اللّه، غير واجب عليه عندنا، لكن عند جميع المعتزلة واجب، و قد وعد اللّه بذلك، و ان كان تفضّلا، علمنا انّه لا يخلف الميعاد، و امّا التوبة عن قبيح مع الاقامة على قبيح أخر يعلم او يعتقد قبحه، فعند اكثر المتكلّمين هي صحيحة، و عند ابى هاشم و أصحابه لا يصحّ و اختلفوا في التوبة عند ظهور اشراط الساعة و علاماتها هل تصحّ أم لا، فقال الأكثرون يحجب عنها عند الآيات كما روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال بادروا بالأعمال ستّا، طلوع الشمس من مغربها، و الدجّال، و الدخان، و دابّة الأرض و خويصة أحدكم يعنى الموت، و امر العامّة يعنى القيامة، فالعبد لا بدّ و ان يكون مشتغلا بالتوبة في كلّ حين و أوان، روى انّ رجلا سئل امير المؤمنين عليّا عليه السّلام عن الرجل يذنب ثمّ يستغفر، ثمّ يذنب ثمّ يستغفر، ثمّ يذنب ثمّ يستغفر، فقال

ص: 138

امير المؤمنين، يستغفر ابدا حتّى يكون الشيطان هو الخاسر، فيقول لا طاقة لي معه، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم توبوا الى ربّكم فانّى أتوب اليه في كلّ يوم مائة مرّة، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه ليغان على قلبي فاستغفر اللّه في اليوم مأة مرّة و تاب و آب بمعنى رجع، و الغين شي ء يغشى القلب فيغطّيه بعض التغطية و هو كالغيم الرقيق الّذى يعرض في الجوّ فلا يحجب عين الشمس و لكن يمنع كمال ضوئها و ذكروا لهذا الحديث تأويلات.

قال الرازي: أحدها انّ اللّه اطّلع نبيّه على ما يكون في امّته من بعده من الخلاف و ما يصيبهم فكان إذا ذكر ذلك وجد غينا في قلبه فاستغفر لأمّته، و ثانيها انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان ينتقل من حالة الى حالة ارفع من الاولى فكان الاستغفار لذلك، و ثالثها انّ الغين عبارة عن السكر الّذى كان يلحقه في طريق المعرفة و المحبّة حتّى يصير فانيا عن نفسه بالكلية فإذا عاد الى الصحو، كان الاستغفار من ذلك الصحو، و هذا المعنى تأويل اهل الحقيقة، و رابعها و هو معنى اهل الظاهر انّ القلب لا ينفك عن الخطرات و الخواطر و انواع الميل و الإرادات فكان يستعين بالرّبّ في دفع تلك الخواطر انتهى.

و سئل ابن مسعود عن توبة النصوح قال: هو ان يهجر الذنب، و يعزم على ان لا يعود اليه ابدا؛ روى انّ جبرئيل سمع ابراهيم و هو يقول، يا كريم العفو، فقال جبرئيل او تدرى ما كريم العفو، فقال لا يا جبرئيل، قال ان يعفو عن السيّئة و يكتبها حسنة، أقول و هذا البيان مشروط بالتوبة عن السيّئة لا مطلقا، و في المفاتيح عن ابى سعيد الخدري قال، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة و تسعين نفسا فسأل عن اعلم اهل الأرض فدلّ على راهب، فأتاه، فقال انّه قتل تسعة و تسعين نفسا، فهل للقاتل من توبة، فقال لا، فقتله، فكمل المائة، ثم سئل عن اعلم اهل الأرض، فدلّ على رجل عالم فأتاه فقال انّه قتل مائة نفس، فهل لي من توبة، فقال نعم، و من يحول بينك و بين التوبة، انطلق الى ارض كذا و كذا، فانّ بها ناسا يعبدون اللّه، فاعبده معهم، و لا ترجع الى أرضك فانّها ارض سوء فانطلق حتّى اتى نصف الطريق، فأتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه الى اللّه، و قالت

ص: 139

ملائكة العذاب انّه لم يعمل خيرا قط. فأتاه ملك في صورة آدميّ و توسّط بينهم، فقال قيسوا ما بين الأرضين فالى ايّهما كان ادنى فهو له، فقاسوه فوجدوه ادنى الى الأرض الّتى أراد و قصد فقبضته ملائكة الرحمة، رواه مسلم انتهى.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 38]

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

استيناف مبنيّ عن سؤال ينصحب عليه الكلام كانّه قيل فما وقع بعد قبول توبته فقيل «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها» من الجنّة «جَمِيعاً» و في تكرير الهبوط فقيل الهبوط الأول، من الجنّة الي السماء و هذا لهبوط من السماء الى الأرض، و قيل: التكرير للتأكيد و الخطاب لآدم و حوّاء و ذريّتهما باعتبار ما يكون، و قيل: الخطاب لآدم و حوّاء، و إبليس و الحيّة، و الطاوس، و المراد اهبطوا أنتم أجمعون، و لذلك لا يستدعى اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد، و كرّر الأمر بالهبوط إيذانا بتحقّقه لا محالة و دفعا لما وقع في امنيّته عليه السّلام من استتباع قبول التوبة للعفو عن الهبوط و لأنّ الأمر الثاني بالهبوط، مشعر بالتكليف و الابتلاء بالعبادة، و الثواب، و العقاب، و لذلك اقترن الهبوط الثاني بإيتاء الهدى المؤدّى الى النجاة، و ما فيه من وعيد العقاب، فليس بمقصود من التكليف قصدا اوّليا بل انّما هو دائر على سوء اختيار المكلّفين، قوله «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ»:

الفاء لترتيب ما بعد الهبوط، و ان، شرطيّة، و دخلت، ما، ليصحّ دخول نون التأكيد في الفعل، و لو أسقطت، ما، لم يجز دخول النون، كقولك زيد ليأتينّك و لو قلت بغير لام لم يجز، فدخول، ما، هنا، كدخول اللام هناك، و المعنى أن ياتينّكم «مِنِّي هُدىً» فيدخل في الهدى كلّ دلالة و بيان، فيشمل دليل العقل و كلّ كلام ينزل من اللّه، و الحقّ انّ المراد من الهدى، الأنبياء، فحينئذ المخاطب آدم و ذريّته، اى ان أتاكم رشد و بيان شريعة برسول ابعثه إليكم، و كتاب أنزله عليكم و جواب الشرط هو الشرط مع جوابه؛ «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» اقتدى بشريعتى، و كرّر لفظ الهدى و لم يأت بالضمير بان يقول فمن تبعه لأنّه أراد بالثاني اعمّ من الأوّل، و هو ما اتى به الرسل و اقتضاه العقل السليم بمتابعة الرسل من الأدلّة الآفاقيّة و الأنفسيّة «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ»: في الآخرة

ص: 140

«وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» امنين عن الفزع الأكبر.

من آيات الدالة على عدم التفويض المطلق، و على عدم الجبر قوله تعالى «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» و كذلك قوله تعالى:

هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ و يُؤْتُونَ الزَّكاةَ* الآية، و كلّ هذه العبارات قاضية ببطلان الجبر و التفويض، و اثبات الأمر بين الأمرين فانّ قوله هدى يدلّ على بطلان التفويض المطلق، إذ مع كون الهداية من اللّه، مفتقرة الى الواجب في وجودها و بقائها و الممكن يحتاج الى المؤثّر كما قال عليه السّلام لو لا انّا نزداد لا نفدنا او لينفد ما عندنا، و الحاصل انّ إيصال الفيض من خزانة الأمر و عالم المشيّة، و هذا البيان مبطل للتفويض.

و امّا ما يبطل الجبر فهو قوله: للمتّقين، إذ التقوى لا يتحقّق الّا بالاختيار و المدح المستفاد من الآية ايضا لا يصدق على التقوى الغير الاختياري لأنّ نسبة الفعل الى المتّقين يدلّ على اختيارهم في ذلك، و الّا لم يصحّ استناد الايمان بالعباد، و مع ملاحظة مجموع ذلك يستنبط معنى الأمر بين الأمرين، و معرفة ذلك يتوقّف على معرفة حقيقة المشيّة و الارادة، و الاذن، و الأجل، و القضاء و القدر، و الاستطاعة، و التوفيق؛ و الخذلان و السعادة و الشقاوة، و غير ذلك مما يتعلّق بهاتين المسألتين.

تحقيق شريف- و هو انّه قد ثبت بالبراهين انّ الأئمّة كانوا عالمين بجميع ما كان و ما يكون و انّهم بمنزلة الّزيت في المشية، و لا يجوز عليهم السهو و النسيان، و قد صحّ ايضا انّ إلقاء النفس الى التهلكة غير جائز عقلا و شرعا، فكيف اقدموا على إهلاك أنفسهم، و لدفع هذا الأشكال وجوه: الأول انّ إلقاء النفس الى التهلكة، حكم ظاهرىّ و ليس من المستقلات العقليّة الغير القابليّة للتخصيص، و لذا ترى انّ الجهاد و الدفاع واجبان و ان استلزما الضرر، و ذلك من جهة الرعاية المصلحة القويّة الراجحة على مفسدة إهلاك النفس، كما انّ التمكين من القصاص و الحدّ واجب شرعا و العقل لا يحيط بالمصالح الواقعيّة، و انّما الملازمة بين حكمى الشرع و العقل ظاهريّة فالوجوب و التحريم ظاهريّان ثابتان ما لم يحكم الشرع بخلافهما فحينئذ مع علمهم بقضاء الحكمة البالغة

ص: 141

المتعلّقة بالشهادة و تعلّق القضاء الحتمىّ الموجب للمصلحة لا مناص لهم من تحمّله كي تجرى تقادير اللّه.

الثاني: انّ تلك القواعد مثل حرمة إلقاء النفس الى التهلكة او الضرر و ما أشبه ذلك من القواعد القابلة للتخصيص و هي من قبيل المقتضى فلو زاحمها المصلحة القويّة الراجحة على ذلك يقتضى التكليف ملاحظة الرجحان كما هو القاعدة في جريان قاعدة التزاحم في سائر المقامات.

الثالث: انّ رضاهم و تكليفهم تابع لرضى اللّه، و لا يشاؤن الّا ان يشاء اللّه، فعلمهم ليس مانعا من جريان قضاء اللّه، و ارادته، و اجله، و كتابه، عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بامره يعملون، الا ترى انّهم كانوا يحفظون أنفسهم عن الضرر و الهلكة في عامّة المقامات و ربما دعوا اللّه سبحانه في دفعه و يدفعه عنهم لما علموا انّ ذلك ليس محتوما عليهم، و ربما يسعون في سلوك مسالك الضرر لعلمهم بانّ اللّه قد كان قدّر ذلك عليهم، و قضاه، و لا بدّ ان يجرى، و علموا انّ ذلك التقدير مبنيّ على الحكم و المصالح.

الرابع: انّ ذلك ليس ضررا، بل بمنزلة المعاوضة الرابحة، قال اللّه: انّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأنّ لهم الجنّة، و انّما هي تبديل الفاني بالحيوة الباقية الا ترى انّ أداء الخمس و الزكاة و أشباههما ليس ضررا، بل تبديل بنفع عظيم، و الى هذا المعنى أشار علىّ عليه السّلام بقوله: فزت و ربّ الكعبة، و قال عليه السّلام: ليس هذا موضع الصبر انّما هو موضع البشرى انتهى. رجعنا الى التفسير.

[سورة البقرة (2): آية 39]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)

«وَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ذكر سبحانه قسيم فمن تبع هداي اى: و من لم يتبع و إيراد الموصول بصيغة الجمع للاشعار بكثرة الكفرة اى: و الذين كفروا برسلنا المرسلة إليهم «وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة عليهم، و كفروا جنانا، و كذّبوا لسانا، «أُولئِكَ» اشارة الى الموصول «أَصْحابُ النَّارِ» ملازموها، و ملابسوها، فسمّوا بالأصحاب لاتصالهم بها و بقائهم فيها «هُمْ فِيها» اى في النار «خالِدُونَ» دائمون، و الجملة في حيّز النصب على الحاليّة و في هاتين الآيتين دلالة على انّ الجنّة في جهة عالية،

ص: 142

دلّ عليه اهبطوا منها، و انّ متّبع الهدى مأمون العاقبة، لقوله فلا خوف، و انّ عذاب النار دائم، و الكافر مخلّد فيه، و انّ غيره لا يخلّد فيه، بمفهوم قولة تعالى «هُمْ فِيها خالِدُونَ» فانّه يفيد الحصر.

حكى انّ مالك ابن دينار مرّ يوما على صبيّ و هو يلعب بالتراب يضحك تارة و يبكى اخرى، قال مالك فهممت ان أسلّم عليه، فامتنعت نفسي تكبّرا، فقلت يا نفس كان النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسلّم على الصغار و الكبار، فسلّمت عليه، فقال و عليك السلام يا مالك، فقلت من اين عرفتني و لم تكن رأيتنى، فقال حيث التفت روحي بروحك في عالم الملكوت، عرّف بيني و بينك الحىّ الّذى لا يموت، فقلت ما الفرق بين العقل و النفس، قال نفسك الّتى منعتك عن السلام، و عقلك الّذى بعثك عليه، فقلت ما بالك تلعب بهذا التراب، فقال لأنّا منه خلقنا و اليه نعود، فقلت أراك تضحك تارة و تبكى اخرى، قال نعم: إذا ذكرت عذاب ربّى بكيت، و إذا ذكرت رحمته ضحكت، فقلت يا ولدي اىّ ذنب لك حتى تبكى، فقال يا مالك لا تقل هذا فانّى رأيت امّى لا توقد الحطب الكبار الّا و معه الحطب الصّغار، و نقل مثل هذه الحكاية يعنى فقرة الاخيرة منها عن يحيى بن زكريّا.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 40]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)

«يا بَنِي إِسْرائِيلَ» الابن، و الولد، و النسل، و الذريّة متقاربة المعاني، الّا انّ الابن للذكر، و الولد يقع على الذكر و الأنثى، و النسل و الذريّة يقع على الجميع، و الابن أصله من البناء، و هو وضع الشي ء على الشي ء و الأبن مبنيّ على الأب، لأنّ الابن فرع الأب، فبنى عليه، و البنوّة مصدر الأبن و ان كان من الياء كالفتوّة مصدر الفتى؛ و إسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل، و اسرا معناه العبد، و ايل:

اللّه، بلغة العبرانيّة، فمعناه عبد اللّه، و كذلك جبرئيل و ميكائيل، و لمّا ذكر انعاماته العامّة بذكر دلائل التوحيد و ما شرّف به آدم عليه السّلام عقّبها بذكر الإنعامات الخاصّة على إسلاف اليهود الذين في عهد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الخطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب و حولها من بنى قريضة و النضير و هم كانوا من أولاد يعقوب و

ص: 143

تخصيص هذه الطائفة بالذكر لما انّهم اكثر الناس كفرا بنعمة اللّه.

«اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ»: الذكر بضم الذال بالقلب خاصّة بمعنى الحفظ الّذى يضادّ النسيان، و الذكر بكسر الذال، يقع على الذكر باللسان، اى احفظوا بالجنان، و اشكروا باللسان نعمتي، و النعمة اسم جنس بمعنى الجمع «الَّتِي أَنْعَمْتُ» بها «عَلَيْكُمْ» و فيه اشعار بانّهم قد نسوها بالكلّية و لم يخطروها بالبال، و أهملوا شكرها «وَ أَوْفُوا» اتمّوا و لا تتركوا «بِعَهْدِي» الّذى قبلتم: و هو ما عهده إليهم في التورية من اتّباع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و العهد حفظ الشي ء و مراعاته حالا فحالا؛ «أُوفِ بِعَهْدِكُمْ»: اتمّم جزائكم بحسن الاثابة و دخول الجنّة، و العهد يضاف الى المعاهد و المعاهد، و هو هنا مضاف الى المفعول، كما انّ العهد الأوّل مضاف الى الفاعل، فانّ اللّه قد عهد إليهم و إلينا بالإيمان و العمل الصالح، بنصب الدلائل و إرسال الرسل و وعد للكلّ بالثواب على الحسنات، فاوّل مراتب العهد منّا، هو الإتيان بكلمتي الشهادة، و آخرها الاستغراق في بحر التوحيد بحيث نغفل عن أنفسنا، فضلا عن غيرنا، و منه تعالى حقن المال و الدم في الدنيا، و الفوز باللقاء الدائم في الآخرة؛ «وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ»: اى ارهبونى فيما تأتون و تذرون خصوصا في نقض العهد و حذف الياء في فارهبون تخفيفا لموافقة رؤس الآي كانّه قيل: ان كنتم ترهبون شيئا فارهبونى، و الآية متضمّنة على وجوب الشكر، و الوفاء بالعهد، و ان لا يخاف العبد الّا اللّه للحصر المستفاد من تقديم ايّاى، و التضمّن للوعد بقوله: أوف، و الوعيد بقوله: و ايّاى فارهبون، و النعم الّتى أنعمها على أسلافهم معلومة مثل انجائهم من فرعون، و كثرة الأنبياء منهم، و انجائهم من الغرق، و إنزال المنّ و السلوى عليهم و كون الملك فيهم منهم في زمن سليمان و غير ذلك؛

[سورة البقرة (2): آية 41]

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

ثمّ قال مخاطبا لليهود «وَ آمِنُوا» يا بنى إسرائيل «بِما أَنْزَلْتُ» اى القران «مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» اى حالكون القرآن مصدّقا للتوراة، لأنّ القرآن نازل

ص: 144

حسبما نعت في التوراة، فانّ ايمانهم بما معهم ممّا يقتضى الايمان بالقرآن.

قال الرازي: قد اثبت في التوراة و في الكتب المتقّدمة من وصف محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كتابه، و البشارة بمقدمه مثل ما جاء في الفصل التاسع من السفر الأوّل من التوراة، انّ هاجر لمّا عضبت عليها سارة، تراءى لها ملك، فقال لها يا هاجر، انّى تريدين، و من اين أقبلت، قالت اهرب من سيّدتى سارة، فقال لها: ارجعي الى سيّدتك، و اخفضى لها، فان اللّه سيكثر زرعك و ذرّيتك، و ستحبلين و تلدين ابنا و تسمّيه إسماعيل من أجل انّ اللّه سمع تبّتلك و خشوعك، و هو يكون عين الناس، و يكون يده فوق الجميع و يد الجميع مبسوطة اليه بالخضوع، و معلوم انّ إسماعيل و ولده لم يكونوا متصرّفين في معظم الأمم، و لا كانوا مخالطين للكلّ على سبيل الاستيلاء بحيث يكون يده فوق الجميع، و انّهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية و لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق و أوائل الشام، الّا على خوف، و ليس يجوز ايضا للملك ان يبشّر من قبل اللّه بالظلم و الجور بناء على انّ من أولاد إسماعيل من العرب كان فيهم مستولين بالغلبة و الجاهليّة، فلو لم يكن النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك المبشّر، لكانت هذه المخالطة منهم للأمم، و من الأمم منهم معصية للّه و خروجا عن طاعة اللّه الى طاعة الشيطان، و الملك يتعالى من ان يبشّر بما هذا سبيله، فتحقّق انّ المراد من بشارة الملك وجود محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذى من نسل إسماعيل، و ايضا جاء في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: انّ الرّب إلهكم يقيم لكم نبيّا مثلي من بينكم، و من إخوانكم، و في هذا الفصل: انّ الربّ تعالى قال لموسى انّى مقيم لهم نبيّا مثلك من بين إخوانهم، و ايّما رجل لم يسمع كلماتي الّتى يؤدّيها عنّى ذلك الرّجل باسمي أنا أنتقم منه، و هذا الكلام يدلّ على انّ النّبى الّذى يقيمه اللّه ليس من بنى إسرائيل، كما انّ من قال لبنى هاشم انّه سيكون من إخوانكم امام، فهم من هذا الكلام انّه لا يكون من بنى هاشم، ثمّ انّ يعقوب هو إسرائيل و لم يكن له أخ الّا العيص: و لم يكن للعيص ولد من الأنبياء سوى ايّوب، و انّه كان قبل موسى، فلا يجوز ان يكون موسى مبشّرا به، و امّا إسماعيل فانّه كان أخا لإسحاق والد يعقوب، ثمّ انّ كلّ نبىّ بعث بعد موسى، كان من بنى إسرائيل، فالنّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

ص: 145

ما كان منهم لكنّه كان من إخوانهم لأنّه من ولد إسماعيل الّذى هو أخو اسحق، فان قيل قوله من بينكم يمنع من ان يكون المراد محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه لم يقم من بين بنى إسرائيل، قلنا بلى: قد قام من بينهم لأنّه ظهر بالحجاز فبعث بمكّة، و هاجر الى المدينة، و بها تكامل امره، و قد كان حول المدينة بلاد اليهود كخيبر و بنى قينقاع و النضير و غيرهم و الحجاز يقارب الشام و جمهور اليهود كانوا، إذ ذاك، هناك، فإذا قام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحجاز، فقد قام من بينهم، و ايضا فانّه إذا كان من إخوانهم، فقد قام من بينهم، فانّه ليس ببعيد منهم؛ و قال في الفصل العشرين من هذا السفر: انّ الرّب تعالى جاء في طور سيناء، و و طلع لنا من ساعير و ظهر من جبال فاران، و صفّ عن يمينه عنوان القدّيسين، فمنحهم العزّ، و حبّبهم الى الشعوب، و دعا لجميع قدّيسيه بالبركة؛ و وجه الاستدلال انّ جبل فاران هو بالحجاز لأنّه مذكور في التوراة: إنّ إسماعيل (ع) تعلّم الرومي في بريّة فاران، و معلوم انّه انّما سكن بمكّة، إذا ثبت هذا فقوله فمنحهم العزّ لا يجوز ان يكون المراد إسماعيل (ع) لأنّه لم يحصل عقيب سكنى إسماعيل هناك عزّ و لا اجتمع هناك ربوات المقدّسين، فوجب حمله على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال الرازي: و في كتاب حبقوق بيان ما قلنا، و هو جاء اللّه من طور سيناء و القدس من جبل فاران، لو انكشفت السماء من بهاء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و امتلأت الأرض من حمده، يكون شعاع منظره مثل النور، يحفظ بلده بعزّه، تسير المنايا امامه؛ و يصحب سباع الطير اجناده، قام فمسح الأرض، و تأمل الأمم، و بحث عنها، فتضعضعت الجبال القديمة، و اتضعت الروابي الدهريّة، و تزعزعت ستور اهل مدين، ركبت الخيول، و علوت مراكب الانقياد و الغوث و ستنزع في قسّيك إغراقا و نزعا، و ترتوى السهام بأمرك يا محمّد ارتواء و تخور الأرض بالأنهار و لقد رأتك الجبال فارتاعت، و انحرف عنك شؤبوب السّبل؛ و نفرت المهارى نفيرا و رعبا، و رفعت أيديها وجلا و فرقا، و توقّفت الشمس و القمر عن مجراهما، و سارت العساكر في برق سهامك و لمعان بيانك، تدوخ الأرض غضبا، و تدوس الأمم زجرا، لأنّك ظهرت بخلاص أمّتك و إنقاذ تراب آبائك، هكذا نقل عن ابن رزين الطبري.

قال الرازي: و امّا النصارى فقال ابو الحسين في كتاب الغرر قد رأيت في نفولها

ص: 146

و ظهر من جبال فاران لقد تقطّعت السماء من بهاء محمّد المحمود، و ترتوى السهام بأمرك المحمود، لأنّك ظهرت بخلاص امّتك، و إنقاذ مسيحك، فظهر من هذا الكلام انّ قوله تعالى في التوراة: ظهر الرّب من جبال فاران ليس معناه ظهور النار منه، كما زعمه اليهود لأنّهم يقولون انّ النار لمّا ظهرت من طور سيناء ظهرت ايضا من ساعير نار و من جبل فاران، و هم لايقاع الشكوك في محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اوّلوا هذه العبارة بظهور النار في جبل فاران، فظهر ممّا نقل ابو الحسين عن نقول النصارى انّه ليس معناه ظهور النار منه و لو كان ظهر منه النار على قول اليهود؛ بل معناه ظهور شخص موصوف بهذه الصفات، و ما ذاك الّا رسولنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه كيف يوصف اللّه بأنّه يركب الخيول، و جاء في كتاب اشعياء في الفصل الثاني و العشرين منه قومي فازهرى مصاحبك يريد مكّة، فقد دنا وقتك، و كرامة اللّه طالعة عليك، فقد تجلّل الأرض الظلام، و غطى على الأمم، الضباب، و الربّ يشرق عليك إشراقا و يظهر كرامته عليك، تسير الأمم الى نورك و الملوك الى ضوء طلوعك، و ارفعى بصرك الى ما حولك، و تأمّلي فانّهم مستجمعون عندك، و يحجّونك و يأتيك ولدك من بلاد بعيدة لأنّك امّ القرى فأولاد ساير البلاد كانّهم أولاد مكّة، يميل إليك ذخائر البحر، و يحجّ إليك عساكر الأمم، و يساق إليك كباش مدين، و يأتيك اهل سبا، و يتحدّثون بنعم اللّه، و تسير إليك أغنام فاران، و يرفع الى مذبحى ما يرضيني، و أحدث حينئذ لبيت محمدتى حمدا، و وجه الاستدلال انّ هذه الصفات كلّها موجودة لمكّة، فانّه قد حجّ إليها عساكر الأمم، و مال إليها ذخائر البحر، و قوله و أحدث لبيت محمدتى حمدا: معناه انّ العرب كانت تلبّى قبل الإسلام فتقول لبّيك لا شريك لك الّا شريك هو لك، تملكه و ما ملك، ثم صار في الإسلام لبّيك اللهم لبّيك لا شريك لك لبّيك، فهذا هو الحمد الّذى حدّده اللّه لبيت محمدته؛ روى السمان في تفسيره في السفر الاول من التوراة: انّ اللّه تعالى اوحى الى ابراهيم (ع) قد أجبت دعائك في إسماعيل (ع)، و باركت عليه، فكبّرته و عظّمته جدّا، و سيلد اثنى عشر عظيما و اجعله لامّة عظيمة، و الاستدلال به انّه لم يكن في ولد إسماعيل (ع) من

ص: 147

كان لأمّة عظيمة غير نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و امّا دعاء ابراهيم و إسماعيل عليهما السلام فكان لرسولنا لمّا فرغا من بناء الكعبة، فهو قوله ربّنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلّمهم الكتاب و الحكمة و يزكّيهم انّك أنت العزيز الحكيم، و لهذا كان يقول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انا دعوة ابراهيم (ع) و بشارة عيسى (ع)، و هو قوله و مبّشرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال المسيح للحواريّين: انا اذهب و سيأتيكم الفارقليط روح الحقّ الّذى لا يتكلّم من قبل نفسه و الفارقليط معناه الّذى يميّز بين الحقّ و الباطل و قيل: معناه الشافع المشفّع و هذه الكلمة فاروقليط و فاروق المميّز، و ليط معناه التحقيق في الأمر.

(فائدة) و لو قيل لو كان الأمر كما قلتم، فكيف يجوز من جماعتهم جحد هذا الأمر، فالجواب انّ هذا العلم كان نصّا خفيّا لا جليّا في اغلب آياته، فجاز إيقاع الشكوك و الشبهات فيه، و دواعي إيقاع الشبهات كانت لأهلها كثيرة، و ايضا انّ هذا العلم كان حاصلا عند العلماء بكتبهم، لكن لم يكن لهم العدد الكثير، فجاز منهم كتمانه انتهى.

قوله: و «آمِنُوا» يا بنى إسرائيل «بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» من كتاب و رسول تجدونه مكتوبا في التوراة و الإنجيل، اى حالكون القرآن مصدّقا للتوراة، و مذكور في القرآن انّ موسى و عيسى حقّ، و انّ التوراة و الإنجيل حقّ، فكان الايمان بالقرآن مؤكّدا للايمان بالتوراة و الإنجيل، هذا احد الوجهين في تفسير مصدّقا لما معكم، و الوجه الثاني: انّه حصلت البشارة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالقرآن في التوراة و الإنجيل، فالإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن، ايمان و تصديق للتوراة و الإنجيل، و تكذيب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن، تكذيبا للتوراة و الإنجيل، و الوجه الثاني انسب.

«وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ»: اى بالقرآن، فانّ وزر المقتدى يكون على المبتدي، فان قيل كيف قال اوّل كافر و قد سبقهم مشركو العرب: اى لا تكونوا اوّل كافر به من اهل الكتاب، و قيل وجه آخر و هو انّ هذا تعريض لهم بانّه كان يجب ان يكونوا اوّل من يؤمن، لمعرفتهم بخبر نزول القرآن، لأنّهم كانوا هم المبشّرون بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بكتابه، فلمّا بعث كان أمرهم على العكس، لقوله: فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا و قيل و لا تكونوا مثل اوّل كافر به، و قيل الضمير راجع الى كتابهم، يعنى لا تكونوا

ص: 148

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 199

اوّل من كذّب كتابه، لأنّ تكذيب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تكذيب التوراة، لأنّ فيه بشارة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتكذيبه تكذيب كتابهم، و قيل وجه آخر: اى لا تكونوا اوّل من جحد مع المعرفة، لأنّ كفر قريش و غيره في الغالب مع الجهل، لامع المعرفة، بخلاف اهل الكتاب، فانّ فيهم علماء، نحارير، احبار، و فيهم من يستفتح بمقدمه الشريف، و يبشّر بزمانه.

«وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي»: اى لا تأخذوا لأنفسكم بدلا منها «ثَمَناً قَلِيلًا» من الحظوظ الدنيويّة، و كانت عامّتهم يعطون الأحبار و علمائهم، من زروعهم و ثمارهم و يهدون إليهم الهدايا و الرشى على تحريفهم الكلم، و تسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع و الحدود، و كان ملوكهم يجرون عليهم الرواتب و الأموال ليكتموا و يحرّفوا حكى انّ كعب ابن الأشرف قال لأحبار اليهود و هم جماعة، ما تقولون في محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالوا انّه نبىّ، قال لهم كان لكم عندي صلة و عطيّة لو قلتم غير هذا، قالوا أجبناك من غير تفكّر، فأمهلنا نتفكّر و ننظر في التوراة، فخرجوا و بدّلوا نعت النبىّ، ثم رجعوا و قالوا غير قول الأوّل، فاعطى كلّ واحد منهم صاعا شعيرا و اربعة اذرع من الكرباس، فهو القليل الّذى ذكره اللّه في هذه الآية.

«وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ»: بالإيمان و الاعراض عن حطام الدنيا، و إعادة لأنّ معنى الأوّل اخشوني في نقض العهد، و هذا معناه في كتمان نعت النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و في الآية دلالة على تحريم أخذ الرشى في الدين، لأنّه لا يخلو امّا ان يكون امرا يجب إظهاره او يحرم إظهاره، فالأخذ على مخالفة كلا الوجهين حرام، و هذا الخطاب يتوجّه ايضا على علماء السوء من هذه الامّة إذا اختاروا الدنيا على الدين، فتدخل فيه الشهادات، و القضايا، و الفتاوى، و غير ذلك؛

[سورة البقرة (2): آية 42]

وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

«وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ»: اى لا تخلطوا الحقّ المنزل، بالباطل الّذى تخترعونه، و تكتبونه، حتّى لا يميّز بينهما، و تجعلوا الحقّ ملتبسا بسبب الباطل الذي تكتبونه في خلاله، و تأوّلونه بغير ما هو صحيح؛ «وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ»: بإضمار، لا، و هو نهى عن الكتمان، في اظهار الحقّ؛

ص: 149

«وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»: حالكونكم عالمين بأنّكم، لابسون، كاتمون، و الخطاب و ان كانت خاصّة ببني إسرائيل، فهي تتناول من فعل فعلهم، من تغيير حقّ و إبطاله؛ فمن أخذ رشوة، على تغيير حق و إبطاله، او امتنع من تعليم ما وجب عليه، او أداء ما علمه، و قد تعيّن و وجب عليه ادائه، حتّى يأخذ عليه اجرا، فقد دخل في مقتضى الآية، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يمنعنّ أحدكم هيبة احد، ان يقول، او يقوم بالحقّ حيث كان، و قيل: معنى قوله «وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ». اى و أنتم تعلمون ما نزّل ببني إسرائيل، حين عصوا، من المسخ و غيره، مثل كفّار اهل المائدة، و لعنهم عيسى عليه السّلام، فمسخوا خنازير، و كانوا خمسة آلاف رجل، ما فيهم، امراة، و لا صبيّ، و عمدة السبب، انّهم اصطلحوا على الكفّ عن نهى المنكر، كما قال اللّه: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، اى: لا ينهى بعضهم بعضا عن قبيح يعلمونه، في الحديث: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحشر يوم القيمة، أناس من امّتى، من قبورهم الى اللّه، على صورة القردة، و الخنازير، و ذلك بما داهنوا اهل المعاصي، و كفّوا عن نهيهم، و هم يستطيعون، او، و أنتم تعلمون البعث و الجزاء.

[سورة البقرة (2): آية 43]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

قوله تعالى: الصلاة عند اكثر اهل اللغة، الدعاء، و قيل، أصلها اللزوم، فكان معنى الصلاة في الأصل ملازمة العبادة على وجه امر اللّه به، و في اصطلاح الشرع، اسم لهذه الهيئة المخصوصة بآدابها؛ «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ»: خطاب لبنى إسرائيل، اى، ادّوها، و اقبلوها، و اعتقدوا وجوبها، و افعلوها كصلوة المسلمين، فانّ غيرها، كلا صلاة، «وَ آتُوا الزَّكاةَ»: كزكوة المسلمين، على ما بيّنه النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكم، و هذا حكم جميع ما ورد في القرآن من الاحكام مجملا، فانّ بيانه موكول الى النبىّ، كما قال: و ما آتيكم الرسول فخذوه و ما نهيكم عنه فانتهوا، فلذلك أمرهم بالصلوة، و الزكاة، على طريق الإجمال، و أحال في التفصيل الى بيانه،

ص: 150

«وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ»: و انّما خصّ الركوع بالذكر، و هو من افعال الصلاة بعد قوله و اقيموا الصلاة لاحد وجوه، الأوّل: انّ الخطاب لليهود، و لم يكن في صلاتهم ركوع، و كان الأحسن ذكر المختصّ، دون المشترك؛ و ثانيها: انّه عبّر بالركوع عن الصلاة بقول القائل فرغت من ركوعي، اى صلاتي، و انّما قيل للركوع، الصلاة، لأنّ الركوع اوّل ما يشاهد من الأفعال الّتى يستدلّ بها على انّ الإنسان يصلّى فكأنّه كرّر ذكر الصلاة و الأمر بها تأكيدا، و اشارة الى الصلاة الشرعيّة اى صلّوا مع هؤلاء المسلمين، الراكعين، حتّى تكون الصلاة متخصّصة بالصلوة المتقرّرة في شرع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لا صلاتهم، و ثالثها: انّه حثّ على صلاة الجماعة، فانّ صلاة الجماعة، تفضّل صلاة الفذ بسبع و عشرين درجة لما فيها من تظاهر النفوس في التعبّد، فانّ الصلاة، كالغزو، و المحراب كمحلّ الحرب، و لا بدّ للقتال مع العدوّ، من صفوف الجماعة، فالجماعة قوّة قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما اجتمع من المسلمين في جماعة، أربعون رجلا، الّا و فيهم رجل، مغفور له، فاللّه تعالى أكرم من ان يغفر له، و يردّ الباقي خائبين، و في الحديث: ما افرض اللّه على خلقه، بعد التوحيد، فرضا احبّ اليه من الصلاة، و لو كان شي ء احبّ اليه من الصلاة، لتعبّد به ملائكته، فمنهم راكع، و ساجد و قائم، فكان من شأن المصلى، ان يبالغ في الحضور، فكان السلف، لو شغلهم في الصلاة ذكر مال، يتصدّقون به تكفيرا، و لا ينظر اللّه تعالى، الى صلاة، لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه، و بعد قبول العبد، التوحيد، و هو الركن الأعظم، كلّف بالصلوة، ثمّ بالزكوة؛ لأنّ فيها إصلاح النفس، بازالة شحّها، و إصلاح الغير، بقوام معيشته، و إيصال حقّه اليه:

و الصلاة: قربان كلّ تقيّ، و خير موضوع، فاجتهد في هذا العمل، و دع الكسالة، حتّى توثّق نفسك بقيد التقوى، فان تكن رأيت احوال السابقين المتداركين ليومهم الآتي، كيف تحمّلوا المشقّات، خوفا من التقصير، و الحرمان، من ذخيرة المعاد فقد سمعت بأحوالهم، قال محمّد التستري: رأيت كهلا اجهد به العبادة في الطواف، و

ص: 151

اصفرّ لونه، و بيده عصا، و هو يطوف معتمدا بعصاه، قال: فسئلت عنه، من اين أنت، قال: من أقصى بلاد خراسان، من نواحي المشرق، فقلت له، في كم قطعت هذه المسافة، قال خرجت من بلدي، و لم يكن في رأسي و لحيتي شيب، فقلت هذه و اللّه الطاعة، فضحك، و إنشاء يقول:

زر من هويت و ان شتّت بك الدارانّ المحب لمن يهواه زوّار.

و اعلم انّ خراب الدين، بشهوتين الفرج و البطن، و الاولى هي الكبرى، فان كنت تحبّ الدين، فاحكم الحصنين، و معلوم انّ الدنيا و الآخرة، ضرتان، و لك إليهما كرّتان، لكن إحداهما، حرّة خريدة، و الاخرى امة مريدة، فاجعل للحرّة يومين، فانّ لها قسمين و للامة قسما، فاضعف نصيبك من العقبي، و لا تنس ان لم تقدر، نصيبك من الدنيا، و احفظ القسمة العادلة، و لا تكن ممّن يحبّون العاجلة، فالويل ثم الويل، ان تميلوا كل الميل، و الآخرة خير لك من الاولى، و أنت عنها مسؤلا، فان خفت على دينك، فطلّق الدنيا، فانّها زائدة، و ان خفتم ان لا تعدلوا فواحدة.

رجعنا الى التفسير «أَقِيمُوا الصَّلاةَ»: و هي عبادة عن الأفعال المخصوصة، بناء على ثبوت الحقيقة الشرعيّة، او الحقيقة المتشرّعة، او المجاز المشهور، و المراد خصوص الصحيح، إذ الفاسد لا يخرج عن عهدة التكليف، و لا مدح له، و هي بعد التوحيد اصل العبادة و العبوديّة، و بوجه أخر تنطبق الصلاة، مع حقيقة الولاية، من وجوه كثيرة، منها: انّ الصلاة، كمال العبودية، و تمام مراتب العبوديّة، مندرجة في الولاية، بل لا تتحقّق الّا بها، و منها: انّ الصلاة ذكر اللّه، قال اللّه تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي و هم اهل الذكر، و مذكّر، و ذاكر، و منها: انّ الصلاة، تنهى عن الفحشاء و المنكر، و ولايتهم، تنهى عن الكفر و الشرك، و عن المعاصي، بل عن مطلق الذنب، لأنّها كفّارة للذنوب كما في الحديث: حبّ عليّ حسنة لا يضرّ معها سيّئة، و منها:

انّ الصلاة، بمعنى الرحمة، و هم معدنها، و اصل الرّحمة، و منها: انّ الصلاة، قربان كلّ تقيّ، و هم الوسيلة بين اللّه، و بين عباده الأتقياء، في مقام القرب، لأنّهم أبواب اللّه الّتي لا يؤتى إلّا منها، و بهم يسلك إلى اللّه، و منها: انّ الصلاة، تشتمل على أسرار التوحيد، و المعارف الربّانية، و في الزيارة و أحكمتم توحيده، و منها: انّ الصلاة،

ص: 152

أفضل من سائر العبادات، و ولاية محمّد و آله أفضل الولايات، و منها: انّ الصلاة، عمود الدّين، إن قبلت قبل ما سواها، و الولاية أيضا كذلك، و منها: انّ الصلاة، شافعة للمصلّين يوم القيمة، و الوليّ أيضا شفيع الخلائق؛ و الحاصل: انّ تمام الفضائل، المأثورة الثابتة، للصلاة، فهي بعينها جارية، و ثابتة للإمام و الولاية، و لهذا اوّلوا الصلاة، اهل التفسير، بأمير المؤمنين، و المتّقين مفسّر بشيعتهم، فانّهم الّذين أقاموا امر الولاية، و بالجملة، فكلّ خير خلقه اللّه، انّما يفيض إليهم أوّلا، ثمّ بهم، و عنهم إلى من سواهم، لأنّهم مساكن بركة اللّه حتّى الأرزاق، و لهم الولاية على ميكائيل الّذي هو الواسطة في قسمة الأرزاق، و في قوله تعالى: و السماء و الطارق: ففي الحديث، السّماء، أمير المؤمنين، و الطارق، ما يطرق فيه من العلوم البدائيّة، و بهذا الاعتبار، انّ الرزق نزل بواسطة، لأنّه الواسطة في كافّة الفيوضات، و الرزق من الفيوضات، لكن خالق الرزق، و الفيض، و مقدّره، هو اللّه، و لا رازق، و لا معطى إلّا اللّه، اللّه يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر.

[سورة البقرة (2): آية 44]

أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44)

«أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ»: الهمزة للتوبيخ و التعجيب، و الخطاب لعلماء اليهود، و المراد بالناس سفلتهم «بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ»: و البرّ، التوسّع في الخير، من البرّ الّذي هو الفضاء الواسع، و المراد في الآية، الإيمان بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك لأنّهم كانوا يقولون لفقرائهم، و أقربائهم من المسلمين، اثبتوا ما أنتم عليه من الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هم لا يؤمنون، وبّخهم اللّه على ما كانوا يفعلون من امر الناس بالإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ترك أنفسهم عنه و قال أبو مسلم كانوا يأمرون العرب بالإيمان به إذا بعث، فلمّا بعث أنكروا، و قال قتادة كانوا يأمرون الناس بطاعة اللّه و هم يخالفونه.

و روى أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هم خطباء من أهل الدنيا، ممّن كانوا يأمرون الناس بالبرّ و ينسون أنفسهم؛

ص: 153

و قال بعضهم: المراد أ تأمرون الناس بالصدقة، و تتركونها أنتم، و إذا أتتكم الصدقة لتفرّقوها على المساكين خنتم فيها «وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ»: و الحال أنتم تتلون و تقرءون التوراة، الناطقة بنعوته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، او الامتناع عن مثل هذه القبائح؛ الكتاب وعاء ملي ء علما، و ظرف حشى ظرفا، إن شئت كان اعي من باقل و لو أردت أبلغ من سحبان وائل، و الكتاب نعم الظهر و العدّة، و نعم الكنز و العقدة، و هو الأنيس في الوحدة، و الجليس الّذي لا يغويك، و الصديق الّذي لا يغريك، و متى رأيت يا فتى بستانا تجمّل في ردن، و روضة تقلّب في حجر، ينطق عن الموتى، و يترجم كلام الأحياء، ناسك، فاتك و ساكت، ناطق، طبيب اعرابيّ، فارسيّ، يونانيّ، قديم، مولد ميّت، حيّ، و لولاه لبطل العلم و الفكر، و غلب سلطان النسيان على جنود الذكر، الكتاب معقل العقلاء، إليه يلجئون و بستانهم فيها يتنزّهون؛ «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» و تعرفون بعقلكم انّه قبيح منكم، و العقل في الأصل، المنع و الإمساك، و منه العقال الّذي يشدّ به وظيف البعير إلى ذراعيه، لحبسه عن الحراك سمّى به النور الروحاني الّذي به تدرك النفس الإنسانى، العلوم الضروريّة و النظريّة، لأنّه يحبس عن تعاطى ما يقبح، و يعقل على ما يحسن، و محلّه الدماغ عند بعض، و عند البعض محلّه القلب، و عند البعض هو نور منبسط في بدن الآدميّ؛ قال المولى إسماعيل الحقّي، في تفسيره «روح البيان»: إنّ هذا التوبيخ و الإنكار في قوله تعالى: أ تأمرون، ليس على أمر الناس بالبرّ، بل الترك العمل به، فمدار الإنكار، جملة تنسون أنفسكم، دون أ تأمرون الناس، فلا يستقيم قول من لا يجوز الأمر بالمعروف، لمن لا يعمل به، لهذه الآية، بل يجب العمل به، و يجب الأمر به، و هذا لأنّه إذا أمر به مع أنّه لا يعمل به، فقد ترك واجبا، و إذا لم يأمر به فقد ترك واجبين، فالأمر بالمعروف، معروف، و لكن قلّما نفعت موعظة من لم يعظ نفسه، و من نهى غيره، فليكن أشدّ الناس انتهاء عنه، و هذه الآية ناعية على من يعظ غيره، و لا يعظ نفسه، سوء صنيعه، و عدم تأثّره، و المراد، حثّ الواعظ على تزكية النفس و

ص: 154

الإقبال عليها بالتكميل لتقوم بالحقّ، و تقيم غيرها، لا انّ الفاسق ممنوع عن الأمر بالمعروف و المواعظ الشافية، فانّ الإخلال بأحد المأمورين، لا يوجب الإخلال بالآخر؛ حكى انّه كان عالم من العلماء، قوىّ التصرف في القلوب، مؤثّر الكلام، و ربّما يموت من اهل مجلسه واحد و اثنان، من شدة تأثير وعظه، و كان في بلده، عجوز لها ابن صالح رقيق القلب، سريع الانفعال، و كانت تحرز عليه، و تمنعه من حضور مجلس- الواعظ، فحضره على حين غفلة منها، فوقع من امر اللّه ما وقع، ثم انّ العجوز لقيت الواعظ يوما في الطريق، فقالت:

أ تهدي الأنام و لا تهتدى الا انّ ذلك لا ينفع

فيا حجر الشحذ حتّى متى تسنّ الحديد و لا تقطع

فلمّا سمعها الواعظ، شهق شهقة، فخرّ مغشيّا عليه، فحملوه الى بيته فتوفّى!! قال الأوزاعي: شكت النواويس الى اللّه، ما تجده من جيف الكفّار، فأوحى اللّه إليها، بطون العلماء السوء، أنتن ممّا أنتم فيه- انتهى؛ أقول: انّ الواعظ سواء كان عاملا، او غير عامل، لا بدّ منه إن يلاحظ هذه النكتة الدقيقة، و هي انّه يثبت للمستعين جهلا، و لنفسه فضلا عليهم، و هو محض كبر و عجب و حيل النفس و الشيطان كثيرة، و هذا الأمر يهلكه.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 45]

وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)

قيل: الخطاب لليهود، و كان حبّ الرياسة و أخذ الأموال يمنعهم عن اتّباع النبيّ، فأمرهم اللّه بان استعينوا على الوفاء بعهدي الّذى عاهدتكم عليه من طاعتي، بالصبر على ما أنتم عليه من ضيق المعاش، الّذى كنتم تأخذون عن عوامكم بسببه، و روى عن ائمّتنا عليم السلام انّ المراد بالصبر، الصوم، فيكون فائدة الاستعانة، كسر سورة النفس و الشره، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصوم و جاء، و فائدة الاستعانة.

«وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ» الاستعانة بالصلوة، انّه يتلى فيها ما يرغب فيما عند اللّه، و يزهد في الدنيا و حبّ المال و الجاه، كما قال: انّ الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر، و كان النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا حزنه امر، استعان بالصلوة و الصوم.

ص: 155

حكى انّ ابن عباس نعي له بنت، و هو في سفر فاسترجع، و قال عورة سترها اللّه، و مؤنة كفاها اللّه، و اجرا ساقه اللّه، ثمّ تنحّى عن الطريق، و صلّى ثم اتى راحلته، و هو يقرء و استعينوا بالصبر و الصلاة؛ و من قال انّ الخطاب للمسلمين: قال: المراد: استعينوا على مشقّة التكليف بالصبر؛ اى بحبس النفس على الطاعات و بالصلوة، و ليس في افعال القلوب أعظم من الصبر، و لا في افعال الجوارح أعظم من الصلاة، فأمر اللّه سبحانه بالاستعانة و الاستمداد بهما، و روى عن الصادق عليه السّلام انّه قال: ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه غمّ من غموم الدنيا ان يتوضّأ ثمّ يدخل المسجد، فيركع ركعتين، يدعو اللّه فيها، اما سمعت، اللّه يقول و استعينوا بالصبر و الصلاة.

«وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ»: اى انّ الاستعانة بهما لكبيرة ثقيلة كقوله كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الّا على الخائفين و الخاشعين، و الخشوع بالجوارح، و الخضوع بالقلب، و قيل الخشوع بالبصر، و الخضوع بسائر الأعضاء، و انّما لم يستثقل عليهم لأنّهم يستغرقون في مناجاة ربّهم، فلا يدركون ما يجري عليهم من المشاقّ و التعب، و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و قرّة عيني الصّلوة، او في الصلاة، لأنّ اشتغاله بالصلوة، كان راحة له، و بعض قال: الضمير راجع الى الصلاة، لأنّها الأغلب، الأفضل، و قيل: انّ المراد الاثنان، و ان كان اللفظ واحد، مثل قوله: و الّذين يكنزون الذهب و الفضّة و لا ينفقونها في سبيل اللّه.

[سورة البقرة (2): آية 46]

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)

الظنّ، يكون بمعنى اليقين و بمعنى الشك الراجح، فهو من الاضداد، كالرجاء، يكون أمنا و خوفا، و هنا بمعنى اليقين، و الظنّ ما قوى عند الظانّ كون المظنون على ما ظنّه، مع احتماله على خلافه، و بالاحتمال ينفصل عن العلم، و بالقوّة ينفصل عن الشك، «الَّذِينَ يَظُنُّونَ» في موضع الجرّ، صفة للخاشعين، «أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» اى الخاشعين يوقنون انّهم ملاقوا ما وعد ربّهم؛ و قيل:

انّ الظنّ في الآية، بمعنى الظنّ غير اليقين، و المعنى: انّهم يظنّون انقضاء آجالهم، و سرعة

ص: 156

موتهم، و ملاقوا ربّهم بذنوبهم، و لشدّة إشفاقهم من ذنوبهم، يكونون على وجل و حذر، و لا يركنون الى الدنيا؛ و المراد من اللقاء ليس لقاء الرؤية، بل لقاء ما يسرّه و يضرّه.

«وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ»: فان قيل انّهم ما كانوا قطّ في الآخرة، فيعودوا و يرجعوا إليها، فالمراد انّهم بالإعادة راجعون في الآخرة، و قيل يرجعون بالموت كما كانوا في الحال المتقدّمة على حياتهم لأنّهم كانوا أمواتا و اعداما ابتداء، فأحيوا ثمّ يموتون، فيرجعون بحال الأوّل أمواتا كما كانوا، او المعنى انّهم يرجعون الى موضع لا يملك لهم احد ضرّا و لا نفعا، لأنّهم في حال حياتهم قد يملك عليهم الأمر و الحكم، و رجوعهم الى المحشر و حكمه رجوع اليه تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 47]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)

«يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا»: اى اشكروا «نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ» بها «عَلَيْكُمْ» بانزال المنّ و السلوى، و تظليل- الغمام، و تفجير الماء من الحجر و غيرها، و ذكر النعم على الآباء الزام الشكر على الأبناء، فانّهم يشرّفون بشرفهم، و لذلك خاطبهم بقوله «وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ»: اى فضّلت ايّامكم على عالمي زمانهم بما منحتهم من العلم و الايمان، و العمل الصالح، و جعلتهم أنبياء و ملوكا مقسطين، و هذا كما قال في حقّ مريم: و اصطفاك على نساء العالمين، اى نساء زمانك فالاستغراق في العالمين عرفىّ لا حقيقىّ

[سورة البقرة (2): آية 48]

وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

و كان اليهود يقولون نحن من أولاد الأنبياء، و اللّه يقبل شفاعتهم فينا، فأنزل اللّه هذه الآية ردّا عليهم، فقال «وَ اتَّقُوا»: و اخشوا يا بنى إسرائيل، «يَوْماً» يوم القيمة اى حساب ذلك اليوم، فهو من ذكر المحلّ، و ارادة الحال «لا تَجْزِي» و لا تؤدّى، و لا تغنى و العائد محذوف «نَفْسٌ» مؤمنة «عَنْ نَفْسٍ» كافرة «شَيْئاً» ما من الحقوق الّتى لزمت

ص: 157

عليها، و إيراد، شيئا، منكّرا مع تنكير النفس، للتعميم و الاقناط الكلّى «وَ لا يُقْبَلُ مِنْها» اى من النفس الاولى المؤمنة «شَفاعَةٌ» ان شفعت للنفس الثانية الكافرة عند اللّه، لتخليصها من عذابه، و الشفاعة مصدر الشافع، و الشفيع مأخوذ من الشفع، لأنّه يشفع نفسه، بمن يشفع له في طلب مراده، و لا شفاعة في حقّ الكافر، بخلاف المؤمن؛ قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من امّتى، فمن كذّب بها لم ينلها.

و الآيات الواردة في نفى الشفاعة، خاصّة بالكفّار «وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها» اى من المشفوع لها، و هي النفس الثانية الكافرة «عَدْلٌ» اى فداء من مال، او رجل مكانها، او توبة تنجو بها من النار، و العدل بالفتح مثل الشي ء من خلاف جنسه، و بالكسر مثله من جنسه، و سمّى به الفدية لأنّها تماثله و تساويه «وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ»: و لا يمنعون من عذاب اللّه، و من أيدي المعذّبين، فلا نافع و لا دافع، و لا شافع.

[سورة البقرة (2): آية 49]

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

أى اذكروا وقت تنجيتنا إيّاكم اى آبائكم، فانّ، تنجيتهم، تنجية لأعقابهم و النجو: المكان المرتفع من الأرض لأنّ من صار إليه، يخلص، ثمّ سمّي كلّ فائز ناجيا بخروجه من ضيق إلى سعة «مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ»:

و اتباعه، و فرعون لقب من ملك العمالقة، ككسرى لملك الفرس، و قيصر لملك الروم، و تبّع لملك اليمن، و العمالقة، الجبابرة، و هم أولاد عمليق بن لاوذ ابن آدم بن سام بن نوح، سكّان الشام، سمّوا بالجبابرة، و ملوك مصر منهم سمّوا بالفراعنة و لقّبوه، يقال تفرعن الرّجل إذا عتا و تمرّد، و فرعون موسى هو الوليد بن مصعب بن الريّان، و كان من القبط، و عمّر أكثر من أربعمائة سنة، و قيل انّه كان عطّارا أصفهانيّا، ركبته الديون، فأفلس فاضطرّ إلى الخروج، فدخل مصر فرى في ظاهرها حملا من البطّيخ بدرهم، فتوجّه إلى السوق، فرأى يبيعون بطّيخة بدرهم، فقال في نفسه ان تيسّر لي أداء الديون فهذا طريقه، فخرج إلى السواد فاشترى حملا

ص: 158

بدرهم فتوجّه به إلى السوق، فكلّ من لقيه من المكاسين أخذ بطيخة فدخل السوق و ما معه إلّا بطيخة فباعها بدرهم، و مضى بوجهه، و رأى أهل البلد متروكين سدى، لا يتعاطى أحد سياستهم، و كان قد وقع بمصر و باء عظيم، فتوجّه نحو المقابر، فرأى ميّتا يدفن فتعرّض لأوليائه، فقال: أنا أمير المقابر، فلا أدعكم تدفنونه حتّى تعطوني خمسة دراهم، فدفعوها إليه و مضى لآخر و آخر حتّى احرز في مقدار ثلاثة أشهر مالا عظيما، و لم يتعرّض له أحد قطّ، إلى أن تعرّض يوما لأولياء ميت، فطلب منهم ما كان يطلب من غيرهم، فأبوا ذلك فقالوا من نصبك هذا المنصب، فذهبوا به إلى فرعون فقال: من أنت، و من أقامك بهذا المقام، قال لم يقمنى أحد و إنّما فعلت ما فعلت، ليحضرني أحد إلى مجلسك، فانبّهك على اختلال حال ملكك، و قد جمعت بهذا الطريق هذا المقدار العظيم من المال، فأحضره و دفعه إلى فرعون، فقال: ولّني أمورك ترني أمينا كافيا، فولّاه إيّاها، فسار بهم سيرة حسنة، فانتظمت مصالح العسكر، و استقامت أحوال الرعيّة، و لبث فيهم دهرا طويلا، و ترأى امره في العدل و الصلاح، فلمّا مات فرعون أقاموه مقامه، فكان من امره ما كان، و كان فرعون يوسف اسمه الرّيان، و بينهما أكثر من أربعمائة سنة؛ «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ»: اى يبغونكم و يكلّفونكم، و قيل يؤلونكم سوء العذاب و سامه خسفا إذا أولاه ذلّا، و قيل معناه يعذّبونكم، و أصل الباب السوم الّذي هو إرسال الإبل في الرعي، أو من سام السلعة إذا طلبها، فمعناه الطلب، و تقدير الكلام نجّيناكم مسوّمين منهم أقبح العذاب كقولك رأيت زيدا يضربه عمرو، اى رأيته حالكونه مضروبا لعمرو؛ قال وهب بن منيه: كانوا أصنافا في أعمال فرعون، فصنف يبنون، و صنف يحرثون و صنف يخدمون، فذو و القوة ينحتون السواري من الجبال، حتّى قرحت أيديهم و أعناقهم و دبّرت ظهورهم من قطعها و نقلها، و طائفة يضربون اللبن و يطبخونها للآجر و كذلك و الضعفة من الناس يضرب عليهم الحراج ضريبة، و يؤدّونها كلّ يوم، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدّي ضريبته، غلّت يمينه إلى عنقه شهرا، و النساء يغزلن الكتّان و ينسجن

ص: 159

و قيل: يفسّر قوله يسومونكم سوء العذاب، قوله: «يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ»:

كأنّه قيل ما حقيقة سوء العذاب الّذي يبغونه لهم، فأجيب بأنّه يذبحون أبناءكم، و التشديد للتكثير، كما يقال فتّحت الأبواب، و المراد من الأبناء، الذكور خاصّة، و إن كان الإسم يقع عليهما في غير هذا الموضع، كالبنين في قوله: يا بني إسرائيل، و كانوا يذبّحون الغلمان لا غير، و كذا الصغار دون الكبار.

«وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ»: و يستبقون بناتكم، و ذلك انّ فرعون رأى في منامه كانّ نارا أقبلت من بيت المقدّس، فأحاطت بمصر، و أخرجت كلّ قبطيّ بها، و لم تتعرّض لبنى إسرائيل، فهاله ذلك، و سأل الكهنة و السحرة عن الرؤيا، فقالوا يولد في بنى إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك، و زوال ملكك، فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بنى إسرائيل، و جمع القوابل فقال لهنّ، لا يسقط على ايديكنّ غلام يولد في بنى إسرائيل الّا قتل، فكنّ يفعلن ذلك، حتّى قتل في طلب موسى اثنى عشر ألف صبيّ، و تسعون ألف وليد، ثمّ اسرع الموت في مشيخة بنى إسرائيل، فدخل رؤس القبط على فرعون، و قالوا انّ الموت وقع في بنى إسرائيل، فتذبح صغارهم، و يموت كبارهم، فيوشك ان يقع العمل بنا، فأمر فرعون ان يذبحوا سنة، و يتركوا سنة، فولد هارون في السنة التي لا يذبح فيها، و ولد موسى في السنة الّتى يذبحون فيها، و قد شمر فرعون عن ساق الاجتهاد و حسر عن ذراع العناد، فأراد ان يسبق القضاء، هيهات و يأبى اللّه الّا ان يتمّ نوره.

«وَ فِي ذلِكُمْ»: اشارة الى التذبيح و الاستحياء، «بَلاءٌ»: محنة و بليّة، لأنّ الأعمال الشاقّة و ذبح الأولاد و الاسترقاق ممّا يشقّ على الإنسان، غاية، لا سيّما بعد ذبح الولد «مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ»: يحتمل ان يكون من اللّه هذا الامتحان، بان خلّى بينكم و بين فرعون، حتى فعل هذه الأفاعيل، فيكون هذا الامتحان لمحنته لكم، و يحتمل ان يكون الإشارة في قوله و في ذلكم، الي التخلّص من فرعون، فيكون نعمة و منحة عظيمة من اللّه عليكم لا محنة، و البلاء، الاختبار، و اللّه تعالى يختبر عباده، تارة بالمنافع، و تارة بالمضارّ، ليشكروا و يصبروا، كما قال و نبلوكم بالشرّ و الخير، و سنّة اللّه تعالى استدعاء العباد بعبادته، بسعة الأرزاق، و دوام

ص: 160

المعافاة ليرجعوا اليه بنعمته، و يشكروه بالطاعة و لزوم الايمان، فان لم يفعلوا ابتلاهم بالسرّاء و الضرّاء لعلّهم يرجعون.

[سورة البقرة (2): آية 50]

وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

: و اذكروا يا بنى إسرائيل وقت تفريقنا و تفصيلنا بسبب انجائكم، فالباء للسببيّة، و قيل بمعنى اللام لقوله تعالى ذلك بأنّ اللّه هو الحقّ، أى لأنّ اللّه؛ «الْبَحْرَ»: هو بحر القلزم من بحار فارس، او بحر يقال له اساف، حتّى حصل اثنى عشر مسلكا بعدد أسباط بنى إسرائيل، و السبط ولد الولد، و هم أولاد يعقوب، «فَأَنْجَيْناكُمْ»: من الغرق، باخراجكم الى الساحل، و فرقنا بين المائين، فوقع بين كلّ فريقين من البحر، سبط من الأسباط يسلكون طريقا يابسا، بسبب هبوب الريح دفعة؛ «وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ»: يريد فرعون و قومه للعلم بدخوله فيهم، و كونه اولى به منهم، «وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ»: بابصاركم انفراق البحر لكم، و انطباقه على آل فرعون حين رمى موتاهم البحر الى الساحل.

روى انّه لمّا دنا هلاك فرعون، أمر اللّه موسى ان يسرى ببني إسرائيل من مصر ليلا، فأمرهم ان يخرجوا و ان يستعيروا الحلي من القبط، و أمر ان لا يناد احد صاحبه، و ان يسرجوا في بيوتهم الى الصبح، و من خرج لطخ بابه بكف من دم، ليعلم انّه قد خرج، فخرجوا ليلا، و هم ستمائة ألف و عشرون ألف مقاتل، لا يعدون فيهم ابن العشرين لصغره، و لا ابن الستّين لكبره، و القبط لا يعلمون بذلك، و كان قد وقع في القبط موت فجعلوا يدفنونهم، و شغلوا عن طلبهم، فلمّا أراد بنو إسرائيل السير، ضرب عليهم التيه، فلم يدروا اين يذهبون، فدعا موسى مشيخة بنى إسرائيل، و سألهم عن ذلك، فقالوا ان يوسف لمّا حضره الموت، أخذ على اخوته عهدا ان لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم، فلذلك انسدّ عليهم الطريق، فسألهم عن موضع قبره، فلم يعلمه أحد غير عجوز، قالت لو دللت على قبره أ تعطيني كلّما سألتك، فأبى عليها موسى و قال حتى اسئل ربّى، فأمره اللّه بإيتاء سؤلها، فقالت انى عجوز كبيرة، لا أستطيع

ص: 161

المشي، فاحملني و أخرجني من مصر، هذا في الدّنيا و امّا في الآخرة فأسئلك ان لا تنزل غرفة إلا نزلتها معك، قال موسى نعم، قالت انّه في جوف الماء في النيل، فادع اللّه ان يجيز عنه الماء، فدعا اللّه ان يؤخر طلوع الفجر الى ان يفرغ موسى من امر يوسف فحفر ذلك الموضع، و استخرجه في صندوق من صنوبر، و سبب ان قبره كان جوف النيل لأمر يطول شرحه، و المجمل منه استبراك اهل مصر بماء النيل، بمجاورة الماء قبره، حتى تعم البركة، الفقير و الغنى، و القريب و البعيد من صعيد مصر، فاستخرج تابوت يوسف من قعر النيل، و حمله و دفنه في أرض الشام، ففتح لهم الطريق، ثم ساروا، فكان هارون أمام بني إسرائيل، و موسى على ساقتهم، فلمّا علم بذلك فرعون جمع قومه، و خرج في طلب بنى إسرائيل، و على مقدّمته هامان في ألف ألف و سبعمائة ألف جواد ذكر ليس فيه رمكة، على رأس كلّ واحد منه بيضة، و في يده حربة، فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا الى البحر، فأدركهم فرعون حين أشرقت الشمس، فقال فرعون في اصحاب موسى، انّ هؤلاء لشرذمة قليلون، فلمّا نظر اصحاب موسى إليهم، بقوا متحيّرين، فقالوا لموسى أنّا لمدركون يا موسى أوذينا من قبل ان تأتينا و من بعد ما جئتنا اليوم نهلك، فانّ البحر أمامنا، ان دخلناه غرقنا، و فرعون خلفنا، ان أدركنا قتلنا، كيف نصنع، و اين ما وعدتنا، قال موسى كلّا انّ معى ربّى سيهدينى، فأوحى اللّه الى موسى، أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فلم يطعه، و اوحى اللّه اليه ان كنّه فضربه، و قال انفلق يا أبا خالد، فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقا، كلّ طريق كالجبل العظيم، فكان لكلّ سبط طريق يأخذون فيه، فخاضت بنو إسرائيل البحر، و لا يرى بعضهم بعضا، فقالوا ما لنا لا نرى إخواننا، و قال كلّ سبط قد قتل إخواننا، قال موسى سيروا فانّهم على طريق مثل طريقكم، قالوا لا نرضى حتّى نراهم، فقال موسى اللهم أعنّي على أخلاقهم السيّئة، فأوحى اللّه الى موسى اشر بعصاك يمنة و يسرة فصار فيها كوىّ ينظر بعضهم بعضا، و يسمع بعضهم بعضا، فساروا حتّى خرجوا من البحر.

فلمّا جاز آخر قوم موسى، هجم فرعون على البحر، فرآه منفلقا، قال لقومه

ص: 162

انظروا الى البحر، انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الّذين ابقوا، فهاب قومه ان يدخلوه و قيل له ان كنت صادقا فادخل البحر كما دخل موسى، و كان فرعون على حصان أدهم، و لم يكن في قوم فرعون فرس أنثى، فجاء جبرئيل على أنثى وديق، و هي التي تشتهي الفحل و تقدمه الى البحر، فاقتحم أدهم فرعون خلفها البحر و دخله و لم يتملك فرعون من أمره شيئا، و هو لا يرى فرس جبرئيل و تبعته الخيول، و جاء ميكائيل على فرس خلف القوم يسوقهم حتى لا يشذّ رجل منهم، حتّى خاضوا كلّهم البحر، و دخل آخر قوم فرعون، و جاز آخر قوم موسى، و همّ اولهم بالخروج، فأمر اللّه البحر أن يأخذهم، فانطبق البحر على قوم فرعون فاغرقوا، فنادى فرعون، لا اله الّا الذي آمنت به بنو إسرائيل و أنا من المسلمين، القصة؛ و قالت بنو إسرائيل الآن يدركنا فرعون، فيقتلنا، فلقط منهم البحر ستمائة و عشر الفا الذين عليهم الحديد، و لفظ البحر جثّة فرعون، فذلك قوله تعالى فاليوم ننجيك ببدنك، و هو كأنّه ثور أحمر فبعد هذه المعجزة العظيمة، ما مضى وقت حتى اتخذوا العجل إلها بعد الإنجاء، ثم صار أمرهم الى ان قتلوا أنبيائهم، فهذه معاملتهم مع ربّهم، ثم بدلوا التورية و افتروا على اللّه و كتبوا التحريفات و اشتروا به ثمنا قليلا و كفروا بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع علمهم بصدقه، فيا لها من عصابة ما اعصاها و طائفة ما أطغاها.

و كان يوم الإنجاء و الإغراق، يوم عاشورا و لذا كان اليهود يصومونه و يتّخذونه عيدا، و قيل: و كان رسول اللّه يصومه، فلمّا فرض صوم رمضان في المدينة، ترك صيام يوم عاشوراء.

[سورة البقرة (2): آية 51]

وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)

و اذكروا يا بني إسرائيل، وقت وعدنا، و صيغة المفاعلة بمعنى الثلاثي، أو على أصلها، فانّ الوعد و ان كان من اللّه تعالى، فقبوله كان من موسى، فقبول الوعد، شبه الوعد، أو ان اللّه تعالى وعده الوحى و موسى وعد المجي ء للميقات إلى الطور؛ «مُوسى : مفعول أول لواعدنا، مو، بالعبرانية، الماء، وشى، بمعنى الشجر فقبلت شين المعجمة، سينا في العربيّة و انّما سمّى به لأنّ امّه جعله في التّابوت،

ص: 163

حين خافت عليه، و ألقته في البحر، فدفعته أمواج البحر، حتى أدخلته بين أشجار، عند بيت فرعون، فخرجت جواري آسية، امرأة فرعون يغسلن، فوجدن التابوت، فأخذنه، فسمى باسم المكان الذي أصيب به و هو الماء و الشجر، و نسبه موسى بن عمران ابن يصهر بن فاهث ابن لاوى ابن يعقوب إسرائيل اللّه ابن اسحق بن ابراهيم الخليل عليه السّلام؛ «أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»: على حذف المضاف، امره اللّه تعالى بصوم ثلثين و هو ذو- القعدة ثم زاد عليه عشرا من ذي الحجة و عبّر عنها بالليالي، لأنّها غرر الشهور، و شهور العرب، وضعت عليها سير القمر و لذلك وقع التاريخ بها، فالليالى، اوّل الشهور، و الأيّام تبع لها، أو لأنّ الظلمة اقدم من الضوء؛ «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ»: و هو ولد البقرة، بتسويل السامري، إلها و معبودا «مِنْ بَعْدِهِ»: اى من بعد مضيّه من الميقات؛ «وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ»: باشراككم و وضع عبادة اللّه، في غير موضعها، قال ابن عباس: كان السامري رجلا صائغا من اهل باجرمى، اسمه ميحا و قيل موسى بن ظفر و كان من قوم يعبدون البقر، و كان حبّ عبادة البقر في نفسه، و كان اظهر الإسلام في بني إسرائيل، فلمّا قصد موسى عليه السّلام الى الميقات خلّف هارون في بني إسرائيل، قال هارون لقومه، قد حملتم أوزارا من زينة القوم، يعنى آل فرعون، فتطهروا منها، فانّها نجس و كانوا استعاروا من القبط حليّا، فقال هارون: طهّروا انفسكم منها، فانّها نجسة و أوقد لهم نارا، فقال اقذفوا بما كان معكم فيها، فجعلوا يأتون بما كان معهم، من تلك الامتعة و الحلّى، فيقذفون به فيها، قال: و كان السامرىّ، رأى اثر فرس جبرئيل، فأخذ ترابا من تراب حافره، ثم اقبل على النار و قال لهارون: يا نبي اللّه القى ما في يدي، قال نعم و هو لا يدرى ما في يده، و يظنّ انّ ما في يده ممّا يجيئ به غيره من الحلىّ و الامتعة، فقدف فيها و قال: كن عجلا جسدا له خوار! فكان البلاء و الفتنة! فقال: هذا إلهكم و إله موسى، فعكفوا عليه! فاحبّوه حبّا لم يحبّوا مثله شيئا قطّ!!؛

ص: 164

قال ابن عباس: فكان البلاء و لم يزد على هذا؛ قال الحسن: صار العجل لحما و دما، و قال غيره: لا يجوز ذلك، لأنّه من معجزات الأنبياء، و من وافق الحسن، قال: انّ القبضة من اثر الملك، كان اللّه قد جرى العادة بأنّها إذا طرحت على اىّ صورة، كانت حيّيت، فليس ذلك بمعجزة أ إذ سبيل السامري فيه سبيل غيره و من لم يجز انقلابه حيّا، تأوّل الخوار، على ان السامري صاغ عجلا و جعل فيه خروقا، يدخل فيه الريح، فيخرج منه صوت كالخوار، و دعاهم الى عبادته، فأجابوه! و عبدوه! عن على للجبائى.

[سورة البقرة (2): آية 52]

ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)

اى: محونا جريمتكم، حين تبتم من بعد الاتخاذ، الذي هو متناه في القبح و لم نعاجلكم بالعذاب و الإهلاك، بل أمهلناكم الى مجي ء موسى، فينبّهكم بكفّارة ذنوبكم؛ «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»: لكي تشكروا نعمة العفو و تستمرّوا بعد ذلك على الطاعة.

[سورة البقرة (2): آية 53]

وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

اى: و اذكروا وقت اعطائنا موسى، الكتاب، و هو التوراة و الفرقان، قال ابن عباس: انّ المراد به التوراة ايضا، و انّما عطف عليه لاختلاف اللفظين، مثل قولهم:

و الفى قولها كذبا و مينا: و المين هو الكذب- و قيل: الكتاب، التوراة، و الفرقان، انفراق البحر، او الفرق بين موسى و أصحابه المؤمنين، و بين فرعون و أصحابه الكافرين، أو الفرقان: بعض التوراة، الذي فيه الحلال و الحرام، و ذلك انّه لمّا رجع موسى و وجدهم على عبادة العجل، ألقى الألواح، فرفع من جملتها ستة أجزاء، و بقي جزء واحد، و هو الحلال و الحرام و ما يحتاجون و احرق العجل و ذراه في البحر، فشربوا من مائة حبّا للعجل، فظهرت على شفاههم صفرة، و رمث بطونهم، فتابوا، و لم تقبل توبتهم، دون ان يقتلوا أنفسهم

[سورة البقرة (2): آية 54]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

، و ذلك قوله:

ص: 165

و اذكروا يا بني إسرائيل «إِذْ قالَ مُوسى وقت قوله لقومه، الذين عبدوا العجل «يا قَوْمِ»: اى: يا قومي و الاضافة للشفقة؛ «إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ» و ضررتم انفسكم بإيجاب العقوبة عليها بسبب «اتخاذكم العجل» معبودا، قالوا اى شي ء نصنع، قال (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) فاعزموا على التوبة، و الفاء للسببيّة، لأنّ الظلم سبب للتوبة، فارجعوا الى خالقكم و من خلقكم بريئا من العيوب و النقصان و أنتم من الجهالة و الغباوة، بحيث تركتم عبادة مثل هذا الخالق و عبدتم البقر، الذي هو مثل في الغباوة و انّ من لم يعرف حقوق منعمه، حقيق بأن تستردّ النعمة منه و لذلك أمروا بالقتل و فكّ التركيب و انفصال نعمة الحيوة؛ فقالوا كيف نتوب؟ قال: «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» اى: ليقتل البري ء، المجرم، فأوحى اللّه الى موسى انّ توبة المرتد لا تتم إلّا بالقتل «ذلِكُمْ» اى: التوبة و القتل «خَيْرٌ لَكُمْ» انفع لكم عند اللّه، لأنّ القتل وصلة الى الحيوة الأبديّة و طهرة من الشّرك.

انفصالى اتصالش در عقب اتصال منفصل باشد تعب

«فَتابَ عَلَيْكُمْ» اى: ففعلتم ما أمرتم به، فتاب عليكم و قبل توبتكم و انّما قال عليكم مع ان الضمير لاسلافهم، لما انّ هذا الأمر من النعم العظيمة و أريد التذكير بها للمخاطبين بانّ هذه النعمة شملتكم، لأنّه رفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكليّة فلو لم يرفع القتل عن آبائهم، لما وجد الأبناء، فحسن الخطاب؛ و معنى اقتلوا انفسكم: لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، أو يكون معناه استسلموا للقتل و جعل استسلامهم للقتل، قتلا منهم لأنفسهم، على وجه التوسع؛

ص: 166

روي انّ موسى، أمرهم ان يقوموا صفّين، فاغتسلوا و لبسوا أكفانهم و جاء هارون باثنى عشر الفا ممّن لم يعبدوا العجل و معهم الشفار المرهفة و كانوا يقتلونهم، فلمّا قتلوا سبعين ألف قتيل و كان موسى و هارون، واقفين، يدعو ان اللّه و يتضرّعان اليه- و هم يقتل بعضهم بعضا، حتى نزل الوحى، برفع القتل و قبلت توبة من بقي؛ قال ابن جريح: السبب في أمرهم بقتل أنفسهم، انّ اللّه علم انّ ناسا منهم، ممّن لم يعبد العجل، لم ينكروا عليهم، مع علمهم بانّ العجل باطل، فلذلك ابتلاهم بأن يقتل بعضهم، بعضا، و إنّما امتحنهم اللّه، بهذه المحنة، لكفرهم بعد الآيات العظام؛ «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» اى: قابل التوبة عن عباده، مرّة بعد اخرى، أو معناه: قابل التوبة عن الذنوب العظام، «الرَّحِيمُ»: إذا تبتم و في هذه الآية دلالة، على انّه، يجوز ان يشترط في التوبة سوى النّدم ما لا يصحّ التوبة، إلّا به، كما أمروا بالقتل؛ أقول: لما وصلت الى نقل بيان هذه الآية، رأيت جماعة ضالّة، من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عدلوا عن دينه و هم أشقى من أولئك اليهود، لأنّهم رضوا بقتل أنفسهم، في قبول توبتهم، و بذلوا بأعز ما عندهم و هو النفس؛ و لا يرغب الواحد منّا، في التوبة بما هو أسهل من توبتهم بدرجات، فهم اقدموا و تابعوا مع هذا الحكم الشديد. و نحن ولينا مدبرين و جسرنا معرضين، مع هذه السهولة، في حكم توبتنا، فان قلت انّهم كفروا، فرضوا في توبتهم، بقتل أنفسهم، ليتخلّصوا من العذاب الدائم، بخلاف الامّة المرحومة، فالجواب: أنّ القرآن مشحون بما أوعد اللّه فيه على الكبائر، بالنّار، هب، ان لم تكفر، لم تكن مخلّدا، لكن كيف تتحمل عذاب احقاب من الزمان، على أنّ ملكات بعض المعاصي الخبيثة، يوجب ذهاب الايمان، و ليس إيماني و إيمانك سدّ اسكندر و مآرب و معذلك، فقد خرب سدّ مآرب فارة و انّما يكفى في ذهاب إيماني و إيمانك خطرة، واحدة، مع الثبات و الترديد، على تلك الواحدة، و هذا كلّه إذا كانت المعاصي، من جنس الفسوق، امّا إذا كانت المعصية، مستلزمة لذهاب الايمان

ص: 167

و الإسلام و تشييد الكفر، بل يكون ذلك الأمر و تلك المعصية، علّة موجبة، لتعطيل احكام القرآن و دروسها، المقدم على مثل هذه الأمور، يقال له فاسق، أم يقال له مضلّ، و يرتدّ عن الإسلام، ثمّ انّه، هل يكفى، في حقّه، مجرّد الندم، أم عليه ردّ ما أفسده باقدامه، و معلوم انّ تكليف الإصلاح و الرد، متوقف على القدرة و الإمكان و هو لا يمكنه فالجواب: راجع الى مسألة الامتناع بالاختيار، لا ينافي الاختيار و على كلّ التقادير، فلا بدّ و ان المرتكب في مثل هذه الأمور، لا اقلّ أن يرجع عن هذه المسالك الخبيثة و لا يكفيه الرجوع، باستنكاره في القلب، بل لا بدّ و ان يظهر إنكاره و يبيّن قبحه، حتى يكون متداركا في الجملة و يصحّ عليه صحّة السلب، في دخوله في العنوان و إلّا لما كان تائبا، لأنّ التدارك، لا بدّ منه في التوبة، ثم انّ الرد و الإصلاح في مثل هذه الأمور، التي وجود نسخ القرآن و ضعف الإسلام، بل نفى الإسلام مسبب عنها، هل يشترط فيه الأمن، من الضرر، للذي أحدث مثل هذه الأمور، أم لا، كما اشترط هذا الشرط في المعارف و المنكرات مطلقا، ثم لو سلّمنا، انّ الأمن من الضرر، في مثل هذه الأمور، التي توجب نسخ القرآن، او الزام النّاس، بالعمل بغيره، كالمشروطيّة مثلا، هل هو، جار، في تمام طبقات الناس، من غير فرق، بين الجاهل و العالم، بحيث لا يجب على العالم إنكاره، حيث لم يأمن الضرر على نفسه، لم يخصص هذا العالم و أمثاله، بتخصيصات في الحكم، لمقتضيات مصالح الإسلام، فالمسألة غامضة جدّا، خصوصا إذا كان العالم، مطاعا في الإسلام و مستبصرا في الفساد، فإذا لم يأمن الضرر على نفسه، او قطع وجود الضرر على نفسه، فهل هذا الحكم يعمّه، بحيث تكون نفسه محفوظة، و القرآن ضائعا، أم انّ التخصيص، يخرجه عن هذا الحكم، او عليه بأن يبذل مهجته في دين اللّه؛ و قد حيّرني سكوت بعض العارفين بأمور المبتدعة و لا يمكن ان يتصوّر انّهم توقّفوا في ادلّة التعادل و التراجيح، بين حفظ نفوسهم و الإسلام، مع انّ القاعدة في التزاحم، ملاحظة الرجحان، فلا بدّ ان أقول: ان السر في هذا الأمر، قد اختفى عليك ايّها الجاهل، في حيرتك، الى ان يذهب جلّ القرآن و يضيع عنوان الإسلام، و بالجملة:

ص: 168

فتب الى ربك، ايّها العاصي و ايّها الكافر، فانّك قد وقعت في زمان، يسهل عليك التوبة، هذا إذا كان المقدم على هذا الأمر، غير عالم بفساده و يكون في دعواه صادقا، بأن أراد ان يكون خلالا، فصار نباذا، لكن لو كان عالما بمفسدته، انّى يكون له التوبة، و هيهات كما يفصح عن هذا الحكم، حديث ذلك العالم الإسرائيلي و لا تكن شرّا من اليهود، فانّ اليهود لمّا أمرهم، موسى، بالقتل قبلوا قوله و قالوا: نصبر لأمر اللّه، فجلسوا مخبتين، مذعنين؛ و قيل لهم: من حلّ حياته، او مدّ طرفه الى قاتله، او اتقاه بيده او رجله، فهو ملعون، مردود توبته، فقبلوا، فاصلت القوم عليهم السيوف و الخناجر و حملوا عليهم و ضربوهم بها؛ و كان الرجل، يرى ابنه و أباه و أخاه و قرينه و جاره، فلم يمكنهم المضيّ لأمر اللّه، قالوا يا موسى، كيف نفعل؟! فأرسل اللّه سبحانه، سوداء، لا يبصر بعضهم بعضا، فكانوا يقتلونهم الى المساء، فلمّا كثر القتل دعا موسى و هارون و بكيا و قالا: يا ربّ هلكت بنو إسرائيل، البقيّة البقيّة، فكشف اللّه السحابة و نزلت التوبة و أمرهم أن يكفّوا عن القتل، فقتل منهم، سبعون الفا، فكان من قتل شهيدا و من بقي، مغفورا.

و روى: انّ الأمر بالقتل، من الأغلال التي كانت عليهم و هي من التكاليف الشاقّة عليهم من لزوم الغلّ في أعناقهم، كقطع الأعضاء الخاطئة و مثل عدم جواز صلاتهم في غير المساجد و عدم التطهير بغير الماء و منع الطيّبات عنهم بالذنوب و كون الزكاة، ربع مالهم و كتابة ذنب الليل، على أبوابهم بالصبح.

و قد روى: انّ بنى إسرائيل، إذا قاموا، يصلّون، لبسوا المسوخ و غلّوا أيديهم الى أعناقهم و ربّما ثقب الرجل ترقونه و جعل فيها طرف السلسلة و أوثقها الى سارية المسجد و حبس نفسه على العبادة، فهذه الأغلال، التي كانت عليهم و قد رفعها اللّه، عن هذه الامّة تكريما للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أعظم جميع نعم اللّه، على هذه الامّة المرحومة، بعد نعمة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، نعمة التوبة، التي أنعم اللّه بها، عليهم و لها مراتب، فأقلّ مرتبتها ترك المنهيات و القيام بالواجبات و قضاء الفوائت و ردّ الحقوق و الاستحلال من المظالم و الندم على ما

ص: 169

جرى و العزم على عدم العود؛ قال اهل المعنى: انّ لكلّ قوم عجلا يعبدونه من دون اللّه، فقوم يعبدون عجل الدراهم و الدنانير و قوم يعبدون، عجل الكبر و الحسد و قوم يعبدون، عجل لجاه و قوم يعبدون، عجل الهوى و هذا القسم الأخير، رئيس الأقسام الثلاثة الاول و كلها مندرجة في هذا الأخير.

[سورة البقرة (2): آية 55]

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)

قوله تعالى: «وَ إِذْ قُلْتُمْ» اى: و اذكروا يا بنى إسرائيل، وقت قول السبعين من اسلافكم الذين اختارهم موسى، حين ذهبوا معه الى الطور، للاعتذار عن عبادة العجل و هم غير السبعين الذين اختارهم موسى، أول مرّة، حين أراد الانطلاق الى الطور، بعد غرق فرعون، لإتيان التوراة و ذلك لأنهم قالوا «يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ»: و لن نصدّقك، لأجل قولك و دعوتك، على أنّ هذا كتاب اللّه و انك سمعت كلامه؛ «حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» اى: عيانا لا ساتر بيننا و بينه، كالجهر في الوضوح و الانكشاف، لأنّ الجهر في المسموعات و المعاينة في المبصرات، و نصبها على المصدرية اى نرى اللّه مجاهرا بفتح الهاء، او نرى اللّه مجاهرين، على انّه حال من الفاعل، «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ»: هي نار محرقة، فيها صوت نازلة من السماء و هي امر هائل، مميت او مزيل للعقل و الفهم، تكون صوتا، او نارا و غير ذلك و انّما أحدثت الصاعقة، لسؤالهم ما هو مستحيل على اللّه، لفرط العناد و التعنت، «وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» الصاعقة النازلة و قيل معنى جهرة، صفة لخطابهم لموسى انّهم جهروا بهذه القول الفاسد و أعلنوه و المعنى الأول أقوى.

[سورة البقرة (2): آية 56]

ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

و كانت تلك لهم، كالسكتة لغيرهم و لما كانت تلك الموتة، قبل انقضاء آجالهم، أحياهم ليستوفوا بقيّة آجالهم و أرزاقهم و لو ماتوا بآجالهم، لم يبعثوا الى يوم القيمة

ص: 170

و ذلك قوله «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ» اى أحييناكم «مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ» بتلك الصاعقة «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» نعمة الحيوة، بالتوحيد و الطاعة و تشكرون وقت مشاهدتكم بأس اللّه بالصاعقة، فلا تعودون الى اقتراح مثل هذه الأمور، بعد ظهور المعجزات و اصل القضيّة انّ موسى عليه السّلام لمّا رجع من الطور الى قومه و رأى قومه، ما هم عليه من عبادة العجل، و قال لأخيه و السامري ما قال و احرق العجل و ندم القوم على ما فعلوا، امر اللّه موسى ان يأتيه في ناس من إسرائيل، يعتذرون من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين من قومه، من خيارهم، فلمّا خرجوا الى الطور، قالوا لموسى، سل ربّنا، حتّى يسمعنا كلامه، فسأل موسى ذلك فأجابه اللّه، و لمّا دنا من الجبل، وقع عليه عمود من الغمام و تغشّى الجبل كلّه، و دنا من موسى ذلك الغمام، حتى دخل فيه و قال للقوم، ادخلوا، فكلّم اللّه موسى، يأمره و ينهاه و كلّما كلّمه تعالى، أوقع على جبهة موسى، نورا، ساطعا، لا يستطيع احد من السبعين، النظر اليه و سمعوا كلامه تعالى، مع موسى، افعل و لا تفعل، فعند ذلك طمعوا في الرؤية و قالوا، ما قالوا، فأخذتهم الصاعقة، فخرّوا صعقين، ميّتين، يوما و ليلة، فلمّا ماتوا، جعل موسى، يبكى و يتضرّع، رافعا يديه، يدعو و يقول: يا إلهي، اخترت من بني إسرائيل، سبعين رجلا، ليكونوا شهودا، بقبول توبتهم و ماذا أقول لهم، إذا أتيتهم و قد أهلكت، لو شئت أهلكتهم قبل هذا اليوم مع اصحاب العجل، أ تهلكنا بما فعل السفهاء منّا؟ فلم يزل، يناشد ربّه، حتّى أحياهم اللّه؛ و طلب توبة بني إسرائيل، من عبادة العجل، فقال اللّه، لا، الّا أن يقتلوا أنفسهم، قالوا انّ موسى، سأل الرؤية، في المرّة الاولى، في الطور و لم يمت، لأنّ صعقته، لم يكن موتا و لكن غشيته غشية، بدليل قوله تعالى: فلمّا أفاق؛ و سئل قومه، في المرّة الثانية، حين خرجوا، للاعتذار، و ماتوا و ذلك لأنّ، سؤالهم، سؤال افتراء و تكذيب و سؤال موسى، كان عن لسانهم، أو عن اشتياق و استرشاد.

ص: 171

قوله: [سورة البقرة (2): آية 57]

وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

«وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ» اى: و من أنعامنا عليكم، يا بني إسرائيل، ان ظللنا عليكم و جعلنا الغمام، ظلّة عليكم و هذا جرى في التيه، بين المصر و الشّام، فانّهم حين خرجوا من مصر و جاوزوا البحر، وقعوا في صحراء، لا أبنية فيها، أمر اللّه بدخول مدينة الجبّارين و قتالهم، فقبلوا، فلمّا قربوا منها، سمعوا، بأنّ أهلها، جبّارون، أشدّاء، قامة أحدهم، سبعمائة ذراع، و نحوها، فامتنعوا و قالوا لموسى: اذهب أنت و ربّك فقاتلا انّا هاهنا قاعدون، فعاقبهم اللّه، بأن يتيهوا في الأرض، أربعين سنة و كانت المفازة و التيه، اثنى عشر فرسخا، فأصابهم، حرّ شديد و جوع مفرط، فشكوا الى موسى، فرحمهم اللّه، فأنزل عليهم عمودا من نور، يدلى لهم، من السماء، فيسير معهم، بالليل يضيئ لهم، مكان القمر، إذا لم يكن قمر و أرسل غماما ابيض رقيقا، أطيب من غمام المطر، يظلّهم من حرّ الشمس، في النهار و سمى السحاب غماما، لأنّه يغمّ السماء و يسترها و الغم، حزن يستر القلب.

ثمّ سئلوا، موسى، الطّعام، فدعا ربّه، فاستجاب له و هو قوله: «وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ» اى: الترنجبين، كان ابيض، مثل الثلج، كالشهد المعجون بالسمن و قيل: المنّ، الذي يعرفه الناس، يسقط على الشجرة، عن ابن عباس، و قيل: انّه الخبز المرقق، عن وهب، و قيل: المنّ جميع ما أنعم اللّه و منّ به، على عباده، من غير تعب و لا زرع و منه قوله الكماة من المنّ، و ماؤها شفاء للعين؛ قالوا: يا موسى، قتلنا هذا المنّ، بحلاوته، فادع لنا ربّك، ان يطعمنا اللّحم، فأنزل اللّه عليهم، السّلوى، و ذلك قوله: «وَ السَّلْوى هو السمانى كانت تحشره عليهم، الريح الجنوب، و كانت الريح تقطع حلوقها و تشق بطونها و تملط شعورها و ريشها و كانت الشمس تنضجها، فكانوا يأكلونها مع المنّ، لكنّ أكثر المفسّرين، على أنّهم يأخذونها، فيذبحونها، فكان ينزل عليهم المنّ، نزول الثلج، من طلوع الفجر الى طلوع

ص: 172

الشمس، و تأتيهم السلوى فيأخذ كلّ انسان منهم كفايته الى الغد، إلّا يوم الجمعة، يأخذ ليومين، لأنّه لم يكن ينزل يوم السبت، لأنّه كان يوم عبادة، فانّ أخذ اكثر من ذلك، دود و فسد؛ «كُلُوا» اى: قلنا لهم كلوا «مِنْ طَيِّباتِ»: حلالات «ما رَزَقْناكُمْ»: من المنّ و السلوى و لا ترفعوا منه، شيئا، ادّخارا و لا تعصوا امرى، فرفعوا و جعلوا اللحم، قديدا، مخافة ان ينفد و لو لم يرفعوا، لدام عليهم ذلك، و الطيب ما لا يعاقه الطبع و لا يكرهه الشرع «وَ ما ظَلَمُونا»: و ما بخسوا بحقّنا؛ «وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»: بأن كفروا بالنعم الجليلة، و باستيجابهم العذاب و قطع مادة الرزق، الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة و مشقّة، في الدنيا و لا حساب في العقبى.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو لا بنوا إسرائيل، لم يخبث الطعام و لم يخبز اللحم و الحاصل:

فبعد ان أدّبهم اللّه، بسوط الغربة، في وادي التيه، أدركهم بالرحمة، في وسط الكربة و أكرمهم بالأنعام و ظلّلهم بالغمام و منّ عليهم بالمنّ و سلّاهم بالسلوى، فلا شعورهم كانت تطول و لا اظفارهم كانت تنبت و لا ثيابهم كانت تخلق، او تدرن، بل كانت تنمو صغارها، حسب نموّ الصغار و الصبيان و لا شعاع الشمس ينبسط و كذلك سنّة اللّه تعالى، بمن حال بينه و بين اختياره بكون ما اختاره خيرا له، ممّا اختاره العبد، لنفسه و معذلك، ما ازدادوا بشؤم هواهم، إلّا الوقوع في البلوى، كما يحكى عنه، قوله، و ما ظلمناهم الآية؛ قال اهل التحقيق، من علماء الأخلاق، في كتاب التنوير و ما أدخلك اللّه فيه، تولى اعانتك عليه، و ما دخلت فيه بنفسك، و كلك اليه و الكاملون من أهل السلوك، كانوا يخافون من النعمة، حذرا من ان تكون نعمة الاستدراج، او محنة، فمن ذلك، كان بعضهم، يسير في البادية، و قد اصابه العطش، فانتهى الى بئر، فارتفع الماء، الى رأس البئر، فرفع رأسه الى السماء و قال: اعلم انّك قادر و لكن لا اطيق هذا، فلو قبضت لي بعض الاعراب، يصغنى صقعات و يسقيني، شربة ماء، كان خيرا لي.

ص: 173

[سورة البقرة (2): آية 58]

وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

ذكر سبحانه في الآيات السابقة، نعمة الدنيوية عليهم، كتظليل الغمام، و إنزال المنّ و السلوى و ذكر في هذه الآية، نعمة الدينية عليهم، فقال: و اذكروا يا بني إسرائيل «إِذْ قُلْنَا» قولنا، لآبائكم، بعد ما أنفذتم، من التيه «ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» و اختلف في القرية، قال جماعة، مثل قتادة و ابي مسلم، و الربيع انّها بيت المقدس و استدلّوا عليه، بقوله في المائدة «ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» و قيل انّها مصر و قال ابن عباس و جماعة: انّها أريحا و هي قرية قريبة من بيت المقدس و قالوا:

لا يجوز ان تكون القرية، بيت المقدس، لأنّ الفاء في قوله: فبدّل الذين ظلموا قولا يقتضى التعقيب، فوجب ان يكون، ذلك التبديل، وقع منهم عقيب الأمر بالدخول، في حيوة موسى و موسى مات في التيه و لم يدخل بيت المقدس، فحينئذ ليس المراد من هذه القرية، بيت المقدس، و أجاب الأوّلون بانّه، ليس في هذه الآية، انّا قلنا لهم ادخلوا هذه القرية، على لسان موسى، او على لسان يوشع، فيمكن ان يكون علي لسان يوشع، فيزول الأشكال.

«فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً»: الأمر للاباحة، اى أكلا واسعا هنيئا و أبحنا لكم، فتعيشوا منها، انّى شئتم بلا مشقّة و لا منع و دخولهم على وجه السكونة و الدوام، لقوله في سورة الأعراف: اسكنوا هذه؛ «وَ ادْخُلُوا الْبابَ»: اى بابا من أبواب القرية و كان لها، سبعة أبواب و المراد من الباب الثاني و يعرف اليوم، بباب حطّة، او باب القبّة، التي يتعبّد موسى و هارون و يصليان مع بنى إسرائيل، إليها؛ «سُجَّداً» اى ركّعا منحنين، ناكسي رؤسكم بالتواضع، على ان يكون المراد به، معناه الحقيقي و قيل: المراد من السجود، نفس السجود، الذي هو الصاق الوجه، بالأرض، على ان يكون المراد به معناه الشرعي، قال الرازي و هذا بعيد، لأنّ الظاهر، يقتضى وجوب الدخول، حال السجود، فيمتنع ذلك، و المعنى الأول، أولى و أقرب؛

ص: 174

«وَ قُولُوا حِطَّةٌ»: قرء الحطة بالرفع، خبر لمبتدأ محذوف، اى: مسألتنا، من اللّه، حطّ ذنوبنا و مغفرتنا و قرء بالنصب، اى: الهنا حطّ عنّا، ذنوبنا، حطّة و قيل:

معناه، أمرنا حطّة، اى: أمرنا، ان نحطّ رحالنا، في هذه القرية و نقيم بها و قيل:

أريد بالحطّة، كلمة الشهادة، اى: قولوها و هي الحاطّة للذنوب، لكن الأكثرين، على انّ، معنى قوله، و قولوا حطّة، امر من اللّه، بأن يستغفروا و يطلبوا من اللّه، حطّ ذنوبهم و هذه المعاني، كلّها يصحّ، ان يترجم عنه، بحطّة، لأنّها دواعي المغفرة و حطّ الذنوب، روي عن الباقر عليه السّلام، انّه قال، نحن باب حطّتكم، انّ عليّا، باب حطّة، التي من دخل، في ولايته، أمن و نجى، قال الصادق عليه السّلام: نحن الأوّلون و نحن الآخرون و في الحديث، انّ عليّا، الاول و الآخر، اى: مرجع الأولياء بدءا و ختما و انّ له الولاية الكليّة، في الدنيا و الآخرة و انّه أول الخلق شرفا و رتبة و إياب الخلق إليه، لأنّه الواسطة في جميع الفيوضات و هذا معنى حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا جابر أول ما خلق اللّه، نور نبيّك و عليّ عليه السّلام نفس الرسول؛ قال علي عليه السّلام: أنا الأول، أنا الآخر، أنا الظّاهر، أنا الباطن و في معنى هذا الحديث وجوه: الأوّل- انّه عليه السّلام اوّل من آمن بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عالم الغيب و الشهادة من عالم الأنوار و المثال و الأرواح و النفوس و عالم الذرّ الاول و الناسوت، فانّه عليه السّلام من دعي و أجاب و أول من أجاب نداء جدّه ابراهيم حين اذّن للناس بالحج و ايضا أول الأولياء و آخرهم رتبة و وجودا؛ و تمام الأنبياء و الأولياء انّما خلقوا من أشعّة أنوار محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و عن الصادق عليه السّلام عن آبائه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا علي أنت منّي بمنزلة هبة اللّه من آدم و بمنزلة سام من نوح و بمنزلة إسحاق من ابراهيم و بمنزلة هارون من موسى و بمنزلة شمعون من عيسى، الّا انّه لا نبىّ بعدي، يا على أنت وصيي و خليفتي، فمن جحد وصيّتك و خلافتك فليس منّي و لست منه و أنا خصمه يوم القيامة، يا على أنت أفضل امّتى فضلا و أقدمهم سلما، و أكثرهم علما و أوفرهم حلما و أشجعهم قلبا و أسخاهم كفّا، يا على أنت الامام و الأمير بعدي و الوزير و مالك في امّتى من نظير، يا على أنت

ص: 175

قسيم الجنّة و النار، بمحبتك يعرف الأبرار من الفجّار، و يميز بين الأخيار و الأشرار و بين المؤمنين و الكفّار.

قوله تعالى: «نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ»: أصله خطائي، أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الالف، فاجتمعت همزتان و أبدلت الثانية ياء، ثم قلبت ألفا، و كانت الهمزة بين ألفين، فأبدلت ياء، فصار خطايا مثل بقايا. مجزوم بجواب الأمر. اى: ان فعلتم و أتيتم بما أمرتم به، من الدعاء و طلب المغفرة و الجود، لا نجازيكم بذنوبكم، و نعفو عنكم و هم الذين عبدوا العجل ثم تابوا.

«وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ»: ثوابا من فضلنا، و هم الذين لم يعبدوا العجل، و المحسن من احسن لنفسه و لغيره.

[سورة البقرة (2): آية 59]

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)

«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا»: اى الذين ظلموا أنفسهم و غيّروا ما أمروا به، من التوبة و الاستغفار «قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ»: قولا آخر بما لا خير فيه. روى انّهم قالوا مكان حطة، حنطة، و قيل: قالوا بالنبطية- و هي لغتهم- حطا سمقاتا، يعنون حنطة حمراء، استخفافا بأمر اللّه، قال بعض اهل التفسير: طوطئ لهم الباب ليخفضوا رؤسهم فأبوا ان يدخلوه سجدا، فدخلوا يزحفون على أستاههم مدبرين، مخالفة في الفعل، كما بدّلوا القول، و قالوا: ما شاء موسى ان يلعب بنا، الّا لعب حطّة حطّة، اىّ شي ء حطة.

قال ابن عباس: انّهم أمروا بخصوص هذه اللفظة، مع انّ هذه اللفظة عربيّة و هم ما كانوا يتكلّمون بالعربيّة. و قال الآخرون: المراد ان يقولوا قولا دالّا على الخضوع و الذلّة و التوبة، مثل هذه اللفظة، حتى انّهم لو قالوا مكان قولهم: اللهمّ إنّا نستغفرك و نتوب إليك، لكان المقصود حاصلا، لأنّ المقصود من التوبة بالقلب و باللسان، فالقلب الندم و اللسان فذكر لفظ يدلّ على حصول الندم في القلب و ذلك

ص: 176

لا يتوقف على ذكر لفظة معيّنة.

«فَأَنْزَلْنا» عقيب ذلك «عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا»: و غيّروا ما أمروا به و لم يقل عليهم لأنّ منهم المحسنين «رِجْزاً مِنَ السَّماءِ» اى عذابا، فويل للمبدّل، و قد بدّلت مصحفا بطنبور، و عسلا بزنبور. اما سمعت قول ابن عباس حيث قال: ضمن اللّه لمن اتبع القرآن ان لا يضلّ في الدنيا و لا يشقى في الآخرة. اما سمعت قول اللّه: انّ هذا القرآن يهدي للّتي هي أقوم. فحينئذ كيف بدلت الجلدة، بموجبات الحلاوة، من كتاب اللّه في الزنا و الخمر. و لم بدلت المعروف بالمنكر و المنكر بالمعروف. فان قلت: لا، فلم تؤاخذني إذا وبّخت الزانية، و لا تؤاخذها. و هل التبديل غير هذا. فان تعذرت بالاقتضاء فذلك لو سلّم، ففي ما لا يمكن غير المقتضى بمعنى المفعول و امّا فيما يمكن، فليس ذلك إلا خروجا من الدين هذا في الحدود؛ و امّا في الحقوق، فعليك بمراجعة كتاب القضاء و الشهادات، حتى تبيّن لك الأمر من فساد محاكماتك. و أوّل فسادها، أنّ ما يؤخذ و يسترد من الحقوق بحكمك، فكأنما أخذ بحكم الجبت و الطاغوت، إذا لم يقع التراضي بين المتخاصمين، لأنّك لست أهلا للحكم. و اما مجلسك العالي، فيا للّه و الشورى. و قد جعلت أصله المتأصل و امّ كتابه، الأكثريّة!! فهل كانت مادّة من امور الدين او الدنيا أهملها اللّه في كتابه و سنّته، حتّى جعلت حكم تلك المادّة برأيي و رأيك و انّي استغفر اللّه ممّا طغى به القلم.

و الرجز في الأصل ما يعاف و يستكره، و كذلك الرجس. و المراد في الآية، الطّاعون.

روى انّه مات في ساعة واحدة، منهم أربعة و عشرون الفا، و دام حتّى بلغ سبعين الفا و في الحديث: الطاعون رجز، أرسل على بنى إسرائيل، او على من بدّل، فإذا سمعتم انّ الطاعون بأرض، فلا تدخلوها، و إذا وقع بأرض و أنتم بها، فلا تخرجوا منها.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الطاعون شهادة لأمّتي المؤمنين، و رحمة لهم، و رجس على الكافرين. و من مات من الطاعون، مات شهيدا، و يأمن فتنة القبر، و كذا المبطون و الاستسقاء داخل في المبطون. و عقله لا يزال حاضرا الى حين موته، و كذلك صاحب السلّ

ص: 177

و كذا الغريق، و كذا من يهدم عليه، و صاحب ذات الجنب و الحرق و المرأة الجمعاء، و هي من تموت حاملا، جامعا ولدها.

و في الحديث: إذا بخس الكيل، حبس القطر و إذا كثر الزنى، كثر الموت و القتل، و إذا كثر الكذب، كثر الهرج؛ و الحكمة، انّ الزنى إهلاك النفس، لأنّ ولد الزناء هالك حكما، فلذلك وقع الجزاء بالموت الذريع، لأنّ الجزاء من جنس العمل، كما انّ بخس المكيال، يجازى بحبس القطر الذي هو سبب لنقص أرزاقهم. و كذلك الكذب سبب التفرق و العداوة بين الناس و لهذا يجازى بالهرج الذي هو الفتنة. و انما تعم البلاء أينما وقعت، لتكون عقوبة على اخوان الشياطين، و شهادة و رحمة للمؤمنين.

[سورة البقرة (2): آية 60]

وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

«وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ» اى: اذكروا يا بنى إسرائيل، وقت الذي سأل موسى السقيا لأجل قومه. و كان ذلك في التيه، حين استولى عليهم العطش الشديد، فاستغاثوا بموسى، فدعا موسى ربّه ان يسقيهم «فَقُلْنَا» له بالوحي ان «اضْرِبْ بِعَصاكَ» و كانت من آس الجنّة، طولها عشرة اذرع، على طول موسى و لها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا. حملها آدم من الجنّة، فتوارثها الأنبياء، حتى وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى.

«الْحَجَرَ»: اللّام للعهد، و الإشارة الى معهود. فقد روى انّه كان حجرا طوريّا، حمله معه. و كان حفيفا مربعا، له اربعة أوجه، في كلّ وجه ثلاث أعين او هو الحجر الذي فرّ بثوبه، حين وضع ثوبه عليه ليغتسل و برأه اللّه ممّا رموه به من الادرة، فأشار اليه جبرئيل ان ارفعه، فانّ اللّه فيه قدرة و لك فيه معجزة.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كان بنو إسرائيل ينظر بعضهم الى سوأة بعض، و لكن موسى

ص: 178

يغتسل وحده، فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، فخرج موسى بأثره، يقول ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى، فقالوا: و اللّه ما بموسى ادرة و هي بالضم، نفخة بالخصية. و امّا للجنس، اى اضرب الشي ء الذي يقال له الحجر. و هو الأظهر في الحجّة، و أبين على القدرة، فانّ إخراج الماء، بضرب من العصا من الحجر اىّ حجر كان، ادلّ على ثبوت نبوّة موسى من إخراج الماء من حجر معهود، لاحتمال ان يذهب الى تلك الخاصيّة، في ذلك الحجر المعيّن، كخاصيّة جذب الحديد في حجر المغناطيس.

«فَانْفَجَرَتْ»: و الانفجار- الانسكاب و الانبجاس- الترشح «مِنْهُ» اى: من ذلك الحجر «اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً»: ماء عذبا، على عدد الأسباط، لكلّ سبط عين. و كان يضربه بعصاه إذا نزل فيتفجر. و يضربه إذا ارتحل فييبس «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ» أى كلّ سبط من الأسباط الاثنى عشر «مَشْرَبَهُمْ» اى عينهم الخاصّة بهم و المشرب، المصدر و المكان. و الحكمة في ذلك، انّ الأسباط كانت بينهم عصبيّة و مباهاة. و كلّ سبط منهم لا يتزوّج من سبط آخر و كلّ سبط أراد تكثير نفسه، فجعل اللّه لكلّ سبط مشربا لكيلا يقع بينهم جدال و خصومة. و كانوا ستمائة ألف. و سعة المعسكر، اثنى عشر ميلا، و من أنكر أمثال هذه المعجزات، فلغاية جهله باللّه و قدرته، فانّه لمّا أمكن ان يكون من الأحجار، ما يجذب الحديد، لم يمنع أن يخلق اللّه حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض، أو لجذب الهواء من الجوانب و يجعله ماءا بقوة التبريد. و معنى المعجزة ان تكون خارجة عن العاديّات و الأسباب، كما ظهر اعجب منها من انفجار الماء من يد نبيّنا، من بين أصابعه، من لحم و دم؛ «كُلُوا»: اى قلنا لهم او قيل لهم «كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»: العثى، اشدّ الفساد، لأنّ الفساد قد يكون ظاهره فسادا لكن باطنه ليس بفساد، و أمّا العثى، الفساد القبيح ظاهرا و باطنا. اى لا تتمادوا في الفساد، حالكونكم مفسدين.

و قد استسقى نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم روى عن جندبه: انّ اعرابيّا دخل عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم

ص: 179

الجمعة، و قال: يا رسول اللّه ملكت الكراع و المواشي، و اجدبت الأرض، فادع اللّه ان يسقينا، فرفع يديه، و دعا متذلّلا، متواضعا، متخشعا؛ قال انس: و السماء كأنّها زجاجة، ليس فيها قزعة، فنشأت سحابة و مطرت الى الجمعة القابلة. و ترك الدعاء لكشف الضرّ مذموم عند اهل الطريقة، لأنّه كالمقاومة مع اللّه، و دعوى التحمّل لمشاقّه. قال ابن الفارض:

و يحسن اظهار التجلد للعدى و يقبح غير العجز عند الأحبّة

قال امير المؤمنين عليه السّلام: للدعاء شروط، الأول همّ مجموع. و الثاني اخلاص السريرة و الثالث معرفة المسئول و الرابع الإنصاف في المسألة.

روى انّ موسى عليه السّلام مرّ برجل ساجد يبكى و يتضرع، فقال موسى يا ربّ، لو كانت حاجة هذا العبد بيدي، لقضيتها، فأوحى اللّه اليه، يا موسى انّه يدعوني و قلبه متعلق و مشغول بغنمه، فلو سجد حتى ينقطع صلبه و شق عيناه، لم استجب له حتى يتحوّل عمّا ابغض الى ما أحب.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّ العبد ليرفع يديه الى اللّه و مطعمه حرام و ملبسه حرام، فكيف يستجاب له و هذه حاله؛ قال امير المؤمنين عليه السّلام: لو أنّ الناس إذا زالت عنهم النعم، و حلّت بهم النقم، فزعوا الى اللّه بصدق نيّاتهم، و وله من نفوسهم، لردّ عليهم كل شارد، و لأصلح لهم كلّ فاسد و لأصلح لهم كلّ فاسد، و لكنّهم اخلّوا بشكر النعم، فسلبوها و ان اللّه يعطى بشرط الشكر لها و القيام فيها بحقوقها، فإذا اخل بالشكر، كان للّه التغيير و التقتير. و اللّه ما نزع اللّه من قوم نعماؤه، إلّا بذنوب اجترحوها، فقيّدوها بالطاعة و اقرب الناس الى الاجابة، الطائع المضطرّ، الذي لا بدّ له ممّا سئله، خصوصا عند نفاد الصبر.

و اعلم، انّ كرمه و جوده لا يتعدّيان حكمته، قال اللّه: و لو اتّبع الحق اهوائهم لفسدت السموات و الأرض و من فيهن، سبحان من عطائه كرم، و منعه عدل و فضل، و لا ييأس العبد من تأخير الإجابة، فيقصر في الدعاء. و قد كان بين اجابة موسى و هارون، في فرعون، أربعين سنة، من حين قال لهما: قد أجيبت دعوتكما.

ص: 180

قال الصادق عليه السّلام: آداب الدعاء: تبدأ و تذكر نعمه عندك، ثم تشكره، ثم تصلى على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم تذكر ذنوبك خائفا، ثم تستغفروا اللّه منها، ثمّ تطلب حاجتك.

قال تعالى: [سورة البقرة (2): آية 61]

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61)

«وَ إِذْ قُلْتُمْ»: تذكير جناية اخرى لاسلافهم، و كفرانهم بنعمة اللّه. خاطبهم تنزيلا لهم مكان آبائهم، لما بينهم من الاتحاد في الطريقة. و كان هذا القول منهم في التيه، حين سئموا من أكل المن و السلوى، لأنّهم تذكروا عيشهم الأول بمصر، لأنّهم كانوا اهل فلاحة، و اشتاقت طباعهم الى ما جرت عادتهم، فقالوا «يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ»: و كنوا عن المن و السلوى بطعام واحد، و هما اثنان، لأنّهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر، فيصير ان طعاما واحدا، او أريد بالواحد، نفى التبدّل و الاختلاف و لو كان على مائدة ألوان عديده، يداوم عليها، فقال لا يأكل فلان الّا طعاما واحدا «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ» اى سله «يُخْرِجْ لَنا»: و يظهر لأجلنا، و الجزم لجواب الأمر اى ان تدع لنا ربّك، يخرج لنا «مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ» و- من- تبعيضية- و ما- موصلة «مِنْ بَقْلِها» و البقل ما نبت الأرض، من الخضر. و المراد اصناف البقول، التي تأكلها الناس كالكراث و النعناع و الكرفس و أشباهها و «قِثَّائِها» من انواع الخيار و «فُومِها» قيل: هو الحنطة، لأنّ ذكر العدس، يدلّ على أنّه المراد، لأنّه من جنسه، و قيل هو الثوم، لأنّ ذكر البصل يدلّ على انّه هو المراد، فإنّه من جنسه. قال ابن التمجيد: و حمله على الثوم أوفق من الحنطة و «عَدَسِها»: حبّ معروف يستوي كيله

ص: 181

و وزنه «وَ بَصَلِها»: بقل معروف، تطيب به القدور، «قالَ»: استيناف وقع عن سؤال مقدّر، كأنّه قيل: فماذا قال اللّه لهم او موسى، فقيل إنكارا عليهم، «أَ تَسْتَبْدِلُونَ» اى ا تأخذون و تختارون لأنفسكم، «الَّذِي هُوَ أَدْنى اى أدون مرتبة؛ إذا قرأ ادنأ مهموزا. و إذا قرأنا قصرا، اى اقرب و أحط منزلة؛ «بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ»: اى بمقابلة ما هو خير، كما انّ خيرية المن و السّلوى في اللذاذة و سقوط المشقّة بالنسبة الى العدس و البصل واضحة «اهْبِطُوا» و انزلوا من التيه، ان كنتم تريدون هذه الأشياء «مِصْراً» من الأمصار، لأنّكم في البريّة و لا فيها ما تطلبون، و انّما يوجد ذلك في الأمصار و ليس المراد بمصر، مصر فرعون، لقوله: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة و إذا وجب عليهم دخول تلك الأرض، لكن قال الحسن و الربيع: أراد مصر فرعون، الّذى خرجوا منه قال ابو مسلم: أراد بيت المقدس «فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ»: و المصر البلد العظيم، من مصر الشي ء: اى قطعه، سمّى به لانقطاعه عن الفضاء، بالعمارة و انّما صرف، لسكون وسطه، كهند و نوح، او لتأويله بالبلد دون المدينة «وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ» و الهوان «وَ الْمَسْكَنَةُ»: اى الفقر: اى جعلنا محيطتين بهم، احاطة القبّة بمن ضربت عليه، او المعنى بتعبير الضرب، انّه الصقنا بهم و جعلنا ضربة لازب لا تنفك عنهم، مجازاة على كفرانهم كما يضرب الطين على الحائط، فهو استعارة بالكناية. فترى اكثر اليهود و ان كانوا مياسير كأنّهم فقراء «وَ باؤُ»: اى رجعوا «بِغَضَبٍ» عظيم كائن «مِنَ اللَّهِ» استحقوه و لزمهم ذلك. و اطلاق الغضب في حق اللّه، المراد لازم الغضب، و هو العقوبة «ذلِكَ» اى البوء بالغضب العظيم «بِأَنَّهُمْ» بسبب انّ اليهود «كانُوا يَكْفُرُونَ» على الاستمرار «بِآياتِ اللَّهِ» و المعجزات الساطعة على موسى، مما عدّا و لم يعدّ، و كذّبوا بالقرآن و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنكروا صفته، و كفروا بعيسى و الإنجيل «وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ» كشعيب و زكريّا و يحيى عليهم السلام و فائدة التقييد مع انّ قتل الأنبياء يستحيل ان يكون بحق، للإيذان بانّ ذلك عندهم ايضا بغير الحق.

قال ابن عباس: لم يقتل قطّ من الأنبياء، إلّا من لم يؤمر بقتال. و ذلك القتل كرامة لهم و ليس بخذلان لهم. و كلّ امر بقتال، نصر. فظهر ان لا تعارض بين قوله: و يقتلون

ص: 182

النبيّين بغير الحقّ، و قوله: إنّا لننصر رسلنا، و قوله: و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انّهم لهم المنصورون، مع انّه يجوز ان يراد، به النصرة بالحجة و البرهان، لا بالسيف و السنان «ذلِكَ»: اى ما ذكر من العذاب و البوء بالغضب و الذلة؛ «بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ»: اى فعلت لهم ما فعلت، بعصيانهم امرى و تجاوزهم عن حدودي. و قوله ذلك بما عصوا، فهو تأكيد بتكرير الشي ء بغير اللفظ الأول، و بيان استمرارهم في العصيان.

و في الآية الكريمة دليل و بيان على جواز أكل الطيّبات و المطاعم المستلذات و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحبّ الحلوى و العسل و يشرب الماء البارد. و العدس و الزيت طعام الصالحين. في الحديث: عليكم بالعدس، فانّه مبارك، مقدس و انّه يرقق القلب و يكثر الدمعة، بارك فيه سبعون نبيّا، آخرهم عيسى بن مريم عليه السّلام، و لو لم يكن فيه فضيلة غير انّ ضيافة ابراهيم الخليل من مأدبته لا تخلو منه، لكان فيه كفاية و هو يخفف البدن فيخف للعبادة، و لا تثور منه الشّهوات و لهذا السّبب كان رغبة الأنبياء فيه اكثر من غيره.

و كذلك في الآية دلالة على اباحة أكل البصل و الثوم و ما له رائحة كريهة. في الحديث: من أكل الثوم و البصل و الكراث فلا يقر من مسجدنا، فانّ الملائكة تتأذى ممّا يتأذّى منه بنو آدم. و المراد بالملائكة، الحاضرون مواضع العبادات، لا الملازمون للإنسان في جميع الأوقات. و يمكن ان الملازمين ايضا يتأذّون، فلا وجه للتخصيص قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ان كنتم لا بدّ لكم من أكلها، فاميتوها طبخا- و انما كره النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أكل الثوم و البصل و غيره، لما انّه يأتيه الوحى و يناجى اللّه، و لكن رخص للسائر حتى قيل:

آخر ما اكله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم البصل، إيذانا لامته بإباحته رجعنا الى التفسير: التذييل يؤتى به لتأكيد معنى الجملة السّابقة، مثل جاء الحق الآية، على انّه أراد استمرار كفرهم، قال الشاعر:

للّه لذة عيش بالحبيب مضت فلم تدم لي و غير اللّه لم يدم

و التذييل، تكرار الشي ء بغير اللفظ الاول للتأكيد و الثبوت، كما انّ هذا المعنى في الاعتراض، لكن في الاعتراض ثبوت تأكيد و معان أخر، مثل التنزيه، مثل و يجعلون

ص: 183

للّه البنات- سبحانه- و لهم ما يشتهون. و النكتة: تنزيه اللّه عن هذه النسبة القبيحة. و ايضا فائدة الاعتراض، التنبيه كقوله: و وصّينا الإنسان بوالديه حملته امّه وهنا على وهن و حمله و فصاله في عامين ان اشكر لي و لوالديك، فقوله: حملته الى قوله في عامين. معترضة إيجابا و تأكيدا للوصيّة بالوالدين. و من فائدة الاعتراض. الاستعطاف كقول المتنبّي:

و خفوق قلبي لو رأيت لهيبه يا جنّتى لرأيت فيه جهنّما

استعطاف في قوله يا جنتي، و طباق.

[سورة البقرة (2): آية 62]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا»: اختلفوا في هؤلاء المؤمنين في هذه الآية، قيل: المراد منهم، الذين آمنوا بعيسى، ثم لم يتهودوا و لم ينتصروا و لم يصبئوا، و انتظروا خروج محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: هم طلاب الدين، منهم حبيب النجار و قيس بن ساعدة و زيد بن عمرو بن نفيل و ورقة بن نوفل و البراء الشتى و أبو ذرّ الغفاري و سلمان الفارسي و أصحابه النصارى الذين كان قد تنصّر على أيديهم، قبل مبعث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و كانوا قد اخبروه بانّه سيبعث، و انّهم يؤمنون به ان أدركوه. و قيل: هم مؤمنوا الأمم الماضية. و قيل: المراد المنافقون الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم بقرينة انتظامهم في سلك الكفرة، و انّما عبّر عنهم بذلك، دون تصريح عنوان النفاق، للاشعار بانّ تلك المرتبة و ان عبّر عنها بالإيمان، لا تجديهم نفعا أصلا، فعلى هذا يكون معنى الآية: انّ الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم من المنافقين و اليهود و النصارى، إذا آمنوا بعد النفاق، و اسلموا بعد العناد كان لهم أجرهم عند ربّهم، كمن آمن في أول استدعائه الى الايمان من غير نفاق. و ذلك انّ قوما من المسلمين قالوا: انّ من اسلم بعد نفاقه و عناده، كان ثوابه انقص و اجره اقلّ، فأخبر اللّه بهذه الآية انّهم سواء في الأجر و الثواب.

«وَ الَّذِينَ هادُوا»: اى صاروا يهوديّا و بقوا على دين اليهودية. و اختلف في اشتقاق هذا الاسم، قيل عربىّ، من هاد، إذا تاب و رجع سموّ بذلك حين تابوا عن عبادة

ص: 184

العجل و خصّوا به، لما كانت توبتهم توبة هائلة- و امّا لأنّهم سمّوا للنسبة الى يهودا اكبر أولاد يعقوب. و قيل سمّوا بهذا الاسم، لأنّهم إذا جاءهم رسول او نبىّ، هادوا الى ملكهم، فدلوه عليه، فيقتلونه.

«وَ النَّصارى : جمع نصران، مثل ندامى جمع ندمان، سمّوا بذلك لأنّهم نصروا المسيح، او لأنّهم كانوا معه في قرية، يقال لها ناصرة، فسمّوا باسمها.

«وَ الصَّابِئِينَ»: من صبأ. إذا خرج من الدين. و هم قوم عدلوا عن دين اليهودية و النصرانية و عبدوا الكواكب و الملائكة، فكانوا كعبدة الأصنام و ان كانوا يقرؤن الزبور و في روضة العلماء: انّه جاء أعرابي الى النبي، فقال: لم يسمّى الصابئون، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لأنّهم إذا جاءهم رسول او نبىّ، أخذوه و عمدوا الى قدر عظيم فاغلوه، حتى إذا كان يحمى صبوه على رأسه حتى ينفسخ.

«مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ»: اى من آمن منهم ايمانا خالصا بالمبدإ و المعاد، «وَ عَمِلَ» عملا «صالِحاً» مرضيّا عند اللّه «فَلَهُمْ» بمقابلة تلك. و الفاء للسببيّة «أَجْرُهُمْ» الموعود لهم «عِنْدَ رَبِّهِمْ» اى مالك أمرهم «وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» عطف على جملة فلهم أجرهم. اى لا خوف عليهم، حين يخاف الكفار، العقاب «وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» حين يحزن المقصّرون على تضييع العمر، لأنّهم تداركوا ما فات منهم و نهوا النفس عن الهوى. أولئك على هدى من ربّهم و هذه الهداية من النعم التكوينيّة، اعنى الفطري الذي فطر الناس عليها. و الفطري الذي يتعلق به التكليف في العوالم الستة: ثلاثة منها في عالم الغيب، و هو عالم العقل و الروح و المثال. و ثلاثة في عالم الشهادة، و هو عالم الذرّ و الطينة و الخلق.

في الحديث: إذا أراد اللّه بعبد خيرا فتح عيني قلبه، فلا يسمع بمعروف الّا عرفه و لا بمنكر الّا أنكره. و المراد من ذلك، مقام المعاينة و مرتبة الشهود القلبي، فانّ للإنسان قوة درّاكة ينتقش فيها حقايق الأشياء، كما في المرآة، إذا كانت صافية، لكنّ القلب المتلبّس بالغواشى و العلائق، محروم عن عالم المشاهدة و هو في عماء. و من لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور. و النفس إذا فنت في الطاعة، تكون ارادتها تابعة لرضى اللّه

ص: 185

و ترتبط بالفيض، و نور امامه و حجّته، كما قال اللّه: و جعلنا له نورا يمشى به في الناس، كأنّه يرى الامام بالعين القلبيّة و يستمدّ منه، و ان غاب عنه في عالم الحسّ و هذا المقام أعلى المقامات، قريب من العلم اللدني. و لا يحصل الّا للخواصّ من الشيعة- رزقنا اللّه بفضله- و لا يحصل هذا المقام، مع حبّ الدنيا؛ و يحصل لأهل الخوف و الخشية.

[سورة البقرة (2): آية 63]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)

«وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ»: تذكير جناية اخرى، لأسلاف بنى إسرائيل اى اذكروا يا بني إسرائيل وقت أخذنا بعهد آبائكم، بالعمل على ما في التوراة و ذلك قبل التيه، حين خرجوا مع موسى من مصر، و نجوا من الغرق «وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ»: كأنّه ظلّة حتى قبلتم و أعطيتم الميثاق. و الطور الجبل بالسريانية. و ذلك انّ موسى جاءهم بالألواح، فرأوا ما فيها من الإجبار و التكاليف الشاقّة، فكبرت عليهم و أبوا قبولها، فأمر جبرئيل، فقلع الجبل من أصله و رفعه و ظلّله فوقهم. و قال لهم موسى: ان قبلتم و الّا القى عليكم، فلمّا رأوا، ان لا مهرب لهم منها، قبلوا و سجدوا و جعلوا يلاحظون الجبل- و هم سجود- لئلّا ينزل عليهم. فصارت عادة في اليهود، لا يسجدون الا هم على انصاف وجوههم. و يقولون بهذا السجود رفع عنّا العذاب، ثمّ رفع الجبل، فالجئوا الى قبوله كارهين، الّا من عصمه اللّه من العناد، فانّه قبله طائعا، مختارا،- و منهم آمنوا كرها و سجدوا و قلوبهم غير مطمئنّة. و هذا الإلجاء جائز، كالمحاربة مع الكفار؛ و امّا قوله لا اكراه في الدين و أمثاله، فمنسوخ بآية السيف و القتال. و من الميثاق الذي أخذ منهم، العمل بالتوراة، و من احكام التوراة، بيان ما فيه من نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وصيّة علىّ عليه السّلام و الطيّبين من أولاده، و ان يؤدوا هذا الأمر الى اخلافهم قرنا بعد قرن، فأبوا قبول ذلك و استكبروا و ذلك قوله: ثمّ تولّيتم من بعد ذلك الآية؛ «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ»: اى قلنا لهم خذوا ما آتيناكم من الكتاب بجدّ و عزيمة «وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ»: و احفظوا ما في الكتاب، و لا تنسوه، و لا تغلفوا عنه

ص: 186

«لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»: لكي تكونوا متقين.

[سورة البقرة (2): آية 64]

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)

«ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ»: اى ثم أعرضتم عن الميثاق و الوفاء. قال القفال: تولّوا بأمور كثيرة، فحرّفوا التوراة، و تركوا العمل بها، و قتلوا الأنبياء، و كفروا بهم، و عصوا أمرهم. و لعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض و منها ما عمله اوائلهم و منها ما فعله متأخروهم. و لم يزالوا في التيه، مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا و نهارا، يخالفون موسى و يعترضون عليه و يلقونه بكلّ أذى، و يجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك، حتّى لقد خسف ببعضهم، و أحرقت النار بعضهم، و عوقبوا بالطاعون. و كل هذا مذكور في تراجم التوراة، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به- و كفروا بالمسيح- و همّوا بقتله و القرآن. و الجملة معروفة؛ «فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ»: من امهالكم و تأخير العذاب عنكم، «لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ»: لكنتم من الهالكين، فدلّ هذا القول على انّهم خرجوا من هذا الخسران، لأنّ اللّه تفضّل عليهم بالإمهال حتى تابوا. و قيل في معنى الآية: انّ الكلام ثمّ عند قوله: ثم توليتم من بعد ذلك، ثم قيل: فلو لا فضل اللّه رجوعا بالكلام الى اوّله، فيكون معنى الآية: لو لا لطف اللّه بكم، برفع الجبل فوقكم، لدمتم على ردّكم و انكاركم قبول التوراة، و كنتم كافرين، فلطف بكم بذلك، حتى تبتم و قبلتم و فزتم بسبب التفضل على التوبة و الايمان.

مركب توبة عجائب مركب است بر فلك تازد بيك لحظه ز پست

چون برآرند أز پشيمانى أنين عرش لرزد أز أنين المذنبين

جمله ماضيها أز اين نيكو شوندزهر پارينه أز اين گردد چو قند

فان كنت في لباس الفسوق، فبدّل لباسك بلباس التقوى، و كن من الطبقة الرابعة فانّ الناس على اربع طبقات: سعيد بالنفس و الروح، و هم الأنبياء و المعصومون- و الثانية شقىّ بالنفس و الروح، و هم الكفّار و المصرّون على الكبائر- و الثالثة شقي بالنفس

ص: 187

في لباس السعادة، على سبيل العارية، مثل بلعم و برصيصا و ابراهيم و بعض ما تراه في عصرك و الرابعة سعيد بالنفس في لباس الشقاوة كبلال و صهيب و التائبين الراجعين عن هوى النفس. و نهوا النفس عن الهوى، فانّ الجنّة هي المأوى. و العبد المذنب شأنه انّه مع التوبة لا يفارقه الخوف. و لو كان في اى طبقة، فخوف المذنبين من العقوبات. و خوف العابدين من فوات الشروط و عدم القبول و خوف العالمين من الشرك الخفى في الطاعات و خوف العارفين من الهيبة و التعظيم. و هذا اشدّ الخوف لأنّه لا يزول ابدا، و باقى الأنواع إذا قوبلت بالرحمة سكنت في الجملة. و رأس مال المذنب، الخوف، و هو سدّ محكم من معاصى اللّه، إذا كان صادقا. و لمن خاف مقام ربّه جنّتان. و اعلم انّ في جميع ما أمرك المشرّع صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوائد لا تحصى، حتى في كيفيّة مشيك و نومك و أكلك، مثل ان أمرك بقلّة الأكل. و من الفوائد منها، قلّة الحدث و دوام الطهارة و خفّة النفس للعبادة و قلّة التعب للمؤنة و صفاء القلب و تيقّظ الفطنة و ذهاب التخمة و غنى عن الأدوية و بقاء الصحّة و زيادة نور البصر و تقوية الكبد و طرد الكسل و تنقية الجسد و هكذا هلمّ جرّا، مثل الجهر بالتكبيرة و رفع اليدين حتى ينتقل الى الصلاة. فلازم الخوف و اليقين، تكن من المتقين. و لا تقنع فقط بالفريضة، بل اتبعها بالسنّة. و أفضل القرب، الفريضة، و بعدها سنّة مستفيضة. فكما لا تورق الجذل بدون الفنن، لا يكمل الفرض بدون السنن. ازدد لجوعة القيامة من رواتب الفرائض، و اجعل ادامها و فاكهتها النوافل، فانّ الفرض كالقوت و النفل كالحلاوة. و نعم ذلك الحمل و نعمت هذه الحلاوة. ذلك حتم مقضىّ و هذا ادب مرضىّ، فمن لزم جادة الفرض و النفل، ملك حظائر الجنان او أكثرها، و ورد سلسبيلها و كوثرها.

[سورة البقرة (2): آية 65]

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)

خطاب لمعاصرى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اليهود «وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ»: و باللّه قد عرفتم يا بنى إسرائيل «الَّذِينَ اعْتَدَوْا» و تجاوزا الحد ظلما منكم اى اسلافكم «فِي السَّبْتِ» في يوم السبت و جاوزوا ما حدّ لهم فيه من التجرّد للعبادة و اشتغلوا بالصيد. و اصل السبت، القطع، لأنّ اليهود أمروا بأن يقطعوا الأعمال و يشتغلوا بعبادة اللّه- و يسمّى

ص: 188

النوم سباتا، لأنّه يقطع الحركات الاختيارية. و حاصل الكلام: انكم تعملون ما أصابهم من العقوبة، فاحذروا كيلا يصبكم مثل ما أصابهم. و القصة فيه: انّهم كانوا في زمن داود عليه السّلام بأرض يقال لها- أيلة- بين المدينة و الشام، على ساحل بحر القلزم، حرّم اللّه عليهم صيد السمك يوم السبت، فكان إذا دخل السبت، لم يبق حوت في البحر الّا اجتمع هناك، امّا ابتلاء لأولئك القوم، و امّا لزيارة السمكة التي كان في بطنها يونس، ففي كلّ سبت يجتمعن لزيارتها و تخرجن خراطيمهن من الماء، بحيث لا يرى الماء من كثرتها. و إذا مضى السبت، تفرقن و لزمن مقل البحر، فعمد رجال من اهل تلك القرية فحفروا الحياض حول البحر، و شرعوا منه إليها الأنهار، فإذا كانت عشية الجمعة، فتحوا تلك الأنهار، فاقبل الموج بالحيتان الى الحياض، فلا يقدرون على الخروج، لبعد عمقها و قلّة مائها، فإذا كان يوم الأحد يصطادونها، فأخذوا و أكلوا و ملحوا و باعوا، فكثرت أموالهم، ففعلوا ذلك زمانا، أربعين سنة أو سبعين لم يزل عليهم عقوبة. و كانوا يتخوفون العقوبة؛ فلمّا لم يعاقبوا، استبشروا و تجرئوا على الذنب. و قالوا ما نرى الذنب إلّا قد أجل لنا. ثم استنّ الأبناء، سنّة الآباء، فلمّا فعلوا ذلك صار اهل القرية و كانوا نحوا من سبعين الفا، ثلاثة اصناف، صنف امسك و نهى و صنف امسك و لم ينه، و صنف انتهك الحرمة. و كان الناهون اثنى عشر الفا، فنهوهم عن ذلك، و قالوا يا قوم انكم عصيتم ربّكم و خالفتم سنّة نبيّكم، فانتهوا عن هذا العمل، قبل ان ينزل عليكم البلاء، فلم يتّعظوا و أبوا قبول نصحهم، فعاقب اللّه بالمسخ الطائفتين الممسكة الغير النّاهية و العاصية.

«فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً»: جمع قردة، كالديكة جمع ديك، فحول اللّه صورهم الى صورة قردة، من غير امتناع و لا لبث «خاسِئِينَ»: و الخسئ- الصغار و الطرد و ذلك انّ المجرمين لمّا أبوا قبول النصح، قال الناهون: و اللّه لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار و صيّروها بذلك ثنتين، فلعنهم داود، فمسخوا ليلا، فلمّا أصبح الناهون، أتوا ابوابها فإذا هي مغلقة، لا يسمع منها صوت، و لا يعلو منها دخان، فتسورا الحيطان، و دخلوا فرأوهم، قد صار الشبّان قردة، و الشيوخ خنازير، لها

ص: 189

اذناب، يتعاوون، فعرفت القردة أنسابهم من الانس، و لم يعرف الانس أنسابهم من القردة فجعلت القردة تأتى نسيبها من الانس، فتشمّ ثيابه و تبكى فيقول: الم ننهكم من ذلك، فكانوا يشيرون برءوسهم ان نعم. و لم يكن ابتداء القردة من هؤلاء، بل كان جنس القردة قبلهم. و ماتوا بعد ثلاثة أيّام، و لم يتوالدوا. و القردة التي في الدنيا، هي نسل القردة التي كانت قبلهم.

[سورة البقرة (2): آية 66]

فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

«فَجَعَلْناها نَكالًا»: اى صيّرنا مسخة تلك الامة، عبرة تنكل و تمنع من اعتبر بها «لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها»: من ان يقدم على مثل صنيعهم، لما بين يديها و ما بعدها من القرون، لأنّ مسختهم ذكرت في كتب الأولين، فاعبروا بها. و كذلك اعتبر من بلغته من الآخرين، فاستعبر ما بين يديها للزمان الحال و ما خلفها للمستقبل «وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ»: و موعظة لكلّ متقى سمعها. و معلوم انّ من لم يعرف قدر الإحسان و يكافئ المنعم بالكفران، يردّ من عزّة الوصال، الى ذلّ الهجران و لا ينبغي ان يغترّ من لا يعاقب بمثل هذه العقوبات، من الخسف و المسخ و أمثالهما، فان الاستدراج و عقوبة القلوب اشدّ، أشدّ من عقوبات النفوس و الأجساد. قال تعالى: و نقلّب افئدتهم و أبصارهم، الآية. و لا شكّ انّ مسخ القلب عين الحرمان. و علامة مسخ القلب، أكل مال الحرام، و عدم المبالات به، و ان لا يجد ممسوخ القلب حلاوة الطاعة، و لا يخاف من المعصية، و لا يعتبر بموت احد، كذا ذكر في كتاب زهرة الرياض: قال عوف بن عبد اللّه: من عمل لآخرته كفاه اللّه امر دنياه. و من أصلح ما بينه و بين اللّه، أصلح اللّه ما بينه و بين الناس. و من أصلح سريرته، أصلح اللّه علانيته. و صلاح اربعة في اربعة:

الصبيان في المكاتب و خدمة الأساتيد للصنعة. و صلاح القطاع في السجن. و صلاح النساء في البيوت. و صلاح الكهول في المساجد.

ص: 190

[سورة البقرة (2): آية 67]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)

«وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ»: توبيخ آخر لا خلاف بنى إسرائيل، بتذكير جنايات صدرت من أسلافهم، حتى ينتهوا، فقال: و اذكروا قول موسى لأسلافكم و أجدادكم «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً»: هي الأنثى من نوع الثور، او واحد البقر، ذكرا كان او أنثى، و أصله من الشقّ، سميت به لأنّها تبقر و تشق الأرض للحراثة.

قال صاحب تفسير روح البيان و ذلك انّه كان في بنى إسرائيل شيخ موسر، فقتله بنو عمّه، طمعا في ميراثه، فطرحوه على باب المدينة، او حملوه الى قرية اخرى و القوه بفنائها، ثمّ جاءوا يطالبون بديته، و جاءوا بناس يدّعون عليهم القتل، فسألهم موسى فجحدوا، فاشتبه امر القتيل على موسى. و كان ذلك قبل نزول الامامة في التوراة، فسألوا موسى ان يدعوا اللّه ليبيّن لهم بدعائه، فدعا، فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة و يضربوه ببعضها، فيحيى، فيخبرهم بقاتله؛ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا بأس بفكاهة يخرج بها الإنسان من حدّ العبوس.

ثمّ انّ القوم علموا ذبح البقرة، عزم وجد، فاستوضعوها؟

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و لو انّهم عمدوا الى ادنى بقرة فذبحوها، لاجتزت عنهم.

«قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً»: اى قالوا لموسى: أ تجعلنا مكان هزء و سخريّة و تستهزئ بنا، نسألك عن امر القتيل، فتأمرنا بذبح البقرة، «قالَ» موسى «أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ»: لأنّ الهزء في تبليغ امر اللّه، جهل و سفه و استهزاء بأمر الدين كبيرة. و صاحبه مستحق للوعيد و ليس المزاح من الاستهزاء.

و لكنّهم استوضعوها، فشدّد عليهم الأمر و كانت تحته حكمة و هي انّه كان في بنى إسرائيل رجل صالح، له ابن طفل، و له عجلة اتى بها الى غيضة. و قال اللهم انّى استودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر. و مات الرجل، فصارت العجلة قي الغيضة عوانا، اى بين المسنة و الشابّة. و كانت تهرب من كلّ من رآها، فلمّا كبر الابن، كان بارّا بوالدته

ص: 191

و كان يقسم الليل أثلاثا، فيصلّى ثلثا و ينام ثلثا و يجلس عند رأس امّه ثلثا، فإذا أصبح انطلق، فاحتطب على ظهره، فيأتى به الى السوق، فيبيعه بما شاء اللّه، ثم يتصدّق بثلثه و يأكل ثلثه و يعطى والدته ثلثه، فقالت له امّه يوما: انّ أباك قد ورّثك عجلة استودعها اللّه في غيضة كذا فانطلق و ادع إله ابراهيم و إسماعيل و إسحاق ان يردّها عليك- و علامتها انّك إذا نظرت إليها يخيل إليك انّ شعاع الشمس يخرج من جلدها و كانت تسمى البقرة المذهّبة لصفرتها، فاتى الفتى الغيضة، فرآها ترعى، فصاح بها و قال اعزم عليك بإله ابراهيم و إسماعيل و اسحق و يعقوب، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها يقودها، فتكلّمت البقرة باذن اللّه- و قالت: ايّها الفتى البارّ لوالدته اركبنى فانّ ذلك أهون عليك، فقال الفتى: انّ امّى لم تأمر بذلك و لكن قالت خذ بعنقها، فقالت البقرة باله بنى إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علىّ ابدا، فانطلق، فانّك ان أمرت بالجبل، ان ينقلع من أصله و ينطلق معك لفعل لبرّك بامّك. فسار الفتى بها الى امّه. فقالت له امّه: انّك فقير لا مال لك و يشقّ عليك الاحتطاب بالنهار و القيام بالليل، فانطلق، فبع هذه البقرة. قال: بكم أبيعها، قالت بثلاثة دنانير و لا تبع بغير مشورتي- و كان ثمن البقرة ثلاثة دنانير- فانطلق بها الى السوق، فبعث اللّه ملكا ليرى خلقه قدرته، و ليختبر الفتى، كيف برّه بامّه و كان اللّه به خبيرا، فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة، قال بثلاثة دنانير و اشترط عليك رضى والدتي، فقال الملك لك ستّة دنانير و لا نستأمر والدتك، فقال الفتى لو أعطيتني وزنها ذهبا، لم آخذها الّا برضى امّى، فردّها الى امّه و أخبرها بالثمن، فقالت ارجع فبعها بستة على رضى مني، فانطلق بها الى السوق، فأتى الملك، فقال الملك استأمرت امّك، فقال الفتى:

انّها أمرتني ان لا أنقصها من ستّة على ان استأمرها، فقال الملك انّى أعطيك اثنى عشر على ان لا تستأمرها، فأبى الفتى، و رجع الى امّه و أخبرها بذلك، فقالت انّ الذي يأتيك، ملك بصورة آدمىّ ليختبرك، فإذا أتى، فقل له، أ تأمر ان نبيع هذه البقرة أم لا، ففعل فقال له الملك: اذهب الى امّك و قل لها أمسكي هذه البقرة، فانّ موسى بن عمران

ص: 192

يشتريها منك، لقتيل يقتل في بنى إسرائيل، فلا تبيعوها إلّا بمل ء مسكها ذهبا فامسكوها و قدّر اللّه على بنى إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتّى وصف لهم تلك البقرة بعينها مكافاة على برّه بوالدته.

قيل: و الوجه في تعيين البقرة دون غيرها من البهائم، انّهم كانوا يعبدون البقر و العجاجيل و حبّب ذلك لهم كما قال سبحانه: و اشربوا في قلوبهم العجل، ثمّ تابوا و عادوا الى طاعة اللّه، فأراد اللّه ان يمتحنهم بذبح ما حبّب إليهم، ليظهر منهم حقيقة التوبة و انقلاع ما كان منهم في قلوبهم و كان أفضل قرابينهم حينئذ البقر، قيل: و قد مضى من أول هذا الأمر، الى الامتثال، أربعون سنة، لغلاء ثمنها، و ذلك قوله: و ما كادوا يفعلون و قال الفيض في الصافي: في قصّة القتل و البقرة، انّهم لمّا قتلوا القتيل و طرحوا جثّته في محلّة سبط من أسباط بنى إسرائيل، الزم موسى اهل القبيلة بأمر اللّه، ان يحلف خمسون من أماثلهم، باللّه القوىّ الشديد، إله بني إسرائيل، مفضّل محمد و آله الطيبين صلوات اللّه عليهم، على البرايا أجمعين: انّا ما قتلناه و لا علمنا له قاتلا، فان حلفوا بذلك غرموا دية المقتول و ان نكلوا نصبوا على القاتل، او اقرّ القاتل، فيقاد منه، فإن لم يفعلوا حبسوا في مجلس ضنك إلى ان يحلفوا و يقرّوا او يشهدوا على القاتل، فقالوا:

يا نبىّ اللّه، ما وفت أيماننا أموالنا و لا أموالنا أيماننا. قال موسى: لا هذا حكم اللّه و كان السبب ان امرأة حسناء، ذات جمال و فضل بارع و نسب شريف كثر خطابها و كان لها بنو أعمام ثلثة فرضيت بأفضلهم علما و أرادت التزويج به، فاشتدّ حسد ابني عمّه الآخرين له و غبطاه عليها لإيثارها إيّاه، فعمدا الى ابن عمّه المرضى، فأخذاه الى دعوتها، ثمّ قتلاه و حملاه الى محلّة تشتمل على أكثر قبيلة من بنى إسرائيل، فألقياه بين أظهرهم ليلا، فلمّا أصبحوا وجدوا القتيل هناك، فعرف حاله، فجاء ابنا عمه القاتلان له فمزقا على أنفسهما ثيابهما و حثيا التراب على رؤسهما و استعديا عليهم، فاحضرهم موسى و سئلهم، فأنكروا ان يكونوا قتلوه و علموا قاتله، فقال موسى حكم اللّه ما عرفتموه فالتزموه، فقالوا يا موسى: اىّ نفع في أيماننا إذا لم تدرأ منّا الغرامة الثقيلة، أم أىّ

ص: 193

نفع في غرامتنا إذا لم تدرأ عنّا الايمان، فقال موسى كلّ النفع في طاعة اللّه و الائتمار بأمره و الانتهاء عمّا نهى عنه، فقالوا يا نبي اللّه، غرم ثقيل و لا جناية علينا و أيمان غليظة و لا حق في رقابنا. لو أنّ اللّه عرفنا قاتله بعينه و كفانا مؤنته، فادع لنا ربّك ان يبيّن لنا هذا القاتل لينزل به ما يستحقّه من العذاب و ينكشف امره، فقال موسى انّ اللّه قد بيّن ما حكم به في هذا، فليس لنا ان نقترح عليه غير ما حكم، الا ترون انّه لمّا حرّم العمل يوم السبت و حرّم لحم الحمل، لم يكن لنا ان نقترح عليه، ان يغيّر ما حكم به علينا، فأوحى اللّه اليه يا موسى: أجبهم الى ما اقترحوه و سلني ان ابيّن لهم القاتل ليقتل- و سلم غيره من التهمة، فانّي أريد بإجابتهم الى ما اقترحوا توسعة الرزق على رجل من خيار امّتك، دينه الصلوات على محمّد و آله الطيبين و التفضيل لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علىّ عليه السّلام على سائر البرايا اغنيه في الدنيا، في هذه القضيّة ليكون بعض ثوابه على تعظيمه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كيف لا و قد عظم عين العالم بل العوالم كما في تفسير الديلمي عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى ألم نجعل له عينين و لسانا و شفتين: قال العينان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اللسان امير المؤمنين عليه السّلام و الشفتان الحسن و الحسين و بيان قوله: العينان رسول اللّه.

أنّ فيه عين النبوّة و الولاية و العين الدنيويّة و الاخرويّة و يرى من قدّامه و خلفه، او يعاين الملك و الملكوت، او الظاهر و الباطن و مراتب الغيب و الشهادة و عالم الخلق و الأمر، فينظر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإحدى عينيه المعنويّة الى الربّ لقبول الفيوضات و بعينه الاخرى الى الخلق للفيضان و بالجملة فمن توجه الى عين العالم فلا بدّ من أن يظهر أثراته إمّا في الدنيا و إمّا في الآخرة أو كليهما إذا اقتضت المصلحة- و جميع آثار الخيريّة في العالم من هذه العين و كم صدرت المعجزات، من ظاهر بدنه و جسده العنصري، فضلا عن عالمه النوري فمن جبهته كان النور ساطعا في اللّيل و عيناه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرى من خلف و اذنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تسمع الصوت في النوم كما في اليقظة و لسانه خاطب الضبّ: من انا، فقال الضبّ: أنت رسول اللّه. أصابعه جريان الماء منها و شق القمر و جلاه. صبّ فضالة غسالتها في البئر و فيضان الماء حين اشتكى جابر، لعاب فمه تفل في عين عليّ عليه السّلام. عورته مختونا ولد.

بدنه ليس له ظلّ. نفث نفسه اشفاء المرضى. شعره لا يحترق بالنار.

ص: 194

الحاصل فقال موسي: يا ربّ بيّن لنا قاتله، فأوحى اللّه الى موسى: قل لبني إسرائيل: ان اللّه يأمركم ان تذبحوا بقرة فيضربوا بعضها بالمقتول، فيحيى، أ فتسلمون لربّ العالمين ذلك و الّا فكفّوا المسألة و التزموا ظاهر حكمى. فذلك ما حكى اللّه في قوله: و إذ قال موسى لقومه. و القمىّ عن الصادق عليه السّلام انّ رجلا من بنى إسرائيل و علمائهم خطب امرأة منهم فأنعمت له و خطبها ابن عمّ لذلك الرجل و كان فاسقا فردوه فحسد ابن عمّه الذي انعموا له، فرصده و قتله غيلة، ثمّ حمله الى موسى، فقال يا نبي اللّه- هذا ابن عمّي قد قتل، فقال من قتله، فقال له لا ادرى- و كان القتل في بني إسرائيل عظيما جدّا، فعظم قتل ذلك الرجل على موسى، فاجتمع اليه بنو إسرائيل: فقالوا أما ترى يا نبي اللّه- و كان في بنى إسرائيل رجل له بقرة، و كان له ابن بارّ، و كان عند ابنه سلعة. فجاء قوم يطلبون سلعته. و كان مفتاح بيته في تلك الحال تحت رأس أبيه و هو نائم. فكره ابنه ان ينغص عليه نومه، فانصرف القوم و لم يشتروا سلعته، فلمّا انتبه أبوه، فقال يا بنىّ: ما صنعت في سلعتك. قال: هي قائمة لم أبعها، لأن المفتاح كان تحت رأسك، فكرهت ان أزعجك من رقدتك و انغص عليك نومك. فقال أبوه:

قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عمّا فاتك من ربح سلعتك و شكرا للّه للابن ما فعل بابيه، فأمر اللّه موسى، ان يأمر بنى إسرائيل بذبح تلك البقرة بعينها، ليظهر قاتل ذلك الرجل الصالح، فلمّا اجتمع بنو إسرائيل أمرهم اللّه بذبح البقرة.

ايقاظ: فحياة الروح بذبح بقرة النفس و شهواتها، فارجع الى ربّك بالتوبة و الطاعة و لا تيأس، يعود عليك بالرحمة، فانّه غفور رحيم. انّ الخضر فارق موسى بان عاوده في السؤال ثلاث مرّات و قال له: هذا فراق بيني و بينك و أنت عاودت الذنب اكثر من ثلاثين ألف مرّة و اللّه سبحانه لم يقل لك هذا فراق بيني و بينك بشرط ان ترجع اليه حقيقة. انّه تعالى نهى عن حبس المعسر في السجن لعجزه عن الأداء، فقال:

و ان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة. فكيف يحبس المذنب التائب في سجن النار، فجاهد في سبيل ربّك بالرجوع و الطاعة.

ص: 195

و العبد و ان كان عاصيا إذا تقدم الى الحق شبرا، تقدم الحق اليه ذراعا، و بذلك الشبر ينفتح في زاوية قلبه روزنة من النور، ثمّ بالعمل يكثر ذلك النور شيئا فشيئا، فينفتح عينا قلبه، فلا يسمع بمعروف الّا عرفه و قبله و لا بمنكر الّا أنكره الى ان يئول امره بمرتبة الشهود القلبي الكشفي، فانّ للإنسان قوّة درّاكة ينتقش فيها حقايق الأشياء، كما في المرآة إذا كانت صافية- و هذه القوّة في كلّ انسان و غير مختصّ بالمؤمن، بل للفاسق ايضا هذه القوّة مكمونة، لكنّ القلب الملتبس بالغواشي و العلائق و الشهوات محروم عن هذا المعنى و هو في عمى، لكن إذا زالت هذه العوائق و فنيت النفس و هواها في الطاعة يرى الفيض بعين قلبه، بل يرى الامام بالعين القلبيّة و يستمدّ منه، كما قال اللّه: و جعلنا له نورا يمشي به في الناس، بحيث يقرب من العلم اللدني و هذا هو المقام الرابع من ترتيبات الهداية، فانّ المقام الأول إعطاء القوى المدركة، كما قال سبحانه: و اعطى كلشي ء خلقه ثم هدى، و المقام الثاني من الهداية، نصب الدلائل و البراهين، كما قال: و هديناه النجدين؛ و المقام الثالث دعوة الناس الى ما ينفعهم من العلم و العمل بواسطة الرسل و الكتب، كما قال سبحانه: و جعلناهم ائمّة يهدون بأمرنا، و المقام الرابع كشف الأستار و الأسرار على الضمائر بواسطة الإلهام و الحدس و الوحي و غيرها، كما قال: و الذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا.

ص: 196

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): الآيات 68 الى 71]

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)

فلمّا توجّهوا للامتثال «قالُوا» يا موسى «ادْعُ لَنا» سل لأجلنا «رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا» و يوضح و يعرف من البين و الفراق «ما هِيَ» ما مبتداء و هي خبره و قد سألوا عن حالها و صفتها، لأنّه قرع اسماعهم ما لم يعهدوه من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميتا فيحيى، كقولك: ما زيد و شانه فيقال طبيب «قالَ» موسى بعد ما دعا ربّه و أتاه الوحى «إِنَّهُ» اى أنّ اللّه تعالى «يَقُولُ إِنَّها» اى البقرة المأمور بذبحها «بَقَرَةٌ لا» هي «فارِضٌ» اى مسنّة من الفرض و هو القطع كأنّها قطعت سنّها و بلغت آخره «وَ لا بِكْرٌ» اى فتية صغيرة و لم يؤنث البكر و الفارض، لأنّهما كالحائض في الاختصاص بالأنثى «عَوانٌ» اى نصف «بَيْنَ ذلِكَ» المذكور من الفارض و البكر «فَافْعَلُوا» امر من جهة موسى «ما تُؤْمَرُونَ» به من ذبح البقرة.

«قالُوا» كأنّه قيل ماذا صنعوا بعد هذا البيان و الأمر المكرّر، فقيل قالوا «ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها» من الألوان حتّى تتبين لنا البقرة و اللون عرض مشاهد يتعاقب على بعض الجواهر «قالَ» موسى بعد المناجاة إلى اللّه و مجي ء الوحى «إِنَّهُ» اللّه تعالى «يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ» و الصفرة لون بين البياض و السواد و هي الصفرة المعروفة و ليس المراد هنا السواد كما في قوله: كأنّه جمالة صفر، اى سود

ص: 197

و التعبير في قوله صفر و أراد به السواد لما انّها في مقدّماته «فاقِعٌ لَوْنُها» مبتداء و خبر و الجملة صفة للبقرة و الفقوع نصوع الصفرة و خلوصها و بريقها، فيقال في التأكيد اصفر فاقع و أسود حالك أى صفراء شديدة الصفرة و خلوصها و بريقها، فيقال في التأكيد أصفر فاقع و أسود حالك أى صفراء شديدة الصفرة، قيل: كانت صفراء الكل حتّى القرن و الظلف «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» إليها، يعجبهم حسنها و صفاء لونها و يفرح قلوبهم للطافة شكلها و لونها.

قال أمير المؤمنين: من لبس نعلا صفراء قلّ همّه، لأنّ اللّه يقول: تسر الناظرين و نهى جماعة عن لبس النعال السود، لأنّها تهمّ- و قيل إنّ الخفّ الأحمر خفّ فرعون و الخفّ الأبيض خفّ وزيره هامان.

«قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ»: أ سائمة هي، أم عاملة، تكرير للسؤال و استكشاف زائد، ليزدادوا بيانا لوصفها؛ و في الحديث: أعظم الناس جرما من سئل عن شي ء لم يحرم، فحرم لأجل مسألته.

«إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا»: اى جنس البقر الموصوف و الصفرة كثيرة، فاشتبه علينا أيّها تذبح، فذكر البقر لإرادة الجنس، أو لأنّ كلّ جمع حروفه أقلّ من واحده، جاز تذكيره و تأنيثه، «وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ»: لذبح البقرة. و في الحديث:

لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم آخر الأبد «قالَ» موسى «إِنَّهُ» تعالى «يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ» مذلّلة ذلّلها العمل بيّنة الذل من شدّة النصب و التعب و لم يقل ذلولة لأنّ فعولا إذا كان وصفا لم تدخله الهاء كصبور «تُثِيرُ الْأَرْضَ»: أى تقلبها للزراعة و هي صفة ذلول: اى لم يذلّلها العمل باثارة الأرض بأظلافها «وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ» اى لم تكن بستانية يسقى عليها بالسواقى، كأنّه قيل: لا ذلول مثيرة و ساقية. «مُسَلَّمَةٌ» اى سالمة و بريّة من العيوب و قيل مسلمة من الشبه، ليس لها لون مخالف لونها و قيل سليمة من آثار العمل لأنّ ما كان من العوامل لا يخلو من آثار العمل في قوائمه و

ص: 198

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 249

بدنه، قال الحسن: انّها كانت وحشيّة «لا شِيَةَ فِيها»: و لا وضح فيها يخالف لون جلدها، من وشى الثوب و هو استعمال ألوان الغزل في نسجه «قالُوا»: عند ما سمعوا هذه النعوت «الْآنَ»: اى هذا الوقت بنى لتضمّنه معنى الإشارة «جِئْتَ بِالْحَقِّ» اى ظهر لنا الحق الآن و ما بقي في أمرها اشكال و هي بقرة فلان. قال بعض اهل التفسير، مثل ابى منصور الحازم: انّ البقرة كانت ذكرا لأنّ إثارة الأرض و سقى الحرث من عمل الذكران. و الضمائر الراجعة إليها على التأنيث، فللفظها كما في قوله و قالت طائفة و التاء للتوحيد، لا للتأنيث و يمكن أن يكون أهل ذلك الزمان يحرثون بالأنثى «فَذَبَحُوها»: الفاء فصيحة، اى فحصلوا البقرة الموصوفة بأن وجدوها عند الفتى، فاشتروها بمل ء مسكه ذهبا، فذبحوها «وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ» و الجملة حال من فاعل، ذبحوا اى فذبحوها، و الحال انّهم في التوقّف و البطوء، لثقل غرامة ثمن البقرة. و اختلفوا في البعض الذي ضرب به القتيل، فقيل لسانها و قيل فخذها اليمنى و قيل ذنبها و قيل غيرها.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): الآيات 72 الى 73]

وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

«وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها» هذا مؤخّر لفظا، مقدّم معنى، لأنّه أوّل القصّة، اى: و اذكروا وقت قتلكم النفس و هي عاميل بن شراحيل و أتيتم موسى و سألتموه، فقال لكم انّ اللّه يأمركم. الآية، فقدّم المؤخّر و أخّر المقدّم و نحو ذا كثير في القرآن و الشعر، مثل قوله، الحمد للّه الذي انزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا قيما، تقديره انزل على عبده الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا، قال الشاعر: إنّ الفرزدق صخرة ملمومة، طالت فليس ينالها الاوعالا- اى طالت الأوعال- و قيل: إنّ الآية قد تعلّقت بما هو متأخّر في الحقيقة و تقدير الكلام فذبحوها و ما كادوا و لأجل

ص: 199

انّكم قتلتم نفسا فتدافعتم فيها أمرناكم بأن تضربوه ببعضها ليكشف امره و أضيف القتل الى اليهود المعاصرين لرسول اللّه على عادة العرب، في خطاب الأبناء و الأحفاد بخطاب الاسلاف و الأجداد و خطاب العشيرة لواحد يقال فعلت بنو تميم و إن كان الفاعل واحدا و فيه وجه آخر و هو أن يكون الخطاب لمن كان في زمن موسى و تقديره و قلنا لهم:

و إذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها، اى كلّ واحد دفع قتل النفس عن نفسه و الضمير في قوله فيها، راجع الى النفس، او الى القتلة، اى اختلفتم، لأنّ قوله قتلتم، تدلّ على المصدر، لكن عودها الى النفس أولى.

«وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»: اى مظهر ما كنتم تسترون من القتل او مخرج من غامض اسراركم و مطلع ما كان آباؤكم يكتمونه و أنتم تكتمونه و الخطاب لليهود في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و استعمل مخرج في الكلام مع انّه في معنى الماضي لأنّه على سبيل الحكاية، فحكى ما كان مستقبلا في وقت التدارؤ، كما حكى الحاضر في قوله: باسط ذراعيه.

«فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها»: فضربوه فحيي و لعلّ السرّ في هذا الأمر بهذا الترتيب مع انّه قادر على أن يحييه بأقل من طرفة العين، لاغناء ذلك الفتى البار بوالده و أمر اللّه بتقديم هذه القربة تعليما لكلّ من غمض عليه امر من الأمور، ان يتقدّم نوعا من القرب، قبل ان يسأل اللّه كشف ذلك عنه، ليكون اقرب الى الاجابة.

«كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى على إرادة القول، اى و قلنا كذلك، فالخطاب في كذلك للحاضرين عند حياة القتيل، اى مثل ذلك الأحياء العجيب، يحيى اللّه الموتى يوم القيامة، أو الخطاب لمنكري البعث، من مشركي العرب، في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الحاضرين عند نزول الآية الكريمة، فلا حاجة حينئذ على تقدير القول، بل تنتهي الحكاية عند قوله ببعضها.

«وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ»: اى دلائله الدالّة على أنّه على كلشي ء قدير.

«لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»: اى لكي تكمل عقولكم و تعلموا انّ من قدر على احياء

ص: 200

نفس واحدة، قدر على احياء الأنفس كلّها- و تعلمون انّ المؤثّر، هو اللّه، لا الأسباب فهو تعالى إذا أراد، يجعل الأثر في الأسباب، و لو لم يكن لها تأثيرات أبدا، فإنّ الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل ان يتولّد منهما حياة، جلّت قدرته تعالى.

قال بعض اهل المعرفة: انّما جعل اللّه احياء المقتول في ذبح البقرة، تنبيها لعبيده، انّ من أراد منهم احياء قلبه، لم يتأتّ له الّا باماتة نفسه، فمن ذبحها بأنواع العبادات و الرياضات المشروعة و أعظمها الورع من المحرّمات و الشبهات، احيى اللّه قلبه بأنوار المشاهدات، فمن مات بالطبيعة، يحيى بالحقيقة و يجب علينا ان نتقيّد باحياء نفوسنا بالحيوة الحقيقيّة، لا الحيوة البقريّة، فانّ المنظر الإلهي انّما هو القلوب و الأعمال، لا القصور و الأموال، كما ورد في الحديث: إنّ اللّه لا ينظر الى صوركم و أحوالكم، بل الى قلوبكم و أعمالكم و العاقل من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و ما يعقل ذلك الّا العالمون و ايّاك ان تغترّ في دنياك بساعة سرور أدركته، او بسرير ملكته و لو كان ذلك السرير و السرور ايّام عمرك، فانّه بالنسبة الى عمرك. في الآخرة اقلّ من ساعة و قد مثّلوا للدنيا بالمياس، امّا يكون ضيقا حرجا، او واسعا منفرجا، ان ضاق فمرحبا بالحفا و ان رحب فموجب الصقع على القفا، الضيق يفرّج الكعوب و العرقوب و الرحب يغيّر الذيول و الجيوب، انظر إليها بعين الاعتبار و طالعها فانّها صحيفة ابنائك و خالعها فهي حليلة آبائك و اغتنم فؤادك الفاحم قبل ان يبيض و احذر من جدار يريد ان ينقض، امنيّة جوفاء، و وارمة عجفاء يؤذيك اعباؤها و لا بدّ فيك عباؤها، لا يغرنك قطفها النضيج، فهو غيث اعجب الكفّار نباته ثمّ يهيج، هب انّك صرفت عمرك في تحصيل الدنيا و ملكت الدنيا بأسرها، فهل تبقى لك او تبقى لها و بعد ان ملكتها، مثلك معها، مثل الفارة و الجمل، فأخذت الفارة بخطامها الى جحرها، فلمّا وقف الجمل الى باب بيتها، نادى بلسان حالها: امّا ان تتّخذي دارا تليق بمحبوبك، او محبوبا يليق بدارك، فيا اقل من الطائر، فانّ الأنثى متى ما علمت انها حملت، نقلت العيدان لبناء العش قبل الوضع و أنت ما مهّدت لقبرك فراشا و ضيّعت ايّام فرصتك بالملاهي و المعاصي، او بالمباحات التي لا طائل لك فيها، اما سمعت قول اللّه تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما

ص: 201

تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، فيا ايّها المغرور، من اين لك هذا الاطمينان، كانّك ما عصيت اللّه قط!! بلى، التفرج الى هذه المتنزّهات و السينمايات اذهب عن قلبك الخوف، بدّلت زيارة المقابر الموجبة للتنبّه، بموجبات الغفلة و كان السلف إذا رجعوا من زيارة المقابر، يستعدّون للتزوّد و هم كالحيارى؛ قال بعض السلف: رأيت شابّا راجعا من الجبانة و صعد في سفح جبل و عليه آثار الغلق و دموعه جارية، فقلت من أنت و من اين، فقال الشابّ: آبق من مولاه، فقلت: يعود العبد الآبق فيعتذر، فقال: العذر يحتاج الى حجّة- و لا حجّة للمفرّط، قلت: فيتعلّق بشفيع، فقال: كلّ الشفعاء يخافون منه، قلت: من مولاك، قال: ربّاني صغيرا فعصيته كبيرا، فوا سوأتاه من حسن صنيعه و قبح فعلى، ثم صاح و وقع فمات!! فخرجت عجوز، فقلت لها: أقيم عندك أعينك على غسله و تجهيزه، فقالت: خلّه ذليلا بين يدي قاتله، عسى يراه بغير معين، فيرحمه. و العجب انّ واحدنا يصلّى خمسين سنة و هو يقول في كلّ يوم: اهدنا الصراط المستقيم و هو باق على طريق الفساد، مع انّ الصلاة صلة بين العبد و الربّ و أنت منقطع عنه و مالك من هذه الصلة عائد و هاك نصيحة و هاك مثالا آخر للدنيا، فانّها نهر طالوت و انّ اللّه مبتليكم به، فمن شرب منه فليس منّي الّا من اغترف و قنع بكفّ عنه و اقتصر بسدّ جوعته و ستر عورته، ففاز و نجى و من لم يقنع فالأمر صعب جدّا، كما انّ جيش طالوت ما قنعوا و هلكوا، فانّ مراتب النفس اربعة: نفس النامية النباتية- و نفس الحسيّة الحيوانيّة- و نفس الناطقة القدسيّة- و نفس الكليّة الالهيّة- و هذه الاخيرة الكاملة و هي بقاء في فناء- و نعيم في شقاء- و عزّ في ذلّ- و صبر في بلاء- و فقر في غناء و معلوم انّ هذه الملكات صعب جدّا و هيهات و اين الثريا من يد المتناول!

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 74]

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

«ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ»: خطاب لأهل عصر النبىّ من الأحبار و اهل الكتاب و ثم

ص: 202

في الآية لاستبعاد القسوة، من بعد ذكر ما يوجب لين القلوب و رقّتها- و القساوة ذهاب اللّين و الرأفة عن القلب و الصلابة في كلشي ء. «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ»: اى من بعد سماع ما ذكر مما ورد باسلافكم، من احياء القتيل و مسخ القردة و الخنازير و رفع الجبل و القوارع الّتي من عظمتها تميع الجبال و الصخور، «فَهِيَ»: اى القلوب، «كَالْحِجارَةِ»: في شدّتها و قسوتها و الفاء لتفريع مشابهتها لها في القساوة، كقولك: احمرّ خدّك فهو كالورد «أَوْ أَشَدُّ» منها «قَسْوَةً»: تميز. و «أو» يجوز أن يكون بمعنى التخيير: اى ان شئتم فاجعلوها اشدّ منها مثل الحديد، فأنتم مصيبون في ذلك و انّما لم تحمل على معنى أصلها و هو الترديد، لما انّ ذلك على اللّه محال، او يكون بمعنى بل، قال الشاعر:

فو اللّه ما أدري أ سلمى تغوّلت أم النّوم أم كلّ إلىّ حبيب

اى: بل كلّ و انّما أتى بكلمة «أَشَدُّ» مع انّ فعل القسوة ممّا يخرج منه افعل التفضيل و فعل التعجّب، لكونه أبين على فرط القسوة من لفظ أقسى.

اعلم انّ اللّفظ كالصورة، و المعنى كالروح، فان اتّفقا وقع الكمال في الكلام و لذا قد يؤتى في شعر واحد بكلمة مكرّرة و هي حسنها و بالعكس، مثل قول المعرى:

الرّسل احمد اوصافا و احمدهم في الوصف احمدنا و في الآية صنعة الجمع مع التفريق.

«وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ»: بيان لقساوة قلوبهم «لَما يَتَفَجَّرُ» و اللام للتأكيد:

اى الحجر يتفجّر و يتفتّح «مِنْهُ»: راجع الى ما، اى انّ بعض الأحجار يتفجّر منه «الْأَنْهارُ» جمع نهر و هو المجرى الواسع «وَ إِنَّ مِنْها»: من الحجارة «لَما يَشَّقَّقُ» و يتصدّع «فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ»: و المراد بالشقوق، العيون الّتى تخرج من الشقوق و الإصداع، دون الأنهار «وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ». اى يتردّى و ينزل من أعلى الجبل الى أسفله «مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ»: و هنا مجاز عن انقيادها لأمر اللّه و قلوب هؤلاء اليهود و من سلك مسلكهم لا تنقاد و لا تلين و لا تخشع «وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ»، بساه و ذاهل «عَمَّا تَعْمَلُونَ»: قالت المعتزلة: خشية الحجر وجه المثل، يعنى لو كان له عقل لفعل

ص: 203

ذلك- و مذهب اهل السنّة: انّ الجحر و ان كان جمادا لكنّ اللّه يلهمه، فيخشى بالهامه، فانّ اللّه تعالى علما في الجمادات و سائر الحيوانات، سوى العقلاء لا يقف عليه غيره، فلها صلاة و تسبيح و خشية، كما قال سبحانه: و ان من شي ء إلّا يسبّح بحمده و قال: و الطير صافّات كلّ قد علم صلاته و تسبيحه، فيجب على المرء، الايمان به و يجعل علمه الى اللّه- و يؤيّد هذا المعنى ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان على ثبيرة و الكفّار يطلبونه، فقال الجبل: انزل عنّي فانّي أخاف ان تؤخذ عنّي، فيعاقبنى اللّه بذلك، فقال له جبل حراء: الىّ يا رسول اللّه. و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا خطب استند الى جذع نخلة من سوارى المسجد، فلمّا صنع المنبر، فاستوى عليه، اضطربت تلك السارية من فراق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حنّت كحنين الناقة، حتى سمعها اهل المسجد، و نزل رسول اللّه، فاعتنقها، فسكنت.

لكنّه قال أبو مسلم: انّ الضمير في قوله: و انّ منها لما يهبط من خشية اللّه- راجع الى القلوب، لا الى الحجارة، لأنّ الهبوط من الخشية صفة الأحياء و العقلاء- و الحجر جماد- و قد تقدّم ذكر القلوب، كما تقدّم ذكر الحجارة، أقصى ما في الباب، انّ الحجارة اقرب المذكورين، الّا انّ هذا الوصف لمّا كان لائقا بالقلوب دون الحجارة وجب رجوع هذا الضمير الى القلوب دون الحجارة و اعترضوا على ابى مسلم بأنّا لا نسلّم انّ الحجارة ليست حيّة عاقلة و لا نقول انّ الحجارة كلّها عاقلة و المراد من ذلك، جبل موسى حين تجلّى له ربّه له و تقطّع و ذلك لأنّ اللّه خلق فيه العقل و الإدراك و هذا غير مستبعد من قدرة اللّه و نظيره قوله تعالى: وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ- و كذلك الجبل و الحجر وصفه بالخشية، فحينئذ الضمير راجع الى الحجارة، ثمّ انّ الهبوط لائق بالحجارة لا بالقلوب، فليس تأويل الهبوط، اولى من تأويل الخشية- و قيل وجه آخر في معنى الآية و هو انّ معنى «وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» انّه يدعو المتفكّر و المتأمّل فيه الى خشية اللّه و يوجب الخشية اللّه، فالحجارة من موجبات الخشية، بدلالته على صانعه و خالقه و أضاف الخشية إليها لأنّ التفكّر فيها هو الداعي الى الخشية، كما قال جرير بن عطيّة:

ص: 204

و أعور من نبهان أمّا نهاره فأعمى و أمّا ليله فبصير

فجعل الصفة للّيل و النهار و هو يريد صاحبه النبهاني الّذي يهجوه (تنبيه) فإذا كانت الخشية في الحجارة، كيف لا تخشى و لا تتوب من ذنوبك فمن لم يساعده نفسه بالرجوع و التوبة، كيف يترك العزّ و يقبل الذلّ و الغنى على الفقر مع انّ التوبة واجبة و في فوريته فقد صرّح بها المعتزلة و أصحابنا، لكنّ المعتزلة يقولون حتى انّه لو اخّر توبته عن الكبيرة ساعة واحدة فقد فعل كبيرتين و ساعتين فقد فعل اربع كبائر و هكذا. و أصحابنا سكتوا عن هذا التفصيل و دليل المعتزلة قوىّ، لأنّ ترك الواجب كبيرة ثانية و الخطب الأعظم انّ المعصية ليست عندنا عظيمة و من كثرة ما اكتسبناه خفّت عقوبتها عندنا و لا نبالى بأصلها فضلا عن توبتها، اما سمعت ما رواه الشيخ في التهذيب عن الصادق عليه السّلام: انّ رجلا جاء اليه و قال انّ لي جيرانا و لهم جوار يتغنين و يضربن بالعود، فربّما دخلت المخرج فأطيل الجلوس استماعا منّى لهنّ، فقال لا تفعل، فقال و اللّه ما هو شي ء آتيه برجلي انّما هو استماع اسمعه باذنى، فقال عليه السّلام اما سمعت اللّه يقول: انّ السمع و البصر و الفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولا، فقال انّى تركتها و استغفر اللّه، فقال الصادق عليه السّلام: قم فاغتسل و صلّ ما بدا لك، فقد كنت مقيما على امر عظيم، ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك.

أقول: تجرّع مرارات النوائب في ايّام معدودة، لحلاوة موعودة، انّما هي محنة بائدة، تتلوها فائدة، و كربة ناقدة، بعدها نعمة خالدة- و من عشق المعالي ألف الغمّ و من طلب اللئالى، ركب اليمّ، فلا تشربن و ردا يعقبك سقاما. و لا تشمنّ وردا يورثك زكاما. فمن طلب الجنّة، زهد في الدنيا بقوته عنها و من يرد ثواب الآخرة نؤته منها، قم و اعمل، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سيّد الأعمال، انصاف الناس من نفسك و مؤاساة الأخ في اللّه و ذكر اللّه على كلّ حال، امّا لا أقول سبحان اللّه و الحمد للّه إلخ و ان كان هذا من ذكر اللّه و لكن ذكر اللّه في كلّ موطن على طاعة أو على معصية، بمعنى انّك تكون متذكّرا في جميع ما يخطر لك في قلبك، فعله أو تركه، هل هو في الطاعة فتأتى بها، او في المعصية فتدعها و هذا هو الذكر الأكبر القلبي و امّا الذكر

ص: 205

اللساني من الأسماء و الصفات، فتذكره سبحانه مع التوجّه الى معانيها مثل ان تقول يا رحيم، او مثلا يا جواد، تكون تعرف معنى هذه النسبة اليه تعالى، فانّ معنى الجود بالنسبة اليه افادة ما ينبغي لا لغرض و كلّ احد غيره انّما يجود و يعطى، ليأخذ عوضا لطلب الخدمة، او لطلب ثناء الجميل، او لطلب الإعانة، او لطلب الثواب، او لدفع الرقّة الجنسيّة من القلب، او ليزيل حبّ المال عن قلبه و كلّ هذه في الحقيقة معاوضة و تحصيل كمال، لكنّ الحق سبحانه كامل في ذاته، فإذا قلت يا جواد، اعرف ما تقول، حتى لا يكون ذكرك لقلقة اللسان.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 75]

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75)

كان النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شديد الحرص على الدعاء الى الحق و قبولهم الايمان منه و كان يضيق صدره بسبب عنادهم و تمرّدهم، فقصّ اللّه سبحانه عليه اخبار بنى إسرائيل في العناد العظيم مع مشاهدة الآيات الباهرة، تسلية لرسوله فيما يظهر من اليهود في زمانه من قلّة القبول و الاستجابة. و الخطاب للنبىّ و أصحابه.

و حاصل المعنى: أبعد ان علمتم تفاصيل شئونهم المؤيسة «أَ فَتَطْمَعُونَ»:

في «أَنْ يُؤْمِنُوا» جميع اليهود أو علمائهم فانّهم متماثلون في شدّة الشكيمة و الأخلاق الذميمة و لا يتأتّى من اخلافهم الّا مثل ما اتى من أسلافهم، فلا تحزنوا على تكذيبهم «لَكُمْ» اى لأجل دعوتكم «وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ» و الحال قد كان فريق كائن «مِنْهُمْ» و طائفة ممّن سلف منهم- و الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالرهط «يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ» و هو ما يتلونه في التوراة «ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ» و يغيّرون ما فيه من الأحكام، كتغييرهم لصفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آية الرجم و قيل: كان قوم من السبعين المختارين، سمعوا كلام اللّه، حين كلّم اللّه موسى بالطور، و ما امر به و ما نهى، ثمّ قالوا سمعنا اللّه يقول في آخره: ان استطعتم ان تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا و ان شئتم ان لا تفعلوا فلا بأس. و هذه الأمور من تحريفاتهم.

ص: 206

قال صاحب كتاب التيسير: و الصحيح انّهم لم يسمعوا كلام اللّه بلا واسطة، فانّ ذلك كان لموسى على الخصوص لم يشركه فيه غيره- و معنى يسمعون كلام اللّه من التوراة، من موسى بقرائته.

«مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ» و فهموه و ضبطوه بعقولهم و لم يبق لهم شبهة في صحّته يقول: كيف يؤمن هؤلاء و هم يقلّدون أولئك الآباء، فهم من اهل السوء الّذين مضوا بالعناد، فلا تطمعوا في الايمان منهم.

«وَ هُمْ يَعْلَمُونَ»: و الحال انّهم يعلمون انّهم محرّفون، كاذبون، و قد نسب اللّه الى طائفة منهم المعاندة و ان كانوا بأجمعهم كافرين و في الآية دلالة على عظم الذنب في تحريف الشرع و هو عامّ في اظهار البدع في الفتاوى او القضايا و جميع تحريفات الدينيّة.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 76]

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76)

النزول، روى عن ابى جعفر عليه السّلام انّه قال: كان قوم من اليهود، ليسوا من المعاندين المتواطئين إذ المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنهاهم كبرائهم عن ذلك و قالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيحاجّوكم به عند ربّكم، فنزلت الآية.

و قيل: هؤلاء قوم من اليهود، آمنوا ثمّ نافقوا، فكانوا يحدّثون المسلمين من العرب، بما عذّب به أسلافهم، فقال بعضهم لهم: أ تحدثونهم بما فتح اللّه عليكم من العذاب ليحاجّوكم به، فيقولون نحن أكرم على اللّه منكم.

«وَ إِذا لَقُوا» اى اليهود «الَّذِينَ آمَنُوا» من اصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «قالُوا» اى:

منافقوهم «آمَنَّا» كايمانكم و انّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الرسول المبشّر به «وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ» الذين لم ينافقوا «إِلى بَعْضٍ» اى الى الذين نافقوا بحيث لم يبق معهم غيرهم «قالُوا» اى الساكتون عاتبين لمنافقتهم على ما صنعوا «أَ تُحَدِّثُونَهُمْ» و تخبرونهم و الاستفهام

ص: 207

بمعنى النهى اى لا تحدثوا المسلمين «بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» و بيّنه اللّه لكم خاصّة من نعت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في التوراة «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ» اللّام متعلّقة بالتحديث دون الفتح اى لتحتجّوا عليكم به، فيقطعوكم بالحجّة «عِنْدَ رَبِّكُمْ» اى في حكمه و كتابه، كما يقال: هو عند اللّه كذا، اى في شرعه و كتابه كذا و حاصل المعنى انّكم لا تقرّوا بان محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبي لأنّكم إذا أقررتم انّه نبيّ حقّ و هو مذكور في كتابكم فحينئذ يجادلكم المسلمون و تكون الحجّة عليكم «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» متّصل بكلامهم اى أفلا تفقهون ايّها القوم، انّ إخباركم محمّدا و أصحابه بما تخبرون من وجود نعت محمّد في كتبكم، حجّة عليكم عند ربكم، يحتجون بها عليكم. و قيل معناه: أ فلا تعقلون أيّها المؤمنون فلا تطمعوا في ذلك، فيكون كلاما مستأنفا. و قيل انّه خطاب لليهود اى أ فلا تعقلون أيّها اليهود إذ تقبلون من رؤسائكم مثل هذه الكلمات السخيفة، فيكون الكلام تحذيرا لهم عن اتّباعهم لرؤسائهم.

فاطلب العلم حتى يكون عملك على المنهج المستقيم و تستفيد من العمل و المراد من العلم، ما قاله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّما العلم ثلاثة، آية محكمة، أو فريضة عادلة، او سنّة قائمة و ما عداها فضول.

و المراد من آية محكمة، التي لم يكن للريب و الشكّ مجال فيها و الّا لم تكن محكمة كالأحكام مثل قوله: للذكر مثل حظّ الأنثيين. و المراد من الفريضة العادلة:

العلوم النفسانيّة المتعلّقة بالرذائل و الخصال المحمودة باعتبار التخلية و التحيلة و التعبير بالعادلة: لأنّها المتوسّطة المحفوظة من الإفراط و التفريط. و المراد بالسنّة القائمة العادات المأخوذة من النبيّ و الوصيّ، مستقيمة منتصبة عن الاعوجاج، تكفى مهامّ عاملها في الدنيا و الآخرة و تكون قائمة بأمور فاعلها و يستغنى بها في أموره.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تركتم على الحجّة البيضاء. فلا تغيّر السنّة بالتقليد من هاهنا و هاهنا فتفسد جميع أمورك.

ص: 208

[سورة البقرة (2): آية 77]

أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77)

اى جميع ما يسرّونه و ما يعلنونه، عالم به و من ذلك أسرارهم الكفر و اعلانهم الايمان.

[سورة البقرة (2): آية 78]

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)

«وَ مِنْهُمْ» اى من اليهود «أُمِّيُّونَ» لا يحسنون الكتب و لا يقدرون على القراءة.

و الأمّي منسوب الى امّة العرب و هي الامّة الخالية عن العلم و القراءة، فاستعير لمن لا يعرف القراءة و الكتابة «لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ»: يعنى التوراة ليطالعوها و يتحقّقوا ما فيها من دلائل نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيؤمنوا «إِلَّا أَمانِيَّ» جمع امنيّة من التمنّى و الاستثناء منقطع لأنّ الأمانىّ ليست من جنس الكتاب و هي الشهوات الباطلة الثابتة عندهم و المفتريات، من تغيير صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعض الأقاويل الفاسدة من زعمهم أنّهم لا يعذّبون في النّار الّا ايّاما معدودة و أنّ آبائهم الأنبياء يشفعون لهم و أنّ اللّه لا يؤاخذهم بخطاياهم و لا حجّة لهم في هذه الأمور «وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» اى و ما هم إلّا يظنّون ظنّا من غير تيقّن بها و قصارى أمرهم، الظنّ و التقليد لآبائهم و أنّى يرجى منهم الايمان و اليقين.

و الامنيّة لها معان مشتركة في اصل واحد، أحدها ما تخيّله الإنسان فيقدّر في نفسه وقوعه و يحدّثها بوجوده و كونه. و ثانيها، الأمانىّ: الأكاذيب المختلقة سمعوها من علمائهم، فقبلوها على التقليد. قال أعرابي لابن دأب في كلام حدّث به: أ هذا شي ء رويته، أم تمنيته اى اختلقته. و ثالثها بمعنى القراءة قال كعب بن مالك: تمنّى كتاب اللّه اوّل ليلة. و حمل معنى الآية على القراءة أليق و حينئذ الاستثناء متّصل، فكأنّه قال: لا يعلمون الكتاب، الّا بقدر ما يتلى عليهم، فيسمعونه و بقدر ما يذكر لهم، فيقبلونه لأنّهم اميّون و كلّ هذه المعاني مناسب لحالهم.

ص: 209

[سورة البقرة (2): آية 79]

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

الويل، كلمة يقولها كلّ واقع في هلكة بمعنى الدّعاء على النّفس بالعذاب «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ»: اى عقوبة عظيمة، و هو مبتداء، و ما بعده خبره، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

الويل واد في جهنّم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا، قبل ان يبلغ قعره. و قال سعيد بن المسيّب عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه واد في جهنّم لو سيّرت فيه جبال الدنيا، لماعت من شدّة حرّه.

«يَكْتُبُونَ الْكِتابَ» المحرّف «بِأَيْدِيهِمْ» تأكيد لدفع توهّم المجاز، فقد يقول الإنسان كتبت الى فلان إذا امر غيره ان يكتب عنه «ثُمَّ يَقُولُونَ» لعوامهم و تابعيهم «هذا» المحرّف «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» في التوراة. روى انّ احبار اليهود، خافوا ذهاب مأكلهم و رئاستهم حين قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المدينة، فاحتالوا في تعويق عوام اليهود و سفلتهم عن الايمان، فعمدوا إلى نعوت النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في التوراة- و كانت هي مذكورة في التوراة حسن الوجه، جعد الشعر، اكحل العين، ربعة- فغيّروها و كتبوا مكانه، طوال، أزرق، سبط الشعر، فإذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرءوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفا لصفته، فيكذّبونه و انّما فعلوا ذلك «لِيَشْتَرُوا بِهِ»، اى يأخذوا لأنفسهم بمقابلة المحرّف «ثَمَناً قَلِيلًا» و هو ما أخذوه من الرشى، بمقابلة التحريف و التأويل الزائغ. قليلا لا يعبأ به و قد وصفه بالقلّة، لكونه حراما و لا يربوا عند اللّه و هو فان، قال الواحدي في الوسيط: و قيل المراد في الآية: كاتب كان يكتب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيغيّر ما يملى عليه، ثمّ ارتدّ و مات، فلفظته الأرض. و الأوّل أوجه «فَوَيْلٌ لَهُمْ» اى العقوبة العظيمة ثابتة لهم «مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ» من أجل كتابتهم ذلك المحرّف «وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» من أخذهم الرشوة. و اصل الكسب: الفعل لجرّ نفع، او دفع ضرّ. و الخطب الأعظم و البلاء الاطم، العالم المحرّف و لو في مسألة و الجاهل المقلّد و هو متمكّن من العلم، فانّ فساد الدنيا و الدين من هذين. و قد حذر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم امّته لمّا علم ما يكون

ص: 210

في آخر الزمان، فقال: الا انّ من قبلكم من اهل الكتاب، افترقوا على اثنتين و سبعين ملّة و انّ هذه الامّة ستفترق على ثلاث و سبعين، كلّها في النار الّا واحدة و حذّرهم ان يحدّثوا من تلقاء أنفسهم في الدين، ما هو يخالف كتاب اللّه، أو سنّته، فيضلّوا به الناس.

و قد وقع ما حذّره و شاع و كثر و ذاع، حتى أنّهم أرادوا ان يخرجوا عن دين الإسلام لميل طباعهم لحبّ ديدن النصارى، فموّهوا على ضعفاء الامّة بل حمقائهم و أظهروا لهم العلم و الاطّلاع بكتاب اللّه و اسّسوا مواد مؤلفة بعضها يشبه بعض القرآن في الصورة لكن في المعنى يخالفه و بعضها يخالفه في الصورة و المعنى و بعضها القليل يوافقه و ذلك لتمزيج الباطل بالحق و لإسكات بعض المتعالمين- و سمّوه قانونا و قد نسخوا القانون الإلهي بهذا القانون الموصوف، فويل لهم ممّا كسبت أيديهم.

فأقول: و اقسم باللّه و صفاته و آياته انّ من يعرّف نفسه، انّه من اهل القرآن و يدّعى الإسلام ان يحترز من هذا القانون الموضوع، بل يجب على المسلم ردّه و إنكاره، فلو وافقه و احبّه و ايّده، فهو من أهل الويل في الآية و من تأمّل في وجوب الإنكار و حرمة القبول، إمّا ملحد و لكن يظهر التنسك و إمّا من الطبقة الثانية من المموّهين بصيغة المفعول لا الفاعل، كما ذكرنا قبيل هذا، ثمّ أقول: في وجوب الردّ لهذا الأمر الذي به نسخ أديان تمام الأنبياء، كما امر اللّه في الحج و أوجب و للّه على اللّه الناس و التبرّى عن هذا الأساس انتهى.

[سورة البقرة (2): آية 80]

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80)

«وَ قالُوا» اى اليهود- زعما منهم-: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ» و لا تصل إلينا في الآخرة «إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» قليلة محصورة، سبعة أيّام فانّهم كانوا يقولون: انّ ايّام الدنيا سبعة آلاف سنة، فنعذّب مكان كلّ ألف سنة، يوما؛ او يراد من ايّام معدودة:

أربعون يوما، مقدار عبادة آبائهم العجل و كانوا يقولون: نعذّب تعذيب الأب ابنه، و نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه و لا نعذّب ابدا، فكذّبوا تمام الكتب السماويّة و تمام رسله،

ص: 211

لأنّه بيّن اللّه في كتابه على السنة رسله: انّ عقوبة الكفر ابديّة.

«قُلْ» يا محمّد تبكيتا لهم «أَتَّخَذْتُمْ» بقطع همزة الاستفهام، اى أ اتخذتم «عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً» و خبرا و وعدا بما تقولون؟ فانّ ما تقولون، لا يكون الّا الى بناء و عهد محكم أخبركم اللّه به! و هل أخبركم عن اللّه احد من الأنبياء: انّكم لا تعذّبون ابدا، بل تعذّبون أيّاما قلائل، فان كان لكم هذا «فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ» الّذي عهده إليكم و الفاء في فلن يخلف اللّه فصيحة معربة عن شرط محذوف، مثل قول الشاعر:

قالوا خراسان أقصى ما يراد بناثم القفول فقد جئنا خراسانا

«أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»: قيل: أم، منقطعة على تقدير تمام الكلام قبله، فيكون بمعنى بل. أو تكون متّصلة، معادلة لهمزة الاستفهام، كأنّه قال:

أنتم على اىّ الحالتين: أ تقولون على اللّه ما تعلمون أم تقولون عليه ما لا تعلمون و قد تمسّك نفاة القياس و خبر الواحد بهذه الآية قالوا لأنّ القياس و خبر الواحد لا يفيد ان العلم، فوجب ان لا يكون التمسّك بهما جائزا لقوله: أم يقولون، الآية.

قال الرازي: لمّا دلّت الدّلالة على وجوب العمل عند حصول الظنّ المستند الى القياس، أوالي خبر الواحد كان وجوب العمل معلوما، فكان القول به قولا بالمعلوم، لا بغير المعلوم.

[سورة البقرة (2): الآيات 81 الى 82]

بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)

«بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً»: بلى جواب لقولهم: لن تمسّنا النّار. و الفرق بين بلى و نعم، انّ بلى، جواب النفي و نعم جواب الإيجاب، اى بلى تمسّكم ابدا، بدليل قوله:

هم فيها خالدون. و السيّئة تتناول جميع المعاصي، فبيّن سبحانه انّ الّذي يستحق به الخلود ان يكون سيّئة محيطة به و اختلف في السيّئة، فقال ابن عباس و مجاهد و قتادة و غيرهم: السيّئة هاهنا الشرك، و قال الحسن: هي الكبيرة الموجبة للنار و قال السدىّ:

ص: 212

هي الذنوب التي أوعد اللّه عليها النار. و القول الأوّل يوافقنا الشيعة، لأنّ ما عدا الشرك لا يستحق به الخلود في النار عندنا. «وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ»: اى أحدقت به من كلّ جانب، او المعنى أهلكته «و احيط بثمره» اى أهلك و قال عكرمة و مقاتل: انّ الاحاطة، الإصرار على الذنب «فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»: اى دائمون في العذاب. و الاختلاف في تفسير هذه الآية من معنى السيّئة و الخلود بين الوعيديّة و الخوارج و المعتزلة و الأشاعرة كثير.

قال الطبرسي: و الذي يليق بمذهبنا، قول ابن عباس لأنّ اهل الايمان لا يدخلون في حكم هذه الآية و قوله: و أحاطت به خطيئته، يقوّى ذلك، لأنّ المعنى انّ خطاياه قد اشتملت عليه و أحدقت به حتّى لا يجد عنها مخلصا و لا مخرجا و لو كان معه شي ء من الطاعات لم تكن السيّئة محيطة به من كلّ وجه و قد دلّ الدليل على بطلان التحابط و لأنّ قوله: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» فيه وعد لأهل التصديق و الطاعة بالثواب الدائم، فكيف يجتمع الثواب الدائم مع العقاب الدائم و يدلّ أيضا على أنّ المراد بالسيّئة في الآية، الشرك، أنّ سيّئة واحدة، لا تحبط جميع الأعمال، فلا يمكن اجراء الآية على العموم، فيجب ان يحمل على أعظم السيّئات و اكبر الخطيئات و هو الشرك ليمكن الجمع بين الآيتين.

قال الرازي: اختلف اهل القبلة في وعيد أصحاب الكبائر، فمن الناس من قطع بوعيدهم و هم فريقان: منهم من اثبت الوعيد المؤبّد و هو جمهور المعتزلة و الخوارج و منهم من اثبت وعيدا منقطعا و هو البشر و الخالدي. و من الناس من قطع بانّه لا وعيد لهم و هذا القول شاذّ، ينسب الى مقاتل المعروف المفسّر. القول الآخر و هو انّا نقطع بانّه سبحانه يعفوا عن بعض العصاة و عن بعض المعاصي و لكنّا نتوقف في حقّ كلّ احد على التعيين انّه هل يعفو عنه أم لا و نقطع بانّه إذا عذّب أحدا منهم مدّة فانّه لا يعذّبه ابدا، بل يقطع عذابه و هذا القول قول الصحابة و التابعين و اهل السنّة و الجماعة و اكثر الاماميّة.

و أما دليل المعتزلة في الوعيد المؤبّد، فانّهم عوّلوا على العمومات الواردة في

ص: 213

هذا الباب و تلك العمومات على وجهين: بعضها وردت بصيغة «من» في معرض الشرط و بعضها وردت بصيغة الجمع، امّا النوع الأوّل مثل قوله تعالى في آية المواريث: و من يعص اللّه و رسوله و يتعدّ حدوده يدخله نارا خالدا فيها. و قد علمنا انّ من ترك الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و ارتكب شرب الخمر و الزّنا و قتل النّفس المحرّمة، فهو متعدّ لحدود اللّه، فيجب أن يكون من أهل العقاب و ذلك لأنّ من في معرض الشرط تفيد العموم على ما ثبت في اصول الفقه، فمتى حمل الخصم هذه الآية على الكافر، دون المؤمن، كان ذلك على خلاف الدليل.

و من الآيات الّتي تمسّكوا بها في المسألة لاشتمالها على صيغة «من» في معرض الشرط و قالوا انّها تفيد العموم قوله تعالى في قاتل المؤمن عمدا: و من يقتل مؤمنا متعمّدا فجزاؤه جهنّم خالدا فيها. قالوا فدلّت الآية على أنّ ذلك جزاؤه، فوجب ان يحصل له هذا الجزاء لقوله تعالى: من يعمل سوءا يجز به. و الآية الثالثة الّتي استدلّوا بها: يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا، الى قوله: و من يولّهم يومئذ دبره إلّا متحرّفا لقتال أو متحيّزا الى فئة فقد باء بغضب من اللّه و مأواه جهنّم و بئس المصير.

و من الآيات أيضا: فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرّة شرّا يره.

و منها: يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، الى قوله تعالى: و من يفعل ذلك عدوانا و ظلما فسوف نصليه نارا.

و منها قوله تعالى: انّه من يأت ربّه مجرما فانّ له جهنّم لا يموت فيها و لا يحيى. و منها: و قد خاب من حمل ظلما. و هذا يوجب ان يكون الظالم من أهل الصلاة، داخلا تحت هذا الوعيد. و منها بعد تعداد المعاصي: و من يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا. بيّن أنّ الفاسق كالكافر، في أنّه من أهل الخلود، الّا من تاب من الفساق، أو آمن من الكفّار.

و منها: فأمّا من طغى و آثر الحيوة الدنيا فانّ الجحيم هي المأوى. و منها:

من يعص اللّه و رسوله فانّ له نار جهنّم، الآية. و لم يفصل بين الكافر و الفاسق و منها:

ص: 214

بلى من كسب سيّئة و أحاطت به خطيئته فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون. فهذه هي الآيات الّتي تمسّك بها المعتزلة في المسألة لاشتمالها على صيغة «من» في معرض الشرط و استدلّوا على انّ هذه اللّفظة تفيد العموم، لأنّه لو كانت موضوعة للخصوص لما حسن من المتكلّم ان يعطى الجزاء لكلّ من أتى بالشرط لأنّهم اجمعوا على أنّه إذا قال: من دخل دارى أكرمته. يكون ان يكرم كلّ من دخل داره، فعلمنا انّ هذه اللّفظة ليست للخصوص.

النوع الثاني من دلائل المعتزلة: التمسّك بالوعيد بصيغة الجمع المعرّف بالألف و اللّام و هي في آيات مثل قوله: وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لأنّ معناه: انّ الّذين فجروا في الجحيم و ذلك يفيد العموم، لكن أنكر ابو هاشم و أصحابه انّ الجمع المعرّف يفيد العموم و قال: اللّام في قوله: و انّ الفجّار. ليست لام التعريف، بل هي بمعنى الّذي. الآية الثانية من استدلال المعتزلة في انّ الجمع المعرّف يفيد العموم في الوعيد قوله: وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً. و ثالثها: وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا.

النوع الثالث من العمومات: صيغ الجموع المقرونة بحرف «الذي» مثل قوله:

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ و مثل قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً. و مثل قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ و مثل: وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.

و لم يفصل في الوعيد بين الكافر و غيره. و كذلك قوله: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ الآية. و كذلك قوله: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ و لو لم يكن الفاسق من اهل العذاب، لم يكن لهذا القول معنى، بل لم يكن له الى التوبة حاجة.

النوع الرابع من العمومات، قوله: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وعيد على منع الزكاة.

النوع الخامس من العمومات، لفظة كلّ، قوله: وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ فبين ما يستحق الظالم على ظلمه.

النوع السادس من أدلّة المعتزلة، قوله: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ

ص: 215

بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ و هذا صريح في انّه تعالى لا بدّ و ان يفعل و لا مخلص من عذابه، فهذا مجموع ما تمسّكوا به من عمومات القرآن.

و أمّا عمومات الاخبار فكثيرة، فالمذكور بصيغة من، ما روى وقّاص ابن ربيعة، قال: قال رسول اللّه: من أكل بأخيه أكلة، أطعمه اللّه من نار جهنّم و من أخذ بأخيه كسوة، كساه اللّه من نار جهنّم، و من قام مقام رياء و سمعة، اقامه اللّه يوم القيامة مقام رياء و سمعة. و هذا نصّ في عذاب الفاسق. و كذلك المذكور بصيغة من، قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

من كان ذا لسانين و ذا وجهين كان في النّار. و لم يفصل بين المؤمن و المنافق. و كذلك المذكور بصيغة من. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من ظلم قيد شبر من ارض، طوّقه يوم القيامة من سبع ارضين. و كذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلّ مسكر خمر و كلّ خمر حرام و من شرب الخمر في الدنيا و لم يتب منها لم يشربها في الآخرة. و هو صريح في وعيد الفاسق و انّه من اهل الخلود، لأنّه إذا لم يشربها لم يدخل الجنّة، لأنّ فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين. عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصلاة من حافظ عليها كانت له نورا و برهانا و نجاة يوم القيمة، و من لم يحافظ عليها لم تكن له نورا و لا برهانا و لا نجاة و لا ثوابا و كان يوم القيمة مع قارون و هامان و فرعون و ابيّ بن خلف. و هذا نصّ في انّ ترك الصّلوة يحبط العمل و يوجب عذاب الأبد. و أمثال هذه الاخبار كثيرة لا تحصى.

النوع الثّانى من العمومات: الاخبار الواردة لا بصيغة «من». و هي كثيرة لا تحصى. عن نافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يدخل الجنّة مسكين متكبّر و لا شيخ زان و لا منّان بعمله على اللّه. و من لم يدخل الجنّة من المكلّفين فهو من اهل النار. و أمثال هذه الاخبار ايضا كثيرة. هذا مجموع استدلال المعتزلة الوعيديّة بعمومات القرآن و الاخبار.

و أجاب الاشاعرة عنها من وجوه: اوّلها لا نسلّم انّ صيغة «من» في معرض الشرط للعموم. و لا نسلّم انّ صيغة الجمع إذا كانت معرّفة باللّام للعموم.

الاول: انّه يصحّ إدخال لفظتي الكلّ و البعض على هاتين اللّفظتين، فيقال كلّ من دخل دارى أكرمته و بعض من دخل دارى أكرمته و يقال كلّ الناس كذا و بعض

ص: 216

الناس كذا فلو كانت لفظة «من» للشرط، يفيد الاستغراق، لكان إدخال لفظ الكلّ عليه زائدا و كذلك في لفظ الجمع المعرّف، فثبت انّ هذه الصيغ لا تفيد العموم. و كذلك الموصول، مثل قوله تعالى: انّ الّذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. فظاهر الآية حكم على كلّ الذين كفروا انّهم لا يؤمنون، ثمّ انّا شاهدنا قوما منهم قد آمن، فعلمنا انّه لا بدّ من احد الأمرين، إمّا لأنّ الصيغة ليست موضوعة للشمول، او لأنّها و ان كانت موضوعة لهذا المعنى الّا انّه قد وجدت قرينة انّ مراد اللّه من هذا العموم، هو الخصوص، فلمّا كان ذلك العموم يخصّص بسبب القرينة كذلك هاهنا، فانّ عمومات الوعيد، معارضة بعمومات الوعد و لا بدّ من الترجيح و ليس ترجيح، بل الترجيح معنا من وجوه: الأوّل: انّ الوفاء بالوعد، ادخل في الكرم، من الوفاء بالوعيد.

الثاني: انّه قد اشتهر في الاخبار انّ رحمة اللّه سابقة على غضبه، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى.

الثالث: انّ الوعيد حقّ اللّه و الوعد حقّ العبد و هو اولى بالتحصيل من حقّ اللّه لاحتياجه. و قد رأينا انّ كثيرا من الألفاظ العامّة وردت في الأسباب الخاصّة، بل قطع بعض انّ العذاب منفىّ عن أهل الكبائر و احتجّوا بقوله تعالى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ و قوله: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى قالوا: دلّت الآية على انّ ماهيّة الخزي و السوء و العذاب مختصّة بالكافرين. و قال اللّه: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. حكم بأنّه تعالى يغفر كلّ الذنوب و لم يعتبر التوبة و لا غيرها و هذا الكلام.

يفيد القطع بغفران كلّ الذنوب.

و الثالث من الآيات الدالّة على مرامنا: قوله تعالى: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ و كلمة «على» تفيد الحال، كقولك رأيت الملك على أكله، اى رأيته على اشتغاله بالأكل، فكذا هاهنا وجب ان يغفر لهم اللّه حال اشتغالهم بالظلم و حال اشتغالهم بالظلم يستحيل وجود التوبة منهم، فعلمنا انّه يحصل الغفران بدون للتوبة.

ص: 217

الرابع: قوله: فأنذرتكم نارا تلظّى، لا يصليها الّا الأشقى الذي كذّب و تولّى.

و كلّ نار متلظّية.

الخامس: انّ صاحب الكبيرة لا يخزى لأنّ صاحب الكبيرة مؤمن و المؤمن لا يخزى لقوله: يوم لا يخزى اللّه النبىّ و الذين آمنوا معه. و صاحب الكبيرة من الذين آمنوا بالغيب و ليس بكافر. و حكم سبحانه بالفلاح على كلّ من آمن، بقوله: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و معلوم انّ صاحب الكبيرة، قد آمن بما انزل اللّه و موقن بالاخرة لأنّه لو لم يؤمن فهو كافر، و الكلام في المؤمن العاصي. و بالجملة، فالعمومات في الوعد و الوعيد معارضة بعضها ببعض. و الحقّ انّ العبد يكون يتوقّف عند هذه المدلولات و يكون مضطربا خائفا من الوعيد و راجيا بالوعد، لأنّه لا يحصل القطع بأحد الأمرين من العمومات.

و بالجملة، فاقصر عن الشهوات و تدارك لساعة لا أنت الى دنياك عائد و لا في حسناتك بزائد، معانقة الحسان و التفرّج في المنتزهات، لا تنفع لظلمة القبر و ضيقه و أنت لا تعلم ما بقي من أجلك فازهد في طول املك قبل الحسرة و الندامة. نعوذ باللّه من قسوة قلوبنا، فانّ القلب إذا لم يكن قاسيا يتأثّر بكلمة، كما اتّفق للشيخ جعفر المرتعش النيشابوري و كان اوّل امره ابن دهقان كثير المال، فسئله رجل شيئا، فقال في نفسه: شابّ، جلد، صحيح البدن، لا يأنف من هذا. قال فزعق في وجهى زعقة أفزعتني، ثمّ قال أعوذ باللّه ممّا خامر في سرّك، قال فغشى علىّ، فلمّا أفقت لم أر أحدا فندمت على ما كان منى فبتّ ليلة بغمّ شديد، فرأيت في الرؤيا على بن أبي طالب عليه السّلام و معه ذلك الشابّ و علىّ عليه السّلام يشير الىّ و يوبّخنى و يقول: إنّ اللّه لا يجيب سؤال مانع سائليه. فانتبهت و فرّقت جميع ما كان لي و لزمت مسجدا ببغداد. و كان وقت موته عليه من الدين بضع و عشرون درهما يعادل ما يملك. و نحن في كلّ يوم نقرأ من القرآن و لا نجيب سائلا. قلوبنا مريضة و لا نحسّ حتى نعالجها، فكما انّ البدن بعدم المراقبة في حفظ الصحّة يهزل

ص: 218

و يضعف، كذلك الروح و النفس بكثرة المعاصي يفسد بحيث لا يقبل العلاج، الا ترى انّ بعض الأمراض لا يعالج، كذلك بعض المعاصي صعب العلاج، أو غير ممكن العلاج، فتشتغل خمسين سنة بالمعاصي برجاء التوبة و انّى لك التوبة، تشرب السم برجاء الترياق و الطبيب و لعل الترياق لا ينفع بعض الأوقات في بعض الأمزجة، كما شوهد مرارا و المعاصي إذا كثرت يغلظ الحجاب و لا يحصل لك نور، حتى تهتدى الى سبيل العبوديّة، فتكون خارجا عن العبوديّة.

حكى عن ذي النون المصرى، قال: كنت في بعض الجبال فإذا بجارية مكشوفة الرأس و الوجه و قد نحل جسمها و تغيّر لونها و تقول: اللّه اللّه. فقلت لها: اين الخمار يا جارية، فأجابتنى ما يصنع بالخمار وجه علاها الذلّ و الصفار. فقلت لها لما ذا علاها الصفار. فقالت: من الخمار. فقلت سبحان اللّه، تناولت شيئا من الخمر. قالت: يا بطال شربت البارحة من كأس المعرفة، فأصبحت اليوم من الشوق مخمورا، فقلت: عظينى يا جارية. قالت: عليك بالسكوت حتّى يقال انّك مبهوت، و ارض بالقوت حتّى يبنى لك في الجنّة بيت من الياقوت، تضرّع بالأسحار الى عالم الأسرار، و تب اليه توبة نصوحا، و البس مكان الحرير مسوحا، و اقبل من ناصح أمين، قبل ان تكون في عذاب مهين، و كلّ محنة الى زوال، و كلّ نعمة الى انتقال، و مال لا ينفعك في آخرتك وبال، و علم لا يصلحك ضلال، و ليكن وجهك أزهر. لا اغبر، قال اللّه: وجوه يومئذ مسفرة. لابيضاضها في الدنيا بالتزكية و زوال كدورة المعاصي عنها. ضاحكة. لأنّها بكت في الدنيا حتّى صارت عمياء عن رؤية غير اللّه و الدنيا. مستبشرة. و هذه البشارة عوض خوفها في الدنيا، فافيقوا عن سكرتكم و انظروا بعين الإفاقة.

رجعنا الى التفسير «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»: اى الّذين صدقوا باللّه تعالى و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقلوبهم و ادّوا الفرائض و انتهوا عن المعاصي، مؤيّدون في الجنّة، لا يموتون و لا يخرجون منها أبدا.

جرت السنّة الالهيّة على شفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة في ارشاد العباد، من الترغيب تارة و الترهيب اخرى، و البشير مرّة و الإنذار اخرى و العجب مع هذه

ص: 219

الآيات الصريحة في الخلود للكافر و المؤمن، في الجنّة و النار، انّ بعض المغرورين بالعقل من الفلاسفة و الطبائعيّة لفرط غفلتهم كذّبوا هذه الآيات و ظنّوا انّ قبائح أفعالهم و أعمالهم، لا تؤثّر في صفاء أرواحهم و قلّدوا اليهود و قالوا: إذا فارقت الأرواح الأجساد، يرجع كلشي ء الى أصله، فالاجساد ترجع الى العناصر و الأرواح الى حظائر القدس و لا يزاحمها شي ء من نتائج الأعمال الّا ايّاما معدودة. و هذا فاسد لأنّ العاقل يشاهد حسّا ان تتبّع الشهوات الحيوانيّة و استيفاء اللذّات النفسانيّة، تورث الأخلاق الذميمة، من الحرص و الأمل و الحسد و البغض و البخل و الكبر و الكذب و غير ذلك و هذه من صفات النفس الامّارة بالسوء، فتصير بالمجاورة و يتبدّل اخلاق الروح كأخلاق النفس الخبيثة فحكمه حكمها و ما تستحق فيستحقّ فكلّما تدنّست الأجسام، تدنست الأرواح و كذّبهم اللّه تعالى بقوله: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الآية.

[سورة البقرة (2): آية 83]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

«وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ»: و اذكروا وقت أخذنا العهد من بني إسرائيل و الميثاق. قيل هو مواثيق الأنبياء على أممهم، و العهد لا يكون الّا بقول اى أمرنا بلسان رسلنا و أكّدنا عليهم في التوراة بأن لا تعبدوا الّا اللّه و قيل: المراد من العهد من جهة السمع و العقل كليهما «وَ بِالْوالِدَيْنِ» يحسنون «إِحْساناً» «وَ ذِي الْقُرْبى اى و تحسنون الى ذي قرابتكم.

في تفسير الامام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أفضل والديكم و احقّهما بشكركم، محمّد و علي صلوات اللّه عليهما و قال امير المؤمنين عليه السّلام: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول أنا و علي عليه السّلام أبوا هذه الامّة و حقنا عليهم أعظم من حق ابوى ولادتهم، فانّا ننقذهم من النار ان أطاعونا.

قال الفيض: و لهذه الأبوّة صار المؤمنون اخوة، كما قال اللّه تعالى: انّما

ص: 220

المؤمنون اخوة.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من رعى حق قرابات أبويه اعطى في الجنّة ألف ألف درجة، ثمّ فسرّ الدرجات. ثمّ قال و من رعى حق قربى محمد و عليّ صلوات اللّه عليهما اوتى من فضائل الدرجات و زيادة المثوبات على قدر زيادة فضل محمّد و عليّ على ابوى نسبه. و القربى مصدر كالحسنى.

«وَ الْيَتامى : جمع يتيم و هو الصغير الّذي مات أبوه قبل البلوغ و من الحيوانات:

الصغير الذي ماتت امّه. في الحديث: ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فلا يقرب قصعتهم الشيطان. و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كافل اليتيم و انا كهاتين في الجنّة- و أشار بسبّابتيه- و سميت بسبّابة لأنّهم كانوا يسبّون بها في الجاهليّة، فكرهوا ذلك و سمّوه بالمشيرة قال الصادق عليه السّلام: و اشدّ من يتم هذا اليتيم، يتيم عن امامه، لا يقدر على الوصول اليه، و لا يدري كيف حكمه فما يبتلى به من شرائع دينه، الا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا و هذا الجاهل بشريعتنا، المنقطع عن مشاهدتنا، يتيم في حجره، الا فمن هداه و أرشده و علّمه شريعتنا، كان معنا في الرفيق الأعلى حدّثني بذلك ابي عن آبائه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

«وَ الْمَساكِينِ»: المسكين من اسكنه الضرّ و الفقر. عن الحرائر، التوصية بحسن القول و إيصال الصدقة إليهم، قال ايضا عليه السّلام الا، فمن واساهم بحواشي ماله، وسّع اللّه عليه جنانه و انا له غفرانه و رضوانه. ثمّ قال: انّ محبّي محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مساكين، مواساتهم أفضل من مواساة مساكين الفقراء و هم الذين سكنت جوارحهم و ضعفت قواهم عن مقاتلة اعداء اللّه الذين يعيرونهم و يسفهون أحلامهم. الا، فمن قواهم بفقهه و علمه حتى أزال مسكنتهم و جهلهم، ثم سلّطهم على اعداء اللّه الظاهرين من النواصب و على الأعداء الباطنين، إبليس و مردته، حتى يهزموهم عن دين اللّه و يذودهم عن اولياء آل الرسول، حوّل اللّه تلك المسكنة الى شياطينهم و أعجزهم عن اضلالهم- قضى اللّه بذلك قضاء حقّا على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- «وَ قُولُوا لِلنَّاسِ»: اى و قولوا للناس قولا «حُسْناً»: قرء بفتح الحاء و السين

ص: 221

و قرء بضمّ الحاء و اسكان السين مبالغة لفرط حسنه. امر اللّه سبحانه بالإحسان بالمال في حقّ أقوام مخصوصين و هم الوالدان و الأقرباء و اليتامى و المساكين. و لمّا كان المال لا يسع الكلّ، امر بمعاملة الناس كلّهم بالقول الجميل الّذى لا يعجز عنه كلّ احد، اى ألينوا لهم القول بحسن المعاشرة و حسن الخلق و أمروهم بالمعروف و انهوهم عن المنكر قيل:

المراد: قولوا للناس صدقا و حقّا في شأن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فمن سألكم عنه فاصدقوا و بيّنوا صفته و لا تكتموا امره و قد امر اللّه الخلق في هذه الآية بما هو صلاح دينهم و ديناهم.

قال الصادق عليه السّلام: قولوا للناس حسنا كلّهم، مؤمنيهم و مخالفيهم، امّا المؤمنون فيبسط لهم وجهه و بشره و امّا المخالفون فيكلّمهم بالمداراة لاجتذابهم الى الايمان، فان يئس من ذلك يكف شرورهم عن نفسه و إخوانه المؤمنين. قال: انّ مداراة اعداء اللّه من أفضل الصدقة من المرء على نفسه و إخوانه. كان رسول اللّه في منزله إذا استأذن عليه عبد اللّه بن ابى بن سلول، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بئس أخو العشيرة. ائذنوا له، فلمّا دخل أجلسه و بشر في وجهه، فلمّا خرج قالت له عائشة: يا رسول اللّه قلت فيه ما قلت و فعلت فيه من البشر ما فعلت. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عويش يا حميراء انّ شرّ الناس عند اللّه يوم القيامة من يكرم اتقاء شرّه. و في الكافي و العياشيّ عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: قولوا للناس احسن ما تحبّون ان يقال لكم، فانّ اللّه يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين المتفحش السائل المتلحّف و يحبّ الحييّ الحليم العفيف المتعفّف.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: لا تقولوا الّا خيرا حتى تعلموا ما هو. و في التهذيب و الخصال و العياشي عن الباقر عليه السّلام: انّها نزلت في اهل الذمة ثم نسخها قوله: فاقتلوا الذين لا يؤمنون باللّه و اليوم الاخر و لا يحرّمون ما حرّم اللّه و رسوله و لا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون. و القمي، نزلت في اليهود، ثمّ نسخت بقوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، فان قيل: فما وجه التوفيق بين نسخها و بقاء حكمها، فالجواب: انّها نسخت في حقّ اليهود و أهل الذمّة المأمور بقتالهم و من هو في حكمهم و بقي حكمها في سائر النّاس الى يوم القيامة.

ص: 222

«وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ»: كما فرضا عليهم، ذكرهما تخصيصا مع دخولهما في العبادة المذكورة. تلخيصه أخذنا عهدكم يا بنى إسرائيل بجميع المذكور فقبلتم «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» و رفضتم الميثاق «إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ» و هم من الاسلاف من ايّام اليهوديّة على وجهها و من الأخلاف كعبد اللّه بن سلام و أضرابه فهولاء مستثنون و الباقون ضلّوا و اضلّوا.

«وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ»: جملة تذييليّة اى و أنتم قوم عادتكم العناد و الاعراض عن الحق و اصل الاعراض الذهاب عن المواجهة. و العبادة من وظيفة العبوديّة و لا يحصل العبوديّة الّا بها و هي تفرّد العبد لإطاعة خالقه و تجرّده عن كلّ مقصود سواه، فمن لاحظ خلقا، او استجلى ثناء، او استجلب بطاعته الى نفسه حظّا من حظوظ الدنيا.

مع قصده بها، او داخله مزج او شوب، فهو ساقط عن مرتبة الإخلاص، و إذا حصل هذا المقام للإنسان يتمّ امره بساعة و ينقلب الى أهله مسرورا، كما وقع لجماعة كثيرة رجعوا الى اللّه و تجافوا عن دار الغرور بلحظة.

[سورة البقرة (2): آية 84]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)

«وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ»: و اذكروا ايّها اليهود، وقت أخذنا إقراركم و عهدكم في التوراة و قلنا لكم لا يريق بعضكم دم بعض. جعل غير الرجل نفسه، لما بينهم من الاتصال القوىّ نسبا و دينا فأجرى كلّ واحد منهم مجرى أنفسهم. و قيل: إذا قتل غيره فكأنّما قتل نفسه، لأنّه يقتصّ منه و هو اخبار في معنى النهى.

«وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ»: اى لا يخرج بعضكم بعضا من دياره او لا تسبّوا و لا تؤذوا جيرانكم، فتلجؤهم الى الخروج و في اقتران الإخراج من الديار بالقتل، إيذان بأنه بمنزلة القتل.

«ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ»: بالميثاق و ألزمتم على أنفسكم و اعترفتم بوجوب المحافظة عليه «وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ»: عليها، تأكيد للإقرار، مثل قولك: فلان مقرّ على نفسه بكذا،

ص: 223

شاهد عليها، او المعنى و أنتم اليوم تشهدون على اقرار اسلافكم بهذا الميثاق. و تخليص البيان: انّ هذه الأحكام و الأمور كلّها كانت عليكم مذكورة في التوراة. و أنتم كنتم محكومين بها و متعاهدين على العمل بها.

[سورة البقرة (2): آية 85]

ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

«ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ»: ثمّ أنتم هؤلاء، مبتداء و خبر و مناط الإفادة اختلاف المنزل منزلة اختلاف الذات، اى أنتم بعد ذلك هؤلاء النّاقضون المتناقضون، او التقدير ثمّ أنتم يا هؤلاء. و يجوز أن يكون هؤلاء تأكيدا لأنتم و الخبر تقتلون، او يكون بمعنى الذين و تقتلون صلته و في موضع الرفع خبر للمبتدأ: اى أنتم الذين تقتلون انفسكم: اى يقتل بعضكم بعضا و تتعرضون للقتل.

«وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ» الضمير في ديارهم راجع الى الفريق. و الفريق: الطائفة، تظاهرون: بحذف احدى التائين حال من فاعل تخرجون: اى متعاونين عليهم في إخراجهم، ملتبسين بالإثم و المعصية و العدوان و التطاول، و تقوّون ظهوركم للغلبة عليهم. و الإثم: الفعل الذي يستحقّ فاعله الذمّ و اللوم. و دلت الآية على أنّ الظلم كما هو محرّم، فالتعاون عليه ايضا كذلك، فان قيل: أليس اللّه لمّا أقدر الظالم على ظلمه فقد أعانه، فالجواب: انّه كما امكنه فقد زجره عن الظلم، بالتهديد و المنع: فلو لم يمكّنه و يسلب عنه القوّة بحيث لم يقدر إتيانه، لقبح التكليف، لأنّه لا يقال للأعمى لا تنظر و لا يقال للعنين لا تزن.

وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى اى جاؤكم حالكونهم مأسورين و ظهروا لكم على

ص: 224

هذه الحالة. و الأسارى جمع أسير و هو من يؤخذ قهرا بمعنى الأسر و هو الشدّ و الإيثاق. و الفرق بين أسارى و أسرى: انّهم إذا قيّدوا و أوثقوا فهم أسارى و إذا حصلوا في يدهم و سلطتهم من غير قيد فهم اسرى.

«تُفادُوهُمْ»: اى تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء. و المفاداة تجري بين الفادي و المفتدي.

«وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ»: الضمير مبتدأ مبهم يفسّره إخراجهم:

اى الإخراج و القتل حرام عليكم و اصل القصّة: انّ اللّه حكم على بني إسرائيل في التوراة: ان لا يقتل بعضهم بعضا و لا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم و ارضهم و ايّما عبد او امة وجدتموه من بني إسرائيل، فاشتروه و أعتقوه و كانت بنو قريظة حلفاء الأوس، و النضير حلفاء الخزرج، حين كان بينهما أى بين الأوس و الخزرج من العداوة و الحرب، فكان كلّ فريق يقاتل مع حلفائه، فإذا غلبوا، خرّبوا ديارهم و أخرجوهم منها، ثمّ إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا فيفدونهم، فعيّرتهم العرب و قالت كيف تقاتلونهم ثمّ تفدونهم، فيقولون أمرنا في التوراة: ان نفديهم و حرّم علينا قتالهم- و لكنّ نستحيي أن نذل حلفائنا، فذمّهم اللّه بأنّكم إذا وجدتم أسيرا في يد غيركم من أعدائكم تفدونهم و هذا الحكم قبلتموه و ما تركتموه، فكيف قتلكم و إخراجكم إياهم ترتكبونه، فكما انّ تركهم اسرى في أيدى عدوّكم حرام و اعتاقهم عليكم واجب، كذلك قتلهم و إخراجهم حرام عليكم.

«أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ» الّذي فرضت عليكم فيه فرائض و هو التوراة «وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» و قد علمتم انّ الكفر منكم ببعضه نقض بعهدي و هو قبول التوراة و العمل بأحكامه.

«فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»: اى ليس جزاء من يفعل ذلك اى الكفر بالبعض و الايمان بالبعض منكم يا معشر اليهود الأذلّ و فضيحة في الدنيا و هو قتل بني قريظة و اسرهم و اجلاء بني النضير إلى أذرعات و أريحا من الشام و أخذ

ص: 225

الجزية و الاستصغار. و يوم يقام فيه الاجزية- و لذا سميت القيامة- يردّون و يرجعون الى اشدّ العذاب و هو التعذيب في جهنّم، لأنّ كلّ عذاب ينقطع و عذابهم لا ينقطع و اللّه ليس بغافل عن أعمالكم.

[سورة البقرة (2): آية 86]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

«أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ»: اشارة الى الذين اخبر عنهم بأنّهم يؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض: اى الموصوفون بهذه الصفة الذين استبدلوا الحيوة الفانية بالحيوة الباقية و اعرضوا عنها لبعض منافعهم و أغراضهم الفاسدة؛ فاقطع علاقتك عمّا يفارقك بالموت و الزم الاقتصار في الالتفات الى لازمك الذي لا بدّ لك منه و هو اللّه. و قد أوحى اللّه إلى داود: يا داود انا بدّك اللازم فالزم بدّك. و هو الكمال الحقيقي و المال و البنون شهوات و زينة الحيوة الدنيا و هي كمالات وهميّة و ليست الشهوة واحدة و عشرة. و قد يكون الإنسان قد قمع عن نفسه جميع الشهوات، لكن لم يقمع عن طلب حسن الثناء و الخلوص و هو قاتله، فلو فرضنا انّ جميع اهل الأرض سجد لك، أليس في مدّة قليلة لا يبقى الساجد و المسجود فكيف تترك الجاه العريض الطويل عند اللّه و تختار هذا الكمال الوهميّ الزائل من قبول جماعة من الناس الذين لا يملكون لك موتا و لا حيوة و لا رزقا و لا أجلا و خطر الجاه أعظم من خطر المال، لأنّ قليل الجاه يدعو إلى كثيره، لأنّه الذّ من المال. و لا يسلم من هذه الآفة إلّا خامل مجهول.

قال عيسى عليه السّلام: يا طالب الدنيا للبر، تركك لها أبرّ. اعلم ان المال كالدواء و النافع منه قدر مخصوص، و الإفراط منه قاتل، و القرب من الإفراط ممرض، و العبد مسافر إلى اللّه، و الدنيا منزل من منازل سفره، و بدنه راحلته، و لا يمكنه السفر إلّا بالرّاحلة، و الراحلة لا بدّ لها من علوفة، و لم يؤخذ من العلوفة إلّا قدر مسافة السفر، و الزائد ثقل و وبال، فاقنع من الدنيا بزاد الراكب، كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لسلمان:

ص: 226

فليكن بلاغك من الدنيا كزاد الراكب و الزائد يلهى عن ذكر اللّه، قال اللّه تعالى:

ألهيكم التكاثر. و الخطب الأعظم انّه ما من غنى إلّا و يدّعى أنّ ما في يده مقدار كفايته و ضرورته. و لم يعرف مقدار الضرورة لكثرة شهواته مع انّ الضرورة في المطعم و الملبس و المسكن، و قد عيّن الحذّاق من أطبّاء الدين مقدارها و هو أنّه إن تركت التجمّل في الملبس فيكفيك في السنة ديناران لشتائك و صيفك، و كذلك ان تركت التنعّم في مطعمك فيكفيك في كلّ يوم مدّ و يكفيك لادامك ان اقتصرت على القليل في بعض الأوقات ثلاثة دنانير في السنة، فإذا مبلغ ضرورتك خمسة دنانير و خمسمائة رطل و إذا كنت معيلا فكذلك القياس، لكن لما كان لا يحتمل بعض الأشخاص القناعة بالقدر الذي قدّره الزاهدون و لا حرج في الدّين فلهم الضعف في هذا المقدار. و لا يخرج عن حزب أبناء الاخوة مادام يقصد بذلك دفع الألم الشاغل عن ذكر اللّه و العبادة و معلوم ان فائدة البذل أعظم من فائدة الإمساك، لأنّ إمساك المال إن كان للتنعّم في الشهوات فتلك سجيّة البهائم و إن كان يتركه لولده و يحرم نفسه مع أنّه هو اولى به، خصوصا إذا كان الولد فاسقا يستعين بذلك المال على المعصية فيكون معدّ الأسباب المعصية و الكمال الحقيقي، الحريّة و هو انقطاع علائق الدنيا و ما يفارقك بالموت.

«فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ»: و لا يمنعون و لا ينصرون بدفعه عنهم بشفاعة و انتصار.

[سورة البقرة (2): آية 87]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)

«وَ لَقَدْ آتَيْنا»: هذا نوع آخر من مقابلة النعم بالكفران من اليهود: اى باللّه لقد أعطينا يا بني إسرائيل «مُوسَى الْكِتابَ»: اى التوراة جملة واحدة، قال ابن عباس: انّ التوراة لما نزلت، أمر اللّه تعالى موسى بحملها، فلم يطق ذلك، فبعث

ص: 227

لكلّ آية منها ملكا، فلم يطيقوا حملها، فخفّفها اللّه على موسى فحملها.

«وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ»: قفاه به، إذا اتبعه إيّاه، اى اتبعنا من بعد موسى رسولا بعد رسول، متّفقين اثره، و هم: يوشع و شموئيل و داود و سليمان و شمعون و شعيا و ارميا و عزير و حزقيل و الياس و اليسع و يونس و زكريّا و يحيى و غيرهم.

«وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ»: و معنى عيسى بالسريانية: اليسوع. و معناه: المبارك.

و ابن بإثبات الألف في الكتابة و إن كان واقعا بين العلمين لندرة الاضافة إلى الام و مريم بالسريانيّة بمعنى العابدة و الخادمة للمعبد. و قد جعلتها امّها محرّرة لخدمة المسجد و لكمال عبادتها لربّها سمّاها مريم. و صرّح باسمها في القرآن مع الأنبياء سبع مرّات و خاطبها كما خاطب الأنبياء، كقوله: يا مريم اقنتى لربّك و اسجدي و اركعي مع الراكعين. فشاركها مع الرجال؛ و لو كانت النساء بمثل هذه لفضّلت النساء على الرّجال.

«الْبَيِّناتِ»: المعجزات الواضحات، من أحياء الأموات و إبراء الأكمه و الأبرص و الأخبار بما يدّخرون و الإنجيل.

«وَ أَيَّدْناهُ»: و قوّيناه «بِرُوحِ الْقُدُسِ» من اضافة الموصوف إلى الصفة اى بالروح المقدّسة المطهّرة و هي روح عيسى، و صفت بالقدس للكرامة، لأنّ القدس هو اللّه. أو الروح جبرئيل و وصف بالطهارة لأنّه لم يقترف ذنبا. و سمّى روحا لأنّه كان يأتى الأنبياء بما فيه حيوة القلوب. و معنى تأييده و تقويته به: انّه عصمه من أوّل حاله إلى كبره، فلم يدن منه الشيطان عند الولادة و رفعه إلى السماء حين قصد اليهود قتله. و كان بين موسى و عيسى أربعة آلاف نبيّ و قيل: سبعون ألف نبيّ.

«أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ»: خاطب أهل عصر النبيّ بهذا و قد فعله أسلافهم لأنّهم يتولّونهم و يرضون بفعلهم. و الفاء للعطف على مقدّر يناسب المقام و التقدير:

ألم تطيعوهم فكلما جاءكم «رَسُولٌ بِما لا تَهْوى و لا تحبّ «أَنْفُسُكُمُ» و لا يوافق هواكم من الحق «اسْتَكْبَرْتُمْ» و تعظّمتم عن الاتّباع له «فَفَرِيقاً» منهم: اى من

ص: 228

الأنبياء كعيسى عليه السّلام و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «كَذَّبْتُمْ» و نسبتم إليهم الكذب «وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ» و قال تقتلون و لم يقل قتلتم لشناعة هذا الأمر و لثبوت عارها عليهم و على من بعدهم من أخلافهم، لأنّهم رضوا، بل كانوا على هذه النيّة، بل الفعل لأنّهم حاولوا قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو لا ان عصمه اللّه و سمّوا الشاة حتّى قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند موته ما زالت أكلة جزر تواجعنى، فهذا أوان انقطاع أبهري. و هو عرق منبسط في القلب إذا انقطع مات و اعلم: أنّ هوى النفس داء قتّال، و للنفس صفات سبع كلّها مذمومة: العجب و الكبر و الرياء و الغضب و الحسد و حب المال و حبّ الجاه. و لجهنّم سبعة أبواب؛ فمن زكّى نفسه عن هذه السبع فقد اغلق السبعة و دخل الجنّة. فيا حملة الأوزار و حفظة المال المستعار ألهاكم حب الرزق عن الرزّاق و اشتغلت طول النهار في الصفق بالأسواق، يا عمّار الخراب و يا شرّاب السراب الى متى؟ و قد قاربت الخمسين! فاقتصر و قد وهنت ركبتاك و ذابت أليتاك و لا عطر بعد عروس، ما هي إلّا أنفاس تتردّد و ستنقطع، و قامات تتمدّد و تتقوس فتنقطع، فارغم أنف الشيطان و خالف هواك؛ الحرص فقابله بالقناعة، و الأمل فاكسر بمفاجاة الأجل، و التمتّع باللذائذ فقابله بطول الحساب في الموقف الصعب الكبير، و الأنانيّة بالتواضع للفقراء من المؤمنين، و حبّ المال و البخل فأكسره بالبذل و العطاء حتّى تكون من أهل الورع، و لا أقلّ من أقلّ درجتهم، فإنّ درجات الورع اربعة الاولى: من الحرام و هي الدّرجة العامّة. الثانية: ورع الصالحين و هي التي يتطرّق فيها الشبهة، قال اللّه: الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه. الثالثة: ورع المتّقين يتورع عن الزينة و أكل اللّذائذ و الشهوات مع انّها حلال خيفة ان يجمح النفس و يدعو الى الشهوات المحظورة كالنظر إلى تجمّل أهل الدنيا فانّه يحرّك دواعي الرغبة في الدنيا قال اللّه: و لا تمدّنّ عينيك الى ما متّعنا به أزواجا. قال عيسى عليه السّلام لا تنظروا الى اموال اهل الدنيا فانّ بريق أموالهم يذهب بحلاوة ايمانكم و قد قيل من رقّ ثوبه رقّ دينه الرابعة: ورع الصدّيقين و هو الحذر عن كلّ ما لا يراد بتناوله القوّة على طاعة اللّه او كان قد تطرّق إلى بعض أسبابها معصيته و من ذلك انّ بشر الحافي كان لا يشرب الماء من الأنهار التي حفرها الأمراء و السلاطين.

ص: 229

تأمّل في وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمعاذ بن جبل: أوصيك بتقوى اللّه و صدق الحديث و خفض الجناح و الوفاء بالعهد و ترك الخيانة و صلة الأرحام و رحمة الأيتام و لين الكلام و بذل السلام و حسن العمل و قصر الأمل و التفقّه في الدين و تدبّر القرآن و ذكر الآخرة و الحرج من الحساب و كثرة ذكر الموت و لا تسب مسلما و لا تطع آثما و لا ترض بقبيح تكن كفاعله و اذكر اللّه عند كلّ شجر و مدر و بالأسحار و على كلّ حال، فان اللّه ذاكر من ذكره و شاكر من شكره و جدّد لكل ذنب توبة: السرّ بالسرّ و العلانية بالعلانية. و اعلم: انّ اصدق الحديث، كتاب اللّه. و أوثق العرى التقوى. و احسن القصص القرآن. و شرّ الأمور محدثاتها.

و أعمى العمى الضلالة بعد الهدى. و خير العلم ما نفع. و اليد العليا خير من يد السفلى. و ما قلّ و كفى خير ممّا كثر و الهى. و شرّ المعذرة عند الموت. و شرّ الندامة يوم القيامة. و من أعظم خطايا اللسان الكذب. و خير الغنى غني النفس. و رأس الحكمة مخافة اللّه في السرّ و العلانية. و انّ جماع الإثم، الكذب و الارتياب. و النساء حبائل الشيطان. و الشباب شعبة من الجنون. و شرّ الكسب كسب الريا. و شرّ المآثم أكل مال اليتيم. و ليس لجسم نبت على الحرام الّا النار. و من تغذّى بالحرام فالنّار اولى له و لا يستجاب له دعاء.

أقول: تأمّل في جوامع كلماته و قد بيّن صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، جميع مراتب الحكمة النافعة لك في دينك و دنياك، مثل انّه نهى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الشرك الخفى، و هذا الشرك و ان كان لا يذهب بأصل الايمان بان يكون صاحبه مشركا و يترتّب عليه احكام الكافر، لكن يقع في حقيقة الايمان عيب و نقص كالذهب المخلوط بالحديد، فيكون قليل القيمة و ان كان ذهبا. و خفايا معايب الشرك الخفّى كثيرة، فيطلب صاحبه الشرف و التعزّز من هذا الفعل الشنيع من الناس، فيعجب بمدح الناس ايّاه و يطلب النفع بسبب هذا الرياء من غير اللّه. و يتوسل في دفع الضرر عن نفسه من غير اللّه، مع انّه لا معطى لما منع و لا مانع لما اعطى. و دقائق الرياء و الشرك الخفى خفية جدا، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء. فانّ النمل إذا دبّ

ص: 230

على التراب، يرى اثر دبيبه، خصوصا في النهار؛ لكن في الليلة الظلماء لا يرى اثر دبيبه على الحجر الأملس، فانّ النمل اسود و الليل اظلم و لا يسمع دبيبه و رؤية الشي ء غالبا و العلم به من هاتين القوتين. فإذا عرفت هذا الأمر فأينا غير مبتلى بهذه البلية و لا نأتي بهذا الأمر الشنيع كلّ يوم مرّات. و لعلك تسمع كلامي فتبادر الى ملامى و تقول:

فحينئذ عملنا هباء؛ فانا أعذرك في ملامتى، فانّ الفطام عن المعهود شديد و النزول عمّا تلقاه الفتى من آبائه و عاداته صعب جدا، حقا كان او باطلا، اما ترى هذه الكبيرة العظيمة المنهية في القرآن لمّا شاعت في عادات الناس لا يتخلّص منها الّا الأقلّون، بحيث لا يعدّون الغيبة من المعاصي مع انها عظيمة و صارت عادة بحيث انّ المغتاب حين اغتيابه إذا رأى منك قهقهة، يعدّها قبيحة عظيمة و ينسبك الى الفسق و لا يبالى بهذه العظيمة، فجعلت دينك ما يوافق العادة و عندك الحسن ما وافق عادة الناس و القبيح ما تركته العادة، لا ما حسّنه العقل، فيكون معتزليّا اماميّا و لا ما حسّنه الشرع فتكون أشعريا بل هذا مسلك جديد خبيث.

[سورة البقرة (2): آية 88]

وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)

«وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ»: اى اليهود الموجودون في عصر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالوا قلوبنا غلف، مستعار من الأغلف الذي لم يختن اى مغشاة بأغشية جبليّة لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا نفقهه، فرد اللّه ان تكون قلوبهم مخلوقة كذلك، لأنّها خلقت على الفطرة و التمكن من قبول الحق، فاضرب و قال: «بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» اى خذلهم و طردهم و خلّاهم و شأنهم بسبب كفرهم العارض الّذى اقدموا عليه بسوء اختيارهم و إبطالهم الاستعداد الفطري الإسلامي.

«فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» ما مزيدة للمبالغة اى فايمانا قليلا يؤمنون و هو ايمانهم ببعض الكتاب. و الفاء لسببيّة عدم الايمان الموجب للّعن. ثم انّ في القراءة اختلاف، فقرء بعض، غلف، بسكون اللام، فالمعنى على ما بينّاه. و قرء بعض، غلف، بضم اللّام كأبي عمرو، جمع غلاف، فيكون معناه: انّ قلوبنا اوعية للعلم و نحن علماء

ص: 231

فلو كان ما تقوله شيئا يفهم اوله طائل لفهمناه، او يكون المراد ليس في قلوبنا ما تذكره فلو كان علما لكان فيها. و يجوز في معنى فقليلا ما يؤمنون: اى فافراد قليلة منهم يؤمنون، كعبد اللّه بن سلام و أصحابه.

و في الآية ردّ صريح على المجبرة، لأنّ هؤلاء اليهود ادّعوا انّ على قلوبهم، ما يمنع من الايمان و يحول بينها و بينه، فكذبهم في ذلك بان لعنهم و طردهم و لو كانوا صادقين بانّ اللّه خلق الكفر في قلوبهم و جعله المانع لهم، لما استحقّوا اللعن و الطرد و يلزم انّ اللّه كلّفهم مالا يطاق- تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا. و ربّك اعلم بمن هو أهدى سبيلا- و الضلالة و الهداية سبيلهما باختيار العبد. و انّ المادة المعبّرة عنها بالهيولى في نفسها خالية عن الحكم لها و عليها من حيث هي هي. و انّما الاحكام تلحق الصورة، الا ترى انّ القلم إذا أصاب مدادا فانّما يلحقه حكم ذلك من غير الحكم بالحسن و القبيح، فإذا كتبت بذلك المداد اسمى ذاتين مختلفين في الخير و الشرّ، كان اسم الذات المقدسة حسنا و اسم الآخر سيّئا. و هاك مثالا آخر، و هي حروف الهجاء فانّ الالف لا تدلّ على غير نفسها و ليس فيها معنى غير وجودها، فإذا ألّفت من ثلاثة او اربعة، يوجب معنى محدث لم يكن قبل ذلك، كذلك المادّة لا تجرى عليها الاحكام من حيث هي و انما تجرى عليها بالصورة و التأليف، الا ترى انّه إذا نزى حيوان محرم على حيوان محلّل، كان حكم التحليل و التحريم في نسلهما للاسم الذي هو خاصّة الصورة و ظاهرها. و تلك الحقيقة تحقّقت و تميّزت بالصورة، فحقق بهذا البيان معنى الحديث: السعيد سعيد في بطن امّه. و الأمّ هي الصورة و المادّة هي الأب و بعبارة اخرى: المادّة هي الوجود و الصورة هي الماهية، فالحسن انّما حسن في بطن امّه و كذلك القبيح و الحكم لا يتعلق بالمادة و الّا لتساوت الإفراد من الجنس في الحكم، فيكون السرير و الصنم واحدا، لأنّ السرير و الصنم من الخشب، فلو كانت الأمّ هي المادة، لكان الصنم انّما قبح لكونه من الخشب و لم يقل به احد و كان يقال: السعيد سعيد في صلب أبيه. و من شأن العاقل ان ينتقد نفسه و يتأمّل انّ الشيطان من اىّ طريق أفسده، مثل انّ بعض الحمقاء بسبب هذا الحديث قالوا: السعادة و الشقاوة من المقدرات

ص: 232

و إذا كان كذلك، فما الفائدة في العمل! و عطّلوا العمل و هذا غلط، لأنّ اللّه أمركم بالعمل، قال: اعملوا و كل ميسّر لما خلق له. فأطع حتى تكون سعيدا، و لا تعص حتى تكون شقيّا. و بعض أخر من الحمقاء أفسده الشيطان و يقول ان اللّه غنىّ عنّى و عن عبادتي و ليس له حاجة الى عبادتنا. و هذا جهل، نعم انّ اللّه غنىّ عنك، لكن أنت تحتاج الى العبادة، قال اللّه: و من تزكّى فانّما يتزكّى لنفسه. و قال: و من عمل صالحا فلنفسه. و هذا الكلام يشبه مريضا يصف له الطبيب دواء فيقول المريض ما ينفع الطبيب إذا ما شربت الدواء!، و طبقة اخرى من الناس يتجاوزون من حدود الشرع معتمدين على رحمة اللّه و كرمه، مع انّه إذا جاع لا يشبع الا بالأكل. و كذا لا يبرأ من مرضه الّا بعد شرب الدواء و هو كريم لكن لا تخرج حبّة من الحنطة الّا بعد مشقّة الحرث و السقي و المدة و العدة و هو كريم و شديد.

[سورة البقرة (2): آية 89]

وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)

«وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ» كائن «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» و هو القرآن- و وصفه بقوله من عند اللّه، للتشريف «مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ»: اى موافق للتوراة في التوحيد و النبوّات- و المصدق به ما يدل عليها من العلامات من بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و ليس المراد انّ القرآن مصدق تمام احكام التوراة و شرائعها، بل القرآن نسخ أكثرها «وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ» من قبل مجي ء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» اى، يستنصرون به على مشركي العرب و كفّار مكّة و يقولون: اللهمّ انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة. و يقولون لأعدائهم: ننتظر زمان نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قتل عاد و ارم.

«فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا» من الكتاب بمجيئه و نعوته «كَفَرُوا بِهِ» حسدا و حرصا على الرياسة. و غيّروا صفته و هو جواب، لما، الاولى و الثانية، تكرير للأولى «فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ»: اى عليهم و وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على أنّ

ص: 233

اللعنة لحقتهم لكفرهم. و الفاء للدلالة على ترتيب اللعنة على الكفر. و اللعنة في حقّ الكافر: الطرد و الابعاد من الرحمة و الجنّة على الإطلاق و في حقّ العاصين و المذنبين من المؤمنين، الابعاد من الكرامة التي وعد بها من لا يكون في ذلك الذنب مثل لعنة المحتكر و أمثاله.

[سورة البقرة (2): آية 90]

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)

ثمّ ذم اللّه تعالى اليهود بايثارهم الدنيا على الدين فقال «بِئْسَمَا» اى بئس شيئا باعوا به أنفسهم، ما، نكرة منصوبة تميز- و المميز لا يكون إلّا نكرة، الا ترى انّ أحدا لا يقول عشرون الدرهم، كقولك: نعم رجلا زيد- مفسرة لفاعل بئس و تقديره بئس الشي ء شيئا «اشْتَرَوْا» بمعنى باعوا «بِهِ» اى بذلك الشي ء «أَنْفُسَهُمْ» المراد، الايمان و حاصل المعنى: انّهم باعوا ايمانهم بكفرهم، لأنّ الذي حصلوه على منافع أنفسهم لما كان هو الكفر، صاروا بائعين أنفسهم بذلك و بذلوا الأنفس به. و المخصوص بالذمّ، قوله:

«أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ»: فبيّن سبحانه تفسير ما اشتروا به أنفسهم بقوله:

ان يكفروا بما انزل اللّه- و المراد كفرهم بالقرآن، لأنّ الخطاب الى اليهود و كانوا مؤمنين بالتوراة، ثمّ بيّن الوجه الذي اختاروا الكفر بما أنزل اللّه، فقال: «بَغْياً» اى علّة كفرهم، البغي و الحسد، لأجل «أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» و ذلك لأنّهم طمعوا انّ هذا الفضل العظيم بالنبوّة المنتظرة يحصل لهم و لقومهم، فلمّا وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي و الحسد- و اللّه اعلم حيث يجعل رسالته- «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ»: اى احتملوا بغضب على غضب مترادف و لعنة اثر لعنة حيثما اقترفوا كفرا على كفر، مثل تكذيبهم عيسى عليه السّلام و ما انزل عليه، و تكذيبهم محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذلك عبادتهم العجل. و قولهم:

انّ اللّه فقير و نحن اغنياء. و قولهم: يد اللّه مغلولة، فدخلوا في سبب بعد سبب. و

ص: 234

للكافرين: اي لهم عذاب مهين مقرون بالإهانة و الذلّ. و فيه اشعار بانّ عذاب المؤمنين، تأديب و تطهير. و عذاب الكفّار، اهانة و تشديد. و ذلك كله لحبهم الدنيا لشهواتهم.

قال عيسى: عليه السّلام لا يستقيم حب الدنيا و الآخرة في قلب مؤمن، كما لا يستقيم الماء و النار في إناء واحد.

قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اتّقوا الدنيا فانّها أسحر من هاروت و ماروت، ارضوا بدنىّ الدنيا مع سلامة الدين، كما رضى اهل الدنيا بدنىّ الدين مع سلامة الدنيا.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّ اللّه لم يخلق خلقا ابغض اليه من الدنيا و انّه لم ينظر إليها منذ خلقها. و القرآن مشحون من ذمّ الدنيا و ذمّ أهلها، مثل قوله تعالى:

فامّا من طغى و آثر الحيوة الدنيا. و مثل قوله تعالى: ذلك بانّهم استحبّوا الحيوة الدنيا على الآخرة.

مثال الخلق في الدنيا، كمثال قوم ركبوا في السّفينة فانتهت بهم الى جزيرة، فأمرهم الملّاح الى الخروج لقضاء الحاجة و خوفهم المقام ليغرقوا فيها، فبادر بعض و قضى حاجته و رجع الى السفينة، فوجد مكانا خاليا واسعا و وقف بعضهم ينظر في أزهارها و نعمات طيورها، فرجع الى السفينة، فلم يجد الّا مكانا ضيّقا و اكبّ بعضهم على تلك الاصداف و الأحجار إذا أعجبه حسنها، فلم يقدر على رميها و لم يجد لها مكانا، فحملها على عنقه و هو ينوء تحت ثقلها. و ولج بعضهم الرياض و نسى المركب و اشتغل بالتفرّج في تلك الازهار و التناول من تلك الثمار و هي في تفرّجه غير ملتفت الى النكبات، فلمّا رجع الى السفينة، لم يصادفها، فبقى على الساحل، فافترسته السباع و الهوام، فهذه صورة مثال الخلق في الدنيا فتأمّل.

ص: 235

[سورة البقرة (2): آية 91]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

بيان لنوع آخر من قبائح أفعالهم «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ»:

اى و إذا قال اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليهود اهل المدينة و من حولها آمنوا بما انزل اللّه من الكتب الالهيّة جميعا «قالُوا نُؤْمِنُ»: اى نستمرّ على الايمان «بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا»: يعنى التوراة «وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ»: يريد الإنجيل و القرآن و ما سوى التوراة من الكتب المنزلة «وَ هُوَ الْحَقُّ» اى و الحال انّ ما وراء التوراة هو الحق، يعنى القرآن «مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» اى حالكون القرآن موافقا للتوراة و فيه ردّ لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة، فقد كفروا بالتوراة «قُلْ» يا محمّد تبكيتا لهم من جهة اللّه لبيان التناقض، بين أقوالهم و أفعالهم «فَلِمَ» أصله لما، لامه للتعليل دخلت على، ما، الّتى للاستفهام و سقطت الالف، فرقا بين الاستفهامية و الخبريّة «تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ»: صيغة الاستقبال لحكاية حال الماضي و هو جواب شرط مقدر: اى قل لهم ان كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون، فلاىّ شي ء تقتلون أنبياء اللّه من قبل و هو فيها حرام و أسند فعل الآباء، الى الأبناء، لرضاهم بفعل آبائهم و الآية دليل على انّ من رضى بالمعصية: فكانّه فاعل لها، لأنّ اليهود كانوا راضين بقتل آبائهم ايّاهم، فسمّاهم اللّه قاتلين «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»: جواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه اى ان كنتم مؤمنين، فلم تقتلونهم و هو تكرير للاعتراض و تشديد للتهديد.

[سورة البقرة (2): آية 92]

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)

من تمام التبكيت و التوبيخ و اللام للقسم «وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ» اى باللّه قد جاءكم موسى، ملتبسا بالمعجزات الظاهرة، من العصا و اليد و فلق البحر و نحوه «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ» الها من بعد مجيئي موسى بها «وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ»

ص: 236

[سورة البقرة (2): آية 93]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

«وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» التكرار في هذه البيانات و أمثالها لإيجاب الحجّة على الخصم. و المعنى اذكروا وقت أخذنا العهد و رفعنا فوقكم الجبل قائلين لكم:

«خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا»: اى اعملوا بما أمرتم به في التوراة و اسمعوا ما فيها سمع طاعة و قبول «قالُوا»: استيناف مبنيّ على سؤال سائل كأنّه قيل فماذا قالوا؟ فقيل قالوا: «سَمِعْنا» قولك «وَ عَصَيْنا» أمرك و لو لا مخافة الجبل ما قبلنا في الظاهر، فإذا كان حال إسلامهم هكذا، فكيف يتصوّر من اخلافهم الايمان.

«وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ» بيان لمكان الإشراب، اى حلّ حبّ العجل محلّ الشراب و اختلط به كما خلط الصبغ بالثوب: اى جعلوا شاربين حبّ العجل، نافذا في قلوبهم نفوذ الماء «بِكُفْرِهِمْ» اى بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك قيل: كانوا مجسّمة و حلوليّة و لم يروا جسما أعجب منه، فتمكّن في قلوبهم ما سوّل لهم السامريّ. و في القصص انّ موسى عليه السّلام لما خرج إلى قومه، أمر أن يبرد العجل بالمبرد، ثمّ يذرى في النهر، فلم يبق نهر يجري يومئذ إلّا وقع فيه منه شي ء، ثمّ قال لهم اشربوا منه، فمن بقي في قلبه شي ء من حبّ العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه.

«قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ»: اى بئس شيئا يأمركم بذلك الشي ء «إِيمانُكُمْ» بما انزل إليكم من التوراة.

و حاصل المعنى أنّه قل يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهؤلاء اليهود، بئس الشي ء الذي يأمركم به ايمانكم من حبّ العجل و قتل أنبياء اللّه و التكذيب بكتبه بزعمكم انّكم مصدقون

ص: 237

بالتوراة و تدعون بقولكم: نؤمن بما انزل علينا. و ليس المعنى أنّهم اشربوا حبّ العجل، جزاء على كفرهم، لأنّ محبّة العجل كفر قبيح و اللّه تعالى لا يفعل الكفر في العبد، لا ابتداء و لا جزاء، بل دعاهم إلى حبّ العجل، السامريّ، و زيّنه في قلوبهم. و قول من قال: فعل اللّه ذلك لهم، عقوبة و مجازاة على كفرهم، غلط فاحش- تعالى اللّه عمّا نسبوا إليه من هذه الأمور و أمثالها- و في اسناد الأمر الى الايمان تهكم و اضافة الايمان إليهم للإيذان بأنّه ليس بإيمان حقيقة كما ينبئ عنه قوله «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» بالتوراة و إذا لا يسوغ الايمان بها مثل تلك القبائح، فلستم بمؤمنين. و في هذا نفي عن التّوراة ان يكون يأمر لشي ء يكرهه اللّه و اعلام بأنّ الّذي يأمرهم بذلك أهواءهم.

اعلم: أنّ اعمال القلوب من مبدأ ظهورها إلى أن تظهر في الخارج على الجوارح بعضها معفوّة و بعضها غير معفوّة، فأوّل ما يرد على القلب هو الخاطر، فيخطر بباله الشي ء و تهيج رغبته اليه، فالأوّل حديث النفس، و الثاني هو رغبة النفس، يسمّى الميل ثمّ يحكم القلب بانّ هذا ينبغي ان يفعل و هذه الدرجة الثالثة، ثمّ يعزم على الفعل، فهذه اربعة احوال قبل العمل بالجارحة، فخاطر و ميل و اعتقاد و عزم، فالخاطر لا يؤاخذ به و كذلك الميل لأنّه لا يدخل تحت الاختيار و هما المرادان بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عفى عن امّتي ما حدّثت به أنفسهم. و الثالث و هو الاعتقاد؛ فهذا يؤاخذ به إذا كان اختياريّا و إلّا فلا. و العزم على الفعل فانّه يؤاخذ به، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المتقاتلين: انّ المقتول في النار، لأنّه كان حريصا على قتل صاحبه و هذا نصّ في أنّه من اهل النار بالعزم، قال اللّه: انّ السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا. و في عبارات الشيخ البهائي و الأنصاري في مبحث التجرّي بيانات في أهوائهم و قلوبهم. و ارض القلب لا ينبغي إفسادها و أعظم اسباب فسادها التحريف و لو في الجملة، فانّ الشرائع سنن موضوعة بين العباد فإذا تمسّك الخلق بها زال العدوان و لزم كلّ أحد شأنه فحقنت الدماء و ضبطت الأموال و حفظت الفروج، فكان ذلك صلاح الدنيا و صلاح القلوب. امّا إذا حرفت الشريعة او أهملت، فيقدم كلّ احد على ما يهواه، فيظهر الفساد في البرّ و البحر و من أعظم

ص: 238

اسباب فساد القلوب اظهار مقامات دينيّة بقول او عمل ظاهريّ، او تكلف حال لا يوافقه القلب مظهرا له على صورته الواقعيّة، تلبيسا على نفسه، او على الناس و محدثون عادات غير موافقة للشريعة و الطبيعة، مجبولة على التقليد و متابعة افعال أبناء نوعه و هذه مفسدة لأحوال القلب و هو لا يحسّ بها كيف انقلبت قلبه النهاية و انّه يقتصر على امور ظاهرها عبادات و باطنها عادات و لا يطلب حقائق الايمان و الإخلاص و التوجّه التامّ في الأعمال الخفيّة التي لا يطلع عليها إلّا اللّه.

[سورة البقرة (2): آية 94]

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94)

«قُلْ» لهم يا خير الأنبياء «إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ» ان صح قولكم ان لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا و انّ الجنّة لكم «خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ»: خاصّة بكم من دون محمّد و أصحابه «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ»: فاسئلوا الموت بالقلب و اللسان، فانّ من أيقن بدخول الجنّة اشتاق إليها و تمنّى سرعة الوصول الى النعيم و التخلّص من دار الكدّ و التعب و قرارة الاكدار لأنّه لا سبيل الى دخولها الا بعد الموت، فاستعجلوه «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» و مؤمنين و المؤمن ينبغي ان يكون فعله مصدّقا لقوله. و أصل الايمان افراد القديم عن الحدوث و نفي الشريك مطلقا، ثمّ الامتثال لأوامره تعالى، فإذا حصل هذا المعنى فقد تمّت السعادة.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لما دخل على يعقوب عليه السّلام، بشير يوسف عليه السّلام و بشّره بحياته، قال له يعقوب عليه السّلام: على اىّ دين تركته، قال: على دين الإسلام، قال يعقوب عليه السّلام: قد تمّت النعمة على يعقوب.

و اعلم يا أخي، انّ اصل الأصول و مناط القبول و مكفّر الخطايا و مستجلب العطايا، التوحيد. قال صاحب تفسير روح البيان، المولى إسماعيل الحقّي: حكى انّ رسول اللّه كان يحب اسلام دحية الكلبي، لأنّه كان تحت يده سبعمائة من أهل بيته و كان مطاعا عندهم و كانوا يسلمون بإسلامه و لذلك كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حريصا على إسلامه و كان

ص: 239

يقول: اللهمّ ارزق دحية الإسلام، فلما أراد دحية الإسلام، اوحى اللّه الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد صلاة الفجر، ان: يا محمد انّ اللّه يقرؤك السلام و يقول: إنّ دحية يدخل عليك الآن.

و كان في قلوب الأصحاب شي ء من دحية، من وقت الجاهليّة، فلمّا سمعوا ذلك، كرهوا ان يمكّنوا دحية فيما بينهم، فلمّا علم ذلك الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كره ان يقول لهم مكّنوا دحية، و كره ان يدخل دحية، فيوحّشوه، فيبرد قلبه عن الإسلام، فلمّا دخل دحية المسجد، رفع النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ردائه عن ظهره و بسطه على الأرض بين يديه فقال لدحية: هاهنا- و أشار الى ردائه- فبكى دحية من كرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و رفع ردائه و قبّله و وضع على رأسه و عينيه و قال: ما شرائط الإسلام، اعرضها علىّ. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ان تقول اوّلا، لا اله الّا اللّه، محمّد رسول اللّه. فقال دحية ذلك، ثمّ وقع البكاء على دحية. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما هذا البكاء و قد رزقت الإسلام. فقال: انّي ارتكبت خطيئة و فاحشة كبيرة، فقل لربّك، ما كفّارته، ان امرني أن أقتل نفسي، قتلتها و ان امرني ان اخرج من جميع مالي، خرجت، فقال: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ما ذلك يا دحية، قال: كنت رجلا من ملوك العرب و استنكفت ان تكون لي بنات، لهنّ ازواج، فقتلت سبعا من بناتي كلّهنّ بيدي، فتحيّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك حتّى نزل جبرئيل، فقال: يا محمّد انّ اللّه يقرؤك السلام و يقول: قل لدحية: و عزّتي و جلالي، انّك لما قلت: لا إله إلّا اللّه غفرت لك كفر ستّين سنة و سيّئات ستّين سنة، فكيف لا اغفر لك قتل البنات. فبكى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إلهي غفرت لدحية قتل بناته بشهادة أن لا إله إلّا اللّه مرة واحدة، فكيف لا تغفر للمؤمنين بشهادات كثيرة و بقول صادق و بفعل خالص.

[سورة البقرة (2): آية 95]

وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)

: لن، تأييد للنفي، اى لا يتمنّوا الموت، هؤلاء اليهود، ابدا «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ»: لحرصهم على الحيوة، لأجل استدراك شهوات أنفسهم و بسبب كثرة معاصيهم و مخالفتهم في دينهم «وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ»: و اللّه عالم بظلمهم في حقّ أنفسهم و مخالفتهم في كتابهم.

ص: 240

فيا مغرور لو نصحك ناصح، لم ترتكب الكبائر و تعير على الظلم، تعتل بالضرورة مع أنّ الضرورة لو كانت صادقة فبقدر الضرورة. ما أشبه عذرك بعذر الشارب المدّاح فما رعيت حقّ رعايتها و أدنى مراتب الرعاية أن يصون العبد نفسه من المخالفة عمّا كتب اللّه عليه من الأعمال و أعلاها أن يقف في سيره مع كلّ خطوة حتّى يصحّحه و يخرج عن عهدة ما عليه في تلك الخطوة من الآداب و ينسب هذا التوفيق إلى اللّه لا من فعل نفسه و لا يخلو من هذه الملكة ساعة واحدة، قال اللّه سبحانه: و من يعظّم حرمات اللّه فهو خير له عند ربّه: و المراد من الحرمات التحرج و التجنّب عن المخالفات و الامتثال بإتيان الأوامر، على سبيل التعظيم و الرغبة و الميل، لا على سبيل الكره، فإنّ العبد الكامل إذا عرف عظمة اللّه، يعبده طوعا، و لا يعبده عبادة العبيد كرها، إذ لو لا خوفه من العقوبة، لم يعبده، و لو لا طمعه المثوبة، لم يعمل فهو أجير، يعمل للاجرة فهو عبد الاجرة، لا عبد سيّده، فان الاجرة إنّما هي مطلوبة لمصلحة النفس و نفعها و راحتها، فعبادته إنّما هي لنفع نفسه، لكن لما كانت الطبقة العامّة لا يقدرون ان يأتوا بمثل هذه العبادة، فهم محكومون ان يعبدوا بالظاهر المتعارف، من مفاد ظاهر الكتاب و السنّة و تلك العبادة الكاملة للأولياء الخاصّة، كما قال امير المؤمنين عليه السّلام: ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنّتك، بل وجدتك أهلا للعبادة. لكن فليعلم الطبقة العامّة انّهم محكومون ان يعبدوا بالشروط المقرّرة في الكتاب و السنّة، لا ان يتسامحوا فيها من آدابها المفروضة و اوّل ادب العبادة، الإخلاص، و هو تصفية العمل من كلّ شوب و لو من الألف جزء واحد و من كمال الخلوص ان لا يعتدّ بعمله، بل يرى العامل، عمله محض الموهبة، أجراه اللّه على يده و لا يرى نفسه مستحقّا للثواب، فانّه لا حول و لا قوّة إلّا باللّه و يكون خجلا من عمله، مع بذل المجهود خوفا من القصور بحقّ العبوديّة، لأنّه عبد لسيّده، مأمور بالإخلاص عن النقصان و الشوائب و احتمال النقيصة و القصور كاف لخجله و العبد إذا ما هذّب عمله عن الشوب و النقصان، يحرم الخير الكثير و لا يكون له استقامة في الخدمة و يحصل له تلوّن، فيغلب الجسم

ص: 241

الروح و الهوى العقل و ينتكس الأمر و لا ينبعث له ذوق في العبادة و الخدمة، بل يحصل له فتور.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: آفة العبادة، الفترة يمرض القلب شيئا فشيئا، إلى أن يكره العبادة و يزيد إلى أن يصل الى درجة المنافقين، قال اللّه تعالى: وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى و هذا المرض بسبب التلوّن و عدم الاستقامة و لهذا شبّهوا الاستقامة بالرّوح الذي يتقوّى به البدن، فإذا فارق الروح البدن يتلاشى و يفنى. و الاستقامة على ما امر به من نهج السنة و لا يخترع من عند نفسه عبادة، فيقع في الشيطنة و يحرم بركة المتابعة.

[سورة البقرة (2): آية 96]

وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)

(وَ لَتَجِدَنَّهُمْ): و لتعلمنّ يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الوجدان العقلي و هو جار مجرى العلم، خلا انّه مختص بما يقع يد التجربة و نحوها عليه. و اللام لام القسم، اى و اللّه تجدن اليهود يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ): لا يتمنّون الموت. و التنكير للنوع و هي حياتهم الّتى هم فيها، لأنّها نوع من مطلق الحيوة (وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) اى انّ اليهود احرص على الحيوة من سائر الناس و من الذين أشركوا، قيل هم مشركو العرب و قيل هم المجوس، لأنّهم كانوا يحبّون ملكهم عشّ ألف نيروز و ألف مهرجان و المهرجان يوم الاعتدال الخريفي، كما انّ النيروز يوم الاعتدال الربيعي و هذا كقولك: زيدا سخى الناس و أسخى من هرم بن سنان.

(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ): بيان لزيادة حرصهم، اى يريد و يتمنّى و يحبّ احد هؤلاء المشركين ان يعطى البقاء و العمر ألف سنة. و لو، فيه معنى التمنّى و المجوس هم القائلون بيزدان و أهرمن و النور و الظلمة و الخير و الشر.

ص: 242

(وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ)، اى ما أحدهم من يزحزحه من النار تعميره و الزحزحة، التبعيد. و، با، زائدة للتأكيد و ان يعمّر، فاعل مزحزحه.

(وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) البصير: العالم بكنه الشي ء، اى عليم بخفيّات أعمالهم.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: طوبى لمن طال عمره و حسن عمله و من احبّه للفساد فقد ضلّ و لا ينجو ممّا يخاف، انتهى. و معلوم ان الموت ينزل على كل نفس، راضية كانت، او كارهة، روى شارح الخطب عن وهب بن منبه انّه قال: مرّ دانيال ببرية، فسمع يا دانيال قف تر عجبا، فوقف فلم ير شيئا، ثم نودي الثانية، قال فوقفت فظهر لي بيت يدعوني الى نفسه، فدخلت فإذا سرير مرصّع بالدر و الياقوت، فإذا النداء من السرير اصعد يا دانيال تر عجبا، فارتقيت السرير، فإذا فراش من ذهب مشحون بالمسك و العنبر، فإذا رجل عليه ميت، كانّه نائم و عليه من الحلىّ و الحلل ما لا يوصف و في يده اليسرى خاتم من ذهب و درّ و فوق رأسه تاج و على منطقته سيف اشدّ خضرة من البقل، فإذا النداء من السرير، ان احمل هذا السيف و اقرأ ما عليه، قال فإذا مكتوب عليه: سيف صمصام من عوج بن عنق بن عاد بن ارم و انّى عشت ألف عام و سبعمائة سنة و افتضضت اثنى عشر ألف جارية و بنيت أربعين ألف مدينة و خرجت بالجور و العنف عن حدّ الإنصاف و كان يحمل مفاتح الخزائن اربعمائة بغل و كان يحمل الى خراج الدنيا، فلم ينازعني احد من اهل الدنيا، فادعيت الربوبيّة، فأصابني الجوع حتّى طلبت كفّا من ذرة بألف قفيز من درّ فلم اقدر عليه، فمتّ جوعا، يا اهل الدنيا اذكروا الموت كثيرا و اعتبروا بي و لا تغرّنكم الدنيا كما غرّتنى، فانّ أهلي لم يحملوا من وزري شيئا.

قيل لكعب الأحبار: يا كعب حدّثنا عن الموت. قال: هو كشجرة الشوك، ادخلت في جوف ابن آدم فأخذت كلّ شوكة بعرق ثمّ اجتذبها رجل قوى شديد

ص: 243

الجذب، فقطع ما قطع و أبقى ما أبقى. و في الحديث: لو انّ شعرة من وجع الميّت وضعت على اهل السماوات و الأرضين، لماتوا أجمعين. و ان في القيامة لسبعين هولا و انّ ادنى هو لها ليضعف على الموت سبعين ضعفا. فعلى القلوب القاسية ان يعالجوا قلوبهم بحضور مجالس العلم و المواعظ و مشاهدة المحتضرين و ذكر الموت و شدائده.

فاستعد ليوم رجوعك و القلب القابل لان يكون عرش الرحمن، لا تجعله للذّة الفانية عرش إبليس و مربع الشيطان. و اعلم انّ كل ما خلق، خلق لأجل حكمة و ما امر به و ما نهى عنه لبقاء تلك الحكمة و حصولها و هذا القانون المنزل فائدته بقاء تلك الحكمة و حصولها، فلا تفتهم فيختلط امر المعاش و المعاد، فإذا جاوزت ذرّة من ذلك القانون، فبقدر التجاوز فسدت و نقصت الحكمة و هلمّ جرّا فكلّ ادب من آدابه من فعل تركته، او ترك فعلته يوجب نقصا في حاشية دينك، بل دين غيرك و غيّرت حكمة اللّه و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يطلع على الرجل من أصحابه كذبة فما ينجلي من صدره حتّى يعلم انّه أحدث توبة منها و تطهّر من تلك القذرة الباطنية و استقصاء الإنسان في الطهارة الباطنية واجب كالنجاسات الظاهرة فانّك تنكر على الشخص لو داس الأرض حافيا على فراشك و لا تبالي من مستقذرات باطنك و مهما لم ينقّ الإنسان باطنه من الخبائث، لم ينتفع من إيمانه و عباداته و لم يظهر أثرها، فانّ الذي مشتغل بالبئر و البالوعة و هو ملوّث كيف يتمكّن من الورود على الملك و يظهر هذه القذارات الباطنية على الجسم لمتابعة الهوى لا مادة الهوى و قد جبّل عليه و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما استعاذ من الهوى و لكن استعاذ من متابعته فقال: أعوذ بك من هوى متّبع و شحّ مطاع و لم يستعذ من وجود الشحّ، فانّه طبيعة النفس و لكن استعاذ من طاعته.

و معرفة دقائق متابعة الهوى، على قدر صفاء القلب و قلّة التلوّث، فانّ كثير التلوّث لا يصل له هذه المعرفة، فانّه قد يكون، يتّبع باستحلاء معاشرة الخلّان، او التجاوز في الأمور المباحة كالأكل و النوم و النكاح و هو لا يشعر بانّه متّبع الهوى، و لا يعلم المسكين انّه مادام حبّ عليه ان ينزع نفسه عن متابعة الهوى، فانّ النفس دائما

ص: 244

يشتهى هواها و نافرة عن العبوديّة و العبادة بسبب طلب الراحة و هيهات من هذه الفراغة الّا بعد الموت. قال اللّه تعالى: وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى و لكن اين أنت من نهى النفس و ما عرفت في ايّام عمرك الّا اتعاب السّن و النوم في الظلال و الكنّ و قد بنى على الهوى طبعك و غرس على محبّتها نبعك مع ان طارف الدنيا و تليدها نسج العناكب وضوء الحباحب فاستقبل الموت قبل هجومه، فلعلّه قرب ابان نجومه، فانّ ضرّ الذنوب سموم قاتلة و حجاب بين العبد و الرب و الحجاب إذا غلظ لا يرى من ورائه شي ء و من شرب السم فليبادر في القئي و الّا يهلكه.

[سورة البقرة (2): الآيات 97 الى 98]

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)

بيان أخر من قبائح اليهود و هذا الكلام لا بدّ له من سبب و هو انّه لمّا قدم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المدينة، أتاه عبد اللّه بن صوريا، فقال يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف نومك فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجي ء في أخر الزمان، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تنام عيني و لا ينام قلبي.

قال: صدقت يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبرني عن الولد، اىّ عضو من الرجل و اىّ من المرأة، فقال: امّا العظام و العصب و العروق فمن الرجل و امّا اللحم و الدم و الظفر و الشعر فمن المرأة، فقال: صدقت، فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله، او يشبه أخواله دون أعمامه، فقال، ايّهما غلب ماؤه ماء صاحبه، كان الشبه له، قال: صدقت، فقال:

أخبرني اىّ الطعام حرم إسرائيل على نفسه ففي التوراة انّ النبىّ الأمّي يخبر عنه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنشدكم باللّه الّذى انزل التوراة على موسى هل تعلمون ان إسرائيل مرض مرضا شديدا، فطال سقمه، فنذر للّه نذرا لئن عافاه اللّه من سقمه ليحرمنّ على نفسه احبّ الطعام و الشراب و هو لحمان الإبل و ألبانها، فقالوا: نعم، فقال له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص: 245

بقيت خصلة واحدة ان قلتها أمنت بك: اىّ ملك يأتيك بما تقول عن اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، جبرئيل، قال انّ ذلك عدونا، ينزل بالقتال و الشدّة و رسولنا ميكائيل، يأتي بالبشر و الرخاء، فلو كان هو الّذى يأتيك، آمنّا بك، فقال عمر: و ما مبدأ هذه العداوة؟ فقال ابن صوريا: انّ اوّل هذه العداوة انّ اللّه تعالى، انزل على نبيّنا، انّ بيت المقدس سيخرب في زمان رجل يقال له بختنصر و وصفه لنا، فطلبناه فلمّا وجدناه بعثنا لقتله رجالا، فدفع عنه جبرئيل و قال ان سلّطكم اللّه على قتله، فهذا ليس هو ذاك الّذى اخبر اللّه عنه: انّه سيخرب بيت المقدس؛ فلا فائدة في قتله، ثم انّه كبر و قوى و ملك و غزانا و خرّب بيت المقدس و قتلنا، فلذلك نتخذه عدوّا و امّا ميكائيل فانّه عدوّ جبرئيل! فانزل اللّه هاتين الآيتين.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) و جواب «من» محذوف، اى يكون عدوّا اللّه: (فَإِنَّهُ) يعنى جبرئيل (نَزَّلَهُ) اى القرآن، أضمره لوضوحه و كمال شهرته (عَلى قَلْبِكَ) بيان لمحلّ الوحى، فانّه القابل الأوّل و مدار الحفظ و الفهم، و حقّ صورة الكلام ان يقال: على قلبي، لكنّه جاء على حكاية قول اللّه (بِإِذْنِ اللَّهِ) و امره و تيسيره (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) حال كون القرآن موافقا لما قبله من الكتب الالهيّة من معارف التوحيد و بعض الشرائع (وَ هُدىً) الى دين الحقّ (وَ بُشْرى و مبشّرا بالجنّة مصدر بمعنى الفاعل (لِلْمُؤْمِنِينَ) فحينئذ لا وجه لمعاداته فلوا نصفوا، لأحبّوه و شكروا له صنيعه في انزاله ما ينفعهم.

فالمؤمن يشكر و الفاسق يكفر، قال الجنيد: الشكران لا تستعين بنعمه على معاصيه، فنعمة إدراكك تصرفها في الدهاء و قواك في المعاصي و مالك في اللهو، فمن لامك في معصية و نهاك عنها، فشكر هذه النعمة ان تحبّه لا ان تبغضه.

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) و مخالفا لأمره (وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ) أفردهما بالذكر لإظهار شرفهما، قال عكرمه: جبر، و ميك، و اسراف، هي العبد بالسريانيّة- و ايل و آئيل، هو اللّه و معناها عبد اللّه و عبد الرحمن قال الرازي في المفاتيح:

ص: 246

قرء ابن كثير، جبرئيل بفتح الجيم و كسر الراء من غير همزة و الكسائي و ابو عمر عن عاصم بفتح الجيم و الراء مهموزا و الباقون بكسر الجيم و الراء، غير مهموز على وزن قنديل و فيه سبع لغات، ثلاث منها ما ذكرناها و جرائل على وزن جراعل و جرائيل على وزن جراعيل و جرايل على وزن جراعل و جراين بالنون و منع عن الصرف للتعريف و العجمة.

(فَإِنَّ اللَّهَ) جواب الشرط و لم يقل فانّه، لاحتمال ان يعود الى جبرئيل و ميكائيل (عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) اى لهم، جاء بالظاهر ليدلّ على انّ اللّه انّما عاداهم لكفرهم

[سورة البقرة (2): آية 99]

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)

فقال ابن صوريا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد تلك السؤالات، ما جئتنا بشي ء نعرفه و ما انزل عليك من آية فنتّبعها، فانزل هذه الآية: (وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) اى و باللّه قد أنزلنا إليك آيات واضحة الدلالة على معانيها و على كونها من عند اللّه، (وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ): و ما يكفر بهذه الآيات الّا المتمردون في الكفر، الخارجون عن حدوده.

[سورة البقرة (2): آية 100]

أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)

(أَ وَ) الهمزة للإنكار و الواو للعطف على مقدّر يقتضيه المقام اى اكفروا بالبيّنات و «كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً» أراد به العهد الّذى بلغهم الأنبياء، ان يؤمنوا بالنبىّ الأمّي، او العهود الّتي كانت بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بين اليهود، فنقضوها لفعل قريظة و النضير عاهدوا ان لا يعينوا عليه احد، فنقضوا ذلك و أعانوا عليه قريشا يوم الخندق «نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» جماعة منهم «بَلْ أَكْثَرُهُمْ» اى اكثر المعاهدين «لا يُؤْمِنُونَ» و لا يعود الضمير الى فريق، لأنّ الفريق النابذة كلّهم غير مؤمنين، لكن من المعاهدين من آمن كعبد اللّه بن سلام و كعب الأحبار و غيرهما و قرء

ص: 247

ابو السمال او، بسكون الواو على انّ الالف و اللام في الفاسقون بمعنى الّذين، فيكون المعنى: و ما يكفر بها الّا الذين فسقوا او نقضوا عهد اللّه مرارا.

[سورة البقرة (2): آية 101]

وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)

«وَ لَمَّا جاءَهُمْ»: و لمّا جاء اليهود الّذين كانوا في عصر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» يعنى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن اكثر المفسّرين و قيل: أراد بالرسول، الرسالة و هذا القول ضعيف «مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» اى هو معترف بنبوّة موسى عليه السّلام و بصحّة توراة، او معنا من حيث انّ التوراة بشّرت بمقدم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإذا اتى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مجيئه تصديقا للتوراة «نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» اى ترك و القى طائفة منهم و انّما قال: من الّذين و لم يقل: منهم. لأنّه أراد علماء اليهود «كِتابَ اللَّهِ» يحتمل ان يريد به القرآن، او التوراة «وَراءَ ظُهُورِهِمْ» كناية عن تركهم العمل به، قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرءونه و لكن نبذ و العمل به، فحينئذ المراد: التوراة، ادرجوه في الحرير و الديباج و حلّوه بالذهب و الفضة و لم يحلّوا حلاله و لم يحرّموا حرامه، قال السدى: نبذوا التوراة و أخذوا بكتاب اصف و سحر هاروت و ماروت، قال قتادة: النابذون جماعة معدودة من علمائهم و لذا ذكر سبحانه: فريقا لأنّ الجمع العظيم و الجمّ الغفير و العدد الكثير، لا يجوز عليهم كتمان ما علموه، لأنّه خلاف المألوف من العادات الّا إذا كانوا عددا يجوز على مثلهم، التواطؤ على الكتمان «كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» انّه صدق و حقّ و المراد انّهم علموا و كتموا، بغيا و طمعا في الرياسة، او المراد كانّهم لا يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب.

ص: 248

[سورة البقرة (2): آية 102]

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 299

وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)

و اتّبع اليهود، عطف على ما تقدّم من انّه نبذ فريق من اليهود كتاب اللّه وراء ظهورهم و اختلف في اليهود، فقيل: المراد اليهود الذين كانوا على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: انّهم اليهود الذين كانوا في زمن سليمان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: المراد به الجميع لأنّ متّبعي السحر لم يزالوا منذ عهد سليمان الى ان بعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اى اتبع اليهود ما يقرء الشياطين، من السحر و النيرنجات على عهد سليمان و زعموا بزعمهم الباطل انّ سليمان عليه السّلام كان كافرا ساحرا ماهرا به و نال ما نال و ملك ما ملك و قدر ما قدر و قالوا و نحن ايضا نعمل به و نظهر العجائب حتّى ينقاد الناس لنا و نستغني عن الانقياد لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

القمي و العياشي عن الباقر عليه السّلام قال: لمّا هلك سليمان عليه السّلام وضع إبليس السحر و كتبه في كتاب و طواه و كتب على ظهره: هذا ما وضعه اصف بن برخيا للملك سليمان بن داود، من ذخائر كنوز العلم، من أراد كذا و كذا، فليفعل كذا و كذا، ثم دفنه تحت سرير سليمان، فدلّاهم عليه و قرأه عليهم، فقال الكافرون:

ما كان يغلبنا سليمان الا بهذه و قال المؤمنون: بل هو عبد اللّه و نبيّه، فقال اللّه «وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ» اى على عهده، اوفى عهده،

ص: 249

فكذّبهم اللّه، و قال «وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ» و لا استعمل السحر، كما قال هؤلاء الكفرة «وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» قرء، لكن، مخفّفة و مشدّدة و على قراءة التّخفيف ملغاة عن العمل و رفع اسم ما بعدها، اى و لكن كفر الشياطين بتعليمهم الناس السحر الّذى نسبوه الى سليمان (وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) و بتعليمهم ايّاهم ما انزل على الملكين «بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ» قال الصادق عليه السّلام: و كان بعد نوح كثر السحرة و المموّهون فبعث اللّه ملكين الى نبىّ ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة و ذكر ما يبطل به سحرهم و يردّ به كيدهم، فتلقّاه النّبى عن الملكين و ادّاه الى عباد اللّه بأمر اللّه و أمرهم ان يقفوا به على السحر و ان يبطلوه و نهاهم عن ان يسحروا به الناس و هذا كما يدلّ على كيفيّة السمّ و على ما يدفع به غائلة السمّ، ثمّ يقول لمتعلّم ذلك العلم هذا السمّ فمن رايته سم، فادفع غائلته بكذا و إياك ان تقتل بالسمّ أحدا، قال و ذلك النبىّ امر الملكين، ان يظهرا للناس بصورة بشرين و يعلماهم ما علموا و ذلك قوله «وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ» ذلك السحر و إبطاله (حَتَّى يَقُولا) للمتعلّم «إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ» امتحان للعباد ليطيعوا اللّه فيما يتعلّمون من هذا و يبطلوا به كيد السحر و لا تسحروا «فَلا تَكْفُرْ» ايّها المتعلّم باستعمال هذا السحر و طلب الإضرار به و دعاء الناس الى ان يعتقدوا انّك تفعل ما لا يقدر عليه الّا اللّه، فانّ ذلك كفر «فَيَتَعَلَّمُونَ» يعنى طالبي السحر «مِنْهُما» اى ممّا تتلوا الشياطين على عهد سليمان و ممّا انزل على الملكين ببابل من هذين الصنفين «ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ» يتعلّمون للإضرار بالناس و التفريق بين الزوج و الزوجة و بين المتحابين و ما يؤدّى عمله الى الفراق بينهما «وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» اى لا يضرّون بذلك السحر الّا بتخلية اللّه، فانّه تعالى لو شاء لمنعهم بالقهر و قيل: معنى باذن اللّه بعلم اللّه.

قال صاحب كتاب نصاب الاحتساب: انّ الرجل إذا لم يقدر على مجامعة اهله و قدر على ما سواها، فانّ المبتلى بذلك يأخذ حزمة من القصب و يطلب فأسا

ص: 250

ذا فقارين و يضعه في وسط تلك الحزمة ثمّ يؤجج نارا في تلك الحزمة حتّى إذا حمى الفأس استخرجه من النار وبال على حوّة فيبرأ باذن اللّه.

«وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ» لأنّهم إذا عملوا السحر و تعلّموا ليسحروا به، فقد تعلّموا ما يضرّهم في دينهم، فانّهم ينسلخون عن دين اللّه بذلك «وَ لَقَدْ عَلِمُوا» اى علم هؤلاء المتعلّمون «لَمَنِ اشْتَراهُ» قيل: اللام، في لمن اشتراه، لام الابتداء و قيل لام القسم، و «مِنْ» قيل شرطيّة و الجواب «ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» و قيل: من، موصولة، اى و اللّه لقد علم الّذى اشترى السحر ماله في الآخرة من نصيب في الجنّة «وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» اى بئس ما باعوا به حظّ أنفسهم من نصيب الجنّة حيث اختاروا التكسب بالسحر لداعية الفرار من التكليف و حبّ الدنيا لو كانوا يعلمون كنه ما يصيرون اليه من العقاب الدائم.

فان قيل: كيف اثبت سبحانه لهم العلم في قوله و لقد علموا، ثمّ نفاه عنهم في قوله: لو كانوا يعلمون، فالجواب: انّ الّذين علموا، غير الّذين لم يعلموا، فالّذين علموا، هم الّذين علموا السحر و دعوا الناس الى تعلّمه و هم الّذين نبذوا كتاب اللّه و امّا الجهّال الذين يرغبون في تعلّم السحر، فهم الّذين لا يعلمون، او انّ القوم واحد و لكنّهم علموا شيئا و جهلوا شيئا أخر، علموا انّه ليس لهم في الآخرة خلاق و لكن جهلوا ما حصل لهم لهذا الأمر، من العقوبة و النكال.

ثمّ في الآية قول آخر: و هو انّه قرأ، ملكين بكسر اللام، عن الضحّاك و ابن عبّاس، فقال الحسن: كانا علجين، أقلفين ببابل، يعلّمان الناس السحر و قيل: كانا رجلين، صالحين من الملوك، مستدلّا بأنّه لا يليق بالملائكة تعليم الباطل، لكن يمكن الجواب بأنّه تعليم الباطل لأجل معرفة بطلانه، ليس فيه ضرر كما شرح اوّلا، او انزلا و هما ملكان من الملائكة، انزلا لتعليم السحر، ابتلاء و امتحانا من اللّه للناس كما ابتلى قوم طالوت بالنهر، او انزلا تمييزا بينه و بين المعجزة لئلّا يغتر به الناس

ص: 251

و ذلك لأنّ السحرة كثرت في ذلك الزمان و استنبطت ابوابا غريبة في السحر و كانوا بذلك يدّعون النبوّة و الناس يصدّقونهم بالنبوّة، فبعث اللّه هذين الملكين ليعلّما الناس أبواب السحر، حتّى يتشخّص السحر عن المعجزة، فلهذه الحكمة انزل السحر على الملكين، لأنّ التشخيص بين المعجزة و السحر متوقّف على العلم بماهيّة السحر، فبعث اللّه هذين الملكين لتعريف ماهيّة السحر و قد نهيا الناس عن اعماله بقولهما: انّما نحن فتنة، فلا تكفر ايّها المتعلّم بعمله و هذا من احسن الأغراض و احسن الوجوه. و أنكر ابو مسلم في الملكين ان يكون السحر نازلا عليهما و قال:

انّ السحر لو كان نازلا عليهما، لكان منزله هو اللّه و ذلك غير جائز لأنّ السحر كفر و عبث و لا يليق به إنزال ذلك، لأنّ قوله تعالى و لكنّ الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر، يدلّ على انّ تعليم السحر كفر، فلو ثبت في الملائكة انّهم يعلّمون السحر، لزمهم الكفر و ذلك باطل و السحر لا يضاف الّا الى الكفرة و الفسقة و الشياطين، فكيف يضاف الى اللّه ما ينهى عنه و يتوعّد عليه العذاب و قد أجيب عن قول ابى مسلم قبيل هذا.

و بالجملة فعلى كونهما من الملائكة قالوا في سبب نزولهما و اختلفت الروايات في هذه القضيّة، حتّى في رواياتنا الخاصّة، فبعض منها يدلّ على وقوعها و بعض على عدم وقوعها كما في الصافي، قال الراوي: قلت لأبي محمّد الرضا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّ قوما عندنا يزعمون انّ هاروت و ماروت، ملكان من الملائكة، فانزلهما اللّه الى الدنيا و انّهما افتتنا بالزهرة و أرادا الزنا بها و شربا الخمر و قتلا النفس المحرّمة و انّ اللّه يعذّبهما ببابل و انّ السحرة منهما يتعلّمون السحر و انّ اللّه مسخ تلك المرأة بهذا الكوكب الّذى هو الزهرة، فقال الامام: معاذ اللّه من ذلك، انّ ملائكة اللّه معصومون، محفوظون من الكفر و المعاصي بألطاف اللّه، قال اللّه تعالى فيهم، لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون و قال اللّه تعالى، بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بامره يعملون. و عن الرضا عليه السّلام، انّه سئل عمّا يرويه الناس من امر الزهرة و انّها كانت امرأة فتن بها هاروت و ماروت و ما يروونه من امر سهيل انّه كان عشارا باليمن،

ص: 252

فقال عليه السّلام: كذبوا في قولهم و ما كان اللّه ليمسخ أعدائه أنوارا مضيئة، ثمّ يبقيها مادامت السموات و الأرض و انّ المسوخ لم يبق اكثر من ثلاثة ايّام و ما يتناسل منها شي ء و ما على وجه الأرض، اليوم مسخ و انّ الّتى وقع عليها اسم المسوخيّة مثل القرد و الخنزير و الدّب و أشباههم انّما هي مثل ما مسخ اللّه على صورها و امّا هاروت و ماروت.

فكانا ملكين، علما الناس السحر ليحترزوا به سحر السحرة و يبطلوا به كيدهم و ما علّما أحدا من ذلك شيئا الّا قالا له: انّما نحن فتنة فلا تكفر، فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه و جعلوا يفرّقون بما تعلّموا بين المرء و زوجه- انتهى.

قال الفيض: أقول و امّا ما كذّبوه عليهم السلام من امر هاروت و ماروت فقد ورد عنهم في صحّتها ايضا روايات، القمّى و العياشي عن الباقر عليه السّلام: انه سئله عطا عن هاروت و ماروت، فقال: انّ الملائكة كانوا ينزلون من السماء الى الأرض في كلّ يوم و ليلة يحفظون اعمال اوساط اهل الأرض من ولد آدم و الجنّ و يعرجون بها الى السماء، فضجّ اهل السماء من اعمال اوساط اهل الأرض في المعاصي و الكذب على اللّه و جرأتهم عليه سبحانه و نزّهوا اللّه عمّا يقولون و يصفون، فقالت طائفة من الملائكة: يا ربّنا اما تغضب ممّا يعمل خلقك في أرضك و ممّا يصفون فيك الكذب و عمّا يرتكبونه من المعاصي الّتي نهيتهم عنها و هم في قبضتك، فاحبّ اللّه يرى الملائكة سابق علمه في جميع خلقه و يعرفهم ما منّ به عليهم ممّا طبعهم عليه من الطاعة و عدل به عنهم من الشهوات الانسانيّة، فأوحى اللّه إليهم ان انتدبوا منكم ملكين حتّى أهبطهما الى الأرض و أجعل فيهما الطبائع البشريّة من الشهوة و الحرص و الأمل كما هو في ولد آدم، ثمّ اختبر هما في الطاعة الىّ و مخالفة الهوى، قال:

فندبوا لذلك هاروت و ماروت و كانا من اشدّ الملائكة في العيب لولد آدم و استيثار غضب اللّه عليهم، فأوحى اللّه إليهما ان اهبطا الى الأرض، فقد جعلت فيكما الشهوات، كما جعلتها في بنى آدم و انّى آمركما ان لا تشركا بي شيئا و لا تقتلا النفس الّتى حرّمتها و لا تزنيا و لا تشربا الخمر، ثمّ اهبطا الى الأرض في صورة البشر و لباسهم، فهبطا ناحية

ص: 253

بابل، فرفع لهما بناء مشرف، فأقبلا نحوه فإذا ببابه امرأة حسنة، جميلة، حسناء، متزيّنة، مستبشرة، مسفرة نحوهما؛ فلمّا تأمّلا حسنها و جمالها و ناطقاها وقعت من قلبهما اشدّ موقع و اشتدّت بهما الشهوة الّتي جعلت فيهما، فما لا إليها ميل فتنة و خذلان و حادثاها و راوداها عن نفسها. فقالت لهما انّ لي دينا أدين به و ليس في ديني أن أجيبكما الى ما تريدان، الّا ان تدخلا في ديني، فقالا: و ما دينك، فقالت: انّ لي الها من عبده و سجد له فهو من ديني و انا مجيبه لما يسأل منّى، فقالا: و ما إلهك، فقالت، الهى هذا الصنم، فنظر كلّ الى صاحبه، فقالا: هاتان خصلتان ممّا نهينا عنه، الزّنا و الشرك، لأنّا إذا سجدنا بهذا الصنم و عبدناه، أشركنا باللّه و هوذا، نحن نطلب الزنا و لا نقدر على مغالبة الشهوة فيه و لن يحصل بدون هذا، قالا لها: انّا نجيبك الى ما تريدين، قالت: فدونكما هذه الخمر، فاشربا، فانّها قربان لكما منه و به تبلغا مرادكما، فائتمرا بينهما. و قالا: هذه ثلاث خصال نهينا عنها و انّا لا نقدر على الزنا الّا بهاتين، ما أعظم البليّة بك، قد أجبناك، قالت فدونكما اشربا، فشربا و سجدا، ثمّ راوداها، فلمّا تهيّأت لذلك، دخل عليها سائل، فرآهما على تلك الحالة، فذعرا منه، فقال السائل ويلكما قد خلوتما بهذه المرأة العطرة الحسناء و قعدتما منها على مثل هذه الفاحشة، إنكما لرجلا سوء، لأفعلنّ بكما و خرج على ذلك فنهضت و قالت: لا و الهى لا تصلان الآن الىّ و قد اطّلع هذا الرجل علينا و عرف مكانكما و هو لا محالة مخبر بخبركما، فبادرا و اقتلاه قبل ان يفضحنا جميعا، ثمّ دونكما فاقضيا وطركما مطمئنين آمنين، فاسرعا الى الرجل، فأدركاه، فقتلاه، ثمّ رجعا إليها فلم يرياها و بدت لهما سوآتهما و نزع عنهما رياشهما و سمعا هاتفا: إنكما اهبطتما الى الأرض بين البشر من خلق اللّه ساعة من النهار، فعصيتماه بأربع من كبار المعاصي و قد نهاكما ربّكما عنها فلم تراقباه و لا استحييتما منه و قد كنتما اشدّ من نقم و لام على اهل الأرض المعاصي و لما جعل فيكما من طبع خلقة البشرى و كان قد عصمكم

ص: 254

من المعاصي، كيف رأيتم موضع خذلانه فيكم، قال عليه السّلام: و كان قلبهما من حبّ تلك المرأة ان وصفا و أسسا طرايق من السحر، ما تداوله اهل تلك الناحية. قال الامام عليه السّلام: فخيّرهما اللّه بين عذاب الدنيا و عذاب الآخرة، فقال احد هما لصاحبه:

نتمتّع من شهوات الدنيا الى ان نصير الى عذاب القيامة، فقال الاخر: انّ عذاب الدنيا له انقطاع و عذاب الآخرة لا انقضاء له و ليس حقيق بنا ان نختار عذاب الآخرة، الدائم الشديد، على عذاب المنقطع، قال عليه السّلام: فاختارا عذاب الدنيا و كانا يعلّمان الناس، السحر، بأرض بابل، فرفعا من الأرض الى الهواء، فهما معذّبان، منكوسان، معلّقان في الهواء الى يوم القيامة و قيل: يضربان بسياط من حديد الى يوم القيامة و روى: انّه استشفع لهما إدريس فخيّرا بين العذابين، فاختارا عذاب الدنيا، قيل، هما في بئر بابل من نواحي الكوفة معلّقان بشعورهما، او بأرجلهما، قال مجاهد:

ملئ الجبّ نارا فجعلا فيه و قيل: يعذّبان بالعطش، لأنّه إذا قلّب اللّه بنيتهما بنية البشر، خرجا عن الملكيّة و يحتاجان الى ما يحتاج اليه البشر، فحينئذ يندفع الأشكال ان صحّ هذا القول و لعلّ اختلاف الأقوال من المرموزات و الّذى خوطب بالقرآن، اعرف به، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اتّقوا الدنيا، فو الّذى نفس محمّد بيده، انّها لا سحر من هاروت و ماروت.

إياك ان تسحرك الدنيا بلذاتها و علاقتها، فتبتّل الى اللّه و احترز عن النفس، فانّ أباك آدم أصبح محسود الشياطين و مسجود الملائكة و على رأسه تاج الكرامة و على جسده لباس الوصلة و في وسطه نطاق القربة و في جيده قلادة الزلفى يتوالى عليه النداء كلّ لحظة، يا آدم، يا آدم، فلم يمس حتّى نزع عنه لباسه و سلب منه استيناسه فإذا كان شؤم زلّة، او صغيرة واحدة كذلك، فكيف بك. و لذلك كان المخلصون يحترزون من المباحات، فاعرض عن ملاذ الدنيا و اعتزل عن ابنائها، فطوبى لمن عوّد نفسه بالعزلة، فتمّت له النعمة و يكون أنسه باللّه و بسبب العزلة لا يتيسّر له اسباب المعاصي، اما سمعت قضيّة ابى بكر الورّاق و

ص: 255

كان مشيّقا منذ زمان ان يرى الخضر و كان لهذا الأمر قرب عشرين سنة، كان يخرج كلّ صباح الى المقابر و يقرء جزوا من الكتاب الكريم، ثمّ يرجع، قال الى ان اتّفق يوما في الطريق، رأيت شيخا نورانيا، فسلّم علىّ، فقال: هل تحبّ ان اصاحبك الى المقابر، فصاحبني، فاشتغلت بكلامه الى ان رجعت، فلمّا وصلنا الى باب البلدة، قال لي: كنت تشتاق ان ترى الخضر، فنلت الى مرامك اليوم، لكن بمصاحبتي فاتك قراءة الجزء و هاك نصيحة، فعليك بالاعتزال و غاب عنّى، و ابو بكر هو الّذى مات ابنه لمّا سلّمه الى المعلّم لقراءة القرآن، فلمّا وصل الى هذه الآية «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» غلب الخوف على هذا الطفل، بسبب قراءة هذه الآية الى ان مرض و توفّي.

و أنت تسعى في عمرك لدفع ضرّ او جلب نفع لئلا تحتاج لتمتّع من نيل مشتهياتك مع انّ ما هو سبب عزتك و نيلك الشهوات سبب ذلّتك في الآخرة و طول الحساب، فاخلع نعليك و فرّغ قلبك عن علائق الدنيا، حتّى تصل الى واد المقدّس من القرب من غير مانع، فانّ النعلين حاجبتان بين مساس رجليك و بساط القرب و لا تتجوهر النفس الّا بزوال الاعراض الفاسدة من الشهوات، فاجهد في العمل و لا تجحد، لكن تستبعد هذا المعنى و الحقّ معك لأنّك معصّب العين بعصابة حطام الدنيا و لذا همّتك ضعيفة، اين كثافة الكثيف و المقام الشريف و أول ما عليك استماع الزواجر و الآيات المخوّفة الرّادعة القرآنيّة، هذا إذا كنت مبتديا و ان كنت منتهيا، فالوعديّة و التشويقيّة، كما قيل: خوّفوا المبتدي و شوّقوا المنتهى؛ فانّه لا بدّ للجمل من حاد لقطع البوادي.

أنت ارضىّ و الأرض تحيى بوابل المطر، فتربو و تنبت، ثمّ ان كنت كثير الأكل قلّل في أكلك شيئا فشيئا، فلو يصعب عليك هذا الأمر لأنّ العادة طبيعة خامسة، فزن اوّل يوم مأكلك بعود رطب، فانقص كلّ يوم على قدر جفاف العود و اذكر الحديث: أكثركم شبعا في الدنيا، أطولكم جوعا يوم القيامة، فكن من اصحاب اليمين ان لم تكن من المقرّبين و اعلم انّه ما بينك و بين القيامة الّا ايّاها، فانّه جميع ما في الكبرى، في الصغرى، لكن في الكبرى اشدّ، فاجمع بين المقال و الحال و العلم و العمل و اتبع الراسخين في العلم و علماء الآخرة الذين ليس لهم رغبة في هواهم و لا يطلبون الدنيا

ص: 256

الّا بقدر الحاجة، بل لا يناظرون الّا لإظهار الحقّ لا الغلبة و لا صيقل كلام و لا نقض في الحديث الصحيح و لا تأويل باطل في متن آية محكمة و لا مزاعقة و لا مخاصمة، بل على طريق الفائدة و الكشف، لا المشتغلين لأجل الدنيا و الرياسة.

في الحديث: انّ العلم يهتف بالعمل فان اجابه و الّا ارتحل. المحبوب من العلم هو العلم الّذى ينفعك في الآخرة، فاطلبه و اعمل به و لا تطلب علما ينفعك في دنياك و يضرّك في آخرتك، ففي العلوم ما يضرّ مثل علم السحر و صبغ الصفر إذا قلّبها بالصناعة فضة و كذلك بعض العلوم الّتى تشغلك عن امر دينك، فكما انّ في المكاسب، مكاسب خسيسة، تأباها النفوس الشريفة، كالحفر و الكناسة و الحجامة و كما في الرياح مورق و محرق، كذلك العلوم، فالعلم النافع، هو الّذى لو عملت به يجعلك في جنّات و نهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فاكتسب من جواهر الأعمال، تشرّف بها عند عرض البضايع، فمثالك في العمل و البطالة كجماعة سافروا في الظلمات، فقال لهم الخبير بالمكان: احملوا من حصاها، تغنموا، فالمطيع و صاحب حسن الظنّ حمل فأوقر و المتشكّك البّطال ما حمل، فلمّا خرجوا الى الضوء شاهدوا بضائعهم، فإذا درّ و جواهر، فندم البّطال، فاقبل قول المتشرّع الصادق، و دع كبرك و توانيك و قلّل شبعك و من النوم عينك و احفظ بطنك من الحرام، فأنت العاجز الّذى تؤذيك البقّة و تقتلك الشرقة، قنعت من نعيم الجنّة بحلاوة في الدنيا من نحلة: بخبزة من تبنة و تعلم انّك غدا مستور بلبنة، مع انّك مؤاخذ بنعيمك، قال اللّه: لتسألنّ يومئذ عن النعيم و كن موقنا بما أمرك الشارع و لا تكن ضعيف اليقين في الدين و ضعف اليقين و الشك يوردك الهلكة و يورث الغفلة و البطالة.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حبّك الشي ء يعمى و يصمّ. مراده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ من الحبّ ما يعمى عن طريق الحقّ و يصمّك عن استماع الرشد و يعمى العين عن النظر الى مساويه.

قال الرازي: انّ لفظ السحر في عرف الشرع مختصّ بكل امر يخفى سببه و بتخيّل

ص: 257

على غير حقيقته و يجرى مجرى التمويه و الخداع و متى اطلق و لم يقيّد، أفاد ذم فاعله، قال اللّه تعالى. و سحروا أعين الناس اى موّهوا عليهم حتّى ظنّوا انّ حبالهم و عصيّهم تسعى. و قال: يخيّل اليه من سحرهم انّها تسعى. و قد يستعار لفظ السحر فيما يحمد و يمدح.

روى انّه قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، زبرقان بن بدر و عمرو بن الأهتم، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لعمرو: خبّرنى عن زبرقان، فقال: مطاع في ناديه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره، فقال زبرقان: هو و اللّه يعلم انّى أفضل منه، فقال عمرو: انّه ذميم المروّة، ضيق العطن، أحمق الأب، لئيم الخال، يا رسول اللّه، صدّقت فيهما، أرضاني فقلت احسن ما علمت و اسخطنى فقلت أسوأ ما علمت، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّ من البيان لسحرا، فسمّى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعض البيان سحرا، لأنّ صاحبه يتصرّف في الذهن بكلامه اللطيف و يوضح الشي ء المشكل، فأشبه السحر الّذى يستميل القلوب بأعماله و يستنفر و لأنّ المتكلّم يحسن ما يكون قبيحا و يقبح ما هو حسن، قال الشاعر:

في زخرف القول تزيين لباطله و الحق قد يعتريه سوء تعبير

تقول هذا حجال النحل تمدحه و ان ذممت فقل قي ء الزنابير.

[سورة البقرة (2): آية 103]

وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)

«وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا»: الضمير راجع الى اليهود اى أمنوا بالقرآن و النبىّ «وَ اتَّقَوْا» الشرك و السحر «لَمَثُوبَةٌ» مفعلة من الثواب و ثاب اى رجع و سمّى الجزاء ثوابا، لأنّه عوض عمل المحسن، يرجع اليه و مثوبة، مبتداء جواب «لو» و التنكير للتقليل، اى شي ء قليل من الثواب «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ» خير، خبر المبتداء، أصله: لأثيبوا مثوبة من عند اللّه خيرا ممّا شروا به أنفسهم، فحذف الفعل و غيّر السبك الى ما عليه المنظم الكريم، للدلالة على اثبات المثوبة لهم و الجزم بخيريّتها و حذف المفضّل عليه،

ص: 258

إجلالا للمفضّل من ان يكون طرف النسبة «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» انّ ثواب اللّه خير.

[سورة البقرة (2): آية 104]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»: خاطب اللّه المؤمنين في القرآن بقوله: يا ايّها الذين أمنوا، في ثمانية و ثمانين موضعا، قال ابن عباس: و كان تعالى يخاطب اليهود اوّلا في التوراة بقوله: يا ايّها المساكين و لمّا اعتدوا على أنبيائه و خالفوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، اثبت لهم المسكنة اخرا «لا تَقُولُوا» لرسول اللّه «راعِنا»: المراعاة المبالغة في الرعي و هو حفظ الغير و تدارك مصالحه، كان المسلمون يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا القى عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول اللّه، اى تأنّ بنا و انتظرنا حتّى نفهم كلامك و كانت هذه الكلمة لليهود، كلمة عبرانيّة او سريانيّة يتسابّون بها فيما بينهم، فلما سمعوا قول المؤمنين: راعنا، يخاطبون الرسول افترصوه و خاطبوا به الرسول و هم يعنون به تلك المسبة، فنهى اللّه تعالى المؤمنين عنها قطعا لألسنة اليهود عن التلبيس و أمروا بما هو في معناها و لا يحتمل التلبيس فقال «وَ قُولُوا انْظُرْنا» اى انتظرنا من نظره إذا انتظره «وَ اسْمَعُوا» بآذان واعية و أذهان حاضرة، حتّى لا تحتاجوا الى الاستعادة «وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» و للذين تهاونوا برسول اللّه، عذاب موجع لما اجترءوا على الرسول من المسبّة. و في الآية دلالة على تجنّب الألفاظ المحتملة الّتى فيها التعريض. و المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يبلغ العبدان يكون من المتّقين، حتّى يدع ما لا بأس به، حذرا ممّا به البأس و قال: انّ من الكبائر، شتم الرجل أباه، قالوا: يا رسول اللّه و هل يشتم الرجل والديه، قال: نعم يسبّ أبا الرجل، فيسّب أباه و امّه، قال اللّه تعالى: و لا تسبّوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبّوا اللّه عدوا بغير علم. فمنع من

ص: 259

سبّ آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك، فالإنسان لا بدّ و ان يحترز عن الذريعة و هي عبارة عن امر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع و هذا معنى التعريض.

[سورة البقرة (2): آية 105]

ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

«ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا»: كان فريق من اليهود يظهرون المحبّة للمؤمنين و يزعمون انّهم يودّون لهم الخير، فنزلت الآية و نفى سبحانه عن قلوبهم الودّ و المراد من نفى الودّ، الكراهة، اى ما يحبّ الذين كفروا «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ» و المعنى انّ الكفّار بأجمعهم لم يحبّوا «أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ» اى على نبيّكم، لأنّ المنزل عليه، منزل على أمته «مِنْ خَيْرٍ» و «مِنْ» مزيدة لاستغراق الخير. و الخير، الوحى و القرآن و النصرة «مِنْ رَبِّكُمْ» اى انّهم يرون أنفسهم احقّ بان يوحى إليهم، فيحسدونكم بناء على انّهم اهل الكتاب و الوحى و أبناء الأنبياء، الناشئون في مهابط الوحى و أنتم اميّون. و امّا المشركون، فادلالا بما كان لهم من النجدة و الجاه زعما منهم انّ رئاسة الرسالة كسائر الرياسات الدنيويّة و لذا قالوا لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. و هم كانوا يتمنّون ان يكون النبوّة في احد الرجلين: نعيم بن مسعود الثقفي بالطائف و وليد بن مغيرة بمكّة، فأجاب اللّه بقوله «وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» و مفعول، من يشاء، محذوف. و المراد بالرحمة:

النبوة و الوحى و الحكمة و النصرة و ليس لاحد عليه حقّ «وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» على من يختاره بالنبوّة و الوحى، فمن حسد بعبد من عباد اللّه بنعمة خصّه بها فقد بارز اوّلا، ربّه، لأنّه يتسخّط قسمته تعالى، فكانّه يقول لربّه: لو قسمت هكذا و الثاني: انّ فضل اللّه يؤتيه من يشاء و هو يبخل بفضله و الثالث: انّه يريد خذلان ولىّ اللّه و زوال النعمة عنه و الرابع: انّه أعان عدوّ اللّه يعنى إبليس. ثمّ انّ حسدك

ص: 260

لا ينفذ على عدوّك بل على نفسك. قال امير المؤمنين عليه السّلام: قاتل اللّه الحسد ما اعدله، بدء بالحاسد قبل المحسود.

قال بكر بن عبد اللّه: كان رجل يأتى بعض الملوك و له مكانة عنده، فحسده رجل على تلك المكانة، فسعى به الى الملك و قال انّ هذا الرجل يزعم انّ الملك ابخر، فقال الملك و كيف يصحّ ذلك عندي، قال: تدعو به إليك، فانظر فانّه إذا دنا منك يضع يده على انفه، ان لا يشمّ ريح البخير، فخرج من عند الملك و دعا الرجل الى منزله، فأطعمه طعاما فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، فقام بحذاء الملك و يكلّم مع الملك على عادته، فقال الملك له: ادن منّى، فدنا منه، واضعا يده على فيه، مخافة ان يشمّ الملك منه ريح الثوم، فلمّا رأى الملك ما فعل، صدّق في نفسه قول الساعى.

و كان عادة الملك ان لا يكتب بخطّه الّا الجائزة، فكتب له بخطّه الى عامل له: إذا أتاك الرجل، فاذبحه و اسلخه و احش جلده تبنا و ابعث به الىّ، فأخذ الكتاب و خرج فلقيه الرجل الّذى سعى به، فاستوهب منه ذلك الكتاب و اخذه منه بأنواع التضرع و الامتنان زعما منه انّه الأمر بالجائزة و مضى به الى العامل، فقال العامل: انّ في كتابك ان أذبحك و اسلخك، قال: انّ الكتاب ليس هو لي، اللّه اللّه في امرى حتّى أراجع الملك، قال له العامل: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه و سلخه و حشى جلده تبنا و بعث به الى الملك، ثمّ عاد الرجل كعادته، فتعجّب الملك من مجي ء الرجل، فقال ما فعلت بالكتاب، قال لقيني فلان فاستوهبه منّى، فوهبته، قال الملك: انّه ذكر لي انّك تزعم انى ابخر، فقال كلّا، قال: فلم وضعت يدك على انفك، قال أطعمني طعاما فيه ثوم فكرهت ان تشمّه، قال: ارجع الى مكانك فقد كفى المسي ء إساءته.

[سورة البقرة (2): آية 106]

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106)

طعن اليهود في الإسلام، فقالوا الا ترون انّ محمّدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافه فنزلت الآية «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ»: النسخ في اللغة، الازالة و

ص: 261

النقل، يقال نسخت الريح الأثر، إزالته و نسخت الكتاب اى نقلته من نسخة الي نسخة و منه تناسخ الأرواح، المراد: التحوّل من واحد الى واحد و قرء ننسخ بضمّ النون و و النسوء هو التأخر و ننسها قرء بفتح النون و الجمهور من المسلمين على جواز النسخ و وقوعه و تمسّكوا بهذه الآية و آيات اخرى، مثل قوله: و إذا بدّلنا آية مكان آية و مثل قوله: يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده امّ الكتاب. و أنكر بعض، النسخ و وقوعه في القرآن، مثل ابى مسلم بن بحر و قال: انّ المراد من الآيات المنسوخة، هي الشرائع الّتي في الكتب المتقدّمة، من التوراة و الإنجيل، كالسبت و الصلاة الى المشرق و المغرب و حرمة لحم الإبل و أمثالها، لكنّ القائلين بوقوع النسخ، دلائلهم كثيرة و حججهم قويّة، مثل ان قالوا بوقوع النسخ في القرآن، انّ اللّه امر المتوفّى عنها زوجها بالاعتداد حولا كاملا و ذلك في قوله: و الّذين يتوفّون منكم و يذرون أزواجا وصيّة لأزواجهم متاعا الى الحول. ثمّ نسخ ذلك باربعة أشهر و عشرا بقوله:

و الذين يتوفّون منكم- الآية- و أجاب ابو مسلم: بانّ الاعتداد بالحول ما نسخ بالكليّة، لأنّها لو كانت حاملا و مدّة حملها حولا كاملا، لكانت عدّتها حولا كاملا و إذا بقي هذا الحكم في بعض الصور، كان ذلك تخصيصا لا ناسخا و هذا الجواب ضعيف و حجّة القائلين بوقوع النسخ، آية تقديم الصدقة عند نجوى الرسول و كذلك قوله: سيقول السفهاء ما ولّاهم عن قبلتهم الّتى كانوا عليها، ثمّ أزالهم عنها بقوله: فولّ وجهك شطر المسجد الحرام. و أجاب ابو مسلم: انّ حكم تلك القبلة ما زال بالكليّة لجواز التوجّه إليها عند الأشكال، او مع العلم إذا كان هناك عذر. و جوابه: انّ على الوصف الذي ذكره، لا فرق بين بيت المقدّس و سائر الجهات و بالجملة فعمدة دليل ابى مسلم في هذه المقولة، انّ اللّه وصف كتابه بانّه لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل و هذا ليس بدليل، لأنّ المراد انّ هذا القرآن لم يتقدّمه من كتب اللّه ما يبطله و لا يأتيه من بعده ايضا ما يبطله- انتهى- ثمّ انّ المنسوخ امّا ان يكون هو الحكم فقط، او التلاوة، او هما معا، امّا الأول: مثل آية عدّة الوفاة و هي: و الذين يتوفّون- الآية- و امّا الثاني: فكآية

ص: 262

الرجم، فكما روى انّ ممّا يتلى عليكم في كتاب الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما، فهو منسوخ التلاوة، دون الحكم و معنى النسخ في مثلها، انتهاء التكليف لقراءتها، اى نسخ تلاوتها و بقي حكمها و امّا الثالث الّذى منسوخ الحكم و التلاوة: قالت عائشة: كان تتلى في كتاب اللّه عشر رضعات يحرمن، ثمّ نسخ بخمس رضعات يحرمن، فهو منسوخ الحكم و التلاوة جميعا، ثمّ انّ النسخ يختصّ بالأوامر و النواهي، لكنّ الخبر لا يدخله النسخ ابدا، لاستحالة الكذب على اللّه، انتهى.

«أَوْ نُنْسِها» او نتركها على حالها، او نؤخّرها لوقت آخر لمصلحة و المعنى:

انّ كلّ آية نذهب بها على ما يقتضيه الحكمة «نَأْتِ بِخَيْرٍ» اى بآية و حكم هي خير «مِنْها» للعباد في النفع و الثواب و التفاضل فيها، بحسب ما يحصل منها الخير «أَوْ مِثْلِها» في المنفعة و الثواب، فكلّ ما نسخ الى الأيسر، فهو للسهولة للعباد و ما نسخ الى الاشقّ، فهو في الأجر اكثر، فالايسر: كنسخ الاعتداد في الوفاة و الاشقّ كنسخ ترك القتال بإيجابه و قد يكون النسخ بمثل الأوّل، لا اخفّ و لا اشقّ، كنسخ القبلة، فحينئذ طعن اليهود له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيكون هذه الآية ردا عليهم.

و الأنبياء هم المباشرون لإصلاح النفوس، مثل اطبّاء البدن للأجسام، و النسخة كتاب اللّه و تغيير الأعمال الشرعيّة و الاحكام الخلقيّة الّتى هي منزلة عليهم للنفوس بمنزلة العقاقير، فيغيّرها الشارع و هو اللّه على حسب مصالحها كما انّ الشي ء يكون دواء للبدن في وقت، ثمّ قد يكون داء في وقت آخر لكن لمّا ختمت النبوّة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كذلك ختمت المعالجة بالقرآن الّذى هو شفاء و لا يتغيّر بعده امر ابدا ما دامت السموات و الأرض، فمن حرّفه او بدّل فرعا من فروعه، فقد كفر به و خرج عن دين الإسلام، سواء تعلّق نظره بالمصلحة أم لا.

«أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» فيقدر على النسخ و الإتيان بمثل المنسوخ و بما هو خير منه.

آنكه داند دوخت او داند دريدهر چه را بفروخت نيكوتر خريد.

ص: 263

[سورة البقرة (2): آية 107]

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107)

«أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»: اى هو المالك للسموات و الأرض، فيفعل ما يشاء و يحكم ما يريد و هو كالدليل على قوله: انّ اللّه بكل شي ء قدير. و تخصيص السموات و الأرض بالذكر- و ان كان اللّه تعالى له ملك الدنيا و الآخرة جميعا- لكونهما أعظم المصنوعة «وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من، زائدة للاستغراق «مِنْ وَلِيٍّ» ناصر، قيّم بالأمور «وَ لا نَصِيرٍ» معين لكم، فلا يجوز الاعتماد على غيره و حسن منه الأمر و النهى و التغيير و التبديل و النسخ لكونه مالكا للخلق.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عباد اللّه أنتم كالمرضى و ربّ العالمين كالطبيب، فصلاح المرضى فيما يعمله الطبيب و يدبّره لا فيما يشتهيه المريض، الا فسلّموا اللّه امره تكونوا من الفائزين.

[سورة البقرة (2): آية 108]

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)

«أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ»: أم، على قسمين، متّصلة و منقطعة، فالمتصلة بمعنى همزة الاستفهام و المنقطعة بمعنى بل، و لا يكون الّا بعد كلام تامّ و في هذه الآية متّصلة و اختلفوا في المخاطب به، قيل: انّهم المسلمون، قالوا: كان المسلمون يسئلون رسول اللّه عن امور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها، كما سأل اليهود موسى و قيل: سأل قوم من المسلمين ان يجعل لهم النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات انواط كما كان للمشركين ذات انواط و هي شجرة كانوا يعبدونها و يعلقون عليها المأكول و المشروب، كما سألوا موسى ان يجعل لهم إلها كما لهم آلهة و القول الآخر: انّه خطاب لأهل مكة و هو قول ابن عباس و مجاهد قال: انّ عبد اللّه بن امية المخزومي

ص: 264

اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في رهط من قريش؛ فقال يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما او من بك حتّى تفجر لنا ينبوعا او تكون لك جنّة من نخيل و عنب او يكون لك بيت من زخرف او ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيّك حتّى تنزّل علينا كتابا من اللّه الى عبد اللّه بن اميّة انّ محمّدا رسول اللّه و قال له بقيّة الرهط فان لم تستطع ذلك فأتنا بكتاب من عند اللّه، جملة واحدة فيه الحلال و الحرام و الحدود و الفرائض، كما جاء موسى الى قومه بالألواح من عند اللّه فيها كلّ ذلك، فنؤمن لك عند ذلك، فانزل اللّه تعالى هذا الآية.

و القول الثالث: انّ الخطاب لليهود، قال الرازي: و هو الأصحّ، لأنّ هذه السورة من اوّل قوله: يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتي. حكاية عنهم و محاجّة معهم و لأنّ هذه السورة مدنيّة و جرى ذكر اليهود و ما جرى ذكر غيرهم.

و بالجملة: فالمعنى أ تريدون و تقترحون بالسؤال كما اقترحت بنوا إسرائيل سابقا على موسى ان تسألوا رسلكم و هو في تلك الرتبة من علوّ الشأن «كَما سُئِلَ مُوسى مشبّها بسؤال موسى «مِنْ قَبْلُ» محمّد متعلق بسئل، جي ء به للتأكيد «وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ» و يأخذه لنفسه «بِالْإِيمانِ» بمقابلته بدلا منه «فَقَدْ ضَلَّ» و عدل و جاز من حيث لا يدرى «سَواءَ السَّبِيلِ» عن الطريق المستقيم و تاه في تيه الهوى و تردّى في مهاوي الرّدى و سواء السبيل، وسط الطريق السويّ الذي هو بين الغلوّ و التقصير و هو الحقّ. و ليس للمؤمن ان يحبّ مالا يرضيه اللّه او يكره ما يرضى اللّه و متى ما لم يراع هذه المرتبة، يسقط عن رتبة الايمان الكامل، قال في بستان العارفين: مثل الايمان مثل بلدة لها خمسة من الحصون: الأوّل من الذهب و الثاني من فضّة و الثالث من حديد و الرابع من حبوكل و الخامس من لبن، فما دام اهل الحصن يعاهدون الحصن الّذى من اللبن، فالعدوّ لا يبلغ فيهم، فإذا تركوا الحصن الأوّل، طمع العدوّ في الثاني، ثمّ في الثالث حتّى خرب الحصون، فكذلك الايمان في خمسة من الحصون، اوّلها اليقين، ثمّ الإخلاص، ثمّ أداء الفرائض، ثمّ إتمام السنن، ثمّ حفظ الأدب فما دام يحفظ الأدب و يتعاهده، فانّ الشيطان لا يطمع فيه، فإذا ترك

ص: 265

الأدب، طمع اللعين في السنن، ثمّ في الفرائض، ثمّ في الإخلاص، ثمّ في اليقين، فينبغي ان يحفظ الأدب في جميع أموره، حتّى في المباحات و انّما ارتدّ من ردّ لعدم رعاية الأدب كإبليس و غيره من المردودين.

اعلم انّه لا يكفيك تزكية النفس عن البعض، حتّى تزكّى عن جميعها و لو تركت واحدا من الأخلاق السيّئة غالبا عليك، فذاك يدعوك الى البقيّة، مثل انّ الحسن، لا يحصل بحسن بعض الأعضاء ما لم يحسن جميع الأطراف، فانّك لو كنت يوسفي الوجه و كنت اعور، لست في زمرة الملاح و الصباح، فانّ الخلق و هو الصورة الظاهرة بسبب عيب يكون ناقصا، فكذلك الخلق و هو السيرة الباطنة، يكون معيبا و ناقصا، فانّ الإنسان مركّب من جسد يدرك بالبصر و من روح و من نفس يدرك بالبصيرة و لكلّ واحد منهما هيئة، امّا قبيحة او حسنة. و الروح و النفس أعظم قدرا و لذلك اضافة اللّه الى نفسه و أضاف الجسد الى الطين، فقال: انّى خالق بشرا من طين و وصف الروح بانّه امر ربّانى، فقال تعالى: قل الروح من امر ربّى و كما للبدن أركانا كالعين و الاذن و الفم و. و لا يوصف بالحسن ما لم يحسن جميعها، كذلك الصورة الباطنة، لها اركان لا بدّ من حسن جميعها، حتّى يحسن الخلق و هي اربعة معان و قوى: قوّة العلم و قوّة الغضب و قوّة الشهوة و قوّة العدل بين هذه القوى الثلاث، فإذا استوت هذه الأركان الاربعة، حصل حسن لخلق، امّا قوّة العلم، فاعتدالها ان يصير بحيث يدرك بها الفرق بين الصدق و الكذب في الأقوال و الحقّ و الباطل في الاعتقادات و بين الجميل و القبيح في الأعمال، فإذا حصلت هذه القوّة حصلت منها ثمرة الفضائل و الحكمة، و من يؤتى الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا.

و امّا قوة الغضب و الشهوة: فاعتدالها ان يقتصر انقباضها و انبساطها على موجب اشارة الحكمة و الشرع.

و امّا قوّة العدل: فهي ضبط قوّة الغضب و الشهوة، تحت اشارة الدّين و الشرع بالعقل الّذى هو بمنزلة الناصح، و لا بدّ في قوّة الغضب، الاعتدال، لأنّها ان مالت الى طرف الزيادة سمّى تهورا، و ان مالت الى النقصان سمّى جبنا، و افراط الغضب

ص: 266

يحصل منه الصلف و البذخ و الاستطالة و الكبر و العجب، و تفريطها يحصل منه الجبن و الذّلة و المهانة و عدم الغيرة و ضعف الحميّة على الأهل و المال و امّا في اعتدالها يحصل الخلق الكريم و الشهامة و الحلم و الثبات و كظم الغيظ و و و.

و امّا اعتدال الشهوة: فهو العفّة و افراطها يعبّر بالشره و عن تفريطها بالخمود، فيصدر من العفّة، السخاء و الحياء و المسامحة و القناعة و الورع و قلّة الطمع و يصدر عن افراطها، الحرص و الوقاحة و التبذير و العجب و الرياء و الهتكة و المجانة و و الملق و الحسد و التذلل للأغنياء و الاستحقار للفقراء.

و امّا قوّة العقل: فيصدر من اعتدالها حسن التدبير و نقابة الرأى في اصابة الظنّ و التفطّن لدقائق الأعمال و خفايا آفات النفوس و امّا افراطه فيحصل منه المكر و الدهاء و الخداع و يحصل من تفريطه، البله و الغمارة و الحمق و البلادة و الانخداع و حسن الخلق في الجميع وسط بين الإفراط و التفريط و كلا طرفيها ذميم و مهما مال واحد من هذه الجملة الى الإفراط و التفريط، فبعد لم يكمل حسن الخلق و العلاج الرياضة و المجاهدة و معنى الرياضة ان يكلّف الصفة المفرطة الغالبة، خلاف مقتضاها و يعمل بنقيض موجبها، مثلا ان غلب البخل، يتكلّف البذل مرّة بعد اخرى، حتّى يسهل عليه البذل في محلّه و هكذا الى ان ينقلب الطبع، فانّ العادة طبيعة خامسة.

و اعلم انّ تفاوت الناس في حسن الباطن، كتفاوتهم في حسن الظاهر و لم يسلّم الحسن المطلق الّا على الندرة كما حصل له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انّك لعلى خلق عظيم.

اعلم: انّ اصول الأخلاق المحمودة عشرة: التوبة و الخوف و الزهد و الصبر و الشكر و الإخلاص و التوكّل و المحبّة و الرضا و ذكر الموت.

الأصل الأوّل، التوبة و انّها مبدأ طريق السالكين و مفتاح سعادة المقبلين- و التائب محبوب اللّه، قال اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّ اللّه افرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في فلاة مهلكة، معه راحلته و عليها طعامه و شرابه، فوضع رأسه، فنام نومة، فاستيقظ و قد ذهبت راحلته، فطلبها حتّى اشتدّ

ص: 267

الحرّ و العطش، قال: ارجع الى مكاني الّذى كنت فيه، فأنام حتّى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها زاده و شرابه، فاللّه اشدّ فرحا بتوبة العبد المؤمن، من هذا براحلته و هي واجبة على الفور مع الشرائط، على كلّ احد، لأنّ الإنسان مركّب من صفات بهيميّة و سبعيّة و شيطانيّة و ربوبيّة و قد عجنت في طينته عجنا محكما و اوّل ما يظهر فيه، البهيميّة فيغلب عليه الشهرة و الشره، ثمّ السبعيّة فيغلب عليه المنافسة و المعاداة، ثمّ الشيطانيّة فيغلب عليه المكر و الخداع، ثمّ يظهر فيه بعد ذلك صفات الربوبيّة و هو الكبر و الاستعلاء، فاذن لا يستغنى احد عن التوبة و هي ارث أبيه و لو فرضنا انّه سلم من هذه الآفات و خلا عن جميع ذلك، فلا يخلو عن غفلة عن اللّه و ذلك طريق البعد، قال اللّه: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ و توبة العوام من الذنوب الظاهرة و توبة الصالحين عن الأخلاق الذميمة و توبة المتّقين من الغفلة المنسية للذكر و توبة العارفين عن الوقوف على مقام يكون ورائه مقام، فتوبة العارفين لا نهاية لها.

الأصل الثاني: الخوف: قال اللّه: هدى و رحمة للّذين هم لربّهم يرهبون.

قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رأس الحكمة مخافة اللّه، قال اللّه تعالى في الحديث القدسي: و عزّتى لا اجمع على عبدى خوفين و لا اجمع له امنين- الحديث- و الخوف سوط يسوق العبد الى السعادة و حقيقة الخوف: الم القلب و اضطرابه بسبب توقع مكروه في الاستقبال. اوحى اللّه الى داود عليه السّلام: خفني كما تخاف السبع الضاري. و اللّه تعالى كم أهلك من عباده و عرضهم لانواع العذاب و لم يأخذه رقّة و شفقة و أخوف الخلق الأنبياء و آمن الخلق الأغبياء، او ما سمعت انّ العبد يكون خوفه و رجاؤه متساويا فذلك للمطيع المتجرّد للّه، لكن ما دام العبد مفارقا للذنوب ينبغي ان يغلب الخوف على الرجاء.

قال بعض السالكين: لو نودي ليدخلنّ الجنّة جميع الخلق الّا واحدا، لخفت ان أكون ذلك الرجل، لكن إذا قارب الموت ينبغي ان يغلب الرجاء و حسن الظنّ، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تموتنّ أحدكم الّا و هو حسن الظّن بربّه و الرجاء غير التمني

ص: 268

و المتمنّي مغرور يحسب نفسه راجيا فمن رجا شيئا طلبه و من خاف شيئا هرب منه و مالا يحمل على ذلك فهو حديث نفس لا وزن له و الخوف يوجب الزهد لا الحرص الأصل الثالث: الزهد، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ازهد في الدنيا يحبك اللّه و ازهد عمّا في أيدي الناس يحبك الناس. و قال إذا أراد بعبد خيرا زهّده في الدنيا و رغّبه في الآخرة و بصّره بعيوب نفسه. و بداية الزهد، التزّهد، لأن نفسه مائلة الى الدنيا لكنه يجاهدها و حقيقة الزهد ان ينزوى عن الدنيا طوعا مع القدرة عليها و امّا ان تنزوى عنك و أنت راغب فيها، فذلك فقر و ليس بزهد.

الأصل الرابع: الصبر: قال اللّه تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ و ذكر اللّه، الصبر في القرآن في نيف و سبعين موضعا، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصبر كنز من كنوز الجنّة. و التخلية و التزكية لا تتم الّا بالصبر لأنّ جملة اعمال الايمان على خلاف باعث الشهوة و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصبر نصف الايمان. و الإنسان لا يزال في جميع الحالات يحتاج الى الصبر لأنّ جميع ما يلقى العبد في حياته امّا ان يوافق هواه او يخالفه، فان وافق كالثروة و كثرة الجاه و الصحة فما أحوجه الى الصبر فانه ان لم يضبط نفسه طغى و أفسد و امّا ما يخالف الهوى ففي الطاعات يحتاج الى مجاهدة النفس و تحمّل مشاقّ العبادة و تخليصها عن الرياء و مكائد النفس و كلّ طاعة تحتاج الى الصبر في اوّله بتصحيح النيّة و الإخلاص و ايضا حين الاشتغال كيلا يتكاسل عن آدابه و سننه و الحضور و نفى الوسواس و ايضا بعد العمل ليصبر عن ذكره و افشائه تخلّصا عن الرياء و السمعة، كما انّ المعاصي لا بدّ من تركها على الصبر و المجاهدة مع الهوى، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: المجاهد من جاهد هواه و المهاجر من هجر السوء. و الصبر عن المعاصي اشدّ لا سيّما عن معصية صارت عادة مألوفة كمعاصى اللسان كالكذب و الثناء على النفس.

قال بعض الأكابر: ما كنّا نعدّ ايمان الرجل ايمانا، إذا لم يصبر على الأذى، قال اللّه تعالى: وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا. قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من إجلال اللّه ان لا تشكو وجعك و لا تذكر مصيبتك.

ص: 269

الأصل الخامس: الشكر: قال اللّه تعالى: وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ و قال:

ما يفعل اللّه بعذابكم ان شكرتم. و الشكر من المقامات العالية و هو أعلى من الصبر و الخوف و الزهد و جميع المقامات المذكورة لأنها ليست مقصودة في أنفسها و انما يراد لغيرها، مثل انّ الصبر يراد منه قمع الهوى و الخوف سوط يسوق الخائف الى المقامات المحمودة و الزهد هرب من العلائق الشاغلة عن اللّه؛ لكن الشكر مقصود لنفسه و لذلك لا ينقطع في الجنة. قال اللّه تعالى: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و لا يتحقّق الشكر الّا مع العلم بالنعمة و المنعم، فليعلم الشاكر انّ النعمة من اللّه و الوسائط كلّهم مسخرون مقهورون. و متى اعتقدت انّ لغير اللّه دخلا في النعمة الواصلة إليك، لم يصحّ حمدك و شكرك، بل ذلك اشراك في النعمة و المنعم و معلوم بالضرورة ان الخازن و الوكيل، مضطرّان الى العطاء بعد الأمر فهما مسخّران، لا دخل لهما بأنفسهما في النعمة و حكمهما حكم القلم و الكاغذ و الحبر في التوقيع و انّ قلوب الخلق خزائن اللّه و مفاتيحها بيد اللّه و فتحها بان يسلّط عليها دواعي جازمة حتى يعتقد انّ خيرها في البذل مثلا فعند ذلك لا يستطيع ترك البذل و من لا يعلم انّ منفعته في انفاعك، فلا يعطيك شيئا فإذا هو ليس منعما عليك، لأنّه يسعى لنفسه، انّما المنعم من سخّره بتسليط هذه الدواعي عليه و لا بد للشاكر ان يستعمل نعمه تعالى في محابّه لا في معاصيه، مثل ان يستعمل عينه في مطالعة كتاب اللّه و شواهد قدرته و في مطالعة السماوات و الأرض و يستعمل اذنه في سماع الذكر و ما ينفعه في الآخرة و يعرض عن الإصغاء الى الهجر و الفضول و هكذا؛ فحينئذ من شرح اللّه صدره تمكن من الشكر فهو على نور من ربّه، فيرى من كلشي ء حكمته و محبوب اللّه فيه و من لم ينكشف له ذلك، فعليه باتباع السنة و حدود الشرع فليعلم انّه مثلا إذا نظر الى محرم فقد كفر نعمة العين و نعمة الشمس و كفر بكلّ نعمة لا يتم النظر الّا بها، فان الأبصار انّما يتمّ و يتحقق بالعين و نور الشمس انّما يتمّ بالسموات فهو قد كفر أنعم اللّه في السموات و الأرض. و قس على هذا كل معصية، فانّها انّما يمكن بأسباب يستدعى وجود جميعها خلق السماوات و الأرض. و هاك مثالا آخر و هو: انّ اللّه سبحانه

ص: 270

خلق الدراهم و الدنانير لتكون حاكمة في الأموال و الأمور و يعدل بهم القيم و العوض و لو لا هما لتعذرت المعاملات إذ لا يمكن اشتراء مثقال من الزعفران بالجمل، و الفرس بالتمر، فمن كنزهما او اتخذ منهما آنية، كان كمن حبس حاكما من حكام المسلمين حتّى تعطّلت الاحكام او استعمل حاكما من حكّام المسلمين في الحياكة و الفلاحة و تعطل الحكم و كلّ ذلك ظلم و تغيير لحكمة اللّه في خلقه و عباده و معاداة اللّه في محابّه و من لا ينكشف له بنور البصيرة هذه الأسرار لم يعرف صورة الشرع و معناه و لم يعرف قوله: و الذين يكنزون الذهب و الفضّة و لا ينفقونها- الى ان يقول- فبشرهم بعذاب اليم.

فلا يتصوّر الشكر الّا لمن قام للّه بنواميس الشرع و لا يتحقق الشكر الا مع العلم بالنعمة و المنعم فاعرف المنعم و اشكره.

الأصل السادس و السابع: الإخلاص و التوكل: قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو انكم تتوكلون على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا و تروح بطانا، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من انقطع الى اللّه كفاه كل مؤنة و رزقه من حيث لا يحتسب و من انقطع الى الدنيا و كله اللّه إليها. و المتوكل من لا يرى فاعلا سوى اللّه و يترجمها قولك: لا اله الّا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شي ء قدير. فمن قال ذلك صادقا مخلصا فقدتم توحيده و ثبت في قلبه الأصل الذي منه ينبعث حال التوكل، فان زعمت انّ من اعطاك طعاما فتقول: انما يطعمنى باختياره، ان شاء اعطى و ان شاء منع، فكيف لا أراه فاعلا. فهذا الزعم باطل لأنك ترى الكثير من الأسباب، و لا ترى ارتباط السلسلة بمسبّبها، مثل انّك رأيت المطر سببا في النبات، فاعلم انّ المطر مسخر بواسطة الغيم و الغيم مسخّر بواسطة الريح و كذلك الى ان ينتهى الى اوّل لا محالة. و لا يحصل التوكل للمتوكّل الّا ان يعتقد جزما او ان ينكشف له بالبصيرة بانّه لو خلق الخلائق كلّهم على عقل اعقلهم ثمّ زادهم أضعاف ذلك علما و حكمة، ثمّ كشف لهم عواقب الأمور و اطّلعهم على اسرار الملك و الملكوت، ثم أمرهم ان يدبّروا الملك و الملكوت، لما دبّروه بأحسن ممّا هو عليه و لم يمكنهم ان يزيدوا او

ص: 271

ينقضوا جناح بعوضة، بل شاهدوا جميع ذلك، عدلا محضا و حقّا صرفا لا نقص فيه و انّ كلّ ما يرون فيه نقصا فيرتبط به كمال آخر أعظم منه و ما ظنّوه ضررا فتحته نفع أعظم منه، لا يتوصّل الى ذلك النفع الّا به، فإذا حصل للإنسان هذه المعرفة، يحصل التوكّل و يطمئنّ قلبه بالتفويض و غير مستعين بآحاد الناس، لعلمه بانّ وكيله كافيه و هو جواد كريم، فيكون هذا المتوكل حكمه، حكم الصبىّ في ثقته بامّه و فزعه إليها و قسم آخر و هو أعلى درجة بل يكون بين يدي اللّه، كالميّت بين يدي الغاسل، لا كالصبىّ يزعق بامّه و يتعلّق بذيلها، بل يعلم انه ان لم يطلب امّه، فامّه تطلبه و تبتدى بارضاعه و ان لم يتعلق بذيلها. و لهذا في بعض المقامات يأبون الدعاء و السؤال.

لكن اعلم: انّه ليس من شرط التوكل ترك الكسب و التداوى و الاستسلام للمهلكات و ذلك خطاء لان ارتباط هذه المسببات بهذه الأسباب من السنة التي لا تجد لها تبديلا. و مثال التارك للكسب، مثال من لا يمدّ يده الى الطعام و هو جائع و يقول هذا سعى و انا متوكل، او يريد الولد و لا يواقع اهله او يريد الحنطة و لا يبثّ البذر فانّ تعطيل الأسباب المقدّرة من الخالق، ابطال الحكمة و هو جهل، ثم لا يتكل على اليد فربما يفلج و على الطعام فربّما يهلك و يفسد، بل يتكل بقلبه على خالقهما و لا حول و لا قوّة الّا باللّه، فالحول هو الحركة و القوّة هي القدرة، فإذا كان هذا حالك فأنت متوكّل و ان سعيت. و ترك الادّخار محمود لمن غلب يقينه و امّا الضعيف الّذى يضطرب قلبه، لو لم يدّخر، لم يتفرّغ للعبادة، فالأفضل له ان يدع طريق المتوكّلين و لا يحمل نفسه ما لا يطيقه؛ إذ فساد ذلك في حقّه اكثر من صلاحه و كلّ على حسب قوّته و قد ينتهى القوّة الى ان يسافر في البوادي من غير زاد، لكن الضعيف إذا فعل ذلك فهو عاص ملق نفسه الى التهلكة و لا شكّ انّ طول الأمل يناقض التوكّل، فان قنع بقوت يومه و فرّق الباقي فهو تامّ التوكّل، كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مهما قلّت مدّة الادّخار كانت الرتبة أعظم- جعلنا اللّه من المتوكّلين- الأصل الثامن: المحبّة، قال اللّه تعالى: يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ قال النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص: 272

لا يؤمن أحدكم حتّى يكون اللّه و رسوله احبّ اليه ممّا سواهما. قال بعض الأكابر: من ذاق من خالص محبّة اللّه منعه ذلك من طلب الدنيا و اوحشه من جميع البشر. و اكثر المتكلّمين فسّروا محبّة اللّه بامتثال أوامر اللّه و ما لا يشبه شيئا و لا يشبهه شي ء و لا يناسب طباعنا بوجه من الوجوه، فكيف نحبّه و انّما يتصوّر منّا ان نحبّ من هو من جنسنا و تحقيق المسألة انّه كلّ لذيذ محبوب يميل النفس اليه و اللذّة تتبع الإدراك و الإدراك ادراكان ظاهر و باطن و ادراك الظاهر بتوسط الحواس الخمس، لكن ادراك الباطن بتوسّط اللطيفة الّتى محلّها القلب، تارة يعبّر عنها بالعقل و تارة بالنور و تارة بالحس السادس الّذى خاصيّة الإنسان و نحن نرى ان الإنسان يحبّ الملك الرءوف العادل العطوف على الرعيّة، كما انّه يبغض الظالم الجاهل الغليظ و كذلك يحبّ الموصوفين بالكمال مثل الأنبياء و الصلحاء و يجد الإنسان في نفسه هزّة و ارتياحا و ميلا الى هذه الطبقة، بل يوجبون على أنفسهم الذّب عنهم و بذل المال لهم و في سبيلهم، ثمّ إذا أحببت هؤلاء لهذه الصفات الحسنة و علمت انّ النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان اجمع منهم لهذه الخصال، كان حبّك له اشدّ بالضرورة، فإذا رفعت نظرك الآن من النبىّ الى مرسل النبي و خالقه و المتفضّل على الخلق ببعثته لعرفت انّ بعثة الأنبياء حسنة من حسناته و قطرة من بحر علمه و قدرته تعالى، فانّ الأنبياء مع هذه الأوصاف الحسنة مربوبون، لأقوام لهم بأنفسهم و لا يملكون موتا و لا حيوة و لا رزقا و لا أجلا. و الكلّ تحت قبضته فحينئذ كيف يمكنك ان لا تحبّ خالقك الذي محيط و محسن على الذرّة و الدرّة و تأمّل: هل لا لأحد في العالم احسان إليك سوى اللّه، و هل لك لذّة و تنعّم في شي ء و ميل على نعمة الّا و اللّه خالقها و خالق الشهوة إليها و التلذّذ بها، فلا تكوننّ اقل من الكلب، فانّه يحبّ صاحبه الّذي يحسن اليه فان لم تقدر ان تحبّه لجلاله و عظمته و جماله كما تحبّه الملائكة فانظر الى لطف صنعه في اعضائك لحبّه بإحسانه إليك، فتكون اقلا من عوام الخلق و أعظم نعم اللّه علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ» و بوجوده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تمت النعم و لو كنت تعرف حقيقة هذه النعمة العظيمة لكنت تبذل روحك بذكر اسمه مرّة واحدة و زادت درجة محبتك و القلب لسليم غير غافل عن هذه المعرفة و كما انّ

ص: 273

أوفق الأشياء للأبدان، الاغذية اللطيفة، فكذلك أوفق الأشياء للقلوب، المعرفة؛ لكنّ الشهوات و نيلها ممرضة للقلوب شيئا فشيئا حتّى لا يقبل شهوة معرفة اللّه أصلا، كما يفسد مزاج المريض، فيسقط شهوته عن الغذاء و ينعكس طبعه فيشتهى الطين و الأشياء المضرّة المهلكة و هو مقدّمات الموت.

و اعلم انّ مرض القلب ينتهى الى حدّ يستكره معرفة اللّه و يبغضها و يبغض أهلها، بل يبغض و يكره جميع الأنبياء و الصلحاء و لا يدرك حينئذ الّا لذة المطعم و المنكح و الرياسة و ذلك هو القلب المنكوس و هو الميّت الّذى لا يقبل العلاج، فيكون اهل هذه الآية: انّا جعلنا على قلوبهم أكنّة ان يفقهوه و في آذانهم وقرا و ان تدعوهم الى الهدى فلن يهتدوا إذا ابدا أموات غير احياء و ما يشعرون.

و بالجملة فجميع الناس يدّعون محبّة اللّه لكن لها علامات و أعظم علاماتها تقديم امر اللّه على هوى النفس مطلقا و الشوق الى الموت، او الخلوّ عن كراهيّة الموت، الّا إذا تشوّق الى زيادة المعرفة، فلهذه الجهة لا يحبّ الموت.

الأصل التاسع: الرضاء بالقضاء، قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا احبّ اللّه عبدا ابتلاه، فان صبر اجتباه و ان رضى اصطفاه و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اعبدوا للّه بالرضا، فان لم تستطيعوا ففي الصبر على ما تكره خير كثير. و اعلم انّه قد أنكر الرضا جماعة و قالوا: لا يتصوّر الرضا بما يخالف الهوى و انّما يتصوّر الصبر فقط. و قال بعض: يمكن الرضا بما يخالف الطبع و الهوى، لأنّه و لو يكره بالطبع ما يخالف هواه و لكن رضى به لعقله و إيمانه بجزالة ثواب البلاء، كما رضى المريض بالم الفصد و شرب الدواء، لعلمه بانّه سبب الشفاء، حتّى انّه يفرح ممّن يأتي له الدواء و الفصّاد.

روى: انّ نبيّا كان يتعبّد في جبل و كان بالقرب منه عين فاجتاز بها فارس و شرب و نسى عندها صرّة فيها ألف دينار، فجاء آخر و أخذ الصرّة، ثمّ جاء رجل فقير و على ظهره حزمة حطب، فشرب و استلقى ليستريح، فرجع الفارس في طلب الصرّة، فلم يرها، فأخذ الفقير و طالبه و عذّبه فلم يجد عنده فقتله، فقال النبىّ يا الهى ما هذا الأمر، أخذ الصرّة ظالم آخر و سلّطت هذا الظالم على هذا الفقير حتّى قتله،

ص: 274

فأوحى اللّه اليه: اشتغل بعبادتك، فليس معرفة اسرار الملك من شأنك، انّ هذا الفقير كان قتل أبا لفارس، فمكّنته من القصاص و انّ أبا الفارس كان قد أخذ ألف دينار من آخذ الصرّة، فرددته اليه من تركته. و من أيقن بسبب تفاصيل القضاء لم ينطو ضميره الّا على الرضا بكلّ ما يجرى من اللّه.

و اعلم: انّه لا ينبغي ان يظنّ ظانّ انّ معنى الرضا بالقضاء ترك الدعاء و الأسباب و تترك السهم الذي أرسل إليك حتّى يصيبك مع قدرتك على دفعه بالترس و ترك الأسباب مخالفة لمحبوبه و مناقشة لرضاه، إذ ليس من الرضا للعطشان ان لا يمدّ اليد الى الماء البارد زاعما انّه رضى بالعطش الّذى من قضاء اللّه، بل من قضاء اللّه و محبّته ان يزول العطش بالماء؛ بل رعاية سنة اللّه هي الرضا بالقضاء.

الأصل العاشر: ذكر الموت و هو عظيم النفع، إذ به يبغض الدنيا و ينقطع علاقة القلب عنها، قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أكثروا من ذكر هادم اللّذات و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو يعلم البهائم من الموت، ما يعلم ابن آدم، لما أكلتم منها سمينا. و أكرم الناس و أكيسهم أكثرهم للموت ذكرا و اشدّهم له استعدادا، فانّ الموت عظيم هايل و ما بعده أعظم منه و في ذكره منفعة، فانّه ينقص الدنيا و يبغضها الى القلب و بغض الدنيا رأس كلّ حسنة، كما انّ حبّها رأس كلّ خطيئة و لا سبب لإقبال الخلق على الدنيا الّا قلّة التفكّر في الموت. و طريق الفكر فيه ان يفرغ الإنسان قلبه و يجلس في خلوة و يباشر ذكر الموت بصميم قلبه و يتفكّر في اقرانه الّذين مضوا فيتذكّرهم واحدا واحدا، و حرصهم و أملهم، ثمّ يتذكّر مصارعهم عند الموت و اجسادهم كيف تمزّقت في التراب، ثمّ يرجع الى نفسه، فيعلم انّه كواحد منهم، أمله كأملهم و أعضائه كأعضائهم كيف صاروا جيفة. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعبد اللّه: إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء و إذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح و خذ من حياتك لموتك و من صحّتك لسقمك، فانّك يا عبد اللّه لا تدرى ما اسمك غدا. و اشثرى اسامة وليدة الى شهرين بمائة، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الا تعجبون من اسامة انّه لطويل الأمل و الّذى نفسي بيده ما طرفت عيناي الّا ظننت انّ شفريها لا يلتقيان و لا لقمت لقمة الّا ظننت انّى لا أسيغها حتّى

ص: 275

اغصّ بها من الموت، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا بني آدم ان كنتم تعقلون فعدّوا انفسكم من الموتى و الّذى نفسي بيده انّ ما توعدون لآت و ما أنتم بمعجزين و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

نجا اوّل هذه الامّة باليقين و الزهد و يهلك اخرها بالبخل و الأمل.

و اعلم: انّ الروح الإنساني، لا يفنى و لا يموت، بل يتبدّل بالموت حالها فقط و يتبدّل منزلها فيرمى من منزل الى منزل و القبر في حقّها امّا روضة او حفرة.

[سورة البقرة (2): آية 109]

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109)

روى انّ فنحاص بن عازوراء اليهودي و زيد بن أقيس و نفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليماني و عمّار بن ياسر بعد وقعة احد: الم تروا ما أصابكم، و لو كنتم على الحقّ ما هزمتم، فارجعوا الى ديننا، فهو خير لكم و أفضل، و نحن اهدى منكم سبيلا، فقال عمّار كيف نقض العهد فيكم، قالوا شديد، قال فانّى قد عاهدت ان لا اكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما عشت، فقالت اليهود: امّا عمّار، فقد صبا، اى خرج عن ديننا بحيث لا يرجى منه الرجوع اليه ابدا، فكيف أنت يا حذيفة، الا تبايعنا، قال حذيفة:

رضيت باللّه ربّا و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبيّا و بالإسلام دينا و بالقرآن اماما و بالكعبة قبلة و بالمؤمنين إخوانا، فقالوا: و إله موسى لقد اشرب في قلوبكما حبّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبراه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، اصبحتما خيرا و افلحتما.

الحاصل «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» اى احبّ و ودّ كثير من اليهود «لَوْ يَرُدُّونَكُمْ» اى ان يردوكم، فانّ «لو» من الحروف المصدريّة إذا جاءت بعد فعل، يفهم منه معنى التمنّى، قوله: ودّوا لو تدهن، اى احبّوا ان يصرفوكم عن التوحيد «مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ» يا معشر المؤمنين «كُفَّاراً» مرتدين، حال من ضمير

ص: 276

المخاطبين، او مفعولا ثانيا ليرودّنكم على تضمينه معنى يصيرونكم «حَسَداً» علّة لقوله «وَدَّ» اى من أجل الحسد «مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» و من قبل ميلهم و مشتهياتهم، لا من قبل الميل الى الحقّ و التديّن بل منبعثا من اصل الحسد «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» و ظهر لهم انّ محمّدا قوله حقّ و رسول لأنّه مذكور في كتابهم على ما رأوا منه المعجزات «فَاعْفُوا» العفو ترك عقوبة المذنب، يقال عفت الريح المنزل اى درسته. و من ترك عقوبة المذنب فكانّه درس ذنبه، حيث انّه ترك المجازاة، و الفرق بين العفو و الصفح، انّه قد يعفو الإنسان المجازاة و لا يصفح، لأنّ الصفح ترك التقريع باللسان و الاستقصاء في اللوم و لذا قال «وَ اصْفَحُوا» و ليس المراد بالعفو و الصفح في الآية الرضا بما فعلوا بل المراد ترك المقاتلة و الاعراض عن مساويهم «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» و يحكم اللّه بحكمه الّذى هو الاذن في قتالهم و ضرب الجزية عليهم «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» فيقدر على الانتقام منهم إذا جاء أوانه.

[سورة البقرة (2): آية 110]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

«وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ» الآية عطف على قوله: فاعفوا، أمرهم بالعبادة و البرّ من الواجبات بإقامة الصلاة و أداء الزكاة، عمّ بعد التخصيص، فأمرهم بالتطوّعات بقرينة «وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ» فانّ الخير يتناول اعمال الخير كلّها، واجبا كان او نفلا و قدّم الواجب لعظم شأنه، فالصلاة قربة بدنيّة و الزكاة قربة ماليّة و الصلاة شكر الأعضاء و الزكاة شكر الأغنياء و ما، في قوله: و ما تقدّموا، شرطيّة: اىّ شي ء من امور الخير تقدّموه و تسلفوه، فهو لمصلحة انفسكم و «تَجِدُوهُ» اى ثوابه و جزائه، لاعينه، محفوظا «عِنْدَ اللَّهِ» في الآخرة، فتجدوا الثمرة و اللقمة مثل جبل احد، كما في الحديث: إذا مات العبد، قال الناس: ما خلف و قالت الملائكة: ما قدّم.

«إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» بأعمالكم لا يخفى عليه القليل و لا الكثير و هو عامّ في الخير و الشر و الإنسان إذا مات انقطع عمله، الّا ان يبقى بعده واحد من الأولاد

ص: 277

الثلاثة الّتى لا ينقطع أجرها: الأوّل- ما يتولّد من مال الإنسان، كبناء المساجد و القناطر في طرق المسلمين للتسهيل عليهم و الرباط و الأوقاف و أمثالها. و الثاني- ما يتولّد من عقله و علمه المنتفع به في الدين، من استنباط حكم شرعىّ و تأليف و تصنيف كتب الحديث و ما يحتاج اليه في امور الدين. و الثالث- ما يتولّد من النفس، كالبنين و البنات، بشرط الصلاح و التقوى، لأنّ الأجر لا يحصل من غيره. و لا يمكن هذا الأمر.

[سورة البقرة (2): الآيات 111 الى 112]

وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

«وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى : نزلت في وفد نجران و كانوا نصارى اجتمعوا في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع اليهود، فكذّب بعضهم بعضا، فقالت اليهود لبنى نجران: لن يدخل الجنّة الّا اليهود و قال بنو نجران لليهود:

لن يدخلها الّا النصارى، فحكى اللّه مقالتهم و لم يقل كانوا، حملا على لفظ «من» و انّما جمع الخبر مع انّ المطابقة شرط في المبتداء و الخبر، فباعتبار معنى «من» و اليهود، جمع هائد: اى تائب، لتوبتهم عن عبادة العجل. و النصارى جمع نصران، كسكارى جمع سكران.

«تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» اى تلك الأمانىّ الباطلة امانيّهم و هي امنيّتهم دخول الجنّة و ان يردّوكم كفارا و ان لا ينزل عليكم الخير «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ» أصله آتوا، قلبت الهمزة هاء، اى أحضروا حجّتكم على اختصاصكم بدخول الجنّة و لم يقل براهينكم، لأنّ دعواهم كانت واحدة و هي نفى دخول غيرهم الجنّة. و الجنّة على تلك الدعوة واحدة «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» في دعواكم.

ص: 278

«بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» اثبات لما نفوه من دخول، غيرهم الجنّة: بلى يدخلها من أخلص نفسه للّه تعالى و لا يشرك به شيئا «وَ هُوَ مُحْسِنٌ» حال من ضمير اسلم و قد فسّره النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: ان تعبد اللّه كانّك تراه و ان لم تكن تراه، فانه يراك.

و هذا المعنى حقيقة الايمان «فَلَهُ أَجْرُهُ» و ثوابه ثابت «عِنْدَ رَبِّهِ» و العنديّة القرب و التشريف «وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» إذا كانوا بهذه الصفات بنيّات صادقة خالصة عن مطلق الشوائب و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّما الأعمال بالنيّات، و نيّة المرء خير من عمله. لأنّ المقصود من العمل، الامتثال للأوامر، حتى يحصل به تنوير القلب و معرفة اللّه و يطهّره عما سوى اللّه حتى يحصل العبوديّة و النيّة صفة القلب و تأثير صفة القلب أقوى من تأثير صفة الجوارح، فانّ القلب اشرف الجوارح، ففعله اشرف الأفعال، فكانت النيّة أفضل من العمل و بكثرة النيّة، تكثر الحسنة، كمن قعد في المسجد و ينوى فيه نيّات كثيرة، مثل ان يعتقد انّه بيت اللّه و يقصد به زيارة مولاه، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قعد في المسجد، فقد زار اللّه و حقّ على المزور إكرام زائره، ثم ينتظر الصلاة بعد الصلاة، فيكون حال الانتظار كمن هو في الصلاة. و ثالثها اغضاء السمع و البصر و سائر الأعضاء عمّا لا ينبغي، فانّ الاعتكاف كفّ و هو في معنى الصوم و هو نوع ترهّب، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رهبانيّة امّتى القعود في المساجد. و رابعها ان يقصد افادة علم أوامر من الدين. و خامسها ان ترك الذنوب حياء من اللّه، فهذا طريق تكثير النيّة و قس عليه سائر الطاعات و النية تغيّر الموضوع، مثل انّ التطيب إذا أراد به التنعّم بلذّات الدنيا و اظهار التفاخر على الناس او ليتودّد به الى قلوب النساء، فكلّ ذلك يجعل التطيّب معصية و جاء يوم القيامة و ريحة أنتن من الجيفة، كما ورد به الخبر و ان كان قصد به الامتثال و تعظيم المسجد و دفع الروائح الموذية عن عباد اللّه، فهو عين الطاعة. و الضابط ان يكون الفعل مشروعا و يكون القصد الداعي الحق فقط. ثمّ ان الناوى إذا اشتهى امرا فيقول مثلا عند تدريسه او تجارته ان ادرس للّه، او اتّجر للّه، يظنّ ان ذلك نيّة و هيهات فذاك حديث نفس، او حديث لسان و النية بمعزل عن ذلك، انّما النيّة انبعاث النفس و ميلها الى ما ظهر لها انّ فيه بوجه القربة و ذلك

ص: 279

قد يتيسّر في بعض الأوقات و قد يتعذر و كذا الكلام في المطاعم و المناكح و لا يمكن هذا الأمر الّا بعد تحسين الأخلاق و لعلّك تظنّ بنفسك حسن الخلق و أنت عاطل عنه و ينبغي ان يحكم فيه غيرك و تسأل صديقا بصيرا لا يداهن، لأنّ اكثر الأخلاق يتعلّق بالغير، فبعدان تبيّن لك معائب اخلاقك، فتبدأ بالأهم فالأهم و اوّل ما تدفعه عن نفسك حبّ الدنيا فانّ سائر المعاصي و الأخلاق الذميمة تتبعه فاطلب خلوة خالية و تفكر في سبب اقبالك على الدنيا و اعراضك عن الآخرة، فلا تجد له سببا الّا الشهوة الفانية و انّ أقصى عمرك في الشهوات مائة سنة و قد فاتك ملك لا آخر له و إذا كانت الدنيا مملوّة ذرة و قدّر طائرا في كلّ ألف سنة و يلتقط في كلّ ألف سنة حبّة واحدة، فيفنى الذرّة و لا يفنى الأبد، لأنّ الباقي لا نهاية له و جملة عمرك بالإضافة الى بقائك في الآخرة اقصر من لحظة الى جميع عمرك و لعلّك تقول: انّما افعل ذلك على توقّع العفو، فانّه رحيم كريم فأقول: و لم لا تترك الحراثة و التجارة و طلب المال على توقّع العثور على كنز في خراب، فان اللّه كريم و توقّع العفو مع الحرص على الدنيا و خراب الأعمال، كتوقّع الكنز في الخراب، بل ابعد، مع انّ اللّه تعالى نبّهك، فقال: و ان ليس للإنسان الّا ما سعى. ثمّ رغّبك عن طلب المال فقال: و ما من دابّة في الأرض الّا على اللّه رزقها. فما بالك تكذب بكرمه في الدنيا و لا تكل عليه؛ ثمّ تخدع نفسك بالكرم في الآخرة و أنت تعلم انّ ربّ الدنيا و الآخرة واحد. و لعلّك تقول: انّ امور الدنيا قد انكشفت لي بالعيان و امّا امر الآخرة فلم أشاهده و لست أجد التصديق الحقيقي في قلبي فلذلك فترت رغبتي في ترك الدنيا نقدا، بما هو موعود نسية و لست أثق به. فحينئذ تفكّر في اقاويل اهل البصائر من صدر العالم و الناس في امر الآخرة اصناف: صنف- و هم الأكمل و الأكثر- اثبتوا الجنّة و النار كما ورد به الكتب السماويّة و الاخبار من لدن آدم عليه السّلام الى نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد سمعت انواع نعيمها و نكال جحيمها. و صنف لم يثبتوا اللذات و الآلام الحسيّة، بل أثبتوها على سبيل التخيّل كما في المنام حتى يكون كلّ واحد في جنّة او نار وحده و زعموا

ص: 280

انّ تأثير ذلك فيه كتأثير الحقيقة، لأنّ تألّم النائم كتألم اليقظان و انّما يخلصه عنه التنبيه و ذلك في الآخرة دائم لا انقطاع له. و صنف من الأطبّاء و المنجّمين، اقتصر نظرهم على الطبائع الأربع و مزاجها و لم يدركوا الا الروح الجسماني الذي هو بخار أنضجته حرارة القلب، ينتشر في العروق الضوارب الى جميع البدن و يقوم به الحسّ و الحركة و ظنّوا انّ الموت عدمه و انه يرجع الى فساد المزاج. و الصنفان الأوّلان قائلون و متفقون على اثبات سعادة مؤبّدة و متفقون بان السعادة لا تنال الّا بالاطاعة و ترك الدنيا، فأنت في حق هؤلاء اى الصنف الآخر امّا ان تجوز غلطهم، او تعتقد صدقهم فان جوّزت خطاءهم لزمك الاعراض عن الدنيا بمجرّد الاحتمال، فانّك لو كنت جائعا و ظفرت بطعام و هممت بأكله فأخبرك صبيّ انّ فيه سمّا او حيّة و لغت فيه فآسيت الجوع و تركت الأكل و تقول ان كان كاذبا فليس يفوتني الّا الاكل و ان كان صادقا ففيه الهلاك، فحينئذ كيف يستجيز العاقل الهجوم على الدنيا و لا يحذر من هذا السم الّذى لم يخبر به الصبىّ، بل اخبر به جميع الكتب السماوية و اهل الوحى.

و ان قلت: انى اعلم ضرورة صدق قول الصنف الآخر و ان الموت عدم و انه لا عقاب و لا ثواب و انّ الأنبياء كلّهم مغرورون ملبّسون و انّما الحقّ ما أقول، فمن كان هكذا لا ريب في فساد مزاجه و ركاكة عقله و لكن معهذا يقال له: ان كنت تطلب الراحة في الدنيا فقط، فانّ الراحة في الحريّة و الخلاص عن قيد الشهوات و ما المستريح في الدنيا الّا تاركها لكثرة عنائها و قيل في حقهم قال اللّه تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

ص: 281

[سورة البقرة (2): آية 113]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

«وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ» بيان لتضليل كلّ فريق صاحبه اى ليست النصارى على امر يصح و يعتد به «وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ» اى قالوا ما قالوا «وَ هُمْ» و الحال انّ كلّ فريق منهم «يَتْلُونَ الْكِتابَ» و الكتاب للجنس و هذا الكلام توبيخ و منع لهم لأنّ حق من حمل التوراة او الإنجيل او غيرهما من كتب اللّه و آمن به ان لا يكفر بالباقي، لأنّ كلّ واحد من الكتابين مصدّق للثاني فانّ التوراة مصدّقة بعيسى و الإنجيل مصدّق بموسى فإذا كانوا مع العلم و التلاوة و المعرفة يختلفون هذا الاختلاف، فكيف حال من لا يعلم «كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» منهم «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» مثل قول العالمين و قيل: المراد من الذين لا يعلمون، كفار العرب و مشركيهم، قالوا: انّ المسلمين ليسوا على شي ء فالمراد انّ اليهود و النصارى الذين يقرؤن الكتب إذا قالوا كذلك، فكيف بهؤلاء الأمّيّين «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ»: بين الفريقين «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» من امر الدين.

[سورة البقرة (2): آية 114]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)

«وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ» «من» في الأصل كلمة استفهام و هي هاهنا بمعنى النفي اي لا احد اظلم ممّن منع مساجد اللّه. و اختلف في الذين منعوا و ذكروا

ص: 282

اقوالا: اوّلها- قال ابن عباس: انّ طنطيوس الرومي ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه و القى فيه الجيف و سبى ذراري بنى إسرائيل و احرق التوراة و ذبح فيه الخنازير و حاصر اهله و قتلهم و سبى البقيّة و لم يزل بيت المقدس خرابا حتى بناه الإسلام في زمن عمر. و ثانيها- قال الحسن و قتادة و السدّى: نزلت في بخت النصر حيث خرب بيت المقدس مع بعض النصارى. قال ابو بكر الرازي في كتاب احكام القرآن هذان الوجهان غلطان، لأنّه لا خلاف بين اهل السير انّ عهد بخت نصر كان قبل مولد مسيح عليه السّلام بدهر طويل، و النصارى كانوا بعد المسيح، فكيف يكونون مع بخت النصر في تخريب بيت المقدس و ايضا فانّ النصارى يعتقدون في تعظيم بيت المقدس، مثل اعتقاد اليهود، فكيف أعانوا على تخريبه. و ثالثها- انّ الآية نزلت في مشركي العرب الذين منعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الدعاء الى اللّه بمكّة و الجئوه الى الهجرة فصاروا مانعين له و لأصحابه ان يذكروا اللّه في المسجد الحرام و طرح ابو جهل الكثافات على ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقيل: و من اظلم ممّن منع- الآية- و رابعها- قال ابو مسلم: المراد منه الذين صدّوه عن المسجد الحرام حين ذهب اليه من المدينة عام الحديبيّة و استشهد بقوله: هم الّذين كفروا و صدّوكم عن المسجد الحرام و بقوله: و ما لهم الا يعذبهم اللّه و هم يصدّون عن المسجد الحرام فان قيل كيف يجوز حمل لفظ المساجد على المسجد الحرام، فهذا كمن يقول لمن أذى صالحا واحدا: لم تؤذى الصالحين. او المسجد موضع السجود، فالمسجد الحرام، مساجد و لا يكون مسجدا واحدا.

«أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» ثانى مفعولي منع فانّه ممنوع، اى من ان يسبّح و يقدّس و يصلّى له فيها «وَ سَعى و عمل «فِي خَرابِها» بالهدم و التفريق، و الخراب اسم للتخريب، كالسلام بمعنى التسليم و أصله التتليم و التفريق «أُولئِكَ» المانعون «ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ» اى ما كان لهم ان يدخلوها الّا بخشية و خضوع، فضلا عن الاجتراء على تخريبها اى حقهم الذلة و ارتعاد الفرائض من المؤمنين إذا أرادوا ان يدخلوها، فضلا عن إيذاء المؤمنين لو لا ظلم الكفرة و عتوّهم: و قيل ان المعنى بشارة من اللّه للمسلمين، بانه سيظهرهم على المسجد الحرام و على سائر المساجد

ص: 283

و انّه سيذلّ المشركون لهم، حتى لا يدخلوها الّا بطريق الخوف فيعاقب او يقتل، ان لم يسلم و قد أنجز اللّه وعده و ما كان يجتري احد من المشركين ان يحجّ و امر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإخراج اليهود من جزيرة العرب و قد وقع عليهم من الصغار و الذلّ بالجزية كما قال سبحانه: ما كان للمشركين ان يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر.

و قال قتادة و السدّى: قوله «إِلَّا خائِفِينَ» بمعنى انّ النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلّا خائفين و لا يوجد فيه نصراني الّا أوجع ضربا و هذا القول مردود، لأنّ بيت المقدس غزاه طنطيوس الرومي و صارفي أيدي النصارى اكثر من مائة سنة، حتى استخلصه الملك الناصر صلاح الدين يوسف من آل ايّوب شاه الدوينى و قصّته مشهورة و قد وقع بيد المسلمين ثانيا و كان فتح الملك الناصر سنة خمسمائة و خمس و ثمانين بعد الهجرة الى يومنا هذا و على ما اشتهرت انّه عاد إليهم ثالثة او كاد و ذلك بشؤم العجوز الملعونة و هي الدنيا، فاحتالت بأنواع الدهى و المكر، فاشترت يوسف الصديق بدراهم مموّهة و استعبدها، فالويل لمن باع الحرّ باسم الحرية و لم يعرف معناها و اخسف القمر باطماع البدرة و كان من باعه من تلامذة ابن المقنع بل استاذه و ابن المقنع صاحب البدر المعروف بالتخشب. و هذا الأستاد صاحب بدرة الذهب، فيا لها من صفقة ما اخسرها و اضرّها على الإسلام؛ اللهم انّى أبرئ ممّن باع و اشترى و خدع و افترى، فاقسمك بكتابك المنزل- و فيه اسمك الأكبر و أسماؤك الحسنى- ان يؤيّد دين نبيك و تعزّ الإسلام و اهله و محلّه و ظهر بيتك للطائف و العاكف و اجعل لي هذه البرائة وسيلة إليك لغفران ذنوبي و اجعلها حجة لي يوم ألقاك- انتهى- قال بعض العلماء: تعطيل المسجد عن العبادة و الذكر، تخريب له، لأنّ المقصود من بنائه، هو الذكر و العبادة فيه، فمادام لم يترتّب عليه هذا المقصود، صار كانّه هدم و خرب.

قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا رأيتم الرّجل يعتاد المساجد، فاشهد و اله بالإيمان لقوله

ص: 284

تعالى: انما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه، فجعل حضور المساجد عمارة لها.

قال امير المؤمنين عليه السّلام: ستّ من المروّة، ثلاث في الحضر و ثلاث في السفر، فامّا اللاتي في الحضر: فتلاوة كتاب اللّه و عمارة مساجد اللّه و اتخاذ الاخوان في اللّه- و امّا اللاتي في السفر، فبذل الزاد و حسن الخلق و المزاح في غير معصية اللّه و عدّ من علامات الساعة: تطويل المنارات و تنقيش المساجد- و تخريبها تخليتها عن ذكر اللّه فتعطيل المساجد عن التلاوة و عن الصلاة و عن اظهار شعائر الإسلام أقبح سيئة.

و في الحديث: من زار بيت المقدس محتسبا، أعطاه اللّه ثواب ألف شهيد و حرّم اللّه جسده على النار، و من زار عالما فكانّما زار بيت المقدّس- كذا في مشكوة الأنوار-.

و بالجملة: فظاهر قوله (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها) يقتضي ان يكون الساعى في تخريب المساجد و تعطيلها بسبب من الأسباب عن العبادة، أسوأ حالا من كلّ فاسق و هو في أعظم درجات الفسق، كما انّ الساعى في عمارته بالعبادة في أعظم درجات الايمان لقوله: انّما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه و اليوم الاخر لأنّ كلمة «انّما» للحصر فالويل كلّ الويل لمن اغلق أبواب المساجد بتعطيلها عن العبادة و فتح أبواب بيوت الخمر.

و في الحديث عن ابى هريرة، قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أحب البلاد الى اللّه، المساجد و أبغضها اليه أسواقها و السرّ العقلي في الحديث انّ المسجد مكان لذكر اللّه، حتى إذا دخله الغافل اشتغل بالذكر و السوق على الضدّ من ذلك، لأنّه موضع البيع و الشراء و الإقبال على الدنيا و ذلك ممّا يورث الغفلة عن اللّه، حتّى انّ الذاكر إذا دخله فانّه يصير غافلا في الغالب.

و في الحديث: من يطهّر في بيته، ثمّ مشى الى بيت من بيوت اللّه ليقضى فريضة من فرائض اللّه، كانت خطواته احداها تحط خطيئة و الاخرى ترفع درجة- رواه مسلم- و عن ابى سعيد الخدري: انّ هذه الآية (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ

ص: 285

آثارَهُمْ) نزلت في حقّهم.

روى عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إذا تطهّر الرجل، ثمّ مرّ الى المسجد يراعى الصلاة، كتب له كاتبة او كاتباه بكلّ خطوة يخطوها الى المسجد، عشر حسنات و القاعد الّذى يرعى الصلاة، كالقانت و يكتب من المصلّين من حين يخرج من بيته الى ان يرجع. فعليك بالطهارتين ظاهرة و باطنة، فالباطنة طهارة القلب عن كل شي ء سواه و تخلية النفس عن القذرات المعنوية كالحسد و الكبر و أمثالها و طهارة الظاهرة عن الأحداث و القذارات، فاستقم كما أمرت.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من بنى للّه مسجدا و لو كمفحص قطاة بنى اللّه له بيتا في الجنة

[سورة البقرة (2): آية 115]

وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)

النزول، لمّا حوّلت القبلة عن بيت المقدس، أنكر اليهود ذلك، فنزلت الآية ردا عليهم، «وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ»: بين سبحانه انّ المشرق و المغرب للّه و جميع الجهات و الأطراف له «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» فأينما أمركم باستقباله فهو قبلة، فكما انّ بيت المقدّس، قبلة، كذلك جعل الكعبة، قبلة، فلا تنكروا ذلك، يدبر عباده بما يريد.

في كتاب التوحيد، عن السماء و العالم، قال الرضا عليه السّلام: المشيّة من صفات الأفعال، فمن زعم انّ اللّه لم يزل مريدا شائيا، فليس بموحّد، قال المجلسي: لعل الشرك باعتبار انّه إذا كانت الارادة و المشيّة ازليّتين بكونهما دائما معه سبحانه، يوجب قديمين آخرين. و عن عاصم بن حميد: قال سألت الصادق عليه السّلام: لم يزل اللّه مريدا فقال عليه السّلام: انّ المريد لا يكون الّا المراد معه، بل لم يزل عالما قادرا، ثمّ أراد.

قال بعض مثل قتادة و ابن زيد: انّ اللّه نسخ بيت المقدس بالتخيير الى اىّ جهة شاء بهذه الآية، فكان للمسلمين ان يتوجهوا الى حيث شاءوا في الصلاة، الّا انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يختار التوجّه الى بيت المقدس مع انّه كان له ان يتوجّه حيث شاء، ثم انّه نسخ ذلك بتعيين الكعبة و قيل انّ الآية نزلت في النوافل للمسافر، حيث

ص: 286

تتوجّه به راحلته.

عن سعيد بن جبير، قال: انما نزلت الآية في الرجل يصلى الى حيث توجهت به راحلته في السفر في التطوّع، و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رجع من مكة صلّى على راحلته تطوّعا يومئ برأسه نحو المدينة، فيكون معنى الآية على هذا القول: فأينما تولّوا وجوهكم لنوافلكم في اسفاركم فثم وجه اللّه و صادفتم المطلوب، انّ اللّه واسع الفضل غنىّ، فمن سعة غناه و فضله رخّص لكم في ذلك، لأنّه لو كلّفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحالة لزم احدى الضررين، امّا ترك النوافل و امّا النزول عن الراحلة و التخلّف عن الرفقة، بخلاف الفرائض، فانّها صلوات مفروضة، محصورة، معيّنة و الكل مكلّفون بالأداء، فلا يلزم منه التخلّف عن الرفقة و الى الحرج. و المراد من قوله «فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» الحضور العلمي منه سبحانه، فيكون الوجه مجازا من قبيل اطلاق اسم الجزء على الكلّ، إذ ليس سبحانه جوهرا و لا عرضا حتّى يكون في جانب و هذا معنى الحديث: لو انكم وليتم بجبل الى الأرض السفلى، لهبط على اللّه.

اى لهبط على علم اللّه و اللّه منزّه عن الحلول في الأماكن، لأنّه كان قبل ان يحدث الأماكن «عليم» بمصالحهم و أعمالهم.

قيل: انّ امام الحرمين انّه نزل ببعض الأكابر ضيفا فاجتمع عنده العلماء، فقام واحد من اهل المجلس، فقال: ما الدليل على تنزّهه عن المكان و هو قال:

الرحمن على العرش استوى، فقال الغزالي، الدليل عليه قول يونس عليه السّلام في بطن الحوت «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» فتعجب الحاضرون من العلماء في جوابه، فالتمس صاحب الضيافة بيانه، فقال الغزالي: هاهنا فقير مديون بألف درهم، أدّ عنه حتّى أبيّنه، فقبل صاحب الضيافة دينه، فقال: انّ يونس لما ابتلى بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت، قال: لا اله الّا أنت و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الأسرى:

لا احصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فكلّ منهما خاطبه بقوله أنت و هو خطاب الحضور، فلو كان في مكان لما كان ذلك بصحيح، فدل ذلك على انّ اللّه تعالى ليس في مكان لأنهما في السير- انتهى-

ص: 287

و أمّا قصّة القبلة، روى انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّى بمكّة إلى الكعبة، فلمّا هاجر إلى المدينة أمره اللّه أن يصلّى نحو بيت المقدس ليكون اقرب الى تصديق اليهود، فصلّى نحوه ستّة عشر شهرا و كان يقع في روعه و يتوقّع من ربّه ان يحوّله الى الكعبة لأنّها قبلة أبيه إبراهيم عليه السّلام و اقدم القبلتين و ذلك قوله: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» و ذلك في مسجد بنى سلمه، فصلّى الظهر و لمّا صلّى الركعتين نزل «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» فتحوّل في الصلاة، فسمّى ذلك المسجد، مسجد القبلتين، فلمّا تحوّلت القبلة أنكر من أنكر، فكان هذا ابتلاء من اللّه كما قال «وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» فاتّبع الرسول و استقل في مبدء طريق السالكين.

[سورة البقرة (2): الآيات 116 الى 117]

وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

«وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً»: و الضمير راجع اما الى قوله «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ» و في المانعين اختلف الأقوال كما ذكرنا من اليهود، او مشركي العرب او غيرهم و على كلّ الأقوال، الآية في اتخاذ الولد، يشملهم لأنّ اليهود قالوا: عزير ابن اللّه- و النصارى قالوا: المسيح ابن اللّه- و مشركوا العرب قالوا: الملائكة بنات اللّه، فلا جرم صحّت هذه الحكاية على جميع التقادير، قال ابن عباس: انّها نزلت في كعب بن الأشرف و كعب بن اسد و وهب بن يهودا، فانّهم جعلوا عزيرا ابن اللّه، و الاتخاذ أما بمعنى الصنع و العمل و يتعدّى الى مفعول واحد- و امّا بمعنى التصيّر، و المفعول الأوّل محذوف، اى صيّر بعض مخلوقاته ولدا و ادعى انّه ولده، لا انّه ولده حقيقة، فكما يستحيل عليه تعالى ان يلد حقيقة، كذا يستحيل عليه التبنّي، فنزّه اللّه تعالى نفسه عما قالوا، بقوله «سُبْحانَهُ» فهو كلمة تنزيه، ينزّه بها عمّا نسبوا اليه، كما قال في موضع آخر: سبحانه أن يكون له ولد فمرّة أظهره و مرّة اقتصر عليه لدلالة الكلام عليه و احتجّ على هذا التنزيه بقوله «بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» لأنّ

ص: 288

السبب المقتضى لاتّخاذ الولد، الاحتياج الى من يعينه في حياته- و يقوم مقامه بعد مماته و لا بدّ أن يكون الولد من جنس والده، فكيف يكون له ولد و هو لا يشبهه شي ء و منزّه عن التركيب و الاحتياج و هو تعالى خالق السماوات و الأرض و ما فيهما جميعا الذي يدخل فيه الملائكة و عزير و المسيح، و كان المستفاد من الدليل، امتناع أن يكون شي ء ما، ممّا في السماوات و الأرض ولدا، سواء كان ذلك ممّا زعموا أم غيره.

«كُلٌّ» أى كلّ ما فيهما من اولى العلم و غيرهم، في الخصال بحذف (1) الأسانيد، عن الصادق عليه السّلام قال: إن للّه اثنى عشر ألف عالم، كلّ عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين، ما يرى عالم منهم ان للّه عالما غيرهم و انّى الحجّة عليهم. في كتاب التوحيد و الخصال، عن جابر بن يزيد قال: سئلت أبا جعفر الباقر، عن قول اللّه:

افعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد، فقال عليه السّلام: يا جابر تاويل ذلك انّ اللّه إذا أفنى هذا الخلق و هذا العالم و سكن اهل الجنّة الجنّة و اهل النار النار جدّد اللّه عالما غير هذا العالم و جدّد خلقا من غير فحولة و لا إناث، يعبدونه و يوحّدونه و يخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم و سماء غير هذه السماء تظلّهم، لعلّك ترى انّ اللّه انّما خلق هذا العالم الواحد، او ترى انّ اللّه لم يخلق بشرا غيركم، بلى و اللّه لقد خلق اللّه ألف ألف عالم و ألف ألف آدم و أنت في آخر تلك العوالم و أولئك الآدميّين. و في حديث آخر عنه عليه السّلام: لعلّكم ترون انّه إذا كان يوم القيامة و صار اهل الجنّة الى الجنة و أهل النار الى النار، لا يعبد بعده اللّه بلى ليخلقنّ اللّه (الحديث).

«لَهُ» تعالى «قانِتُونَ»: اى منقادون و عبرّ سبحانه، اوّلا عن جميع الموجودات بقوله (كُلٌّ) ثمّ عبّر ثانيا بما يختصّ بالعقلاء بقوله (قانِتُونَ) اشعارا بانّ العالي و الداني سواء في هذا الحكم- و السبب في هذه النسبة و هي نسبة الولد الى اللّه:

انّ ارباب الشرائع المتقدّمة كانوا يطلقون على ارباب الأنواع اسم الأب و على الكبير منهم اسم الإله، حتّى قالوا انّ الأب، هو الربّ الأصغر، و انّ اللّه هو الربّ الأكبر، و كانوا يريدون من هذا الإطلاق و المعنى: انّه تعالى هو السبب الأوّل في وجود الإنسان و إنّ الأب هو السبب الآخر في وجوده، فانّ الأب هو مخدوم الإبن و كأنّه موجده

ص: 289


1- في المجلد الرابع عشر من بحار الأنوار ص 79 نقلا عن الخصال مع ذكر الأسانيد

من وجه، ثمّ ظنّت الجهلة منهم انّ المراد به معنى الولادة الطبيعيّة، فاعتقدوا ذلك تقليدا، من غير فهم المراد، و لذلك منع قائله مطلقا، بل كفر، سواء قصد به معنى السّببيّة، او معنى الولادة الطبيعيّة حسما لمادّة الضلالة و الفساد.

قال الرازي في تفسيره: و وجه الاستدلال بهذه الآية في ردّ قولهم و ابطال عقيدتهم من وجوه، الأوّل: انّ كلّ ما سوى الموجود الواجب، ممكن لذاته، و كلّ ممكن لذاته، محدث، و كل محدث فهو مخلوق للواجب، امّا بيان أنّ ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته فلأنّه لو وجد موجودان واجبان لذاتهما لاشتركا في وجوب و لامتاز كلّ واحد منهما عن الآخر بما به التعيّن، و ما به المشاركة غير ما به الممايزة، فيلزمهما قيد المشاركة و قيد الممايزة، و حصل التركيب و كلّ مركّب مفتقر الى اجزائه، فهو ممكن لذاته، فكلّ واحد من ذينك الواجبين لذاتهما ممكن لذاته و هذا خلف.

و الوجه الثاني: انّ هذا الّذى أضيف إليه بأنّه ولده، امّا ان يكون قديما ازليّا، او محدثا، فان كان ازليّا لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولدا و الآخر والدا اولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكما مجرّدا من غير دليل و ان كان الولد حادثا، كان مخلوقا لذلك القديم و عبدا له، و العبد لا يكون ولدا و لا يستحق المعبوديّة.

قال الرضا عليه السّلام: انّ اللّه قديم، و القدم صفة دلّت على انّه لا شي ء قبله و لا شي ء معه في ديمومته و بطل قول من زعم أنّه كان قبله او كان معه شي ء و ذلك أنّه لو كان معه شي ء في بقائه لم يجزان يكون خالقا له لأنّه لم يزل معه فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه، و لو كان قبله شي ء، كان الأوّل ذلك الشي ء، لا هذا، و كان الأوّل اولى بان يكون خالقا للثاني.

و في شرح نهج البلاغة للكيدري، ورد في الخبر: لمّا أراد اللّه خلق السماوات و الأرضين. خلق جوهرا خضرا فنظر إليها بعين الهيبة، فذابت و صار ماء مضطربا، ثمّ اخرج منه بخارا كالدخان، و خلق منه السماء، كما قال: ثم استوى الى السماء و هي دخان؛ ثم فتق تلك السماء، فجعلها سبعا، ثمّ جعل من ذلك الماء زبدا، فخلق منه

ص: 290

ارض مكّة، ثمّ بسط الأرض كلّها من تحت الكعبة، و لذا سمّيت امّ القرى، ثمّ شقّت من تلك الأرض سبع ارضين و جعل بين كلّ سماء و سماء مسيرة خمسمائة عام و كذلك بين كلّ ارض و ارض إلخ.

[سورة البقرة (2): آية 117]

بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

اى إذا أراد شيئا- و اصل القضاء: الاحكام و القطع، عبّر سبحانه تعالى الارادة بالقضاء لإيجابها و وقوعها البتّة، «فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»، فيحصل في الوجود سريعا من غير توقّف و هذا التعبير عبارة عن سرعة حصول المخلوق بإيجاده- و القضاء يستعمل بمعنى الخلق، مثل قوله: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ اى خلقهنّ- و بمعنى الأمر، نحو: وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ و بمعنى الإخبار، مثل: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ اى اخبرناهم- و هذا المعنى لا بدّ و ان يأتى بالى- و بمعنى الفراغ من الشي ء مثل قوله: فلمّا قضى و انّما فسرّ كلمة كن بسرعة الحصول: لأنه تعالى رتب تكوّن المخلوق على قوله كن بفاء التعقيب فيكون قوله: كن مقدما على تكوّن المخلوق بزمان واحد و المتقدّم على المحدث بزمان واحد محدّث، فقوله: كن، لا يجوز ان يكون قديما و لا يجوز ايضا ان يكون قوله، كن، محدّثا لأنّه لو افتقر كلّ محدث الى قوله، كن و قوله، كن، ايضا محدّث، فيلزم افتقار «كن» الى كن آخر و يلزم امّا الدور او التسلسل و هما محالان، فثبت انّه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله: كن، ثمّ قالوا ان الأشياء المعدومة لا يصحّ ان يخاطب و يؤمر و أجيب عن هذا الا يراد انّ الأشياء، المعدومة لمّا كانت معلومة عند اللّه، صارت كالموجود، فيصحّ خطابها و الصحيح انّ المراد سرعة الحصول من الارادة، و الكلام نزل على لسان العرب و مثل هذه المعاني شايع لقولهم امتلأ الحوض و قال قطني: قال ابو الهذيل: هذه الكلمة علامة يفعلها اللّه للملائكة، إذا سمعوها علموا انّه أحدث و خلق امرا، و قيل: انه خاصّ بالّذين قال لهم: كونوا قردة خاسئين و من جرى مجراهم و هو قول الاصمّ- و قيل: المراد انّه امر للأحياء بالموت و للموتى بالحياة.

ص: 291

[سورة البقرة (2): آية 118]

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

لمّا بيّن سبحانه قبائح أقوالهم في التوحيد و نسبة اتّخاذ الولد اليه في الآية السابقة حكى قبايح أقوالهم في انكار النبوّة فقال: «وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» المراد: مشركوا العرب او النصارى او اليهود او كلّهم «لَوْ لا» اى هلّا «يُكَلِّمُنَا اللَّهُ» معاينة، فيخبرنا بأنّك نبيّ، او هلّا يكلّمنا شفاها بكلامه، كما كلّم موسى «أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ» موافقة لدعوتنا كما جاءت آيات موافقة لدعوتهم و لم ترد انّه لم يأتهم آية، لأنّه لأنّه قد جاءتهم الآيات و المعجزات.

«كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ» قيل: هم اليهود، حيث اقترحوا الآيات على موسى، حيث قالوا: أرنا اللّه جهرة- و لن نصبر على طعام واحد و نحوه و كذلك النصارى قالوا لعيسى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ، كذلك- أى مثل ذلك القول الشنيع قالوا قديما- مثل قولهم تشبيه المقول بالمقول.

«تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ»: اى تماثلت قلوب أولئك هؤلاء في العمى و العناد و القسوة و تشابه مقالتهم بمقالة من قبلهم، فانّ الألسنة ترجمان القلوب.

«قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ»: و أنزلناها بيّنة «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»: و يطلبون اليقين و يريدون تحصيله.

[سورة البقرة (2): آية 119]

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)

قرء بفتح التاء و الجزم على النهى، روى ذلك عن ابى جعفر عليه السّلام و ابن عباس و قرء على لفظ الخبر، على ما لم يسمّ فاعله، و على كون الجزم المراد النهى عن المسألة و قيل: النهى ظاهرا و لفظا، لكنّ المراد تفخيم ما اعدّ اللّه لهم من العقاب، لقول القائل: لا تسأل عن حال فلان، فقد صار امره الى فوق ما تتصوّر.

«إِنَّا أَرْسَلْناكَ» يا محمّد «بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً» حالكونك مؤيّدا بالحجج

ص: 292

و القرآن و الآيات، لتكون مبشّرا لمن اتّبعك و اهتدى بدينك و منذرا لمن كفر بك و ضلّ عن دينك.

«وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ»: فعلى قراءة الرفع و الخبر، اى أنت غير مسئول بهم، و معصيتهم لا تضرّك، فانّما عليك البلاغ و علينا الحساب و لا تغتم لكفرهم.

[سورة البقرة (2): آية 120]

وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120)

بيان حال الكفّار من تشدّدهم و ثباتهم على كفرهم و قد بلغ من حالهم انّهم يريدون ان يتّبع صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ملّتهم و الموافقة لهم فيما هم عليه- و النزول، كانت اليهود و النصارى يسئلون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الهدنة و يرونه انّه إن هادنهم و امهلهم اتّبعوه، فآيسه اللّه من موافقتهم، فقال تعالى «وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى اى قل لهم يا محمّد: انّ دين اللّه الذي يرضاه، هو الهدى، اى القرآن و هو يهدى الى الجنة و هو الذي أنت عليه و أنت مهتديه، لا طريقة اليهود و النصارى- و قيل معناه: انّ دلالة اللّه هي الدلالة و هدى اللّه هو الهداية، كما يقال: طريقة فلان هي الطريقة.

«وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» و مراداتهم، قال ابن عباس: معناه ان صلّيت على قبلتهم «بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ»: اى من البيان من اللّه، او من الدّين «ما لَكَ» يا محمّد «مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ» و ناصر يحفظك من عقابه «وَ لا نَصِيرٍ» و ظهير يعاونك و الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المراد امّته، كقوله: لئن أشركت ليحبطنّ عملك، قال ابن عباس: جميع مثل هذه الخطابات في القرآن، المراد منه الامّة، و الذين قالوا: انّ الخطاب متوجّه الى الكلّ، له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لأمّته، قالوا لا بأس بالخطاب اليه مع علمه سبحانه بعصمته، لأنّ التكليف و التحذير مع وجود الآلات و القوى البشريّة حسن

ص: 293

و العلم بعدم الوقوع لا ينافي الإمكان الذاتي الّذى هو متعلّق التكليف.

[سورة البقرة (2): آية 121]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)

«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ»: الذين آتيناهم مبتداء و أولئك مبتداء ثان، يؤمنون خبره، يريد عبد اللّه بن سلام و أصحابه الذين اسلموا من اليهود- و انّما خصّهم بذكر الإيتاء مع ان الكلّ من اليهود مأتيّون بالكتاب، لأنّهم هم الذين عملوا به «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ»: بمراعاة لفظه عن التحريف و بالتدبّر في معانيه و العمل به- و قيل: المراد من، الّذين آتيناهم، اهل السفينة الّذين قدموا مع جعفر بن ابي طالب عليه السّلام من الحبشة و كانوا أربعين رجلا، اثنان و ثلاثون من الحبشة و ثمانية من رهبان الشام، عن ابن عباس قال: نزلت الآية فيهم و قيل: المراد اصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على هذا فالمراد بالكتاب، القرآن «أُولئِكَ» الموصوفون «يُؤْمِنُونَ بِهِ» اى بالكتاب «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ» بالكتاب، سواء كان كفره بالتحريف، او بالإنكار «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» الهالكون المغبونون.

[سورة البقرة (2): الآيات 122 الى 123]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

«يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ»: فمن جملة النعمة، التوراة و ذكر النعمة انما يكون بشكرها و شكرها الايمان به و من جملتها نعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فمن ضرورة الايمان بالتوراة، الايمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فاعرف منعمك، انّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، عن اصبغ ابن نباتة: قال امير المؤمنين عليه السّلام: انّ السماوات و الأرض و ما فيهما، من مخلوق في جوف الكرسي، و له اربعة أملاك يحملونه باذن اللّه فامّا ملك منهم ففي صورة

ص: 294

الآدميّين و هي أكرم الصور على اللّه و هو يدعو اللّه و يطلب الرزق لبنى آدم، الثاني في صورة الثور، و هو يطلب الرزق و السعة للبهائم، و الثالث في صورة النسر و هو سيد الطيور، يطلب الرزق لجميع الطيور، و الرابع في صورة الأسد و هو يطلب الرزق للسباع، و لم يكن في هذه الصور احسن من الثور و لا اشدّ انتصابا منه، حتّى اتّخذ الملاء من بنى إسرائيل العجل فلمّا عكفوا عليه و عبدوه خفض الملك الذي بصورة الثور حياء من اللّه ان عبد من دون اللّه شي ء يشبهه و تخوّف ان ينزّل به العذاب، ثمّ قال عليه السّلام: انّ الشجر لم يزل حصيدا مخضودا حتّى دعى للرحمن ولد، فعند ذلك اقشعر الشجر و صار له شوك حذارا ان ينزل به العذاب، فما بال قوم غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عدلوا عن وصيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يخافون ان ينزل بهم العذاب، ثمّ تلا: الم تر الى الذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا و احلّوا قومهم دار البوار.

«وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ»: اى عالمي زمانكم «وَ اتَّقُوا يَوْماً»: اى عذاب يوم «لا تَجْزِي»: و لا تقضى في ذلك اليوم «نَفْسٌ» من النفوس «عَنْ نَفْسٍ» اخرى «شَيْئاً» من الحقوق التي لزمتها و لا تؤخذ نفس بذنب اخرى و لا تدفع من اخرى و اما إذا كان عليها شي ء، فإنه يقتصّ منها بغير اختيارها، بما لها من حسناتها ممّا عليها من الحقوق كما جاء في الحديث: انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من كانت عليه مظلمة لأخيه من عرض او غيره، فليستحلل منه اليوم، قبل ان لا يكون دينار و لا درهم ان كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته و ان لم يكن له حسنات، أخذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه.

«وَ لا يُقْبَلُ مِنْها»: من النفس العاصية «عَدْلٌ»: اى فداء، و الفدية ما يماثل الشي ء قيمته و عوضه و ان لم يكن من جنسه «وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ» ان شفعت للنفس الثانية «وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ»: و لا يمنعون من عذاب اللّه، و لا تقع الشفاعة للكافر، و لا تنفع ابدا، لا من الملائكة و لا من الأنبياء.

و في الحديث: من اتبع قوما على أعمالهم حشر في زمرتهم و حوسب يوم القيامة بحسابهم و ان لم يعمل بأعمالهم، و ربما يكون للإنسان شركة في اثم القتل و الزنا

ص: 295

و غيرهما إذا رضى به من عامل، و مال إلى ذلك الفعل: كما انّ من حضر معصية فكرهها فكانّما غاب عنها و من غاب عنها فرضيها كان كمن حضرها.

و في الحديث: سيأتي على الناس زمان تخلق فيه سنّتى و تتجدّد البدعة فيه فمن اتبع سنتي يومئذ صار غريبا و بقي وحيدا و من اتبع بدع الناس و جد خمسين صاحبا و اكثر.

[سورة البقرة (2): آية 124]

وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

قال القرطبي: إبراهيم بالسريانية على ما ذكره الماوردي و في العربية على ما حكى ابن عطيّة: أب رحيم، و كثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني و العربيّ، قيل:

اسمه، ابرايم، فزيد: ها، في اسمه و الهاء في السريانية: للتفخيم و التعظيم، و قرء ابراهام و انّما حكى سبحانه في هذا المقام قصّة ابراهيم، لأنّه كان معروف الفضل، عند تمام الطوائف و الملل، فالمشركون كانوا معترفين بفضله، متشرّفين بانّهم من أولاده و من ساكني حرمه، و اهل الكتاب من اليهود و النصارى كانوا ايضا مقرّين بفضله، متشرفين بانّهم من أولاده، فحكى سبحانه أمورا توجب على المشركين و على اليهود و النصارى قبول قول محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاعتراف بدينه و الانقياد لشرعه و ذلك لأنّ ابراهيم عليه السّلام ما نال الى منصب النبوّة و الامامة الّا بقبول التوحيد و ترك التمرد، و الانقياد لحكم اللّه و طلب الامامة لأولاده، فقال اللّه: لا ينال عهدي الظالمين، فدلّ على انّ منصب الامامة و الرياسة في الدين، لا يصل الى الظالم، فهؤلاء متى أرادوا الخير وجب عليهم ترك اللجاج و الظلم و قبول الباطل و انكار اليهود و النصارى تحويل القبلة من غير وجه، لأنّ هذا البيت قبلة ابراهيم عليه السّلام الّذى يعترفون بفضله و يفتخرون بنسبه.

«وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ»: الابتلاء (1) على ضربين، أحدهما يستحيل على اللّه و الآخر جائز، فالمستحيل هو ان يختبره ليعلم ما يكشف له عنه و هذا ما لا يصحّ لأنّه علّام

ص: 296


1- و هذا مضمون الرواية التي المجلد الخامس من بحار الأنوار ص 130 نقلا عن الأمالي.

الغيوب و الآخران يبتليه حتّى يصبر فيما يبتليه به، فيكون ما يعطيه من العطاء على سبيل الاستحقاق و لينظر الناظر اليه، فيقتدى به و يكون إرشادا للغير.

المعنى: و اذكر وقت امتحان اللّه ابراهيم، و هو مجاز و حقيقته انّه امره و كلّفه و حقيقة الابتلاء من اللّه تشديد التكليف.

«بِكَلِماتٍ» و روى عن الصادق عليه السّلام: اوّل ما ابتلاه اللّه في نومه، من ذبح ولده إسماعيل عليه السّلام ابى العرب، فعزم عليها و سلم لأمر اللّه، فأتمه، فقال اللّه ثوابا له لما صدق و عمل بما امره اللّه: انى جاعلك للناس اماما، ثمّ أنزل اللّه عليه الحنيفية، و فسّرت، الكلمات بوجوه، قال ابن عباس: هي عشر خصال كانت فرضا في شرعه و سنّة في شرعنا خمس منها في الرأس و هي: المضمضة و الاستنشاق و فرق الرأس و قص الشارب و السواك و خمس في البدن و هي: الختان و حلق العانة و نتف الإبط و تقليم الأظفار و الاستنجاء بالماء، اى غسل مكان الغائط و البول بالماء- و المراد من فرق الرأس تقسيمه الى نصفين، و كان المشركون يفرقون شعور رؤسهم و اهل الكتاب يرسلون شعورهم على الجبين و يتخذونها كالقصة و هي شعر الناصية، قيل: و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحب موافقة أهل الكتاب ثمّ نزل جبرئيل عليه السّلام، فأمره بالفرق و اكثر حال النبىّ كان الإرسال و حلق الرأس منه معدود و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقصّ شاربه كل جمعة قبل ان يخرج الى صلاة الجمعة و القصّ في الشارب لا بدّ و ان يبدوا طراف الشفه و لا يبقى فيه غمر الطعام و السنة تقصير الشارب و حلقه، قيل: بدعة كحلق اللحية، و في الحديث: جزّوا الشوارب و اعفوا اللحي و الجزّ:

القصّ و القطع: و الإعفاء: التوفير و الترك على حالها، و حلق اللحية حرام و قبيح و مثلة:

كما انّ حلق شعر الرأس، في حق المرأة مثلة، منهىّ عنه و تشبّه بالرجال و تفويت للزينة، كذلك حلق اللحية، تشبّه بالنساء.

في وسائل الشيعة، عن الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حفّوا الشوارب و اعفوا اللحى و لا تشبهوا بالمجوس، جزّوا لحاهم و وفّروا شواربهم، و نحن نجزّ الشوارب و نعفي اللحى و هي الفطرة و حديث آخر و في تفسير على بن ابراهيم، في قوله تعالى:

ص: 297

و إذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فاتمّهن، قال: انّه ابتلاه في نومه بذبح إسماعيل، فاهمّها ابراهيم و سلّم لأمر اللّه، قال اللّه ثوابا له: انى جاعلك للناس اماما، ثمّ انزل عليه الحنيفيّة و هي عشرة: خمسة في الرأس و خمسة في البدن، امّا التي في الرأس: أخذ الشارب و اعفاء اللحى و طم الشعر من الرأس و السواك و الخلال و لو لا هذه الاخبار ففي النهى التحريمي في مشاكلة اعداء الدين و سلوك طريقتهم و تشبّه الرجال بالنساء و حكم وجوب الدية الكاملة في حلق اللحية إذا لم تنبت و إذا نبتت فثلث الدية لكفى دليلا في حرمة حلق اللحية.

و اعلم: انّ دية أعضاء الرجل و المرأة متساوية الى ان تبلغ الثلث من الدية الكاملة، فإذا بلغت الثلث فتضاعف دية أعضاء الرجل.

قال ابان ابن تغلب: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة، كم فيها من الدية، قال عليه السّلام: عشرة من الإبل، قلت: قطع اثنتين، قال عليه السّلام عشرون، قلت: قطع ثلاثا، قال عليه السّلام: ثلاثون، قلت: أربعا، قال عليه السّلام: عشرون، قلت:

سبحان اللّه، يقطع ثلاثا، فيكون عليه ثلاثون و يقطع أربعا و عليهن عشرون، قال عليه السّلام مهلا هذا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ المرأة تعادل الرجل الى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت الى نصف دية الرجل.

في تفسير روح البيان: و من تسبيح الملائكة: سبحان من زيّن الرجال باللحى و زيّن النساء بالذوائب.

و في رواية اخرى عن ابن عباس ايضا انّه تعالى ابتلاه بثلاثين خصلة من شرايع الإسلام، فأقامها كلّها ابراهيم و اتمّهن فكتب له البراءة، فقال سبحانه: و ابراهيم الذي وفي و هي عشرة في سورة براءة: التائبون العابدون الى اخرها و عشرة في الأحزاب:

انّ المسلمين و المسلمات الى اخرها و عشرة في سورة المؤمنين: قد أفلح المؤمنون الى قوله: أولئك هم الوارثون، و روى و عشرة في سورة سأل سائل، الى قوله: و الذين هم على صلاتهم يحافظون، فجعلها أربعين و في رواية عن ابن عباس انّه امره بمناسك

ص: 298

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 349

الحج و قيل ابتلاه اللّه بالكوكب و القمر و الشمس و الختان و بذبح الولد و بالنار و بالهجرة فكلّهنّ وفّاهن و الآية يحتمله الجميع.

قال الشيخ ابو جعفر: يشمل الكلمات المقام اليقين الّذى اتى به و ذلك قوله:

و ليكون من الموقنين و المعرفة بالتنزيه عن التشبيه حين نظر إلى الكوكب و القمر و الشمس و ذلك قوله: فلمّا افل قال: انّى لا احبّ الآفلين، و منها الشجاعة بدلالة قوله: فجعلهم جذاذا الّا كبيرا منهم، و مقاومته اعداء اللّه فريدا بنفسه، و منها الحلم و ذلك قوله: انّ ابراهيم لحليم اوّاه منيب، و منها السخاء و يدلّ عليه قوله: هل أتيك حديث ضيف ابراهيم المكرمين، ثمّ العزلة عن العشيره و قد تضمّنه قوله: و اعتزلكم و ما تدعون من دون اللّه، ثمّ الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و بيان ذلك في قوله:

يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر، ثمّ التوكّل و بيان ذلك في قوله: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ثمّ المحنة حين جعل في المنجنيق و قذف به الى النار، ثمّ الصبر على سوء خلق سارة، ثمّ الزلفة، في قوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا، ثمّ الجمع لشروط الطاعات، في قوله: انّ صلاتي و نسكي إلى قوله و انا اوّل المسلمين، ثمّ استجابة دعوته، حين قال: ربّ أرني كيف تحيى الموتى، ثمّ اصطفاؤه في قوله: وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثمّ اقتداء من بعده من الأنبياء به في قوله: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ الآية، انتهى كلام الشيخ.

فاتّبع سنة من قد خلق اللّه نوره قبل الظهور في عالم البشريّة بدهور و دع قياسات الفكريّة و الاستحسانات العقليّة، فتكون تحرف النواميس بعقلك القاصر، فانّ صاحب الناموس اعرف منك و لا تكن كبعض السفهاء الذين يدّعون العقل في زماننا، فانّهم قاسوا بعقولهم انّ قسمة الأنثى إذا كان بالعكس، كان اقرب بالعدل، لأنّ النساء أضعف في الاكتساب و ليس لهنّ تدبير و عقل كما في الرجال و هذا الكلام مع قطع النظر عن مخالفة الشريعة، مخالف للعقل، لأنّ الرجل أفقر للمال منهنّ بسبب القيام بامورهنّ، ثمّ انّ لهنّ من يقوم بامورهنّ

ص: 299

و اقلّ حاجة من الرجال بسبب الأنوثة، فان لم يقبّلها ذا، يقبّلها ذاك، فيقوم بأمرها لكن الرجل ليس له هذه المنفعة و لا اقل من ان يقوم بأمر نفسه، فحاجته بالمال اكثر من حاجة المرأة، ثمّ انّه في الغالب تتساوى المرأة مع الرجل في المال مع ما تأخذ نصف الرجل في الميراث، مثل ان إذا أخذ الرجل ألف درهم و المرأة خمسمائة درهم، فلمّا تزوّجت تأخذ من الصداق مثلا خمسمائة درهم فتساوى أخاها في المال و الأخ إذا أراد أن يتزوّج فلا بدان يجعل و يعطى صداق زوجته خمسمائة درهم، فيكون مساويا لأخته في المال و امور أخر، لا حاجة بالاطالة، فاجعل عقلك تابعا للشرع لا العكس، تكن مؤمنا و لا تكن زنديقا، اما قرأت القرآن؟ الرجال قوّامون على النساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعض، و فضل الرجال، العقل و القوّة و الغزو و انّ منهم الأنبياء و الحكماء و فيهم الخلافة و الامامة و الاقتداء بهم في الصلوات و الأذان و الخطبة و الاعتكاف و الشهادة و زيادة السهم و تحمل الدية في القتل الخطاء و الولاية في النكاح و الطلاق و عدد الأزواج.

«فَأَتَمَّهُنَّ»: اى وفّي بهنّ و عملها بالتمام و قيل: ضمير الفاعل في اتمهنّ راجع الى اللّه على قول ابي القاسم البلخي «قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً»: قل انى جاعلك لأجل الناس مقتدى يأتمّون بك في هذه الخصال، فهو مقتدى الصالحين الى قيام الساعة و قد أنجز اللّه وعده لأنّه امر نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: ثمّ أوحينا إليك ان اتبع ملّة ابراهيم، و اجتمع اهل الأديان على تعظيمه، كما انّ امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقولون في آخر صلواتهم: اللّهم صلى على محمّد و آل محمّد كما صليت على ابراهيم و آل ابراهيم انّك حميد مجيد و في الخبر: انّ ابراهيم رأى في المنام جنّة عريضة مكتوب على أشجارها، لا اله الّا اللّه محمّد رسول اللّه، فسأل جبرئيل عليه السّلام عنها فأخبره بالقصّة، فقال: يا ربّ أجر على لسان امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكرى، فاستجاب اللّه دعاءه «قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي» عطف على الكاف في جاعلك و «من» تبعيضيّة، اى و اجعل بعض ذريّتي اماما يقتدى به الناس، لكنّه راعى الأدب بالاحتراز عن صورة الأمر و لم يقل، و اجعل، و تخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة امامة الكلّ و ان كانوا على الحق، و الذريّة نسل الرجل و قد

ص: 300

يطلق على الآباء و الأبناء من الذكور و الإناث و منه قوله تعالى: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أراد آبائهم و تطلق الذريّة ايضا على الواحد، كقوله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً: يعنى ولدا صالحا «قالَ» اللّه «لا يَنالُ» و لا يصيب «عَهْدِي الظَّالِمِينَ»: اى ان أولادك منهم مسلمون و منهم كافرون، فلا يصل الامامة و النبوّة للظالم، لأنّ الامام انّما هو يمنع الظلم، فمن استرعى الذئب للغنم ظلم و في الآية دليل على انّ الفاسق لا يصلح للامامة، بل لا يقدّم للصلاة ايضا و قالت الاشاعرة: أريد بالظالم، الكافر.

أقول: و في تعبير الظالم بخصوص الكافر، تعنّت و تعسّف، لأنّ كون الكافر ظالما لا يخرج الظالم عن إطلاقه فلا ينالهما فمن اين تعيّن التخصيص و في الآية أيضا دليل علي عصمة الأنبياء من المعاصي قبل البعثة و بعد البعثة، لأنّه يصدّق عليه انّه كان ظالما و لو و قتاما قال الطبرسي: فان قيل انّما نفى ان يناله ظالم في حالة ظلمه، فإذا تاب لا يسمّى ظالما فيصحّ ان يناله، فالجواب انّ الظالم و ان تاب فلا يخرج من ان تكون الآية قد تناولته في حالكونه ظالما فإذا نفى سبحانه ان يناله فقد حكم عليه بانّه لا يناله، لأنّ الآية مطلقة غير مقيّدة بوقت دون وقت، فيجب ان تكون محمولة على الأوقات كلّها، فلا ينالها الظالم و ان تاب فيما بعد انتهى.

في كتاب السماء و العالم، بعض الحديث: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال عيسى ابن مريم في الإنجيل: يا معشر الحواريين، خلق اللّه الليل لثلاث امور و خلق النهار لسبع خصال، فمن مضى عليه الليل و النّهار و هو في غير هذه الخصال، خاصماه يوم القيامة؛ خلق اللّه الليل لتسكن فيه العروق الفاترة التي أتعبتها في نهارك و تستغفر لذنبك الذي كسبتها بالنهار ثمّ لا تعود فيه و تقنت فيه قنوت الصابرين، فثلث تنام و ثلث تقوم بالعبادة و ثلث تضرّع الى ربّك و هذا ما خلق له الليل. و امّا النّهار لتؤدى الصلاة المفروضة التي عنها تسئل و ان تبرّ بوالديك و ان تضرب في الأرض تبتغى لمعيشة يومك و ان تعودوا فيه وليّا للّه و ان تشيعوا جنازة كيما تنقلبوا مغفورا لكم و ان تأمروا بمعروف و ان تنهوا عن منكر فهو ذروة الايمان و قوام الدين و ان تجاهدوا في سبيل اللّه.

ص: 301

[سورة البقرة (2): آية 125]

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

«وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ»: اى و اذكر يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقت تصييرنا الكعبة «مَثابَةً» معاذا و ملجأ و مآبا و مباءة و مرجعا يتوبون اليه في كل عام- و في الحديث: من خرج من مكة و هو ينوى الحج من قابل زيد في عمره و من خرج من مكّة و هو لا ينوى العود إليها فقد قرب اجله او المعنى يحجّون اليه فيثابون عليه.

«وَ أَمْناً»: موضع أمن، لأنّ من أعاذ به لا يخاف على نفسه مادام فيه، فانّ المشركين كانوا لا يتعرّضون لسكّان الحرم و كان الرجل منهم يرى قاتل أبيه فيه فلا يتعرّض له و هذا شي ء توارثوه من دين إسماعيل، فبقوا عليه الى ايام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم او المعنى يأمن حاجّه من عذاب الآخرة من حيث انّ الحج يجبّ و يقطع و يمحو ما وجب قبله من حقوق اللّه الغير الماليّة، مثل الزكاة و كفّارة اليمين و أما حقوق النّاس فلا يحبّها الحج؛ لكن نقل صاحب تفسير روح البيان رواية و اللّه عالم بصحتها و فسادها، قال:

و لكن روى انّ اللّه استجاب دعاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة المزدلفة، في الدماء و المظالم و نقل عن كتابهم الكافي و تفسير الفاتحة للقونوى؛ «وَ اتَّخِذُوا»: اى و قلنا: اتّخذوا على ارادة القول، لئلّا يلزم عطف الإنشاء على الاخبار.

«مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى»: اى موضع الصلاة و «من»: للتبعيض و مقام ابراهيم الحجر الذي فيه اثر قدميه او الموضع الذي كان فيه حين دعى الناس و قام عليه، او حين رفع بناء البيت.

قال ابن عباس: الحج كلّه مقام ابراهيم و قال عطاء: مقام ابراهيم، عرفة و المزدلفة و الجمار و قال مجاهد: الحرم كلّه مقام إبراهيم و قال قتادة و الحسن و السّدى: هو الصلاة عند مقام ابراهيم، أمرنا بالصلوة عنده بعد الطواف و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام و هذا هو الظاهر: لأنّ مقام ابراهيم إذا اطلق، لا يفهم منه الّا المقام المعروف اليوم بمقام ابراهيم

ص: 302

الّذى هو في المسجد الحرام و في المقام دلالة على نبوّة ابراهيم، فإنّ اللّه جعل الحجر تحت قدميه كالطين حتّى دخلت قدماه فيه؟ قال ابو جعفر عليه السّلام: نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة، مقام ابراهيم عليه السّلام و حجر بنى إسرائيل و الحجر الأسود، استودعه اللّه إبراهيم عليه السّلام حجرا ابيضا و كان اشدّ بياضا من القراطيس فاسودّ من خطايا بنى آدم، و في قصّة مهاجرة إسماعيل و هاجر: روى عن على بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن النصر بن سويد، عن هشام، عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ إبراهيم كان نازلا في بادية الشام، فلمّا ولد له من هاجر، إسماعيل اغتمّت سارة من ذلك غمّا شديدا، فكانت تؤذى إبراهيم في هاجر و تغمّه، فشكى إبراهيم عليه السّلام إلى اللّه، فأوحى اللّه إليه: إنّما مثل المرأة مثل الضلع المعوج، ان تركته استمتعت به و ان رمت ان تقيمه كسرته، قال الشاعر:

هي الضلع العوجاء لست تقيمهاالا انّ تقويم الضلوع انكسارها

ثمّ امره اللّه ان يخرج إسماعيل عليه السّلام و هاجر عنها، فقال: اى ربّ إلى اىّ مكان؟ قال:

الى حرمي. و أمني و أول بقعة خلقتها من ارضى و هي مكة و أنزل عليه جبرئيل بالبراق فحمل إبراهيم و هاجر. و إسماعيل عليه السّلام، فكان لا يمر إبراهيم عليه السّلام بموضع حسن فيه شجر و نخل و زرع، الّا قال إبراهيم عليه السّلام الى هاهنا، فيقول لا امض حتّى وافى مكّة، فوضعه في موضع البيت و قد كان عاهد إبراهيم عليه السّلام سارة، ان لا ينزل حتّى يرجع إليها، فلمّا نزلا في ذلك المكان، كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلّا تحته، فلمّا سرحهم إبراهيم عليه السّلام و وضعهم و أراد الانصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: لم تدعنا في هذا الموضع الّذي ليس فيه أنيس و لا ماء و لا زرع، فقال إبراهيم عليه السّلام: أمرني ربّى ان أضعكم في هذا المكان، ثمّ انصرف عنهم، فلمّا بلغ كدى و هو جبل بذي طوى، التفت إليهم إبراهيم عليه السّلام فقال: ربّنا انّى أسكنت من ذريّتى بواد غير ذي زرع، الى قوله: لعلّهم يشكرون؛ ثم مضى و بقيت هاجر و إسماعيل عليه السّلام، فلمّا ارتفع النهار عطش إسماعيل عليه السّلام، فقامت هاجر في الوادي، حتّى صارت في موضع المسعى، فنادت. هل في الوادي أنيس، فغاب عنها إسماعيل عليه السّلام، فصعدت على الصفا و لمع لها السراب في الوادي، فظنّت انّه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت،

ص: 303

فلمّا بلغت المروة غاب عنها إسماعيل عليه السّلام، ثمّ لمع لها السراب في ناحية الصفا، فهبطت إلى الوادي بطلب الماء؛ فلمّا غاب عنها إسماعيل عليه السّلام، عادت حتّى بلغت الصفا، فنظرت إلى إسماعيل عليه السّلام حتّى فعلت ذلك سبع مرّات، فلمّا كان في الشوط السابع و هي على المروة، نظرت إلى إسماعيل عليه السّلام و قد ظهر الماء من تحت رجليه فعدت حتّى جمعت حوله رملا و إنّه كان سائلا فزممته بما جعلت حوله الرمل، فلذلك سمّيت زمزم.

و كانت جرهم نازلة بذي المجاز و عرفات فلمّا ظهر الماء بمكّة، عكفت الطيور و الوحوش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكّف الطير على ذلك المكان فاتّبعوها حتّى نظرت إلى امرأة و صبيّ نزلوا في ذلك المكان و قد استظلّوا الشجر و قد ظهر لهم الماء، فقالت لهاجر: من أنت و ما شأن هذا الصبيّ؟ قالت: أنا أمّ و لد إبراهيم خليل الرحمن و هذا ابنه، أمره أن ينزلنا هذا الموضع، فقالوا لها: أ تأذنين أن نكون بالقرب منكم؟

فقالت: حتّى أستأذن إبراهيم عليه السّلام فزارهما إبراهيم عليه السّلام يوم الثالث، فاستأذنت هاجر من إبراهيم عليه السّلام في الإذن لهم، فأذن إبراهيم عليه السّلام، فنزلوا بالقرب منهم و ضربوا خيامهم و أنست و إسماعيل عليه السّلام بهم.

فلمّا زارهم إبراهيم عليه السّلام في المرّة الثالثة و نظر إلى كثرة الناس حولهم، سرّ بذلك سرورا شديدا، فلمّا تحرّك إسماعيل عليه السّلام و كانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كلّ واحد منهم شاتا و شاتين و كانت هاجر و إسماعيل عليه السّلام يعيشان بها.

فلمّا بلغ إسماعيل عليه السّلام مبلغ الرجال، أمر اللّه إبراهيم عليه السّلام أن يبني البيت، فقال: يا ربّ في أيّ بقعة؟ فقال في البقعة الّتي أنزلت على آدم عليه السّلام القبّة، فأضاءت الحرم و لم تزل القبّة الّتي أنزلها اللّه على آدم عليه السّلام قائمة، حتّى كان أيّام الطوفان زمن نوح عليه السّلام، فلمّا غرقت الدنيا رفع اللّه تلك القبّة و غرقت الدنيا و لم تغرق مكّة فسمّي البيت العتيق لأنّه أعتق من الغرق.

و بعث اللّه جبرئيل عليه السّلام على إبراهيم عليه السّلام فخطّ له موضع البيت و كان الحجر الّذي أنزله اللّه على آدم عليه السّلام أشدّ بياضا من الثلج كما ذكرنا فبنى إبراهيم عليه السّلام البيت

ص: 304

و نقل إسماعيل عليه السّلام الحجر من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة أذرع.

ثمّ دلّه جبرئيل عليهم السّلام على موضع الحجر في الأرض، فاستخرجه إبراهيم و وضعه في الموضع الّذي هو فيه و جعل له بابين، بابا إلى المشرق و بابا إلى المغرب، فالباب الّذي إلى المغرب يسمّى المستجار، ثمّ ألقى عليه الشبح و الإذخر.

فلمّا تمّ البناء نزل جبرئيل يوم التروية، فقال: قم يا إبراهيم فادنوا من الماء لأنّه لم يكن بمنى و عرفات ماء، فسمّيت التروية لذلك، ثمّ أخرجه إلى منى، فبات بها، ففعل بها ما فعل بآدم.

[وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أي أمرناهما أمرا مؤكّدا و وصّينا إليهما، فإنّ العهد قد يكون بمعنى الأمر و الوصيّة؛ يقال عهد إليه: أي أمره و وصّاه، و منه قوله تعالى: «أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ» (1).

و قيل: سمّي إسماعيل لأنّ إبراهيم عليه السّلام كان يدعو إلى اللّه أن يرزقه ولدا و يقول: اسمع يا إيل و «إيل» هو اللّه، فلمّا رزق سمّاه به.

[أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ بأن طهّراه عن الأوثان و الأنجاس و المراد من «طَهِّرا» أي أقرّاه على طهارته و احفظاه من أن يصيب حوله شي ء منها، و يقرّبون إليه المشركون و هذا كقوله: «وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» (2) فإنّهن لم يطهّرن من نجس، بل خلقهنّ طاهرات، كقولك للخيّاط: وسّع كمّه، و الكمّ ما كان ضيّقا حتّى يوسّعه، بل المراد اصنعه ابتداء واسع الكمّ.

[لِلطَّائِفِينَ الزائرين حوله [وَ الْعاكِفِينَ المجاورين الّذين عكفوا و أقاموا عنده، و هذا في المتوطّنين و الأوّل في القادمين للزيارة و الطواف [وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ] أي المصلّين؛ جمع راكع و ساجد. و لتقارب الركوع و السجود ذاتا و زمانا ترك العاطف بين موصوفيهما.

و الجلوس في مسجد الحرام ناظرا إلى الكعبة من جملة العبادات المرضيّة.

ص: 305


1- يس: 61.
2- البقرة: 24.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ للّه تعالى في كلّ يوم عشرين و مائة رحمة تنزل على هذا البيت، ستّون للطائفين و أربعون للمصلّين و عشرون للناظرين.

و اعلم: أنّه لمّا قال: «أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ» دخل فيه بالمعنى جميع بيوته، فيكون حكمها حكمه في التطهير، و خصّ الكعبة بالذكر لأنّه لم يكن في ذلك الوقت هناك غيره. و في روح البيان: في الحديث: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اوحي إليّ: يا أخا المنذرين، يا أخا المرسلين، أنذر قومك أن لا يدخلوا بيتا من بيوتي إلّا بقلوب سليمة و ألسنة صادقة و أيدي نقيّة و فروج طاهرة، و لا يدخلوا بيتا من بيوتي ما دام لأحد عندهم مظلمة فإنّي ألعنه مادام قائما بين يديّ حتّى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعه الّذي يسمع به و بصره الّذي يبصر به و يكون من أوليائي و أصفيائي و يكون جاري مع النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين.

و كلّ أمر له ضدّ مثل أنّ المظلمة عظيمة، و ردّها أعظم منها.

ثمّ اسع في ردّ مظالم الخلق؛ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ ردّ درهم مظلمة أفضل عند اللّه من أربعين حجّة مقبولة، أو أربعين ألف.

و الانقطاع في الخلوة و دوام الذكر إلى أن ينخرق من روزنة الغيب نور، و ذلك نور اليقين، فتكون بعد حصول ذلك النور مؤمنا حقّا كما قال عليّ عليه السّلام لحارث:

كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت باللّه مؤمنا حقّا، فقال عليه السّلام: إنّ لكلّ حقّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عرفت عزّ الدنيا فاستوى عندي ذهبها و مدرها و كأنّي بأهل الجنّة في الجنّة يتزاورون، و بأهل النار يتعاوون، و كأنّي بعرش ربّي بارز، فقال عليه السّلام: مؤمن نوّر اللّه قلبه، الآن عرفت فالزم. و القلب المؤمن عرش الرحمن فلا بدّ من تصفيته حتّى تعكف عنده الأنوار الإلهيّة و تنزل عليه السكينة و الوقار؛ فعند وصول العبد إلى هذه الرتبة فهو من الركّع السجّد، و ناجى اللّه بسرّه فيكون من أهل اليقين.

[سورة البقرة (2): آية 126]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

ص: 306

[وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ المراد من الآية دعاء إبراهيم عليه السّلام للمؤمنين من سكّان مكّة بالأمن و السعة: [رَبِّ اجْعَلْ هذا] المكان و هو الحرم [بَلَداً] ذا أمن يأمن أهله من المخاوف و الزلازل و الخسف و الجنون و نحو ذلك من المثلات الّتي تحلّ بالبلاد، و «آمن» من باب النسب، مثل لابن و تامر، و هذا الدعاء كان في أوّل ما قدم إبراهيم عليه السّلام مكّة لمّا قالت له هاجر: إلى من تكلنا في هذا البلقع؟

[آمِناً] مأمونا، قال ابن عبّاس: يريد محرّما، لا يصاد طيره و لا يقطع شجره و لا يؤذى جاره، و إلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق عليه السّلام، من قوله: من دخل المسجد مستجيرا باللّه فهو آمن من سخط اللّه، و من دخله من الوحش و الطير كان آمنا من أن يهاج عليه حتّى يخرج من الحرم.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم فتح مكّة: إنّ اللّه حرّم مكّة يوم خلق السماوات و الأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحلّ لأحد قبلي و لا تحلّ لأحد بعدي و لم تحلّ لي إلّا ساعة من النهار.

و هذه الرواية و أمثالها يدلّ على أنّ الحرم كان آمنا قبل دعوة إبراهيم عليه السّلام و قد تأكّدت حرمته بدعائه.

و قيل: إنّما صار حرما بدعائه و كان قبل ذلك كسائر البلاد و استدلّ بصحّة هذا القول الثاني بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ إبراهيم عليه السّلام حرّم مكّة و إنّي حرّمت المدينة.

و قيل: كانت مكّة حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الّذي صارت به حراما بعد الدعوة، فالأوّل بمنع اللّه إيّاها من الخسف و الائتفاك، كما لحق ذلك غيرها من البلاد. و بما جعل في النفوس لها من الهيبة و العظمة. و الثاني بالأمر بتعظيمه على ألسنة الرسل و بالمناسك و آداب الحجّ، فأجابه اللّه إلى ما سأل.

و قيل: إنّه سأل الأمرين على أن يديمها و إن كان أحدهما مستأنفا و الآخر قد كان.

[وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ و المأكولات ممّا يخرج من الأرض، فاستجاب له في

ص: 307

ذلك [مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] بدل من «أهله» أي و ارزق المؤمنين خاصّة [قالَ اللّه: [وَ مَنْ كَفَرَ] أي قال اللّه: فقد استجيب دعوتك فيمن آمن، و من كفر [فَأُمَتِّعُهُ أي أمدّ له ليتناول من لذّات الدنيا [قَلِيلًا] تمتيعا قليلا و زمانا قصيرا، و هو مدّة حياته.

[ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ] و لا شي ء أشدّ من عذاب النار، و اضطرارهم وقوعهم فيها بحيث يتعذّر عليهم التخلّص منه، لأنّهم ليسوا مختارين و لا يملكون الامتناع منه [وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ] و المخصوص بالذم محذوف أي بئس المرجع و المقام المصير إلى النار.

[سورة البقرة (2): آية 127]

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

[وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ الرفع و الإصعاد و الإعلاء نظائر كما أنّ القواعد و الأساس و الأركان نظائر، و أصلها الثبوت و الاستقرار، و قاعدة البناء أساسه الّذي بني عليه.

بيّن سبحانه بناء إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام البيت. و اذكر يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقت رفع إبراهيم أساس البيت الّتي كانت قبل ذلك لأنّ أوّل من حجّ البيت آدم عليه السّلام.

قال الصادق عليه السّلام: و كانت البيت درّة بيضاء، فرفعه اللّه إلى السماء و بقي أساسه و كان يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون إليه أبدا، قاله العيّاشيّ بإسناده.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ أوّل شي ء نزل من السماء إلى الأرض لهو البيت الّذي بمكّة أنزله اللّه ياقوتة حمراء، ففسق قوم نوح في الأرض فرفعه اللّه.

و كان يرفع إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام أساس الكعبة و يقولان: [رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا] و في قراءة عبد اللّه بن مسعود بزيادة «و يقولان».

و قيل: إنّ إبراهيم عليه السّلام وحده رفع القواعد و كان إسماعيل عليه السّلام صغيرا في وقت رفعها، قال الطبرسيّ: و هو قول شاذّ غير مقبول و الصحيح: كان إبراهيم عليه السّلام يبني و إسماعيل عليه السّلام يناوله الحجر، و إنّما عبّر بالمستقبل إشعارا في البيان بلفظ الحال،

ص: 308

كانّه يراه المخاطب على وجه العيان و المشاهدة و المراد برفع الأساس البناء عليه، لأنّ البناء بنقله من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع.

و كان لإبراهيم عليه السّلام أربعة بنين: إسماعيل و هو المذكور و إسحاق و مدين و مدائن، و قيل: ثمانية: زمران و يقتان و يشبق و نوح؛ و البناء الّذي بنى إبراهيم عليه السّلام كان على الأساس الأوّل حسبما ذكر في الحديث.

و كان البناء الأوّل، بناء آدم عليه السّلام بإعانة الملائكة من خمسة أجبل: طور سيناء، طور زيتاء، طور لبنان، طور الجودي، طور حراء.

قال ابن عبّاس: حجّ آدم عليه السّلام أربعين حجّة من الهند إلى مكّة على رجليه، فبقي البيت يطوف به هو و المؤمنون من ولده، إلى أيّام الطوفان، فرفعه اللّه في تلك الأيّام إلى السماء الرابعة، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك و بعث اللّه جبرئيل حتّى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس، صيانة له من الغرق.

و كان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السّلام ثمّ إنّ اللّه أمر إبراهيم عليه السّلام ببناء البيت، فسأل اللّه ان يبين له موضعه، فبعث اللّه جبرئيل فخطّ له موضع البيت فرفع البيت ابراهيم و إسماعيل عليهما السّلام حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود، فقال لابنه:

يا بنيّ ائتني بحجر ابيض حسن يكون للناس علما، فأتاه بحجر، فقال عليه السّلام: ائتني بحجر احسن من هذا، فمضى إسماعيل عليه السّلام يطلبه، فصاح ابو قبيس: يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها فإذا هو بحجر ابيض من ياقوت الجنّة، كان آدم عليه السّلام قد نزل به من الجنّة، او أنزله اللّه قبل ذلك، فأخذ ابراهيم عليه السّلام الحجر، فوضعه مكانه.

فلما رفع القواعد جاءت سحابة مربّعة فيها رأس، فنادت: أن ارفعا على تربيعي، فهذا بناء إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام.

[رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا] قائلين: يا ربّ تقبّل منّا الطاعات و الدعاء. و الفرق بين التقبّل و القبول أنّ التقبّل على بناء التكلّف و يطلق حيث يكون العمل ناقصا لا يستحقّ أن يقبل إلّا على طريق التفضّل و الكرم و لفظ القبول لا دلالة فيه على هذا المعنى و لذلك قالا:

«رَبَّنا تَقَبَّلْ» اعترافا منهما بالقصور في العمل خضوعا [إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بجميع

ص: 309

المسموعات و كلّ المعلومات.

[سورة البقرة (2): آية 128]

رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

[رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي مخلصين و منقادين بالرضاء لكلّ ما آمرت و قدّرت، فإنّهما و إن كانا مستسلمين في زمان صدور هذا الدعاء، لكنّهما طلبا الزيادة في الخلوص.

[وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ أي و اجعل بعض ذرّيّتنا جماعة مسلمة و خصّا البعض من ذرّيّتهما لما علما أنّ منهم محسنا و ظالما، و طريق علمهما قوله تعالى «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (1).

[وَ أَرِنا مَناسِكَنا] أي بصرّنا و أعلمنا مواضع نسكنا، أو أعمال الحجّ من قبيل المواقيت و الموقف و موضع الطواف و المسعى و غيرها. و النسك كلّ ما يتعبّد به إلى اللّه، لكنّه شاع في أعمال الحجّ، و أصل النسيكة شاة كانوا يذبحونها في الجاهليّة.

[وَ تُبْ عَلَيْنا] أي ارجع إلينا بالمغفرة و الرحمة، أو تكلّما بهذه الكلمة على وجه التسبيح و الانقطاع و الخضوع إلى اللّه و قيل: إنّهما سألا التوبة على ظلمة ذرّيّتهما [إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ القابل للتوبة و الكثير القبول لها، مرّة بعد اخرى المنعم عليهم.

[سورة البقرة (2): آية 129]

رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

[رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ الضمير في قوله «فيهم» راجع إلى الامّة المسلمة و المراد بقوله: «وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ» هو نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم روي أنه أجيب بأنّه قد استجيب لك و هو في آخر الزمان؛ و في الحديث: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّي عند اللّه مكتوب خاتم النبيّين و إنّ آدم لمحدل في طينته- أي لملقى على الأرض- و سأخبركم بأوّل أمري: أنا دعوة أبي إبراهيم عليه السّلام و بشارة عيسى عليه السّلام و رؤيا امّي الّتي رأت

ص: 310


1- البقرة: 118.

حين وضعتني و قد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام.

[يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ و يبلّغهم ما يوحى إليه من دلائل التوحيد و الشرائع [وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ القرآن [وَ الْحِكْمَةَ] و ما يكمل به نفوسهم، و كلّ كلمة دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة [وَ يُزَكِّيهِمْ و يطهّرهم عن دنس الشرك و المعاصي، ثمّ بعد الدعاء ختم بالثناء على اللّه بقوله: [إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ] الغالب [الْحَكِيمُ الّذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة.

[سورة البقرة (2): الآيات 130 الى 131]

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)

[وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ الرغبة: المحبّة و الميل لما فيه للنفس منفعة «من» استفهاميّة، قصد بها التقريع و الإنكار، و رغب في الشي ء: إذا أراده، و رغب عنه: إذا تركه.

أي لا يترك دين إبراهيم عليه السّلام أحد و لا يعرض عن شريعته و طريقته [إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ و جعلها ذليلا و مهينا، قيل: إنّ عبد اللّه سلام دعا ابني أخيه سلمة و مهاجر إلى الإسلام، و قال لهما: قد علمتما أنّ اللّه تعالى قال في التوراة: إنّي باعث من ولد إسماعيل نبيّا اسمه أحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فمن آمن به فقد اهتدى و من لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة و مهاجر، فأنزل اللّه الآية.

[وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا] من بين سائر الخلق بالنبوّة و الحكمة [وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ من المشهود لهم بالثبات و الصلاح، و من كان كذلك كان حقيقا بالاتّباع. و لا يرغب عن ملّته إلّا سفيه يفعل أفعال السفهاء بسوء اختياره.

[إِذْ قالَ ظرف لاصطفيناه. في وقت قال [لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ و أخلص دينك لربّك و استقم على الإسلام و ذلك حين خرج من الغار و نظر إلى الكوكب و القمر و الشمس، فألهمه اللّه الإخلاص [قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ و أخلصت ديني له.

قال أهل التفسير: إنّ إبراهيم عليه السّلام ولد في زمن النمرود بن كنعان، و كان

ص: 311

النمرود أوّل من وضع التاج على رأسه و دعا الناس إلى عبادته، و كان له كهّان و منجّمون، فقالوا له: إنّه يولد في بلدك في هذه السنة غلام يغيّر دين أهل الأرض و يكون هلاكك و زوال ملكك على يديه، قالوا: فأمر بذبح كلّ غلام يولد في ناحيته في تلك السنة، فلمّا دنت ولادة امّ إبراهيم عليه السّلام و أخذها المخاض خرجت هاربة، مخافة أن يطّلع عليها فيقتل ولدها، فولدته في نهر يابس، ثمّ لفّته في خرقة و وضعته في حلفاء، ثمّ رجعت و أخبرت زوجها بأنّها ولدت و أنّ الولد في موضع كذا، فانطلق أبوه و أخذه من ذلك المكان و حفر له سربا في الأرض كالمغارة، فواراه فيه و سدّ عليه بابه بصخرة مخافة السباع.

و كانت امّه يختلف إليه فترضعه. و كان اليوم على إبراهيم عليه السّلام في الشباب و القوّة كالشهر في حقّ سائر الصبيان، و الشهر كالسنة، فلم يمكث إبراهيم عليه السّلام في المغارة إلّا خمسة عشر شهرا، أو سبع سنين، أو أكثر.

فلمّا شبّ إبراهيم عليه السّلام في السرب، قال لأمّه: من ربّي؟ قالت: أنا، قال:

فمن ربّك؟ قالت: أبوك، قال: فمن ربّ أبي؟ قالت: اسكت، فأتى إبراهيم عليه السّلام أباه آزر و قال: يا أباه من ربّي؟ و كان آزر، عمّه و يطلق الأب على العمّ تغليبا؛ لأنّ العمّ أب و الخالة امّ، لا نخراطهما في سلك واحد و هو الاخوّة، لا تفاوت في أغلب الأمور بينهما، كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عمّ الرجل صنو أبيه و لا تفاوت بين صنوي النخلة.

و بالجملة، لمّا قال إبراهيم عليه السّلام لآزر: من ربّي؟ قال آزر: امّك، قال:

فمن ربّ امّي؟ قال: أنا، قال: فمن ربّك؟ قال: النمرود، قال: فمن ربّ النمرود؟

فلطمه لطمة و قال له: اسكت.

فلمّا جنّ عليه الليل، دنا إبراهيم عليه السّلام من السرب، فنظر من خلال الصخرة، فرأى السماء و ما فيها من الكواكب، فتفكّر في خلق السماوات، فقال: إنّ ربّى الّذي خلقني و رزقني و أطعمني و سقاني مالي إله غيره، ثمّ نظر في السماء، فرأى كوكبا، قال: هذا ربّي، ثمّ أتبعه بصره، ينظر إليه حتّى غاب، فلمّا أفل قال: لا

ص: 312

احبّ الآفلين، ثمّ رأى الشمس و القمر، فقال فيهما كما قال في حقّ الكواكب.

و اختلف في هذا البيان؛ فبعض أجراه على الظاهر و قالوا: كان إبراهيم عليه السّلام في ذلك الوقت مسترشدا، طالبا لمعرفة التوحيد و كان ذلك الأمر في حال طفوليّته قبل أن يجري عليه القلم، فلم يكن كفرا و لم يضرّه ذلك في الاستدلال.

و أنكر الآخرون هذا القول و قالوا: كيف يتصوّر من مثله أن يرى كوكبا و يقول: هذا ربّي معتقدا؟ و إنّما قال ذلك في مقام الاحتجاج على الخصم، و لإثبات التوحيد و إلزام الطرف و كان مستسلما لربّه الكريم و على الصراط المستقيم.

في كتاب السماء و العالم، في النجوم، بإسناده عن الكلينيّ- ره- في كتاب تعبير الرؤيا، عن محمّد بن منام، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: قوم يقولون: النجوم أصحّ من الرؤيا، و ذلك كان صحيحا حتّى لم يردّ الشمس على يوشع بن نون و عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام فلمّا ردّ اللّه الشمس عليهما، ضلّ فيها علماء النجوم.

في الكافي، عن هشام الخفّاف، قال: قال الصادق عليه السّلام: يا هشام، كيف نظرك بالنجوم؟ قلت: ليس بالعراق أحد أبصر منّي في النجوم، فقال عليه السّلام: كيف دوران الفلك عندكم؟ قال هشام: فأخذت قلنسوتي من رأسي فأدرتها، فقال عليه السّلام: إن كان كذلك، فما بال بنات النعش و الجدي و الفرقدين لا يرون يدورون يوما من الدهر في القبلة؟.

ثمّ قال عليه السّلام: يتقابلان ملكان للحرب و حاسبان لهما، فيحسب هذا لصاحبه بالظفر، ثمّ يلتقيان فيهزم أحدهما الآخر، أو يجي ء ملك آخر، فيهزمهما، فأين كانت النجوم؟

ثمّ قال عليه السّلام: إنّ اصل الحساب في النجوم حقّ و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم.

قال المجلسيّ: و بالجملة من أدلّ الدلائل على بطلان قول المنجّمين أنّا قد علمنا أنّ من جملة معجزات الأنبياء الإخبار عن الغيوب و عدّ ذلك خارقا للعادات، كإحياء الميّت و إبراء الأكمه و الأبرص و لو كان العلم بما يحدث طريقا نجوميّا، لم

ص: 313

يكن ما ذكرناه معجزا و لا خارقا للعادة و كيف يشتبه على مسلم بطلان أحكام النجوم و قد أجمع المسلمون قديما و حديثا على تكذيب المنجّمين و الشهادة بفساد مذاهبهم؟ و معلوم من دين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ضرورة التكذيب بما يدّعيه المنجّمون. و في الروايات عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك ما لا يحصى فأمّا ما أصابتهم في الإخبار عن الكسوف و الخسوف و أمثالهما فالفرق بينها و سائر ما يخبرون به من تأثيرات الكواكب أنّ الكسوفات و الاقترانات و الانفصالات طريقه الحساب و سير الكواكب، و له اصول صحيحة و قواعد سديدة، و ليس كذلك ما يدّعونه من تأثيرات الكواكب في الخير و الشرّ و النفع و الضرر، فيقع فيها خطاء و كذب كثير.

قوله تعالى: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» استشكل بعض في هذه الآية بوجهين: أحدهما أنّه حكى عن بيّنة النظر في النجوم مع أنّه ممنوع، و الآخر قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» و ذلك كذب.

و أجاب السيّد المرتضى في كتاب تنزيه الأنبياء بوجوه.

الأوّل أنّ إبراهيم عليه السّلام كانت به علّة تأتيه في أوقات مخصوصة، فلمّا دعوه إلى عيدهم بالخروج معهم نظر إلى النجوم ليعرف نوبة علّته، فقال: إنّي سقيم، أي شارفت الدخول فيها و العرب تسمّي الشارف للشي ء الداخل فيه، كما قال: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ». (1) فلو قيل: على هذا يكون يقول: فنظر إلى النجوم لأنّ لفظة «في» لا تستعمل إلّا فيمن ينظر كما ينظر المنجّم؛ فالجواب: إنّ حروف الصفات يقوم و يستعمل بعضها مقام بعض، مثل قوله: «وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» (2) و إنّما أراد: على جذوع النخل و يجوز أن يكون معناه: أنّه شخص ببصره إلى السماء، كما يفعل المتفكّر و المتأمّل استعانة على فكره و عذره في الجواب.

قال العلّامة المجلسيّ: و يمكن أن يقال: إنّ حرمة النظر في علم النجوم على

ص: 314


1- الزمر: 31.
2- طه: 74.

الأنبياء و الأئمّة العالمين بها حقّ العلم غير مسلّم و إنّما يحرم على غيرهم لعدم إحاطتهم بهذا العلم.

و يؤيّد هذا الكلام ما في كتاب الاحتجاج عن أبان بن تغلب، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من أهل اليمن، فسلّم عليه، فردّ عليه، فقال له:

مرحبا يا سعد، فقال له الرّجل: بهذا الاسم سمّتني أمّي، و ما أقلّ من يعرفني به! فقال عليه السّلام: صدقت يا سعد المولى، فقال له الرجل: بهذا كنت ألقّب، قال: لا خير في اللقب؛ قال اللّه: «وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ» ثمّ قال عليه السّلام: ما صناعتك يا سعد، قال:

أنا من أهل بيت ننظر في النجوم و لا يقال: إنّ باليمن أحدا أعلم بالنجوم منّا.

فقال عليه السّلام: فكم ضوء المشتري على ضوء القمر درجة؟ فقال اليمانيّ: لا أدري:

فقال عليه السّلام: فكم ضوء المشتري على ضوء عطارد درجة؟ فقال اليمانيّ: لا أدري.

فقال الصادق عليه السّلام: فما اسم النجم الّذي إذا طلع هاجت الإبل؟ فقال اليمانيّ:

لا أدري.

قال عليه السّلام: فما اسم النجم الّذي إذا طلع هاجت البقر؟ قال: لا أدري، قال عليه السّلام:

فما اسم النجم الّذي إذا طلع هاجت الكلاب؟ فقال لا أدري.

قال عليه السّلام: فما زحل عندكم في النجوم؟ قال اليمانيّ: نجم نحس، فقال عليه السّلام:

لا تقل هذا؛ فإنّه نجم أمير المؤمنين و هو نجم الأوصياء و هو النجم الثاقب الّذي ذكره اللّه في القرآن، فقال اليمانيّ: فما معنى الثاقب، فقال عليه السّلام: إنّ مطلعه في السماء السابعة و إنّه ثقب بضوئه حتّى أضاء في السماء الدنيا.

و الحديث طويل إلى أن يقول عليه السّلام: و إنّ عالم المدينة- و المراد نفسه النفيسة- لا يقفو الأثر، أي لا يحتاج في علمه بالحوادث إلى تلك الأمور، بل يعلم في لحظة واحدة بما أعطاه اللّه من العلم ما يقع فيما يطلع عليه الشمس و تقطعه و اثنا عشر عالما من أصناف الخلق و منها جابلقا و جابرسا، يعنى إذا أراد يعلم ما يحدث في اللحظة الواحدة، في جميع تلك العوالم.

و في كتاب الاحتجاج عن سعيد بن جبير: قال: استقبل أمير المؤمنين دهقان من

ص: 315

دهاقين الفرس، فقال له بعد التهنئة: يا أمير المؤمنين، تناحست النجوم الطالعات و إذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء و يومك هذا يوم صعب، قد انقلب فيه كوكبان و انقدح من برجك النيران و ليس لك الحرب بمكان، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:

يا دهقان المنبئ بالآثار؛ المحذّر من الأقدار، ما قصّة صاحب الميزان و قصّة صاحب السرطان؟ و كم بين السراري و الذراري؟ قال: الدهقان سأنظر، و أومأ بيده إلى كمّ و أخرج أسطرلابا، ينظر فيه، فتبسّم عليه السّلام، فقال: أ تدري ما حدث البارحة وقع بالصين و انفرج برج ماجين و سقط سور سرانديب و انهزم بطريق الروم بإرمنيّة و فقد ديّان اليهود بإيلة و هاج النمل بوادي النمل و هلك ملك إفريقيّة، أ كنت عالما بهذا؟ قال:

لا يا أمير المؤمنين، فقال عليه السّلام: البارحة سعد سبعون ألف عالم و ولد في كلّ عالم سبعون ألفا، و اللّيلة يموت مثلهم و هذا منهم (و أومأ بيده إلى سعد بن سعدة الحارثيّ و كان جاسوسا للخوارج في عسكره- عليه السّلام- فظنّ الملعون أنّه يقول: خذوه، فأخذ بنفسه، فمات) فخرّ الدهقان ساجدا.

في كتاب الدرّ المنثور: قيل: السبب في كراهة علم النجوم لسبب الاختلاف الّذي وقع فيها، كما نقله عطاء، فحينئذ لا يمكنهم الحساب و الحكم الواقعيّ على الكواكب و حركاتها فيكذبون؛ أو من جهة أنّه يصير سببا لترك الأمور الضروريّة بسبب علمهم بما يترتّب على حسابهم.

[سورة البقرة (2): آية 132]

وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

. [وَ وَصَّى التوصية: تقديم ما فيه خير و صلاح من قول أو فعل إلى الغير، دينيّا أو دنيويّا [بِها] أي بالملّة المذكورة في قوله تعالى: «وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ» [إِبْراهِيمُ بَنِيهِ أي أولاده المذكورين [وَ يَعْقُوبُ عطف على إبراهيم، أي وصّى يعقوب أيضا بنيه بهذه الوصيّة. و يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم، «بَنِيهِ» الاثني عشر: روبيل و شمعون و لاوي و يهودا و يستسوخور و زبولون و نوانا و نفتونا و كوزا و اوشير و بنيامين و يوسف.

ص: 316

و عاش يعقوب مائة و سبعا و أربعين سنة بأرض مصر و أوصى أن يحمل إلى الأرض المقدّسة و يدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف فدفنه عنده [يا بَنِيَ على إضمار القول عند البصريّين، تقديره: وصّى و قال: يا بنيّ و ذلك جملة و الجملة لا يقع مفعولا إلّا لأفعال القلوب أو فعل القول عندهم [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أي دين الإسلام و لا دين عنده غيره [فَلا تَمُوتُنَ أي لا يكون يصادفكم الموت [إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ و مخلصون بالتوحيد و ذلك حين دخل يعقوب مصر، فرأى أهلها يعبدون الأصنام، فأوصى بنيه بأن يثبتوا على الإسلام، لأنّ الإنسان إذا أنس و عاشر بأهل الشرّ يخاف عليه أن يتخلّق بأخلاقهم.

كتب بعض العلماء إلى تلميذ له: أمّا بعد، فإنّك قد أصبحت تأمل الدنيا بطول عمرك و تتمنّى على اللّه الأماني بسوء فعلك، و إنّما تضرب حديدا باردا، و السلام.

و حسن الظنّ باللّه إنّما يعتبر بعد إصلاح الحال بالأخلاق و الأعمال و اليقين.

و القائلون بالطبائع، هم الّذين يسندون الأفعال إلى مجرّد الطبائع و هو قول سخيف و كفر و باطل؛ فإنّ الطبيعة قوّة جسمانيّة، و كلّ جسم محدث؛ فكلّ قوّة جسمانيّة، و كلّ جسم محدث؛ فكلّ قوّة حالّة فهي محدثة تفتقر إلى محدث غير طبيعيّة و إلّا لزم التسلسل، فلا بدّ من القول بالصانع.

[سورة البقرة (2): آية 133]

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

[أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ نزلت الآية حين قالت اليهود للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ لست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهوديّة يوم مات؟ فأجاب اللّه هل كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب و قال لبنيه ما قال؟ أي ما كنتم حضورا وقت موته لمّا قال [لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي أيّ شي ء تعبدونه؟ فلا تدّعوا و تنسبوا إلى رسلي الأباطيل من اليهوديّة و النصرانيّة، فإنّي ما بعثتهم إلّا بالحنيفيّة، و إنّما قال عليه السّلام:

«ما تَعْبُدُونَ» و لم يقل: «من تعبدون» لأنّ الناس كانوا يعبدون الأصنام.

[قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ أي نعبد الإله المتّفق

ص: 317

على وجوده، و جعل إسماعيل و هو عمّه من جملة الآباء، تغليبا للأب و الجدّ، فثبت بهذا أنّ العمّ يطلق على الأب كما أشرنا إليه في قصّة آزر [إِلهاً واحِداً] بدل من «إِلهَ آبائِكَ» [وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ حال من فاعل نعبد.

[سورة البقرة (2): آية 134]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)

[تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ تلك إشارة إلى الامّة المذكورة الّتي هي إبراهيم و يعقوب و بنوهما؛ أي جماعة قد مضت بالموت و أصله: صارت إلى الخلأ و هي الأرض الّتي لا أنيس بها [لَها ما كَسَبَتْ أي لها كسبها لا كسب غيرها [وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ لا كسب غيركم [وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا تؤاخذون بسيّئات الامّة الماضية.

و حاصل المعنى أنّ اليهود لمّا كانوا مفتخرين بأوائلهم فردّهم اللّه بأنّهم لا ينفعهم انتسابهم إليهم و إنّما ينفعهم اتّباعهم في الأعمال، فإنّ أحدا لا ينفعه كسب غيره، كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.

و ما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة

[سورة البقرة (2): آية 135]

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

[وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى .

النزول: عن ابن عبّاس أنّ جماعة من اليهود و جماعة من النصارى من أهل نجران خاصموا المسلمين، كلّ فرقة منهم تزعم أنّها أحقّ بدين اللّه من غيرها، فقالت اليهود: نبيّنا موسى أفضل الأنبياء و كتابنا التوراة أفضل الكتب، و قالت النصارى:

نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء و كتابنا الإنجيل أفضل الكتب، و كلّ فريق منهما قالوا للمؤمنين: كونوا على ديننا، فنزلت الآية.

[وَ قالُوا] أي رؤساء اليهود و رؤساء النصارى للمسلمين: كونوا على ديننا [تَهْتَدُوا] جواب للأمر، أي: إن تكونوا كذلك، تجدوا الهداية [قُلْ يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: [بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي أهل ملّته و دينه على حذف المضاف، أي بل نتّبع ملّته [حَنِيفاً] أي مائلا

ص: 318

عن كلّ دين باطل إلى دين الحقّ و هو حال من إبراهيم، و تذكّر «حَنِيفاً» بتأويل الملّة بالدين [وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض بهم بالشرك، بقولهم: «عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ و الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ».

[سورة البقرة (2): آية 136]

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

[قُولُوا] أيّها المؤمنون: [آمَنَّا بِاللَّهِ وحده [وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا] أي بالقرآن الّذي انزل على نبيّنا، و الإنزال إليه إنزال إلى امّته [وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ من صحفه العشر، و ما انزل إلى [إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ و إلى [الْأَسْباطِ] و المراد هنا أولاد يعقوب، و السبط: أصل شجرة واحدة لها أغصان كثيرة، و سبط الرجل: ولد ولده، و الأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب و الشعوب من العجم، و الصحف و إن كانت نازلة إلى إبراهيم، لكنّ من بعده حيث كانوا متعبّدين بتفاصيلها جعلت منزلة إليهم، كما جعل القرآن منزلا إلينا.

[وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى من التوراة و الإنجيل [وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ جملة المذكورين منهم و غير المذكورين [مِنْ رَبِّهِمْ في موضع الحال من العائد المحذوف و التقدير: و ما أوتيه النبيّون منزلا عليهم من ربّهم.

[لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كاليهود فنؤمن ببعض و نكفر ببعض؛ لأنّه اتّحدوا في الأصول و كلّهم على كلمة واحدة في الأصول [وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي و الحال: أنّا مخلصون للّه و مذعنون.

[سورة البقرة (2): آية 137]

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

[فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ أخبر اللّه أنّ هؤلاء الكفّار متى آمنوا على حدّ ما آمن المؤمنون به [فَقَدِ اهْتَدَوْا] إلي طريق الجنّة و سلكوا طريق الاستقامة و حصل بينكم الاتّفاق [وَ إِنْ تَوَلَّوْا] و أغضوا عن الإيمان على الوجه المذكور بأن أخلّوا

ص: 319

بشي ء من ذلك [فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي مستقرّون في خلاف عظيم، بعيد عن الحقّ، فقوله: «فِي شِقاقٍ» خبر لقوله: «هم» و جعل الشقاق لهم و هم مظروفون له مبالغة في الإخبار باستيلائه عليهم، فكان كلّ واحد من الفريقين في شقّ غير شقّ صاحبه.

ثمّ عقّب سبحانه بتسلية الرسول و ضمان التأييد بقوله [فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أمر اليهود و النصارى، و يدفع شرّهم عنك و ينصرك عليهم، و قد أنجز اللّه وعده له بالقتل و الجزية و الذلّة في نصارى نجران [وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع ما تدعو به و يعلم ما في قلبك.

[سورة البقرة (2): آية 138]

صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)

«الصبغة» من الصبغ، كالجلسة من الجلوس و هي الحالة الّتي تقطع عليها الصبغ.

عبّر بها عن الإيمان و مستعارة لفطرة اللّه التي فطر الناس عليها و تقدير الكلام: صبغنا اللّه صبغة و فطرنا و خلقنا على استعداد الإيمان، أو ألزموا صبغة اللّه و تطهير اللّه، لا صبغتكم و تطهيركم. و عبّر عن لفظ الإيمان و الفطرة بلفظ الصبغة لوقوعه في صحبة صبغة النصارى؛ إذ كانوا يصبغون أولادهم في سابع الولادة مكان الختان للمسلمين، بغمسهم في الماء الأصفر الّذي يسمّونه المعموديّة، و هي اسم ماء غسل به عيسى فمزّجوه بماء آخر و كلّما يستعملوا منه جعلوا مكانه ماء آخر و هو علامة تنصّرهم و لا يتحقّق التنصّر إلّا بهذا الفعل.

[وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً] و الاستفهام بمعنى الجحد، و «مَنْ أَحْسَنُ» مبتدأ و خبر، و التقدير: و من صبغته أحسن من صبغة اللّه؟ و أيّ شخص تكون صبغته أحسن من صبغة اللّه؟ فإنّه يصبغ و يميّز عباده بالإيمان و يطهّرهم به [وَ نَحْنُ لَهُ أي للّه، أولانا تلك النعمة [عابِدُونَ و تقدّم الظرف للاهتمام و رعاية الفواصل و هو عطف على آمنّا، فإذا كان حرفة العبد العبادة فقد زيّن نفسه بصبغ حسن.

قال بعض العلماء: لا يكمل التعبّد لأحد حتّى لا يجزع من أربعة: من الجوع و العرى و الفقر و الذّل، و للعبد أوقات، فإذا كان في الطاعة فعليه بتخليصها، و إذا كان في النعمة فعليه بشكرها و إذا كان في البليّة فعليه بالصبر عليها و الرضى، و إذا كان في المعصية

ص: 320

فبتداركها سريعا بالتوبة و لكلّ وقت منها سهم في العبوديّة يقتضيه الحقّ منك بحكم الربوبيّة، فمن راقب الأوقات الأربع وصل إلى الدرجات.

نقل أنّ السريّ السقطيّ قال: مكثت عشرين سنة أفيض خلق اللّه، فلم يقع في شبكتي إلّا واحد كنت أتكلّم في المسجد الجامع ببغداد يوم الجمعة و قلت: عجبت من ضعيف عصى قويّا؛ فلمّا كان يوم السبت و صلّيت الغداة إذا أنا بشابّ قد وافى و خلفه غلمان و حاشية و هو راكب على دابّته، فقال: أيّكم السريّ، فأومأ جلسائي إليّ فسلّم عليّ و جلس و قال: سمعتك تقول: عجبت من ضعيف عصى قويّا، فما أردت به؟

فقلت: ما ضعيف أضعف من بني آدم، و لا قويّ أقوى من اللّه تعالى و قد تعرّض ابن آدم مع ضعفه إلى معصيته قال: فبكى الشابّ.

ثمّ قال: يا سريّ، هل يقبل ربّك غريقا مثلي؟ قلت: و من ينقذ الغرقى إلّا اللّه؟ قال يا سريّ إنّ عليّ مظالم كثيرة كيف أصنع؟ قال: إذا صحّحت الانقطاع إلى اللّه أرضى عنك الخصوم، بلغنا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إذا كان يوم القيامة و اجتمع الخصوم على وليّ اللّه، و كل لكلّ منهم ملكا يقول: لا تروّعوا وليّ اللّه، فإنّ حقّكم اليوم على اللّه، فبكى الشابّ.

ثمّ قال: صف لي الطريق إلى اللّه، فقلت: إن كنت تريد المقتصدين فعليك بالصيام و القيام و ترك الآثام، و إن كنت تريد طريق الأولياء فاقطع العلائق و اتّصل بخدمة الخالق فبكى حتّى بلّ منديلا له، و انصرف و كان من أمره كيت و كيت من ترك الدنيا و السكون في المقابر و تغيّر الحال حتّى توفّي على تلك الحالة، قال السّريّ: فحلمت يوما عيناي فإذا به يزّمّل في السندس و الإستبرق و يقول لي: جزاك اللّه خيرا، فقلت له:

ما فعل اللّه بك؟ قال: أدخلني الجنّة و لم يسألني عن ذنب. انتهى.

[سورة البقرة (2): آية 139]

قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)

[قُلْ يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لليهود و النصارى: [أَ تُحَاجُّونَنا] أ تخاصموننا [فِي اللَّهِ ؟ أي في دين اللّه، و تدّعون أنّ دينه الحقّ هو اليهوديّة و النصرانيّة و تبنون دخول الجنّة

ص: 321

عليهما و تقولون تارة: لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى، و تارة تقولون:

كونوا هودا أو نصارى تهتدوا [وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ و الحال أنّه لا وجه للمجادلة؛ لأنّه مالك أمرنا و أمركم [وَ لَنا أَعْمالُنا] الحسنة الموافقة لأمره [وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ السيّئة المخالفة لحكمه، فكيف تدّعون أنّكم أولى باللّه؟ [وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ لا نبتغي إلّا وجهه و أنتم به مشركون. و الإخلاص تصفية العمل عن الشرك و الرياء و الدنيا و ملاحظة المخلوقين.

[سورة البقرة (2): آية 140]

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

[أَمْ تَقُولُونَ «أم» معادلة للهمزة في قوله: «أَ تُحَاجُّونَنا» و المراد إنكار كلا الأمرين أي أ تحاجّوننا في دين اللّه أم تقولون: إنّ الأنبياء كانوا على دينكم؟ فبأيّ الحجّتين تتعلّقون في إقامة الحجّة على حقيّتهم و تدّعون [إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ] و هي حفدة يعقوب و هم أولاد أولاده الاثنى عشر [كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى و تقولون: نحن مقتدون بهم؟ و كيف تقولون في حقّ الأنبياء الّذين بعثوا قبل نزول التوراة و الإنجيل: إنّهم كانوا هودا أو نصارى و من المحال أن يقتدي المتقدّم بالمتأخّر و يستنّ بسنّته؟

[قُلْ يا محمّد [أَ أَنْتُمْ و الهمزة للإنكار [أَعْلَمُ بدينهم [أَمِ اللَّهُ أعلم؟ [وَ مَنْ أَظْلَمُ و الاستفهام في قوله «و من» بمعنى النفي [مِمَّنْ كَتَمَ و أخفى و ستر عن الناس [شَهادَةً] ثابتة [عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ أي و ما أحد أظلم ممّن يكون عنده شهادة من اللّه فيكتمها و ادّعى أنّ الأنبياء كانوا على دينهم، و المراد من هذا الكتمان أنّ اللّه بيّن في كتابه صحّة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و البشارة.

و قيل: المراد بالشهادة في الآية و كتمانها أنّ إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و أولاده كانوا حنفاء مسلمين فكتموا هذه الشهادة و ادّعوا أنّهم كانوا على دينهم فهذه شهادة كانت من اللّه عندهم و كتموها.

ص: 322

و قيل في معنى الآية: إنّ المراد من أظلم في كتمان الشهادة من اللّه لو كتمها، أي إنّه يلزمكم أنّه لا أحد أظلم من اللّه إذ كتم شهادة عنده و أوقع عباده في الضلال و هو الغنيّ عن ذلك، و لو كانوا هودا أو نصارى لأخبر بذلك.

[وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ و لا يخفى عليه شي ء من المعلومات فكونوا على حذر من الجزاء من مفترياتكم في دين اللّه.

[سورة البقرة (2): آية 141]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

قد مضى تفسيره، و الوجه في تكراره أنّه عنى بالأوّل إبراهيم و من ذكر معه من الأنبياء، و بالثاني أسلاف اليهود: و إذا اختلف الأزمان و المواطن لم يكن التكرار معيبا بل يكون لازما.

و حاصل آخر للآية و ذكرها: و هو أنّه لو سلّم لكم ما ادّعيتم من أنّ الأنبياء كانوا على دين اليهوديّة و النصرانيّة فليس لكم فيه حجّة لأنّه لا يمتنع اختلاف الشرائع بالمصالح؛ فله أن ينسخ من الشرائع ما شاء و يقرّ منها ما شاء على حسب ما يقتضيه حكمته و أمره.

[سورة البقرة (2): آية 142]

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

[سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ يريد المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين و اليهود و النصارى و المشركين، و إنّما كانوا سفهاء لأنّهم رغبوا عن ملّة إبراهيم و قد قال سبحانه:

«وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» أي أذلّها بالجهل.

و حاصل المعنى أنّ الّذين ضعفت عقولهم من الناس: [ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها] «ما» استفهاميّة إنكاريّة مرفوعة المحلّ على الايتداء و «وَلَّاهُمْ» خبره، أي أيّ شي ء صرفهم. و القبلة من المقابلة لأنّ المصلّي يقابلها و حوّلهم عن قبلتهم و هي البيت المقدّس، ثمّ انصرفوا منها إلى الكعبة لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى إلى البيت المقدّس بعد مقدمه المدينة نحوا من سبعة عشر شهرا تأليفا لقلوب اليهود ثمّ صارت الكعبة قبلة المسلمين إلى نفخ الصور.

ص: 323

[قُلْ يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله لهم: [لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ أي الأمكنة بأسرها له ملكا و تصرّفا فلا يستحقّ شي ء منها أن يكون لذاته قبلة حتّى يمتنع إقامة غيره مقامه، فله أن يأمر في كلّ وقت بالتوجّه إلى جهة من تلك الجهات على حسب مشيئته، فاللائق بالمخلوق أن يطيع خالقه فإنّ الطاعة ليست إلّا الامتثال و ليس للعبد أن يتحرّى خصوصيّة في المأمور به أمرا زائدا على الأمر و أنّ اليهود أحبّوا جهة المغرب حيث زعموا أنّ موسى عليه السّلام كان في جانب المغرب، فأكرمه اللّه بكلامه و وحيه، و النصارى أحبّوا جهة المشرق حيث زعموا أنّ مريم حين خرجت من بلدها مالت إلى جهة المشرق كما قال اللّه: «وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا» (1) و المؤمنون استقبلوا الكعبة طاعة للّه و امتثالا لأمره، لا ترجيحا لبعض الجهات مع أنها قبلة إبراهيم و مولد نبيّهم.

[يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو التوجّه إلى بيت المقدس تارة و الكعبة اخرى.

[سورة البقرة (2): آية 143]

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)

[وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] الكاف للتشبيه، و المشبّه به الاصطفاء عن إبراهيم، أي فكما اصطفينا إبراهيم في الدنيا فكذلك جعلناكم امّة وسطا، و المشبّه به الهداية أي كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم امّة وسطا.

أو المعنى: كما هديناكم إلى أوسط القبل، كذلك جعلناكم امّة وسطا، و الوسط هو العدل كما روي عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: امّة وسطا أي عدلا، و خير الأمور أوسطها أي أعدلها؛ قال زهير:

ص: 324


1- مريم: 17.

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي العظائم

فمدحهم اللّه بكونهم عدولا و لذلك جعلهم شهودا، كما قال: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»(1) و ذلك لأنّهم متوسّطون في الدين بين المفرط و الغالي؛ فلا قصّروا كتقصير اليهود حيث قتلوا أنبياءهم و حرّفوا التوراة، و لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا له تعالى ابنا و إلها.

[لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ روى الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ في كتاب شواهد التنزيل بإسناده عن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إيّانا عنى بقوله:

«لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» بأعمالهم، فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شاهد علينا و نحن شهداء اللّه على خلقه و حجّته في أرضه و نحن الّذين قال تعالى: «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ».

[وَ يَكُونَ الرَّسُولُ أي محمّد صلّى اللّه عليه و آله [عَلَيْكُمْ شَهِيداً] فلو قيل: إنّ الشهادة إذا كانت ضارّة تتعدّى بعلى و إذا كانت نافعة تتعدّى باللام، لأنّ المراد من كلمة «على» تضمّن معنى الرقيب و المطّلع، فحسن التعبير بعلى.

[وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها] و هي الكعبة، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان- و هو بمكّة- مأمورا بأن يصلّي إلى الكعبة، ثمّ لمّا هاجر إلى المدينة امر بالصلاة إلى بيت المقدس، ثمّ أعيد إلى ما كان عليه و المعنى: ما رددناك إلى ما كنت عليه و على استقباله [إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ في التوجّه إلى ما امر به [مِمَّنْ يَنْقَلِبُ و ينصرف [عَلى عَقِبَيْهِ العقب مؤخّر القدم مستعار للارتداد و الرجوع عن الدين و الطريق.

أي ليتميّز الثابت على الإسلام من المتردّد، و اللّازم من العلم التميز و تسمية الملزوم باسم اللازم و بالعكس شائع، و ليس المراد أنّه تعالى لم يعلم حالهم ثمّ علم لأنّه كان عالما في الأزل بهم و بكلّ حال من أحوالهم الّتي تقع في كلّ زمان من أزمنة وجودهم.

و نظيره في الإشكال قوله: «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ» (2)

ص: 325


1- آل عمران: 106.
2- محمد: 33.

و قوله: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» (1) و قوله: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (2)«وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ» (3) و أمثال هذه الآيات.

و قيل: معنى العلم في مثل هذه الآيات الرؤية أي لنرى، و العرب تضع العلم مكان الرؤية، و الرؤية مكان العلم كقوله: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ»* و قال الفرّاء وجه آخر: و هو أنّ حدوث العلم في الآية راجع إلى المخاطبين، و مثاله أنّ جاهلا و عاقلا اجتمعا، فيقول الجاهل: الحطب يحرق النار، و يقول العاقل: النار يحرق الحطب، و سنجمع بينهما لنعلم أيّهما يحرق صاحبه، فكذلك قوله «إِلَّا لِنَعْلَمَ» أي إلّا لتعلموا، و الغرض من هذا الجنس من الكلام الرفق في الخطاب لا يراد المعنى المراد كقوله: «وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً» (4) فأضاف الكلام الموهم للشّك ترقيقا للكلام و رفقا للمخاطب و الوجه الأوجه الوجه الأوّل انتهى.

[وَ إِنْ كانَتْ القبلة المحوّلة [لَكَبِيرَةً] أي شاقّة ثقيلة على من يألف التوجّه إلى القبلة المنسوخة و «إن» هي المخفّفة من المثقّلة و اسمها محذوف و هو القبلة [إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هداهم اللّه و تيقّنوا أنّ السعيد الفائز من أطاع أمر مولاه.

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم مثابون على الاتّباع فقال: [وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ و ثباتكم على التصديق بما جاء به النبيّ [إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ متعلّق «برءوف» [لَرَؤُفٌ و ذو مرحمة [رَحِيمٌ يغفر ذنوبهم بالإيمان و إيصال الرزق.

روي أنّه أخذ بعض الأمراء قاتلا في زمن داود عليه السّلام فصلب فوق الجبل عشاء و رجع الناس إلى منازلهم و بقي على الخشبة وحده و تضرّع إلى آلهته و لمّا يمت فلم يغنوا عنه شيئا، ثمّ رجع إلى اللّه و قال: أنت اللّه الحقّ أتيت إليك لتغيثني فأغثني برحمتك، قال اللّه: يا جبرئيل إنّ هذا عبد آلهته طويلا فلم ينتفع ففزع إليّ و دعاني،

ص: 326


1- الأنفال: 68.
2- آل عمران: 136.
3- سبا: 20.
4- سبا: 23.

فاستجبت له فاهبط وضعه على الأرض في سلامة ففعل، فلمّا أصبحوا رأوه و هي يصلّي للّه فأخبروا داود عليه السّلام بذلك، فدعا اللّه فيه مستكشفا سرّه فأوحى اللّه إليه: يا داود إنّي أرحم من آمن بي و دعاني فإن لم أفعل فأيّ فرق بيني و بين آلهته و من توجّه بقلبه إلى اللّه و ادّعى المحبّة فليكن لا يكذّب فعله قوله، و ليكن البلوى عنده ألذّ من الحلوى فذلك صدق فيما ادّعى، و ليعدّ الالتفات إلى غيره من الاحتياط و لو بأكل لقمة مشوبة في عمره و تحسبها من الموانع في الارتقاء.

[سورة البقرة (2): آية 144]

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

[قَدْ نَرى مستقبل معناه الماضي أي شاهدنا و علمنا [تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ] و تردّد نظرك في جهة السماء، روي عن ابن عبّاس أنّه قال: يا جبرئيل وددت أنّ اللّه صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال جبرئيل: أنا عبد مثلك فاسأل ربّك ذلك و كان صلّى اللّه عليه و آله يحبّ التغيير لكن لا يتكلّم بذلك، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يديم النظر إلى السماء رجاء مجي ء جبرئيل، فأنزل اللّه الآية.

و السبب في أنّه صلّى اللّه عليه و آله يحبّ تغيير القبلة أمور:

منها أنّ الكعبة كانت قبلة إبراهيم و كان اليهود يقولون: إنّه يخالفنا ثمّ يتّبع قبلتنا و لو لا نحن لم يدر أين يستقبل.

و منها أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقدّر أن يصير ذلك سببا لاستمالة العرب و لدخولهم في الإسلام.

و منها أنّه صلّى اللّه عليه و آله أحبّ أن يحصل هذا الشرف للمسجد الّذي في بلدته و كان قد وعد صلّى اللّه عليه و آله بتحويل القبلة عن بيت المقدس فكان ينقلب وجهه انتظارا للوعد و توقّعا للموعود.

[فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها] أي فو اللّه لنعطينّكها و لنمكّننّك من استقبالها و واليا لها ترضاها و تحبّها و تتشوّق إليها لأنّك تحبّها لمقاصد دينيّة وافقت مشيّة اللّه.

ص: 327

[فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و المراد بالوجه هاهنا جملة البدن، و تخصيص الوجه بالذكر للتنبيه على أنّه الأصل في التوجّه و الاستقبال، و المراد بالشطر:

النحو، قال الرازيّ: الشطر لفظ مشترك بين معنيين، النصف، و الجانب؛ و المتبادر من لفظ «المسجد الحرام» هو المسجد الأكبر الّذي فيه الكعبة و «الحرام» أي المحرّم فيه القتال و الممنوع من الظلمة أن يتعرّضوا له و سائر امور محرّم وقوعه فيه، و في ذكر المسجد دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة، لأنّ استقبال عينها للبعيد متعذّر و فيه حرج عظيم بخلاف القريب.

[وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ الخطاب الأوّل له صلّى اللّه عليه و آله و هذا الخطاب لكافّة الناس أي في أيّ موضع كنتم و أردتم الصلاة فولّوا وجوهكم نحوه و طرفه، و لو اقتصر على الأوّل لظنّ ظانّ أنّ ذلك قبلته فحسبه فبيّن سبحانه أنّه قبلة لجميع المصلّين.

قال ابن عبّاس: البيت كلّه قبلة، و قبلة البيت الباب، و البيت قبلة أهل المسجد، و المسجد قبلة أهل الحرم، و الحرم قبلة أهل الأرض كلّها، و هذا موافق لما قاله أصحابنا:

إنّ الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق.

[وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أراد به علماء اليهود و النصارى [لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي التحويل إلى الكعبة [الْحَقُ الثابت [مِنْ رَبِّهِمْ لما أنّ المسطور في كتبهم أنّه صلّى اللّه عليه و آله يصلّي إلى القبلتين و معنى «من ربّهم» أي من قبل ربّهم، لا شي ء ابتدعه الرسول من قبل نفسه.

[و ما الله بغافل عما تعملون خطاب للمسلمين و أهل الكتاب جميعا على التغليب فيكون وعدا للمسلمين بالإثابة و وعيدا للمخالفين بأوامر اللّه.

[سورة البقرة (2): آية 145]

وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

[وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ] و لئن أتيت الّذين، في الكلام معنى

ص: 328

القسم أي و اللّه لئن أتيت الّذين اعطوا الكتاب من اليهود و النصارى بكلّ برهان قاطع على أنّ التوجّه إلى الكعبة هو الحقّ [ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ عنادا و مكابرة و هذا في حقّ قوم معيّنين علم اللّه أنّهم لا يؤمنون فإنّ منهم من آمن و تبع القبلة.

[وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ حتم لإطماعهم إذ كانوا تناجوا في ذلك و قالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا الّذي ننتظره و طمعوا في رجوعه إلى قبلتهم.

[وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فإنّ اليهود يستقبل الصخرة و النصارى مطلع الشمس، لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك؛ لتصلّب كلّ فريق فيما هو فيه.

[وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ و وافقتهم في مراداتهم بأن صلّيت إلى قبلتهم مداراة لهم و طمعا في إيمانهم [مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي الوحي الّذي هو طريق العلم، أو المعنى من بعد ما علمت أنّ الحقّ ما أنت عليه من القبلة [إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ و هذا الكلام مثل قوله تعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» قال ابن عبّاس: إنّ أمثال هذه الخطابات في القرآن و لو أنّها إليه لكنّه المراد الامّة كقولهم: إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.

[سورة البقرة (2): آية 146]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146)

[الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ أخبر اللّه بأنّ أهل الفهم و الدراسة من اليهود و النصارى يعرفون النبيّ و صحّة نبوّته بأوصافه الشريفة المكتوبة في كتابهم كما لا يشتبه عليهم أبناؤهم [وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ و هم الّذين كابروا و عاندوا الحقّ [لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه و أنّ الكعبة قبلة اللّه، لأنّه مذكور في كتابهم: أنّ هذا النبيّ يصلّي على القبلتين، و إنّما قال: فريقا منهم لأنّ بعضهم صدّقوا و آمنوا به كعبد اللّه بن سلام و أصحابه و كعب الأحبار و غيره و ما كتموا و أمّا الجهلة منهم فليست لهم معرفة بالكتاب و ما هم بصدد الإظهار و لا بصدد الكتم و إنّما كفرهم على وجه التقليد.

[سورة البقرة (2): آية 147]

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

ص: 329

[الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ «الحقّ» مبتدأ، و «من ربّك» خبره. و اللام للعهد و الإشارة إلى ما عليه النبيّ أو إلى الحقّ الّذي يكتمونه أو للجنس، و المعنى: أنّ الحقّ من اللّه لا من غيره و هو ما أنت عليه، لا ما هم عليه [فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فلا تكوننّ من الشاكّين، و المراد الأمّة و إن توجّه الخطاب إليه كما ذكرنا سابقا، و الصحيح في معنى الآية أنّ الّذي كتموه كتموه في قوله: «لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ و هو من ربّك».

[سورة البقرة (2): آية 148]

وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148)

[وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها] و لكلّ مضاف و حذف المضاف إليه لوضوح المعنى أي:

و لكلّ قوم، قيل: الكلّ يعمّ الجميع من فرق المسلمين و اليهود و النصارى و المشركين و قيل: إنّ المشركين غير داخلين في القوم، و التنوين في «لكلّ» عوض عن المضاف إليه، قال الرازيّ في المفاتيح: و قوله: «هو» راجع إلى اسم اللّه، أي: اللّه مولّيها إيّاه و قيل:

عائد إلى الكلّ، فعلى هذا لا يدخل المشركون في الكلّ، بل يعمّ اليهود و النصارى و المسلمين، فعلى القول الثاني و هو أن يكون الضمير راجعا إليهم، فتقدير الكلام أنّ لكلّ منكم وجهة من القبلة هو مستقبلها و متوجّه إليها لصلاته و كلّ يفرح بما هو عليه و لا يفارقه فلا سبيل إلى اتّفاقكم على قبلة واحدة؛ فألزموا معاشر المسلمين قبلتكم.

[فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً] فإنّكم على خيرات من ذلك في الدنيا و الآخرة لانقيادكم لأمره و لشرفكم بقبلة إبراهيم، و أمّا على كون الضمير عايدا إلى اللّه فتقدير الكلام على قسمين:

القسم الأوّل أنّ اللّه عرّفنا أنّ كلّ واحدة من هاتين القبلتين اللتين هما بيت المقدس و الكعبة جهة يولّيها عباده على حسب ما يعلمه صلاحا فالجهتان منه تعالى في الحالتين و هو الّذي ولّى وجوه عباده إليهما فانقادوا أمره حسب ما أمركم فاستبقوا الخيرات بالانقياد، و لا تلتفتوا إلى مطاعن هؤلاء الّذين يقولون: ما ولّاهم عن قبلتهم؟ فإنّ اللّه يجمعكم جميعا في صعيد القيامة مع هؤلاء السفهاء فيفصل بينكم.

ص: 330

و القسم الثاني أنّ المعنى: و لكلّ قوم منكم معاشر المسلمين ناحية من الكعبة فاستبقوا الخيرات بالتوجّه إليها من جميع النواحي فإنّها و إن اختلفت بعد أن تؤدّي إلى الكعبة فهي كجهة واحدة، و لا يخفى على اللّه نيّاتهم، فهو يحشرهم و يثيبهم على أعمالهم.

[إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] بما أراد من الإماتة و الإحياء و الجمع.

[سورة البقرة (2): الآيات 149 الى 150]

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

قال الرازيّ: وجه التكرار في الآيات الثلاثة أنّ الأحوال ثلاثة:

أوّلها أن يكون الإنسان في المسجد الحرام.

و ثانيها أن يخرج عن المسجد الحرام و يكون في البلد.

و ثالثها أن يخرج للسفر إلى أقطار الأرض، فالآية الاولى محمولة على الحالة الاولى، و الثانية على الثانية و الثالثة على الثالثة؛ لأنّه قد يتوهّم أنّ للقرب حرمة و حكما لا تثبت فيها للبعد فلأجل هذا الأمر كرّرت.

و قيل وجوه أخر.

و قيل: المراد من الآية الثانية و هي قوله: [وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ المراد في السفر، أي من أيّ مكان و بلد خرجت إليه للسفر [فَوَلِّ وَجْهَكَ عند صلاتك [شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و تلقائه فإنّ وجوب التوجّه إلى الكعبة لا يتغيّر بالسفر و الحضر حالة الاختيار [وَ إِنَّهُ أي هذا المأمور به [لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الثابت الموافق للحكمة [وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الإطاعة و المعصية.

[وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ في أسفارك و مغازيك بعيدة كانت أو قريبة [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ أيّها الناس [فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ من محالّكم. و هذه الآية الثالثة كرّرها لما أنّ القبلة لها شأن خطير و النسخ من مظانّ

ص: 331

الشبهة و كان إنكار أهل الكتاب في هذا النسخ شديدا فبالحريّ أن يؤكّد.

[لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ] أي لأن لا يكون لأهل الكتاب عليكم حجّة إذا لم تصلّوا نحو المسجد الحرام بأن يقولوا: ليس هذا هو النبيّ المبشّر به إذ ذاك نبيّ يصلّي القبلتين، و ذلك أنه كان مكتوبا في كتبهم أنّه يأتى و يصلّي بالقبلتين.

قال أبو ذوق: إنّ حجّة اليهود أنّهم كانوا قد عرفوا أنّ النبيّ المبعوث في آخر الزمان قبلته الكعبة فلمّا رأوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله يصلّي إلى الصخرة احتجّوا بذلك؛ فصرفت قبلته إلى الكعبة لئلّا يكون لهم عليه حجّة.

[إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يريد إلّا الّذين يكتمون ما عرفوا من كتابهم من أنّه صلّى اللّه عليه و آله يحول إلى الكعبة و تسمية هذه بالحجّة لأنّهم يوردونها موقعها، و يسوقونها مساقها فسمّيت مجازا حجّة تهكّما بهم [فَلا تَخْشَوْهُمْ و لا تخافوهم في توجّهكم إلى الكعبة؛ فإنّ مطاعنهم لا تضرّكم شيئا، و قيل: المراد بالّذين ظلموا قريش و اليهود، فأمّا قريش فقالوا: قد علم أنّنا على هدى فرجع صلّى اللّه عليه و آله إلى قبلتنا و سيرجع إلى ديننا، و أمّا اليهود فقالوا: لم ينصرف عن قبلتنا عن علم و إنّما جعله برأيه، و قيل: المراد بالّذين ظلموا العموم يعني ظلموكم بالمخالفة و قلّة الاستماع [وَ اخْشَوْنِي لمّا ذكرهم بالظلم و الخصومة طيّب نفوس المؤمنين فقال: لا تخافوا من مخالفتهم في القبلة و اخشوا عقابي في ترك استقبالها فإنّي أحفظكم.

[وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ علّة لمحذوف تقديره أمر بكم بتولية الوجوه شطره لإتمامي النعمة عليكم، و أنصركم على أعدائكم، و اورّثكم أرضهم و ديارهم في الدنيا و في الآخرة جنّتي و رحمتي [وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ و لكي تهتدوا. و «لعلّ» من اللّه واجب.

[سورة البقرة (2): آية 151]

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

[كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ الكلام متّصل بما قبله أي و لأتمّ نعمتي عليكم في أمر القبلة إتماما كائنا كإتمامي لها بإرسال رسول كائن منكم و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّ

ص: 332

إرسال الرسول لا سيّما منهم نعمة لم تكافئها نعمة [يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا] و هو القرآن العظيم [وَ يُزَكِّيكُمْ و يحملكم على ما تصيرون به أزكياء طاهرين من دنس الشرك و الذنوب المكدّرة لجوهر النفس.

[وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ من معانيه و الشرائع و الأحكام الّتي باعتبارها وصف بكونه هدى و نورا [وَ الْحِكْمَةَ] هي الإصابة في القول و العمل، من أحكمت الشي ء إذا رددته عمّا لا يعنيه كأنّ الحكمة هي الّتي تردّ عن الجهل و الخطأ [وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ و يعلّمكم العلوم الّتي في الكتاب و لا طريق إلى تحصيلها إلّا من جهة الوحي على ألسنة الأنبياء و بعد أن عملتم ما علمتم يحصل لكم ملكة الاعتدال و السعادة، و معلوم أنّ ملكة الاعتدال في الأخلاق لا تحصل إلّا بالمواظبة على ترك الأفعال السيّئة و إتيان الفرائض و السنن حتّى يحصل التوفيق و مهما رأيت نفسك في كراهة و استثقال من الأخلاق الجميلة و صعب عليك ترك المحظورات فاعلم أنّك قاصر الباع في السعادة.

عن أبي حمزة الثماليّ قال: دعا حذيفة بن اليمان ابنه عند موته، فأوصى إليه و قال: يا بنيّ أظهر اليأس عمّا في أيدي الناس فإنّ فيه الغنى، و إيّاك و طلب الحاجات من الناس فإنّه فقر حاضر، و كن اليوم خيرا من أمسك و إذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع للدنيا كأنّك لا ترجع إليها، و إيّاك و ما يعتذر منه.

قال الصادق عليه السّلام: ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة.

قال علماء الأخلاق: إن تتمكّن أن يكون باطنك خيرا من ظاهرك فبها و نعمت، و إلّا فليكن ظاهرك و باطنك و سرّك و علنك واحدا.

قيل: إنّ شابّا من الأنصار كان يأتي عبد اللّه بن عبّاس و كان ابن عبّاس يكرمه و يدنيه فقيل له: إنّك تكرم هذا الشابّ و هو شابّ سوء يأتي اللّيالي القبور و ينبّشها فقال عبد اللّه: إذا كان ذلك فأعلموني، فخرج الشابّ في بعض الليالي يتخلّل القبور، فأعلموا عبد اللّه، فخرج لينظر ما يكون من أمره و وقف ناحية ينظر إليه من حيث لا يراه الشابّ، فدخل الشابّ قبرا قد حفر.

ثمّ اضطجع في اللحد و نادى بأعلى صوته: يا ويحي إذا دخلت لحدي وحدي و

ص: 333

نطقت الأرض من تحتي و قالت: لا مرحبا بك و لا أهلا قد كنت أبغضك و أنت على ظهري فكيف و قد صرت في بطني؟ بل و يحي إذا نظرت إلى الأنبياء وقوفا و الملائكة صفوفا، فمن عدلك من يخلّصني؟ و من المظلومين من يستنقذني؟ و من عذاب النار من يجيرني؟ قد عصيت من ليس بأهل أن يعصى، و جعل يردّد هذا الكلام و يبكي إلى الصباح، فلمّا خرج من القبر التزمه ابن عبّاس و عانقه، ثمّ قال: نعم النبّاش ما أنبشك للذنوب و الخطايا! ثمّ تفرّقا.

و أمثال هذه الرياضات لا تحصل إلّا بالخشية و برسوخ حبّ اللّه في القلب و خروج حبّ الدنيا عن القلب، فمزّق نفسك ضدّ عادتها و عوّدها بالعادات الجميلة، و العادات تقتضي في النفس عجائب، أما ترى أنّ اللاعب بالحمام لا يحسّ طول النهار بحرّ الشمس قائما على رجليه و هو ميّت من التعب و مع ذلك لا يحسّ، و إذا كان الطبع يستلذّ من أكل الطين فكيف لا يستلذّ من العسل؟ فروّض نفسك بمشقّات الطاعة حتّى يصير التطوّع طبعا، لكن لمّا كانت اللذات أنسب إلى مشتهاها تميل النفس إليها و النفس قابلة لقبول العادتين.

لكنّ هذه الرياضة يكون لها مدّة طويلة، فإنّ عادة عشرين سنة لا تتبدّل بقيام ليلة و لا أقلّ من المقابلة و أنّ الترياق يلزم أن يكون مساويا لوزن السمّ؛ فدم في العمل حتّى تستدرك الفيض الأقدم و الأولى في رياضتك، و تبديل أخلاقك علاج مرض القلب و أنت بزعمك ليس قلبك مريض، و من عنده شي ء أحبّ إليه من اللّه فقلبه مريض و لا بدّ من علاجه و إلّا فيهلك؛ قال اللّه سبحانه: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ إلى قوله- أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» (1).

[سورة البقرة (2): آية 152]

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152)

[فَاذْكُرُونِي بالطاعة لقوله صلّى اللّه عليه و آله: من أطاع اللّه فقد ذكر اللّه و إن قلّت صلاته و صيامه و قراءته، و من عصى اللّه فقد نسي اللّه و إن كثرت صلاته و قراءته [أَذْكُرْكُمْ بالثواب و الإحسان و إفاضة الخير، و أطلق الذكر على طريق المشاكلة و المجاز لوقوعه

ص: 334


1- التوبة: 24.

في صحبة العبد، كقوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ» و اللّه تعالى منزّه عن النسيان.

[وَ اشْكُرُوا لِي على ما أنعمت عليكم من النعم فأمر سبحانه بتخصيص شكرهم له و أن لا يشكروا غيره و يعرفوا أنّ النعمة منه تعالى و المراد: اذكروني بالقول و اشكروا لي بالعمل [وَ لا تَكْفُرُونِ بإنكار النعم و عصيان الأمر و في الآية إشعار على أنّ ترك الشكر كفران.

[سورة البقرة (2): آية 153]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ] من الناس من حمل الصبر على الصوم و منهم من حمله على الجهاد و منهم من حمله على الصبر عن المعاصي و اللذائذ و حظوظ النفس [وَ الصَّلاةِ] الّتي هي امّ العبادات و معراج المؤمنين، روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله إذا وقع له شديدة فزع و استعان بالصلاة. و قدّم سبحانه في الآية الترك على الفعل لأنّ التخلية قبل التحلية و لهذا قدّم النفي على الإثبات في كلمة التوحيد. و ذكر الصلاة لأنّ الأمر بها مطلق لكلّ أفراد المكلّفين و أمّا غيرها فمختصّ بأصحاب دون أصحاب مثل الزكاة فمختصّة بأصحاب النصاب و مثل الحجّ فبأصحاب الاستطاعة.

[إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ و معنى المعيّة: الولاية الدائمة، و إنّما قال: «مَعَ الصَّابِرِينَ» و لم يقل: مع المصلّين لأنّ الصلاة لا تنفكّ عن الصبر، فإذا كان مع الصابرين لا جرم كان مع المصلّين.

و الصبر مبدؤ كلّ فضل؛ فإنّ أوّل التوبة الصبر عن المعاصي و أوّل الزهد، الصبر عن المباهات.

و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.

و قال صلّى اللّه عليه و آله: الصبر خير كلّه، فمن تحلّى بحلية الصبر سهل عليه ملابسة الطاعات و الاجتناب عن المنكرات، و كذلك الصلاة، قال اللّه: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ».

و في الحديث: إذا كان يوم القيامة و جمع اللّه الخلائق نادى مناد: أين أهل الفضل؟ فيقوم ناس و هم يسرعون و يسيرون إلى الجنّة فتلقاهم الملائكة فيقولون: إنّا

ص: 335

نراكم سراعا إلى الجنّة فمن أنتم؟ قالوا: نحن أهل الفضل، فيقولون: ما كان فضلكم؟

قالوا: كنّا إذا ظلمنا صبرنا و إذا أسي ء إلينا عفونا، فيقال لهم: ادخلوا الجنّة فنعم أجر العاملين.

ثمّ ينادي مناد: أين أهل الصبر؟ فيقوم ناس يصيرون سراعا إلى الجنّة فتلقاهم الملائكة، فيقولون: إنّا نراكم سراعا إلى الجنّة فما أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر فيقولون: ما كان صبركم؟ قالوا كنّا نصبر على طاعة اللّه و نصبر عن معصية اللّه، فيقال لهم: ادخلوا الجنّة.

ثمّ ينادي مناد: أين المتحابّون في اللّه؟ فيقوم ناس يسيرون سراعا إلى الجنّة فتلقاهم الملائكة، فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن المتحابّون في اللّه، فيقولون: و ما كان تحابّكم في اللّه؟ قالوا: كنّا نتحابّ في اللّه بطاعته.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ المؤمن قيّده القرآن عن كثير من هوى نفسه فالصيام جنّته و الصدقة فكاكه و الصلاة كهفه.

أقول: يعني كما أنّ الكهف يحفظ الإنسان عن امور، كذلك الصلاة تمنع و هي بمنزلة الناهي بالقول إذا قال لا يفعل الفحشاء و المنكر، و ذلك أنّ فيها التكبير و التهليل و التسبيح و الوقوف بين يدي اللّه، و كلّ ذلك يدعو إلى شكره و يصرف عن ضدّه، فهي كالآمر و الناهي بالقول و كلّ دليل مؤدّ إلى أمر فهو داع إليه و صارف عن ضدّه.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا صلاة لمن لم يطع الصلاة و طاعة الصلاة أن ينته المصلّي عن المعاصي.

[سورة البقرة (2): آية 154]

وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)

[وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ] وجه تعلّق الآية بما قبلها أنّه لمّا قال: استعينوا بالصبر و الصلاة في إقامة ديني، فإن احتجتم في تلك الإقامة إلى المجاهدة مع العدوّ بأموالكم و أنفسكم ففعلتم ذلك و تلفت نفوسكم، فلا تحسبوا أنّكم ضيّعتم أنفسكم، بل اعلموا أنّ قتلاكم أحياء؛ قال ابن عبّاس: نزلت في شهداء بدر و كانوا

ص: 336

أربعة عشر رجلا، ستّة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار و كان الناس يقولون لمن يقتل في سبيل اللّه: مات فلان و ذهب عنه نعيم الدنيا و لذّاتها، فنزلت الآية أي هم أحياء.

و في كونهم أحياء أقوال:

أحدها- و هو الصحيح- أنّهم أحياء على الحقيقة إلى أن تقوم الساعة و هو قول جماعة كابن عبّاس و قتادة و مجاهد و الحسن و عمرو بن عبيد و واصل بن عطا و الجبّائيّ و الرمّانيّ و أكثر المفسّرين.

و القول الثاني- و هو بمعزل عن القبول- أنّهم يحيون يوم القيامة و يثابون، و هذا القول المتروك عن البلخيّ وحده و لم يذكر غيره هذا المعنى، و هذا المعنى سخيف بارد لأنّ هذا الأمر لكلّ من آمن باللّه و ليس فائدة في تخصيصهم بالذكر.

و الثالث أنّ المعنى: لا تقولوا: هم أموات في الدين، بل هم أحياء بالطاعة و الهدى، أي كالأحياء في الحكم لا ينقطع ثواب أعمالهم لأنّهم قتلوا في نصرة دين اللّه، فما دام الدين باقيا فلهم ثواب ذلك لأنّهم سنّوا هذه السنّة، أو المراد: ذكرهم و شرفهم باق.

[وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ كيف حالهم.

فإن قيل: على معنى القول الأوّل الّذي ذكرنا نحن نرى جثّة الشهداء مطروحة على الأرض لا تتصرّف و لا يرى فيها شي ء من علامات الأحياء.

فالجواب أنّ اللّه يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا يتنعّمون فيها دون أجسامهم الّتي في القبور، و هذا على مذهب من يقول من أصحابنا في الإنسان: إنّه النفس الناطقة، فإنّ النعيم و العذاب على هذا إنّما يحصل للنفس الّتي هي الإنسان المكلّف عنده دون الجثّة.

و يؤيّد هذا القول ما رواه الشيخ أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام مسندا إلى عليّ بن مهزيار عن يونس بن ظبيان، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال عليه السّلام:

ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت: يقولون في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش، فقال عليه السّلام: سبحان اللّه! المؤمن أكرم على اللّه أن يجعل روحه في حوصلة

ص: 337

طائر أخضر! يا يونس، المؤمن إذا قبضه اللّه صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكلون و يشربون، فإذا قدم عليه القادم، عرفوه بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا.

و في رواية اخرى عن أبي بصير قال: سألت الصادق عليه السّلام عن أرواح المؤمنين، فقال عليه السّلام: في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت: فلان.

و أمّا على مذهب من قال: إنّ الإنسان هذه الجمل المشاهدة و إنّ الروح هو النفس المتردّد في مخارق الحيوان و هو أجزاء الجوّ و الباطن فالقول أنّه يلطف أجزاء من الإنسان لا يمكن أن يكون الحيّ حيّا بأقلّ منها يوصل إليها النعيم و إن لم تكن تلك الجملة بكمالها؛ لأنّه لا يعتبر بالأطراف و أجزاء السمن في كون الحيّ حيّا؛ فإنّ الحيّ لا يخرج بمفارقتها من كونه حيّا.

و ربّما قيل بأنّ الجثّة يجوز أن يكون مطروحة في الصورة و لا تكون ميتة فتصل إليه اللذّات، كما أنّ النائم حيّ و تصل إليه اللذّات مع أنّه لا يحسّ و لا يشعر بشي ء من ذلك، فيرى في النوم ما يجد به السرور و الالتذاذ حتّى يودّ أن يطول نومه و لا ينتبه.

و قد جاء في الحديث أنّه يفسح له مدّ بصره، و يقال له: نم نومة العروس و قوله:

«لا تَشْعُرُونَ» أي لا تعلمون أنّهم أحياء.

و في الآية دلالة على صحّة مذهبنا في سؤال القبر و إثابة المؤمن فيه و عقاب العصاة على ما تظاهرت و تظافرت الأخبار به. و إنّما حمل البلخيّ ذلك المعنى الّذي انفرد به و ذكرناه لإنكاره عذاب القبر، فإن قلت: إن كان المراد في الآية هذا المعنى الآخر فما وجه تخصيص الشهداء بها و هو مشترك في الجميع من إدراك اللذّة و الألم؟

فالمراد اختصاصهم بمزيد البهجة و الكرامة و القرب، و لكنّ القول الصحيح هو الوجه الأوّل كما قال به جلّ العلماء كالشيخ و الطبرسيّ.

و اعلم: أنّ نفس الإنسان و ذاته الّذي هو مخاطب مكلّف مأمور منهيّ جسمانيّ لطيف سار في هذا البدن المحسوس سريان النار في الفحم و ماء الورد في الورد، و هو الّذي يشير إليه كلّ أحد بقوله: أنا، و هو الإنسان حقيقة، و هو كان في صلب آدم حين

ص: 338

سجد له الملائكة و هو المسؤول بقوله: أ لست بربّكم؟ قالوا: بلى، و هو الّذي يتوفّى في المنام و يخرج و يسرح و يرى الرؤيا فيسرّ بما يرى أو يحزن، فإن أمسكه اللّه و لم يرجع جسده تبعه الروح و الجسد الكثيف المعبّر عنه بالبدن.

و الروح الإنسانيّ محلّ تعيّنه هو القلب الصنوبريّ، و الروح الحيوانيّ محلّ تعيّنه هو الدماغ و يسري في جميع أعضاء البدن إلّا أنّ سلطانه قويّ في الدماغ و الدماغ أقوى مظاهره و الروح الحيوانيّ إنّما حدث بعد تعلّق الروح السلطانىّ بهذا الهيكل فهو من انعكاس أنوار الروح السلطانيّ ليكون مبدأ الأفعال، لأنّ الحياة أمر مغيب مستور في الحيّ، لا يعلم إلّا بآثارها كالحسّ و الحركة و العلم و الإرادة، و هذا يدور على الروح الحيوانيّ، فمادام هذا البخار باقيا على الوجه الّذي يصلح أن يكون علاقة بينهما، فالحياة قائمة، و عند انتفائه و خروجه تزول الحياة، و يخرج الروح من البدن خروجا اضطراريّا و هو الموت الحقيقيّ.

و من هذا البيان ينكشف أحوال البرزخ، و أنّ القبر روضة من رياض الجنان، أو حفرة من حفر النيران؛ فالشهداء أحياء بالحياة البرزخيّة و متنعّمون بالأبدان المثاليّة و الروح الإنسانيّ، لكنّه إذا بعث و حشر، فنعيمه و عذابه على النمط الّذي كان في الدنيا من روحه الإنسانيّ و الحيوانيّ و الجسميّ، من جميع أجزائه الدنيويّ، من اللحم و الشحم و العظم، و كلّ ما كان له في بدنه في الدنيا حتّى أنّ سنّه إذا كان كافرا كجبل احد.

قال معاذ بن جبل: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن أردتم عيش السعداء و موت الشهداء و النجاة يوم الحشر و الظلّ يوم الحرور و الهدى يوم الضلالة فادرسوا القرآن، فإنّه كلام الرحمن و حرز من الشيطان و رجحان في الميزان.

[سورة البقرة (2): آية 155]

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

[وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ اللام جواب قسم محذوف، أي و اللّه لنعاملنّكم معاملة المختبر، هل تصبرون على البلاء و تستسلمون للقضاء؟ إذ البلاء معيار كالمحك يظهر به جوهر

ص: 339

النفس، و ذلك الاختبار لا لنعلم شيئا لم نكن عالمين به، بل ليترتّب الجزاء على المطيع و العاصي؛ لأنّ ترتّب الثواب و الجزاء لا يصحّ إلّا بعد وقوع الفعل من المكلّف و لا يصحّ أن يترتّب بمجرّد العلم [بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ أي بقليل من خوف الأعداء و امور أخر، و إنّما قلّله لأنّ ما وقاهم منه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم، و ما أعطاهم أكثر من ما منعهم [وَ الْجُوعِ أي من القحط و المجاعة، و إنّما أخبرهم به قبل وقوعه ليوطّنوا عليه نفوسهم و يسهل عليهم الصبر.

[وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بهلاك المواشي و ذهاب بعض الأموال [وَ الْأَنْفُسِ بالموت و القتل في الجهاد و غيره [وَ الثَّمَراتِ : بذهاب حمل الأشجار و ارتفاع البركات و موت الأولاد لأنّها ثمرات أيضا و قيل: الخوف خوف اللّه و الجوع صوم رمضان، و النقص من الأموال الصدقات و الزكاة، و من الأنفس الأمراض، و من الثمرات الأولاد، و الصحيح أنّه يعمّ الجميع [وَ بَشِّرِ] يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله [الصَّابِرِينَ على البلايا.

[سورة البقرة (2): آية 156]

الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156)

[الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ] و هي ما يصيب الإنسان من مكروه، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كلّ شي ء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة، و أصله من أصاب السهم المرمى [قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أي نحن إلى حكمه نصير، و هذا الكلام إقرار بالبعث و النشور.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ قولنا «إِنَّا لِلَّهِ» إقرار على أنفسنا بالملك و قولنا: «وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» إقرار على أنفسنا بالهلك، قال صلّى اللّه عليه و آله: من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا و إن تقادم عهدها، كتب اللّه له من الأجر مثل يوم أصيب.

قال الصادق عليه السّلام: من كان فيه أربع كتبه من أهل الجنّة: من كانت عصمته شهادة أن لا إله إلّا اللّه، و من إذا أنعم اللّه عليه النعمة قال: الحمد للّه، و من إذا أصاب ذنبا قال:

أستغفر اللّه، و من إذا أصابته مصيبة قال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

[سورة البقرة (2): آية 157]

أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

[أُولئِكَ إشارة إلى الّذين وصفهم من الصابرين [عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي

ص: 340

ثناء جميل من ربّهم و تزكية أو بركات و مغفرة [وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ المصيبون طريق الحقّ و الهداية، و استسلموا لقضاء اللّه، قال ابن مسعود: لأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أقول في شي ء قضاه: ليته لم يكن.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من ضرب بيده على فخذه عند مصيبة فقد حبط أجره، أقول: إنّ الصبر يجب عليه إذا كان من جهة العدل الحكيم، فيجب الصبر عليها لعلمه بأنّه تعالى لا يقضي إلّا بالحقّ، و إن أصابته من جهة الظلمة فلا يجب عليه الصبر، بل جاز له أن يمانعه.

[سورة البقرة (2): آية 158]

إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

[إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ] «صفا» علم لجبل بمكّة و سمّي الصفا لأنّه جلس عليه آدم صفيّ اللّه عليه السّلام، و المروة علم لجبل في مكّة أيضا و سمّي المروة لأنّها جلست عليها امرأة آدم حوّاء.

عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام: و الصفا في الأصل الحجر الأملس، مأخوذ من الصفو، واحده صفاة و كلّ حجر لا يخلطه غيره من طين أو تراب. و هو واويّ لأنّ تثنيته صفوان، و المرو نبت. و أصله الصلابة أيضا، و الألف و اللّام للتعريف لا للجنس.

[مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ و الشعائر جمع شعيرة، و هي العلامة، و شعائر اللّه معالمه الّتي جعلها معالم لعباده من موقف أو مسعى أو منحر، من شعرت به أي علمت.

قيل: إنّه كان على الصفا صنم على صورة رجل، يقال له: أساف و صنم على المروة على صورة امرأة يقال لها نائلة و إنّهما كانا زنيا في الكعبة، فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلمّا طالت المدّة عبدا من دون اللّه، و كان أهل الجاهليّة إذا سعوا بين الصفا و المروة سجدهما تعظيما لهما، فلمّا جاء الإسلام و كسرت الأوثان كره المسلمون الطواف و السعي بينهما لأنّه فعل الجاهليّة فاذن في السعي بينهما و اخبر أنّهما من شعائر اللّه.

و الحكمة في شرعيّة السعي بينهما: أنّ هاجر لمّا ضاق عليها الأمر من العطش

ص: 341

و عطش إسماعيل سعت في هذا المكان إلى أن صعدت الجبل و دعت و طلبت من اللّه الماء فأنبع اللّه لها زمزم فجعلها طاعة للمكلّفين إلى يوم القيامة. و في الخبر: الصفا و المروة بابان من الجنّه و موضعان من مواضع الإجابة، ما بينهما قبر سبعين ألف نبيّ و سعيهما يعدل سبعين رقبة.

[فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ] الحجّ في اللغة هو القصد على وجه التكرار، و في الشرع عبارة عن قصد البيت بالأعمال المخصوصة من الإحرام و الطواف و السعي و الوقوف و غير ذلك، و العمرة هي الزيارة، مأخوذ من العمارة، لأنّ الزائر يعمر المكان بزيارته و هي في الشرع عبارة عن زيارة البيت بالعمل، فمن قصد البيت بالأعمال المخصوصة و زاره [فَلا جُناحَ عَلَيْهِ و لا إثم [أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما] و يدور عليهما لأنّهم توهّموا أن يكون في ذلك جناح لأجل فعل الجاهليّة.

[وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً] و أصل التطوّع الفعل طوعا و ميلا لا كرها، كأنّه قيل:

من تبرّع بما لم يفرض عليه من القربات مطلقا؛ فانتصاب «خيرا» بنزع الخافض، أي من تطوّع تطوّعا بخير [فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ له مجاز بعمله، فإنّ الشاكر في وصف اللّه بمعنى المجازيّ بالإثابة على الطاعة، و الشكر من اللّه، الرضى عن العبد و لازم الرضى الإثابة [عَلِيمٌ بطاعة المتطوّع، و في كتاب زهرة الرياض: أنّ رجلا من الزهّاد قال: حججت سنة و في رأيي أن أنصرف من عرفات و لا أحجّ بعد هذا، فنظرت في القوم فإذا أنا بشيخ متّكئ على عصا و هو ينظر إليّ مليّا، فقلت: السلام عليك يا شيخ، فقال: و عليك السلام ارجع عمّا نويت، فقلت: سبحان اللّه من أين تعلم نيّتي؟ قال: ألهمني ربّي، فو اللّه لقد حججت خمسا و ثلاثين حجّة و كنت واقفا بعرفات هاهنا في الحجّة الخامسة و الثلاثين أنظر إلى هذه الرحمة و أتفكّر في أمري و أمرهم أنّ اللّه هل يقبل حجّهم و حجّي، فبقيت متفكّرا حتّى غربت الشمس و أفاض الناس من عرفات إلى مزدلفة و لم يبق أحد و جنّ اللّيل و تمّت تلك الليلة، فرأيت في النوم كأنّ القيامة قد قامت و حشر الناس و تطايرت الكتب و نصبت الموازين و الصراط و فتحت أبواب الجنان و النيران فسمعت النار تنادى و تقول:

ص: 342

اللّهمّ ذق الحجّاج حرّي و بردي، فنوديت النار: يا نار سلي غيرهم، فإنّهم ذاقوا عطش البادية و حرّ عرفات و وقوا عطش القيامة و رزقوا الشّفاعة، فإنّهم طلبوا رضاي بأنفسهم و أموالهم فأنبهت و صلّيت ركعتين، ثمّ نمت و رأيت كذلك، فقلت في نفسي: هذا من الرحمن أو من الشيطان؟ فقيل لي: بل من اللّه، مدّ يمينك، فمددت فإذا على كفّي مكتوب: من وقف بعرفة و زار البيت شفّعته سبعين من أهل بيته، فلم تمرّ عليّ منذ حينئذ سنة إلّا و قد حججت حتّى تمّ لي ثلاث و سبعون حجّة. انتهى.

و يشمل قوله تعالى: «وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» جميع مراتب الأخلاق الحسنة و المستحبّات الشّرعيّة من البرّ و معاونة الضعفاء و المساكين، فإنّ اللّه يشكر عمله بمزيد الثواب.

في ثواب الأعمال: عن جميل بن درّاج عن الصادق عليه السّلام قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الحاجّ إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئا و لم يضعه إلّا كتب اللّه له عشر حسنات و محى عنه عشر سيّئات و رفع له عشر درجات فإذا ركب بعيره لم يرفع خفّا و لم يضعه إلّا كتب اللّه له مثل ذلك و إذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه و إذا سعى بين الصفا و المروة خرج من ذنوبه و إذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه و إذا وقف بالمشعر خرج من ذنوبه و إذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، و عدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذا و كذا موطنا كلّها يخرجه من ذنوبه ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فإنّ لك أن تبلّغ الحاجّ.

و عن أبي حمزة الثماليّ، عن عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: قال رجل لعليّ بن الحسين: تركت الجهاد و خشونته و لزمت الحجّ، قال: و كان عليه السّلام متّكئا فجلس و قال: ويحك ما بلغك ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع؟ إنّه لما همّت الشمس أن تغيب قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا بلال، قل للناس: فلينصتوا، فلمّا أنصتوا، قال: إنّ ربّكم تطوّل عليكم في هذا اليوم فغفر لمحسنكم و شفع لمحسنكم في مسيئكم فأفيضوا مغفورا لكم و ضمن لأهل التبعات من عنده الرضى.

و عن الصادق عليه السّلام قال: لمّا أفاض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سلّم فلقاه أعرابيّ في الأبطح، فقال: يا رسول اللّه إنّي خرجت أريد الحجّ فعاقني عائق و أنا رجل مليّ كثير المال مرني

ص: 343

ما أصنع في مالي أبلغ ما بلغ لحاجّ؟ قال فالتفت صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أبي قبيس فقال: لو أنّ أبا قبيس لك زنته ذهبا حمراء أنفقته في سبيل اللّه ما بلغت ما بلغ الحاجّ.

[سورة البقرة (2): آية 159]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)

المعنيّ بالآية علماء اليهود و النصارى مثل كعب بن الأشرف و كعب بن أسيد و ابن صوريا و زيد بن التاتوج أو التابوه و غيرهم من علماء النصارى الّذين كتموا أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نبوّته و علائم خاتميّته و هم وجدوها مكتوبا و مثبتا في التوراة و الإنجيل.

و الآية متناولة لكلّ من كتم ما أنزل اللّه، لأنّه عام فيدخل فيه أولئك و غيرهم.

فحثّ سبحانه في الآية على إظهار الحقّ و نهي عن إخفائه، فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ و يخفون [ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى من الحجج المنزلة في الكتب من علوم الشرع. فعمّ بالوعيد في كتمان جميعها [مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ متعلّق بيكتمون أي أوضحناه [لِلنَّاسِ جميعا [فِي الْكِتابِ أي التوراة و لعلّ المراد من قوله: ما أنزلنا، الوحي، و من الهدى: الدلائل العقليّة [أُولئِكَ الموصوفون [يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ و يبعدهم عن رحمته [وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي الّذين يتأتّى منهم اللعن من الملائكة و مؤمني الثقلين.

قال ابن مسعود: ما تلاعن اثنان إلّا ارتفعت اللعنة بينهما، فإن استحقّ أحدهما و إلّا رجعت على اليهود الّذين كتموا صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قيل: المراد من قوله: «اللَّاعِنُونَ»:

البهائم و الهوامّ تلعن العصاة، تقول: اللّهم العن عصاة بني آدم، فبشؤمهم منع عنّا القطر.

[سورة البقرة (2): آية 160]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

[إِلَّا الَّذِينَ تابُوا] الاستثناء متّصل و المستثنى منه هو الضمير في «يَلْعَنُهُمُ» أي إلّا الّذين تابوا من الكتمان و سائر ما يجب أن يتاب منه [وَ أَصْلَحُوا] ما أفسدوا بالتدارك فإنّه يجب بعد التوبة مثلا لو أفسد على تغيير دينه بإيراد شبهة عليه، يلزمه إزالة تلك الشبهة و يفعل أمورا حند (؟) الكتمان و هو البيان و هو المراد بقوله [وَ بَيَّنُوا] ما

ص: 344

بيّنه اللّه في كتابه، لتحصل و تتمّ توبتهم. فدلّت الآية على أنّ التوبة لا تحصل إلّا بترك كلّ ما لا ينبغي، و بفعل كلّ ما ينبغي [فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ و أقبل توبتهم، فإنّ التوبة إذا أسندت إلى اللّه بأن قيل تاب: اللّه أو يتوب، تكون بمعنى القبول [وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ المبالغ في قبول التوبة.

عن الصادق عليه السّلام قال: فيما وعظ اللّه عيسى بن مريم عليه السّلام: يا عيسى أنا ربّك و ربّ آبائك، اسمي واحد و أنا الأحد المتفرّد، أخلق كلّ شي ء، و كلّ شي ء من صنعي، و كلّ خلقي إليّ راجعون، فكن إليّ راغبا و منّي راهبا فإنّك لن تجد منّي ملجأ إلّا إليّ، اجعل ذكري لمعادك و تقرّب إليّ بالنوافل و لا تولّ غيري فأخذ لك يا ابن البكر البتول ابك على نفسك بكاء من قد ودع الأهل و قلى الدنيا و تركها لأهلها.

[سورة البقرة (2): آية 161]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ] أي الّذين استمرّوا على الكفر و يصرّون على كفرهم و ما ارتدعوا عن حالتهم الكفريّة و ماتوا عليه [أُولئِكَ مستقرّ [عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ هم المخصوصون باللعنة الأبديّة، أحياء و أمواتا، أمّا في الدنيا فيلعنهم المؤمنون، و يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا و اللّه تعالى يلعنهم يوم القيامة، ثمّ الملائكة، ثمّ الناس. و من لعن الظالم و هو ظالم فقد لعن نفسه.

[سورة البقرة (2): آية 162]

خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

استئناف لبيان كثرة عذابهم أي لا يرفع عنهم و لا يهوّن عليهم و لا يمهلون للمعذرة و للتّخفيف بل يعذّبون على الدوام أو بمعنى النظر و الرؤية، أي لا ينظر إليهم نظر رحمة، و إنّما خلّدوا؛ لأنّ نيّاتهم البقاء على ما كانوا عليه من الكفر. و أمّا اختلاف الدركات فبتفاوت سوء الأحوال و شدّة الكفر و مراتبه.

و اعلم أنّ الضلال و الفساد في الطالبين من فساد مرشدهم؛ فما دام المرشد على الصراط المستقيم يحفظ الطالب من الضلال كما قال: إذا زلّ العالم زلّ بزلّته العالم، و نزول

ص: 345

البلاء من فساد الرئيس و متابعة العامّة إيّاه؛ حكي أنّ أمّنا حوّاء أكلت أوّلا من الشجرة فلم يقع شي ء، فلمّا أكل منها آدم وقع الخروج من الجنّة، فويل لأرباب الرياسة الّذين ظلموا أنفسهم و تجاوز ظلمهم إلى من عداهم.

[سورة البقرة (2): آية 163]

وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)

الواحد شي ء لا ينقسم؛ عددا كان أو غيره، و هو الشي ء الّذي لا ينقسم من جهة الوحدة، مثلا الإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث إنّه إنسان واحد إلى إنسانين، بل قد ينقسم إلى الأبعاض و الأجزاء لكنّه لم ينقسم من جهة ما قيل له: إنّه واحد بل من جهة اخرى.

قال ابن عبّاس: إنّ كفّار قريش قالوا يا: محمّد صف لنا ربّك، فقال اللّه: [وَ إِلهُكُمْ المستحقّ للعبادة [إِلهٌ واحِدٌ] فرد في الإلهيّة لا شريك له فيها [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] تقرير للوحدانيّة أي لا إله موجود في الوجود- و الخبر محذوف- إلّا اللّه. و معنى «إِلهٌ واحِدٌ» أنّه لا يجوز الانقسام و لا يحتمل التجزئة و ليس بذي أبعاض و كذلك واحد لا نظير له و لا يشابهه شي ء و واحد في صفاته الّتي يستحقّها لنفسه، مثلا وصفنا بأنّه قديم أنّه المختصّ بهذه الصفة لا يشاركه فيها غيره، و وصفنا بأنه قادر على أنّه المختصّ بهذه القدرة، ففي كلّ صفة من صفاته واحد لا يقدر غيره تلك الصفة.

في كتاب ثواب الأعمال مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: ثمن الجنّة لا إله إلّا اللّه.

و في حديث آخر قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس شي ء إلّا و له شي ء يعد له إلّا اللّه فإنّه لا يعد له شي ء، و لا إله إلّا اللّه فإنّه لها يعدلها شي ء.

و عن عبد اللّه بن الوليد رفعه قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قال: لا إله إلّا اللّه غرست له شجرة في الجنّة من ياقوتة حمراء منبتها في مسك أبيض، أحلى من العسل و أشدّ بياضا من الثلج و أطيب من المسك. فيها ثمار أمثال أثداء الأبكار تفلق عن سبعين حلّة.

[الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ بيان لسبب استحقاق العبادة دون غيره، و عن أسماء بنت يزيد أنّها قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ في هاتين الآيتين اسم اللّه الأعظم و هما:

«وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» الثانية: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».

ص: 346

[سورة البقرة (2): آية 164]

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

قيل: كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما، فلمّا سمعوا قوله تعالى: «وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» تعجّبوا و قالوا: كيف يسع الناس إله واحد؟ أجعل الآلهة إلها واحدا؟ فإن كان محمّد صادقا في توحيد الإله فليأتنا بحجّة نعرف بها صدقه فنزلت الآية.

[إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و إبداعهما على ما هما عليه مع بدائع الصنائع الّتي يعجز عن فهمها عقول البشر. و إنّما جمع السماوات و أفرد الأرض؛ لأنّ كلّ سماء ليست من جنس الاخرى، و فلك كلّ واحدة غير فلك الأخرى. و الأرضون كلّها من جنس واحد و هو التراب، و عند الحكماء محدّب كلّ سماء مماسّ لمقعّر ما فوقه غير الفلك التاسع المسمّى بالعرش؛ فإنّ محدّبه و سطح فوقه غير مماسّ لشي ء من الأفلاك و هو المسمّى بلسانهم: الفلك الأطلس و ما فوقه خلأ و بعد غير متناه عندنا و عند الحكماء لا خلأ فيه و لا ملأ.

[وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] أي في تعاقبهما كالذهاب و المجي ء يخلف أحدهما صاحبه إذا جاء أحدهما جاء الآخر خلفه. و في الزيادة و النقصان و الظلمة و النور.

[وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ] لا ترسب تحت الماء مع أنّها ثقيلة كثيفة و الماء خفيف لطيف. و تأنيث «الفلك» باعتبار الجماعة [بِما يَنْفَعُ النَّاسَ «ما». اسم موصول، و الجملة حاليّة، حالكونهم ينتفعون بركوبها و الحمل فيها للتجارة.

[وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ] أي إنّ فيما أنزل اللّه من جهة السماء [مِنْ ماءٍ] بيان للجنس، فإنّ المنزل من السماء يعمّ الماء و غيره، و «السماء» المراد المعنيّ المعروف أي الفلك، و يحتمل جهة العلوّ سماء كانت أو سحابا، فإنّ كلّ ما علا الإنسان يسمّى يسمّى سماء لكنّ الصحيح الأوّل [فَأَحْيا بِهِ أي بما أنزل [الْأَرْضِ بأنواع النباتات و الأزهار و الأشجار [بَعْدَ مَوْتِها] و بعد ذهاب زرعها و تناشر أوراقها و حسن إطلاق

ص: 347

الحياة و الموت للأرض باعتبار الحسن و النضارة و البهاء و النماء، و باعتبار اليبوسة و التناشر [وَ بَثَّ فِيها] أي فرّق و نشر في الأرض [مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ] ذي روح يدبّ على الأرض من العقلاء و غيرهم [وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ في تقليبها في مهابّها قبولا و دبورا و شمالا و جنوبا، و في كيفيّتها حارّة و باردة و عاصفة و لينة، و في آثارها عقما و لواقحا و في الغرض من إرسالها تارة بالرحمة و تارة بالعذاب.

قال ابن عبّاس: من أعظم جنود اللّه الريح و الماء. و سمّيت الريح ريحا لأنّها تريح النفوس، قال وكيع: لو لا الريح و الذباب لأنتنت الدنيا، قيل: ما هبّت الريح إلّا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح.

قال بكر بن عبّاس: لا تخرج من السحاب قطرة حتّى تعمل في السحاب هذه الرياح الأربع: فالقبول و هو المعروف بالصبا تهيّجه، و الجنوب تقدّره، و الدبور تلقحه و الشمال تفرّقه. و أصول الرياح هذه الأربع: فالشمال من ناحية الشام، و الجنوب تقابلها، و الصبا من المشرق تقابلها (1) و كلّ ريح جاءت بين مهبّ ريحين فهي نكباء لأنّها نكبت و عدلت عن مهابّ هذه الأربع.

و قيل: الرياح ثمان: أربع رحمة و أربع عذاب؛ فالرحمة: الناشرات و هي الرياح الطيّبة، و المبشّرات و هي الرياح الّتي تبشر بالغيث، و اللواقح و هي الّتي تلقح الأشجار في أوّل الربيع، و الذاريات و هي التي تذروا التراب و غيره؛ و أمّا العذاب:

الصرصر و العقيم و هما في البرّ، و العاصف و القاصف و هما في البحر، و العقيم: هي الّتي لم تلقح سحابا و لا شجرا، و العاصف: الشديدة الهجوم الّتي تقلع الأشجار و الخيام.

[وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ] عطف على «تصريف»: أي الغيم المنقاد المذلّل الجاري على ما أجراه اللّه عليه و سمّي سحاب سحابا لأنّه ينسحب في الجوّ أي يسير من سرعة كانّه يسحب ذيله و يجرّ [بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ صفة للسحاب، و السحاب اسم جنس و يوصف بالجمع باعتبار معناه بقوله: «سَحاباً ثِقالًا» و المراد من معنى بين السماء و الأرض أي لا ينزل إلى الأرض و لا يصعد إلى السماء و هو بينهما مع أنّه لو كان خفيفا لطيفا كان ينبغي أن يصعد و لو كان كثيفا ثقيلا يقتضي أن ينزل و من طبعه يقتضي أحد هذين.

ص: 348


1- كذا في الأصل.

[لَآياتٍ اسم إنّ دخلته اللام لتأخّره عن خبرها و لو كان في موضعه لما جاز دخول اللام عليه، و التنكير للتفخيم كمّا و كيفا: أي آيات كثيرة عظيمة دالّة على القدرة القاهرة [لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و يتفكّرون فيها بالعقول و القلوب فيستدلوّن بها على موجدها فيوحّدونه، و فيه تعريض للمشركين الّذين اقترحوا على الرسول آية تصدّقه في قوله:

«وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» إذ لو عقلوه لكفاهم بهذه التصاريف آية، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ويل لمن قرأ هذه فمجّ بها. و معنى المجّ قذف الريق و نحوه، استعير هنا لعدم التدبّر أي من تفكّر فيها فكانّه حفظها و لم يلقها من فيه.

و اعلم أنّ قوله: «وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» هو توحيد الذات، و لمّا دقّ هذا التوحيد عن مبالغ أفهام الخلق بيّن سبحانه توحيد الصفات بقوله: «الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» ثمّ بيّن في هذه الآية و هي أنّ في خلق السماوات و الأرض توحيد الأفعال، يستدلّ به عليه و يتبيّن لهم أنّه الحقّ، فالعالم- بما فيه- خلق للمعرفة؛ فلو لم يكن لأجل معرفة اللّه خلق الإنسان العارف ما خلق العالم بما فيه، كما قال سبحانه: «لولاك لما خلقت الكون» خطابا للنبيّ العربيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فالعالم مرآة يظهر فيه قدرة الحقّ و جلاله، و الإنسان هو المشاهد لتلك الآيات، و هذا معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من عرف نفسه فقد عرف ربّه؛ لأنّ نفسه مرآة بعض قدرته كما قال سبحانه: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا».

و ممّا يدلّ على أنّ خلق السماوات و الأرض تبع لخلق الإنسان الكامل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تقوم الساعة حتّى لا يقال في الأرض: اللّه اللّه؛ لأنّه إذا لم يبق المتبوع لم يبق التابع، رزقنا اللّه عرفان الهدى و مجانبة الهوى.

ص: 349

إلى هنا تمّ الجزء الأوّل من الكتاب مشتملا على تمام سورة فاتحة الكتاب و 164 آية من سورة البقرة و للّه الحمد

ص: 350

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.