کامل البهائي المجلد2

هویة الکتاب

سرشناسه:طبرسی، حسن بن علی، قرن 7ق.

عنوان قراردادی:کامل البهائی. عربی

عنوان و نام پديدآور:کامل البهائي/ [تالیف] الحسن بن علی بن علی بن الحسن الطبری (عمادالدین الطبری)؛ [تعریب و تحقیق محمدشعاع فاخر].

مشخصات نشر:قم: المکتبه الحیدریه، 1426ق.= 1384.

مشخصات ظاهری:2ج.

شابک:80000 ریال: دوره 964-503-073-0 : ؛ ج. 1 964-503-071-4 : ؛ ج. 2 964-503-072-2 :

وضعیت فهرست نویسی:برون سپاری

يادداشت:عربی

يادداشت:ج. 2 (چاپ اول: 1426ق. = 1384).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:چهارده معصوم -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده:فاخر، سیدمحمدشعاع، 1360 - ق.، مترجم

رده بندی کنگره:BP14/ط24ک2043 1384

رده بندی دیویی:297/95

شماره کتابشناسی ملی:2583425

ص: 1

اشارة

ص: 2

الباب الثاني عشر في فدك

اشارة

قال مولانا زين العابدين عليه السّلام: كانت أمّ أيمن تذمّ أبا بكر لما ردّ شهادتها، و قالت:

و اللّه ما أنطق لساني بذمّك حتّى سمعت أذني ذمّ رسول اللّه لك.

قال أبيّ بن كعب: فاطمة عندي صدّيقة (صادقة- المترجم) في فدك، و الشيعة على هذا المذهب بأنّ فدكا حقّ فاطمة، و أبو بكر اغتصبها منها بالقهر و الظلم، و زعم أنّها من أموال الصدقة و كانت طعمة لفاطمة و هي في يدها على هذا النحو.

و العجب ممّن يدّعي الإسلام ثمّ يثب على طعمة أطعمها رسول اللّه ابنته فيسلبها منها بعد وفاته. زه زه لهذا الخليفة و مع ذلك يدّعي بأنّ النبيّ قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، فلم يصدّقه واحد من الرواة في هذا الحديث، و النبيّ لم يقل هكذا؛ لا لعترته و لا لأمّته.

و إنّه لمحض جهل من قائله أنّ تصرّف الزهراء بفدك يحلّ يوما و يحرم يوما، و أنّ النبيّ لا يميّز بين الحرام و الحلال، و يطعم آله الحرام لا سيّما الأولاد و الأعزّة و الأوصياء، حاشا عن رسول اللّه من ذلك و حاشا مائة ألف مرّة.

و طلب البيّنة من الزهراء عليها السّلام و هو حقّها خلافا لما أجمع عليه المسلمون من عدم

ص: 3

طلب البيّنة من صاحب اليد لأنّها أمارة الملكيّة، و كانت البيّنة على أبي بكر لأنّه المدّعي و مع هذا فقد جاءت فاطمة عليها السّلام بأمّ أيمن التي بشّرها رسول اللّه بالجنّة، فردّ أبو بكر شهادتها قائلا: إنّها امرأة من العجم لا تفصح، كما ردّ شهادة عليّ و الحسن و الحسين عليهم السّلام قائلا: إنّهم يجرّون النار إلى أقراصهم، على أنّهم عليهم السّلام لم تمتدّ أيديهم إلى هذا النفع مدّة ملكهم ليثبتوا للناس كذب ادّعاء الخليفة، و أنّ الغرض من شهادتهم يوم ذاك لم يكن مجرّد النفع، بل الغرض الأساسي هو امتثال أمر اللّه سبحانه وحده: وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ (1)، و على ممّن قال في حقّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور معه حيث ما دار، و هو رجل من أهل الجنّة، و رجل هذه صفته كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيف يقيم الشهادة كذبا و زورا؟!

فتأذّت فاطمة عليها السّلام و أقسمت أن لا تكلّمه إلى أن تموت، و أوصت أن لا يحضروا جنازتها، و أن تدفن سرّا، و فعل أمير المؤمنين بما أوصته و لكنّ عمر بحث عن قبرها ليخرجها و يصلّي عليها و لكنّ اللّه أخفى القبر عنه.

و أجمعت كلمة القوم على أنّ النبيّ قال لفاطمة عليها السّلام: فاطمة بضعة منّي؛ من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه، و قال اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً* وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (2).

عن صادق آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله: إنّ فاطمة كانت تطرق بيوت المهاجرين و الأنصار ليلا و هي مريضة فلم يسعفها أحد منهم، فتألّمت من خذلانهم إلى أن قبضت سلام اللّه عليها. و حرم الناس من زيارة قبرها لظلمهم لها و رضاهم بظلمها.

ص: 4


1- الطلاق: 2.
2- الأحزاب: 57 و 58.

سؤال: لقائل أن يقول: لعلّها أوصت أن تدفن ليلا مبالغة في الحجاب عن أعين الناس منها لا لسبب غضبها على القوم.

الجواب: لو كان الأمر كما تقدّم لبقي قبرها ظاهرا معلوما و ليس خفيّا مستورا، و القوم لم يحضروا الصلاة على جنازة أبيها فما بالك بجنازتها.

كان أبو بكر ذات يوم يحاور أمير المؤمنين بشأن فدك و الإمام يردّ عليه، فقال له فيما قال: إنّ البيّنة عليك لا على فاطمة لأنّك أنت المدّعي دونها، و في أثناء كلامه قال له: يا أبا بكر، لو شهد شاهد عدل على فاطمة بال ..... (1) أكنت تقيم عليها الحدّ؟ فقال أبو بكر: نعم أفعل!! فقال أمير المؤمنين: إذن و اللّه تخرج من دين اللّه و دين رسوله. و قال أمير المؤمنين: لأنّك كذّبت اللّه و رسوله و صدّقت الناس؛ لأنّ اللّه قال في حقّها و أهل بيت النبيّ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2) فقد شهد اللّه بعصمتها و فاطمة في هذه الآية معصومة بناءا على قول اللّه تعالى، فكيف يصحّ ارتكابها ... و أنت تسقط شهادة اللّه و تقبل شهادة عبده المضادّة لشهادته، و حينئذ كيف تدّعي المعصومة الباطل، و تطلب الصدقة المحرّمة عليها؟!

و ما قاله لعليّ عليه السّلام يصدق عليه، لأنّه قال: ما شهد عليّ إلّا ليجرّ النار إلى قرصه أي توخّيا لطلب المنفعة، و الحديث الذي افتراه أبو بكر لم يكن إلّا لطلب المنفعة،

ص: 5


1- ما أغثّ هذا المؤلّف و ما أسمجه! أيجوز له أن يطلق هذه الكلمة المتناهية البعد عن الأدب في حقّ بضعة الرسول و المعروف في الرواية أنّه قال: سرقت، فكيف ملك المؤلّف الجرأة فكتبها في كتابه، و ليس عليّ إلّا أن أستغفر اللّه له ما دمت حيّا.
2- الأحزاب: 33.

لأنّه مالك للصدقة و لبيت المال، و الدليل على ذلك أنّه لمّا هلك كان في ذمّته لبيت المال عشرون ألف دينار، و من شهد له أو أعانه من المهاجرين و الأنصار و أيتامها أو من صدّقه منهم فإنّما الغرض من ذلك جلب النفع و تحصيل الفوائد، إذن يردّ حديثه عليه.

و أمّا الحديث «نحن أهل بيت لا يحلّ لنا الصدقة» فإنّه عامّ مشهور بين الناس كافّة، و خمس أهل البيت و الإنفال لم تقتصر معرفته على الحديث فحسب بل القرآن نصّ على ذلك و لا يدلّ الحديث وحده على حرمة الصدقة على أهل البيت.

وجه آخر: إنّ واضع خبر «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ..» إلى آخره، جاهل لا يعلم شيئا من العلم، و القرآن يكذب الخبر بقوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (1) و قال اللّه تعالى عن زكريّا: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (2) و بما أنّ الرجل يفتري بالكذب فعليه أن يقرأ القرآن أوّلا لئلّا يأتي بمناقض له، و كان عليه أن يروي حديثه الموضوع بالصيغة التالية: أنا من بين الأنبياء لا أورث، و ما أخلف يكون صدقة على المسلمين. و لا يكذب على رسول اللّه لأجل فدك و غصبها من الزهراء عليها السّلام، و لا يناقض كتاب اللّه، و كان المسكين الراوي المفتري جاهلا بالقرآن و بعلم الإعراب و بالقيامة و بالجنّة و النار.

سؤال: و ماذا عمّا يقال من أنّ سليمان ورث من داود النبوّة؟

ص: 6


1- النمل: 16.
2- مريم: 4- 6.

الجواب: كان سليمان نبيّا و أبوه على قيد الحياة مضافا إلى أنّ النبوّه لا تورث بل لا تكون إلّا بالوحي من اللّه و بالعصمة و لو كانت النبوّة تورث لكان أولاد الأنبياء جميعهم أنبياء بالمشاركة كأولاد آدم و نوح و إبراهيم و يعقوب و موسى، و من أولاد الأنبياء اليهود و هم باقون إلى اليوم فينبغي أن يكونوا أنبياء بوراثتهم النبوّة من أبيهم، و لمّا توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ورث نسائه بيوته و سكنّ فيها و أخذ أمير المؤمنين ثياب النبيّ و دراعته و عمّامته و أمثالها و ورثها أولاده من بعده فلم ينازعهم على ذلك أحد و لم يقل أحد بأنّها صدقة؛ لا البيوت و لا غيرها.

و وقعت بردة الرسول إلى بني العبّاس إلى زمن المقتدر كما جائت الرواية بذلك، فلو كانت هذه البردة صدقة على المسلمين و الصدقة حرام على العبّاسيّين فلو لم تكن ميراثا و كان ميراثه صدقة فكيف ساغ لأئمّة أهل السنّة و الجماعة أن يحتفظوا بالحرام لأنفسهم هذه السنين الطويلة و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من بدّل دين اللّه فاقتلوه»، فيكون على هذا أنّ الخلفاء جميعا كفّار و دمهم مباح و قتلهم جائز، و كيف يقول مسلم بهذا؟! فظهر ممّا تقدّم أنّ رسول اللّه يورث كسائر الأمّة.

سؤال: لو قال قائل بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطى تلك الأشياء لعليّ في حياته.

جواب: و نحن نقول أيضا أنّه أعطى فدكا لفاطمة في حياته، و لو كان أعطاها لها بعد وفاته فإنّها تحسب بحساب الصدقة بناءا على ما ادّعاه أبو بكر، على أنّ العبّاس و الزهراء عليها السّلام احتكما إلى القضاء فحكم لهما بمخلفات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكيف ينبعض الحكم فيكون هنا إرثا و في مسألة فدك صدقة. و هذا عين التناقض.

و يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (و حاشاه) خان عترته لأنّه بلّغ أمّته و ما بلّغهم أو أنّه قال لهم

ص: 7

و لكنّهم أبوه و هذا شاهد على كفرهم- و حاشاهم- و قد أجمعت الأمّة على أنّها من أهل الجنّة بنصّ من اللّه و رسوله، و لو لم يبلّغ النبيّ لا العترة و لا الأمّة لكان قد أوقع الفتنة بين الناس و حاشاه من ذلك مع أنّه لم يؤثر عن أحد من الصحابة أو الخلفاء الإنكار على العبّاس أو عليّ في طلبهما إرث رسول اللّه؛ لأنّ النبيّ بزعم الأوّل لا يورث.

الفصل الأوّل في ردّ عمر بن عبد العزيز فدكا إلى محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام

اعلم أنّ أبا بكر بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذ فدكا من فاطمة عليها السّلام بمساعدة عمر بن الخطّاب، و لقد روى علماء النواصب عن عتبة و أبي سعيد الخدري أنّهما قالا: سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لمّا نزلت آية وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1): يا فاطمة، لك فدك.

و ردّا دعوى فاطمة و لم يقبلا كلامها مع أنّ القرآن شاهد بعصمتها و طهارتها، و شهد لها عليّ و الحسنان و أمّ أيمن، و لم يقبلوا شهادتهم، و ظلّت هذه المسألة سنّة بين أتباعهما و دخلت ظلامتها معهما قبريهما.

و قالا لفاطمة عليها السّلام: «أمّ أيمن مولاتك و مولاة أمّك».

قال الواقدي- و هو من كبار علماء النواصب- عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:

سمعت عمر يقول: لمّا توفّي رسول اللّه خرجت أنا و أبو بكر و عليّ بن أبي طالب و هو في بيت فاطمة و عنده المهاجرون، قال عمر: فقلت: يا علي، ماذا تقول؟ قال:

أقول خيرا، نحن أولى برسول اللّه و ما ترك. قلت: و الذي بخيبر؟ قال: نعم، قلت:

و الذي بفدك؟ قال: نعم، قلت: كلّا و الذي نفسي بيده حتّى تحزّوا رقابنا بالمناشير.

ص: 8


1- الإسراء: 26.

يريد بخيبر أرضا تدعى العوالي و هي حقّ لفاطمة عليها السّلام، و هذا الحديث يدلّ على أنّ نيّتهم مبيّتة لقصد آل رسول اللّه بالشرّ و القتل و غصب الحقوق.

و عرف عمر بن عبد العزيز حقّ أهل بيت النبيّ أكثر من أبي بكر و عمر لأنّهما ظلماهم و هو أجرى العدل فيهم و ردّ فدكا على الإمام الباقر عليه السّلام، و هما آذيا النبيّ و هو دفع عنهم الأذى، فقال له الناس: طعنت على الشيخين، قال: هما طعنا على أنفسهما.

روى أبو صالح (الناني عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن شريك) عن هشام ابن معاذ، قال: كنت جليسا لعمر بن عبد العزيز حيث دخل المدينة فأمر مناديه فنادى: من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأت الباب، فأتاه محمّد بن عليّ الباقر عليهما السّلام فدخل إليه مولاه مزاحم، فقال: إنّ محمّد بن عليّ بالباب، فقال له: أدخله يا مزاحم، قال: فدخل و عمر يمسح عينيه من الدموع، فقال له محمّد بن عليّ: ما أبكاك يا عمر؟ فقال هشام: أبكاه كذا و كذا يابن رسول اللّه.

فقال محمّد بن عليّ: يا عمر، إنّما الدنيا سوق من الأسواق، منها خرج قوم بما ينفعهم و منها خرجوا بما يضرّهم، و كم من قوم قد ضرّهم بمثل الذي أصبحنا فيه حتّى أتاهم الموت فاستوعبوا فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا لما أحبّوا من الآخرة عدّة و لا ممّا كرهوا جنّة، قسم ما جمعوا من لا يحمدهم، و صاروا إلى من لا يعذرهم، فنحن و اللّه عزّ و جلّ محققون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنّا نغبطهم بها فنوافقهم فيها و ننظر إلى تلك الأعمال التي كنّا نتخوّف عليهم منها فنكفّ عنها؛ فاتّق اللّه و اجعل في قلبك اثنين: تنظر الذي تحبّ أن يكون معك إذا قدمت على ربّك فابتغ فيه البدل، و لا تذهبنّ إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك، فاتّق اللّه عزّ و جلّ (يا عمر) و افتح الأبواب و سهّل الحجاب و انظر

ص: 9

المظلوم و ردّ الظالم (1).

فدعا عمر بدواة و قرطاس و كتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما ردّ عمر بن عبد العزيز ظلامة محمّد بن عليّ- الباقر- فدك (2). و اعترف أنّ الثلاثة أبا بكر و عمر و عثمان (لعنهم اللّه) ظلموا فاطمة عليها السّلام.

و العجب كلّ العجب منهما حين فرضا لابنتيهما اثني عشر ألف درهم يستوفيانها من بيت المال عاما بعام، و منعوا ابنة رسول اللّه ميراثها، و لمّا آل الحكم إلى عثمان (لعنه اللّه) حسبا أنّ العادة جارية كما كانت عليه الحال زمن أبينهما و لكنّه أبى إباءا شديدا، فألحّا عليه و بالغا بالإلحاح فلم يتأثّر عثمان بذلك، و قال: لا و اللّه و لا كرامة، ما ذاك لكما عندي، و قال: ألستما اللتين شهدتما بالكذب عند أبيكما و لفّقتما معكما أعرابيّا يتطهّر ببوله- و هو مالك بن أوس بن الحرثان- فشهدتم أنّ النبيّ قال: لا نورث ما تركناه صدقة. و عجيب أمرهما حين زعما يوما أنّ النبيّ لا يورث و جاءا يوما آخر يطلبان بميراثه.

و قال أكثر المؤرّخين: إنّ أكثر أهل الكوفة عارضوا عمر بن عبد العزيز بردّه فدكا و قالوا: سفّهت رأي الشيخين و فضحتهما و هذا الأمر ليس إليك لأنّ الأمّة بأجمعها تلقّت عملهما بالقبول، فقال: إنّي أمسك الأصل و أعطي الثمرة محمّدا الباقر، فرضي الكوفيّون بهذا القدر (3).

قال جميل بن درّاج: جاء عليّ و العبّاس إلى أبي بكر يطلبان ميراثهما من

ص: 10


1- الخصال للصدوق: 104، المسترشد: 506، البحار 46: 326 و 75: 181، نور الثقلين 4: 360.
2- الخصال: 140.
3- المشهور أنّ المعترضين هم بنو أميّة، أمّا أهل الكوفة فقوم معروفون بولائهم لأهل البيت و بغضهم لبني أميّة، و القرينة الحاليّة شاهدة بذلك، إذ كيف يسكت أهل الشام عن عمر و ينقم عليه أهل الكوفة من بين البلاد كلّها!!

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قاضى العبّاس عليّا- كما جاء في الرواية- و سألت عن هذه المسألة الإمام الصادق و قلت له: رضاهما بقضائه مرشد إلى اعتباره حكما عدلا؟

فقال عليه السّلام: يا جميل، هذه حجّة عليه، و لو علم عليّ أنّ للعبّاس حقّا عنده لردّه إليه، و كذلك يفعل العبّاس و لكن عليّا قال يوما للعبّاس: يا عمّ، إنّ هذا الرجل غصب ميراثنا و مقامنا و ينبغي علينا دفعه عمّا اغتصبه، و قال عليّ عليه السّلام: و ليس لذلك من وسيلة إلّا أن تذهب بنفسك إليه و تخاصمني في ميراث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلمّا حضرا عند أبي بكر، قال للعبّاس: ألا تعلم أنّ رسول اللّه في أوّل البعثة صنع طعاما لبني عمومته من أولاد عبد المطّلب و كان عددهم أربعين شخصا فحضروا جميعا، و قال لهم بعد الطعام: من منكم يؤازرني على هذا فيكون وزيري و وارثي و وصيّي و أخي- إلى ثلاث مرّات- فلم يجبه أحد ما عدا عليّا و كان أصغرهم سنّا؟

فقال العبّاس: أ أنت تذكر ذلك أم نسيته؟ فقال: نعم أذكره و لا أنساه.

فقال العبّاس: فلقد ظلمته حين غصبته وزارته و وصايته و وراثته و أخوّته.

فاستيقظ أبو بكر كما يستيقظ النائم و هو يقول: نحّوهم عنّي لأنّهما خادعاني و مكرابي غدرا و أنا غافل عنهما!

قال الصادق عليه السّلام: إنّما كان غرض عليّ و العبّاس الإشعار بأنّ أهل بيت النبيّ لا سيّما عليّ عليه السّلام أولى بمقامه.

و لمّا ألزمه العبّاس الحجّة و عجز عنها و لم يحر جوابا بعد أن ألقمه حجرا توسّل بقدرته فقال: «نحّوهما عنّي» و كانا أراد فضحه أمام الناس و كانت خصومتهما في بغلة رسول اللّه و سلاحه و حجرات نسائه و قطائعه التي أقطعها لبني هاشم. و كان العبّاس يعرف قدر عليّ لكنّه أراد أن يعلم أبا بكر بظلمه كما فعل جبرئيل و ميكائيل

ص: 11

بداود إذ تسوّروا عليه المحراب، و لم يكن مجيئهما على الحقيقة بل لإشعار داود و إعلامه على انّ ما فعلته يجدر بك غيره، و هكذا الحال هنا.

حكاية: قال عبد اللّه بن عبّاس: كنّا يوما عند أبي بكر و كان عمر حاضرا هناك، و تقدّما إلى الحجاب أن لا يأذن لأحد، فبينما نحن كذلك إذ طلع علينا شيخ طويل القامة حلو المحضر، عليه رداء أحمر، و بيده عصى و في رجليه نعلان، فسلّم علينا و أمره أبو بكر بالجلوس، فأبى و قال: أنا رجل حاجّ و إلى جواري امرأة توفّي أبوها و خلّف لها ضيعة و كانت تعيش من ثمراتها و تتقوّت منها، فعمد والي البلد إلى مصادرتها و أخذ منافعها له، و أوصتني المرأة قالت: إذا جئت المدينة فاحك حالي للخليفة.

فقال أبو بكر: لا كرامة للغادر الفاجر.

و قال عمر: يا خليفة رسول اللّه، أرسل إلى هذا الغاشم الظالم من يسوقه إليك مكتوفا.

فعاد الشيخ عليهما و قال: فمن أظلم ممّن يظلم بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟!

فقال أبو بكر: ردّوه ردّوه، فتقهقر الرجل و لم يقعوا له على عين و لا أثر، فسألوا الحاجب و البوّاب عنه، فقال: ما وقعت عيني على الرجل، و قال غيره: ما دخل عليكم أحد أبدا و لم يخرج أحد، فخاف أبو بكر و قال لعمر: أرأيت و سمعت، فقال عمر: الذي أصابنا في وادي الجنّ أعظم من هذا، و إنّ الشيطان ليتحامل على المؤمن و الحاكم ليفتنه و يضلّه، فصاح بهم هاتف (1):

ص: 12


1- و أنا أسوق لك الرواية كما وردت في الصراط المستقيم لعليّ بن يونس العاملي (2: 290): روي عن ابن عبّاس أنّه دخل على أبي بكر رجل فسلّم و قال: عزمت الحجّ فأتتني جارية و قالت لي أبلّغك رسالة و هي أنّي امرأة ضعيفة و إنّي عائلة و كان لأبي أريضة جعلها لي تعينني على دهري فكنت أعيش منها أنا و زوجي و ولدي، فلمّا توفّي أبي انتزعها و الي البلد منّي فصيّرها في يد وكيله و استغلّها لنفسه و أطعم من شاء و حرمني. فقال أبو بكر: ليس له ذلك و لا كرامة، لأكتبنّ إليه و لأعذّبنّ هذا الظلوم الغشوم، و لأعزلنّه عن ولايتي. و قال عمر: لا تمهله و أنفذ إليه من ينكل به و يأتي به مكتوفا و أحسن أدبه على خيانته و فسقه. فقال أبو بكر: من هذا الوالي؟ و في أيّ بلد؟ و ما اسم المرميّة بهذا المنكر؟ فقال الرجل: نعوذ باللّه من غضب اللّه، نعوذ با للّه من مقت اللّه، و أيّ حكم أجور و أظلم ممّن ظلم بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ خرج، فقال أبو بكر لخدمه: ردّوه، فقالوا: ما خرج علينا أحد و إنّ الباب لمغلق، فقال عمر: لا يهولنّك هذا فربّما يخيّل إبليس علينا و على أمّة محمّد ليفتنهم، فقال أبو بكر لابن عبّاس: إن تسمع ما سمعت أحدا، فسمعنا هاتفا يقول: يا من يسمّى باسم لا يليق به اعدل على آل ياسين الميامينا أتجعل الخضر إبليسا لقد ذهبت بك المذاهب من رأي المضلّينا فتب إلى اللّه ممّا قد ركبت به آل النبيّ ودع ظلم الوليّينا فاللّه يشهد أنّ الحقّ حقّهم لا حقّ تيم و لا حقّ المخلّينا فأجابه الآخر: عدلت أخا تيم على كلّ ظالم و جرت على آل النبيّ محمّد و أغنيت تيما مع عدي و زهرةو أفقرت غرّا من سلالة أحمد أفي فدك شكّ بأنّ محمّداحباها لها من دون تيم بمشهد و عليّ و سلمان و مقداد منها*جندب مع عمّار في وسط مسجد و أشهدنا و الناس أنّ تراثه لفاطم من دون البعيد المبعّد فنحن شهود يوم تلقى محمّدابظلمكم آل النبيّ المسدّد فلا زلت ملعونا يمسّك سخطه و لا زلت مخذولا عظيم التلدّد (*) منهم- المترجم. فدخل ابن عبّاس على عليّ فحدّثه بالحديث، فلمّا أصبح أبو بكر دعا بفاطمة و كتب لها كتابا بفدك فأخذه عمر و بقره، فدعت عليه بالبقر و استجيب لها فيه. هذا ما ذكره عليّ بن يونس العاملي في الصراط المستقيم و هو يختلف مع ما ذكره المؤلّف لا سيّما الأبيات المختومة بالنون و الألف، و أحسب المؤلّف حذف آخر الأبيات لما فيه من إقواء و أخطاء، و نحن ترجمنا ما ذكره المؤلّف و ذكرنا رواية الصراط المستقيم ليكون القاري على بصيرة من أمرها.

ص: 13

يا من تحلّى باسم لا يليق به اعدل على آل ياسين الميامينا

أتجعل الخضر إبليسا لقد ذهبت بك المذاهب من بين المضلّينا

نحن الشهود و قد دلّت على فدك بنت الرسول أمينا غير مغبونا (1)

اللّه يعلم أنّ الحقّ حقّهم لا حقّ تيم و لا حقّ العديّينا

و قد شهدت أخا تيم وصيّته للأصلع الهادي القوّام بالدينا

لا تغمطنّ أخا تيم أبا حسن ما خصّه اللّه من بين الوصيّينا

خصّ النبيّ عليّا يوم فارقه بالحلم و العلم و القرآن و الدينا فخاف أبو بكر و عمر، و غشي عليهما، و قد وصل رسول أمير المؤمنين إلى ابن عبّاس و قال: «أجب ابن عمّك» فأقسم عليه أبو بكر أن لا يفشينّ السرّ إلى أحد.

قال عبد اللّه بن عبّاس: فلمّا رآني أمير المؤمنين عليه السّلام تبسّم حتّى بدت نواجذه، و قال: يا بن العمّ، بالرحم و القرابة، هل حفظت الشعر أو لا؟ قلت: نعم حفظتها إلّا بيتين منها، فأعاد عليّ عليه السّلام الحكاية، و قال: كان ذلك أخي الخضر فقد حضر مجلسكم هذه الساعة، و أخبرني بما دار بين القوم و بيننا، و قال: ما ابتلي أحد بأحد كما ابتلي أبو بكر بعمر، و ما عادى أحد قوما أشدّ من معادات عمر لأهل بيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله (2).

ص: 14


1- لو قال: «ليس مغبونا» لما كان إقواء في البيت- المترجم.
2- عثرت للمؤلّف على مواقف كثيرة يتهاود فيها مع أبي بكر و هو رأس الضلال و أوّل ظالم ظلم حقّ محمّد و آل محمّد، و الذي قال فيه أمير المؤمنين: «فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّر ضرعيها ...» و رجل يقال له مثل هذا الكلام ليس بالصفة التي تحدّث عنها المؤلّف، و إنّما هو عدوّ لأهل البيت، غاصب إرث الزهراء و سارق نحلتها، و هو صاحب الفكرة الخبيثة في إحراق دارها، فعليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين.

قال اللّه تعالى: وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (1).

قيل: إنّ عمر استعمل رجلا و أوصاه قائلا: إيّاك و ظلم عباد اللّه، فقال له الرجل:

يا عمر، فكيف ظلمت بنت رسول اللّه و غصبت منها فدكا و رددتم قول رسول اللّه فيها و أنكرتم وصيّته و سيكون اللّه خصمك و رسوله يوم القيامة، فويل لك.

و جاءت الرواية عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ أبا بكر و عمر كانا في ملأ عظيم من المهاجرين و الأنصار إذ انبرى لهما شابّ جميل طويل القامة، حسن الثياب، و قال:

من منكم الخليفة؟ فأشاروا إلى أبي بكر، فقال له: أنت هو الخليفة؟ فقال: نعم أنا هو الخليفة، فقال: إنّ امرأة ضعيفة لها حوائط تقيت منها عيالها، فأخذها الحاكم منها تعدّيا و ظلما و انتزعها من يده من دون بيّنة، فقال عمر: يا خليفة رسول اللّه، أرسل إليه ليقبضوا عليه و يأتوا به إلى هنا لتقصر يده عن أموال الناس و يردّ حائط المرأة الضعيفة عليها.

فقال الرجل: فلم أخذت فدكا من فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كانت في يدها و قد نحلها النبيّ إيّاها، و مات و هي في يدها، ثمّ خرج من بينهم حالا فأرسل ابن عبّاس في طلبه فلم يقع منه على عين و لا أثر، فخاف أبو بكر خوفا شديدا، فقال له عمر:

لا تجزع فإنّ هذا شيطان ظهر لك، فأجابهم هاتف من جانب البيت:

عدلت أخا تيم على كلّ ملحدو جزت على آل النبيّ محمّد

ص: 15


1- الفرقان: 27.

و أغنيت تيما مع عدي و زهرةو أفقرت غرّا من سلالة أحمد

أفي فدك شكّ بأنّ محمّداحباطها لفطم دون تيم بمشهد

لأسرع ما بدّلتم و نقضتم عهودكم يا قوم بعد التوكّد عقد المأمون مجلسا في يوم عرفة للانتصاف من القريب و البعيد، و القوّاد و الخاصّة و العامّة، فقام رجل مدنيّ من أفصح الناس و قال: إن كنت منصفا فأنصف فاطمة.

فقال المأمون: أتكون وكيلا عنها؟

فقال الرجل: نعم.

ثمّ أقام وكيلا عن أبي بكر و عمر، فقال المدني: اعلم بأنّ النبيّ أخذ فدكا صلحا من غير أن يوجف عليها بخيل و لا رجال بل بمدد من الملائكة وحدهم، و كانت من جملة الفي ء الموكول إلى النبيّ أمره، فأعطاها لفاطمة عليها السّلام فكانت في يدها مدّة حياة أبيها ثلاث سنوات تتصرّف فيها تصرّف المالك بملكه، و بعد موت أبيها كان وكيلها يقوم مقامها في التصرّف فغصبها منها أبو بكر ظلما و عدوانا و مع كونها صاحبة اليد فقد طالبها بالبيّنة و شهدت لها أمّ أيمن بحقّها و هي امرأة مشهود لها بالجنّة فردّ أبو بكر شهادتها، و إذا جاءه أعرابيّ بوّال على عقبيه و ادّعى على رسول اللّه دعوى يعطيه بلا بيّنة، و شهد لفاطمة نظير هؤلاء الصلحاء فلم يقبلهم.

و شهد يحيى بن أكثم و غيره من الفقهاء على أنّ الزهراء عليها السّلام ماتت بغصّتها مظلومة.

و قال المؤمن المدني: و الأعجب من ذلك أنّ رسول اللّه لا يورث.

فقال المأمون: هل يعرف ذلك المسلمون؟

ص: 16

فقال المؤمن: لمّا نزلت إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (1) صعد النبيّ على المنبر و قال:

ستكثر عليّ الكذابة من بعدي، بالعبارة التالية: معاشر الناس، إنّي نعيت إليّ نفسي و إلى اللّه و أنزل عليّ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ألا و قد دنا حقوقي من بين أظهركم فإذا جاءكم الحديث عنّي فاضربوه على كتاب اللّه و سنّتي؛ فما خالف كتاب اللّه فارفضوه، و ما وافق كتاب اللّه و سنّتي فخذوه، و هذا الحديث مخالف للكتاب و السنّة بقوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (2) و بقوله تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (3)، و بقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (4) فهل تخرجون فاطمة من أهل بيت النبيّ نعوذ باللّه منه لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «لا توارث بين الملّتين».

فشهد يحيى و الفقهاء بأنّ فاطمة خرجت من الدنيا متظلّمة لم تنصف.

و قال أبو بكر ثلاث فعلتها وددت أنّي لم أفعلها، يا ليتني لم آخذ فدكا من فاطمة، و لم أحرق بابها، و لم أتخلّف عن جيش أسامة، و هذه الثلاث ظلم عظيم لأنّ إيذاء فاطمة عليها السّلام إيذاء اللّه و رسوله و إيذاء عليّ و هو من أهل الجنّة، و بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ (5) الآية، و إيذا المسلمين ذنب عظيم.

و التخلّف عن جيش أسامة معصية للّه و لرسوله، يقول اللّه تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (6) و قال اللّه تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً (7).

ص: 17


1- الزمر: 30.
2- النمل: 16.
3- مريم: 5- 6.
4- النساء: 11.
5- الأحزاب: 57.
6- النساء: 59.
7- المزّمّل: 15.

و قال أيضا: ثلاث لم أفعلها وددت أنّي فعلتها: الأولى: ليتني قتلت خالدا بن الوليد في قصاص مالك بن نويرة، و ليتني قتلت الأشعث بن قيس و طليحة الأسدي لأنّ هؤلاء الثلاثة للقتل مستحقّون، و قال أيضا: ليتني سألت رسول اللّه عن الذي يقوم مقامه من بعده.

و تغافل و تجاهل يوم الغدير و عن يوم حائط بني النجار كما روى ذلك عمران بن الحصين الخزاعي و بريدة الأسلمي و غيرهم، و قد تقدّم ذلك حتّى قال بريدة لأبي بكر: لماذا لم تعقد بيعتك على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عقد لك البيعة أبو عبيدة و عمرو سالم مولى أبي حذيفة في زاوية سرّا على جميع المسلمين، مع أنّك لم تحز من علم الشريعة و السنن شيئا، بل أنت يلازم باب على رسولك كلّما نابتك نائبة أو نزلت بك نازلة ليحلّها لك ابن أبي طالب عليه السّلام.

و قال: ليتيني سألت رسول اللّه حقّا ما هو نصيبه؟! و ليتني سألته عن ذبائح أهل الكتاب أحلال هي أم حرام؟ و قال عمر: لو لا عليّ لهلك عمر، و كذلك قال: لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس أبو الحسن فيها (1).

فصدّق الحاضرون المؤمن، و قال المأمون: يجب الإغضاء عن ذلك و يلزم تجاوزه.

فقال المؤمن: لا يجوز الإغضاء لأنّ اللّه لم يغض كما قال تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (2)، و قال: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (3) الآية.

ص: 18


1- مقدّمة نهج البلاغة 2: 1، وسائل الشيعة 28: 108 ط أهل البيت، و 18: 381 طبع الإسلاميّة، الإيضاح: 192، المسترشد: 653، دلائل الإمامة: 32، شرح ابن أبي الحديد 1: 18، نظم درر السمطين: 132، أنساب الأشراف: 100، عمر الخطّاب للبكري: 191 و غيرها.
2- الإسراء: 74 و 75.
3- الحاقّة: 44.

فعمد المأمون إلى كتابة صكّ بقلمه من أوراق عدّة و أرسلها إلى المشرق و المغرب و فيها ردّ فدك إلى السادات من بني فاطمة و كتب إلى عامل المدينة أن ردّ فدكا إلى عليّ بن موسى الرضا و أطلق فيها يده لتئول من بعده إلى ابنه محمّد الجواد التقي، و أشهد الحاضرين على نفسه و على من بعده بعدم أخذها مرّة أخرى.

تنبيه: إنّ الذي افترى حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» هي عائشة و تابعتها عليه حفصة و رجل آخر يدعى أوس من قبيلة بني نضر و لم يروه أحد غيرهم .. (1).

تنبيه: لماذا لم يستردّ الإمام أمير المؤمنين فدكا في خلافته؟ يرجع ذلك إلى وجوه:

الأوّل: إنّ اللّه سبحانه أعطى الغاصب و المغصوب منه ما يستحقّانه من الثواب و العقاب (2).

الثاني: كره عليه السّلام أن تخرج فاطمة من الدنيا مغصوبا حقّها و قد تألّمت و حزنت لذلك حزنا شديدا فلم تطب نفسه أن يفرح أولاده باسترداد ما غصب من فاطمة و ذهبت إلى أبيها حزينة مكلومة غضبى من أجله؛ أسوة بفاطمة و اقتداء بجنابها، و ربّما كان من أجل إطلاق اسم الغصب عليه أبت نفسه التصرّف فيه، من ثمّ عزب عن استرداده، ثمّ إنّ أولاد عليّ من فاطمة عليهم السّلام لم يطلبوا منه ذلك فلم يسعه عليه السّلام أن

ص: 19


1- ليتني أدرك السبب في تحاشى المؤلّف اتّهام أبي بكر و لينه عليه و الواقع أنّ الأمر بالعكس فهو الذي افتراه و تابعته عليه عائشة و صاحبتها و الأعرابي.
2- أقول: كيف عرف هؤلاء أنّ الإمام لم يستردّها؟ بل استردّها فيما استردّ من القطائع و الضياع التي نهبت في زمن الثلاثة لا سيّما في زمن عثمان، و كانت الدنيا كلّها تحت تصرّفه و هو الخليفة و بيده أمر فدك و غيرها فما صنعه في خلافته فيها يعتبر استردادا لها.

يذهب إلى مقاضاة الخصم دون طلب من أصحاب القضيّة، نعم أجاب الإمام زين العابدين عليه السّلام عن هذه المسألة فقال:

فمن غاصبنا حقّنافيوم القيامة ميعاده ثمّ إنّ عليّا عليه السّلام عجز عن تغيير بدع الثلاثة و محدثاتهم غير الشرعيّة، و كان يخشى عدوّه فيتّقيه فلم يقدر على محو بدعهم، و لمّا نهى عن صلاة التراويح جماعة، ارتفع ضجيج العامّة و الغوغاء، و قالوا: نهينا عن سنّة عمر.

و أيضا كان ذلك منه استدراجا للناس لئلّا يحملوه على طلب النفع في شهادته للزهراء يوم الغصب و تكذيبا لعدوّه.

تنبيه: روى أبو سعيد الخدري السبب الذي من أجله أعطى رسول اللّه فدكا لفاطمة عليها السّلام نحلة، و صدّقه المخالفون و المؤالفون، قال: لمّا نزلت هذه الآية: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1) دعا رسول اللّه فاطمة و أعطاها فدكا، فقال: هي لك ... و استلمتها و تصرّفت فيها تصرّف المالك، و كانت يدها أمارة ملكيّتها، فتكون طلب البيّنة منها غاية في الجهل أو التجاهل.

سلّمنا أنّ طلب البيّنة منها لتصحيح دعوى النحلة و لكن أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السّلام و أمّ أيمن رضي اللّه عنها أقاموا الشهادة لها، قال تعالى: وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (2)، و قال: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ (3) و ظاهر الآية يدلّ على وجوب قبول الشهادة و لا تخصّص لها بآية أخرى بالولد و الزوج، و لم يستثنهما

ص: 20


1- الإسراء: 26.
2- الطلاق: 2.
3- البقرة: 282.

اللّه تعالى، و إنّما اشترط العدالة وحدها و من أعدل من المعصوم ليت شعري، و إذا كانت نحلة فلا تعود إلى الأولاد لا سيّما بعد الموت و آية الميراث عامّة.

و يقول المخالفون: إنّ زكريّا طلب من اللّه وارثا للنبوّة و ليس للدنيا ويّات.

الجواب: و هذا القول قدح بنبوّة زكريّا و حاشاه من ذلك، و يجرّ إلى كفره لأنّه قال: وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي (1) أجمع المفسّرون على أنّ المقصود من الموالي أولاد العمّ فلو أنّه طلب وارثا للنبوّة يكون قد خاف من أولاد عمّه أن يكونوا ورّاثا لها و النبوّة لا تكون بالمشورة و لا بالطلب بل بالاستحقاق و الأهليّة، و يكون زكريّا قد دفعها عن أولاد عمّه حسدا من عند نفسه، فيؤدّي ذلك إلى كفره، و حاشاه لعدم رضاه بقضاء اللّه و تقديره، و هو بري ء من هذا التصوّر إلى أن قال:

وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (2) و النبيّ لا بدّ و أن يكون رضيّا فلو كان مراده وراثة النبوّة تكون الجملة مكرّرة و هي لغو لا فائدة منها، و لا يجوز العدول من ظاهر اللفظ إلى التأويل.

و نهاية الأمر لو قال المخالف أنّ النحلة لم تثبت بل تثبت وراثتها لفدك و الوراثة يردّها حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» و الترجيح له من ثمّ أخذها الشيخ.

فالجواب: اتفق المسلمون على حديث أبي سعيد الخدري و تلقّاه الناس بالقبول بأنّ النبيّ أعطى الزهراء فدكا في حياته و الحديث الذي رواه أبو بكر مطعون فيه و مردود من قبل المهاجرين و الأنصار جميعا، سلّمنا به جدلا و لكنّه معارض بحديث آخر مثله و هو حديث أبي سعيد، فتبقى آية الميراث ثابتة و هي

ص: 21


1- مريم: 5.
2- مريم: 6.

قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (1) و أمثالها.

و الاتفاق حاصل على أنّ ذا الفقار كان مبتدئا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان وهبه لعليّ عليه السّلام فأخذ فدكا من فاطمة مع كونها هبة و ترك ذي الفقار عند عليّ و هو مثلها في الحكم ليس إلّا لعناد متحكّم في القوم و عداوة لرسول اللّه وردّ على قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ.

و كذلك ادّعت عائشة وراثة حجرتها و تشهد على فاطمة بأنّها لا إرث لها، إنّها من مفارقات أمّ المؤمنين، قال الصادق عليه السّلام: كان لرسول اللّه قطائع عدّة: الأوّل:

فدك، و الثاني: حسى، و الثالث: مشربة أمّ إبراهيم، و الرابع: الزلال، و الخامس:

الميثم، و السادس: الصافية، و السابع: العواف (2)، و قد أعطاها رسول اللّه إلى فاطمة عليها السّلام فانتزعها أبو بكر منها و تابعه بقيّة الشيوخ و شهد له عمر و أبو عبيدة و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة.

و جائت عائشة بعد مضي زمن طويل إلى عثمان تطلب ميراثها من رسول اللّه، فقال لها عثمان: كما أمضى أبوك شهادتك على فاطمة فإنّي أمضي شهادتك على نفسك أي لا أدفع إليك شيئا ممّا تدّعين.

ص: 22


1- النساء: 11.
2- بذلت جهدا للوصول إلى الرواية فلم أوفّق، و يا للأسف لذلك لم أضبط الأسماء الواردة فيها ضبطا يرفع الشكّ، فأعتذر إلى سيّدي القارئ من ذلك.

الفصل الثاني في أمور وضعها الخلفاء خلافا لأمير المؤمنين و بني هاشم

روى المخالف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: الوقت الأوّل رضوان اللّه، و الوقت الآخر عفو اللّه، و لا يختاره المسلم إلّا لعذر من مرض و غيره، و لمّا علموا أنّ بني هاشم يصلّون الصلاة في أوّل الوقت و هو الرضوان حوّلوه إلى وقت العفو و جعلوه مختارهم.

و كذلك المسح على الخفّين وضعوه مخالفة لعليّ و بني هاشم لأنّهم علموا أنّ بني هاشم عند المسح ينزعون أخفافهم.

و مثله الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، فقد تركوه مضادّة لبني هاشم مع أنّ الجهر عندهم لا يفسد الصلاة.

و عمّموا السجود على ما يؤكل و يلبس لأنّهم علموا بأنّ عليّا يسجد على الأرض.

و كان أمير المؤمنين اقتداءا بالنبيّ يكبّر على الجنازة خمس تكبيرات لذلك نقصوها واحدة و كبّروا أربعا عنادا له.

و قال أمير المؤمنين: الجنازة متبوعة و ليست بتابعة لأنّ من كان أمامها فالجنازة تتبعه، فوضعوا بدعة المشي أمام الجنازة خلافا له. و روى أتباعهم بأنّ عليّا عليه السّلام قال: لقد علم أبو بكر أنّ المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها.

و مثله فعلوا في إباحة ذبائح أهل الذمّة و إباحة الأرانب و أمثالها خلافا لأمير المؤمنين عليه السّلام، و قيل: إنّه من قاطني الجنّة.

و شرع أمير المؤمنين بتغيير بدعهم بالهوينى و الرفق و ما عجز عن تغييره تركه

ص: 23

على حاله و كان حذرا من الفتنة و البلبلة التي يثيرها الجهّال عليه من هذا الباب و عمل بالتقيّه طيلة هذه المدّة كما قال تعالى تنبيها عليه من موسى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ (1) و قوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (2).

الفصل الثالث في أنّ عليّا لم يقدر على تبديل ما غيّروا عن أصله لخوفه من أصحابه و ترك محاربتهم

اعلم أنّه لا يسئل عن نفي العلّة لانتفاء المعلول و إنّما يسئل عن العلّة في إثبات المعلول، مضافا إلى أنّ الاعتراض على الإمام من سوء أدب الرعيّة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (3) فلا يجوز أن يقال عن الإمام لماذا حارب معاوية و لم يحاربهم؟ ثمّ إنّ في حربه مع معاوية كان معه من الجيش مائة ألف جندي يحاربون معه و لم يكن معه يومذاك إلّا نفر يسير و مع قلّتهم فإنّ مذاهبهم مختلفة و لكنّهم كانوا معه في حرب معاوية على رأي واحد من ثمّ لم يكن هناك مجال للتقيّة، و تأسّس بما فعله رسول اللّه مع المشركين حين حشّد المنافقين لقتالهم، و كان أكثر الصحابة على هذا الرأي و هو أنّه الخليفة الرابع و أنّ شرعيّة خلافته نظير خلافة أبي بكر و عمر، و ينظرون إليه كما ينظرون إليهما و يعتبرونه بمثابتهم، و يسير بسيرتهما، و لو علموا منه أيّ اتجاه مخالف لخرجوا عليه و حاربوه كما فعلوا معه في صلاة التراويح حين أمر بأدائها فرادى فكانوا يصيحون «نهينا عن سنّة عمر» و راحوا يشنّعون عليه

ص: 24


1- الشعراء: 21.
2- طه: 67.
3- الأنبياء: 23.

و يؤلّبون الرعيّة، و أوشكت الغوغاء أن تحدث شغبا لو لا أنّه قال: اذهبوا و افعلوا ما شئتم.

و ما حارب طلحة و الزبير و معاوية حتّى بدى للناس أنّهم ناكثون و قاسطون، و اعتبروا عدوّه يحبّب قتاله كعدوّ من تقدّمه، مع أنّ أصحابه لا يطيعونه إلّا في القليل حتّى أعلنها على المنبر مرارا و تكرارا و عبّر عن نقمته عليهم و شهد بذلك العدوّ و الصديق، و خطبته في هذا المعنى شاهد عدل على ذلك.

و قال ذات يوم لبني هاشم و خواصّ شيعته: لقد علمت الولاة قبلي أنّهم خالفوا رسول اللّه متعمّدين خلافه، ناقضين لعهده، متغيّرين لسنّته، و لو أحمل الناس على تركها و أحملها على مواضعها و إلى ما كانت على عهد رسول اللّه، لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي، و في قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللّه و سنّة نبيّه (1) (و سنّة رسول اللّه- الكافي) صلّى اللّه عليه و آله، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السّلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ورددت فدكا إلى ورثة فاطمة عليها السّلام ورددت صاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما كان و أمضيت قطائع أقطعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأقوام لم تمض لهم و لم تنفذ، ورددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد، ورددت قضايا من الجور قضى بها و نزعت نساءا تحت رجال بغير حقّ ورددتهنّ إلى أزواجهنّ (2) و استقبلت بهنّ الحكم في الفروج و الأرحام، و سبيت ذراري بني تغلب، ورددت ما قسّم من أرض خيبر، و محوت دواوين

ص: 25


1- رجعت إلى كتاب الكافي و لم أتّبع المؤلّف في السياق لأنّ رواية الكافي تحتوي على جميع ما ذكره المؤلّف رحمه اللّه.
2- في الهامش: كنّ طلّقن بغير شهود و على غير طهر كما أبدعوه و نفذوه و غير ذلك، الخ، و لا يبعد أن يكون الإمام يشير إلى سبيّات ما يسمّى بحرب الردّة كأمّ تميم التي نكحها خالد في الليلة التي قتل بها زوجها، و هذا يدلّنا على فصل مطمور وراء الأحداث ينبغي كشفه للأمّة.

العطايا و أعطيت كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالسويّة و لم أجعلها دولة بين الأغنياء، و ألقيت المساحة و سردت ما فتح فيه من الأبواب، و فتحت ما سدّ منه و حرّمت المسح على الخفّين، و حددت على النبيذ، و أمرت بإحلال المتعتين، و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، و ألزمت الناس الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، و أخرجت من أدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مسجده ممّن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخرجه، و أدخلت من أخرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدخله، و حملت الناس على حكم القرآن و على الطلاق على السنّة و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها، ورددت الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و مواضعها، و رددت أهل نجران إلى مواضعهم، ورددت سبايا فارس و سائر الأمم إلى كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إذا لتفرّقوا عنّي، و اللّه لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة، و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام، غيّرت سنّة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا، إلى آخر الرواية (1).

و قال له شريح القاضي و عبيدة السلماني و مسروق و أبو وائل- و كانوا من أهل عسكره- مرّات عدّة: لئن فارقت سيرة الشيخين لنفارقنّك، و خذله مسروق و سار إلى معاوية يحرّضه على حربه، و ردّ عليه عبيدة السلماني حكمه في الأمّهات و أولادهنّ و غيره من اللعناء ينطوون على الفتنة و يتحيّنون الفرص لإحداث الشغب، و لمّا اعترضه عبيدة سكت أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يقدر على إظهار مذهبه أمام عسكره كما لم يقدر على بيان بدعهم و إظهار البرائة منهم إلّا بحضرة الخواصّ من شيعته و أهل بيته.

ص: 26


1- الكافي 8: 59، و ارجع إلى الهوامش ففيها تعاليق نافعة تتضمّن شروحا للحوادث الغامضة الواردة في الرواية و منعنا من ذكرها خشية الإطالة.

و كذلك لم يطعه الناس في أشياء خالف بها عمر الإسلام و ردّها الإمام إلى واقعها، و كذّبوه إلى أن قال ذات يوم على المنبر: زعم قوم أنّي أكذب، فعلى من أكذب؟ أعلى اللّه؟ فأنا أوّل من عبده، أم على رسوله؟ فأنا أوّل من آمن به و صدّقه.

و كانت الجواسيس تراوح عسكره و تغاديه، تتجسّس عليه و تسرب أخبار عسكره إلى العدوّ، و طالما سألوه عن الشيخين لعلّهم يظفرون منه بكلمة يستيبحون بها دمه و أخيرا اتّهموه و أولاده بقتل عثمان بن عفّان، و لمّا كان عثمان قد أظهر الظلم و الجور و اتّفقت الأمّة على قتله و منهم المهاجرون و الأنصار و أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّهم بأجمعهم أفتوا بقتل عثمان بن عفّان، لذلك أمكن الإمام في هذه الحال أن يظهر جانبا من ظلمه و يمثّل للناس ما كان يرتكبه من المنكرات و الغشم و الجور، و هذا بعكس ما كان عليه الشيخان فقد سخط عليهما بعض الأمّة و لم يحصل إجماع الأمّة ضدّهما فما كان باستطاعة الإمام إلّا التفاعل مع الوضع القائم في دولته بل و عسكره خاصّة تجاه الشيخين.

و يمكن أن يقال أيضا: أنّ اللّه تعالى أمرنا بالجهاد و لم يفصل لنا العلّة، اللهمّ إلّا جانبا منها و هو صلاح الدين، و هنا يمكن أن نقنع بالإجمال من سكوت عليّ عليه السّلام بأنّه لصلاح الدين و أهل الإسلام.

ثمّ إنّ النبيّ كفّ عن القتال في أيّام الحصار بالشعب و ما تلاه من الزمن قبل الهجرة و لمّا هاجر و وجد الأنصار و الأعوان قاتل و جاهد في اللّه حقّ جهاده.

و لقد قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لو لا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم، و كانت الأكثريّة من الأمّة مقلّدة و ليس في وسعها دفع الشبهة لو حدثت، و ربّما داهمهم

ص: 27

الفكر بإعلان الردّة، فقد ظهر في بني حنيفة «ابن طيّاش» (1) و مسيلمة الكذّاب و ادّعيا النبوّة، و كان بعض الناس يشكّ في صدق دعوى أمير المؤمنين عليه السّلام لذلك كفّ عن الحرب.

و لمّا كانت أيّام معاوية اختلفت معها الحال حيث استحكم الإسلام في القلوب و ثبتت الحقيقة في الأفئدة، و الدليل على ذلك ما كتبه أمير المؤمنين إلى معاوية و فيه:

و قد كان أبوك أتاني حين شرع أبو بكر في عقد الأمر لنفسه، فقال: أنت أحقّ بهذا الأمر بعد النبيّ فهلمّ أبايعك، فكرهت ذلك مخالفة الفرقة من الإسلام و لقرب عهد الناس بالكفر.

و قال المخالفون: إنّ عليّا وتر الأحياء بقتل أمواتهم فاستحكمت الضغائن في القلوب و تلظّت الأكباد عليه و صار هذا الأمر مانعا من تقديمه.

و الجواب: إن كان هذا القتل بإذن اللّه و رسوله فلا موضع للأحقاد بل ربّما كان ببركة رسول اللّه أدعى إلى تأليف القلوب، و لقد فعل اللّه ذلك بناءا على قوله تعالى:

وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (2) و لمّا مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عادت القلوب إلى ما كانت عليه و رجعت ضغائنها و أحقادها كما كانت، و ثاروا ضدّ خليفة رسول اللّه و حاربوه، و قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الأمّة ستغدر بك، و قال أيضا: إن قاتلت فلك و إن تركت فهو خير لك (بعدي) (3).

ص: 28


1- لم أجد في تاريخ المدّعين أحدا بهذا الاسم.
2- الأنفال: 63.
3- كشف الغطاء 1: 10، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 72، الخصال: 462، الغارات 2: 444 و 487، مناقب أمير المؤمنين 2: 533 و 545، المسترشد: 363، شرح الأخبار 1: 152 و 436، و 2: 446، الإرشاد للمفيد 1: 285، كنز الفوائد: 79، الأمالي: 476، الاحتجاج 1: 98 و 280، مناقب ابن

و حاله كحالة هارون الذي قال: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (1) و من هنا قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللّه، قال: أما و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا؛ ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير، و أمّا لوط فقال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (2)، و قال موسى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ (3)، و قوله: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي (4)، و قوله: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (5)، و قال هارون:

أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (6)، و من هنا امتنع عن البيعة.

و قال أبو بكر لخالد: اضرب عنقه، ثمّ ندم و قال: «يا خالد لا تفعل ما أمرتك».

و قال عمر لعنه اللّه لفاطمة: يا فاطمة، ما هذا المجموع الذي يجتمع بين يديك لئن انتهيت عن هذا و إلّا لأحرقنّ البيت.

و كان إسحاق بن راهويه قد ذكر هذا الحديث و قال في ختامه: إنّما كان هذه تغليظا من عمر.

و كما لا يلام الرسول على ترك الجهاد في مكّة كذلك لا يلام عليّ على تركه لأنّ الأسباب الحاكمة على كليهما واحدة.

ص: 29


1- طه: 90.
2- هود: 80.
3- الشعراء: 21.
4- المائدة: 25.
5- الشعراء: 14.
6- طه: 94.

و أمّا ما كان يقبضه عليّ من العطايا منهم فإنّها بمثابة ما كان يقبضه يحيى بن زكريّا من جبّار زمانه و لعلّ ما كان يأخذه عليّ منهم إنّما كان سهمه من الخمس و لا دليل في ذلك على رضاه بإمامة الأوّل.

و أمّا عن اقتدائه بهم في الصلاة فإنّه يجعل بينه و بينهم حجابا اعتباريّا بمثابة الحائط و يصلّي لنفسه و كذلك كان أولاده يفعلون حين اقتدائهم بمن لا يقتدى به إلّا أنّ الخوف و التقيّة يقتضيان ائتمامهم بهم، و لعلّه يصلّي الفرائض في بيته و يصلّي النوافل في المسجد، و النافلة لا تصلّى جماعة لكونها بدعة و حراما، و في مذاهبنا أنّه ترك الحضور في المسجد بعد محاولة اغتياله على يد خالد بن الوليد و إن خرج معهم في سفر فإنّما كان لغرض التعليم لأنّه كان مرجعهم في الفتوى و حلّ المشاكل و المعضلات و المعاضل التي تحدث بينهم لا تخصّهم، و إنّما تتوجّه رأسا إلى حريم الإسلام فيصبح عرضة لتقوّل المنافقين و طعناتهم ثمّ استهزائهم بالرسالة و صاحبها من هنا كان الأصحاب يحملون عليّا عليه السّلام على السفر معهم من أجل حفظ بيضة الدين ....

و القوم يروون روايات ليس لها صحّة في مذهبنا و لا تعرف من طريقنا اللهمّ إلّا رواية واحدة و هي أنّ أبا بكر غاضبه أحدهم فغضب و خرج خارج المدينة فتبعه الإمام و أرضاه مع من غاضبه و عاد إلى المدينة ثانية.

و أمّا ما قالوه من ضربه الوليد بن عقبة الحدّ بحضرة عثمان فهذا لا يدلّ على أحقّيّة عثمان لأنّ إقامة الحدود بعهدة إمام الزمان بأيّ صفة كان فإنّه يجب عليه إقامتها و كان عليّ إماما في ذلك الزمان و لا يستقيم الأثر إلّا بهذا كما فعل النبيّ دانيال حين كان يقيم الحدود في مملكته و يؤدّي الأحكام الشرعيّة و أعطى الطاغية الوسيلة لفعل ذلك، و كان ابن مسعود يقيم الصلاة في بيته مع الأسود و علقمة ثمّ يخرج إلى المسجد يصلّيها مع الجماعة، و المشهور بين الأصحاب أنّ عثمان (لعنه اللّه-

ص: 30

المترجم) لا شأن له في الأمر و لا يستحقّ من الخلافة شيئا و على هذا الأساس بني إجماع الأمّة على قتله.

ثمّ إنّ الكثير من الصحابة صلّوا خلف معاوية و يزيد و ملوك بني أميّة و هذا لا يدلّ على إمامة الظالمين الحقّة.

و اتّفقوا على انّ عبد الرحمان بن عوف قال يوم الشورى: تأخذها بكتاب اللّه و سنّة رسوله و سيرة الشيخين أبي بكر و عمر (لعنهما اللّه- المترجم) فقال عليّ عليه السّلام:

بكتاب اللّه و سنّة رسوله، أمّا سنّة أبي بكر و عمر فلا.

و يقول المخالف أيضا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اقتدى بعبد الرحمان بن عوف في الصلاة فلم تثبت لعبد الرحمان الإمامة و لا النبوّة.

و قال: صلّى رسول اللّه وراء أبي بكر فعلى هذا ينغبي أن يكون أبو بكر الرسول و النبيّ تابع له.

حكاية: خرج عمر مع العبّاس إلى الشام و كانت فرسه سابقة لفرس العبّاس، تمشي أمامه، فكان أهل الشام يخضعون لعمر، حتّى أرادوا السجود له كما قال اللّه تعالى:

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (1) كما يفعل اليوم أتباع المشايخ و أحبّائهم، و كانوا ينادون عمر بأمير المؤمنين، فقال العبّاس: إنّه ليس أمير المؤمنين و أنا أولى بها منه، فسمعه عمر، فحزّ كلامه في نفسه و قال: ألا أخبرك بمن هو أحقّ بها منّي و منك؟ فقال: نعم، قال عمر: رجل خلّفناه بالمدينة- يعني عليّا عليه السّلام-.

فقال العبّاس: فما منعك و صاحبك من ذلك؟ فقال عمر: نحن نقرّ بفضله و نعترف به إلّا أنّنا ما قدّمناه لأنّ قريشا تحمل له الحقد في قلوبها فخفنا أن لا يجتمع عليه

ص: 31


1- التوبة: 31.

العرب فيخرج الأمر من أيدينا و كان تقدّمنا عليه و تأخّره عنّا لهذا السبب، ثمّ قال:

و كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها، و اللّه أعلم أصبنا أم أخطأنا (1).

الجواب: لقد كان حقد قريش على رسول اللّه أكثر و أكبر من حقدها على أمير المؤمنين، فيكون بناءا على قول عمر أن لا يمكن من تحقيق رسالته، و يقدّم عليه أبو لهب و أبو جهل و أبو سفيان، لأنّ قريشا كانت توالي هؤلاء و لا تواليه، نعوذ باللّه من هذا الكلام (2).

ثمّ إنّ هذا القتال من عليّ كان بأمر اللّه و رسوله فعداوته عداوة للّه و رسوله، و اجتمع العرب على معاوية و على ابنه يزيد (لعنهما اللّه) فينبغي على قول عمر أن يكونا إمامين في زمانهما.

تنبيه: روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ هذا الأمر لا يكون في عليّ و لا في أحد من ولده» عنى بالأمر الخلافة.

و أورد أبو جعفر ابن بابويه القمّي هذا الحديث على طريق الاعتراض، و قال:

و لعلّه لهذا السبب زعموا أنّ النبوّة و الإمامة لا يجتمعان في بيت واحد، ثمّ واصل الجواب، فقال: و لو صحّ هذا الحديث لما جعل عمر عليّا واحدا من أصحاب

ص: 32


1- ورد الحديث في الإيضاح طويلا و فيه قول عمر لابن عبّاس: و ما كفى ما قال لي أبوك: قال- الراوي- فقلت لابن عبّاس: و ما قال له أبوك؟ قال: لقيه رجل من أهل الشام، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال العبّاس: لست و اللّه للمؤمنين بأمير هو ذاك و أنا و اللّه أحقّ بها منه، فسمعه عمر فقال: أحقّ و اللّه بها منّي و منك رجل خلّفناه بالمدينة أمس- يعني عليّا- (الإيضاح: 173، الصراط المستقيم 2: 56، مواقف الشيعة 1: 221).
2- هذا يا شيخ كلام من لا يؤمن باللّه و لا بنبوّة رسوله صلّى اللّه عليه و آله.

الشورى، و كذلك لم يفوّض الإمام أمر الخلافة إلى الحسن و لم يبايع المهاجرون و الأنصار عليّا و لم يجمع أهل القبلة و معهم العالم على إمامته.

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ إجماع المسلمين حاصل هنا و الإجماع حجّة مع أنّ مخالفينا يروون أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «المهدي من ولد فاطمة» و استخلف عليّ خمس سنوات و اتّخذه أهل القبلة إماما لهم و خليفة عليهم فإجماعهم مبطل لهذه الرواية و ثبت كذبها.

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا تجتمع أمّتي على ضلال، مع أنّ واضع هذا الحديث هم بنو أميّة و أرادوا بالشبهة الملبسة بلباس الدليل صرف الخلافة عن أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و رووا أيضا بأنّ العبّاس قال لعليّ عليه السّلام: هلمّ أبايعك، فيقال عمّ رسول اللّه بايع ابن عمّ رسول اللّه. و ينبغي على ما ذهبوا إليه أنّ العبّاس خالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

سؤال: من الجائز أن لا يكون العبّاس لم يسمعه من النبيّ أو سمعه و نسيه.

الجواب: فلم لا يكون جائزا حينئذ أن ينسى الصحابة من ذلك الجمع و فيهم المحبّ الصادق أحاديث إمامة عليّ و كتمها الأعداء.

تنبيه: مذهب العلماء على أنّ الخلفاء لم يحضروا جهاز النبيّ و لا الصلاة عليه، بل كانا يتحيّنون الفرصة هناك و قد علموا أنّهم إذا شاركوا في تجهيز النبيّ خرجت الخلافة من أيديهم و كان أبو بكر و عمر يشكّان في موت النبيّ (1)، قال: أيّها الناس، كفّوا

ص: 33


1- و هذه لا أرضاها من المؤلّف فقد مثّل عمر دور الجاهل انتظارا لصاحبه حتّى يعود فلمّا عاد ختمت التمثيليّة.

ألسنتكم عن نبيّ اللّه فإنّ نبي اللّه لم يمت و لكن اللّه واعده كما واعد موسى، و هو آتيكم، و اللّه لا نسمع أحدا يذكر النبيّ توفّي إلّا علوته بسيفي هذا و لكن أمير المؤمنين سارع إلى دفع هذه الشبهة من أذهان الناس.

و أيضا أتظنّ أنّ عمر لم يقرأ هذه الآية: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (1) و قد نزلت قبل وفاة النبيّ بأحد عشر سنة، و كذلك قوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ (2) و قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ* كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ (3) و كان النبيّ يقول على رؤوس الأشهاد: «نعيت إليّ نفسي»، و العجيب في أمر عمر أنّه يرى أو يسمع بغسل النبيّ و كفنه و دفنه ثمّ يقول: أضرب بسيفي من يقول أنّ رسول اللّه مات.

قال عبد اللّه بن عبّاس عن عمر بأنّه قال: لو مات رسول اللّه كيف يكون علينا شهيدا، يموت الرسول و لم يظهر على الناس، فإيّاكم أن تفتتنوا أيّها الناس كما افتتن قوم موسى حين غاب منهم إلى الطور فرجع إليهم فعاقبهم.

فقبل قوله جهّال الصحابة و اجتمعوا على باب بيت النبيّ و شرعوا في إحداث الشغب قائلين: لا تحرّكوا رسول اللّه و لا تغسّلوه و لا تكفّنوه لأنّه حيّ قائم.

فخرج عليهم العبّاس و طالبهم بإثبات ما يقولون و سأل عمر و المنادين معه:

متى قال النبيّ أنا لا أموت؟! فصاحوا بأجمعهم: لا علم لنا بذلك، فأقسم العبّاس أنّه مات و قرأ الآيات الدالّة على موته، فقبل الصحابة ذلك، و لكن كان لعمر غاية وراء هذا القول و هو أنّ الحزن لا بدّ و أن يعمّ الأصحاب بموت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا بدّ من

ص: 34


1- الزمر: 30.
2- آل عمران: 144.
3- الأنبياء: 34- 35.

بكائهم ساعة علمهم بموته، و عمر مقبل على ملك عضوض و هو فرح به مستبشر، و طالب من القوم تهنئته على هذا النصر العظيم و هي لا تجامع الحزن فمن الحزم الحيلولة بينهم و بين البكاء لئلّا تفوته فرحة النصر على العدوّ و الفوز بالملك العقيم، و كان يستحي من الظهور بمظهر الجذل و الفرح فلا بدّ من افتعال هذه الزوبعة لتمرير غابته (1).

و أيضا إنّ أرذل القبائل قبيلة أبي بكر و عمر و كان قبل الإسلام بطّالا إذا أصاب طعاما أو شرابا على خوان أحدهم قصفه، أمّا أبو بكر فكان أحيانا عضروطا أو سمسارا أو معلّم فتيان عبادة الأصنام و أحيانا يبيع البزّ، فلمّا رفع من الرفش إلى العرش فلا بدّ من أن تعمّه الفرحة التي لا حدود لها، و هم يقولون: إنّ أبا بكر ألفت ذهن عمر إلى موت رسول اللّه بقرائة الآية إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (2) فأقسم عمر كأنّه لم يسمعها قبل اليوم، و العجب من القوم أنّهم يقولن كان عمر معلّما لأبي بكر و كان أعلم منه و كان حلّ المعضلات التي تعترض أبا بكر على يديه ثمّ هو يجهل هذه الآية مع ادّعائهم أنّه كتب القرآن و جمعه و حين هلك ذهب تسعة أعشار العلم بهذه العبارة: «لمّا مات عمر ذهب تسعة أعشار العلم».

و قوله: إنّ رسول اللّه للّه شهيد علينا ألا يعلم أنّ هذه الشهادة في الآخرة لا في الدنيا.

ص: 35


1- رحم اللّه المؤلّف حين يطمئنّ إلى هذا التوجيه البارد و الواقع أنّ موت النبيّ فاجأ عمر و أبو بكر صاحبه بالسنح فخاف أن يطول مكثه هناك فأراد أن يشغل الناس بهذه الفرية حتّى يعود صاحبه و لذلك لمّا عاد ابو بكر و تلا عليه آية «إنّك ميّت و إنّهم ميّتون» سكت عمر من تهديده و قال: كأنّي لم أسمع، نعم كان أعمى أصمّ و صاحبه في السنح أمّا الآن فقد عاد سميعا بصيرا، ألا لعنه اللّه و لعن صاحبه.
2- الزمر: 30.

الفصل الرابع

و لمّا انتقل رسول اللّه إلى الرفيق الأعلى أمر عليّا و العبّاس بإلباسه حلّة يمنيّة، و يغسل فيها، فكان العبّاس يسكب الماء و الفضل يقوم بنقله إليه و الإمام يقلّب رسول اللّه و يدلّكه، و احتاج الفضل إلى الخروج من مكان الغسل لقضاء مهمّة عرضت، فانتدب مكانه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب من بني هاشم و من الأنصار أبيّ بن كعب و أوسى بن خولّى كانا مع بني هاشم خارج موضع الغسل، و كان السبب في دخولهما مع عليّ عليه السّلام و بني هاشم أنّ الأنصار قالوا لعليّ: ناشدناك اللّه و حقّنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأشركنا معكم في غسل رسول اللّه، ففعل عليه السّلام، هذا ما في روايات القوم.

و أمّا عندنا فإنّ عليّا لم يشركه أحد في غسل رسول اللّه إلّا الفضل بن العبّاس حيث كان ينقل الماء و الملائكة أعوان عليّ عليه السّلام و معهم جبرئيل في فوج من الملائكة المقرّبين.

و يقول ابن بابويه: لم يحضر الأنصار إلّا في الصلاة، و هذه مسألة قطعيّة عنده لا تقبل النقاش، و هي متّفق عليها عندنا إلّا أنّ الإجماع حاصل من أنّ عليّا عليه السّلام بعد موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «يا عليّ، أنت أوّل من آمن بي و آخر من يسلّمني إلى ربّي» أمّا مخالفونا فلقد افتروا فرى ليس لها واقع أصلا من قبيل مشاركة العبّاس و أسامة و الفضل و أبي سفيان ابن الحرث و غرضهم من ذلك الوضع من مرتبة عليّ و فضله و ليس مع عليّ غير الفضل يأتيه بالماء و باقي أعوانه من الملائكة، و لم يصلّ في مسجد النبيّ ذلك اليوم أحد سوى بني هاشم فقد كانوا في شغل شاغل عن كلّ شي ء إلّا عن مصيبتهم و عن الصلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تجهيزه، و كان أبو بكر في

ص: 36

سقيفة بني ساعدة يلاطم على الملك حتّى إذا فرغ بنو هاشم من مأتمهم على النبيّ يكون قد أحكم السيطرة على الملك.

الفصل الخامس

روى يوسف بن كليب المسعودي السنيّ عن إبراهيم بن إسحاق الأزدي، عن عبد اللّه بن لهيعة المصري، عن أسود بن عروة بن الزبير (الزهر) أنّه قال: أوّل من قطع سهم ذوي القربى و سهم المؤلّفة قلوبهم أبو بكر، و يوسف هذا من قطيع السنّة النواصب، ثمّ قال: و ما أخذه منهم أنفقه على العسكر في عدّته و عدده.

الجواب: إنّ اللّه سبحانه و رسوله أعلم بترتيب الشريعة و النظر لصلاح الناس من هؤلاء القوم و أمر اللّه و رسوله لأهل البيت بحقّهم في هذه الآية وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1) و أمثالها، و أمر اللّه بإكرام أهل البيت و محبّتهم بهذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (2) و كيف يستلب منهم ما جعله اللّه حقّا لهم و تحيّة لجنابهم دون سائر الناس ثمّ يعطي إلى قوم غيرهم؟

و ذكر مسلم الأصمّ و الجاحظ و حفص و هؤلاء من أعلام النواصب: كان في ذمّة أبي بكر عند موته أربعون ألف دينار من بيت مال المسلمين، و مات و هي في ذمّته لم تؤدّ عنه، و أمر في وصيّته بأدائها عنه و لكن الخليفة من بعده لم يردّ حقوق أحد من المسلمين حتّى يؤدّيها عنه، و أخذوا حقّ أهل بيت الرسول و تركوهم جياعا عراة و قضموا حقوقهم: يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الربيع.

ص: 37


1- الإسراء: 26.
2- الشورى: 23.

حكاية: يقال: إنّه كان في الريّ حاكم ظالم جدّا، فقبض يوما على أحد الدهاقين و صادر أمواله كلّها، و حدث ذات يوم أنّ مغنّيا كان يردّد رجزا جميلا و فيه: إنّ الوالي الذي صادر الدهقان أعطاه مال المصادرة، و لمّا بلغ الخبر الدهقان بكى و قال: يأخذ ممّن ليس عليه شي ء، و يعطيه من ليس له عنده شي ء.

و هذا الخبر منطبق على أبي بكر تمام الانطباق، لأنّه أخذ مال من لا يجوز أخذ ماله و أنفقه على من لا ينبغي أن ينفقه عليه: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا (1).

و كان مذهب الشافعي على هذا و هو أنّه في آخر عهد عمر قدم بمال كثير من فارس و كرمان و الأهواز و تستر إلى المدينة، فقال عمر: إنّ حصّة بني هاشم من هذا المال الخمس و أنا أرجوهم أن يقرضوه لي لأصلح به حال المسلمين على أنّي سوف أعوّضهم عنه في فرصة قادمة من مال آخر، فأقرضه أمير المؤمنين إيّاه و فعل بنو هاشم فعله، فطالت المدّة و لم يعوّضهم عمر عنه حتّى هلك، و لمّا جاءت نوبة عثمان بقيت الحال على ما هي عليه من سنّة عمر، و جاء الخلفاء و قد تنوسي الخمس فلم يعطوا أهل البيت شيئا.

و في رواية أخرى عن الشافعيّ عن أبي ليلى أنّه روى عن عليّ قال: ذهبت أنا و فاطمة و العبّاس و زيد بن حارثة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قلنا: يا رسول اللّه، إنّنا نخشى أن لا نعطى حقّنا من الخمس بعدك، فأعطناه في حياتك لكي لا يعترض علينا أحد أو يعارضنا، فرضي النبيّ بذلك و دفع إلينا الخمس و بقي في أيدينا أيّام أبي بكر حتّى إذا كانت أيّام عمر جائه مال كثير فأخرج خمسه و دفعه لنا، فقلت

ص: 38


1- المنافقون: 7.

لبني هاشم: ما حاجتنا بهذا المال ادفعوه إلى المسلمين لإصلاح حالهم، لعلّهم يعطونا عوضه في فرصة أخرى مؤاتية، فقبضه عمر على أنّه قرض و أعمل فيه يده بالتصرّف فأنكر العبّاس على عليّ هذا الموقف و قال: لا ينبغي لك أن تفعل هذا لأنّي أخاف أن يحلو المال بأعينهم فلا يعطوننا شيئا بعده، و كان كذلك فعلا فقد هلك عمر و لم يؤدّ إلى بني هاشم قرضهم كما سلف و بقي هذا الدين عالقا في ذمّة عمر .. و هاتان الروايتان من الشافعي.

تنبيه: لقد تمّت الصيغة الكاملة للصلاة و الزكاة و الخمس بنصّ القرآن الكريم فمن أنكر واحدة منها أو امتنع عن أدائها عدّ كافرا بالقرآن و بمنزله و رسوله.

قال الحارث بن المغيرة: طلب «نجية» الإذن على الإمام الصادق فأذن له و دخل عليه يسأله عن قضيّة الخمس و منعه، فقال ذلك الإمام: يا نجية، إنّ الخمس لنا في كتاب اللّه و لنا الأنفال و صفوة الأموال و هما و اللّه أوّل من ظلمنا و منعنا حقّنا و كانا أوّل من ركب أعناقنا- إلى أن قال:- و سوف يكشف أحوالهما قائمنا كما يستحقّون.

و وردت أخبار نظير هذا لا تقبل الحصر.

الفصل السادس في مثالب بني تيم

ذكر أصحاب السير و المؤرّخون عن بني تيم بأنّهم كانوا أهل مسكنة و فقر، و أخمل و أجهل بطون العرب، و سقطوا في الجاهليّة فليس لهم قدر و لا جاه، و قد ذمّهم دغفل النسّابة عند معاوية، و قال فيهم جرير:

ص: 39

و يقضي الأمر دون رجال تيم (1)و لا يستأذنون و هم شهود

و إنّك لو رأيت عبيد تيم و تيما قلت أيّها العبيد و لم يكن فيهم لا سيّد مشهور و لا تاجر معروف و لا جواد مذكور، و كان دغفل النسّابة عربيّا عارفا بأنساب العرب و سأله معاوية ذات يوم عن القبائل، فقال بعد أن ذكر عددا منها و سأله معاوية عن بني تيم:

أهل فحش فاش، أحلام الفراش! إن شبعوا بخلوا، و إن افتقروا ألحفوا (ألحّوا- المؤلّف).

و قال أبو العبّاس- لعلّه المبرّد- المترجم- قال حجر ابن جوين لأبيه: هجوت قبائل العرب و تركت تيما فما هو سبب تركك هجائهم؟ فقال: يا بني، لم أجد لهم حسبا أضعه و لا بيتا أهدمه.

و اسم أبي قحافة عثمان بن عامر و كان يعرف في قريش ب «لواطة» و كان من لؤمه ينادي على طعام عبد اللّه بن جدعان (2) و كان يعطيه عبد اللّه على فعله هذا في كلّ يوم درهما وحدا، و يملأ جوفه من فضلات طعام الأضياف و يذكر ذلك أمّية ابن أبي الصلت عن ابن جدعان، فيقول:

له داع بمكّة مشمعلّ و آخر فوق دارته ينادي إلى آخر الشعر، و المنادي هنا أبو قحافة.

و كان صائدا يصيد الطيور فصاد طيرا في الصحراء و باعه بذي الحليفة.

و كان له شريك يقطن بذي الحليفة و يدعى سعد الغاري من الغارة بن الهون بن

ص: 40


1- في العيون و المحاسن للشيخ المفيد: و يقضي الأمر حين تغيب تيم- و هو أبلغ و فيه الطباق: غياب و شهود.
2- و من يفعل ذلك يسمّونه «عضروط» و ليس «لواطه».

خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر (1) و قال بعضهم اسمه سعيد.

و حاصل الكلام أنّ سعيدا هذا خان أبا قحافة حين أخذ طائره الذي اصطاده فكتمها أبو قحافة في نفسه و لم يبدها لأحد و صبر على مضض و كان يبالغ في التكتّم، فدعاه شريكه ذات يوم إلى بيته فأجلسه فيه و خرج لحاجة عرضت له، فعمد أبو قحافة إلى بيته في غيابه فانتهبه و أخذ منه ما قدر على أخذه، و من هذه الجهة سمّي أبا قحافة، يقال: اقتحف اقتحافا أي شرب شربا شديدا، جمع ما في الإناء من الماء. و كان لا يقول الشعر و لكنّه قال شعرا في هذه الواقعة:

أسعد جزاك اللّه شرّ جزائه بما نلت منّي في الخيانة و الظلم

وثقت به حيّا و قلت لعلّه يكون على أمر بعيد من الظلم

فلمّا رأيت المرء ينوي خيانتي شددت عليه شدّة الليث ذي الضغم

و قلت له هذا جزاءك ظالمالما قدّمت منك اليدان مع الفم و تظهر مروئة أبي قحافة و كرمه و سخائه من هنا حيث سرق بيت شريكه و مضيّفه و هجاه من أجل طائر، و لا بدّ أن ينعكس شرفه هذا على أهل بيته فيكونون على مثل مروئته و شرفه، و كلماتنا هذه تنبيه على أباطيل من ينسبون إليه الفضائل، إذ قلّت الخبرة- خبرة- بأحواله.

قال أهل السير من الأسلاف: كان جماعة يذكرون مناقب معاوية في أحد المجالس، فقال أحدهم: كان معاوية بدريّا أي أنّه حضر موقعة بدر، و كان هشام ابن الحكم حاضرا، فقال: نعم كان بدريّا و لكنّه من جانب المشركين.

ص: 41


1- أحيط القارئ علما بأنّي عاجز عن التأكّد من أسماء الأعلام الواردة في هذا الكتاب لأنّ نصوصه العربيّة أكثرها دخلها التصحيف و التحريف و لا أملك إلّا نسخة واحدة هي التي أقوم بترجمتها من ثمّ أكل الأمر إلى القاري في تحقيق ما يراه خطأ أو مصحّفا أو محرّفا.

إنّ الجماعة الذين يوالون هؤلاء ينسبون إليهم المناقب على مثل طريقة العرب في التفاؤل حيث يسمّون الأشياء بأضدادها فيسمّون الأعمى بصيرا، و اللديغ سليما، و الصحراء المهلكة مفازة «حبّك الشي ء يعمي و يصمّ».

و الدليل على خساسة طبعهم أنّه لمّا بايع القوم أبا بكر بعد وفاة النبيّ سأل أبو قحافة: من بايعه الناس؟! قالوا: ابنك، فقال: كيف رضي بنو عبد مناف بذلك؟- لأنّه علم أنّ الأشراف و علية القوم لا يقرّون له اختيارا لذلك تملكه العجب من هذه المهزلة- فقالوا له: رضى المسلمون به، فقال: لا مانع لما أعطى اللّه، و كأنّه كان جبريّا و من ثمّ اعتقد بأنّ خلافة ولده كانت بقدر من اللّه تعالى و لم يدر أنّها تمّت بالقهر و الغلبة و الحيلة و الغدر، فإن كانت خلافته قدرا من اللّه و هبة منه سبحانه فإنّ ملك معاوية و يزيد و سائر بني أميّة و ملك الأكاسرة و القياصرة بقدر من اللّه كذلك «نعوذ باللّه منه».

قال أبو بكر لأبيه يوما: ترى صلاتنا متعبة مقيمة مقعدة و العجب أنّه لا يرى عمل الصائد بأقدامه الحافية راكضا في صحراء مترامية الأطراف وراء الطيور عملا متعبا و مقيما مقعدا، و يرى الصلاة كذلك، و هي تؤدّى في محلّ واحد!

حكاية: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما بين مكّة و المدينة و قد مرّ على قبر أبي سعيد بن العاص، فقال ابو بكر: لعن اللّه صاحب هذا القبر فإنّه كان يكذّب اللّه و رسوله- و كان ابنه سعيد حاضرا- فقال: بل لعن اللّه أبا قحافة لأنّه لا يقري الضيف و لا يدفع الضيم و لا يقاتل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا سببتم المشركين فعمّوهم بالسبّ و لا تسبّوا الأموات فإنّ سبّهم يغضب الأحياء، و ذكر أصحاب السير و التواريخ أيضا (1).

ص: 42


1- إلى هنا و انتهى الفصل و لم يذكر ما قاله أصحاب السير و التواريخ.

الفصل السابع

اعلم أنّ أبا بكر لم يثبت له قتال في الإسلام و لم ينقل عنه أنّه قتل مشركا واحدا و لم يذكر ذلك أهل المغازي، نعم، قيل أنّه استأذن من رسول اللّه يوم الخندق أن يبارز ولده فلمّا خرج إليه و دنا منه، قال له: ويحك، ما بقي من مالي؟ فقال ابنه: لم يبق إلّا شكّة و يعيبوب و فارس يضرب ضلال الشيب، و اليعبوب اسم فرس.

قال الجاحظ الناصبي اليزيدي في كتابه «العثمانيّة»: إنّ أبا بكر لمّا أسلم أسلم معه أهل بيته كلّهم، و هذا قول باطل بعبد الرحمان ابنه الذي كان كافرا يوم الخندق.

و قيل عنه: أنفق ماله بعد إسلامه و لم يبق منه درهم واحد، و هذه الدعوى الباطلة يكذّبها قوله لولده: «ويحك ما بقي من مالي».

و المشهور عنه و عن صاحبه عمر أنّهما كانا أوّل المنهزمين في وقعة خيبر و حنين.

و كان يخجل من الذهاب إلى ولده ظاهرا ليسأله عن ماله فجاء النبيّ و استأذنه في البراز يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (1) و مع هذا فقد ظهرت الفرحة على بعض المسلمين أنّ فلانا الذي لم يعرف الصحور في الحرب و لم يقاتل بمقدار جناح بعوضة سوف يخرج اليوم للمبارزة فينبغي أن يكتب له حرز عن العيون: «إنّ العين لتدخل الرجل القبر و الجمل القدر» و لمّا علم أبو بكر بما جرى لماله من ابنه رجع من ميدان القتال.

ص: 43


1- البقرة: 9.

الفصل الثامن

يقول المخالفون: إنّ الأصحاب هم الذين نطق القرآن بفضلهم و نوّهت السنّة بهم، و كلّ الذي عليه أهل القبلة من الدين و الديانة و العقيدة وصل إليهم منهم فكيف يجتمعون على الكذب و ينكرون نصّ رسول اللّه مع أنّهم يدركون رفعة مقام عليّ و فاطمة و يقرّون بفضلهما. و أهل السنّة اليوم في مجالسهم و نوادي وعظهم مشغولون بالحديث عن فضلهما و صالح أعمالهما، فكيف يتصوّر على هؤلاء إنكار النصّ فيكفرون من أجل غيرهم؟

الجواب: إذا كانت المناظرة من جهة الأخبار احتاجت إلى التصادق، و إن كانت من جهة العقل احتاجت إلى التناصف، و ما ورد من القرآن و السنّة في فضل الصحابة فإنّهم أولئك الذين لم ينكروا فضل أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا جحدوا فضائلهم و مناقبهم أبدا نظير بني هاشم و أبي ذر و عمّار و غيرهم، لم يأت القرآن و السنّة الموثوق بها بالتخصيص و إنّما أتت بطريق العموم، و وردت مجملة و مع هذا فقد ورد مثله آيات في ارتداد القوم كما سنقصّ عليك زمرة منها.

ثمّ إنّ الصحابة كانوا هم على الشرك و من سلالة مشركين و كان أولاد يعقوب من سلالة الأنبياء و يعرفون مناقب أخيهم يوسف فأرادوا قتله- كما هو مشهور في التاريخ و مذكور في سورة يوسف- من الحسد و العداوة مع أنّهم يعرفون منزلة يوسف و علوّ درجته.

و كذلك فعل قابيل فإنّه لم يقتل أخاه بناءا على الجبلّة الإنسانيّة و الغيرة الأخويّة و إنّما قتله لعلمه بعلوّ رتبته «عند اللّه و عند أبيه آدم».

و كان رسول اللّه في الوهلة الأولى لم يعاده أحد و لكن حين ظهرت بوادر شرفه

ص: 44

و منصبه و جاهه و رفعته حسدوه و ناصبوه العداء و كان في مراحله الأولى ساكتا حتّى إذا وجد المعين و الناصر خرج بالسيف، ثمّ إنّ عدوّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله ظاهروا الشرك، و عدوّ عليّ ظاهروا الصلاح و العدالة، و الشرك و المعصية مقيمان في الباطن منهم فلم يدرك الجهّال حقيقتهم لتستّرهم بقناع الإسلام و كانوا يموّهون على الناس في ظلمهم لأهل البيت بظاهر الشرع و الإسلام فلم يتيسّر لكلّ أحد معرفتهم أو الاطّلاع على حقيقتهم و كان عدوّ محمّد مشركا و عدوّ عليّ منافقا.

لقد كان النمرود و فرعون يرون المعجزات رأي العين فلم يكونوا يجهلون رتبة موسى و إبراهيم، و كان بنو إسرائيل يعرفون منذو البداية ما لزكريّا و عيسى من رفيع الدرجة و علوّ المنزلة و غيرهما من الأنبياء كما جاء في كتب السلف و قد ذكر الماضون أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون في كلّ يوم مائة و اثني عشر نبيّا، و لا تنس أهل العقبة فما كانوا يجهلون فضل رسول اللّه بل عرفوه على حقيقته.

أمّا الشريعة فهي مبنيّة بالقرآن الكريم و إجماع أهل القبلة و نحن شيعة أئمّة أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عرفنا المجمل من القرآن و ما يحتاج إلى تفسير و بيان من أقوال المعصومين من أهل البيت عليهم السّلام و من الصحابة الذين لم يخالفوهم و لم يختلفوا معهم مثل أبي ذر و سلمان و عمّار و أمثالهم من بني هاشم.

و أمّا خصومنا فقد ارتدّوا و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على قيد الحياة و كان و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة يقول: «نفّذوا جيش أسامة» إلى أن قال: لعن اللّه من تخلّف عن جيش أسامة، و قد أخبر اللّه تعالى عن هذا الارتداد بقوله: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ (1) و من الواضح أنّ أولئك الذين تجمهروا في سقيفة بني ساعدة لم يكن اجتماعهم مجرّد صفاء و اتفاق بل كانت المجادلات و المشاحنات بينهم على أشدّها فما أكثر ما تسابّوا

ص: 45


1- آل عمران: 144.

و تشاتموا و تضاربوا بالنعال و كفّر بعضهم البعض الآخر و صدرت أوامر من بعضهم بقتل البعض الآخر و مناديهم ينادي: منّا أمير و منكم أمير، و الذين بايعوا أبا بكر سلّوا السيوف بينهم.

و هؤلاء قوم موسى عرفوا نبوّة موسى و علموا بمناجاته اللّه تعالى و آمنوا بنبوّة هارون و عرفوا قدره و مع ذلك فقد عبدوا العجل و حينئذ تكون حال على حال هؤلاء الأنبياء.

و سؤال السائل مردود عليه بإجماع الصحابة على قتل عثمان و الخصم يزعم لعثمان الفضل و المنازل العالية، و الأصحاب كانوا جميعا حضروا في المدينة، فلم يذكر لأحد منهم مشاركة في الدفاع عن عثمان و ما يقوله الخصم من حجّة في توجيه تصرّفهم نقوله نحن في دفع شبهته لا سيّما على مذهب الخواجة الذي يرى الإيمان عطاءا وهبة و عسى أن يسلب اللّه العبد ما وهبه في خاتمته كما جرى لبلعم بن باعورا و برصيصا الراهب.

و طبقا لما يعتقده القوم في طلحة و الزبير و عائشة و معاوية أنّهم من أعلامهم من العشرة المبشّرة و لكنّهم خرجوا على الخليفة الرابع و بغوا عليه و هو إمام زمانهم فهم بغاة بناءا على مذهب الخصوم، و كفرة بناءا على مذهب الشيعة و قد أحدثوا في الدين أحداثا لا سيّما طلحة و الزبير و معاوية، و أجّحوا نار الفتنة في الدين، و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «أقاتلهم و هم مشركون».

و من المعلوم عند الأمّة أنّ عثمان ارتكب مظالم كثيرة ضدّ المسلمين حتّى قام الإجماع من المهاجرين و الأنصار على استباحة دمه، و قدامة بن مظعون شرب الخمر و أجروا عليه الحدّ فجلدوا ظهره، و زنى المغيرة و شهد عليه الشهود و لكن عمر درأ عنه الحدّ بحيلة واضحة عرفها الخاصّ و العام، و حدّوا حسّان بن ثابت و مسطح بن أثاثة في القذف، و أقرّ النعمان بن بشير على نفسه في حربه مع معاوية

ص: 46

و قال: أبصرت (رشد) نفسي ثمّ تركته و أنّه إن حرم عليّ الجنّة و زيتونها فإنّه يقاتل على الغوطة و زيتونها.

و يقول خصومنا أنّ سعدا بن أبي وقّاص والد عمر لعنه اللّه و محمّدا بن مسلمة و حسّان بن ثابت لم يبايعوا عليّا و بايعه طلحة و الزبير، و أظهر المغيرة الطعن على عليّ عليه السّلام كثيرا و أظهر له العداوة و أغرى عائشة بالخروج عليه و قتاله و قال لها:

تموتين بأجلك و تدخلين الجنّة و نشنع بك على عليّ إن قتلك .. يعني عليّا (1).

و أشهر منه في الخبث و العداوة أبو موسى الأشعري لعنه اللّه الذي خان إمام المسلمين و عزله، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، إنّ الضغائن في أنفس قوم لا يبدونها إلّا بعدي (2).

ص: 47


1- الذي أعهده من هذا الكلام أنّه لعمرو بن العاص و ليس للمغيرة.
2- هذا الحديث روي هكذا: عن أبي عثمان النهدي قوله: أخذ عليّ يحدّثنا إلى أن قال: جذبني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بكى، فقلت: يا رسول اللّه، ما يبكيك؟ قال: ضغائن في صدور قوم لن يبدوها لك إلّا بعدي. فقلت: بسلامة من ديني؟ قال: نعم بسلامة من دينك (علي الشهرستاني، وضوء النبي، 2: 204). و في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا متّ ظهرت لك ضغائن في صدور قوم يتمالئون و يمنعونك حقّك (2: 72). و راجع للحديث بصيغه المختلفة الكتب التالية: كفاية الأثر: 124 و 158، كتاب سليم بن قيس تحقيق الأنصاري: 136 و 305، الإيضاح لفضل بن شاذان: 455، مناقب أمير المؤمنين للكوفي 1: 231 و 232 و 243 و 2: 551؛ المسترشد للطبري الإمامي: 341، شرح الأخبار للقاضي نعمان 2: 464، الاحتجاج 1: 209، الطرائف لابن طاووس: 428، الصراط المستقيم للعاملي 2: 116، وصول الأخيار للبهائي: 68، الصوارم المهرقة: 198، الجمل: 10، كتاب الأربعين: 264، بحار الأنوار 22: 536 و 26: 350 و 31: 343 و 32: 154 و 36: 328 و 337، الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 118، مسند أبي يعلى 1: 427، المعجم الكبير 11: 61، شرح ابن أبي الحديد 4: 107، كنز العمّال 13: 176 الرقم 36523، الكامل في الرجال 7: 173، تاريخ بغداد 12: 394، تاريخ دمشق 42: 322 و 323 و 324، ميزان الاعتدال 4: 480، المناقب للخوارزمي: 65، كشف اليقين للحلّي: 460، جواهر المطالب لابن الدمشقي 1: 230.

و قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ قوما من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال و يذهب بهم إلى النار، فأقول: أصحابي، فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنّهم مشوا القهقرى، فأقول لهم: بعدا و سحقا (1).

و قال: إنّ من أصحابي من لا يراني بعد موتي (2).

و قال أيضا: لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض (3).

ص: 48


1- و أمّا هذا الحديث فقد روي بصيغ مختلفة و إليك الكتب التي أخرجته: الصراط المستقيم 3: 107 و قال: أخرجه البخاري، بحار الأنوار 7: 82 و 28: 22، أجوبة مسائل جار اللّه للسيّد شرف الدين رحمه اللّه: 13، النصّ و الاجتهاد: 525، الغدير للأميني 2: 296، أضواء على الصحيحين للنجمى: 432، دراسات في الحديث و المحدّثين للسيّد هاشم الحسيني: 87. و من كتب العامّة و الجماعة: صحيح البخاري 4: 110 و 5: 192، جزء بقي بن مخلد لابن بشكوال: 149، أضواء على السنّة المحمّديّة لأبي رية: 354، جامع البيان للطبري 27: 220 و 249، تاريخ مدينة دمشق 6: 243 و 245، تهذيب الكمال 28: 406، سير أعلام النبلاء للذهبي 7: 271.
2- الأمالي للصدوق: لا يراني بعد أن يفارقني، مجمع الزوائد 1: 112، مسند ابن راهويه 4: 140، المعجم الكبير 23: 318 و 319، كنز العمّال 11: 197 رقم 31211، النهاية لابن الأثير 1: 154، لسان العرب 14: 83.
3- و هذا الحديث رواه كثير من الشيعة و لكنّنا نتجاوزه من كتبهم إلى كتب الخصوم: المجموع للنووي 14: 230 و 19: 155، المحلّى 11: 399، سبل السلام لابن حجر 2: 214 و قال: أخرجه البخاري، نيل الأوطار للشوكاني 1: 377 و 3: 379 و 381 و 5: 156 و قال: رواه أحمد و البخاري، مسند أحمد 1: 230 و 402 و 2: 85 و 87 و 104 بطريقين .. و 4: 351 و 358 و 366 بطريقين .. و 5: 39 و 44 و 45 و 49 و 68 و 73، سنن الدرامي 2: 69، صحيح البخاري 1: 38 و 2: 191 و 192 و 5: 126 بطريقين .. و 7: 112 و 8: 16 و 36 بطريقين .. و 91 بأربع طرق، صحيح مسلم 1: 58، سنن ابن ماجة 2: 1300، سنن أبي داود 2: 409، سنن الترمذي 3: 329 بطريقين، سنن النسائي 7: 126 بطريقين .. و 127 بطريقين .. و 128 بطريقين، المستدرك للحاكم 1: 93، السنن الكبرى للبيهقي 5: 140 و 6: 92 و 97 و 8: 20، مجمع الزوائد 1: 156 و 3: 266 و 270 و 273 و 4: 172 و 6: 283 بطريقين .. و 284 و 7: 295 بطريقين .. و 296 بطريقين .. و 10: 365، مسند الطيالسي: 92، المصنّف لابن أبي شيبة 8: 602 بطريقين .. و 603، خلق أفعال العباد للبخاري: 79، تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 13، بغية الباحث لابن أبي أسامة: 128 و 245، الآحاد و المثاني للضحّاك 3: 209 و 210 و 302. و راجع: السنن الكبرى للنسائي ج 2 و 3، و مسند أبي يعلى الموصلي ج 3 و 7 و 9 و 12، المنتقى لابن الجارود، صحيح ابن حبّان ج 1 و 13، الحدّ الفاصل للرامهرمزي، المعجم الصغير للطبراني ج 1، و الأوسط ج 4 و 7 و 8، و الكبير ج 2 و 4 و 6 و 8 و 10 و 12 و 22، و مسند الشاميين له أيضا ج 1، أدب الإملاء و الاستملاء للسمعاني، شرح ابن أبي الحديد ج 1، الأذكار النوويّة، رياض الصالحين للنووي أيضا، الجامع الصغير للسيوطي ج 2، كنز العمّال ج 1 و 5 و 11 و 14، تفسير ابن كثير ج 2، شواهد التنزيل للحسكاني ج 2، الدرّ المنثور للسيوطي ج 3، لباب النقول له، المحصول للرازي، الطبقات لابن سعد ج 2 و 3، ضعفاء العقيلي ج 1 و 4، الثقات لابن حبّان، الكامل لابن عدي ج 4 و 7، علل الدارقطني ج 5، تاريخ بغداد ج 8، الإكمال لابن ماكولا ج 1، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 42 و 43 و 44 و 45، الموضوعات لابن الجوزي ج 1، أسد الغابة ج 3، تهذيب الكمال للمزّي ج 21، ميزان الاعتدال ج 1، سير أعلام النبلاء ج 1 و 9 و 4 من له رواية في مسند أحمد، لسان الميزان لابن حجر ج 2، تعجيل المنفعة له، كتاب الفتن للمروزي، البداية و النهاية لابن كثير ج 5، السيرة النبويّة لابن كثير ج 4، لسان العرب لابن منظور ج 5، تاج العروس للزبيدي ج 3، غريب الحديث لابن قتيبة ج 1. كلّ هؤلاء أخرجوا الحديث و أمّا ابن الجوزي في الموضوعات فقد ذكره ضمن أقوال أمير المؤمنين يوم الشورى، و مثل هؤلاء بل أكثر من الشيعة الذين أخرجوا الحديث.

و وقف يوما على الشهداء و قال: أنا الشهيد على هؤلاء، فقال بعض الأصحاب:

و نحن أسلمنا أيضا و جاهدنا معك و رجوه أن يقول فيهم ما قاله في شهداء أحد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي لا أدري ما تفعلون بعدي، و قال في حقّهم تلك اللفظة.

قال أبوذر رحمه اللّه: أصحاب العقبة قوم من أهل النار و إنّي لا آسى عليهم إنّما آسي

ص: 49

على من يضلّ بهم من خلق اللّه تعالى و هم كثير.

و قال: لقد تعاهدوا فيما بينهم أنّه متى توفّى محمّد صلّى اللّه عليه و آله لا ندع أهل بيته ينالون الخلافة من بعده و نزل فيهم قوله تعالى: وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ إلى قوله أَجْمَعِينَ (1).

قال حبيب بن أبي ثابت: قوله تعالى: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ (2) الآية، قال حذيفة: الذين نفّروا ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العقبة لكي تلقيه عن ظهرها و هم يقتلونه إذا بلغوه هم أربعة عشر نفرا: طلحة و الزبير و أبو سفيان و عتبة بن أبي سفيان و أبو الأعور و المغيرة و سعد بن أبي وقّاص و أبو قتادة و عمرو ابن العاص و أبو موسى الأشعري و عبد الرحمان بن عوف و الخلفاء الثلاثة.

قال الواقدي- و هو ناصبيّ-: لمّا طعن عمر بن الخطّاب رفعه عثمان من التراب، فقال عمر: دعني، و قال: ويلي ويلي من النار، الآن لو كانت لي الدنيا لافتديت بها من النار و لم أرها، و رواية الواقدي عن عمر حجّة.

و هذا دليل واضح على علم عمر بكونه من أهل النار و هذا مصداق قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا كان يوم القيامة أرى رجالا يختلجون دوني فيذهب بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ، أصحابي أصحابي، إلى آخر الحديث (3).

و نزل فيهم قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ (4)، فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ (5) و سبب نزول الآية التالية هو أنّ طلحة و الزير

ص: 50


1- النمل: 50 و 51.
2- الفتح: 6.
3- ذكرنا مصادر صيغ الحديث فيما تقدّم و نزيد عليها: كتاب السنّة: 340، مسند أبي يعلى 7: 35، علل الدارقطني 7: 299.
4- التوبة: 74.
5- التوبة: 12.

و الثلاثة راسلوا اليهود أن يجيروهم إذا نزلت الهزيمة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ (1).

و قال عثمان لطلحة يوما- و قد جرى بينهما نزاع-: إنّك لأوّل أصحاب محمّد تزوّج يهوديّة، و نزل فيه: وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (2).

و كان عثمان قد اشترى أرضا من أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ ندم و أراد ردّها عليه فأبى عليّ أن يقبلها و قال: ليس لك أن تردّها فقد بعتك أنا و اشتريت أنت فهلمّ إلى رسول اللّه نحتكم عنده، فقال عثمان: كلّا، بل نذهب إلى قضاة اليهود، فأنزل فيه:

وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (3).

و قال طلحة و عثمان: أينكح محمّد نسائنا و لا ننكح نسائه! إنّ هذا أمر لا يكون، و كان يطمع طلحة بعائشة و عثمان بأمّ سلمة (4) فأنزل اللّه قوله تعالى: وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (5).

و نزل في عبد الرحمان بن عوف قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ إلى قوله: الدُّنْيا قَلِيلٌ (6).

ص: 51


1- المائدة: 51.
2- النور: 47 و 48.
3- النور: 49 و 50.
4- هذا التخرّص من المؤلّف فلم يذكر أحد ذلك عن عثمان و اقتصروا على ذكر طلحة فقط.
5- الأحزاب: 53.
6- النساء: 77.

أذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه في مكّة أن يجلس كلّ واحد منهم إلى جنب مشرك فإذا ظفر المشركون بالمسلمين و قتلوا واحدا منهم فإنّه يقتله مكان أخيه المسلم، و كان عبد الرحمان يتمنّى القتال و يقول للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ليت أنّا أمرنا بالقتال، فلمّا هاجروا إلى المدينة و أوجب اللّه الجهاد كان عبد الرحمان بن عوف يقول: لو تركنا نموت على فراشنا كان أحبّ إلينا.

روى أبو جعفر أنّ فاطمة عليها السّلام ذهبت يوم الأربعاء- و هو اليوم الذي دفن فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- إلى روضته، فقال لها أبو بكر: أصبح و اللّه صباحك صباح السوء، و هذا القول شماتة منه بموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ الأدب يقتضيه أن يقوم بتسليتها و إدخال العزاء على قلبها، و غرضه من هذا القول أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله دفن بقبره في يوم نحس و هذا يدلّ على نحس حاله (نعوذ باللّه من هذا القول).

أمّا ما يقال من أنّ أهل السنّة و الجماعة يذكرون عليّا و فاطمة في بلادهم فهذا صحيح إلّا أنّهم يرونهما دون أبي بكر و عمر و عثمان و عائشة و حفصة، فإذا فاه بمدحهم أحد دون أن يذكر أئمّة القوم أو أنّه مدح الزهراء دون عائشة فإنّه يرمى بالرفض فورا.

و قد وضع بنو أميّة نير العداوة و الكفر على أعناق الأمّة في الشرق و الغرب، و جهدوا في إخفاء مناقب عليّ، و حضروا على أحد ذكره ما دام العالم، و حوّلوا اسم عليّ إلى أبي تراب حتّى يتلاشى اسمه و لقبه من ذاكرة الأمّة، و لكنّ اللّه ردّ كيدهم في نحورهم و لم يتحقّق لهم ما أرادوا بمقتضى قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1).

و لمّا علم أهل الخلاف بأنّ هذا عمل مستحيل عمدوا إلى ذكر مناقبه طوعا

ص: 52


1- التوبة: 33.

و كرها، و كتبها علماؤهم في دفاترهم، و ليس ذلك راجعا إلى سرّ حبّهم أو خلوص اعتقادهم بل بتوفيق من اللّه و تيسير منه سبحانه، قال اللّه تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (1) لأنّ المشركين لا يقدرون على إنكار ذلك.

و حرّف علماء اليهود من التوراة النصّ الخاصّ برسول اللّه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (2).

و إذا كان أبناء الشرك قد غيّروا نصّ رسول اللّه و حرّفوه و أخفوه فإنّ الأدهى من ذلك أنّهم عمدوا إلى مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام فحوّلوها إلى أبي بكر و عمر و عثمان افتراءا منهم على النبيّ، و حشدا للأحاديث الواردة في غيرهم لهم و هم لا يعدلون عند اللّه شيئا.

الفصل التاسع

قال محمّد بن أبي بكر: قال أبي: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي أرى الآن جعفرا في السفينة يجري في البحر، فقلت: يا رسول اللّه، أرنيه أنا، فمسح على عيني فأبصرته، فحدث في قلبي أن قلت: إنّ محمّدا ساحر عظيم.

قال الباقر عليه السّلام: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (3) أي بكلمة الشهادة و نبوّة محمّد وَ الْإِحْسانِ أي ولاية عليّ بن أبي طالب وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى يعني الأئمّة وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يعني أبا بكر و عمر و عثمان، و هؤلاء الثلاثة ظلموا آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ (4) الآية.

ص: 53


1- لقمان: 25، الزمر: 38.
2- النساء: 46.
3- النحل: 90 إلى قوله «و البغي».
4- الفرقان: 27.

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (1).

و الناس في الم* أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2).

و هؤلاء الثلاثة ظالمون، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (3) و هما أبو بكر و عمر.

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (4) و هم المخاطبون بالآية.

و المشهور عن عمر أنّه قال لصاحبه أبي بكر يوم الحديبيّة: أتراه رسول اللّه و هو يردّ المؤمنين، و النبيّ فعل ذلك في حال الضرورة و عمر يردّ عليه.

روى هشام بن حسّان البصري أنّه قال لعمر: لم جعلت الأمر في الخلافة إلى هؤلاء الستّة؟ قال: لأنّي سمعت رسول اللّه يقول: لا أقف يوم القيامة إلّا و يد عليّ ابن أبي طالب في يدي.

و جاء أبو بكر و عمر لعيادة رسول اللّه في مرض موته و كان عليّ حاضرا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يموت حتّى توسعاه غدرا و غيظا ثمّ تجداه صابرا، قال تعالى:

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (5) و هذا هو جواب الخصم الذي يقول: لم لم يقاتل عليّ أهل الشورى لمّا أدخله عمر فيهم؟ نقول: لأنّه فاقد للقدرة و النبيّ أمره بالصبر، و كذلك الحسن صبر و مضى على ما مضى عليه أبوه و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مروّتنا أهل البيت إعطاء من حرمنا و العفو عمّن ظلمنا.

قيل: إنّ الحسن بن عليّ عليه السّلام خرج ذات يوم من بيته ميمّما مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 54


1- الزخرف: 36.
2- العنكبوت: 1 و 2.
3- الآية متكرّرة في سورة الرحمان.
4- يس: 63.
5- فصّلت: 34.

و معه جماعة من أصحابه، فرآه شاميّ في الطريق، فقال: من هذا؟ قيل: الحسن بن عليّ عليه السّلام، قال: هذا الضالّ ابن الضالّ! فقال الحسن عليه السّلام: لعلّك غريب! و لم يردّ عليه شيئا و اتّخذ طريقه إلى المسجد، فأقبل الشامي إلى المسجد و أعاد كلامه على الحسن عليه السّلام، فأحسن إليه الإمام للطفه و كرمه، فخجل الشامي و وقع على يديه و رجليه يقبّلهما، فقال الحسن عليه السّلام: استعملنا فيه أدب اللّه تعالى كما قال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.

ذكر ابن الراوندي عن رجل من حمج (كذا) (و لعلّه مذحج- المترجم) (1) قال:

قدمت المدينة بعد الحرب التي كانت بين أهل العراق و الشام فرأيت رجلا فسألت عنه، فقيل لي: هذا الحسن بن عليّ عليهما السّلام، فحسدت عليّا أن يكون له مثله، فقلت له:

أنت ابن أبي طالب؟ فقال: لا، أنا ابن ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقلت له، شتمته و شتمت أباه، فلم يردّ عليّ خلافا، فلمّا فرغت أقبل عليّ فقال: أظنّك غريبا، فلو استغثتنا أغثناك، و لو سألتنا أعطيناك، و لو استرشدتنا أرشدناك، و لو استحملتنا حملناك.

قال الحمجي: فولّيت عنه و ليس على الأرض أحبّ إليّ منه.

و فيهم نزلت هذه الآية: وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ (2) الآية.

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ (3) «الوالد» رسول اللّه و أنا، «و ما ولد» الحسن و الحسين عليهما السّلام.

و قال: لا يجتمع إمامان إلّا و أحدهما صامت لا ينطق حتّى يهلك الأوّل كالحسن و الحسين ابني عليّ عليهم السّلام.

ص: 55


1- الرواية يرويها السمعاني عن أبي المعافى الرجبي، حيّ من همدان عن صديق له من أهل الشام، و لم يسمّه و لم ينسبه. انظر: الأنساب للسمعاني 3: 47.
2- آل عمران: 134.
3- البلد: 3.

الباب الثالث عشر في حالات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما يتبعه

اعلم أنّ حالته الأولى يوم كان طفلا يتيما في حضن أبي طالب و زوجه فاطمة بنت أسد عليهما السّلام، فقد تكفّلاه، و قاما بشأنه خير قيام، فأنزل اللّه فيه: أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (1) و هذا المأوى و المكان الآمن باتفاق المسلمين كان بيت عليّ عليه السّلام.

الحالة الثانية: أيّام بعثته و تحزّب قريش ضدّه و مبالغته في أذاه و كان مدده عليّ و الحمزة عمّه و أبا طالب أباه عليهم السّلام جميعا، و كان في حمايتهم بعد عناية اللّه به حتّى استظهر بهم.

الحالة الثالثة: خطبته خديجة الكبرى عليها السّلام و قام بهذا العمل الهام عمّه أبو طالب عليه السّلام و هيّأ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله مجال الخطبة و الزواج.

الحالة الرابعة: حصار الشعب، و هنا احتاج النبيّ و من معه إلى مدد عظيم، و قال مخالفونا: كان عليّ عليه السّلام يوم ذاك يعمل في حوائط اليهود فيسقيها ماءا من الآبار و يأخذ الأجرة و يجعلها طعاما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان في حماية أبيه و أعمامه.

ص: 56


1- الضحى: 6.

الحالة الخامسة: يوم الهجرة فقد نزل جبرئيل عليه السّلام على النبيّ و قال: يجمع أربعون شخصا من قريش ليوقعوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فمر عليّا بالنوم على فراشك و بارتداء ردائك، و ليتمثّل بشكلك، و هذا دليل على إمامته من وجوه عدّة جليّة:

الوجه الأوّل: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمره ينام في مكانه في حال غيابه و لم تكن لأبي بكر هذه المنزلة، و بحكم قوله تعالى: وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (1) لا بدّ من أن يقوم عليّ مقامه في غيابه الدائم.

الوجه الثاني الجلي: شبّه عليّ نفسه ليلتئذ برسول اللّه و لم تكن لأبي بكر تلكم المنزلة.

الوجه الثالث: إنّ اللّه تعالى حبى عليّا عليه السّلام الصبر العظيم و قوّة العزم و الصلابة و الجلاد المتناهي الشدّة و هذه هي درجة الأنبياء: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (2) و قال: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا (3).

و كان أبو بكر مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغار بمأمن عظيم و مع ذلك فقد أخبره رسول اللّه بسلامتهم و نجاتهم من القتل و هو خائف مضطرب و قد أمر اللّه العنكبوت فنسجت بيتها على فم الغار و نبت يمامتان عشّهما على فم الغار أيضا بوحي من اللّه تعالى، و كلا الأمرين لم يزيلا الخوف من قلب أبي بكر، فما زال يمزّق الهلع أحشائه و هو يضطرب، فتبيّن أنّ خوفه و اضطرابه ناشئان من عدم ثقته بوعد اللّه و رسوله له، و كان عليّ آمنا لثقته بوعد اللّه له، و كان الخصم و هو أربعون كافرا بأيديهم السلاح على مقربة منه يراهم و يرونه، فلم يطرق له الخوف جوفا، و بين

ص: 57


1- الإسراء: 77.
2- الأحقاف: 35.
3- السجدة: 24.

أبي بكر و العدوّ مسافات بعيدة، إلى أن حمى اللّه عليّا من القتل بما ألقاه في قلوب القرشيّين من الانصراف عن ذلك.

و قيل: إنّ أبا لهب حال بينهم و بينه للرحم فلم يفعلوا. كامل البهائي ج 2 58 الباب الثالث عشر في حالات الرسول صلى الله عليه و آله و ما يتبعه ..... ص : 56

وجه الرابع الجلي: في ساعات الحرب و شنّ الغارات و الغزو اتّفق الرواة و المؤرّخون على أنّ أبا بكر و عمر لم يهزما جيشا و لم يدخلا حربا و إنّما كانوا دائما مثارا للفتنة في الدين بسبب هزائمهم كما حدث ذلك في حنين و خيبر و ذات السلاسل و بدر، و قد نزل في حقّهم: وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (1).

الوجه الخامس الجلي: لم يكن غير عليّ حاضرا تجهيز رسول اللّه سواءا غسله و كفنه و دفنه، فلم يشهد ذلك منهم أحد بل اغتنموها فرصة ذهبيّة و ذهبوا يلاطمون على الحكم و يبرمون عقد السلطان، و على هذا متى عمل أبو بكر للّه؟

و في أيّ موضع نال رضا اللّه؟

بيّنة: أعظم فتح جرى على يد عليّ عليه السّلام في الجهاد هو يوم الأحزاب حتّى قال رسول اللّه فيه: «فضرب» لضربة عليّ يوم الخندق خير من عبادة الثقلين (2).

و يوم خيبر و يوم حنين و يوم أحد و يوم بدر فقد قتل في هذا اليوم يوم بدر

ص: 58


1- القمر: 45.
2- مجمع الفائدة للأردبيلي 3: 216، كتاب الإجارة، الأوّل، للخوئي 1: 243، شرح أصول الكافي للمازندراني 12: 412، الطرائف لابن طاووس: 519، عوالي اللئالي للإحسائي 4: 86، الأربعين للقمّي: 430، بحار الأنوار 39: 2، الغدير للأميني 7: 206، الإمام علي عليه السّلام للرحماني: 339 و له: الإمام علي (فارسي): 369، مواقف الشيعة للأحمدي 3: 123، المناظرات في الإمامة لعبد اللّه الحسن: 501، درر السمط لابن الآبار: 86، موسوعة التاريخ الإسلامي لليوسفي 2: 492، كشف اليقين: 83، وفيات الأئمّة: 12.

سبعون من المشركين قتل عليّ وحده منهم ثلاثين شخصا و شرك الصحابة في الأربعين، قال اللّه تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (1).

و هذه الفضيلة باتفاق المسلمين ليست لغير عليّ عليه السّلام من غير عليّ أولئك الذين يسمّيهم المخالفون العشرة المبشّرة لم يؤذ رسول اللّه و المؤمنين.

ص: 59


1- النساء: 95.

الباب الرابع عشر في الغار و صاحبه

لا فضل لأبي بكر في آية الغار لأنّ إبليسا كان مع نوح في السفينة، و كذلك صاحبته في السفينة السباع و الوحوش و البهائم، و كان الكلب مع أصحاب الكهف في الغار، و امرأة لوط و امرأة نوح صحبتا زوجيهما، و يدعم ذلك قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ* وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (1) و جاء في سورة الكهف: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (2) و على هذا فما هو الفضل في مجرّد الصحبة؟

و لقد عدوت و صاحبي وحشيّةتحت الرداء بصيرة بالمشرف

و لقد دعوت الوحش فيه و صاحبي محض القوائم من هجان هيكل الصاحب هنا: الفرس.

و أمّا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا (3) فأيّ فضل فيها للرجل و اللّه تعالى مع البرّ

ص: 60


1- عبس: 34- 36.
2- الكهف: 37.
3- التوبة: 40.

و الفاجر كما قال تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ (1) فتبيّن أنّ هذه الآية إِنَّ اللَّهَ مَعَنا لا فضل فيها.

و أمّا قوله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ (2) فإنّها عائدة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بوجوه:

الوجه الأوّل: بدليل عطف الملائكة على الجملة و من الواضح البيّن أنّ الملائكة تتنزّل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا على أبي بكر.

الوجه الثاني: جاء في الحديث أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا، فقد فرّ الأصحاب يوم حنين إلّا سبعة من بني هاشم: الأوّل العبّاس الذي أخذ بلجام البغلة، و خمسة من المقاتلين الذين شهروا سلاحهم بين يدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تقدّموا بين يديه يحمونه من الرماة، و كان أمير المؤمنين في القلب، فمرّة يحمل على القوم يقاتلهم من كلّ جانب و يحمل عليهم و يهزمهم ليحمي بيضة الإسلام و يخلّص رسول اللّه من بين المشركين، فقصّ اللّه قصّتهم فقال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) و المؤمنون هم عليّ و الأشخاص السبعة من بني هاشم، و هنا يظهر جليّا أنّ السكينة نزلت عليهم و على رسول اللّه، و كان عليّ كلّما هزم فوجا من المشركين تجمهروا مع أصحابهم و تقوّوا بهم فأمدّ اللّه رسوله بالمعجزة و هم الملائكة الذين قاتلوا معه بنصّ القرآن الكريم، و ضاقت الأرض بما رحبت على أبي بكر و عمر حيث سلّموا رسول اللّه في هذا الموضع المخيف للعدوّ و هربوا لا يلوون على شي ء.

ص: 61


1- المجادلة: 7.
2- التوبة: 40.
3- التوبة: 25- 26.

و لو سلّمنا بنزول السكينة على أبي بكر فليس فيها مدح له حيث أنّه لم يكن واثقا بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يصدّقه بما قال، و كان ينوي الصراخ من شدّة خوفه في الغار لكي يسمع طالبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه السكينة عليه حماية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا كان حزنه خطأ كان معصية للّه لأنّ النبيّ لا ينهى عن الطاعة بل عن المعصية.

و في صورة جواز الخطأ لو قال الخصم أنّ اللّه خاطب موسى بقوله: أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ (1) فإنّنا نقول في جوابه: الخصم يجيز صغائر الذنوب على الأنبياء و بعض المجبّرة يجيزون حتّى الكبيرة، و بناءا على مذهبهم فإنّ اللّه منع عن المعصية و هم لا يجيزون ذلك، أمّا على مذهبنا فإنّ مؤلّف هذا الكتاب يقول: إنّ المعنى يشير إلى أنّ القضيّة وقعت على وجه الإعجاز و الغيب و ما تحقّق في العصا و اليد البيضاء إشارة إلى أنّها من تدبير اللّه تعالى لا من فعل الشيطان أو الخيال، آمنك اللّه.

و في مذهبنا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يصطحبه معه اختيارا و إنّما خرج بمهجته الشريفة و رآه قادما في الطريق فاصطحبه معه لئلّا يشي به، و لقد قال المتنبّي:

* و يستصحب الإنسان من لا يلائمه*

لأنّه لو تخلّى عنه و تركه ينساب كالأرقط حيث يقصد لأخبر المشركين عنه و صار سببا للقبض عليه، لأنّه كما يزعم أنصاره صدّيق و الصدّيق كيف يكذب، فلو سأله أحد: أين خلّفت النبيّ لدلّ على مكانه و صار سببا لهلاكه.

و العجب من القوم أنّه مع وجود هذي العيوب تراهم يتباهون بيوم الغار و لا يذكرون عليّا الباذل لمجهته في سبيل اللّه و البائت على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى نزل فيه قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ (2).

ص: 62


1- القصص: 31.
2- البقرة: 207.

يقول السيّد المرتضى علم الهدى: و كما أنّ إسماعيل استسلم لذبح إبراهيم الخليل فقد استسلم عليّ لسيوف المشركين، مع أنّ العادت جرت بعلم الولد برحمة أبيه إيّاه فلن يقتله لا سيّما إذا كان هذا الأب نبيّا و له رتبة الخلّة مع ثقته بأنّه لم يجن ذنبا و لم يقترف إثما يستحقّ عليه القتل. و عدوّ أمير المؤمنين المشركون و الكافرون و هم غلاظ شداد لا دين لهم و لا اعتقاد، و يرون النبيّ و الوصيّ يستحقّان القتل بسبّهما لآلهتهم، لا سيّما عليّ و قد أثار حميّتهم الجاهليّة لمكره بهم و تغريره لهم، و تقويته النبيّ الذي أفلت من أيديهم.

قال السيّد المرتضى رحمه اللّه: فقام عليّ عليه السّلام يجالدهم و قد ظهر عليهم و أخذ يضربهم بكلّ قوّته و هم يضربونه حتّى نجى من شرّهم، إذن فالإمام عليه السّلام قام بأمرين عظيمين: فدى رسول اللّه بنفسه، و قام مقامه في الرقاد على فراشه، و كان الإمام يردّد ذلك متباهيا به:

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى و من طاف بالبيت العتيق و بالحجر

رسول إله الخلق قد مكروا به فنجّاه ذو الطول الكريم من المكر

فبتّ أراعيهم و ما يثبتونني و قد وطّنت نفسي على القتل و الأسر و قال أبو بكر في معنى هجرته أبياتا ذكر هنّ أبو إسحاق في كتاب السير من تأليفاته:

فلمّا ولجت الغار قال محمّدأمنت فثق في كلّ ممس و مدلج

بربّك إنّ اللّه ثالثنا الذي وثقنا به في كلّ مثوى و مفرج

و لا تحزنن فالحزن لا شكّ فتنةو إثم على ذي اللهجة المتحرّج (1)

ص: 63


1- الصراط المستقيم 3: 139. و مدلج- بضمّ الميم- قبيلة من كنانة و منهم القافة و أبو دليجة كنية .. و لم نعثر على الأبيات إلّا في الصراط المستقيم و نقلناها منه لأنّ أبيات المؤلّف مغلوطة غلطا يغيّر المعنى.

فقد شهد على نفسه في شعره أنّ النبيّ جعل حزنه فتنة و هي أكبر من القتل و لم يصدّقه عليه.

الثاني: ظهر أنّ حزنه فتنة و هي إثم و خطيئة عظمى فتبيّن أن لا فخر له في هذه الآية مع أنّ النبيّ قال: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (1) و الشيطان ذلك الملعون و الإنسان هو المكرّم وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ (2) و العجيب من أمرهم أنّهم يرون آية الغار أشرف آية في القرآن و نسوا الآية التي نزلت في أمير المؤمنين يوم بات على فراش رسول اللّه و هي قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ (3) لبغضهم الشديد و عداوتهم له و لأولاده الطاهرين.

و آية الختم التي أعطاه فيها الولاية و هي قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ .. (4) و آية المباهلة التي جعل اللّه فيها عليّا نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما قال:

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ إلى قوله: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ (5) و سورة هل أتى التي أظهر اللّه فيها صفاته و صفات أهل بيته بالوفاء و السخاء و الصبر و الشكر و الخوف و الإخلاص و الإسلام و الإيمان كما عبّر عن عميق اعتقادهم الثابت الوطيد.

و هم يعلمون أنّه ما من آية في القرآن و فيها «يا أيّها الذين آمنوا» إلّا و لعليّ عليه السّلام نصيب فيها بل سيّدهم و رئيسهم.

ص: 64


1- نيل الأوطار 6: 367 و 368 عن أحمد و الترمذي، فقه السنّة للسيّد سابق 1: 464، مسند أحمد 3: 156 و 285 و 309 و 6: 337، سنن الدارمي 2: 320 بطريقين، صحيح البخاري 2: 258 و 259 و 4: 93 و 8: 114، صحيح مسلم 7: 8 بطريقين، سنن ابن ماجة 1: 566، سنن أبي داود 1: 552 و 2: 417 و 476، سنن الترمذي 2: 319، مجمع الزوائد 10: 222 و كتب أخرى كثيرة و لا أرى وجها لذكره هنا إلّا أن يشير المؤلّف إلى قول أبي بكر: إنّ لي شيطانا .. الخ، و لكن من دون تمهيد.
2- الإسراء: 70.
3- البقرة: 207.
4- المائدة: 55.
5- آل عمران: 61.

و لا يذكر الجهاد و المجاهدين إلّا وجدت عليّا في الطليعة.

و لا يذكر الصالحون في القرآن إلّا و عليّ منهم.

و لا تذكر عبادة فيه إلّا و عليّ القائم بها على أنّه انفرد بآيات لم يشركه فيها أحد كآية الخاتم و آية المباهلة و آية الغدير و آية المناجات، و لكن منعهم من إظهار ذلك شديد عداوتهم له و لأهل بيته.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة الإخلاص ثلاث مرّات فكأنّما قرأ جميع القرآن (1)، و قال في فاتحة الكتاب: كلّ صلاة بغير الفاتحة خداج (2).

و غير هذه الآيات، فقد جاء بفضلها أحاديث كثيرة و نوّهت هذه الأحاديث بعلوّ شأن الكثير من الآيات و السور و كثرة ثواب قارئها، فلم يذكروا شيئا من ذلك و لكن لآية الغار شأنا عندهم فهي يرونها أشرف آيات الكتاب (3).

و قالوا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اصطحبه ليأنس به، حاشا للّه و لرسوله أن يفعل ذلك بل أخذه معه خوفا من وشايته و لئلّا تكون نفس رسول اللّه في خطر، و إلّا فمؤنس النبيّ الملائكة و الوحي الإلهي (4).

ص: 65


1- المبسوط للسرخسي 30: 311.
2- المسائل الصاغانيّة للمفيد: 119، الناصريّات للمرتضى: 219، الرسالة السعديّة للحلّي: 102، ذخيرة المعاد للسبزواري 2: 272، كشف اللثام للفاضل الهندي 1: 216، الحدائق الناضرة للبحراني 8: 94 و 400، كتاب الأمّ للشافعي 1: 129، المجموع للنووي 3: 328، موطّا مالك (لعنه اللّه) 1: 84، المدوّنة الكبرى 1: 68 له أيضا، تنوير الحوالك للسيوطي: 105، الجوهر النقي للمارديني 2: 159، المغني لابن قدامة 1: 601.
3- أقول لشيخنا المؤلّف رحمه اللّه: بغضنا لأبي بكر لعنه اللّه لا يحملنا على معاداة كتاب اللّه نعوذ باللّه من هذه الوسوسات الباطلة.
4- أقول: ماذا في هجرته من الفضل حتّى يبذل المؤلّف هذا الجهد في التقليل من شأنها، و يكفي أن نقول فيها: و لا بدّ للصيّاد من صحبة الكلب.

مسألة: يقول الشيعة: يكفي في الدلالة على إمامة أمير المؤمنين آية الغدير و لكنّ جلّ المخالفين لا كلّهم يقولون أنّها نزلت في زيد بن حارثة.

و لكن هؤلاء الجهّال نسوا بأنّ زيدا بن حارثة استشهد في مؤتة قبل نزولها بمدّة طويلة و نزلت آية الغدير: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (1) في حجّة الوداع و هي ختام رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قال أبو بكر بن مردويه المحدّث و المفسّر الأصفهاني في كتاب المناقب: كان بين نزول آية الغدير و موت النبيّ مائة يوم لا زائد و لا ناقص مع أنّه علّق على الآية قائلا: في هذه الآية جمع قوله تعالى في «ما بلّغت» الرسالة كلّها فينبغي أن يكون ما يقابلها مثلها و هي الإمامة و حفظ الشرع و ضبط الدين على طريقة العموم.

مسألة: إمامة عليّ عليه السّلام ثبتت بالنصّ من قبل اللّه و رسوله كالنصّ على الصلاة و الزكاة و الصيام إلّا أنّ في هذا الواجبات لم يحدث خلاف و لكن حدث الخلاف هنا من أجل الخلافة فقد للناس رغباتهم فيها و ميولهم الخاصّة من ثمّ حدث الاختلاف و ليس بسبب أمر آخر.

سؤال: يقولون بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم ينصّ على أحد رحمة بالأمّة لئلّا تخالفه فتكفر:

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (2).

الجواب: إنّ رحمة اللّه بالخلق أكثر من رحمة رسوله و مع هذا فقد أرسل رسلا و أنبياء

ص: 66


1- المائدة: 67.
2- التوبة: 128.

فكفر أكثر الناس بمخالفتهم و كذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعا الناس إلى الشرائع مع علمه بأنّ أكثر الخلق لا يعملون بها كما هو الظاهر من تركهم الصلاة و الصيام.

مسألة: و رووا أنّه: كلّ ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن، و ما رأوه قبيحا فهو عند اللّه قبيح (1).

الجواب: و مراده الإجماع على إمامة أبي بكر و هذا باطل لأنّ أمير المؤمنين و جماعة بني هاشم و طائفة من أكابر الصحابة لم يقبلوها بل قبّحوها و كذلك الشيعة في الشرق و الغرب فكيف تتمّ هذه الدعوى بأنّ المسلمين جميعا رضوا بها و حسّنوها.

مسألة: و قالوا بأنّ رسول اللّه قال: لا تجتمع أمّتي على ضلالة (2) فلا تجهل الأمّة الفرض

ص: 67


1- المبسوط للسرخسي 12: 45 و 138 و 15: 160، مسند أحمد 1: 379، المستدرك للحاكم النيسابوري 3: 78، مجمع الزوائد 1: 177، مسند الطيالسي: 33، المعجم الأوسط 4: 58، المعجم الكبير 9: 113، شرح ابن أبي الحديد 6: 39 و 8: 123 و 12: 86، نصب الراية للزيلعي 1: 20 و 5: 288 بطريقين، كنز العمّال 12: 485 رقم 35590، تذكرة الموضوعات للفتني: 91 و قال: موقوف حسن على ابن مسعود، و قد رفعه ابن أبي الحديد و الزيلعي أيضا، فيض القدير 5: 577، كشف الخفاء 1: 169 مرفوعا عن ابن مسعود و 2: 188 و قال: رواه أحمد في كتاب السنّة و ليس في مسنده لعلّه يريد رواه مرفوعا، أمّا المسند فقد ورد الحديث فيه عن ابن مسعود، تفسير ابن كثير 2: 180، الدرّ المنثور للسيوطي 3: 44، الأحكام لابن حزم 6: 759، المستصفى للغزالي: 172 رفعه، المحصول للرازي 2: 79 رفعه و 3: 220 مرفوع أيضا و 4: 80 و 98 و 5: 118 و 247 و 326 و 398، الأحكام للآمدي 1: 219 و 4: 156 و 159 بطريقين و 240 كلّ ذلك رفعه، علل الدارقطني 5: 66، تاريخ بغداد 4: 387 و الحديث في الأصحاب عنده و قد رفعه، تاريخ مدينة دمشق 30: 294 بطريقين، البداية و النهاية 10: 361، سبل الهدى و الرشاد 10: 277.
2- المبسوط 12: 138، بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني 5: 3 و 6: 58، كشف القناع للبهيوتي 5:9، مسند أحمد 1: 396، سنن الدارمي 1: 29، سنن ابن ماجة 2: 1303، سنن الترمذي 3: 315، المستدرك 1: 115 في طرق كثيرة، مجمع الزوائد 1: 177.

و السنّة لكي تجتمع على الخطأ.

الجواب: الإمامة عندهم لا هي بالفرض و لا بالسنّة فاجتماع الأمّة لا يعدّ خطأ لأنّ الخطأ في الفرض و السنّة هكذا يقولون، أو أن يكون الحديث خبرا بمعنى النهي كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِ (1).

أو أنّ الإمامة ليست عامّة و إنّما هي خاصّة بأهل البيت عليهم السّلام، و لو كانت عامّة فإنّ الاجتماع عليها لم يكن عامّا لأنّ أهل البيت و بني هاشم و الخزرج شيعتهم لم يجتمعوا عليها أو أنّ عين «لا تجتمع» ساكنة و الراوي نطقها بالضمّ عفوا أو أنّه لا يعرف علم الإعراب و عنده أنّ معنى السكون في العين و الحركة واحد من ثمّ ارتكب الخطأ المنهيّ عنه شأنه شأن النواهي الأخرى (2).

مسألة: لا يجب على عليّ عليه السّلام الإعلان عن إمامته لأنّ الإمام عليه السّلام كالبحر أو كالكعبة يأتيه الناس لا أنّه يأتي الناس، و كان على اللّه أن ينصب الإمام كما قال لإبراهيم عليه و على نبيّنا و آله السلام: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (3) فأوكل أمر الإمامة إلى نفسه سبحانه و أبان عن صفة الإمام من كونه غير ظالم، و المخطئ ظالم أي مرتكب الخطيئة، و من يجوز عليه ارتكابها لا سيّما المشرك و عابد الوثن.

ص: 68


1- البقرة: 197.
2- يريد المؤلّف أنّ «لا» هنا ناهية و ليست للنفي و لا الناهية تجزم الفعل المضارع و علامته السكون.
3- البقرة: 124.

قال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ (1)، و قال: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً إنّ اللّه تعالى أوكل أمر الإمامة و الخلافة إلى نفسه، و أهل السنّة و الجماعة يردّون عليه حين يجعلونها موكولة إلى خلقه، ألا يرون أنّ الخلافة من آدم إلى الخاتم لم تكن موكولة إلّا إلى اللّه تعالى، و لا اختيار للناس فيها بل هي بمشيئة اللّه و إرادته وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (2) و هي سنّة بالغة.

مسألة: و قالوا: لو كان القوم على غير الهدى لنازعهم عليّ عليه السّلام و منعهم من ذلك، و هذا أمر منفيّ، و لا يعلّل النفي، و لا يكون العدم علّة.

الثاني: صالح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عام الحديبيّة بآية: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (3) و الصلح يحسن في حال عدم الناصر و العون و انقطاع المدد، و لكنّه حارب عندما تبدّلت الحال بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (4) و كذلك الإمام عليّ عليه السّلام فقد سالم مع فقدان الناصر، و لمّا ثبت كونه إماما منصوصا عليه من اللّه و رسوله فالإنكار على ما فعل أو ما ترك إنكار على اللّه و رسوله و هو كفر محض.

و من عجائبهم أنهم يروون عن رسول اللّه: من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار (5) و كذلك رووا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من عصى اللّه بمعصية؛ صغرت

ص: 69


1- ص: 26.
2- الإسراء: 77.
3- الحجر: 85.
4- التوبة: 5.
5- المحلّى لابن حزم 9: 111، سبل السلام لابن حجر 3: 223، نيل الأوطار 8: 85، ذخائر العقبى: 76، مسند الشافعي: 239 باختلاف في ألفاظ الحديث، مسند أحمد 1: 47 و 78 و 130 و 165 و 167 و 293 و 323 و 401 و 402 و 405 و 454 و 2: 413 و 519، و مثله الجزء الثالث و الرابع و الخامس فقد أخرجه فيها بعدّة طرق، صحيح البخاري 1: 35 بثلاثه طرق .. و 2: 81، صحيح مسلم 1: 8، و الحديث متواتر و لم يبق حافظ أو صاحب دراية إلّا أخرجه سوى النزر اليسير منهم و قد تلقّته الأمّة بالقبول و أجمعت على صحّته.

أم كبرت ثمّ اتّخذها دينا و مضى مصرّا عليها فهو مخلّد بين أطباق الجحيم (1)، و مع هذا فقد اتفقوا على أنّ أبا بكر لم يكن خليفة رسول اللّه، و إنّما كانت إمامته بالبيعة و اختيار الأمّة و إلّا لكان قوله: «أقيلوني» كفرا و لم يقل رضيت لكم أحد هذين الرجلين: أبي عبيدة أو عمر، و هم يسمّونه و الحال هذه خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يستخلفه النبيّ باعترافهم، و فتحوا له بسبب هذا الافتراء بابا على جهنّم، و هم يقولون: مات رسول اللّه و لم يستخلف، و مثلهم كمثل الذي اشترى مملوكا و بعد شرائه صار حاكما عليه فهم الذين اختاروا أبا بكر و بايعوه بأيديهم فينبغي أن يكون الحكم لهم عليه لكن انعكست الآية فصار حاكما عليهم.

و العجيب في الأمر أنّه خليفتهم و لكن نسبوه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، من أجل تخدير العامّة لئلّا يطعنوا عليهم عداوة منهم لآل البيت و مع ذلك يأبون اعتباره حاكما فإذا غضبوا عليه عزلوه كما فعلوا بعثمان و يقولون عنه: إنّ الإمام وكيل عن المسلمين ما داموا رضاين بوكالته فإذا لم يرضهم نحّوه عن وكالته.

و لا يقولون ولاية عباد اللّه بيد اللّه سبحانه و هو أولى بالتصرّف في ملكه و أعلم بما يصلح عباده و لا يعلمون أنّ التصرّف بملك الغير بدون إذنه لا يستساغ، و كذلك التصرّف في عبيده تصرّف بغير إذنه و لا ترخيص منه، و من فعل لك فهو غاصب و ضامن و آثم.

قال اللّه تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ (2) و يقرؤون هذه الآية:

ص: 70


1- حياة الإمام الرضا عليه السّلام للقرشي 2: 272.
2- الأنعام: 12.

فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (1) و من الواضح أنّ الخليفة الذي لم ينصبه النبيّ و إنّما اختاره جماعة من الأمّة فينبغي أن يكون على باطل.

سؤال: و أقوى حجّة قال بها القوم: إنّ النبيّ لو كان نصّ على عليّ عليه السّلام لما خالفته الأمّة برمّتها.

الجواب: و ما أكثر النصوص التي خالفتها الأمّة خلافا من بعد خلاف، ثمّ إنّ موسى استخلف أخاه هارون كما نطق بذلك كتاب اللّه وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي (2) و كان موسى ترجى عودته بعد استخلافه أخاه و كان هارون عذب الحديث، فصيحا، مدرها، و القوم عبدوا العجل مع وجود هذين النبيّين بين أظهرهم فلا عجب من ترك أمّة نبيّ لا ترجى عودته خليفته و الميل إلى السامري و عجله، و هناك: عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ (3) أي أنّه صنع أيديهم و ليس فيه إلّا خروج الصوت منه على غير ما جرت به العادة و هنا «عجلا جسدا له كلام» و هناك سامريّ واحد قام بالالمر و هنا مائة سامريّ.

اعلم بأنّ عليّا عليه السّلام جاهد في سبيل اللّه بين يدي رسول اللّه فلم يترك بيتا ليس فيه واعية على واحد أو اثنين قتلهم عليّ بسيفه من ثمّ قاموا ضدّه انتقاما لقتلاهم و خالفوا النصّ مع أنّ النصّ هنا منقول شفاها و لا يحتاج إلّا إلى دقّة النظر و في مسألة موسى و هارون خالفوا العقل و النقل و ردّوا نبوّة النبيّ و تركوا أقواله و كان

ص: 71


1- يونس: 32.
2- الأعراف: 142.
3- الأعراف: 148.

النبيّان يومئذ حيّين و مع وجود هذه الحجج المتعدّدة فقد ارتدّ قوم موسى و لم يستحل ذلك عليهم فيكون ارتداد قوم لا يرون إلّا حجّة واحدة من طريق أولى.

مسألة: يقول المخالفون: لو كان النصّ على عليّ متواترا لكان العلم به ضروريّا لكلّ سامع كالصوم و الصلاة، و هذا باطل إذ لم يحصل به العلم الضروري.

الجواب: اعلم بأنّ منكري نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقولون: لو كانت معجزات محمّد متواترة لحصل العلم بها من السامع بالضرورة و ليست كذلك هي، و قالوا: و هي و إن صارت اليوم متواترة لكنّها لم تستو أطرافها فقد رواها في أوّل وقوعها فئة قليلة من الناس.

الجواب: و هذا نفس ما يقوله اليهود و النصارى أنّ معجزات النبيّ و إن تواترت اليوم إلّا أنّ رواتها فئة قليلة في أوّل وهلة، و جوابهم جوابنا لأنّ شبهة القوم واحدة.

مسألة: و قالوا: لماذا خصّ عليّ بالنصّ دون غيره؟

الجواب: و هذا الكلام باطل و منقوض بالأنبياء، فإنّ تخصيص محمّد بالرسالة كتخصيص عليّ بالولاية، فبماذا امتازا عن سائر خلق اللّه تعالى وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ (1) إنّ النبوّة و الإمامة فضل من اللّه و منّة منه على عباده يؤتيها من يشاء و اللّه أعلم.

ص: 72


1- البقرة: 105.

الباب الخامس عشر في اختيار الإمام

أجمعت الأمّة على أنّ النبيّ لم يعهد إلى أحد اختيار رئيس أو أمير من أمرائه بل كان يتولّى ذلك بنفسه فيرسلهم إلى المدائن و على القبائل، فهو الذي يجيّش الجيوش و يختار الأمراء، كما اختار جعفرا قائدا حين بعث سريّة إلى مؤتة، و قال:

إن قتل فأميركم زيد بن حارثة، فإن قتل فأميركم عبد اللّه بن رواحة، فكيف يسوغ عدم نصبه إماما بعد موته و يترك الأمّة هملا؟

ثمّ إنّ رحمته بالأمّة كرحمة الوالد بولده كما قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّما أنا لكم كالوالد (1)، و جاء في القرآن الكريم: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (2) و على هذا فكيف يترك أمّته بمضيعة دون أن يقيم عليها إماما بعد موته مع شديد عنايته بها و حبّه لها و مع حكمته و رأيه الوثيق؟

و هو بالضرورة أعلم بمن يليق لهذا المنصب بواسطة الوحي، و يصلح به أمر

ص: 73


1- الغدير للأميني 7: 242 نقلا عن تفسير الخازن 3: 314، تفسير النسفي في هامش الخازن 3: 314، كنز العمّال 9: 512 رقم 27208، الكامل لابن عدي 6: 465.
2- التوبة: 128.

الأمّة، و تنتظم شئون حياتها، و هو مؤهّل لحمل هذا العبأ الباهض، هذا مع علمه بما يجري في الأمّة من النزاع و الاختلاف لا سيّما و قد أخبر الأمّة بذلك حين قال:

ستفترق أمّتي على ثلاث و سبعين فرقة و الناجية منها واحدة (1)، فلو لم يبيّن موقع النجاة لعدّ مقصّرا و حاشاه من ذلك في أمر الدين، و تكون آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (2) كذبا، و فساد هذا الاعتقاد لا يخفى على العقلاء.

فتبيّن ممّا تقدّم وجوب نصب الإمام على النبيّ لئلّا يقع الفساد الذي وقع، و أخبر عنه قبل وقوعه، و من قال: الإمام منصوص عليه، حصر الإمامة في عليّ و أولاده الأحد عشر إلى قائم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

مسألة: و قالوا: ليس على الأمّة تنفيذ الأحكام الدينيّة من إقامة الحدود و تجهيز الفيالق و الجيوش لكنّهم يختارون واحدا منهم يكون ذلك بعهدته.

و العجب أنّ الإمام واحد منهم، و حكم عدم الجواز يشمله فمن أين أتته الرخصة في تنفيذ الأحكام؟ أمن اختيار الأمّة له؟ و هو غير جائز.

مسألة: و قالوا: يبقى عمل الأمّة و تنفيذ الشرع معطّلا حتّى يختار أهل الحلّ و العقد إماما

ص: 74


1- روى هذا الحديث غير الشيعة: أحمد في المسند 2: 332، سنن ابن ماجة 2: 1321 و 1322، سنن أبي داود 2: 390، سنن الترمذي 4: 134، المستدرك للحاكم 1: 6 و 128 بطريقين، و قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه، سنن البيهقي 1: 208 بطريقين، مجمع الزوائد 1: 189 و 7: 323، المذكّر و المؤنّث لابن أبي عاصم: 86، و كتاب السنّة له: 7 و 32 و 33 و 35، مسند أبي يعلى 10: 317 و 382 و 502، صحيح ابن حبّان 14: 140 و 15: 125،، المعجم الصغير 1: 256، الأوسط 5: 137، الكبير 8: 273 و 18: 51 و 70.
2- المائدة: 3.

لهم، و قالوا: فإذا اختير في كلّ بلاد واحدا لا يبقى أمر الشرع معطّلا و لا مضطرب حبل الدين حتّى يختاروا واحدا من هذا المجموع ثمّ يعملون برأيه.

عجبا، إذا كان ذلك صحيحا و سائغا فما بال أصحاب السقيفة لم يصبروا حتّى يفرغ بنو هاشم من عزاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلّهم يشاركون في الاختيار و يدلّون برأيهم كغيرهم و هم أولى من غيرهم بهذا الاقتراع لو تحقّق بينما سارع القوم إلى خوض غمار هذه اللعبة بلا تمهّل أو انتظار، و لم يظهر على الأمّة أيّة أعراض لفتنة مقبلة أو إحداث شغب أو خصومة لكي يجعلوا ذلك ذريعة لأعمالهم المرتجلة أو يقولوا إنّا عجّلنا لإطفاء نائرة الفتنة.

فظهر أنّ الغرض الوحيد من هذه المسارعة هو اهتبال الفتنة قبل فراغ بني هاشم كي لا تتغيّر الأحداث و تتبدّل وجوهها، فقد لا يرضى بنو هاشم إلّا باستخلافهم دون من عداهم و حينئذ تفلت الدنيا من أيدي أركان السقيفة، و أخيرا اعترف عمر بن الخطّاب بهذا الأمر الذي دلّت عليه قرائن الحال و المقال بقوله: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها؛ فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ... (1).

و أعجب من هذا كلّه قوله: إنّ اختيار الإمام بيد علماء الأمّة فإنّ اختيار أبي بكر

ص: 75


1- الاقتصاد للطوسي: 208، السقيفة و فدك للجوهري: 46 و نسب القول لأبي بكر بقوله: كانت بيعتي، مسند أحمد 1: 55، صحيح البخاري 8: 25 و 26، مجمع الزوائد 6: 5 قال ابن حجر: و الفلتة ما يعمل بغير رويّة، مقدّمة فتح الباري: 164، المصنّف لعبد الرزّاق 5: 441 و 445، مصنّف ابن أبي شيبة 7: 615 و 8: 570، سنن النسائي 4: 272 و 273، صحيح ابن حبّان 2: 148 و 155 و 157 بطريقين و عقّب الثاني بقوله: يريد أنّ بيعة أبي بكر كابتدائها من غير ملأ، الخ، الفائق للزمخشري 3: 50، شرح ابن أبي الحديد 2: 23 و 6: 47 و نسبها لأبي بكر .. و 9: 31 و 13: 224، كنز العمّال 5: 649 رقم 14137.

من أبي عبيدة، و عمر من أبي بكر، و عثمان من عبد الرحمان بن عوف، و ليس أحد من العلماء كان حاضرا يوم ذاك، فهل حصلت شروط الاختيار هنا؟

و الأعجب من هذا أنّ الرجل في حياة النبيّ لم يكن ليستحقّ الصلاة في الناس جماعة، و لم تكن له أهليّة تبليغ آية من سورة برائة لأهل الموسم و قد عزله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كلا الحالين فكيف استحقّ بعد رسول اللّه إمامة الناس أجمعين؟ ما أشدّ وقاحة القوم!

مسألة: و زعموا أنّ رسول اللّه قال: اختاروا وليّكم فإنّهم وفودكم إلى اللّه (1)، و كذلك قال: يؤمّكم أقرأكم، فقالوا: إن كانوا في القرائة سواء؟ قال: فأفقههم (2).

و بهذه الرواية التي رووها يعلمون بأنّ عليّا كان حافظا للقرآن و لم يكن أبو بكر كذلك، و عليّ أفقه منه في العلوم الدينيّة و حلّ المشاكل و كان مفتي الصحابة و معهذا فقد قدّموا أبا بكر لإمامة الصلاة و غيرها نقضا للحديث المروي عنهم.

و يعلمون أنّ النبيّ سدّ جميع الأبواب الشارعة في المسجد إلّا باب عليّ عليه السّلام (3)،

ص: 76


1- عثرت على رواية ذكرها أبو الفتح الكراجكي رحمه اللّه: «و إنّ أئمّتكم وفودكم إلى اللّه فانظروا من توفدون في دينكم» (ص 152) أمّا الرواية التي ذكرها المؤلّف فلم أعثر عليها في مصدر و تركتها على حالها.
2- عثرت عليها عند الشيعة و في السياق اختلاف في صياغة الحديث و المعنى واحد: تذكرة الفقهاء للحلّي 1: 179 و عزاه رحمه اللّه إلى ابن سيرين و الثوري و أحمد و إسحاق و أصحاب الرأي و ابن المنذر، الشهيد الأوّل في الذكرى: 272، مجمع الفائدة 3: 252 و سمّاه طريق العامّة، مصباح الفقيه ج 2 ق 2 ص 681 و 682، التعجّب للكراجكي: 10، الغدير للأميني 10: 53. و الظاهر أنّ الرواية عامية و فيها إضافات و في قبالها رواية شيعيّة في معناها.
3- عثرت على هذا الكلام المتقدّم في كتاب التعجّب لأبي الفتح الكراجكي (ص 11 طبع سنة 1411 ثانية في مكتبة المصطفوي بقم) و أنا أنقله هنا لتعتاض به عن الترجمة، قال: و من عجيب أمرهم أنّهم يعترفون بأنّ الأمّة ليس لها أن تمضي حكما و لا تقيم على أحد حدّا و لا تنفّذ جيشا و يزعمون أنّ لها أن تجعل هذه لأحدها و تردّ إليها ما لم يرد إليها، و تملّكه من الشريعة أشياء لا تملكها من غير أن يأذن لها في ذلك مالكها، و هذا من أطراف الأمور و أعجبها. و من عجيب أمرهم أنّهم فيما ذهبوا إليه من الاختيار قد أجازوا إهمال أمر الأمّة إلى أن يختار علمائها واحدا مع أنّه لو اختار أهل مدن مختلفة عدّة أئمّة وجب عندهم أن يقف أمرهم إلى أن ينظروا من الأولى منهم فيقدّموه و يبطلوا إمامة من سواه و يسقطوه، فإن كان قد عقد لهم في وقت واحد سقطت إمامتهم كلّهم فأباحوا بهذا ترك الناس في هذه المهلة بغير إمام، و ربّما تراخت و طالت و اضطرب فيها أمر الأمّة و حدثت أمور لا مدبّر لها، و تولّد مضارّ عامّة لا مصلح لفسادها. و قيل لهم على هذا الرأي: لم لم يصبر أصحاب السقيفة عن المبادرة لإمام و المسارعة التي انفردوا بها عن الإمام ريثما يفرغ بنو هاشم من تجهيز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مواراته و قضاء مفترض حقّه في مراعاته حتّى إذا تنجّزت هذه الحال حضروا معهم العقد لشاركوهم في الرأي و الأمر فإنّهم إن لم يكونوا أخصّ بهذا الأمر فيه شركائهم، و نصيبهم فيه على أقلّ الوجوه نصيبهم؟ فقالوا: إنّما فعلوا ذلك مبادرة بالأمر الذي يخشى فواته، و يخاف المضرّه بتأخيره مع العلم العام بأنّهم ما اضطرّوا في ذلك الوقت إلى هذا البدار و لم تختلف الكلمة لو لا ما فعلوه اختلافا يعظم به المضارّ و لا قصدهم من الأعداء قاصد و لا أحاط بهم عدوّ و معاند، فما هذه العجلة و البدار مع ما جيناه عنهم في شرائط الاختيار لو لا أنّ القوم اغتنموا الفرصة فانتهزوها و بادروا المكنة فاختلسوها و إنّ مصوّبتهم ناقضوا فعلهم و ناصريهم أوضحوا زللهم مع أنّ رأيهم في الاختيار، و ما ساقهم إليه أحكام التقيّة في هذا الزمان المخلّة بنصبة الإمام قد أدّاهم إلى إهمال أمر الأمّة و تركهم بغير إمام. و من عجيب أمرهم قولهم أنّ اختيار الأمّة إلى العلماء و أنّ الجماعة يختارهم الذين لا يغلطون في اختيارهم و يعلمون مع هذا أنّ أبا بكر اختاره أبو عبيدة، و أنّ عمر اختاره أبو بكر، و أنّ عثمان اختاره عبد الرحمان و ليس فيهم من حصل الشرط الذي ذكروا. فصل: في أغلاطهم في اختيارهم أبا بكر و من عجيب أمرهم أنّهم قصدوا إلى رجل أمر اللّه بتأخيره و لم يره أهلا للنيابة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تأدية تسع آيات من سورة برائة إلى أهل مكّة و هم بعض الأمّة و رسول اللّه حيّ موجود مع قوله صلّى اللّه عليه و آله: المؤمنون أكفاء؛ تتساوى دمائهم و يسعى بذمّتهم أدناهم، و يجيز عليهم أقصاهم، و هم يد على من سواهم، فلا يراه اللّه مع ذلك أهلا لتأدية ذمّة و لا منفّذا لأمر فيه مصلحة للأمّة، و عزله عن جيش ظهر فيه غوله و عجزه و منعه، سكن المسجد و سدّ بابه و أخّره عن الصلاة التي قدّمه بلال إليها بأمر عائشة ابنته فقدّموه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رئيسا على جميع أمّته و ردّوا إليه أحكام ملّته حيث يكون تتميم تنفيذ الأمم في يديه، و أحكام الشريعة مردودة كلّها إليه، و يكون القائم مقام خير خلق اللّه تعالى محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المنفّذ لشرعه، إنّ هذا لشي ء عجيب يحار فيه عقل اللبيب. و من عجيب أمرهم اعتقادهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر الناس أن يختاروا لأنفسهم إذا اجتمعوا إمام الصلاة و يروون عنه أنّة قال: اختاروا أئمّتكم فإنّهم وفدكم إلى اللّه عزّ و جلّ، و قال: يؤمّكم أقرأكم، و في خبر آخر: قالوا له: فإن كانوا في القرائة سواء؟ قال: فأفقههم، و صاحب المسجد أولى بمسجده، ثمّ يروون مع ذلك أنّ من الواجب تقديم أبي بكر على أمير المؤمنين عليه السّلام و يرون أنّه أولى منه بالتقديم على الناس في الصلاة مع علمهم بأنّ أبا بكر لم يكن حافظا لكتاب اللّه و أنّ أمير المؤمنين كان حافظا بغير خلاف. و مع علمهم بأنّ رسول اللّه سدّ جميع أبواب الصحابة التي كانت إلى المسجد حتّى سدّ باب عمّه و ترك باب عليّ، و قال: إنّ اللّه أمر موسى بن عمران أن يتّخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلّا هو و هارون و ابناه شبّر و شبير، و أنّه أمرني أن أتّخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلّا أنا و عليّ و ابناه الحسن و الحسين عليهم السّلام.

ص: 77

و قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تعالى أمر موسى بن عمران أن يتّخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلّا هو و هارون و ابناه شبّر و شبير، و إنّه أمرني أن اتّخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلّا أنا و عليّ و ابناه الحسن و الحسين عليهم السّلام، فاجتمعت الخصال الموجبة لتقدّم أمير المؤمنين عليه السّلام فياليت شعري بأيّ فضّل قدّموا عليه أبا بكر.

و لمّا سئل هو و عمر عن قوله تعالى: وَ أَبًّا (1) فما أحارا جوابا و لم يعرفا لها معنى.

و أبو بكر هو القائل: ولّيتكم و لست بخيركم، أقيلوني أقيلوني و لست بخيركم؛

ص: 78


1- عبس: 31.

فإن استقمت فاتّبعوني، و إن اعوججت فقوّموني، و إنّ لي شيطانا يعتريني عند غضبي فإذا رأيتموني مغضبا فتجنّبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم (1).

و اختاروه مع قلّة علمه و نقصان فهمه و فقهه في الدين على عليّ الذي بسط اللّه يده على العالم كافّة مع كثرة العلم و القرابة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و زهده و طهارته كلّ ذلك يعلمونه منه كما يعرفون الجهل من صاحبهم، و لكنّهم أخّروه ردّا على اللّه و رسوله حيث قال: لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ (2).

مسألة: و قال الأنصار: نحن أولى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لنصرتنا إيّاه، و قال المهاجرون: بل نحن أولى به لقرابتنا و هجرتنا، و لم يدر بخلدهم أنّ عليّا حوى الفصيلتين: فهو أنصاريّ مهاجريّ و قرشيّ هاشميّ، فقال عليّ عليه السّلام: إنّ المهاجرين حاجّوا الأنصار بقرب قريش من رسول اللّه فإن كانت حجّتهم ثابتة فقد كنت إذن أحقّ بها لأنّي أقرب منهم، و لمّا بلغته بيعة أبي بكر قال هذين البيتين من الشعر:

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف بهذا و المشيرون غيّب

و إن كنت بالقربى حججت خصومهم فغيرك أولى بالنبيّ و أقرب (3) و قال عليه السّلام: بم احتجّ المهاجرون على الأنصار؟ قالوا: بصحبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،

ص: 79


1- راجع التعجّب أيضا (ص 9) و ليس فيه أقيلوني أقيلوني أثناء كلام الشيخ عن شيطانه، لا يعتريني الشكّ أنّ المؤلّف رحمه اللّه أخذ من الكراجكي لتقدّمه عليه فقد توفّي الكراجكي سنة 449 (راجع الذريعة للطهراني) و لكنّه لم يشر إليه بل عمد إلى كلام الشيخ الكراجكي فقطع أوصاله و أفقده الوحدة و حشر في أثنائه كلاما لا يبلغ مستواه ممّا أوقع المترجم بحيرة مدهشة، و استمرّ المؤلّف يكيل من كلام الكراجكي كلّما حلى له، و ربّما أعرض عنه بكلام ينشأه من نفسه، و لو أنّه أشار إلى كتابه لأراح و استراح رحمه اللّه.
2- الأعراف: 179.
3- و قيل إنّه قول قيس بن سعد، التعجّب: 9.

فقال: يا عجبا! تكون الخلافة بالصحابة و لا تكون بالصحابة و القرابة!

و من عجيب أمرهم دعواهم أنّ إمامة أبي بكر تثبت عن إذن من أهل الحلّ و العقد و اختيار و تأمّل، هذا مع سماعهم قول عمر بن الخطّاب: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها، و هذا القول يكذب مزاعمهم، لأنّ الفلتة التي هي العجلة و البدار تضادّ ما يدّعون من التأمّل و الاختيار.

مسألة: و من عجيب أمرهم دعواهم أنّ الأمّة اجتمعت على إمامة أبي بكر مع علمهم بقلّة عدد المعاقد لها و تأخّر من تأخّر عنها، و إنكار المنكرين لها، و الخلف الواقع فيها في حال السقيفة و بعدها، فيقولون: إنّ من خالف من الأنصار و تأخّر من بني هاشم الأخيار (1) و ما كان مع أبي بكر إلّا نفر من قريش و هم عمر و عثمان و عبد الرحمان بن عوف و خالد بن الوليد و سعيد بن أبي وقّاص القرشي و سعيد بن العاص القرشي و سالم بن حذيفة الدعي، و جماعة من المجهولين حسبا و نسبا، و ليس من قريش إلّا هؤلاء العشرة و مع ذلك يسمّونه الإجماع.

ثمّ ينكرون أن يكون الإجماع حصل على حصار عثمان و قلعه و تكفيره و قتله، و لم يكن بالمدينة من أهلها و لا ممّن كان بها من أهل مصر و غيرهم إلّا محارب أو خاذل، و لم يحفظ عليهم في الإنكار إلّا قول القلل، و يدّعون أنّه و عبيده المحاصرين معه في الدار و مروان ابن عمّه قادحون في الإجماع، هذا و قد رام قوم من بني أميّة أن يصلّوا عليه فلم يتمكّنوا و همّوا أن يدفنوه في مقابر المسلمين فلم يتركوه حتّى مضوا إلى حشّ كوكب و هو بستان بقرب البقيع ثمّ أتوا ليجزّوا رأسه فصاح نسوة

ص: 80


1- هذه عبارة الكراجكي في التعجّب (ص 13) رأيناه أجدر بالعناية من عبارة الترجمة، حيث أنّ المؤلّف أخذها بالترجمة بعد التحوير و التغيير.

من أهله و ضربن وجوههنّ فتركوه و داسه عمير بن أبي صابي فكسر ضلعا من أضلاعه ... (1) فلم ينكر عليهم أحد، و هذا المعنى أولى باسم الإجماع، فظهر من هذا بأنّ إجماعهم ربّما بني على الباطل و الظلم و غصب حقوق المسلمين (2).

و من عجيب أمرهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرسله إلى خيبر و أرسل بعده عمر فرجعا منهزمين و كان على رأس الجيش، و أرسل النبيّ أبا بكر مع جيش إلى واد قريب من المدينة ليلا فرجعوا منهزمين، فلم يحسن أن يدبّر الجيش بعقله و يرضي اللّه و رسوله فكيف يصحّ تحكيمه بالأمّة و حكمه عليها؟

و قاد الجيش عليّ بعده فهزم أولئك اللعناء و فرّق جمعهم و بدّد شملهم و كفى اللّه المسلمين شرّهم به، و إنّ رجلا بهذه الصفة من حسن القيادة و الحكمة أولى بالتقديم.

ص: 81


1- هذه عبارة صاحب التعجّب (ص 13) و فيها عبارة المؤلّف و زيادة.
2- عبارة الكراجكي: و بقي مكانه مرميّا ثلاثة أيّام لم يستعظم في بابه مستعظم و لا أنكره منكر، و من تأمّل هذا الحال علم أنّها أحقّ و أولى بالإجماع (ص 13).

الباب السادس عشر في صفات الإمام

و قالوا: إنّ الإمام قدوة في الشريعة مع جواز جهله ببعضها، و لا يجيزون أن يكون فيها مع جهله بجميعها و قولهم: إنّه يرجع في البعض الذي لا يعلمه إلى الأمّة و لا يجيزون أن يرجع في الكلّ إذا لم يعلمه إلى أحد من الأمّة و لسنا نجد فرقا بين حاجته إلى رعيّته في بعض ما لا يعلمه و بين حاجته إليهم في كلّ ما لا يعلمه.

بل من العجب ان يكون الإمام محتاجا إلى من هو محتاج إليه، و مقتديا برعيّة يقتدون به، لأنّ هذا عند العقلاء من المناقضة القبيحة و هو دور واضح.

و من عجيب أمرهم أنّهم يروون عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من تولّى شيئا من أمور المسلمين فولّى رجلا شيئا من أمورهم و هو يعلم مكان رجل هو أعلم منه فقد خان اللّه و رسوله و المؤمنين، أي إنّ من حكم المسلمين لزم عليه إسناد الحكم و الرياسة إلى أعلمهم.

مع ذلك إنّ أبا بكر و عمر لم يولّيا أيّامهما عليّا عليه السّلام مع معرفتهما بكمال علمه، و يقدّمان الجهّال في الولايات عليه، و لا يستدلّون بذلك على خيانتهما للّه و لرسوله

ص: 82

و للمؤمنين (1) و إنّما نحّوه لئلّا يدرك الناس أنّه الأولى بالأمر، و لكن إذا نابتهم نائبة أو ألمت بهم مشكلة رجعوا إليه و اعتمدوا عليه .. و لو أنّهم دعوه لتولّى شأن من شئونهم لما قبله و حاشاه من قبول ذلك إلّا أنّ هذا لا يمنع من نسبة الخيانة إليهم.

مسألة: و من عجيب أمرهم قولهم: إنّ علوم الشريعة متفرّقة في الأمّة و أنّها قد أحاطت بها و هي الملجأ و المفزع فيها مع ما يدّعون من عصمتها، و يستعظمون قولنا أنّ الإمام هو المحيط بها و العالم بجميعها و الملجأ و المفزع فيها، و هو المسدّد المعصوم دونها (و ما انكروه منّا منكر منهم و ما أوردوه علينا وارد عليهم في عصمة الأمّة) و يقيمون أنفسهم في ذلك مقام المشركين الذين قالوا فيما تضمّنه الذكر المبين: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (2) (3).

مسألة: و رووا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: خذوا ثلث دينكم عن عائشة، لا بل خذوا ثلثي دينكم من عائشة.

فيا عجبا كيف يثبت لعائشة هذا الكمال الذي تميّزت به عن الأنام و استحال مثله في الإمام (4) (و هو مدينة علم النبي).

و من العجب إنكارهم أن يكون خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أمّته و المنفّذ بعده

ص: 83


1- التعجّب: 14.
2- ص: 5.
3- لمّا ثبت عندي أنّ المؤلّف أخذ نصوصه من كتاب التعجّب و لكنّه حوّر العبارة و غيّرها بالحذف و الإضافة لتكون له، رأيت نقل عبارة التعجّب أولى و إن كنت لا أهمل زيادات المؤلّف فأضعها بين قوسين.
4- نفسه (15).

أحكام شريعته حافظا لعلوم الشريعة محيطا بأحكام الملّة، مستغنيا في ذلك عن الرعيّة، و يدّعون أنّ شيخهم الجاحظ لعنه اللّه (1) على سخافته و هزله و خداعته و صلاعته و قبيح فعله و مشتهر فسقه قد عرف كلّ علم، و صنّف الرياضيّات و رسوم الأدبيّات إلّا و قد خاض فيه و عرف متصرّفاته و عجائبه و معايبه (2) الخ (لأنّ الجاحظ أظهر عداوة أمير المؤمنين عليه السّلام و عداوة أهل بيته و كتب في ذلك الكتب منتقصا بها عليّا و أهل بيته ... و قد ذكر في عدّة مواضع أنّ النبيّ قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها (3)) و كذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ، اللهمّ أدر

ص: 84


1- اللعنة التي أصابت الجاحظ من الكراجكي المؤلّف و أنا أقول: ألف ألف لعنة عليه.
2- نفسه: 15.
3- هذا الحديث أنكره أولاد الزواني و العواهر حتّى قال آخرهم و هو نكرة ظهر علينا في أحذ مواقع الانترنت «البرهان» بصفحات تافهة جدّا سمّاها مناظرة مجهولة الزمان و المكان و الأطراف و كان لا يعبّر عن مناظريه بأسمائهم لئلّا يفتضح طبعا و إنّما يسمّيهم «سيّدهم» و «أحدهم» و هكذا، و لو كانت المناظرة صحيحة أو كان هو الغالب فيها كما يدّعي لما تردّد في ذكر أسماء مناظريه، و على كلّ حال اسم المناظرة «انتصار الحقّ» و صاحب القلم الذي خطّها خادم السنّة (طبعا سنّة معاوية) مجدي محمّد علي محمّد ... و فيها: أحدهم السائل: من أعلم الصحابة؟ العبد للّه: أبو بكر أعلم الصحابة. السائل: ما دليلك على ذلك؟ العبد للّه: النبيّ قدّمه للصلاة بالناس عند مرضه الأخير و معلوم في الفقه أنّ الذي يؤمّ القوم أعلمهم و تقديم أبي بكر للصلاة بالمسلمين أعظم شهادة من الرسول المعصوم بأنّه أعلم الناس و أفضلهم. السائل: أليس الرسول صلّى اللّه عليه و آله يقول: أنا مدينة العلم و عليّ بابها و هذا أدلّ على أنّ عليّا عليه السّلام هو أعلم الصحابة؟ العبد للّه: هذا الحديث لا يثبت عندنا فلا يصحّ الاحتجاج به. السائل: لكن هذا الحديث موجود في كتبكم! العبد للّه: علم الحديث عندنا ليس بالسطحيّة التي هي عليها الآخرون بل هو علم واسع ألّفت فيه كتب و مؤلّفات لا تحصى لكثرتها، و أفنى فيه علماء كثيرون أعمارهم لجمع الحديث- إلى أن يقول:- و حديثك هذا غير ثابت .. الخ، ثمّ يعلّق عليه في الهامش: بل هو مكذوب موضوع و عند رجوعي إلى منزلي بحثت فيه فوجدته قد أورده ابن الجوزي في الموضوعات ... الخ (ص 40 و 41 و 42). صحّة الحديث: أقول: مجدي محمّد هذا قد طبع اللّه على قلبه فلا حاجة إلى تذكيره لأنّه من الذين جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم، فالحديث معه ضرب على حديد بارد، و لكنّي أخاطب أصحاب القلوب الواعية، فأقول: الرواية أخرجها الحاكم في المستدرك على الصحيحين و قال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه، و تعقّبه الذهبي في التلخيص فقال: بل موضوع، قال: و أبو الصلت ثقة، قلت: لا و اللّه لا ثقة و لا مأمون (اه). و إنّما ضعّفوا الحديث و رموه بالوضع نظرا لرواية أبي الصلت له، و تكلّموا فيه بغير هذا الحديث و كذلك فعل ابن الجوزي فإنّه لم يورد له في الموضوعات سوى حديثين و هو منهم تحامل لا دليل عليه و لا موجب له سوى موالاته لأهل البيت كعادتهم مع غيره، فإنّه لم ينفرد بهذين الحديثين حتّى يتّهم بهما و يتحامل عليه من أجلهما. قال السيّد الغماري: و أمّا ابن الجوزي فهو مقلّد لمن سبقه فلا ينبغي أن يعدّ في الحاكمين على الحديث بالوضع لأنّه لم يقل ذلك عن اجتهاد فهو بمنزلة العدم كحال كلّ مقلّد، و لو فرضنا أنّه حكم بذلك اجتهادا فتساهله و تهوّره معلوم حتّى قال الحافظ فيه: إنّه حاطب ليل لا يدري ما يخرج من رأسه، و قد كثر اعتراض الناس عليه و تعقّبه فيما حكم عليه بالوضع و التحذير من الاغترار به كما بسطته في غير هذا الموضع و قد تعقّبوه على هذا الحديث كما سيأتي قريبا إن شاء اللّه. و أمّا الذهبي فلا ينبغي أن يقبل قوله في الأحاديث الواردة بفضل عليّ عليه السّلام فإنّه سامحه اللّه (بل لعنه و أخزاه- المترجم) كان إذا وقع نظره عليها اعترته حدّة أتلفت شعوره و غضب أذهب وجدانه حتّى لا يدري ما يقول، و ربّما سبّ و لعن من روى فضائل عليّ عليه السّلام كما وقع منه في غير موضع من الميزان، و طبقات الحفّاظ تحت ستارة أنّ الحديث موضوع، و لكنّه لا يفعل ذلك فيمن يروي الأحاديث الموضوعة في مناقب أعدائه، و لو بسطت المقام في هذا لذكرت لك ما تقضي منه بالعجب من الذهبي رحمه اللّه (بل لعنه اللّه- المترجم) و يكفي في ردّ كلامه أنّه قال في الميزان: عبد السلام بن صالح الهروي، الرجل الصالح إلّا أنّه شيعيّ جلد، انتهى، فما وصفه بضعف و لا رماه بكذب ثمّ ذكر عند ذكر هذا الحديث في المستدرك: أقسم باللّه أنّ عبد السلام بن صالح ما هو ثقة و لا هو مأمون، فكيف الجمع بين هذا و ذاك؟! و قد تعقّبه الحافظ في حكمه على هذا الحديث بالوضع في ترجمة جعفر بن محمّد الفقيه فإنّه أورد له هذا الحديث، و قال: موضوع، فتعقّبه الحافظ في اللسان بقوله: و هذا الحديث له طرق كثيرة في مستدرك الحاكم أقلّ أحوالها أن يكون للحديث أصل فلا ينبغي أن يطلق عليه القول بالوضع، انتهى. و قد سبق قول الحافظ السيوطي في الجامع الكبير: كنت أجيب دهرا عن هذا الحديث بأنّه حسن إلى أن وقفت على تصحيح ابن جرير لحديث عليّ في تهذيب الآثار مع تصحيح الحاكم لحديث ابن عبّاس فاستخرت اللّه تعالى و جزمت بارتقاء الحديث من مرتبة الحسن إلى مرتبة الصحيح (اه). و نقل في اللئالي المصنوعة عن الحافظ العلائي أنّه قال في أجوبته عن الأحاديث التي تعقّبها السراج القزويني على مصابيح البغوي و ادّعى أنّها موضوعة، ما نصّه: حديث «أنا مدينة العلم و عليّ بابها» قد ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات من طرق عدّة و جزم ببطلان الكلّ و كذلك قال بعده جماعة منهم الذهبي في الميزان و غيره، و المشهور به رواية أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي عن أبي معاوية عن الأعمش عن ابن عبّاس، و أبو الصلت مختلف فيه لكنّه توبع فبرئ من عهدته، و أبو معاوية ثقة مأمون من كبار الشيوخ و حفّاظهم المتّفق عليهم و قد تفرّد به الأعمش فكان ماذا؟ و أيّ استحالة في أن يقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مثل هذا في حقّ عليّ رضي اللّه عنه و لم يأت كلّ من تكلّم في هذا الحديث و جزم بوضعه بجواب عن الروايات الصحيحة عن ابن معين في توثيقه و تصحيح حديثه و مع ذلك فله شاهد: رواه الترمذي في جامعه و سنده حسن فكيف إذا انضمّ إلى حديث أبي معاوية، و لم يأت أبو الفرج و لا غيره بعلّة قادحة سوى دعوى الوضع دفعا بالصدر (اه) باختصار. راجع: أحمد بن محمّد بن الصدّيق الغماري، فتح الملك العلي، و هو كتاب جدير القرائة و الحفظ، هذا ما يقوله العلماء أصحاب الدين و الاجتهاد، الباحثون عن الحقّ، أمّا أعراب نجد و أتباعهم من أهل العناد كصاحب المناظرة فهم أشدّ كفرا و نفاقا و أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه.

ص: 85

ص: 86

الحقّ معه حيثما دار.

و اتفقوا على أنّ عليّا أعلمهم، و عبد اللّه بن عبّاس واحد من تلامذته، فقد كان عمر مع ما هو عليه من جاه الخلافة يفتقر إليه في المسائل و يقول: «غص يا غوّاص»، و اعتبر برجل تلميذه غوّاص فإنّه بالأعلميّة أولى.

و قال له عمر بغير خلاف لمّا ردّه أمير المؤمنين عليه السّلام عن مواضع ظهر منه فيه الأغلاط: لو لا عليّ لهلك عمر.

مسألة: قالوا عن عليّ و أهل بيته المعصومين: إنّ هذه العصمة إن كانت منهم جاز أن يقع في غيرهم فيساويهم في منزلتهم، و إن كانت من اللّه سبحانه فجبرهم و اضطرّهم و لم يستحقّوا ثوابا على عصمتهم.

و الجواب: إنّ هذا قول باطل، لأنّها مساوية لعصمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هم مع ذلك معترفون بأنّ النبيّ معصوم في التأدية و التبليغ و معصوم عمّا سوى ذلك من جميع كبائر الذنوب في حال نبوّته و قبلها، و ما يجيبون به عن عصمة النبيّ فإنّه جوابنا بعينه بلا أدنى فرق.

الجواب: و من العجب قولهم أنّ العصمة ثابتة لجميع الأمّة منتفية عن كلّ واحد منها مع علمهم بأنّ آحادهم جماعتها و أنّها إذا كانت مؤمنة بأجمعها كان الإيمان حاصلا لا حاربا، و لو كفر جميعها لكان الكفر حاصلا مع كلّ واحد منها.

و قد قال أحد المعتزلة يوما و قد سمع هذا الكلام: فرق بين العصمة و ما ذكرت

ص: 87

من الكفر و الإيمان، و ذلك أنّ ما ثبت لكلّ واحد منها فهو ثابت لجماعتها، و ليس كلّ ما ثبت لجماعتها ثابت لكلّ واحد منها، فلذلك إذا آمن آحادها كان جميعها مؤمنين، و إذا كفر آحادها كان جميعها كافرين، و ليست إذا ثبت العصمة لجماعتها يكون آحادها معصومين.

فقلت له- الكراجكي-: ما رأيت أعجب من أمرك و انصرافك عن مقتضى قضيّتك إذا كان ما ثبت لكلّ واحد من الأمّة ثابتا لجميعها فقد ثبت عندي و عندكم الحكم على كلّ واحد منها بجواز الخطأ و النسيان و تعمّد الغلط في الأفعال و الأقوال فاحكم بثبوت ذلك بجميعها و أسقط ما ادّعيت من عصمتها، فلم يدر ما يقول بعدها ... (1).

و مع هذا يجيزون الخطأ على الآحاد و يدّعون العصمة للمجموع، و ما الفرق بين الآحاد في جواز اجتماعهم على الكفر و تبرئة الأمّة من ذلك بادّعاء عصمتها؟ و هل هذا إلّا محض عناد.

و مثال ذلك الماء فإنّ النقطة منه إن كانت رطبة فينبغي أن يكون المجموع كذلك، و كذلك الزنج فإذا كان أحدهم أسود فإنّ المجموع كذلك، و هذا من صور البسائط كون حكم الجزء و الكلّ واحدا بخلاف المركّب، و لمّا كان آحاد الأمّة يجوز عليهم الخطأ فجوازه على الأمّة كذلك و هي محتاجة إلى الإمام كآحادها، و لمّا كان جواز الخطأ في الكلّ قديما احتاج الكلّ إلى إمام معصوم، فإن لم نفترض عصمته احتاج إلى إمام معصوم يكون عليه يردّه عن الخطأ و إلّا لاحتاج إلى إمام آخر لا يخطأ و هكذا يؤدّي الحال إلى التسلسل.

ص: 88


1- التعجّب: 16. و هذا الكلام حاو لكلام المؤلّف و زيادة، و إنّما نقلته بالتفصيل فلأنّ المؤلّف أخذ منه كلّ أقواله و لم يشر إلى ذلك، و رأيت ما اختزله المؤلّف لا يؤدّي المعنى المراد لصاحب الكتاب.

و إنّهم جعلوا حجّتهم في عصمة الأمّة و في أنّ إجماعها صواب و حجّتهم خبر نسبوه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو أنّه لا تجتمع أمّتي على ضلال، و هذا الخبر لا يمكنهم على أصلهم أن يدّعوا فيه التواتر إذا كان غير موجب لسامعيه على الضرورة بصحّته فهو لا محالة من أخبار الآحاد فهم إذا قد جعلوا دليل الدعوى بأنّ الأمّة لا تجتمع على ضلال قول بعضها و الحجّة على عصمتها شهادة واحد منها و لم يعلموا أنّ الخلاف في قول جميعها يتضمّن الخلاف في قول بعضها و التخطئة بسائرها يدخل في التخطئة بواحدها ... (1). و يمكن أن يكون قول هذا الراوي واجد الخطأ و كذبا فيكون إجماع الأمّة على الكذب.

و من عجيب أمرهم أنّهم لا يجيزون إمامة الفاسق و يجوّزون أن يكون الإمام باطنه فاسقا، و يحتجّون في نفي من ظهر فسقه بأنّهم لا يأمنونه على إقامة الحدود و لا يثقون به في حفظ الأموال و صرفها في الواجبات ثمّ يأتمنون على هذه الأمور من يجوّزون عليه الفسق و الفجور و ارتكاب كبائر الذنوب و من لا يخيّلون أن يكون في باطن أمره على ضلال و كفر و إشراك (2)!

و العجب منهم أن لا يجيزوا إمامة الفاسق معلن الفسق و يجيزون إمامة الكافر في الباطن و بناءا على هذا لا يبعد أن يكون أئمّتهم كافرين باطنا و إذا لم تجز إمامة الفاسق فكيف تجوز إمامة الكافر (3)!

مسألة: و قالوا: يجوز تقديم المفضول على الفاضل، و هذا يستنكره العقلاء و يقبّحونه

ص: 89


1- التعجّب: 17.
2- التعجّب: 17.
3- و عبارة صاحب التعجّب هكذا: و من عجيب العجيب امتناعهم من إمامة من علموه فاسقا و تجويزهم أن يكون في باطنه كافرا ... الخ (ص 17).

و غرضهم من هذا الأمر المخالف للعقل و الشرع تقديم أبي بكر الفاقد لكلّ خصلة حميدة و مزيّة مجيدة على عليّ و هو الأعلم و الأشجع و الأكمل و الأكثر عملا و الأشدّ خوضا في ميدان الجهاد و نصر دين اللّه (1) و مع ذلك قدّموه عليه على أنّه لا نسبة بينه و بين الإمامة، و يلزم أن يكون رعيّة فصيّروه راعيا، و من له التقدّم جعلوه رعيّة، و منعوه من أجل مراتبه و هي الإمامة، و لم يقبلوا أمره و نهيه، و صيّروه تابعا للجهّال، و مثلهم كمثل الذي أعطى المعلّم للمتعلّمين يعلّمونه، و النبيّ جعله تابعا للموالي و العبيد، و هذا شأن ينكره العقل و يقبّحه العقلاء (2) و قد استغاث فيهم أمير المؤمنين عليه السّلام متظلّما و شكاهم إلى اللّه مستعديا فقال: اللهمّ إنّي أستعديك على قريش فإنّهم قطعوا رحمي و اكفوا أثاثي و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به من غيري، و قالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه و في الحقّ أن تمنعه فاصبر مغموما أو مت متأسّفا.

و من عجيب أمرهم تمحّلهم الباطل في الاعتذار لتقديم المفضول على الفاضل، قولهم: إنّ العاقدين خافوا أن يلي الفاضل عليهم فيرتدّ إلى الكفر قوم منهم لما في نفوسهم عليه من الأحقاد و ما بينه و بينهم من الغائل و الترات فوجب تأخيره و تقديم من دونه ليؤمن من وقوع هذه الحال و تسكن نفس من يخاف منهم الارتداد (3).

ص: 90


1- و جاء في كتاب التعجّب: «فصلّ في أغلاطهم في إمامة المفضول»: فمن عجيب أمر القائلين بإمامة المفضول ... الخ، و هو كلام نفيس جدّا أخذ منه المؤلّف بعض عباراته و معناه و أضاف إليه كلاما دون مستواه (ص 17).
2- أخذ المؤلّف عبارة التعجّب الجزلة الحاوية للمعنى الدقيق فتصرّف فيها تصرّفا غير محمود حتّى مثال المعلّم و المتعلّمين فقد جاء عند الكراجكي هكذا: و ما زلنا نسمع العامّة تقول: يأتي على الناس زمان يسلم فيه المعلّم إلى الصبيان و يسوق فيه البغل على الطحّان ... الخ (ص 18).
3- التعجّب: 18- 19.

الجواب: و هذا باطل بإرسال الرسل (1) فقد نسوا ما قد أجمعوا عليه معنا و لم يخالفونا فيه من أنّ الحكيم يجب أن يفعل أفضل الأمور و أعلاها و أشرفها و أولاها، و إن ضلّ من ضلّ و كفر من كفر كإرساله سبحانه الأنبياء إلى من يعلم أنّهم يقتلونهم و يزدادون في غيّهم، و تبليغه أطفالا يعلم من حالهم أنّهم يكونون كفّارا إذا بلغهم و تكليفه قوما قد علم انّهم يضلّون إذا كلّفهم فكيف صار من الحكمة و العدل فعل هذه الأمور و إن ضلّ معها الجمهور، و من الظلم و الجور تقديم المفضول على الفاضل خوفا من ضلال قليل من كثير و لا انقادوا إلى هذا الفاضل و اتّبعوا في ذلك الواجب، فيكون الحجّة من خالف و عاند.

(قال المؤلّف (2):) و على هذا ينبغي أن لا يكلّف اللّه عباده بطاعة أمر رسله، لأنّه عند إرسال الرسل عاندهم الناس و كفروا و ارتدّوا و مع هذا فقد أرسل اللّه إليهم أفضل الناس.

و كذلك نقول: لو لا التكليف لكان الناس في بال من الأوامر و النواهي و مثله العقل إذ لولاه لكان الناس مجانين و عاشوا في أمن من التكاليف و كان الناس جميعا من أهل الجنّة ...

جواب آخر: إنّ الذي يدرأ الشرّ و الخبث و النفاق هو اتّباع الفاضل و الانقياد لأوامره و نواهيه، لكي يمتنع الفساد و الارتداد، ألا ترى أنّ موسى حين أزمع الغيبة نصب

ص: 91


1- و هنا ينبغي علينا نقل عبارة «التعجّب» لأنّها أكمل من عبارة المؤلّف و أوصل للمعنى، انظر ص 19.
2- قارن بين العبارتين.

أخاه هارون على بني إسرائيل مع علمه أنّ بني إسرائيل سوف يرتدّون و يعبدون العجل و اختار هارون لأنّه الأفضل لا واحدا من بني إسرائيل (1).

و يزعم الخصم: أنّ الأمّة لو قالت لا نؤمن حتّى تخرجوا هذا المؤمن من بيننا وجب حينئذ إخراجه كما فعل عثمان بأبي ذر الغفاري من بين الصحابة من أجل تسلية خاطره و هو حبيب رسول اللّه وردّ طريد رسول اللّه من النفي لكي لا يضلّ الناس بزعمهم «نعوذ باللّه من هذه الضلالة»:

لو سلّموا لوليّ الأمر أمرهم يأسل (2) بينهم في الأرض سيفان مسألة: و من عجيب أمرهم اعتمادهم على هذا الاعتذار مع علمهم باختلاف الناس بأبي بكر لما تقدّم و كراهيّتهم له مع علمهم و معرفته بما كان من أهل اليمامة لخالد بن الوليد: و اللّه لا أطعنا لأبي فصيل أبدا، و قول خالد: و اللّه لأرفعت السيف عنكم حتّى تتأمّروا بالفحل لا لأكبر، فكان من أمرهم معه ما قد اشتهر من الحرب المبيرة و الفتنة العظيمة و سفك الدم و سبي الحريم و هلاك من لا يحصى (3).

و قالوا: السبي غنيمة و هذا الارتداد ما كان لو لا تقديم أبي بكر على الناس،

ص: 92


1- إليك عبارة التعجّب التي أغار عليها المؤلّف: أو ليسوا مقرّين بأنّ اللّه تعالى قد علم من قوم موسى أنّهم يكفرون إذا قدّم عليهم أخاه هارون و يتّخذون العجل إلها من دون اللّه تعالى و لم ينهه عن تقديمه و لا منعه من استخلافه و تركه فعل الأفضل في حكمته و ليس لهم أن يقولوا بأنّه هو أى اللّه دون العباد و تقديمهم الفاضل (ص 19) و البيت الذي ذكره المؤلّف مأخوذ من التعجّب أيضا و هو كما يلي: لو سلّموا لوليّ اللّه أمرهم ما سلّ بينهم في الناس سيفان
2- كذا. و الصحيح: ما سلّ.
3- التعجّب: 20.

و من العجب نسيانهم عند هذا الاعتذار كراهيّة الناس تقديم أبي بكر عمر عليهم، و نفورهم من نصبه عليهم حتّى حلّفوه اللّه عزّ و جلّ و قالوا له: ما أنت قائل إذا لقيته و قد ولّيت علينا فظّا غليظا، و اللّه ما كنّا نطيقه و هو رعيّة فكيف إذا ملك الأمر فاتّق اللّه و لا تسلّطه على الناس، فغضب و قال: أبا للّه تخوّفوني؟!! أقول: يا ربّ، ولّيت عليهم خير أهلك (1)!

و هذا من العجب أن يكون تقديم هذين مع كراهة الأمّة لهما لا يقتضي تأخيرهما و كراهيّة بعضهم لعليّ تقتضي تأخيره ... (2).

و من العجب اعتذارهم في تأخير الفاضل بما قد اعتذروا به مع سماعهم قصّة طالوت المذكورة في القرآن و تلاوتها عليهم ما اتّصلت الأيّام و لا ينتهون بها من رقدة الضلال حيث كرهه الناس و قالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ (3) فلم يمنع كراهتهم له من تقديمه، و أخبر اللّه سبحانه بما أوجب رياسته عليهم و تقدّمه، فقال: قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ (4) فأخبرهم أنّ اللّه آتاه من علمه و قوّته اقتضى تقديمه في حكمته فكيف لم يعتبروا بهذا من قول اللّه سبحانه فيعلموا أنّهم على ضلال في تقديم من عرف ضعفه في علمه و جسمه على من حصل الاجتماع على أنّ اللّه تعالى قد جعله في

ص: 93


1- التعجّب: 20.
2- عبارة التعجّب: و من العجب فضل عمر بن الخطّاب عند أبي بكر يقتضي تقديمه مع العلم بكراهيّة الناس له و لا يكون فضل أمير المؤمنين عليه السّلام عند جميع الأمّة تقتضي تقديمه عليهم و إن ظنّ كراهيّة بعضهم، الخ (ص 20).
3- البقرة: 247.
4- تتمّة الآية 247.

بسطة من العلم و الجسم كطالوت في قومه (1).

مسألة: و من عجيب أمرهم أنّهم اعترفوا بأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام الفاضل بحكم اللّه أعلى الناس قدرا و أرفعهم محلّا و ذكرا، و أزكاهم عملا و أولاهم بالمدح و الثناء، و أنّه لا يحلّ استنقاصه و لا يسوغ ذمّه ثمّ أجمعوا مع ذلك على كفر الخارجين من طاعة أبي بكر و استحلال دم ما يعتد (كذا) الزكاة و سبي حريمهم و لم يقيموا للشاكّ في إمامتهم عذرا، ثمّ بسطوا عذرا للشاكّ في إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام و الممتنعين عن نصرته الخارجين عن وجوب طاعته كسعد بن أبي وقّاص و حسّان بن ثابت و عبد اللّه بن عمر و محمّد بن مسلم و أسامة بن زيد القاعدين عن إمامته و الخاذلين الناس عن نصرته (2).

هؤلاء الذين خرجوا على عليّ الأفضل عليه السّلام نحتوا لهم الأعذار و أقاموا لهم البيّنات على أنّهم مصيبون و تابوا، نعم إنّهم تابوا و لكن في نار جهنّم كما قال تعالى:

فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (3) و قال: أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي

ص: 94


1- التعجّب: 21. و العبارة التي أنقلها تزيد على عبارة المؤلّف و قد يكون المؤلّف اختصرها بسطرين و لكنّهما لا ينقعان غلّة بل ربّما أدّيا إلى تغيير المعنى و تشويهه، اللهمّ إلّا بعض العبارات التي يضيفها من عنده ربّما كانت ذات ذات دلالة قويّة و لست أرى مانعا في نقل العبارة التي اعتمد عليها المؤلّف و اقتطع أجزاآ منها و إن لم ترد في كتابه لأنّها أمانة في عنقي وجدت لزاما على ردّها إلى أهلها و المؤلّف أهمل الإشارة إلى المصدر. و كأنّه هو صاحب هذه المعاني التي ألبسها ثيابا فارسيّة فقط فقد تطول و قد تقصر و نسبها إلى نفسه رحمة اللّه عليه.
2- التعجّب: 23.
3- المؤمن: 11.

كُنَّا نَعْمَلُ (1) و قالوا: إنّ الذين قاتلوا عليّا هم و إيّاه في الجنّة و من أعدائه عائشة و طلحة و الزبير و حسّان بن ثابت و محمّد بن مسلمة و أسامة بن زيد و عبد اللّه بن عمر و سعد بن أبي وقّاص، و يعتبرون هؤلاء من أهل الجنّة و هم مجتهدون في قتالهم لعليّ و تطلّبهم لقتله و قتل أهله و بنيه و هم مصيبون أيضا.

و العجب أنّ الشاكّ في خلافة المفضول يوجب الكفر و إباحة دم الفاضل و الشكّ في خلافة الفاضل و إعلان الحرب عليه شرع و دين «فاعتبروا يا أولي الأبصار من خرافات الأشرار» ألا لعنة اللّه على القوم الظالمين.

ص: 95


1- فاطر: 37.

الباب السابع عشر في إمامة أبي بكر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

قال بعض المخالفين عن عائشة أنّها قالت: لمّا ثقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عجز عن الخروج إلى الصلاة أمر أبا بكر بأن يصلّي بالناس، فلمّا كبّر تكبيرة الإحرام سمعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقام و رجلاه تخطّان في الأرض و هو متّكئ على رجلين أحدهما الفضل ابن العبّاس، فأخّر أبا بكر عن المحراب.

و قال بعضهم: أتمّ أبو بكر صلاته.

و هذا غير جائز بعدد من الحجج الجليّة:

الأوّل: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (1) فإذا كان أبو بكر قد تقدّم فعلا فإنّه خالف قوله تعالى.

الثاني: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (2) فإذا كان أبو بكر إماما فلا بدّ من رفع صوته فوق صوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو مخالف لقول اللّه تعالى و ذلك كفر.

ص: 96


1- الحجرات: 1.
2- الحجرات: 2.

و يقول خصومنا: إنّها كانت صلاة الصبح.

الثالث: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (1) و لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عازما على الخروج فقد كان الأجدر بأبي بكر الصبر حتّى يخرج النبيّ إليهم و لكنّه عمل على خلاف قول اللّه تعالى.

روي أنّ رسول اللّه قال: إنّ الصلاة جائزة خلف البرّ و الفاجر و مع هذا لا يجيزون للفاجر أن يتولّى الإمامة العامّة و إمامة الصلاة داخلة في الإمامة العامّة إذن بالنسبة إلى إمامة الصلاة يجوز أن يكون الإمام فاجرا، و بناءا على هذا المذهب يقتضي أن يكون هذا الشخص فاجرا و غير فاجر في نفس الوقت، و حينئذ يجب أن يكون الإمام العام غير مقيم لصلاة الجماعة.

قالت عائشة: و لمّا سمع رسول اللّه صوت أبي بكر في المسجد يصلّي بالناس جماعة قام و هو مريض و اتّكأ على منكب عليّ و الفضل و رجلاه يخطّان في الأرض حتّى بلغ المسجد و تقدّم و صلّى بالناس و حينئذ لمّا عزله الرسول في آخر أيّامه عن صلاة الجماعة فلا تكون إمامته عامّة و لا يعلمون بأنّ النبيّ حين استأنف الصلاة بعد تنحيته أبا بكر دلّ ذلك على بطلان صلاته و صلاة من اقتدى به.

و قول عائشة هنا يدلّ على أنّه تقدّم للصلاة من دون إذن النبيّ و إلّا لما عزله.

و حينئذ يمكننا الجزم بأنّه تقدّم للصلاة بتدبير عائشة حيث أرسلت إليه بلال و آذنه بالصلاة.

مسألة: روى هؤلاء أنّه وقع تنازع بين قبيلتين من قبائل الأنصار فذهب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليصلح بينهما فتأخّر عن صلاة العشاء، فقدّموا عبد الرحمان بن عوف ليأمّهم في

ص: 97


1- الحجرات: 5.

الصلاة فجاء النبيّ و اقتدى بعبد الرحمان بن عوف و لمّا سلّم لم يرض المسلمون أن يأتمّ النبيّ بواحد من أمّته فلمّا فرغ، قالوا: يا رسول اللّه، أتصلّي خلف رجل من أمّتك؟ فقال: ما يموت نبيّ من الأنبياء حتّى يصلّي خلف رجل من أمّته ... (1).

فإن صحّت هذه الرواية كان عبد الرحمان أولى بالإمامة و الخلافة من أبي بكر، لأنّه لم يعزل عبد الرحمان هنا باتفاقهم و اقتدى به في الصلاة و أتمّ صلاته و هنا لم يقتد بأبي بكر و قطع صلاته. و هناك أجمعت الأمّة على إمامة عبد الرحمان و رضيه رسول اللّه إماما، و هنا اختيار عائشة و عزل رسول اللّه و عبد الرحمان بزعمهم مرضيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أبو بكر صلّى صلاة متنازعا فيها و لم يتمّها، و عبد الرحمان إمام النبيّ و الأمّة و لا شي ء من هذا لأبي بكر.

مسألة: قال الخصم: كان عليّ يعظّم الصحابة و هذا دليل على صحّة إمامتهم.

الجواب: من الظاهر المعلوم بأنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام و محمّد بن الحنفيّة و عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن جعفر و جابر بن عبد اللّه الأنصاري رضي اللّه عنهم و غيرهم يعظّمون معاوية من أجل التقيّة و هذا لا يدلّ على صحّة إمامة معاوية، و حال عليّ مع القوم كحال هؤلاء مع معاوية .. (2).

ص: 98


1- أبو الفتح الكراجكي، التعجّب: 22.
2- من المؤسف حقّا أن يأخذ الشيخ هذا الكلام من كتاب التعجّب و يوجزه إيجازا مخلّا ثمّ لا يشير إلى الكتاب بكثير أو قليل، و نحن إثباتا لما نقول ننقل لك جانبا من هذا الكلام من كتاب التعجّب: فمن عجيب أمر المعتزلة و ظاهر ظلمهم و دعواهم أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان يمدح أبا بكر و عمر في وقتهما و بعدهما، و أنّ ولده و شيعته كانوا يعظّمونهما و يثنون عليهما، و يجعلون هذه الدعوى دليلا على صوابهما، و رضاء أمير المؤمنين عليه السّلام و ذرّيّته بتقديمهم هذا مع المروي المشتهر من ضدّ هذا، فإذا قيل لهم على وجه تسليم الدعوى: ما ننكر أن يكون ما ذكرتموه ورد على سبيل التقيّة منهم مداراة لهما في وقتهما و استعظاما لشيعتهم من بعدهم استعظموا هذا القول و استبعدوه و أنكروه و جحدوه، فإذا سمعوا من سواهم من الحشويّة أنّ الدليل على صواب معاوية بن أبي سفيان بعد صلح الحسن عليه السّلام ما ظهر من الحسن و الحسين و محمّد بن عليّ عليهم السّلام و عبد اللّه بن العبّاس و عبد اللّه بن جعفر و جابر بن عبد اللّه الأنصاري و أبي ذر الغفاري و أبي أيّوب الأنصاري و غيرهم من التعظيم له و الإجلال و إظهار الاتّباع و ترك الإنكار، قالوا لهم: إن كان هذا ممّن ذكرتموه على وجه التقيّة من معاوية لما كانوا عليه في أيّامه من أحكام الضرورة الملجئة إلى الاستعطاف و الاستمالة و لما علموه من المصلحة في ترك المشاقّة و المخالفة فيعتمدون نظير ما ينكرون و يستعملون الاحتجاج الذي يجحدون قلّة تأمآل بوجه المناقضة و عدم انصاف و ديانة .. الخ. انظر كيف أخذ المؤلّف بعضا من هذا الكلام الفاخر النفيس الذي ردّ به المؤلّف على المعتزلة و ليس أهل السنّة و الجماعة، لأنّ رأي هؤلاء في معاوية كرأيهم في الثلاثة بخلاف المعتزلة الذين يكفّرون معاوية و من ثمّ صحّ احتجاجه عليهم.

و لمّا نال عليّ الحكم غيّر كثيرا من الأحكام التي ابتدعوها في الإسلام و ما عجز عنه تركه على حاله كشأن نوافل شهر رمضان و كانوا يصلّونها جماعة فمنعهم عليّ عليه السّلام من ذلك فصاحوا صيحة واحدة (وا عمراه نهينا من سنّة عمر) و سمّوا البدعة سنّة.

و قال عليّ عليه السّلام: لو تشبّثت قدماي لغيّرت أمورا كثيرة (1).

ص: 99


1- و هذا أيضا أخذه من كتاب التعجّب و إليك العبارة التي اقتطف منها المصنّف عبارته: و من العجب قولهم: إذا كان أبو بكر و عمر و عثمان قد تركوا كثيرا من الأحكام و أظهروا البدع في الإسلام فلم لم يغيّر ذلك أمير المؤمنين لمّا انتهى الأمر إليه بعد عثمان و لا يطلعون أنّهم نهاهم عن الجماعة في صلاة نوافل شهر رمضان فتفرّقوا عنه و صاحوا: وا عمراه نهينا عن سنّة عمر بن الخطّاب، فإذا كانت هذه حاله معهم في النهي عن أمر يعلمون أنّ عمر ابتدعه يتحقّقون أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عنه و أنكره و يجعلون البدعة من عمر سنّة فكيف لو غيّر أكثر من هذا بل لو غيّر بدعهم كلّها ... الخ (التعجّب: 24).

و كذلك قال: فإن ترتفع عنّا و عنهم محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه، و إن تكن الأخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إنّ اللّه عليم بما يصنعون (1) (و لا تأس على القوم الفاسقين- المؤلّف).

و يظهر من هذه الأخبار أنّه عليه السّلام لم يتمكّن من التغيير و إنفاذ حكمه، و الدليل الأشدّ وضوحا من هذا و الأكثر صراحة من هذه الرواية الخاصّة و العامّة أنّ عليّا عليه السّلام قال: و اللّه لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم حتّى ينطق (يزهد- المؤلّف) كلّ كتاب و يقول: يا ربّ، قضى عليّ فينا (في هذا- المؤلّف) بقضائك ... (2).

و من هنا يعلم جيّدا أنّه لم يكن قادرا على تنفيذ الأحكام الشرعيّة لذلك كان يقول لقضاته: اقضوا بما كنتم تقضون حتّى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي (3).

مسألة: و هم لا يجيزون التقيّة على الإمام و يقولون: هو حجّة في الحرام و الحلال و الخطأ و الصواب و الأمر و النهي، من هنا لا تجوز التقيّة عليه.

مسألة: و يقولون: إنّ الأئمّة صفوة أخيار و طائفة أبرار و التقيّة عليهم جائزة إذا اعترضت الأسباب و إجماع الأمّة حجّة، و الأمّة معصومة كالإمام عندنا، و ما يقولونه في الجواب هنا فهو جواب لنا، و مع هذا و هم يعلمون أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استعمل

ص: 100


1- نهج البلاغة 2: 64 تحقيق محمّد عبده، نشر دار المعرفة- بيروت.
2- نفسه: 24.
3- رسائل المرتضى 1: 393، تحقيق السيّد مهدي رجائي، ط دار القرآن 1405 ه- مطبعة سيّد الشهداء.

التقيّة في الشعب و في الغار كما أنّ فرار موسى من فرعون كان محض تقيّة فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ (1) و قال تعالى: فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (2) كما أنّ الأنبياء ما رسوا التقيّة كلّ بحسب ظروفه و ما صاحبنه من قرائن الأحوال، قال اللّه تعالى:

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ (3) و لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (4) و هذه عين التقيّة، و لا تنس الصلح يوم الحديبيّة (5).

ص: 101


1- الشعراء: 21.
2- القصص: 20.
3- البقرة: 256.
4- الكافرون: 6.
5- سبحان اللّه! أخذ المؤلّف هذا كلّه من كتاب التعجّب و نحن نذكر عبارة التعجّب هنا لتمكّنك المقارنة بين القولين، قال الكراجكي: و من عجيب أمرهم قولهم كيف جازت التقيّة على الإمام و هو عندكم حجّة فيما فعل و قال به يقطع الخطأ من الصواب، و هم يعتقدون مع هذا أنّ في الأمّة جماعة هم الصفوة الأخيار، و الحجّة للّه على العباد، و بهم يعرف الحقّ و الصواب، و التقيّة عليهم جائزة إذا اعترضت الأسباب، فقد أقاموهم في كونهم حجّة مع الإمام، و أجازوا عليهم من التقيّة ما لم يجيزوا على الإمام، و هذا هو جور الأحكام. و ربّما قالوا أيضا: إذا جازت التقيّة على الإمام فلم لا تجوز على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإذا قرّبنا بينهما في هذا الباب قالوا ليس بصحيح لكم فرق لأنّ عندكم هما حجّتان. إذا قيل لهم: أليس قد أجزتم التقيّة على الطائفة الأخيار و الصفوة الأئمّة الأبرار الذين قولهم بعد النبيّ حجّة في الحلال و الحرام فلم لا تجيزونها على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هما عندكم حجّتان إن تعاطوا الفرق الذي عابوا نظيره و اضطرّوا للتشبّث بما أكروا إيراده. و من العجب إنكارهم جواز التقيّة على الأنبياء عليهم السّلام في شي ء من الأحوال مع علمهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استتر في الشعب و الغار و من قبله هرب موسى و أخبر اللّه تعالى أنّه قال: «ففررت منكم لمّا خفتكم» و كلّ قد اتّقى غيره من الأنبياء لكن القوم ليس من شأنهم الانصاف (التعجّب: 24). فأنت ترى أنّ المؤلّف أخذ عبارات الكراجكي إلّا أنّه صاغها صياغة جديدة و نحى بها نحوا آخر فلم يحظ بإجادته و لا أفاد فائدته.

الباب الثامن عشر فوائد تليق بهذا الكتاب

روى عبد اللّه بن عبّاس في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ (1) قال: نزلت هذه الآية بشأن عليّ عليه السّلام.

و روى مجاهد عن أبيه: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ (2) محمّد وَ صَدَّقَ بِهِ عليّ.

و روي أيضا عن ابن عبّاس، و الاتفاق حاصل على ذلك: الصدّيقون ثلاثة:

حبيب بن مرّي النجّار و هو مؤمن آل يس، (مؤمن من الحواريّين- المؤلّف) (3) و عليّ بن أبي طالب و هو أفضلهم.

و أجمع المحدّثون على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (4).

ص: 102


1- الحديد: 19.
2- الزمر: 33.
3- هذه الروايات الثلاث وردت تباعا في التعجّب، و ذكرها المؤلّف على التعاقب كما وردت في الكتاب المذكور إلّا أنّ المؤلّف خالفه في موضعين، قوله: «مؤمن من الحواريّين» و قوله: مجاهد عن أبيه (ص 34).
4- التعجّب: 34.

و لا يسمّى أبو ذر مع ذلك صدّيقا، و جرت عادتهم على الاستهانة بأمر محبّي عليّ عليه السّلام وردّ حديثه (1)، و يسمّون أبا بكر خليفة رسول اللّه مع اعترافهم بأنّ رسول اللّه لم يستخلفه، فتبيّن على هذا أنّ في مذهبهم يسمّون من ليس بأمين و لا هو بقاض أو عالم و لا رسولا لرسول اللّه، أمينا و قاضيا و عالما و رسولا ...

و لمّا خرج النبيّ إلى تبوك، قال: يا عليّ، إنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، و قال:

أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي (2).

و لم يختلفوا في هذا الحديث بشي ء قطّ، و مع هذا لم يستخلف، و قد تعجّب أمير المؤمنين عليه السّلام من استقالة أبي بكر و نصّه على عمر حيث قال: فواعجبا بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته (و الغافل يعلم أنّ هذين الفعلين في غاية التناقض لأنّ الاستقالة تدلّ على التبرّي و الكراهة، و النصّ على الرغبة) و هذا معنى قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ (3) ... وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ (4).

و من العجب أن يؤمّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أسامة بن زيد على جماعة من أصحابه فيهم

ص: 103


1- أخذه من كتاب التعجّب: إنّ بغضهم لأمير المؤمنين عليه السّلام حملهم على تفضيل محاربيه و تبجيل أعاديه و معانديه، و إهمال ذكر أوليائه و المنسوبين إليه من أصفيائه (ص 34).
2- سبل السلام 1: 44، ذخائر العقبى: 120، فضائل الصحابة: 13 بثلاث طرق ... و ص 14 بثلاث طرق أيضا، صحيح مسلم 7: 120 بثلاث طرق ... و ص 121، سنن الترمذي 5: 302 و 304 بطريقين، المستدرك 2: 337 و 3: 109 و 133، السنن الكبرى 9: 40، مجمع الزوائد 9: 109 و 110 بطريقين ... و ص 111 بطريقين، مسند أبي داود الطيالسي: 28 و 29 بطريقين ..، مسند الصنعاني 5: 406 و 11: 226 بطريقين، مسند الحميدي 1: 38، مسند ابن الجعد: 301، مصنّف ابن أبي شيبة 7: 496 بخمس طرق .. و 8: 562، مسند ابن راهويه 5: 37، السنن الكبرى للنسائي 5: 44 بطرق متعدّدة، خصائص أمير المؤمنين له أيضا: 48 بطرق كثيرة، مسند أبي يعلى 1: 286 و غير ذلك.
3- النحل: 25.
4- العنكبوت: 13.

أبو بكر و عمر، ثمّ يموت و لم يعزله فلا يسمّى أمير رسول اللّه ... و قد روي أنّ أسامة يوما غضب على أبي بكر و قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمّرني عليك فمن استعملك عليّ، فمشى إليه هو و عمر حتّى استرضياه، فكانا يسمّيانه مدّة حياته أميرا (1).

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هذا فاروق أمّتي يفرق بين الحقّ و الباطل (2).

و جاءت الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حقّ عليّ عليه السّلام أنّ محبّته علم على طيب الولادة و بغضه علم على خبث الولادة (3).

و روي في الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما كنّا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم اللّه و رسوله و التخلّف عن الصلاة الخمس و البغض لعليّ بن أبي طالب (4).

و طالما قال عليّ عليه السّلام عن نفسه: «أنا الصدّيق الأكبر، أنا الفاروق الأعظم».

و من عجيب أمرهم مثل هذا قولهم أنّ عثمان بن عفّان ذو النورين و اعتقادهم من نحله هذا بأنّه تزوّج بابنتين كانتا فيما زعموا لرسول اللّه من خديجة بنت خويلد، و قد اختلفت الأقوال فيهما: فمن قائل أنّهما ربيبتاه، و أنّهما ابنتا خديجة من سواه،

ص: 104


1- هذا و ما قبله أخذه من التعجّب: 25.
2- اختزل المؤلّف هذا الحديث من كلام للمؤلّف نفيس نذكره لك لتكون على بصيرة من أمره: و من عجيب أمرهم تسميتهم عمر بن الخطّاب بالفاروق و ليس في نحله هذا الاسم لأحد منهم حجّة و لا لناصره شبهة، و لا ورد في رواية، و لا أوجبه لعمر دلالة، و لا هو مشتقّ من بعض أفعاله فيستحقّه على وجه الاستحقاق، و لم يسمّوا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الفاروق و قد قال فيه النبيّ و يده في يده: هذا فاروق أمّتي، يفرّق بين الحقّ و الباطل (ص 25).
3- عبث المؤلّف بعبارة الكراجكي فأخذ جزءا و أهمل أجزاء، و أضاف إليها جزءا، و إليك العبارة من كتاب التعجّب: و روي عن ابن عمر أنّه ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه إلّا ببغضهم عليّا عليه السّلام. و في رواية أخرى: إنّ محبّته علم لطيب المولد، و بغضه علم على خبث المولد (ص 25).
4- و هذا الحديث تناوله المؤلّف من كتاب التعجّب، و أضاف إليه الجزء الأخير من كتاب آخر، انظر (ص 25) أوّل الصفحة.

و من قائل أنّهما ابنتا أخت خديجة من أمّها و أنّ خديجة ربّتهما لمّا ماتت أختها في حياتها (1) ... (و لا يقولون أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ذو النورين و هو أبو السبطين (2).

و سمّى اللّه نساء النبيّ جميعا أمّهات المؤمنين و هم خصّوا عائشة بهذا الاسم؛ لأنّ باقي النساء لم يحاربن عليّا عليه السّلام، بينما خديجة أوّل الناس إسلاما و أنفقت ألوف الدنانير و جملة من الجواهر الثمينة في سبيل اللّه، و قال رسول اللّه: ما نفعني مال كمالها، و رزقني اللّه الولد منها، و لم يتزوّج في حياتها إكراما لها، و كان يكثر من ذكرها و الثناء عليها، و لكثرة ما كان يذكرها قالت له عائشة يوما: تكثر من ذكر خديجة و قد أبدلك اللّه من هو خير منها، فقال: كلّا، و اللّه ما بدّلت بها من هو خير منها؛ صدّقتني إذ كذّبني الناس، و آوتني إذ طردني الناس، و أسعدتني بمالها، و رزقني اللّه منها الولد و لم أرزق (الولد) من غيرها (3).

ص: 105


1- نفس عبارة التعجّب (ص 34) إلّا بتقديم بعض العبارات و تأخير البعض الآخر، و كلامي هنا مع الكركي حيث يقول: «قد اختلفت فيهما الأقوال ... الخ» كلّا، لم تختلف فيهما الأقوال و إنّما هي فرية ظالمة أطلقها صاحب كتاب الإستغاثة و أنا أتحدّى اليوم من يأتيني بقول لعالم أو ظالم أو حتّى سوقيّ قبل صاحب الاستغاثة يقول هذا القول، و لو تبصّروا قليلا لعلموا أنّه قول واه يحرم على أحد أن يقوله لا سيّما من نسبهما إلى هالة أخت خديجة، فإنّ زينب عليها السّلام كبراهنّ تزوّجت أبا العاص بن الربيع و هو ابن هالة أخت خديجة فهل يجوز أن تتزوّج ابنة رسول اللّه أخاها من أمّها على شريعة المجوس، و قد عالجت هذه المسألة في كتابي «فاطمة الزهراء» علاجا كافيا شافيا و بإسهاب أيضا، فمن أراد فليرجع إليه ليزداد علما بالموضوع.
2- هذه عبارة التعجّب (ص 37) و المؤلّف لم ينقلها إنّما نقل جزءا منها مسخ المعنى، فقال في ختام قوله: و من قائل: أنّهما ابنتا خديجة من زوج آخر و يسمّون عليّا أبا السبطين .. الخ، و لا شكّ أنّه خطأ من الناسخ أمّا إن كان من المؤلّف فقد جاء بجملة من كلام الكراجكيّ و وضعها في غير موضعها فصارت بلا معنى.
3- الحديث موجود في التعجّب (ص 36) كما أنّ معنى الكلام بجملته مأخوذ منه و لكن الاختلاف بين المؤلّف و صاحب التعجّب في الجزء الأخير من الحديث فهو عند الكراجكي: «و رزقه اللّه الولد منها».

و عائشة (و حفصة- المؤلّف) مذيعة سرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التي شهد القرآن بأنّها و صاحبتها قد صغت قلوبهما و أنّهما تظاهرتا عليه و تحاملتا (1) فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ (2) و هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و قال تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ (3) و يظهر من مفهوم الآية أنّهما ما كانتا مؤمنتين، و لا مؤتمنتين، و لم يكن عندهما إيمان و توبة.

و لمّا قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لتقاتلين عليّا و أنت ظالمة له (مع قول اللّه تعالى أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (4) و كيف استحقّت هذه أن يعلن القول بأنّها أمّ المؤمنين و ينادى بتفضيلها على رؤوس العالمين، فإنّا لا نعرف فعلا استحقّت به هذا التمييز) اللهمّ إلّا أن تكون استحقّت بذلك بحربها أمير المؤمنين عليه السّلام و مجاهرتها بعداوته و القدح فيه (5) [و عداوتها لفاطمة عليها السّلام].

و إنّهم يقولون إنّ معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين، و يقولون إنّه استحقّ بذلك بسبب أنّ أخته أمّ حبيبة بنت أبي سفيان إحدى أزواج النبيّ الذين هنّ بنصّ القرآن للمؤمنين أمّهات و لا يسمّون محمّد بن أبي بكر (6) و لا عبد اللّه بن عمر،

ص: 106


1- عبارة التعجّب نفسها: 37.
2- التحريم: 4.
3- التحريم: 5.
4- هود: 18.
5- حصرنا كلام التعجّب بالقوسين و ما كان مشتركا بينهما تركناه بلا حصر، و ما جعلناه بين حاصرتين للمؤلّف وحده، و راجع ص 37 من التعجّب.
6- التعجّب: 37.

و السبب في ذلك أنّ معاوية شهر السيف في وجه عليّ و أنّه قاتله.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه، و بعد ظهور الإسلام استسلم معاوية قبل وفاة النبيّ بخمسة أشهر أو ستّة أشهر، و قد هرب يوم فتح مكّة إلى اليمن، يطعن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يكتب إلى أبيه صخر يعيّره بإسلامه (1) بعد أن كتب إليه أبوه يستقدمه و يطلب منه أن يسلم، فكان جوابه يذكر فيه أمورا منكرة في حقّ النبيّ (2) و طرح نفسه على العبّاس بن عبد المطّلب فسأل فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعفا عنه ثمّ شفع له أن يشرّفه و يضيفه إلى جملة الكتاب فأجابه، و كان أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و غيره كاتبا للوحي ثلاثا و عشرين سنة فما سمّوه كاتب الوحي و سمّوا معاوية كاتب الوحي، و لم يمرّ عليه في الكتابة إلّا ستّة أشهر، و كان كتّاب الوحي أربعة عشر كاتبا أقربهم من رسول اللّه و أحبّهم إليه أمير المؤمنين عليه السّلام، و قضى معاوية عمره منافقا ناقما على الإسلام.

إنّ مجرّد الكتابة لا يحصل بها الفضل ما لم يقارنها صحيح الإيمان لأنّه قد كتب لرسول اللّه عبد اللّه بن أبي سرح ثمّ ارتدّ مشركا، و فيه نزل: وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (3)، و مثله النصراني الذي كان كاتب الوحي فارتدّ من الإسلام و مات على الكفر و دفن فلم تقبله الأرض ... فعل به ذلك ثلاث مرّات، و لّما طلع الصباح و أقبلوا على قبره وجدوه مرميا في الصحراء، فقال إخوانه النصارى: هذا من عمل محمّد و أصحابه، و لكنّهم علموا أنّ ذلك عملى دني ء لا يفعله النبيّ و لا الأصحاب بل كان على أثر ارتداده و كفره، و تركوه

ص: 107


1- التعجّب: 24.
2- و قد ذكر الكراجكي (ص 39) هذه الأمور و منها أبيات من الشعر أوّلها: يا صخر لا تسلمن يوما فتضحنابعد الذين ببدر أصبحوا مزقا
3- النحل: 106.

بلا دفن حتّى أكلته السباع، و كان معاوية واحدا من هؤلاء (1).

(و المأثور أنّ رسول اللّه لعنه على منبره) و أخبر أنّه يموت على غير ملّته.

و روي عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال: أتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فسمعته يقول: (يطلع عليكم رجل يموت على غير سنّتي) يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل من أهل النار، فطلع معاوية (2). (3)

و أخذ معاوية بيد أبيه يوما و النبيّ يخطب، فقال: لعن اللّه القائد و المقود ...

و المشهور أنّه هلك على حالة السكر و شربه سبع سنين، و وضع الصليب في عنقه يتداوى به و كان قد طلبه من يوحنّا (كنيسة يوحنّا- التعجّب 39) و علّقه في عنقه.

و روي أيضا أنّه تشا فى بلحم الخنزير فأكله قبل موته، و غير ذلك.

و إذا شككت بهذه الأخبار فاعلم يقينا أنّه قتل في يوم من أيّام صفّين سبعين صحابيّا أحدهم عمّار بن ياسر الذي قال في حقّه رسول اللّه: خالط الإيمان لحمه و دمه، و قال: يا عمّار، تقتلك الفئة الباغية (4).

ص: 108


1- هذا كلّة أخذه المؤلّف من الكراجكي و زاد عليه، و زاد في العبارة و نقص منها، و لست أدري السبب الداعي لذلك لحدّ الآن، راجع ص 39 من التعجّب.
2- نفس السياق تقريبا إلّا أنّه قدّم و أخّر في الأحاديث و خالف التعجّب في الثالث (ص 39).
3- مناقب أمير المؤمنين لمحمّد بن سليمان 2: 311، شرح الأخبار للنعماني 2: 147، بحار الأنوار 33: 190 و 209، مناقب أهل البيت للشيرواوني: 465، الغدير للأميني 10: 141، مجمع الزوائد 1: 112 و قد غيّروا في ألفاظ الحديث فجاء مكان لفظ «معاوية»، «فطلع غيره»، شرح ابن أبي الحديد 15: 176 «فطلع معاوية»، ضعفاء العقيلي 3: 379 و أشار إلى الحديث و لم يذكره، لسان الميزان، و أشار إلى الحديث و قال: في إسناده نظر .. 4: 182، تاريخ الطبري 8: 186، مؤسسة الأعلمي تحقيق نخبة من العلماء، وقعة صفّين لابن مزاحم المنقري: 220، النصائح الكافية لمحمّد بن عقيل: 261، تقوية الإيمان: 137.
4- المعيار و الموازنة: 300، و أمّا الحديث الثاني فقد أخرجه عدد من الحفّاظ من الفريقين منها ذخائر العقبى: 330، فضائل الصحابة: 51، مسند أحمد 2: 161 و 164، صحيح البخاري 3: 207، صحيح مسلم 8: 186.

و قتل أويس القرني في ذلك اليوم.

و سنّ سبّ عليّ على المنابر في المحافل، و برأ من أهل بيت النبوّة، و حمل الناس على البرائة.

أليس شخص بهذه المثابة يكون التظلّم منه واجبا، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: عليّ سيف على أعداء اللّه، و رحمته لأوليائه.

و قال على المنبر: أنا سيف اللّه على أعدائه و رحمته لأوليائه (1).

و أمّا خالد فقد سماّه أبو بكر سيف اللّه يوم قتل مالك بن نويرة وزنى بزوجته، و من المعلوم عند العلماء أنّه كان السبب في قتل المسلمين في يوم أحد، و ما ابتلي به الرسول من الأذى حتّى كسرت رباعيّته و أدمي فمه و شجّت جبهته، و قتل حمزة و سرى القتل في أنصاره، لأنّه هجم على المسلمين بمأتي راكب من ثغرة الجبل، و كمن للمسلمين حتّى إذا خلت الثغرة من الرماة و لم يبق إلّا قائدهم عبد اللّه بن جبير فقتله و استشهد معه جماعة من المسلمين على يد خالد بن الوليد، و ما دخل على الإسلام من وهن كان من ذلك اليوم المشوم.

و كان سيفه يقتل المسلمين و النبيّ على قيد الحياة و بعد وفاته، ثمّ لمّا تظاهر بالإسلام بعثه النبيّ إلى بني خزيمة ليأخذ منهم صدقاتهم، و كان بينه و بينهم عداوة، و ذحل في الجاهليّة، فخانه في عهده و خالفه على أمره، و قتل المسلمين و استعمل في ذلك ترة كانت بينه و بينهم في الجاهليّة حتّى قام النبيّ خطيبا بالإنكار عليه رافعا إلى السماء يديه حتّى رئي بياض إبطيه، و هو يقول: اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع

ص: 109


1- التعجّب: 40.

خالد، ثمّ أنفذ إليهم بأمير المؤمنين عليه السّلام ليلا في فارطه و أمره أن يدني القوم و يسترضيهم، ففعل ذلك إليهم، و بلغ به مبلغا سرى به عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (1).

و لمّا قبض النبيّ و أنفذه أبو بكر لقتال أهل اليمامة قتل منهم ألفا و مأتي نفس (ألفين و مأتي نفس- المؤلّف) و هم على ظاهر الإسلام، و قتل مالكا صبرا و هو مسلم (2).

و أراد قتل أمير المؤمنين بأمر أبي بكر حتّى كفاه اللّه شرّه.

و لمّا مضى بسوء عمله ورث ابنه عبد الرحمان عداوة أمير المؤمنين عليه السّلام و بارزه مع معاوية بالحرب و جاهر بسبّه.

و العجب من مخالفينا أنّهم يروون قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من لقي اللّه و في قلبه مقت (بغض- المؤلّف) لعليّ بن أبي طالب لقى اللّه يهوديّا (و هو يهوديّ- المؤلّف) و هم يعلمون بأنّ خالدا لعنه اللّه يبغض عليّا عليه السّلام و مع ذلك يسمّونه سيف اللّه.

و من العجب أن تمنع بنو حنيفة من حمل الزكاة إلى أبي بكر و لم يصحّ عندهم إمامته فيسمّونهم أهل الردّة و يستحلّون دمائهم و أموالهم و نسائهم (و يفعل فيهم خالد ما قصصناه عليك و علمته- المؤلّف) ثمّ ينكث طلحة و الزبير بيعة أمير المؤمنين عليه السّلام و يخرجان مع عائشة يستنفرون الخلق و يتناهون مع من تبعهم في حربه و لا يسمّون مع ذلك أهل الردّة (و لا يتحمّلون من فعلهم هذا أيّ غرم، و تصبح رممهم مشاهد تزار من أهل السنّة و الجماعة، و يسمّونهم مؤمنين، و بنو حنيفة لمنعهم الزكاة عن أبي بكر يستحقّون أن ينزل بهم ما نزل) و قد بلغهم قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: حربك يا عليّ حربي، و سلمك سلمي، و قد علمنا أنّ من حارب

ص: 110


1- التعجّب: 41، و طابقت عبارة المؤلّف ما في الكتاب إلّا ألفاظا لم يذكرها المؤلّف لا تغيّر المعنى.
2- التعجّب: 41.

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كافر [فيجب أنّ من حارب أمير المؤمنين كافر كذلك] (1).

و العجيب من أمرهم أنّهم يأخذون الدين و شريعة رسول اللّه بالقياس و اجتهادات الرأي لآحاد الناس و بأهوائهم و فتاوى علمائهم متضادّة و مع ذلك يسمّون أنفسهم أهل السنّة و الجماعة، و الشيعة العاملون بنصوص الأئمّة المعصومين و بها يفتون و يرفضون القياس و اجتهاد أهل السنّة و الجماعة (2).

مسألة: لماذا لم يدع عليّ إلى نفسه في خلافتهم و قد كان الدين و الأمّة معه؟

الجواب: لقد جاءه العبّاس، فقال: يابن أخي، ابسط يدك حتّى أبايعك فيقول الناس عمّ رسول اللّه بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان، فأجابه عليّ عليه السّلام: إنّ رسول اللّه عهد إليّ أن لا أدعو أحدا حتّى يأتوني، و لا أجرّد سيفا حتّى يبايعوني، فإنّما أنا

ص: 111


1- العبارات كلّها لصاحب التعجّب، و قد أدخل بينها المؤلّف عباراته فوضعناها بين قوسين، و ما انفرد به صاحب التعجّب جعلناه بين حاصرتين، و إليك الكتب التي خرّجت الحديث (حربك حربي): رياض المسائل 1: 481، الأمالي للصدوق: 156 و 656، تهذيب الأحكام للطوسي 1: 10، شرح أصول الكافي للمازندراني 7: 134 و 8: 353 و 354، مستدرك الوسائل 1: 19، الغارات 1: 62، مناقب أمير المؤمنين 1: 250، المسترشد للطبري: 621، شرح الأخبار للقاضي نعمان 1: 216 و 306 و 2: 102 و 382 و 397، تفضيل أمير المؤمنين: 24 و قال المحقّق: انظر سنن الترمذي 5: 699 رقم 387، و سنن ابن ماجة 1: 45 رقم 152، و مسند أحمد 2: 442، و المستدرك 3: 149.
2- عبارة صاحب التعجّب في هذا المعنى أفضل و المؤلّف ألمّ بالمعنى و خالف باللفظ، قال (ص 41): و من عجيب أمرهم أنّهم يسمّون أنفسهم بالسنّة و قد غيّروها و بدّلوها و استحدثوها بآرائهم و عقولهم ما ليس منها، و يدّعون أنّهم أهل الجماعة مع أقوالهم المختلفة و قياساتهم المتضادّة، و تكون الشيعة عندهم أهل بدعة و أقوالهم متّفقة و معهم النصّ في كلّ حاجة.

كالكعبة أقصد و لا أقصد، و مع هذا فلي برسول اللّه أسوة حسنة (1).

و نقول أيضا: لمّا علم عليه السّلام أنّ القوم بغاة فلا تؤثّر فيهم الدعوة لزمه حينئذ ترك الدعوة كما فعل هارون في قوم موسى أي بني إسرائيل، و الدليل على ذلك أنّه عليه السّلام لمّا وجد أنصارا بعد مقتل عثمان دعا إلى نفسه و حاربهم.

مسألة: أمّا كونه لم يغيّر أحكامهم فإنّه بسبب عجزه عن ذلك و قد صالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المشركين في الحديبيّة لوم يختلف معهم و لم يخالفهم.

و في يوم قتل فيه عثمان استخفى الإمام عن الناس في حائط بالمدينة لئلّا يقول الناس أنّه راغب في الأمر و طلبه لنفسه، فلمّا فرغ الثائرون من أمر عثمان أقبلوا إليه يطلبونه و غلبوه على أمره فأظهر الامتناع من القبول، فهدّدوه بالقتل إن أبى، و عبّر الإمام عن ذلك بهذه العبارة: حتّى أتى الحسنان و شققت أعطافهم و قيل لي: إن لم تجبنا ألحقناك بابن عفّان، و الحقّ أنّ عليّا لم يزل خائفا حتّى و افاه الأجل (2).

مسألة: حكم عمر في قضيّة واحدة أحكاما عدّة لا يشبه الواحد منها الآخر، و قال له

ص: 112


1- روي هذا القول بسياقات مختلفة و إليك الكتب التي أخرجته من الفريقين: بحار الأنوار 28: 289 و 329، الغدير 5: 343، شرح نهج البلاغة 1: 160 و 9: 196، الدرجات الرفيعة لابن معصوم: 84 و فيه بعض سياق المؤلّف و نسبه السيّد للخاصّة، الإمامة و السياسة لابن قتيبة 1: 21 و 1: 12 الأوّل تحقيق الشري، و الثاني تحقيق الزيني، الجمل للشيخ المفيد، النزاع و التخاصم للمقريزي: 78، تقوية الإيمان لمحمّد بن عقيل: 205، و بالطبع اختلفت ألفاظ هذه الرواية و لم يرد سياق المؤلّف إلّا بعض منه عند ابن معصوم.
2- المذكور في نهج البلاغة: فما راعني إلّا و الناس عليّ كعرف الضبع حتّى لقد وطأ الحسنان و شقّ عطفاي، و المؤلّف هنا غيّر الكلام و لم نعلم من أين أخذه فصيّر الشقّ إشفاق و ترجمه ب «ترسيدم» و العطف لم يترجمه بل صيّر الجملة هكذا «و ترسيدم از اعطاف ايشان» و لا أعرف ماذا يقصد بها.

يوما رجل و قد حكم في قضيّة: أصبت و اللّه يا أمير المؤمنين، فقال عمر: و ما يدريك أنّني أصبت فو اللّه ما يدري عمر أصاب أم أخطأ (1).

و قال عمر: إنّي أستحيي من اللّه أن أخالف أبا بكر، قال عمر هذه الجملة بعد أن أفتى في الكلالة و قال: هم الورثة غير الأولاد و الأبوين، و خالف أبا بكر في ذلك، و خالفه في مأة قضيّة، كما أنّه في أهل الردّة كان على خلاف مع أبي بكر و لا بدّ من كون أحدهما مصيبا و الآخر مخطأ، لأنّ الحقّ لا يكون إلّا واحدا، و لا حياء في قول الحقّ أو فعله (2).

و لمّا سئل أبو بكر عن معنى الأب، قال: أيّ سماء تظلّني و أيّ أرض تقلّني أم أين أذهب أم كيف أصنع إذا قلت بآية من كتاب اللّه بغير ما أراد اللّه (3).

و لمّا سئل عن الكلالة، قال: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن اللّه، و إن كان خطأ فمن قلبي، الكلالة ما دون الولد و الوالدين (4).

ص: 113


1- جاءت الرواية في المسترشد للطبري الشيعي على النحو التالي: قدم نصر بن عبد اللّه الثقفي على عمر من الطائف و معه ناس من أصحابه، فقال لهم: لا تبدؤوا أمير المؤمنين بشي ء حتّى يسألكم، فجائه رجلان يختصمان فحكم بينهما فقالا: أصبت أصاب اللّه بك، فقال عمر: و ما يدريكما فو اللّه ما يدري عمر أصاب أم أخطأ .. ص 541.
2- لا حصر في هذين الأمرين إذ قد يكون كلاهما على باطل، كما لو قال زيد: العشرة تنقسم إلى ثلاث خمسمات و قال الآخر لا بل إلى أربعة.
3- العين العبرة لابن طاووس: 9، المستجاد من الإرشاد للحلّي: 116، تفسير القرطبي 1: 34، و نقل عن أبي بكر الأنباري قوله: و قد كان الأئمّة من السلف الماضي يتورّعون عن تفسير المشكل من القرآن الخ، ثمّ ساق الخبر غير إشارة إلى أبي بكر و عمر، تذكرة الحفّاظ للذهبي 1: 3 و صاغ الرواية صياغة أخرى تحرز كرامة أبي بكر، كشف اليقين للعلّامة الحلّي: 69.
4- الفصول المختارة للشيخ المفيد: 206، مناقب ابن شهر آشوب 1: 312، بحار الأنوار 4: 149.

الباب التاسع عشر في غلوّهم في حبّ الصحابة

اعلم بأنّ القوم نسبوا الكفر و الزندقة إلى اللّه تعالى و وضعوا الأنبياء في مقام الفاسقين و الفاجرين كآدم و يونس و نوح و إبراهيم و يوسف و يعقوب و موسى و هارون و داود و سليمان و إدريس و أيّوب عليهم السّلام، فقد نسبوا إلى كلّ واحد من هؤلاء الأنبياء ما قدروا عليه من المعاصي، لا سيّما ما نسبوه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الهوس الجنسيّ بالنساء و أشياء أخرى لا يحلّ ذكرها و هي مستقبحة جدّا، و قائلها من أهل السنّة و الجماعة بجميع أبعاده، و ينسبون الرفض إلى من نزّه اللّه سبحانه و اعتقد العصمة للأنبياء، و يرونه عدوّا لهم، و هذا من فرط محبّتهم للصحابة، و يبرؤونهم من الظلم الذي لحق بأهل البيت منهم، و لا يؤمنون بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (1) و قوله تعالى: وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (2) و أمثال هذه الآيات، و ذلك من أجل الصحابة لأنّهم أهل خطأ و عصيان، و كانوا مشركين فرجعوا عن الشرك إلى الإسلام

ص: 114


1- آل عمران: 33.
2- ص: 47.

فينسبون المعصية إلى الأنبياء ليدرؤوا العيب عن الصحابة و يصحّحون أخطائهم، و يهوّنون معاصيهم و ذنوبهم، و يتمسّكون بالمتشابه من القرآن لدفع غائلة الشيعة عنهم، و ما علموا أنّ اللّه تعالى قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ (1)، و لا يرون العقل حجّة و يتمسّكون بآراء الرجال و بالقياس لقصور علمهم و كثرة جهلهم، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شأنهم: إنّ من أصحابي من لا يراني بعد ما يفارقني (2).

و هم الذين تركوا خطبة النبيّ أثناء صلاة الجمعة كما قال تعالى: وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً (3)، و كانوا يضحكون و يسخرون وراء رسول اللّه و هم في صلاة الجماعة.

و تقاعدوا عن حرب بدر و كرهوا القتال حتّى أنزل اللّه في حقّهم: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ* يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (4).

و كانوا بمكّة يستحثّون النبيّ على الحرب و الرسول يأبى، و لمّا نزل الجهاد في المدينة كرهوه و أبوه حتّى نزل قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ (5).

و كانوا مصداق الآية التالية فقد كانوا أمام رسول اللّه يظهرون بمظهر الأمانة

ص: 115


1- آل عمران: 7.
2- سبق تخريج هذا الحديث بصيغه المختلفة.
3- الجمعة: 11.
4- الأنفال: 5 و 6.
5- النساء: 77.

و لكنّهم يخونونه في السرّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1).

و تركوا الجهاد و طمعوا بالغنائم كما قال تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ (2). و قال تعالى: لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (3).

و في حرب الخندق كذّبوا بوعد رسول اللّه و شكّوا به، فأنزل اللّه تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ إلى قوله: إِلَّا غُرُوراً (4).

و عاهدوا اللّه تحت الشجرة أن لا ينهزموا فكانت هزيمتهم أظهر من الشمس كما فعلوا في حرب خيبر: وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (5).

و هربوا عن رسول اللّه في حرب حنين و تركوه مع سبعة أو تسعة من أصحابه بيد العدوّ و ولّوا الأدبار: وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (6).

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لتتبعنّ سبيل الذين من قبلكم شبرا شبرا و ذراعا ذراعا حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لاتّبعتموهم، فقالوا: اليهود و النصارى؟ قال: فمن إذن (7).

ص: 116


1- الأنفال: 27.
2- الأنفال: 67.
3- الأنفال: 68.
4- الأحزاب: 10- 12.
5- الأحزاب: 15.
6- التوبة: 25.
7- للحديث صيغ متعدّدة و إليك تخريجه عند الفريقين: الاقتصاد للطوسي: 213، الرسائل العشر: 127، دعائم الإسلام للقاضي نعمان 1: 1، خاتمة المستدرك 1: 158، الإيضاح: 210، المسترشد للطبري الشيعي: 229، مسألتان في النصّ على عليّ للمفيد 2: 30، سعد السعود لابن طاووس: 64. و من كتب السنّة: صحيح البخاري 8: 151، صحيح مسلم 8: 58، سنن ابن ماجة 2: 1322، المستدرك للحاكم 1: 37 و 129 و 4: 455، مجمع الزوائد للهيثمي 7: 260 و 261 بطريقين، مسند الطيالسي: 289، المصنّف للصنعاني 11: 369، بغية الباحث للحارث بن أبي أسامة، كتاب السنّة لابن عاصم: 36 و 37، مسند أبي يعلى 11: 182، صحيح ابن حبّان 15: 95، المعجم الكبير 6: 186 و 17: 13، شرح ابن أبي الحديد 9: 286، الجامع الصغير للسيوطي 2: 401، كنز العمّال 1: 211 رقم 1059 و غيرها كثير.

و قال في حقّهم أيضا: سيجي ء برجال من أمّتي فيؤخذ ذات الشمال، فأقول: يا ربي أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم، و منه قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً (1)، و قال: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ (2) الآية.

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: بينا أنا على الحوض إذ مرّ منكم زمر فتفرّق بكم الطرق فأناديكم: ألا هلمّوا إلى الطريق، فنادى مناد: إنّهم بدّلوا بعدك، فأقول: ألا سحقا ألا سحقا.

و قال قبل وفاته مرارا: جهّزوا جيش أسامة، فلم يفعلوا لئلّا تفوتهم فرصة الخلافة.

و قال في مرضه: آتوني بدواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعدي، فقال عمر:

دعوه فإنّه يهجر في مرضه.

و هؤلاء الذين أظهروا الإيمان و الإسلام لم يكونوا في الباطن كما هم عليه في الظاهر، و لمّا كان عذاب نساء النبيّ في حال ارتكابهنّ للفاحشة مضاعفا لقربهنّ

ص: 117


1- آل عمران: 144.
2- الآية نفسها.

من النبيّ كان عذاب الصحابة كعذابهنّ لأنّ سبب المضاعفة واحد، قال اللّه تعالى:

يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (1) و يقولون: إنّ بعضهنّ تبن ممّا جرى منهنّ، و لكن الكفر مشهور، و التوبة مظنونة، و المقطوع به لا يعارضه المظنون.

قال اللّه تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (2)، و قال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (3).

ردّوا الجهّال إلى السنّة و عليكم بالمجمع عليه فإنّه لا ريب فيه (4).

و ينكرون العقل و الشرع في الحكم بالجنّة لعائشة و حفصة بمجرّد إثبات الزوجيّة لهنّ، ألا يعلمون ما قاله اللّه تعالى في امرأة نوح و امرأة لوط: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ (5) و اسم امرأة نوح والعة، و اسم امرأة لوط والهة، و دخل كلاهما النار و لم تغن عنهما نبوّة زوجيهما.

و جائت هذه الآية في حقّ ابن نوح: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ (6).

ص: 118


1- الأحزاب: 30.
2- الإسراء: 36.
3- الزخرف: 86.
4- ورد الحديث في الكافي على النحو التالي: خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه. و هذا القول من المؤلّف مأخوذ من كلام للكراجكي في المعنى، قال: و أحسن أحوالها- ما ورد في توبة القوم- أن توجب الظنّ لسامعها من غير علم و يقين يحصل بها، و ينتقلون بها من اليقين إلى الظنون، و ينصرفون من المعلوم إلى المجهول، يوالون بالظنّ من عاداه باليقين (التعجّب: 30).
5- التحريم: 10.
6- هود: 46.

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا فاطمة بنت محمّد، اعملي فإنّي لا أغني عنك من اللّه شيئا. يا عبّاس، يا عمّ رسول اللّه، اعمل فإنّي لا أغني عنك من اللّه شيئا (1).

و خاطب الأمم و هو على المنبر: أيّها الناس، لا يدّع مدّع و لا يتمنّى متمنّ و الذي بعثني بالحقّ نبيّا لا ينجي عمل إلّا مع رحمة اللّه، و لو عصيت لهويت، اللهمّ هل بلّغت- قالها ثلاثا- و هؤلاء لا تظلّهم هذه الآية: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ- إلى- عَشِيرَتَهُمْ (2).

و من عجب أنّهم يكرهون خروج فاطمة عليها السّلام من بيتها إلى مسجد أبيها و لا تعدل المسافة خمسة أذرع، تطالب بحقّها في فدك، و يحسنون خروج عائشة مع عشرة آلاف مقاتل من الرجال من اقليم إلى اقليم، و يصوّبون فعلها، و يرون أنّها تائبة، فبعدا للقوم الظالمين.

و من العجب قول المعتزلة أنّ سلمان قبل ولاية المدائن من عمر و هذا دليل على صحّة إمامة عمر (3).

ص: 119


1- تجد صيغة لهذا الحديث فيها اختلاف مع صيغة المؤلّف؛ أحاديث عائشة 2: 295.
2- المجادلة: 22.
3- ورد هذا القول في التعجّب بصورة أحلى و أجلى: و من عجيب أمر المعتزلة و ظاهر مناقضتهم أنّهم يجعلون تصرّف بعض وجوه الشيعة في الصدر الأوّل من قبل عمر بن الخطّاب في الظاهر دليلا على موالاتهم القوم في الباطن كولاية سلمان المدائن و عمّارا الكوفة، و يقولون: لو لم يتوالوهم و يعتقدوا صوابهم ما تصرّفوا تحت واحد منهم و لا تولّوا عملا من قبل من هو ظالم عندهم، و لا يلتفتون مع هذا إلى اعتقادهم أنّ الخيرة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تصرّفوا من قبل معاوية بن أبي سفيان و أظهروا اتّباعه و سمّوه بإمرة المؤمنين و عظّموه و أجلّوه و معاوية عند جميع المعتزلة ظالم فاسق يستحقّ الخلود في نار جهنّم، و يعلمون أنّه عقد لابنه يزيد الإمارة على وجوه الصحابة في حياته. و أنفذهم إلى قتال الروم تحت رايته حتّى بلغوا قسطنطنيّة ممتثلين أمره، منقادين إلى طاعته، متصرّفين تحت حكمه و تدبيره، منهم عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن عمر .. الخ. (ص 32).

مسألة: معاوية في مذهبنا كافر و في مذهبهم فاسق، و كان الصحابة بأجمعهم يعظّمونه و يدعونه بأمير المؤمنين، و كانوا يقبلون ولايته على الولايات و الأقاليم، و ذهبوا إلى قتال الروم تحت إمرة يزيد و بلغوا القسطنطينيّة منهم عبد اللّه بن العبّاس و عبد اللّه ابن عمر و عبد اللّه بن الزبير و أبو أيّوب الأنصاري و أبو هريرة و عمرو بن العاص و أمثالهم، و كان أبو هريرة قاضيا لمعاوية و واليا على المدينة من قبله و غالب بن فضالة واليا على خراسان و المغيرة بن شعبة على الكوفة و سمرة من قبل عبيد اللّه بن زياد على البصرة (1)، و العجب أنّهم لا يقيمون العذر عن هؤلاء و لا يستدلّون بهم على إيمان معاوية و إسلامه لأنّه كافر عند جماعة من المعتزلة «و أنا أيضا على ذلك من الشاهدين» و نستنتج من ذلك أنّ وضع سلمان مع عمر بن الخطّاب كوضع أولئك مع معاوية.

ص: 120


1- تابع هذا الكلام عند الكركيّ ثمّ اعجب من المؤلّف الذي لم يشر إلى المصدر بحرف واحد و قد أخذ كلّ هذا منه: و كذلك جماعة ممّن يفضّلهم المعتزلة قد تصرّفوا من قبل معاوية مثل أبي هريرة في ولايته على المدينة، و غالب بن فضالة الذي تولّى إماره خراسان و المغيرة بن شعبة الذي كان أميرا على الكوفة و سمرة الذي كان أميرا من قبل زياد على البصرة، و كلّ ما علم من تصرّف شيوخ المعتزلة من قبل الولاة الظلمة في قضاء و عمّاله بل يقيمون لهم المعاذير و يخرجون لهم الوجوه التي لا تجد مثلها في تولّي سلمان و عمّار من قبل عمر بن الخطّاب ... الخ. (ص 32).

الباب العشرون في أسمائهم و صفاتهم

اشارة

و هم يدّعون بأنّ ولائهم لأهل البيت أكثر من ولاء الشيعة، و مودّتهم تزيد على مودّتهم لهم، و مع هذا فهم ينبزون بالرفض من يذكر منقبة من مناقب أهل البيت أو فضيلة من فضائلهم، و إذا نسبها إلى شيوخهم صدّقوه و قالوا: حرام ذكر تقديم ذكر عليّ على الشيوخ.

و روي أنّه قال رجل لعليّ عليه السّلام: أحبّك و أتولّى عثمان، فقال له: الآن أنت أعور فإمّا أن تعمى و إمّا أن تبصر (1).

و إذا سمعوا من يقول: اللهمّ العن ظالمي آل محمّد، يغضبون و يقولون: هذا تعريض و رفض و تشرّد و بغض و المسلم لا يكون لعّانا، و الأفضل من اللعن التسبيح، و مع ذلك يلعنون الشيعة اللعن الصريح .. (2) (و يقولون اللعن حرام و التسبيح أولى من اللعن، و يلعنون الشيعة و المعتزلة .. المؤلّف).

و من عجيب أمرهم و ظاهر بغضهم لأهل البيت عليهم السّلام أنّهم إذا ذكروا الإمام الحسن بن عليّ عليه السّلام الذي هو ولد رسول اللّه و ريحانته و قرّة عينه و الذي نحله

ص: 121


1- الصوارم المهرقة: 248.
2- التعجّب: 42.

الإمامة و شهد له بالجنّة حذف من اسمه الألف و اللام و يقال: حسن بن عليّ و لأولاده أولاد حسن استصغارا له و احتقارا لذكره، ثمّ يقولون مع ذلك: الحسن البصري، فيثبتون في اسمه الألف و اللام إجلالا له و إعظاما و تفخيما لذكره و إكراما، و ذلك أنّ هذا البصري كان متجاوزا عن ولاية أهل البيت عليهم السّلام و هو القائل في عثمان قتله الكفّار و خذله المنافقون، و لم يكن في المدينة يوم قتله إلّا قاتل أو خاذل، فنسب جميع المهاجرين و الأنصار إلى الكفر و النفاق (1).

و حاصل الكلام أنّهم لو كانوا يحبّون أهل البيت لم يحملوا في قلوبهم هذه العداوة لهم و لا بدّ من أن يكون الصديق صديق الصديق و هنا نرى القضيّة بعكس ذلك «و الحسن البصريّ تخلّف عن الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام (تخلّف عن عليّ و الحسن و الحسين و لمّا وقف على واقعة الحسين خرج مع قتيبة بن مسلم في جند الحجّاج إلى خراسان ..- المؤلّف) (2).

و يقال أنّ في ديار العرب مدينة تسمّى قرطبة يأخذ شبابها في ليلة العاشور رأس بقرة ميتة و يجعلونه على عصى و يحمل و يطاف به في الشوارع و قد اجتمع حوله الصبيان يصفقون و يلعبون و يقفون به على أبواب البيوت (و يغنّون) و يقولون: يأمسه العروسة اطعمينا المطنفسة، يعنون القطائف، و أنّها تعد لهم

ص: 122


1- لمّا أخذ المؤلّف محتوى كلامه كلّه من كتاب التعجّب آثرنا عبارة صاحب التعجّب لأنّها أكثر تأدية للمعنى، و عبارة المؤلّف قاصرة و إليكها: و إذا ذكروا الحسن و الحسين حذفوا من اسميهما الألف و اللام تحقيرا، فإذا ذكروا اسم الحسن البصريّ ألصقوا به الألف و اللام لأنّ الحسن البصري من أعداء أهل بيت النبيّ .. الخ. راجع التعجّب ص 43 و قارن بعبارة المؤلّف.
2- التعجّب: 43 و لم يذكر واقعة الحسين التي ذكرها المؤلّف و ربط بها خروج الحسن مع قتيبة بل قال: ثمّ خرج مع قتيبة بن مسلم في جند الحجّاج إلى خراسان ... الخ و ما الذي يقصده المؤلّف في واقعة الحسين: هل يريد واقعة كربلاء فأين هي من زمن الحجّاج، و الذي أراه أنّ الخطأ من الناسخ و قد سقطت جملة أو جملتان من العبارة.

و يكرمون و يتبرّكون بما يفعلون ... و يعنون به رأس الحسين (1)، و المشهور أنّ سنّة العراق و خراسان يكتحلون يوم عاشوراء و يطبخون الحبوب من سبعة أصناف و يطبخون الطعام الفاخر المتنوّع و يتزيّنون بألوان الزينة و يلبسون أفضل الثياب، و هذا هو الحبّ الذي حدّثونا عنه حيث يجعلون اليوم الذي قتل فيه آل الرسول يوم فرح و استبشار و يسمّونه عيدا مع وجود آية: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (2) في القرآن يتلونها و لكنّهم لا يعملون بها لأنّ أئمّتهم لشدّة عداوتهم لأهل البيت يزعمون أنّها من المنسوخ و هذه الآيه تكذب ما ادّعوه لأبي بكر من أنّه أنفق ماله على رسول اللّه و على أصحابه.

بيّنة: لا يزال أولاد قتلة الحسين معروفين بالشام إلى اليوم و هم معظّمون و مكرّمون عندهم بمثابة سادات بني هاشم فمنهم في الشام بنو السراويل لأنّ جدّ جدّهم نهب سراويل الحسين عليه السّلام.

و بنو السرج و هم أولاد الذين أسرجوا خيولهم و داسوا صدر الإمام و كسروا عظامه، و وصل بعض هذه الخيل إلى مصر فقلعت نعالها من حوافرها و سمّرت على أبواب الدور للتبرّك بها و جرت بذلك السنّة عندهم حتّى صاروا يتعمّدون على نظيرها على أبواب دور أكثرهم.

و بنو سنان و هم أولاد الذي حمل الرمح الذي على سنان رأس الحسين عليه السّلام.

و بنو الملحي و هم الذين ذروا الملح على جسد الحسين.

و بنو الطشتي و هم الذين وضعوا رأس الإمام بالطشت.

ص: 123


1- نفس عبارة التعجّب: 44، و الحقّ أنّي أدركني التعجّب من المؤلّف لعدم إشارته إلى الكتاب.
2- الشورى: 23.

و بنو القضيبي و هم أولاد الذين أتوا بالسوط إلى يزيد لعنه اللّه ليضرب ثنايا الحسين و هي مقبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و بنو الدرجي فأولاد الذي ترك الرأس في درج جيرون.

و بنو المكبّري فهم أولاد الذي كان يكبّر خلف رأس الحسين و هو بدمشق مع بني الملحي معروفون. و نظم شاعر هذا المعنى فقال:

جاؤوا برأسك يابن بنت محمّدمترمّلا بدمائه ترميلا

و كأنّما بك يابن بنت محمّدقتلوا جهارا عامدين رسولا

قتلوك عطشانا و لم يترقّبوافي قتلك التنزيل و التأويلا

و يكبّرون بأن قتلت و إنّماقتلوا بك التكبير و التهليلا و قد بلغنا أنّ رجلا قال لزين العابدين عليه السّلام: إنّا لنحبّكم أهل البيت، فقال عليه السّلام:

أنتم تحبّونا حبّ السنّورة من شدّة حبّها لولدها تأكله.

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أنا أوّل من يجثو يوم القيامة للخصومة .. (1).

و لا يحاولون مسائلة أنفسهم عن هذا الحقد على عليّ و أهل بيته ما سببه؟ و من أين أتاهم؟ و ما هي دواعيه التي حملتهم على لعنه على منابرهم ألف سنة فلم ينكر عليهم مسلم واحد، و لم يردّ عليهم بقول أو عمل، و لم يسائلهم عن المبرّرات المبيحة للعنه و كيف استحقّها، و هنا من يلعن ظالمي عليّ أو ينطق به لسانه يهبّون فورا لخصومته.

فصل

و من أعاجيبهم أنّهم زعموا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ في جنبي عمر ملكين كامل البهائي ج 2 124 فصل ..... ص : 124

ص: 124


1- تجد هذا كلّه سوى الشعر موجودا في التعجّب (ص 46) فما قبلها، و ذكر ابن شهر آشوب أنّ الشعر لخالد بن معدان (المناقب 3: 363).

يسدّدانه و يتّقيه، و إنّ ملكا ينطق على لسانه مع أنّهم ينسبون إلى رسول اللّه و إخوانه من الأنبياء عليهم السّلام و يبرؤون ساحة عمر من المعاصي لحبّهم إيّاه و لأنّهم غاية في الجهل، و تناسوا إسلامه يوم أسلم و هو سكران، و عبادته لثلاثمائة و ستّين صنما.

و في يوم الحديبيّه شكّ في نبوّة محمّد- كما مرّ- حتّى آذى النبيّ فاستقبل عمر قائلا له: أين كنتم يوم أحد إذ تصعدون و لا تلوون على أحد و أنا أدعوكم (و الرسول يدعوكم) (1) و يوم الأحزاب: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (2).

و لمّا راى عمر لعنه اللّه غضب رسول اللّه قال: أعوذ باللّه من غضب اللّه و غضب رسوله، و اللّه يا رسول اللّه إنّ الشيطان ركب على عنقي، فكيف يركب الشيطان على عنق من بينى عينيه ملك (ملكان) يسدّده؟!

فلمّا كان يوم الفتح أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مفتاح الكعبة و قال: ادعوا لي عمر، فلمّا أتاه قال: أي عمر، هذا الذي كنت قلت لكم، و كذلك لمّا عرّف في حجّه الوداع أحضره و قال له مثل ذلك. و روي عن عمر أنّه قال: ما شككت مثل يومئذ (3) و هذا من العجب أنّ النبيّ يحتاج إلى الوحي و ملكان يلازمان عمر.

(و من عجيب أمرهم في مثل هذا دعواهم أنّ النبيّ قال:) إنّ اللّه ضرب الحقّ على لسان عمر و قلبه، فكيف يصحّ هذه الدعوى و قد تكلّم في إمارته في الحدّ بسبعين قضيّة يخالف بعضها بعضا، و قال: لا تغلوا في مهور النساء فتجاوزوا أربعمائة درهم حتّى قامت إليه امرأة فقالت: كتاب اللّه أحقّ أن يتّبع أم قولك؟ قال:

ص: 125


1- اقتباس من الآية 153 من سورة آل عمران.
2- الأحزاب: 10.
3- التعجّب: 59 و 60.

بل كتاب اللّه، فتلت عليه قول اللّه تعالى: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً (1)، فقال لمّا استمع ذلك: ثكلتك أمّك يا عمر، كلّ أحد أفقه منك حتّى النساء (2) (و عند المؤلّف أنّ عمر قال): ما علمت بهذا. فقالت المرأة: ثكلتك أمّك يا عمر، كلّ واحد أفقه منك حتّى النساء.

و حكم يوما بين رجلين فقال أحدهما: أصبت يا عمر، فقال: لا يعلم عمر أصاب أم أخطأ بل اللّه يعلم ذلك.

و رووا عن النبيّ أنّه قال: ما من أحد إلّا و له شيطانان يلازمانه (3)، فاستبدلوا الملكين بالشيطانين الملازمين لعمر بن الخطّاب الحاضرين لدى عينيه، و لكن أين كان هذان الملكان يوم كان مشركا يعبد اللات و العزّى؟!

مسألة: و ممّا يقدح في عمر ما قاله في أهل الشورى التي لا يقولها أحد في أحد «و قال لكلّ واحد قولا لا يصحّ معه أن يرد إليه إمارة مدينة و لا تدبير ضيعة ..» (4)

ص: 126


1- النساء: 20.
2- التعجّب: 60.
3- المروي عن النبيّ و جاء في عوالي اللئالي 4: 97: ما منكم أحد إلّا و له شيطان، فقيل له: و أنت يا رسول اللّه؟ فقال: و أنا و لكن أعانني اللّه عليه فأسلم، و نسبه محقّق الكتاب إلى أحمد بن حنبل 1: 257 س 2 و قال: قيل معناه: إنّ شيطاني أسلم أي صار مسلما فلم يعارضني في شي ء، و قيل معناه: أنّي أسلم منه بإعانة اللّه تعالى لي عليه فلم يضرّني بشي ء، و كأنّه أراد بالشيطان هنا القوّة الوهميّة المخالفة لأحكام العقل كما تقوله أهل الإشارة، لأنّهم يقولون أنّ المراد بآدم العقل و بإبليس هو الوهم و المراد بالملائكة باقي القوى الإنسانيّة الظاهره و الباطنة، و المراد بالسجود الإذعان و الطاعة (ص 97). و أقول: فات المحقّق عن أن يسأل أهل الإشارة عن حوّاء و ما من شكّ سوف يقولون: إنّها النفس رجما بالغيب، إذ لا دليل على هذا إلّا الأوهام و التخرّصات.
4- التعجّب: 60. قارن بعبارة المؤلّف.

(لا يصحّ معه مع وجود هذه العيوب التي نسبها إليه أن يسند إليه إدارة بيت أو خوان طعام أو أتون حمّام، فما بالك بملك العالم- المؤلّف). و مع ذلك فقد عهد إليه بإدارة الحكم و إمامة الناس. فدعا طلحة و وصفه بالنخوة و الكبر، و الزبير بالجفاء، و قال عنه: مؤمن الرضا كافر الغضب، و وصف سعدا بأنّه صاحب مقنب و قتال، و أنّه لا يقوم بتدبير قرية (1) (و عبد الرحمان بضعفه- التعجّب) و وصف عثمان بأنّه يحمل أهله على رقاب الناس و قال: إنّ روثة خير منه، و وصف عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بأنّه ذو لطافة و فكاهة (و بطالة) يقول هذه الجمله الخبيثة في إمام معصوم مفترض الطاعة على العالم، و كان يقول- و عليّ حاضر و الحسنان و العبّاس- دائما:

لو كان سالم مولى حذيفة ابن اليمان حيّا ما يخالجني فيه الشك (و بحضرته أمير المؤمنين و العبّاس فتخالجه الشكوك فيهما ..) و لم يدركه الحياء من أهل بيت النبيّ مع عصمتهم و طهارتهم و جعل الأمر شورى بين المسلمين فلا هي من اللّه و لا من رسوله.

و أعجب من هذا ما قاله في مرشّحيه للخلافة: إن اختلفوا ثلاثة و ثلاثة فالحقّ في الثلاثة التي فيها عبد الرحمان و اقتلوا الثلاثة الأخرى!! (لأنّه يعلم أنّ هوى عبد الرحمان مع عثمان و ليس مع عليّ عليه السّلام لأنّ بين الاثنين عبد الرحمان و عليّ عداوة، و بينه و بين عثمان صداقة و صهر، و قال: اقتلوا التي ليس فيهم عبد الرحمان، فهل هذا إلّا قصد لقتل عليّ ... (2)).

ص: 127


1- أخطأ المؤلّف في فهم العبارة فترجم المقنب بالمقت أي الكره، و القتال بسوء الأفعال هكذا: «و سعد را صفت كرد به مقت و افعال بد!!» راجع ص 89 من الكامل و ص 60 من التعجّب. و المقنب جماعة الخيل و الفرسان، و قيل هي دون المائة، و تقرأ بالكسر. لسان العرب 1: 690 بتصرّف.
2- هذه عباره المؤلّف و هي نفس عبارة التعجّب لكن بإجراء شي ء من التغيير، راجع ص 60 من التعجّب.

و أعجب منه حين يأمر بقتل جماعة يزعمون أنّهم من أهل الجنّة بدون ذنب جنوه و لا جريمة ارتكبوها: إنّها الجرأة على الدماء و على محظورات الدين.

و من العجب قوله الحقّ في الثلاثة التي فيها عبد الرحمان مع سماعه قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور حيثما دار (1).

ص: 128


1- شرح ابن أبي الحديد 9: 88 و 18: 72.

الباب الواحد و العشرون في بعض فوائد كتاب الفتوح لأبي محمّد أعثم الكوفي

اشارة

اعلم: أنّ ابن الأعثم من علماء أهل السنّة و هو متعصّب لهم إلى الدرجة التي يقول فيها في كتاب الفتوح هذه رواية أهل السنّة و لا أروي الروايات الأخرى لأنّي أخشى أن تقع بيد الشيعة فتكون حجّة علينا.

و يقول في أوّل كلام السقيفة إسنادا إلى الهيثم مالك بن التيّهان الأنصاريّ (1) أنّ رسول اللّه لمّا توفّي شمت فيه اليهود و النصارى و أظهر المنافقون الذين كانوا حول المدينة مردوا على النفاق نفاقهم وهبوا لإتلاف الدين و لكن لم يشر إلى هؤلاء المنافقين من أيّ فرقة هم، أمّا عبد اللّه بن سلول فقد هلك في عهد النبيّ و قد أخبر

ص: 129


1- يبدأ كتاب الفتوح بقول المؤلّف: الحمد للّه ربّ العالمين و العاقبة للمتقين و لا عدوان إلّا على الظالمين و صلّى اللّه على سيّدنا و نبيّنا محمّد خاتم النبيّين و المرسلين و على آله و صحبه أجمعين: إنّ رسول اللّه لمّا توفّي قام بالأمر بعده الإمام أبو بكر الصدّيق و قد بويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه النبيّ بسقيفة بني ساعدة ... الخ، و لم يذكر ابن التيّهان الأنصاريّ هذا. راجع الفتوح 1: 3 ط دار الكتب العلميّة 1406- أولى، تقديم و تعليق نعيم زرزور، و الكتاب طالته يد التحريف و غيّرت حتّى عباراته و وردت فيه كلمة مليون و هي كلمة لم تعرفها العربيّة إلّا في العصر الحديث.

اللّه تعالى عن هذا الوضع بقوله: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ- إلى قوله- فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً (1) و نظير هذه الآية فتبيّن من هذا أنّ ظهور النفاق لم يكن سوى أبي بكر و جماعته، فقال قال: أيّها الناس (من كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لم يمت، و من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات) ... ألا و إنّ محمّد قد مضى لسبيله و لا بدّ لهذا الأمر من قائم يقوم فدبّروا و انظروا و هاتوا رأيكم (رحمكم اللّه) فناداه الناس من كلّ جانب: نصبح و نظر في ذلك إن شاء اللّه.

فلمّا كان من الغد انحازت طائفة من المهاجرين إلى أبي بكر و انحازت طائفة من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة و جلس عليّ بن أبي طالب مغموما بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عنده نفر من بني هاشم و فيهم الزبير بن العوام (2).

ثمّ قال: و كان أوّل من تكلّم يومئذ خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و قال: يا معاشر الأنصار، إنّكم إذ قدّمتم اليوم ... (3) (قريشا) صاروا مقدّمين عليكم إلى يوم القيامة (و أنتم الأنصار في كتاب اللّه تعالى و إليكم كانت الهجرة، و فيكم قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله) فأجمعوا أمركم على رجل تهابه قريش و تأمنه الأنصار. قال: فقالت الأنصار: صدقت يا خزيمة، إنّ القول لعلى ما تقول: رضينا بصاحبنا سعد بن عبادة ....

ثمّ وثب أسيد بن حضير الأنصاريّ الأوسيّ (و نصح نصائحه ثمّ قال:) إنّ هذا الأمر في قريش دونكم فمن قدّموه فقدّموه، و من أخّروه فأخّروه، قال: فوثب إليه نفر من الأنصار فأغلظوا له في القول و سكّتوه فسكت.

ص: 130


1- آل عمران: 144.
2- الفتوح 1: 3 و 4.
3- قال الناشر: بياض في الأصل.

ثمّ وثب بشير بن سعد الأنصاريّ الأعور و كان أيضا من أفاضل الأنصار- فقال: (إنّما أنتم بقريش و قريش بكم، و لو كان ما تدّعون حقّا لما اعترض عليكم فيه، فإن قلتم بأنّا آوينا و نصرنا فما أعطاهم (اللّه) خير ممّا أعطيتم فلا تكونوا كالذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا و أحلّوا قومهم دار البوار جهنّم، الآية. (و كان يميل لتقديم قريش).

ثمّ وثب عويمر بن ساعدة الأنصاريّ- و هو من الذين أنزل اللّه فيهم في مسجد قباء فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (1)- فقال: يا معشر الأنصار، إنّكم أوّل من قاتل عن هذا الدين فلا تكونوا أوّل من قاتل أهله عليه، فإنّ الخلافة لا تكون إلّا لأهل النبوّة فاجعلوها حيث جعلها اللّه (جعلوها) فإنّ لهم دعوة إبراهيم.

قال: ثمّ وثب معن بن عدي الأنصاري فقال- و كان هواه في أبي بكر-: (يا معشر الأنصار، إن كان هذا الأمر لكم من دون قريش فخبّروهم بذلك حتّى يبايعوكم عليه، و إن كان لهم من دونكم فسلّموا لهم فو اللّه! ما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى صلّى بنا أبو بكر فعلمنا أنّه رضيه لنا لأنّ الصلاة عماد الدين (2)؟

فبينا الأنصار كذلك في المحاورة إذ أقبل أبو بكر و عمر و عثمان و أبو عبيدة بن الجرّاح و جماعة من المهاجرين فإذا هم بسعد بن عبادة قد زمل بالثياب في سقيفة بني ساعدة من علّة كان يجدها في بدنه، قال: فقعد المهاجرون و سكتوا ساعة لا يتكلّمون بشي ء، فتكلّم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ... فقال: يا معاشر

ص: 131


1- التوبة: 108.
2- أعرض المؤلّف عن هذا الكلام و لقد أجاد في ذلك لأنّ أبا بكر لم يأمره النبيّ بالصلاة و هذا كلام موضوع.

المهاجرين، لقد علمتم و علمنا أنّ اللّه تبارك و تعالى بعث نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و كان في بدء أمره مقيما بمكّة على الأذى و التكذيب لا يأمره اللّه عزّ و جلّ إلّا بالكفّ و الصفح الجميل، ثمّ أمره بعد ذلك بالهجرة و كتب عليه القتال، و نقله من داره، فكنّا أنصاره و كانت أرضنا مهاجره و قراره، ثمّ إنّكم قدمتم علينا فقاسمناكم الأموال، و كفيناكم الأعمال، و أنزلناكم الديار، و آثرناكم بالمرافق؛ فنحن أنصار اللّه و كتيبة الإسلام.

إلى أن قال: و قد خرج من الدنيا و لم يستخلف رجلا بعينه و إنّما و كل الناس إلى ما وكلهم اللّه إليه من الكتاب و السنّة الجامعة، و اللّه تبارك و تعالى لا يجمع هذه الأمّة على الضلال ... (1).

جواب: إذا كان النبيّ توفّي و لم يستخلف فكيف صار أبو بكر أولى بها من بني هاشم و الأنصار؟! فإن كان قرشيّا فإنّ عليّا قرشيّ و هاشميّ و عالم. و أبو بكر ليس بهاشميّ.

جواب آخر: فمن دعاه خليفة رسول اللّه فقد كذب على رسول اللّه لأنّه خليفة الصحابة فينبغي أن يخاطب بهذا الاسم و إلّا فإنّه مسئول يوم القيامة عن هذه التسمية بالضرورة: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (2).

نعود إلى قصّة السقيفة: فلمّا فرغ ثابت بن قيس من كلامه أقبل عليه أبو بكر فقال: يا ثابت، أنتم لعمري كما وصفت به قومكم لا يدفعهم عن ذلك دافع، و نحن الذين أنزل اللّه فينا: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا

ص: 132


1- الفتوح 1: 4 و 5 و 6.
2- الصافّات: 24.

مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (1) و قد أمركم اللّه في آية أخرى أن تكونوا معنا حيث يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (2).

جواب: وصف اللّه تعالى المهاجرين هنا بالفقراء و يزعم الخصوم أنّ أبا بكر لم يكن فقيرا بل كان موسرا متمكّنا، و مثله عثمان؛ لأنّ أبا بكر- كما يزعمون- أنفق أربعين ألف درهم في المدينة، و عثمان جهّز جيش العسره فهيّأ لهم عدّة الحرب من الزاد و الراحلة، و على هذا فمن يملك هذه الألوف من الدراهم و هذه القدرة على تجهيز جيش لا يعتبر من الفقراء، فعلم من هذا أنّ الآية لا تشملهما بناءا على ما ادّعاه الخصم لهما.

عجب من هؤلاء ينقلبون عند المباهات و المفاخره إلى موسرين و عند طلب الخلافة إلى فقراء؛ إمّا شاكرا و إمّا كفورا. فينبغي عليهم أن يثبتوا على حالة واحدة لكي نجيبهم و إلّا فإنّ الترك للتناقض.

جواب: قال: «و ينصرون اللّه و رسوله» متى نصر أبو بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ هل كان النبيّ يأوي إلى بيته مند الصغر حتّى بلغ الأربعين؟ و هل كان في زمن الحصار في الشعب عنده؟ و هل أعان على الحرب كبدر و حنين و أمثالهما؟ حاشا و كلّا بل كان في كلّ الحروب عاجزا مقهورا مولّيا للدبر هاربا «يولّون الدبر». فإن عدنا إلى طفولة

ص: 133


1- الحشر: 8.
2- التوبة: 119.

النبيّ فإنّ كافليه والدا عليّ عليهم السّلام أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (1) أي- و اللّه أعلم- أنّ عمّك أبا طالب آواك و خطب لك خديجة للتقوّى بمالها وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (2).

و في حصار الشعب كان ناصره أبا طالب و جعفرا الطيّار أخا عليّ عليهم السّلام، و أغنى عليّ بنفسه في الحروب كلّها (3) وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ (4) بعليّ بن أبي طالب عليهما السّلام.

و إذا أراد بهذه النصرة ما كان بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإنّه ذهب يلاطم على الملك و ترك رسول اللّه على المغتسل و لم يشهد جنازته لئلّا تفوته الفرصة، فمتى نصر رسول اللّه؟ و أيّ يوم من هذه الأيّام نصره به؟

جواب آخر: و قال: إنّ لي شيطانا يعتريني، و من كان بهذه الصفة فكيف يصنّف مع الصادقين مطلقا، و المراد من الصادق من صدّق محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و هذه صفة مشتركة بينه و بين الأمّة، و الباري تعالى لا يأمر باتّباع الصادقين الذين يجوز عليهم الخطأ لعدم الثقة بقوله أو فعله لطروّ الخطأ عليهما، إذ من الجائز أن يكون كلّ ما قاله أو فعله محض خطأ و انحراف و معصية، و على هذا لا يصحّ أن يكونوا معه دائما فينبغي أن يكون هذا الحكم حكما مقيّدا- أي كونوا مع الصادقين- و لا دليل على تقييده بل الدليل قائم على إطلاقه كما هو ظاهر الآية.

و دليل ما أثبتناه عن أبي بكر كلامه حيث يقول: فإن استقمت فاتّبعوني، و إن اعوججت فقوّموني، و لا جرم أن يكون على اعوجاج دائما لوجود هذا الشيطان الذي يعتريه، فتبيّن من هذا أنّ الصادقين هم المعصومون و هم عليّ و أهل بيته

ص: 134


1- الضحى: 6.
2- الضحى: 8.
3- ذكر المؤلّف بأنّها أربع و ثمانون حربا.
4- الأحزاب: 25.

بدليل قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1).

دليل آخر: الحديث الصحيح: من أراد أن يحيى حياتي و يموت موتي و يسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي فليتولّ عليّ بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى و لن يدخلكم في ضلالة.

و منه: إن ولّيتموها عليّا فهاد مهتد يقيمكم على الصراط المستقيم (2) و أمثال هذه الأحاديث المرويّة في كتب القوم التي تجلّ عن العدّ و الحصر، المعبّرة عن عصمة عليّ و طهره.

فلمّا ثبت أنّ الفقراء المذكورين في الآية ليسواهم، ثبت أنّهم عليّ (و أولاده) عليهم السّلام و الدليل على ذلك ما ورد عن طريق الخصوم بأنّ عليّا تصدّق بثلاثة أقراص من الشعير فأنزل اللّه تعالى سورة هل أتى في حقّه، و أعطى عشرة دراهم و نزلت آية النجوى فيه، و أعطى أربعة دراهم و نزل قوله تعالى فيه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً (3) قيل: كان لعليّ أربعة دراهم فتصدّق بدرهم منها ليلا، و بدرهم نهارا، و بدرهم علانية و بدرهم سرّا فنزل قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ

ص: 135


1- الأحزاب: 33.
2- الحاكم 3: 128 و قال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه، المعجم الكبير للطبراني 5: 194، كنز العمّال 11: 611 رقم 32960، خصائص الوحي المبين لابن البطريق: 30، التفسير الصافي للفيض الكاشاني 2: 357. و أمّا الحديث: «إن ولّيتموها عليّا» فقد أخرجه الحاكم في المستدرك 3: 142 و قال: و هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه. و الحسكانيّ في شواهد التنزيل 1: 85 و ليس فيه صدر الحديث بل اقتصر على الصحيح و هو: «إن ولّيتموها عليّا فهاد مهتد يقيمكم على صراط مستقيم».
3- البقرة: 274.

الآية، في حقّه، و لئن كانت الدراهم التي أنفقها يسيرة و لكن الآيات النازلة فيه كثيرة، و كلّها مقبولة عند اللّه تعالى.

نعود إلى قصّة السقيفة: فقال أبو بكر: و قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين:

عمر بن الخطّاب أو أبا عبيدة بن الجرّاح فبايعوا أيّهما شئتم. قال: فقال ثابت بن قيس: يا معشر المهاجرين، أرضيتم بما يقوله أبو بكر؟ فقالوا: قد رضينا، فقال: يا هؤلاء، ليس ينبغي لكم أن تنسبوا أبا بكر لعصيان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: و كيف ذلك؟ فقال: لأنّكم ذكرتم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اختاره و رضيه لكم في حياته فقدّمه للصلاة و لم يفعل ذلك إلّا و قد استخلفه عليكم فقد عصى أبو بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بإخراج نفسه من الخلافة و قوله: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطّاب و أبا عبيدة بن الجرّاح «فكيف لكما قدوة اللتين» (1) و قد اختاره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فضّله عليهما، و لعلّكم يا معاشر المهاجرين أنتم الذين عصيتم اللّه في شهادتكم على نبيّكم أنّه استخلف أبا بكر.

(فقال المهاجرون: لقد قدّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أصلاة و هي الإمامة أي إمامة الصلاة .. فقال ثابت: كان رسول اللّه مريضا و أبو بكر يصلّي بالناس، فلمّا سمع النبيّ صوته قام من مكانه إلى المسجد و ذهب إلى الصفّ الأوّل و تقدّم للصلاة و صلّى بالناس فكانت تلك الصلاة بإمامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ليس بإمامة أبي بكر، فصدّقه المهاجرون بأجمعهم) (2).

فقال ثابت أو المهاجرون: لقد علمتم يا معشر الأنصار أنّ أوّل من عبد اللّه على وجه الأرض و آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوليائه و عشيرته، و هم أحقّ الناس من بعده

ص: 136


1- قال الناشر: كذا في الأصل.
2- هذه الفقرة محذوفة من الكتاب.

بهذا الأمر (1) (و أولى بالتقديم). و هذه القصّة مذكورة في كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفيّ و هي حجّة ظاهرة على بطلان دعواهم.

قال: فوثب الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاريّ و صاح في بني عمّه صيحة ثمّ قال: يا معشر الأنصار، انظروا لا تخدعوا عن حقّكم، فو اللّه ما عبد اللّه علانية إلّا في بلادكم، و لا اجتمعت الصلاة إلّا في مساجدكم- إلى أن قال- فإن أبى هؤاء القوم ما نقول، فمنّا أمير و منكم أمير.

قال: فوثب أسيد بن حضير و بشير بن سعد فقالا: بئس ما قلت يا حباب، و ليس هذا برأي أن يكون أميران في بلد واحد ... فقال الحباب: (و اللّه يا أسيد و يا بشير بن سعد ما أردت بذلك إلّا عزّكما ... فقال عمر: «اللّه واحد، والدين واحد، و الإسلام واحد، و الكتاب واحد، و النبيّ واحد، فينبغي أن يكون الإمام واحدا ..» (2) لأنّه إن جرى اليوم إمامان جرى غدا إمامان- إلى أن قال عمر- لا يصلح لها إلّا أبو بكر، فأنكر عليه الحباب قوله و راح يحرّض الأنصار على أخذها و تقديم سعد بن عبادة الخزرجيّ، و جرى بين عمر و حباب مهاترات و شتائم، فكان عمر يميل إلى أبي بكر، و هوى حباب في سعد.

إل أن قال عمر: ألم تسمعوا ما قاله رسول اللّه لكم: الأئمّة من قريش، و لا يكون هذا الأمر إلّا فيهم (3)؟ فقال بشير بن سعد: بلى و اللّه قد سمعنا ذلك (و لا نخالفه).

فقال أبو بكر: أحسنت رحمك اللّه و جزاك عن الإسلام خيرا، إنّي لست أريد هذا الأمر، هذا عمر بن الخطّاب (و هذا) عبيدة بن الجرّاح فأيّهما شئتم بايعوا (عمر أو أبا عبيدة).

ص: 137


1- الفتوح 1: 6 و 7.
2- لم يرد كلام عمر في الفتوح بل ورد معناه، راجع 1: 8، و لذا وضعناه بين هلالين و أمّا الكلام بعده فهو للفتوح.
3- هذا القول قاله معن بن أبي عدي الأنصاريّ في الفتوح 1: 10، و المؤلّف نسبه إلى عمر.

فقال عمر و أبو عبيدة: لا يتولّى هذا الأمر أحد سواك، أنت أفضل المهاجرين و ثاني اثنين في الغار، و خليفة رسول اللّه على الصلاة، فمن ذا الذي يتقدّمك و يتولّى هذا الأمر عليك؟ ابسط يدك حتّى نبايعك.

فقال بشير بن سعد الأنصاري: و اللّه ما يبايعه أحد قبلي، ثمّ تقدّم بشير فصفق على يدي أبي بكر بالبيعة، فقال له الحباب بن المنذر: يا بشير، ما الذي أحوجك إلى ما صنعت؟ أنفست على ابن عمّك سعد بن عبادة أن يكون أميرا؟ فقال بشير:

لا و اللّه و لكنّي كرهت أن أنازع قوما حقّا جعله اللّه لهم دوني. قال: فضرب الحباب ابن المنذر يده إلى سيفه فاستلّه من غمده و همّ أن يفعل شيئا، فبادرت إليه الأنصار فأخذوا بيده و سكّنوه، فقال: أتسكّنوني و قد فعلتم ما فعلتم؟ أما و اللّه و كأنّي بأبنائكم و قد وقفوا على أبوابهم يسألون الناس الماء فلا يسقون.

قال: فقال أبو بكر: و منّي تخاف ذلك يا حباب؟ فقال: إنّي لست أخاف منك و لكنّي أخاف من يأتي بعدك. فقال أبو بكر: فإذا كان ذلك و رأيت ما لا تحبّ فالأمر في ذلك الوقت إليك. فقال الحباب: هيهات ذلك يا أبا بكر من أن يكون ذلك، إذا مضيت أنا و أنت و جاءنا قوم من بعد يسومون أبنائنا سوء العذاب و اللّه المستعان.

قال: و تابعه الأنصار بالبيعة لأبي بكر و انكسرت الخزرج خاصّة لما كانوا عزموا عليه من أمر صاحبهم سعد بن عبادة. قال: فازدحم الناس بالبيعة على أبي بكر حتّى كادوا أن يطئوا سعد بن عبادة بأرجلهم، فقال رجل من الأنصار: يا هؤلاء، اتّقوا سعدا فإنّه عليل شديد العلّة (و حمل سعد من السقيفة إلى بيته. قال:

و أقبل عبد الرحمان بن عوف الزهريّ حتّى وقف على جماعة من الأنصار فقال: يا معشر الأنصار، إنّكم إن كنتم ما ذكرتم من الفضل و الشرف و النصرة فو اللّه لا ينكر لكم ذلك .. الخ.

ص: 138

فقال له زيد بن أرقم الأنصاري: يابن عوف! إنّا لا ننكر فضل من ذكرت و إنّ منّا لسيّد الخزرج سعد بن عبادة .. الخ. يابن عوف، لو لا أنّ عليّا بن أبي طالب رضى اللّه عنه و غيره من بني هاشم اشتغلوا بدفن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بحزنهم عليه فجلسوا في منازلهم ما طمع فيها، فانصرف و لا تهيّج على أصحابك ما لا تقوم له.

قال: فانصرف إلى أبي بكر فخبّره بما كان من مقالته للأنصار و بردّهم عليه، فقال أبو بكر: لقد كنت غنيّا عن هذا، أن تأتي قوما قد بايعوا و سكتوا فتذكر لهم ما قد مضى (1).

جواب: هذا الذي قدّمناه هو رواية ابن أعثم الكوفي حرفا بحرف، و هو مخالف للإجماع المدّعى على خلافة أبي بكر، و مع هذا الجدال العنيف كيف يكون الإجماع حاصلا، مع أنّ الخزرج أنكروا خلافة أبي بكر حتّى موته و لم يكونوا حاضرين، و حال من حضر قد كشفه ابن الأعثم و قد سمعته و قرأته و حينئذ كيف يحصل الإجماع مع كثرة المخالفين.

و دلّ كلام زيد بن أرقم على رجوع الأمر إلى بني هاشم و الذين غلبوا الأنصار بدعوى القرب من النبيّ بالقرشيّة لم ينصفوا بني هاشم، و لم يراعوا كونهم أقرب منهم إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و الذي عليه الشيعة أنّ القوم ائتمروا بينهم متى توفّي النبيّ فإنّهم يغتنمون اشتغال بني هاشم فرصة و يثبون على الخلافة، و ما قاله أبو بكر من رضاه بأحد اثنين: عمر و أبي عبيدة للأمّة فإنّه لم يكن رضا بالمعنى الحقيقيّ بل القلب كاره لما قاله مع أنّ رضاه لم يرتض لأنّ أبا عبيدة لم ينل الحكم، اللهمّ إلّا أن نقول بأنّه الرضا لجلب

ص: 139


1- ابن أعثم، الفتوح 1: 11 و 12.

الأتباع و تكثير السواد و تطييب الخاطر، و غصب حقّ بني هاشم، أو أنّه التزوّد للآخرة بهذا الزاد الوبي ء. و صدق اللّه حيث قال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (1).

الفصل الأوّل

يقول ابن الأعثم: ثمّ أرسل أبو بكر إلى عليّ فدعاه فأقبل و الناس حضور، فسلّم و جلس ثمّ أقبل على الناس فقال لهم: دعوتموني؟ فقال عمر: دعوناك للبيعة التي قد أجمع عليها المسلمون. فقال عليّ: يا هؤلاء، إنّما أخذتم هذا الأمر من الأنصار بالحجّة عليهم و القرابة (من رسول اللّه (الأئمّة من قريش) فأعطوكم المقادة و سلّموا إليكم الأمر (و تركوا اللجاج) و أنا أحتجّ عليكم بالذي احتجتم به على الأنصار: نحن أولى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حيّا و ميّتا لأنّا أهل بيته و أقرب الخلق إليه، فإن كنتم تخافون اللّه فانصفونا و اعرفوا لنا في هذا الأمر ما عرفته الأنصار لكم.

قال: فقال عمر: إنّك أيّها الرجل، لست بمتروك أو تبايع كما بايع غيرك. فقال عليّ عليه السّلام: إذا لا أقبل منك و لا أبايع من أنا أحقّ بالبيعة منه. فقال له عبيدة بن الجرّاح (لعنه اللّه): و اللّه يا أبا الحسن، إنّك لحقيق لهذا الأمر لفضلك و سابقتك و قرابتك، غير أنّ الناس قد بايعوا و رضوا بهذا الشيخ فارض بما رضي به المسلمون. فقال له عليّ كرّم اللّه وجهه: يا أبا عبيدة، (أنت أمين هذه الأمّة (2)) فاتّق اللّه في نفسك فإنّ هذا اليوم له ما بعده من الأيّام و ليس ينبغي لكم أن تخرجوا سلطان محمّد صلّى اللّه عليه و آله من داره إلى قعر دوركم ففي بيوتنا نزل القرآن و نحن معدن العلم

ص: 140


1- الفرقان: 4.
2- لو كان أمين هذه الأمّة لما خانها بهذه المؤامرة الدنيئة، و هذه الجملة لم يذكرها المؤلّف رحمه اللّه.

و الفقه و الدين و السنّة و الفرائض و نحن أعلم بأمور الخلق منكم، فلا تتّبعوا الهوى فيكون نصيبكم الأخسّ.

قال: فتكلّم بشير بن سعد الأنصاريّ، فقال: يا أبا الحسن، أما و اللّه لو أنّ هذا الكلام سمعه الناس منك قبل البيعة لما اختلف عليك رجلان و لبايعك الناس كلّهم، غير أنّك جلست في منزلك و لم تشهد هذا الأمر فظنّ الناس أن لا حاجة لك فيه ...

الخ. قال: فقال عليّ: ويحك يا بشير! أو كان يجب أن أترك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (من غير تجهيز و أخرج ألاطم على سلطانه ...) (1).

قال: فأقبل عليه أبو بكر فقال: يا أبا الحسن، إنّي لو علمت أنّك تنازعني في هذا الأمر ما أردته و لا طلبته و قد بايع الناس فإن بايعتني فذلك ظنّي بك، و إن لم تبايع في وقتك هذا و تحبّ أن تنظر في أمرك لم أكرهك عليه فانصرف راشدا إذا شئت.

قال: فانصرف عليّ إلى منزله فلم يبايع حتّى توفّيت فاطمة عليها السّلام حتّى بايع بعد خمس و سبعين ليلة من وفاتها، و قيل: إلى بعد ستّة أشهر، و اللّه أعلم أيّ ذلك كان.

(و تقول عائشة: إنّ عليّا بايع بعد ستّة أشهر) (2).

أمّا الصيغة العربيّة لهذا الكلام و التي تحتجّ بها الشيعة فقد رواها ابن الأعثم كما يلي:

قال عليّ عليه السّلام: يا هؤلاء، أخذتم هذا الأمر من الأنصار بالحجّة عليهم بالقرابة، لأنّكم زعمتم أنّ محمّدا منكم فأعطوكم المقادة و سلّموا إليكم الأمر، و أنا أحتجّ عليكم بالذي احتججتم به على الأنصار، نحن أولى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حيّا و ميّتا، لأنّا

ص: 141


1- العبارة في الفتوح غير مفهومة و هي: أترك رسول اللّه من بينه إلى حضرته و أخرج أنازع الناس بالخلافة. (ص 13).
2- الفتوح 1: 13 و 14.

أهل بيته و أقرب الخلق إليه فإن كنتم تخافون اللّه فانصفونا و اعرفوا لنا في هذا الأمر ما عرفت لكم الأنصار (1).

فقال عمر: أيّها الرجل، لست بمتروك أو تبايع كما بايع غيرك. فقال عليّ عليه السّلام:

إذا لا أقبل ما يقول عمر، فلمّا فرغ من عمر أقبل على أبي عبيدة و قال: و ليس ينبغي لكم أن تخرجوا سلطان محمّد صلّى اللّه عليه و آله من داره ففي بيوتنا نزل الفرقان و نحن معدن العلم و الفقه و السنّة، و نحن أعلم بأمور الخلق منكم، فلا تتّبعوا الهوى فيكون نصيبكم الخسر.

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في جواب بشير: أو كان يجب عليّ أن أترك الرسول و لم أجنّه في حفرته فأخرج فأنازع الناس للخلافة؟!

فقال أبو بكر في هذه الحالة: يا أبا الحسن، لو علمت أنّك تنازعني في هذا الأمر لما أردته و ما طلبته و قد بايع الناس .. (2).

جواب: و هذا الحديث مبطل لما احتجّ به القوم علينا من أنّ عليّا لم ينفرد عنهم و كان راض بخلافتهم و كذلك ما احتجّ به الفخر الرازيّ و غيره من أنّ عليّا لو كان يعلم بأنّ الحقّ حقّه لخرج مطالبا به. أجل، طالب عليّ بحقّه بشهادة الحديث المتقدّم.

و ما يقوله الشيعة من اغتنام القوم الفرصة بانشغال عليّ عليه السّلام و بني هاشم بتجهيز النبيّ فنزوا على الحكم و السلطان يؤيّده الحديث المتقدّم.

و يؤيّده أيضا ما قاله الشيعة من غياب القوم عن دفن النبيّ، و يدفع قول عمر لعليّ: أيّها الرجل لست بمتروك حتّى تبايع ما زعموه من بيعة عليّ بمحض اختياره

ص: 142


1- الفتوح 1: 13.
2- مرّ هذا توّا من الفتوح.

و رغبته و هذا يدلّ على أنّه مكره على البيعة، و الشيعة يذهبون إلى أنّ الإمام عليّا لم يبايع أبا بكر أبدا.

و أمّا قول أبي بكر لعليّ عليه السّلام: لو علمت أنّك تنازعني في هذا الأمر لما أردته، و ما طلبته و قد بايع الناس فإنّه من الأعاجيب حيث تقدّم للحكم ارتجالا و بلا رويّة، ثمّ هو يندم الآن و يطلب الإقالة.

و هذا كلّه يدلّ على صحّة قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، و لو كان الرجل يحسب للآخرة حسابها و يخاف يوم المعاد وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (1) لأرجع الحقّ إلى أهله، و لم ينازع أهل بيت النبيّ فيه، و ما كان ينبغي لمن يخلف النبيّ أن يعمل عملا يؤول به إلى الندامة في الدنيا و الآخرة.

الفصل الثاني

لمّا طرق النبيّ الوجع استدعى أسامة بن زيد و أمّره على القوم و أمره بغزو بلاد الشام و كان ابو بكر و عمر لعنهما اللّه تحت لوائه، و سوف يأتي بيان ذلك.

و لمّا انتقل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الرفيق الأعلى قال عمر لأبي بكر: أرى أن تترك بعث أسامة لأنّ أعراب المدينة ارتدّوا و أخشى أن نحتاج إليه.

فأجابه: و كيف أفعل ذلك و قد أمر النبيّ ببعثه و عبارته كالتالي: لو علمت أنّ السباع تأكلني في هذه المدينة لأنفذت جيش أسامة كما قال النبيّ: أمضوا جيش أسامة، فقال عمر: لو خففت هذا العام عن كاهل القوم من بعض الزكاة لرجونا عودتهم إلى حضيرة الإسلام. فقال أبو بكر: و اللّه لو منعوني عقال ناقة ممّا كان

ص: 143


1- الصافّات: 24.

يأخذه منهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لقاتلتهم عليه أبدا و لو كره المشركون. فقال عمر: ارفق بهم يا خليفة رسول اللّه، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه، فإذا قالوها عصموا منّي دمائهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على اللّه. و هؤلاء الجماعة يصلّون و لا يزكّون أو يزكّون و لا يصلّون (1) فأبى أبو بكر و قال: لأقاتلنّها، كما نصّ على ذلك ابن الأعثم في الفتوح.

الجواب: لقد ظهر الخلاف بين الرجلين الخليفة و ظهيره .. مسكينة هذه الرعيّة فإلى من منهما تميل؟ فإن مالت إلى أبي بكر و هو محقّ فإنّ عمر مبطل حتما و العكس صحيح، و لمّا استباح أبو بكر الحرب على عقال ناقة لا بدع أن يستبيح عليّ عليه السّلام الحرب من أجل ملك الشام مع معاوية (لعنه اللّه) و كما وجب قتال من خالف أبا بكر كذلك وجب قتال من خالف عليّا فيكون معاوية على الباطل.

و كذلك نقول عن عمر لمّا أمر بتعطيل جيش أسامة أنّه داخل تحت مفهوم هذه الآية: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ (2) و من لم يرض بحكم النبيّ فإنّه معلوم الحال و لا يحتاج إلى سؤال.

الفصل الثالث

و جاء في كتاب الفتوح أنّ أسامة بن زيد وجّه جيشه إلى خارج المدينة و لمّا استخلف أبو بكر قال لأسامة: امضي رحمك اللّه لوجهك الذي أمرك النبيّ و لا

ص: 144


1- أخطأ المؤلّف في نسبة ذلك إليهم لأنّ أبا بكر لم يقاتلهم على ذلك، بل قاتلهم على بيعته لأنّهم أنكروها و قالوا: لا نبايع أبا فصيل.
2- النساء: 65.

تقصر في أمورك، و إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطّاب بالمقام عندي، فإنّي أستأنس و أستعين برأيه. قال أسامة: فقد فعلت.

الجواب: فاعتبروا يا أولي الأبصار أنّ عمر بشهادة الخصم رعيّة لأسامة بأمر النبيّ فكيف يتأمّر عليه؟ و لو علم النبيّ بأنّ عمر أجدر بها من أسامة لم يؤمّره عليه و لم يجعله رعيّة له إلّا لكي يرشد الأمّة إلى عدم صلاحيّته للخلافة.

و إذا كان أبو بكر يطلب الإذن من أسامة لعمر فلماذا لم يطلبه لنفسه، اللهمّ إلّا أن يكون بالحكم المستثنى من الإمارة، و لكن كيف يصحّ للمتمرّد على حكم النبيّ و المنتزى على حقّ غيره الخروج من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّر أسامة عليهم و حكم النبيّ و أمره باقيان على حالهما إلى يوم القيامة و كلاهما خالف حكم رسول اللّه حين أعرضا عن الطاعة بعدم الخروج مع أسامة ...

ص: 145

الباب الثاني و العشرون في موت الخلفاء و كيفيّة قتلهم عليهم ما يستحقّون

اشارة

(من لعائن اللّه- المترجم) قال ابن الأعثم في الفتوح: و اشتدّ المرض بأبي بكر ... و دعا أبو بكر بدواة و بياض فكتب خلافة عمر ثمّ دفع الرقعة إلى رجل من المسلمين فقال: أخرج بهذه الرقعة إلى الناس فخبّرهم بما فيها، و أقبل طلحة بن عبيد اللّه حتّى دخل على أبي بكر، فقال: يا خليفة رسول اللّه، تستخلف على الناس عمر بن الخطّاب؟ فقال:

و لم لا أستخلفه يا طلحة؟ قال: لأنّك قد رأيت الناس من صرامته و غلظته فكيف إذا مضيت أنت و صار الأمر إليه؟ ثمّ قال: و بعد فإنّك قادم على ربّك فإنّه سائلك عن رعيّتك.

فسكت أبو بكر ساعة ثمّ رفع رأسه إلى طلحة، فقال: أبا لموت تفزعني أم بربّي تخوّفني؟ (نعم إذا أقدم على ربّي و سألني عن رعيّتي أقول: يا ربّ، استخلفت عليهم خير أهلك» و دار بينهما حوار و راح أبو بكر يوصي بوصاياه و أخيرا قال:

فإذا أنا متّ فاغسلوني و كفّنوني و حنّطوني و صلّوا عليّ ثمّ ائتوا بي إلى قبر حبيبي محمّد فاستأذنوا و قولوا: السلام عليك يا رسول اللّه، هذا أبو بكر بالباب فإن أذن

ص: 146

لكم في دفني إلى جنبه فادفنوني و إن لم يأذن لكم في ذلك فأتوا بي مقابر المسلمين (و إنّا للّه و إنّا إليه راجعون) (1). و كانت خلافته سنتين و ثلاثة أشهر و عشرين يوما.

الجواب: صدق اللّه حيث قال: وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (2) لمّا أدلى طلحة بحجّته عن عمر و إنّ الرجل لا يليق بالخلافة فكان جوابه فرض خلافة عمر على الأمّة، و لمّا خوّفه باللّه كان جوابه: أبا للّه تخوّفني و معناه أنّي لا أخاف اللّه، و قال اللّه تعالى:

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (3)، و قال: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ (4)، و قال: وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ (5) و أمثال هذه الآيات كلّها تدلّ على أنّ العبد الصالح هو من خاف اللّه تعالى، و من هنا- أي من انعدام الخوف من اللّه في قلوبهم- ظلموا أهل بيتا لنبيّ و ذلك فعل لا يخفى على أحد لا سيّما ظلم فاطمة و أمير المؤمنين، و ينبغي أن يلابسه الخوف و لو قليلا عند موافاته السياق.

و أمّا قوله: ادفنوني عند رسول اللّه إن أذن لي فإنّ اللّه سبحانه منع من ذلك في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و العجيب من الرجل حين نسيه فضيّعه فهل أنساه ذلك طول العهد؟ كلّا فقد خاطب اللّه المسلمين عن بيوت النبيّ بقوله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ (6)، و قال: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ (7).

ص: 147


1- الفتوح 1: 121- 123 بتصرّف من المؤلّف.
2- الأعراف: 79.
3- آل عمران: 50.
4- الأنفال: 34.
5- الأحزاب: 37.
6- الأحزاب: 53.
7- النور: 27.

و ما قاله من طلب الإذن فإن حصل و إلّا فادفنوني في مقابر المسلمين، فلم يردنا في كتاب أو مرجع أنّ الإذن حاصل له، و بناءا على هذا فإنّه غصب المكان و فعل عمر فعله لأنّه وصيّه، بل صنع خلاف صنعه و لم يستأذن، لعلّه عرف بأنّ المكان المغصوب لا يحتاج إلى الاستئذان بل جرأ على ارتكابها من دون طلب الإذن (و كم مثلها ارتكبها و هي تصغر) و منها غصب الخلافة و التأمّر على أهل بيت النبي.

أم أنّه أراد أن يغصب البيت من الأولاد كما غصب فدكا من فاطمة لتتمّ حبكة السقيفة.

و إن أراد بالإذن من عائشة فإنّها قالت: ليس لرسول اللّه ما يرث و لا يورث.

و إن قصدو به آل الرسول فلم يحصل ذلك منهم و ماتا ظالمين لهم مانعين لحقّهم.

و العجب أن يلحد أبو بكر إلى جانب النبيّ و هو البعيد القصيّ عنه، و يدفن الحسن بمبعدة عن جدّه و هو ولده و فلذة كبده.

الفصل الأوّل في قتل عمر بن الخطّاب

اشارة

كان للمغيرة بن شعبة غلام يدعى أبا لؤلؤة و هو مجوسيّ، و لمّا عاد المغيرة إلى المدينة شكاه فيروز غلامه إلى عمر و قال: إنّه يضطهدني بما يحملني من الغرم الفادح في كلّ شهر مرسوم عليّ دفع مأة درهم إليه و أنا لا أطيق دفع هذا المبلغ الباهض فاشفع لي عنده لتخفيفه.

فأحضر عمر المغيرة و قال: التخفيف من الإنصاف و إن كان عن كافر فخفّف عنه بشفاعتي، ففعل، ثمّ قال للمملوك: لقد خفّف عنك صاحبك (1) و الآن قل لي:

ص: 148


1- الظاهر من روايات المؤرّخين أنّ عمر ردّ أبا لؤلؤة ردّا خشنا و لم يستمع إلى شكواه و لذلك أضمر الرجل قتله.

ماذا تجيد من الصنعة؟ فقال: إنّي أجيد عددا منها مثل التجارة و صناعة الأرحية.

فقال عمر: هل لك أن تصنع لي رحى في بيتي. فقال الغلام: سوف أصنع لك رحى تتحدّث عنها الناس في المشرق و المغرب.

فانزعج عمر من قوله هذا و قال لمن حضره: هل سمعتم ما قاله العلج، فإنّي متى شاهدته يحدث الرعب من مرآه في نفسي، إلى أن رقى المنبر ذات يوم و قال: رأيت في المنام ديكا أحمر اللون ضربني بمنقاره مرّتين أو ثلاثا فعلمت أنّ رجل من علوج فارس يقتلني بطعنة أو طعنتين. فقال الحاضرون: خيرا رأيت يا أمير.

و أمّا فيروز فقد صنع لنفسه خنجرا بحدّين و اندسّ بين الناس، فلمّا أقيمت الجماعة أخرج الخنجر من محزمه و حمل على عمر فطعنه ثلاث طعنات في السرّة و فوقها و تحتها ثمّ هرب فتعقّبه ثلاث عشرة إنسانا فقتل منهم جماعة و أمسك به أحدهم فلمّا شعر بأنّه مقبوض عليه طعن نفسه طعنات حتّى هلك.

و أمر عمر عبد الرحمان بن عوف أن يصلّي في الناس جماعة و بقي عمر حيّا في بيته ثلاثة أيّام و أوصى بوصاياه و أمر صهيبا بالصلاة عليه، و استدعى ولده عبد اللّه و قال له: إنّي مدين لبيت المال بمقدار من الدنانير الذهبيّة فاقضها عنّي. ثمّ قال: يا بني، لو أنّك رأيت غدا أباك يقاد إلى النار أما تفديه؟ فقال عبد اللّه: بلى بجميع ما ملكت. ثمّ قال: إن أذنت لي عائشة فادفنّي مع صاحبي و إلّا فادفنّي في البقيع.

فقالت عائشة: إنّي ادّخرت هذا المكان لنفسي و لكن أوثر به عمر. فتوفّي يوم الأربعاء لأربع خلون من ذي الحجّة سنة ثلاث و عشرين، و كان عمره ثلاثا و ستّين عاما.

و لمّا طعن عمر حضر عنده طبيب مسلم فقال: أسقوه نبيذا حلوا، فلمّا تجرّعه خرج من جرحه فقال قوم ممّن حضره: إنّه الدم فأحضروا له طبيبا متنصّرا فسقاه لبنا فخرج من جرحه بلون اللبن، فاتّفق الطبيبان على هلاكه و أمراه بالوصيّة.

ص: 149

الجواب: فيا للعجب كيف يكون البيت لعائشة بدون حجّة و لا بيّنة، و تحرم فاطمة من نحلتها في فدك مع شهادة الشهود العدول أصحاب العصمة. سلّمنا فإنّ حقّها التسع من الثمن و الباقي مغتصب.

يقول ابن أعثم الكوفي: فدفن عمر إلى جنب أبي بكر فأوّلهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الثاني أبو بكر و رأسه قريب من كتف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الثالث عمر و رأسه قريب من كتف أبي بكر. قال: و قد ضاق البيت لمّا دفن فيه عمر فصارت رجلا عمر تحت حائط البيت من موضع الأساس (1).

فخربوا جانبا من حائط البيت، فهل أذن لهم النبيّ في خراب بيته و اللّه تعالى يقول: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (2) و كيف يأذن لهم النبيّ و هو ميّت؟

أمّا قوله لولده عبد اللّه: لو أنّك رأيت غدا أباك يقاد إلى النار أما تفديه .. الخ، ويحه أما سمع قوله تعالى: وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً* يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ* وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ* وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ* وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ* كَلَّا إِنَّها لَظى* نَزَّاعَةً لِلشَّوى (3) و قوله تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ (4) و نسي عبد اللّه أباه كما قال اللّه تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (5). و كذلك عبد اللّه أما قرأ قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ

ص: 150


1- الفتوح 2: 331.
2- الأحزاب: 53.
3- المعارج: 10- 16.
4- الحديد: 15.
5- الشعراء: 88 و 89.

مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ (1) و حيث قال: وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (2).

أمّا ما قالوه عن النبيذ و شربه فإنّه يعلم أنّه خمر معروف و هذا مسلّم و لكن النبيذ الحلو غير المسلّم فهو لا يخلو من كونه خطأ، و هذا يصدر أحيانا في الأخبار، و أمّا كون القائلين به من أهل السنّة و الجبريّة و هم شيعة الخليفة لذلك أرادوا الاعتذار منه بوصف النبيذ بالحلو.

رواية أخرى في قتل عمر

جمع شهريار بن يزدجرد ملك العجم ثلاثمائة و ثلاثين ألفا من قوّاته و عزم على مهاجمة المدينة و المصادمة مع عمر بن الخطّاب، فلمّا بلغ عمر الخبر خاف منه و صعد المنبر و خطب في أصحابه و قال في آخر خطبته: إنّي جئت أستشيركم بأمر «شهريار» و محاربته.

فقام عثمان بن عفّان من بين الجمع و قال: أنت رجل ميمون النفقيبة، فإذا أردت حربه فاخرج بنفسك إليه و قاتله فإنّك تظفر به. فلم يرتض قوله عمر.

ثمّ قام آخر و قال: أيّها الخليفة، أرسل إليه الجيش. فلم يقع هذا القول من نفس عمر موقعا حسنا، و كان ينظر إلى أمير المؤمنين يلتمس رأيه، فلم يقل عليّ عليه السّلام شيئا في هذا الموقف، فنزل عمر عن المنبر و أقبل على أمير المؤمنين عليه السّلام و قال له:

الرأي عندك يا أبا الحسن.

فقال عليّ عليه السّلام: إن كنت تخاف على الإسلام فإنّي أرى أن ترسل إلى الثغور كثغر

ص: 151


1- الأنعام: 94.
2- يونس: 54.

الروم و فارس و الأهواز و حيث تقاتل عساكر الإسلام فتستدعي من العسكر نصفه و تبقي نصفه الآخر قبالة العدوّ، و أقم أنت بالمدينة و أرسل الفيالق فإنّ اللّه تعالى وعد بقهر الكفر و ظهور الإسلام عليه حيث قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1) فأعجبه الرأي و عمل به فاستدعى نصفا من فيالقه و استبقى النصف الآخر تقاتل العدوّ، فاجتمع عنده ثلاثون ألفا فأمّر عليهم النعمان بن مقرن و قال: فإن قتل فالأمير حذيفة، فإن قتل فأمير القوم جابر بن عبد اللّه.

قال عليّ عليه السّلام: ابعث معهم عمرو بن معدي كرب و طلحة بن خويلد و ليحتالوا ما وسعتهم الحيلة فإنّ رأيهم إلى صواب.

فلمّا تقابل العسكران وضع اللّه الرعب في قلب عسكر شهريار، فأسرع شهريار و أمر قومه بحفر الخندق من حولهم و أجرى فيه الماء خوفا من عسكر الإسلام ثمّ بدأت الحرب، فاستشار النعمان عمرا و قال: ماذا نصنع و نحن قلّة و المدد يأتينا من المدينة و قد بعدت شقّتها و العدوّ ما زال يأتيه الجمع بعد الجمع و تصل إليه المؤن و الذخائر باستمرار، و قد قارب زادنا النفاد. فقال عمرو: الرأي عندي أن ننادي بموت عمر ملك العرب لكي يجد العدوّ الجرأة على قتالنا فيخرجوا من خنادقهم لقتالنا فننكشف بين أيديهم لكن بصفوف منتظمة فإذا ما بلغتنا عساكرهم كررنا عليهم و قاتلناهم.

فلمّا أصبح الصباح أعملوا الحيلة مع العدوّ فخرج شهريار بجيشه للقائهم و لكن اختطّ الظلام فحجب بين المتقاتلين، فلمّا أصبح الصباح ركب النعمان فرسه و أقبل و عليه عمامة بيضاء و حام حول العسكر و أخذ يحضّ الناس على الجهاد و قال: أيّها الناس، عليكم بحميّة العرب فإنّها تأنف من الفرّ دون الكرّ، و قاتلوا في سبيل اللّه

ص: 152


1- التوبة: 33.

و رسوله فإنّ بيضة الإسلام بكم قائمة، و إيّاكم أن تولّوا الدبر لأنّكم إن فعلتم ذلك فإنّكم هالكون حتما عن بكرة أبيكم، و لن يرجع واحد منكم إلى المدينة لأنّها نائية الشقّة فانهضوا و كرّوا بالخيل على العدوّ بعد أن تشدّوا حزمتها و سرجها، و أقيلوا في ظلّها ساعة حتّى تهب الصبا فعندئذ نحمل حملة واحدة و ندع ما كان يفعله العرب في الحرب و لنأخذ بتقاليد العجم في الحرب فإنّهم يحملون بأجمعهم على العدوّ حملة واحدة و لكن قتالكم كلّكم بالرماح فستكون لكم الغلبة عليهم، فإذا قتلت فاكتموا خبري عن العدوّ و عموا عليه، فرضوا بقوله، و صادف أن أصيب النعمان يومها فقتل فلبس حذيفة ثيابه و أخفى عن العجم موته و خبأوه عن أعين الناس.

و نادى فيهم طلحة بن خويلد: أيّها الأصحاب، هلمّوا ليكون عشائنا في الجنّة، هلمّوا إلى الرواح إلى الجنّة ليضع ثلاثون ألفا أسنّتهم بين آذان خيولهم و ليحملوا على العدوّ حملة رجل واحد، و نضربه في القلب، و كما سوّى العجم صفوفهم و أحكموا موقع القلب صاحوا صيحة قويّة منكرة ارتجف لها جيش الإسلام فهزموهم في الحملة الأولى و أسروا فيروز مرّة ثانية و كان قائد عسكر شهريار، و أسروا ابنة شهريار شاه زنان التي تشرّفت بعد ذلك بالإسلام و اقترنت بالحسين، و غيّرت اسمها فكانت شهربانويه.

فقتل من السعكر جماعة و فرّ الباقون، فبعث حذيفة ببشارة الفتح إلى عمر بن الخطّاب، و كان عمر يخرج كلّ يوم إلى المدينة يتنسّم أخبارهم، فرأى ذات يوم أعرابيّا على راحلة فأخبر عمر عن الفتح و هو لا يعرفه، فأقبل يركض وراء الأعرابيّ فرسخا فلمّا وصل المدينة نزل إليه أصحاب الدكاكين يحيّونه، فنزل الرجل من راحلته و سلّم على عمر و اعتذر إلى عمر و بلّغه خبر الفتح، و لمّا بلغته الغنائم أراد بيع «شاه زنان» فنهاه الإمام و قال: ليس البيع على أبناء الملوك.

ص: 153

فائدة جليّة في زواج الحسين عليه السّلام من شهربانويه

قال عمر: أجلسوا شاه زنان على قارعة الطريق و أعرضوا المسلمين عليها فمن رغبت فيه فزوّجوها منه و مرّ هو عليها فسألت: من هذا؟ قيل لها: هذا هو الخليفة، فأعرضت عنه و قالت: شيخ لا يليق بي. و أخذ كبار القوم و أعيانهم يعرضون أنفسهم عليها فتأباهم حتّى اجتاز بها أمير المؤمنين عليه السّلام فقالت: من هذا؟

فقيل لها: هذا عليّ صهر رسول اللّه على فاطمة و ابن عمّه، فقالت: هذا جدير بي و لكنّي أستحي من فاطمة يوم القيامة، فمرّ الحسن من بعده، فقالت: من هذا؟

فسألت عن سائر شئونه فأعلموها و لكنّها امتنعت منه و قالت: الحسن كبير الشأن و يحتاج إلى نساء كثر، فمرّ بها الحسين عليه السّلام فقبلته و قالت: يمكن لهذا الشابّ الجميل أن يكون زوجا لي.

فأمر عمر بإقامة مراسم الزواج في المدينة ثلاثة أيّام، و حملوا الحسين على فرس و قيل: حمل عمر غاشية الحسين على متنه و أقبل بصحبته ينحو المدينة إلى ثلاثة أيّام و في اليوم الثالث أطلقوا على المرأة اسم «شهربانويه» و عقدوا عليها للحسين عليه السّلام و بنى عليها، و كانت في كلّ ليلة تعود عذراء كالحور العين في الجنّة، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من كان من الحسن و لحسين زوجته تعود عذراء في كلّ ليلة، فإنّ الأئمّة من صلبه لذلك تزوّج الحسن عليه السّلام نساءا كثيرات فلمّا لم يجد عندهنّ السرّ الموعود طلّقهنّ و قال الحسين عليه السّلام للحسن ذات يوم: لا تحزن يا أخي، فإنّ ما كنت أنت طالبه فإنّي وجدته، فعلم الحسن أنّ الأئمّة ليسوا من صلبه (1).

ص: 154


1- عفى اللّه عن المؤلّف حين يأتي بخبر موضوع لا أساس له من الصحّة و يستخرج منه قاعدةمعرفة الأئمّة. أترى أنّ النبيّ أوكل إلى الحسنين معرفة الصلب الذي يخرج منه الأئمّة بهذه اللعبة؟! حاشاه. أليس قد أخبرنا بأسمائهم واحدا واحدا السابق و اللاحق، و عندنا مئات الأحاديث حول ذلك و قد أشارت إلى أنّ الأئمّة من صلب الحسين فكيف رضي المؤلّف بهذا السخف الذي لا يستحقّ الحبر الذي كتب فيه و رجل فاضل مثله يتورّع عن ذكر أخبار مضحكة كهذه الأخبار. ألا يعلم أنّ زواج الحسين من شهربانويه ردّه جلّ العلماء و قالوا قضيّة مكذوبة لا أصل لها إنّما وضعتها الشعوبيّه لترمي إلى غرض في نفوسهم، و هو الوراثة التي كانت عند ملوك الفرس ليجعلوا الإمامة بالتوارث أخذا من الفرس مع أسرتهم المالكة.

الفصل الثاني

و لمّا قسّمت الغنائم صار أبو لؤلؤة فيروز من نصيب المغيرة بن شعبة و كان صيقلا ماهرا، و صارت له علاقة بأمير المؤمنين عليه السّلام فكان يزوره بين الحين و الحين، فوضع عليه المغيرة ضريبة ثقيلة إذ كان عليه أن يدفع للمغيرة دانقين من الذهب، ثمّ صيّرهما نصف دينار، فكان يدفع ذلك، ثمّ رفع الضريبة إلى أربعة دوانق فأعطاها، ثمّ خمسا فأعطاها، و ان عمر يفعل ذلك و قال له: إن قطعت زيارتك لعليّ حرّرناك من الضريبة، فلم يرض أبو لؤلؤة بذلك. و أقبل يوما على عمر و قال: أيّها الخليفة، إنّي لأعجب منك و من عليّ أن يكون له سيف مثل ذي الفقار و إنّي لقادر على صنع ما هو خير منه لك بشرط أن لا تحجبني عنك، فقال عمر: افعل. و قال:

سأصنع السيف من معادن سبعة، و أخذ جملة من الحديد و بدأ بصنع السيف و كان يبكّر إلى عمر في كلّ يوم و يأتيه مرارا و يريه السيف الذي صنعه إلى أن تمّ صنع السيف، و كان ما تزال حرارة الضرب فيه، فأقبل على عمر بعد أن انفضّ المجلس و لم يبق فيه سواه و كان غلاف السيف من الخشب الأبيض، و قد ثقب قريبا من قائمه ثقبا و أنبت فيه مسمارا بحيث لا يستطيع أحد أن يسلّه إلّا صاحبه الذي صنعه،

ص: 155

فلمّا أعطاه عمر أراد أن يجرّده من الغمد فعسر عليه ذلك، فقال أبو لؤلؤة: ناولنيه، فلمّا تسلّمه أزال عنه المسمار و نظر يمينا و شمالا فلم يجد أحدا معهما فعند ذلك حمل على عمر و أغمد السيد في بطنه و تركه عليها و هرب.

قيل: أقبل ركضا إلى بيت عليّ عليه السّلام و كان عليّ جالسا على باب داره، فقام من مكانه و قعد في مكان آخر، فلمّا أقبل الناس يطلبون القاتل أقسم عليّ عليه السّلام أنّه منذ أن جلس في هذا المكان لم يشاهد أحدا، و حمل الإمام أبا لؤلؤة على دلدل و قال له:

أينما وقفت دلدل فقف هناك، و نفس الليلة استدعى امرأة و بعث معها رسالة إلى أهل قم و فيها: إذا بلغت قم فانكحوها منه، و لمّا حال الحول و جاؤوا يطلبونه إلى قم وجدوه قد تزوّج المرأة و أولدها ولدا، فعلموا انّ هذه من معاجز عليّ عليه السّلام.

و هذه الرواية لا صحّة لها، و إنّما بقي أبو لؤلؤة في المدينة و نهى عمر عن قتله و قال: لا يكون العبد ثأرا لي، و أمر بإطلاق سراحه.

و جوهر القول أنّ عمر بقي جريحا ثلاثة أيّام و هلك في اليوم الرابعة، و كان المغيرة يحضره كلّ ليلة و تأخّر عنه ليلتين، فسأله عمر عن سبب ذلك، فقال: وقع الناس في فتنة من يخلفك، فقال عمر: يا مغيرة، الناس يقولون ماذا؟ فقال: منهم من يراها لعليّ، و منهم لعثمان، و آخرون يرون طلحة أهلا لها، و قوم تعلّقوا بسعد و عبد الرحمان بن عوف.

فقال عمر: ماذا يقال في عليّ؟ إلّا أنّ هذا الأمر لا يتمّ به لحداثة سنّه و لعداوة قريش له و هو أيضا شديد التمسّك برأيه، و أراها تتمّ بعثمان لأنّه رأس بني أميّة، أمّا الزبير فرجل جبّار و من كان مثله لا يليق لإمامة الناس، و طلحة ساقط الهمّة لا شأن له، و سعد بن أبي وقّاص زئر نساء، و عبد الرحمان مليح الظاهر.

ثمّ أمر بإحضار رجل و أمره على مأة رجل و قال: إنّي أجعل الخلافة شورى بين ستّة، فأحضرهم في المسجد؛ فمن بايعه عبد الرحمان فعلى الباقين مبايعته و إن

ص: 156

لم يفعلوا فاضرب أعناقهم، و كان يعلم أنّ هوى عبد الرحمان ليس مع عليّ لما بينهما من العداوة السالفة.

فلمّا حضروا في المسجد قال عبد الرحمان لعليّ عليه السّلام: أبايعك على كتاب اللّه و سنّة رسوله و سيره عمر بن الخطّاب. فقال: بل على كتاب اللّه و سنّة رسوله، و لا أرضى بسيرة عمر لأنّه أحدث أمورا لا بدّ من تغييرها، فأعاد القول عليه ثانية فأجابه عليّ بما أجاب به أوّلا، إلى ثلاث مرّات، ثمّ أمسك يد عثمان و بايعه .. (1) على كتاب اللّه و سنّة رسوله و سيرة عمر، و كان هوى عبد الرحمان مع عثمان لأنّه صهره على أخته أمّ كلثوم من أمّه، و بايع طلحة و الزبير و نهض عليّ بعد أن مسح بيده على أيديهم و خرج من بينهم.

و قال عبد اللّه بن عبّاس (2): لم دخلت الشورى معهم يا أمير المؤمنين؟ فقال:

ذلك لأظهر كذب عمر لأنّه قال: سمعت رسول اللّه يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نرث و لا نورث، و الإمامة و النبوّة لا تجتمع في بيت وحد، فإن كنت لا أستحقّها فلم دعاني معهم، و لا يظهر باطه إلّا بهذا.

و ليثبت للملأ كذبه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كانت مدّة خلافته عشر سنوات و سبعة أشهر و سبعة أيّام، و قيل: كان عمره ثلاثا و ستّين سنة (3).

ص: 157


1- لعن اللّه عبد الرحمان بن عوف فإنّه كان يطمع بها من بعد عثمان لعنه اللّه، و الآن دعني أن أسأل أصحاب الضمائر الحرّة لو أنّ عبد الرحمان بن عوف لعنه اللّه قال لعثمان لعنة اللّه عليه: أبايعك على التلمود و سيرة إبليس أكان عثمان يقول لا؟ كلّا و اللّه من هنا يعلم أنّهم تمالأوا على أهل البيت و أوقعوا الأمّة في هذا الشقاق الدائم من أجل نزوة في نفوسهم حرمهم اللّه منها و أعدّ لهم جهنّم و ساءت مصيرا.
2- ذكر المؤرّخون أنّ القول لأبيه العبّاس.
3- قالوا ذلك ليوافق عمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مثله قالوا عن سنّ أبي بكر، و قد ثبت زيف ذلك عند المؤرّخين كافّة.

الفصل الثالث في خلافة عثمان

و لمّا نال الخلافة أرسل وراء مروان بن الحكم فأقدمه من منفاه و أسند إليه وزارته و كان طريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ اللعين هجا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال النبيّ: لا أحبّ أن أرى مروان فطرده من المدينة إلى مكان يبعد عنها بعشرين فرسخا (1)، فلمّا استخلف أبو بكر أبعده عشرين فرسخا أخرى، فلمّا استخلف عثمان ردّه و آواه و أعطاه الوزارة حتّى قيل عنه: آوى طريد رسول اللّه و طرد أباذر حبيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 158


1- بل طرده رسول اللّه و أباه لحادثة أخرى معلومة.

الباب الثالث و العشرون في ذكر طرد عثمان (لعنه اللّه) أباذر الغفاريّ رحمة اللّه عليه

اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام: كان سبب نفي عثمان أباذر أنّه حضر عنده فرأى بين يديه مأة ألف درهم، فسأله: ما هذا المال يا عثمان؟ فقال: لبيت مال المسلمين و أريد أن أضيف إليه عددا آخر ثمّ أضعه حيث أختار، و كان قد جمع حوله بني أميّة. فقال أبوذر: أما تذكر يا عثمان حين دخلنا أنا و أنت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجدناه كئيبا مغموما و دخلنا عليه في اليوم الثاني فوجدناه مستبشرا مسرورا، فقلت له: روحي فداك يا رسول اللّه، فيم غمّك أمس و سرورك اليوم؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله:

قسمت بيت المال فبقيت فيه بقيّة لم أقسمها و هي أربعة آلاف دينار فكان غمّي لها أن أكون ملوما عند اللّه و اليوم قسمتها ففرحت من أجل ذلك، و مائة ألف درهم أكثر من أربعة آلاف دينار.

و كان كعب الأحبار عند عثمان فأقبل عليه عثمان و قال: يا كعب، هل ترى من حرج على المرء إذا أعطى ما وجب عليه أن يستبقي الفاضل من المال؟ فقال كعب:

كلّا إذا أدّى ما وجب عليه فله أن يصوغ الباقي آجرا من ذهب و فضّة.

فقال أبو ذر: أيّها اليهودي، ما أنت و هذا الأمر، إنّما أنت يهوديّ، فكيف تفتي في

ص: 159

الإسلام، إنّ اللّه تعالى كذّبك حيث قال: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (1) و رفع عصاه و أهوى بها على رأس كعب.

فقال عثمان: لو لم تكن صاحب رسول اللّه و أنت شيخ قد خرفت لضربت عنقك.

فقال أبو ذر: كذبت يا عثمان ليس ذلك إليك فإنّ النبيّ أخبرني بانّكم غير قاتليّ و لكنّكم مخرجيّ من البلاد و إذا بلغ آل العاص ثلاثين اتخذوا دين اللّه دغلا و فسّروا كتاب اللّه برأيهم.

قيل: فكذّب من حضر من الصحابة أبا ذر من أجل عثمان، فقال عثمان لعنه اللّه:

أحضروا لي عليّا، فلمّا حضر عنده، قال له عثمان: أسمعت يا عليّ هذا الحديث من النبيّ فقد أجمع الصحابة على عدم سماعه منه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّي سمعت رسول اللّه يقول: ما أظلّت الخضراء و ما أقلّت الغبراء على أحد أصدق لهجة من أبي ذر ... (2) و أبو ذر لا يكذب أبدا.

فصدّق الحاضرون أمير المؤمنين فقالوا سمعناه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، عند ذلك بكى أبوذر و قال: الحمد للّه ما كنت كاذبا.

فقال عثمان: أقسمت عليك بحقّ رسول اللّه أيّ البلاد أحبّ إليك؟ قال: الحرمان فقد عبدت اللّه فيهما و أخبرني النبي بإبعادي إلى الربذة و قال: تعيش وحدك و تموت وحدك و تبعث أمّة وحدك و تحشر وحدك و تدخل الجنّة وحدك، و يحضرك جماعة

ص: 160


1- التوبة: 34- 35.
2- الكليني الكافي: 27، مسند أحمد 2: 175 و 223، سنن ابن ماجة 1: 55، المستدرك 3: 161، 342، 344، الفائق للزمخشري 1: 328، كنز العمّال 13: 311 رقم 36887، فتح الملك العلي: 157.

من أهل العراق عند موتك فيجهّزونك و يدفنونك، أخبرني بذلك في غزوة تبوك.

فأمر عثمان جلاوزته بترحيله إلى الربذة و هي مكان في البادية موحش تقع بين الشام و بلاد الروم (كذا) فلم يخرج لتشييعه إلّا الإمام أمير المؤمنين و الحسنان عليهم السّلام و بقي أبوذر في الربذة زمانا قصيرا ثمّ مرض، فقال له بعضهم: ماذا تشتهي؟ فقال:

رحمة ربّي، قالوا: ممّن تشكو؟ قال: مرض ذنوبي، فقال: أنجيئك بطبيب؟ قال:

الطبيب أمرضني (1)، فبكت ابنته و هي عند رأسه، فقالت: ابتاه من لي في هذا القفر الموحش؟ فقال أبوذر: بنيّة، إذا أنا متّ فضعي البساط على وجهي و قفي على قارعة الطريق إلى العراق، فسوف يصل إليك تجّار فأخبريهم بحالي فإنّهم يلون أمري، فامتثلت الفتاة أمر أبيها و إذا بتجّار قد أقبلوا عليها فقامت في وجوههم:

أيّها الناس، أبوذر صاحب رسول اللّه فارق الحياة فأعينوا على تجهيزه.

فلمّا سمع القوم اسم أبي ذر ترجّلوا بأجمعهم عن دوابّهم و شرعوا في البكاء و كان أحدهم جاء معه بأربعة آلاف حلّة فانتزع إحداها و كفّنه بها ثمّ شيّعوه إلى قبره و دفنوه بخير تجلّة. أنظر إلى صنع خليفة رسول اللّه، بخ بخ لهذا الخليفة، و بخ بخ لهذا الصلاح.

فصل في قتل عثمان بن عفّان

اعلم بأنّ عثمان حين استتبت له الأمرة أرسل عمّاله إلى الولايات و الأقاليم في بلاد العرب و العجم فبعث إلى مصر عاملا من أقرب قرباء مروان لم يدخل الإيمان جوفه و كان مدمنا، كثير الزنا و الفجور، لا يكاد يفارق الثمل، و اسمه عبد اللّه، فسكر

ص: 161


1- تنسب هذه لغيره و قيل هذا الحوار جرى بين ابن مسعود و عائديه.

ذات ليلة إلى الصباح فصلّى بهم الصبح أربع ركعات و قرأ مكان الفاتحة:

عشق القلب الربابابعد ما شابت و شابا ثمّ سلّم و التفت إلى المصلّين و قال: هل أزيدكم (1) أنا سكران فإن شئتم صلّيتها ثمانيا، فاجتمع الناس، قيل: ثلاثة و عشرون إنسانا، و قيل: ثمانون ألف رجلا، و قصدوا المدينة فلمّا وصلوا إلى المدينة كان عثمان على المنبر فصاحوا بعثمان: اعتزل امرنا أو اعتدل و غيّر عمّالنا. فقال: لا أنزع قميصا ألبسنيه اللّه (2)، و تشاجر القوم معه و أخيرا قبلوا بتأمير محمّد على مصر، و كتب عثمان معه كتابا بتأميره، و كتب كتابا آخر سرّا، و فيه: إذا جاءكم محمّد بن أبي بكر فاقتلوه.

و قال أمير المؤمنين لمحمّد: كن من القوم على حذر و احتط لنفسك فإنّك لا تصل مصر، لأنّهم يضمرون قتلك.

و عاد محمّد إلى مصر و في الطريق شاهدوا راكبا مسرعا، فأحضره محمّد و طالبه بالكتاب، فأنكره، فقال له محمّد: أخبرني به من لا يكذب، و فتّشوه فوجد الكتاب معه و قد وضعه في شنّ بالية، و لمّا قرأوه عادوا بأجمعهم إلى المدينة فوجدوا عثمان على المنبر، فقرأوا الكتاب على الناس و هو يستمع، فاعتذر عثمان بمروان و قال: هو صاحبها، فقال الناس: ادفع إلينا مروان، فقال عثمان: لا أفعل، فصاحوا

ص: 162


1- ما قصّه المؤلّف علينا يخالف ما رواه الرواة و المؤرّخون فهذا الذي سمّاه عبد اللّه و نسبه إلى رحم مروان و ولّاه على مصر إنّما هو الوليد بن عقبة والي عثمان على الكوفة و أخوه من أمّه و كان معاقرا و مدمنا للشراب و مولعا بالزنا، و مشهورا بذلك، فشرب الخمر ليلة و دخل المسجد ليؤمّ الناس لصلاة الصبح، فصلّى بهم أربعا ثمّ التفت إلى المأمومين فقال: هل أزيدكم؟ حتّى أنّه كان في الصلاة الكذائيّة فأنشد أبياتا عشقيّة .. الخ. (أضواء على الصحيحين للنجميّ: 298 عن أحمد ابن حنبل، و شرح ابن أبي الحديد 17: 23)
2- لست أدري كيف ألبس اللّه هذا الكلب القميص؟ و متى ألبسه إيّاه؟ و هل ألبسه القميص ليبدي سوأته لعنه اللّه؟

به، فنزل مسرعا عن المنبر و اختبأ في بيته، فحاصروه ثلاثة أيّام و منعوا عليه الماء (1)، و في اليوم الثالث دخل عليه محمّد و ضربه ضربات جارحة و هجم عليه المهاجرون و الأنصار مجتمعين و استباحوا دمه و قتلوه، و تركوه ملقى في بيته ثلاثة أيّام لم يأذنوا بدفنه.

و قيل: ربطوا في رجله حبلا و سحبوه في الأسواق (2) فمنع أمير المؤمنين من ذلك و قال: هذا لا يليق بنا فإنّ أهل الكتاب يعيبوننا و يقولون: انظروا إلى ما يصنعه المسلمون بإمامهم و لكنّهم لا يعرفون عن ظلمه شيئا و كيف كانت سيرته، و دفن في مقابر اليهود بالقرب ممّن يدعى كوكب (كذا)، فلمّا استخلف معاوية لعنه اللّه ألحق المكان في مقابر المسلمين و من هذه الجهة قال بعض الصحابة: قتلناه كافرا.

و العجب من مقاييس القوم فإنّهم يجعلون إجماع أهل السقيفة حقّا و إجماع يوم الدار على قتل عثمان باطلا، و الحقّ طرح الاثنين و اعتقاد الحقّ مع عليّ عليه السّلام فنقول:

الحقّ مع عليّ عليه السّلام في الحالين.

و قيل: لمّا رجع محمّد وجد عثمان على المنبر فقال: ما قولك فيمن يدّعي الإسلام و إمامة المسلمين ثمّ يأمر بقتل أخيه المسلم من غير ذنب؟ فقال عثمان: يجب قتله إن صحّ الذي تقوله، فأخرج حينئذ محمّد كتابه و قرأه على المهاجرين و الأنصار، فصاحوا بعثمان و حملوا عليه فقتلوه و قالوا: لا يدفن في مقابر المسلمين.

ص: 163


1- تحدّثنا عن هذه المزعمة فيما سبق و قلنا المدينة لا تشرب من نهر تقوم على ضفافه و إنّما تشرب من الآبار و ما من بيت إلّا و له بئر يستعذبها لشربه و بئر أخرى لحاجاته الأخرى، و عثمان في بيته آبار لا بئر واحدة فكيف مات عطشانا، و إذا صحّ ذلك فإنّ اللّه قتله عطشا حين سلّط النار على جوفه.
2- هذا القول لم أعثر عليه عند أحد و قد تظلّموا لعثمان كثيرا فلم يذكروا في ظلامته سحبه في الأسواق و لا ندري شيئا عن مصادر المؤلّف.

و كان الإمام في ذلك اليوم قد اجتنب الفتنة و خرج خارج المدينة، فلمّا قتل عثمان تجمهروا في المسجد و قالوا: أنتم تعلمون بما جناه عثمان على الأمّة و نرى الصلاح في مبايعة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لأنّه أهل لها و هو صالح و عالم و عابد، و كان الحقّ حقّه، فقال عمّر و أبو الهيثم بن التيّهان و رفاعة بن نافع و مالك بن العجلان و أبو أيّوب و خالد بأجمعهم: الرأي ما رأيتم و نحن معكم فأخرجوا بنا إلى بيت عليّ عليه السّلام، فاجتمعوا على بابه فضجر من هذا الوضع أمير المؤمنين لأنّه على علم بعذر طلحة و الزبير، فقال له الناس: إن لم تقبل البيعة ألحقناك بعثمان، و أوّل من بايعه طلحة و الزبير (لعنهما اللّه) و كان طلحة يعاديه إلى آخر حدّ، فالتفت عليّ إليهما و قال:

دعوني و التمسوا غيري، و قال أيضا: لا أرضى ببيعتكم لأنّي غير آمن من شرّكم و بايعه القوم طائعين غير مكرهين.

و كان طلحة خازن بيت المال و صاحب البهم و الصدقات و الزكاة أيّام عثمان (1) و لمّا قتل عثمان أرسل المفاتيح إلى عائشة و لجأ إليها.

و بايع أهل المدينة جميعا- قلبا و لسانا- أمير المؤمنين و كان اجتماعهم على البيعة لا نظير له حتّى كاد القوم أن يهلكوا، فقال أمير المؤمنين: أرى من الصلاح أن نذهب إلى المسجد ليعلم الناس كلّهم بالبيعة و يرغبوا بها.

الفصل الثاني في ذكر بعض أحوال أمير المؤمنين عليه السّلام

و لمّا تمّت البيعة لعليّ عليه السّلام خطب الناس خطبة بليغة و أمر الناس بطاعة اللّه

ص: 164


1- لم يسند إلى طلحة هذا المنصب أيّام عثمان و المؤلّف يقول من غير علم و يخالف إجماع المؤرّخين و لا يرشد إلى المصدر.

و رسوله و طاعته، و قال: إنّكم لتعلمون أنّ الحقّ حقّي، و أنّه غصب منّي بالظلم و الجور، ثمّ نزل عن المنبر و أوّل خطوة خطاها عزل ولاة عثمان و ترك أبا موسى الأشعريّ لأنّ مالكا تشفع فيه ثمّ ولّى قثم بن العبّاس على مكّة و ولّى (عبد اللّه) عبيد اللّه بن العبّاس اليمن، و ولّى عثمان بن حنيف على خراج البصرة و الحارث بن قدامة على إمامة صلاتها.

و يقال: إنّه ولّى عبد اللّه بن العبّاس على الشام فامتنع و قال: لا أقدر على ذلك، لأنّ فيها معاوية و هو ابن عمّ عثمان و أدنى غدره أن يحبسني، فشاوره أمير المؤمنين في الشام و أهله، فقال: اكتب كتاب تولية معاوية على الشام ليعلم بذلك أهل الشام ثمّ ابعثني إليه أعزله. و استدعى المغيرة و شاوره في أمر الشام، فقال المغيرة: الرأي أن تترك الشام لمعاوية و تولّي طلحه و الزبير على البصرة و الكوفة، و كان عبد اللّه بن عبّاس لا يرى رأي المغيرة و قال: يا أمير المؤمنين، البصرة و الكوفة هما السواد الأعظم، و طلحة و الزبير عدوّك فليس بعيدا أن يجمعا الرجال و يخرجا عليك، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: الرأي ما رأيت، فاستاء المغيرة من ذلك و قال: لا أشاركك الرأي بعد اليوم و لو كان بمقدار نفس واحد أي لا أشير عليك ما دمت حيّا.

و عمد عبد اللّه بن عبّاس فكتب كتاب التولية إلى معاوية سرّا فلمّا علم به أمير المؤمنين لامه فقال: إن ردّ الكتاب فإنّما يردّ كتابي، و إن قبله فإنّ النفع صائر إليك، فكتب أمير المؤمنين كتابا إليه و قال: بايعني المهاجرون و الأنصار و عليك أن تقدم بأهل الشام عليّ للبيعة و ولاية الشام لك (1).

ص: 165


1- هذا القول لم يقله أمير المؤمنين و ما كان ليولّي معاوية الشام و هو يعرفه حقّ المعرفة فإنّه يكون حينئذ شريكه في جناياته التي لا حصر له، و قال أمير المؤمنين لمن أشار عليه بإبقاء معاوية كلمة واحدة «و ما كنت متّخذ المضلّين عضدا» و هذا هو الموافق لعصمة أمير المؤمنين و إمامته، أمّا إطلاق الشام لمعاوية فهو كذب و افتراء و لا ندري من أين أخذ المؤلّف لأنّه لا يذكر المصدر إلّا نادرا.

و لمّا قرا معاوية كتاب أمير المؤمنين أنكره و قال: لا ولاية لعليّ عليّ، و قال قوم:

رضي معاوية بتفويض أمر الشام إليه كما جرت عادة الخلفاء من قبله و لكن الإمام عليه السّلام لم يرض بذلك و شفع له عبد اللّه بن عبّاس أن يترك الإمام ولاية الشام له ثمّ يعمل بعد ذلك بما شاء، فقال أمير المؤمنين: ما عذري إلى اللّه غدا يوم القيامة و ما جوابي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين أترك على المسلمين واليا مثل معاوية بن أبي سفيان.

و أنا- المؤلّف- آخذ بهذا القول و أعتمد عليه لأنّه الجدير بالعصمة و التقوى، و أمّا القول الأوّل فهو المكر والدهاء، و هذه السياسة لا تلائم مقام العصمة، و إن كانت إلى الساسة أقرب، و لمّا بلغ الإمام عليه السّلام إباء معاوية عن بيعته جمع أهل المدينة و حرّضهم على حرب معاوية.

الفصل الثالث في قتل (شهادة) عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام

جاء في الروايات أنّه بعد إبرام الصلح بين عليّ عليه السّلام و معاوية (لعنه اللّه) اجتمع جماعة من الخوارج في بيت اللّه الحرام و راحوا يتذكّرون قتلاهم في النهروان و يترحّمون عليهم و يذكرون مناقبهم و يصلّون عليهم، فقام ابن ملجم من بينهم و قال: أنا أكفيكم عليّا، و قال عبد اللّه بن سليمان: و أنا أكفيكم معاوية، و قال عمرو ابن بكر التميميّ- التيميّ- اعهدوا إليّ بقتل ابن العاص، و اتّعدوا مع بعضهم البعض و جعلوا الموعد ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، و صلّوا على عثمان و الزبير،

ص: 166

و قال: سننتقم لدماء هؤلاء (1).

و حدث لعمرو بن العاص ليلة الموعد عارض من علّة فاستناب مكانه للصلاة عبد اللّه بن خارجة التميمي فقتله عبد اللّه بن سليمى خطأ كما قيل.

و ضرب عمر بن بكر التيمي كتف معاوية- ضربه على عجيزته- فلم يعمل السيف فيه فأرادوا قتل عمرو فقال: يا معاويه أطلقني فإنّ لك عندي بشارة، فقال معاويه: ما هي؟ قال: سيأتيك غدا نبأ قتل عبد الرحمان بن ملجم عليّا، فقال معاوية: إن صدقت فإنّي مطلقك و أمر بحبسه، فلمّا بلغه قتل عليّ أطلق سراحه.

و أمّا حكايه عبد الرحمان بن ملجم لعنه اللّه فإنّه ذهب إلى الكوفة و خبأ نفسه فيها و كتم سرّه، و صادف أن جائت قطام اللعينة إلى البيت الذي فيه عبد الرحمان ملجم، فلمّا رآها هويها فخطبها إلى نفسها، فقالت له: إنّ مهري ثقيل. فقال عبد الرحمان: و كم عساه يكون؟ فقالت: ثلاثة آلاف درهم و عبد وقينة و قتل عليّ. فقال: ما أسهل المال و لكن ما أصعب قتل عليّ. فقالت: اطلبه حتّى تصيب غرّته فإن قتلته لذّلك العيش معي، و إذا قتلت فلا تعدم ثواب الآخرة. فطلبت له شبيب و هو من الخوارج ليعينه، و أفضى هؤلاء اللعناء بالسرّ إلى الأشعث بن قيس و كانت قطام قد اعتكفت في مسجد الكوفة و قد توشّحت بالسواد و كان الإمام قد قتل أباها و أخاها في النهروان فحقدت على الإمام جرّاء ذلك حقدا شديدا.

و كان حجر مقيما في المسجد تلك الليلة يصلّي، فارتاب بهم، فخرج مسرعا ليخبر أمير المؤمنين، فاختلف معه في الطريق.

ص: 167


1- أمّا رأي الخوارج في عثمان فهو على النقيض ممّا ذكره المؤلّف و إنّهم ليلعنونه لعنا كثيرا لاعتقادهم بأنّه أوّل من أبدع في الإسلام و ألحد في الدين و رأيهم في أهل الجمل لا يختلف عن رأيهم في نعثل.

قالت أمّ كلثوم: إرق أبي تلك الليلة فلم يغمض له جفن، و قضى ليلته مصلّيا و يخرج بين فترة و فترة و يقول: ما كذبت و لا كذّبت. قالت أمّ كلثوم: فقلت له: ما الذي جرى لك يا أبتاه لم تنم الليلة؟ فقال: غدا تعلمين ما الذي يجري على أبيك.

و كان في رمضان الذي قتل فيه أعرض عن الأكل و اقتصر على ثلاث لقمات، فقيل له: يا أمير المؤمنين، مالك لا تأكل؟ فقال: أشتهي أن ألقى اللّه و رسوله و أنا خميص البطن، و كان إذا بلغ الألم به أشدّه من رعيّته يقبض على لحيته الكريمة: متى ينبعث أشقاها فيخضب هذه من دم رأسي.

قال أبو صالح: سمعت عليّا يقول: رأيت النبيّ في النوم و شكوت له أمّته، فقال لي: لا تحزن فإنّك عن قريب تلقاني و تنجو من غدرهم، فما مرّ على تلك الرؤيا ليلتان حتّى خضّبه ابن ملجم لعنه اللّه بسيفه.

و لمّا سمع الأذان أمير المؤمنين عزم على الخورج إلى المسجد، فقالت له أمّ كلثوم:

أرى أن ترسل إلى جعدة بن هبيرة للصلاة و تقيم أنت في البيت، فقال: حسنا رأيت و لكن استثنى من ذلك و قال: لا مهرب من الموت.

اشدد حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيك

و لا تجزع من الموت إذا حلّ بواديك قيل: لمّا جاء ابن ملجم للبيعة، أخذ الإمام البيعة منه سبع مرّات، فقال الإمام الحسن: لم تفعل بأحد من الناس ما فعلته بهذا؟ فقال: لو بايع مائة مرّة فإنّه لا يترك فعلته.

و كان هذا اللعين يماشي الإمام عليه السّلام فوقفت دابّته، فأمر الإمام بإبدالها بأحسن منها، و لمّا اعتلى ابن ملجم صهوتها و أدبر، قال أمير المؤمنين:

أريد حبائه و يريد قتلي عذيرك من خليلك من مرادي كان عمر بن الخطّاب يروي رواية و يقول: إذا شككت بمولد طفل هل هو

ص: 168

لسفاح أو لنكاح فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ضعه أمام عليّ فإذا تبسّم و ضحك فهو ابن حلال، و إن بكى فهو لغير رشده.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قال لي إبليس: قل لعليّ يرد لي حقّي، فقال أمير المؤمنين:

و ما حقّ هذا اللعين- يا رسول اللّه- عليّ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّه قال: ما من عدوّ لعليّ إلّا و أشركت أباه فيه، قال اللّه تعالى: وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ (1) و الحقيقة أنّ عدوّ أهل بيت النبيّ لا يمكن أن يكون إلّا لغير رشدة.

و لمّا خرج أمير المؤمنين خرج و هو يردّد «اشدد حيازيمك للموت» و لمّا توسّط صحن الدار صحن إوز أهدين للحسنين في وجهه فزجرتهنّ أمّ كلثوم، فقال أمير المؤمنين: دعيهنّ يا بنيّة، فإنّهنّ ينحن عليّ.

و جوهر القول أنّ الإمام لمّا بلغ المسجد كان النغل الزنيم راقدا فيه يرقب غرّة الإمام، فأخذه النوم فأقبل الإمام و نادى برفيع صوته «الصلاة أيّتها الجماعة» فنهض شبيب حين دخل الإمام محرابه و شرع في الصلاة فضربه شبيب ضربة خفيفة لم تؤثّر فيه و لاذ بالفرار، و كان الإمام إذا دخل في الصلاة انقطع عن العالم، حتّى جائه عبد الرحمان بن ملجم عليه اللعنة و ضربه ضربة شديدة فخفّف في الصلاة و قد جرى الدم على لحيته الشريفة فكان يأخذ الدم و يمسح به الجدار، يقال: إنّ هذا الدم ما يزال ظاهرا في ذلك المكان.

ثمّ هرب ذلك اللعين و دخل شبيب بيته و أخذ يحلّ الحرير عن صدره و كان له ابن عمّ مسلم، فقال له: يا عدوّ اللّه، كأنّك قتلت أمير المؤمنين، فأراد أن يقول لا، فقال: نعم، فضربه ابن عمّه بالسيف حتّى ألحقه بجهنّم.

و هرب عبد الرحمان فارتفع النداء في الكوفة بأنّ عبد الرحمان قتل عليّا عليه السّلام،

ص: 169


1- الإسراء: 64.

و جاء حمّاميّ و بيده بساط فلمّا رأى ابن ملجم يعدو هاربا ألقى البساط على عنقه و أخذ يجرّه حتّى قدم به على الحسنين فأوقدوا مشعلا و حملوا الإمام إلى بيته و أمر جعدة ابن أخت الإمام أن يصلّي بالناس فجاؤوا الإمام بشراب من اللبن، فقال:

احملوا لابن ملجم مثله لأنّه خائف.

فصاح الناس به: أيّها اللعين، لم قتلت الإمام؟ فقال: ما أنا الذي قتلته، و جاؤوا بجرّاح لسبر جرح أمير المؤمنين عليه السّلام، فلمّا أرسل المسبار في جرح الإمام عليه السّلام و أخرجه قال: يا أمير المؤمنين، أوص وصيّتك فإنّ سيف الملعون نفذ إلى الدماغ، لأنّه قال: اشتريت سيفي بألف، و سممته بألف، ثمّ أوصى الإمام وصيّة للحسن عليه السّلام و هي الوصيّة التي أوصاه بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: يا حسن، أنت وصيّي، و الحسين من بعدك وصيّك، و من بعده ولده عليّ بن الحسين زين العابدين، و أخيرا قال: إن سلمت من ضربة ابن ملجم فأنا أولى بدمي؛ إن شئت اقتصصت و إن شئت عفوت، و إذا أنا متّ فاضربوه ضربه بضربه، فإذا قتلتموه فأحرقوا جثّته كقاتلي الأنبياء فإنّ جثثهم تحرق بعد قتلهم، ثمّ توفّي الإمام بعد ذلك، فعمل الحسن بوصيّة أبيه و ضربه ضربة واحدة و استوهبت أمّ الهيثم و هي امرأه مؤمنة جثّته من الإمام الحسن عليه السّلام و أحرقتها.

و توفّي أمير المؤمنين في الواحد و العشرين من شهر رمضان و أوصى: إذا غسلتموني فكفّنوني و احملوني إلى الغري، فسيرتفع المقدّم فارفعوا المؤخّر، و حيثما وضع المقدّم فضعوا المؤخّر، و ادفنوني هناك، فلمّا توفّاه اللّه إليه قام الإمام الحسن عليه السّلام بتجهيزه فغسّله و كفّنه و تقدّم للصلاة عليه و صلّى ورائه مواليه، و لمّا حملوا جنازته سمعوا للملائكة دويّا كدويّ النحل، و حملوا النعش إلى الغري، و دفن هناك حيث قبره الآن في النجف.

و لمّا بلغوا الموضع لاحت لهم صخرة بيضاء تدلّ على القبر فاشتغلوا بحفره، فلمّا حفروا قدر ذراعين ظهر لهم قبر محفور و لحد مشقوق و ساجة منقوره و كتب عليها:

ص: 170

هذا القبر من نوح لأخيه عليّ (1) بن أبي طالب وصيّ محمّد، فدفنوه فيه و ضيّعوا القبر بأمر الإمام حيث أوصاهم بإخفاء القبر لعلمه أنّ الحكم يؤول إلى بني أميّة و آل مروان و إذا علموا به فإنّهم يحفرونه.

و لمّا رجع المؤمنون من دفنه و شاهدوا معجزة القبر الذي حفره نوح قبل آلاف السنين له، بقي من لم ير ذلك في شوق زائد إليه، حتّى إذا ظهر القبر للعيان رغب مواليه في زيارته و رؤية هذه المعجزة فزاروا و شاهدوها.

و قال جماعة ذهبوا لزيارته و تحرّوا رؤية القبر فلم يقعوا على أثر له لأنّ اللّه تعالى أخفاه و بقي مستورا حتّى أيّام هارون الرشيد، و ذات يوم خرج الرشيد يصطاد فرأى قطيعا من الضباء تجثم على ذكوة بيضاء فلمّا بصرت بهم تفرّقت يمينا و شمالا فأرسلوا عليهنّ كلاب الصيد فإذا بلغن موضع الذكوة تراجعن إلى الوراء.

فتحيّر هارون في أمرهنّ فبنى أطنابه هناك و أرسل إلى الكوفة وراء شيخ طاعن في السنّ و سأله عن جلية الحال، فقال: إنّي سمعت أسلافي يقولون: ها هنا قبر عليّ بن أبي طالب. فأقام هارون ثلاثة أيّام هناك، و شرع في الصلاة و التضرّع و الزيارة، و من طلب حاجة من اللّه هناك فإنّها تقضى له.

و قيل: إنّ الإمام الصادق عليه السّلام في المدينة فاستدعاه (2) و أمره بتعيين قبر أمير المؤمنين إلى أن أقام عليه هارون قبّة فأصبح اليوم قبلة ذوي الحاجات.

قيل: لمّا رجع الحسنان من دفن أبيهما سمعا أنينا عاليا فقصدا مقصدها، فرأيا شيخا أعمى عاجزا، فقالا له: ممّ أنينك يا شيخ؟ قال: أنا شيخ أعمى كبير عاجز و كان رجل يأتيني و يتعاهدني بالرعاية، فيحمل لي طعامي و مائي، و هذه ثلاثة أيّام افتقدته فيه و لست أدري ما الذي حدث له.

ص: 171


1- فيا عجبا لهذا المؤلّف، أما علم أنّ عليّا ابن نوح و ليس أخاه.
2- استشهد الإمام الصادق عليه السّلام في عصر المنصور جدّ الرشيد فكيف غفل المؤلّف عن هذا.

فقال له الإمام الحسن: أما سألته عن اسمه؟ قال: سألته، فأجابني: عبدا من عباد اللّه تعالى. فإذا جاءني أحس بإشراقة باطنيّة تستولي عليّ و يذكو هذا البيت بعرف عصمته.

فبكى الحسنان و مواليهما و قالا: هذه صفة أبينا، فقال الرجل: من أبوكما؟ و من أنتما؟ فقالا: نحن الحسنان و أبونا عليّ بن أبي طالب. فقال الشيخ: و ما الذي جرى لأبيكما؟ فقالا: الآن فرغنا من دفنه و أقبلنا من قبره، فرفع الشيخ يده و قبض على تلابيبه و قال: بحقّ أمير المؤمنين إلّا ما أخذتموني إلى قبره، فحملوه إلى القبر، فوضع الشيخ رأسه على القبر و بكى بكاءا شديدا و قال: اللهمّ أسألك بعصمة أمير المؤمنين و طهارته إلّا ما قبضت روحي فإنّي لا أحبّ الحياة هذه، دعا بهذا الدعاء ثمّ أسلم الروح فقام الحسنان على تجهيزه و دفناه عند قبر أمير المؤمنين.

و كان عمره الشريف ثلاثا و ستّين سنة، ولد قبل البعثة بعشر سنين و عاش بعد البعثة مع النبيّ ثلاثا و عشرين سنة، و ثلاثين سنة بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و مدّة خلافته خمس سنوات و أشهر (1). عاش بعد البعثة يعاني الشدائد مع المشركين، و في أيّام خلافته عليه السّلام الظاهريّة عانى دائما من خبث معاوية و طلحة و الزبير و الخوارج و أمثالهم، و لم يلقّب أحد قبله و لا أحد بعده بأمير المؤمنين (2) و لم يجاهد جهاده نبيّ و لا وصيّ نبيّ، و لم يكن في شجاعته أحد من الناس.

زوجته فاطمة الزهراء مربّية رسول اللّه محمّد المصطفى منذ طفولته إلى يوم وفاته، أولاده الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، و حباه اللّه بكثرة النسل بما لم يحب به أحدا من الناس و هم السادات الكبار المعروفون بالاسم و النسب و ليس لنبيّ ما له من الذرّيّه الطاهرة، و يتّصلون برسول اللّه بواسطة الزهراء فاطمة عليها السّلام.

ص: 172


1- المعروف أنّ العام الخامس من ولايته لم يتمّ.
2- أمّا الذين تلقّوا به قبل الإمام و بعده فإنّهم تلقّبوا به ظلما و عدوانا و زورا.

الباب الرابع و العشرون في تعيين تاريخ أعمار الخلفاء الأربعة

اشارة

اعلم أنّ أبا موسى الأشعريّ كان واليا لعمر بن الخطّاب في بعض النواحي فكتب إلى عمر: إنّ كتبك تصل إليّ و لست عارفا بتاريخها، فجمع عمر أصحابه و شاورهم في الأمر فقال بعضهم: نجعل أوّل التاريخ مبعث الرسول، فلم يرضى عمر ذلك و استشار عليّا عليه السّلام، فقال عليّ عليه السّلام: خرج الرسول من أهل الشرك و هو يوم هاجر، فرضي بذلك عمر و جعله أوّل التاريخ و كتب إلى الولايات و الأقاليم به، فكان يوم الهجرة معتبرا في أوّل التاريخ.

الفصل الأوّل

و ذكر الشيخ أبو الحسن الفارسي الناصبي في كتابه تاريخ الخلفاء أنّ اسم أبي بكر عبد اللّه، و اسم أبيه عثمان، و لقّب بعتيق و هو عبد اللّه بن عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن لؤي، و كنية أبيه أبو قحافة، و أمّه سلمى بنت صخر، و وزيره عثمان بن عفّان في بيت المال و أمثاله، و وزير تدبير الملك و القهر و تولية الولايات و العزل و تعيين النوّاب على البلاد عمر بن الخطّاب.

ص: 173

و استقال أبو بكر مرّات بقوله: «أقيلوني» فلست بخيركم و عليّ فيكم. و لم يترك عمر الناس كي يقيلوه و قالوا: لا نقيلك، و كانت خلافته سنتين و ثلاثة أشهر و ثمانية أيّام، و قيل: ثلاثة عشر يوما.

أخذ البيعة من الناس في سقيفة بني ساعدة في اليوم الأوّل، و سانده جماعة من أعداء أهل البيت، توفّي في اليوم السابع و العشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة و عمره ستّون سنة (1)، و كان أبوه حيّا يوم وفاته، و لم يستخلف أحد من الخلفاء و أبوه على قيد الحياة سواه، و ليس ذلك لخير يريده اللّه به لأنّ أباه امرئ غير معصوم من الخطأ فقد يخطأ و يرتكب معصية توجب عليه الحدّ فإن أقامه عليه ابنه فقد عصى اللّه فيم قوله: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما (2) و إن ترك الحدّ عصى في تركه (3).

أمّا يوسف و نظائره من الأنبياء فإنّ نبوّتهم أتتهم بعد وفاة آبائهم، سلّمنا أنّ منهم من كان نبيّا في حياة أبيه، إلّا أنّه من ذوي العصمة الذي لا يظنّ بهم السوء، ثمّ إنّ يوسف و أشباهه نوّاب آبائهم في حياتهم و لم يكونوا أنبياء على الاستقلال (4).

أمّا ما يقال من أنّ أبا بكر كان في مبعث النبيّ ابن الأربعين عاما و بقي مع النبيّ

ص: 174


1- سبق أن ذكر المؤلّف عمره ثلاثا و ستّين عاما.
2- الإسراء: 23.
3- لا أرى وجها لهذا القول لأنّ تحريم «الأف» في الآية لأمور تعود إلى النفس و تدعو إلى التذمّر و إقامة الحدّ يعود إلى حقّ اللّه فلا يدخل تحت مفهوم الآية.
4- سبحان اللّه! إنّ هذا لرأي بارد أجلّ المؤلّف عنه لأنّنا لو سلّمنا له بما قال عن الأنبياء و آبائهم فإنّ الإشكال باقى مع أمّهاتهم، و حقوق الأمّ إن لم تزد على حقوق الأب فإنّها لا تقلّ عنه، و كلّ ما قاله من نبوّتهم بعد موت آبائهم و نيابتهم عن آبائهم لا اصل له، فمنهم من تنبّأ و أبوه حيّ أو ليس بنبيّ أبوه، و حينئذ يبقى الإشكال الذي ساقه على أبي بكر على حاله، اللهمّ إلّا شي ء واحد ينبغي أن يقتصر عليه و هو عصمتهم بخلاف ابن أبي قحافة ذي المعاصي و صاحب الشيطان.

ثلاثا و عشرين سنة مدّة البعثة و بقي سنتين و ثلاثة أشهر و أيّاما بعد وفاة النبيّ فكان يوم وفاته له من العمر خمس و ستّون عاما و ثلاثة أشهر و أيّاما فإنّ هذا هو المعتمد لا الرواية الأولى.

و كان أبو بكر من بني «تيم اللات».

الفصل الثاني

و كنية عمر «أبو حفص» و قالوا: عمر بن الخطّاب بن نفيل ابن عبد العزيز بن عبد اللّه بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، و وزيره زياد بن مسلم، دامت خلافته عشرة أعوام و ستّة أشهر و أربعة أيّام، و قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة في السادس و العشرين من ذي الحجّة سنة ثلاث و عشرين من الهجرة، و كان له من العمر ثلاث و ستّون سنة، و صلّى عليه صهيب مولى عبد اللّه بن جدعان.

سألوا الإمام الصادق عن أبي بكر و عمر كيف استقامت لهما الأمّة و لم تستقم لعثمان، فقال عليه السّلام: عدل الرجلان مع الناس إلّا مع أهل بيت النبيّ، أمّا عثمان فكان ظلمه عامّا؛ لأهل البيت و للناس قاطبة، من هذه الجهة اجتمع الناس عليه فقتلوه (1)، و سلبت ثقة الناس فيه، اللهمّ إلّا ما يذاع عنه من أفعال محمودة ليس لها واقع بل أنشئت كراهيّة للشيعة و أهل بيت الرسول و أذاعتها جماعة تطلق على نفسها العثمانيّة و كان عمر عدويّا.

ص: 175


1- لعلّ الإمام يريد بعد لهما مقيسا إلى ظلم عثمان فهما خير منه سيرة و سلوكا، أمّا العدل من حيث هو عدل فلا لأنّ حروب ما يسمّى بالردة و ما جناه أبو بكر على يدي السفّاح خالد بن الوليد من قتل الناس و إحراقهم و التمثيل بهم لم يترك للرجلين رائحة من العدل.

الفصل الثالث

و كنية عثمان أبو عبد اللّه و هو عثمان بن أبي العاص بن أميّة يعني عثمان بن أبي عاصم بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف (1)، بويع في أوّل المحرّم سنة أربع و عشرين، و دامت خلافته اثني عشر عاما إلّا ثمانية أيّام، و قتل بالمدينة بإجماع المهاجرين و الأنصار لاثني عشر ليلة بقيت من ذي الحجّة سنة ستّ و ثلاثين، و كان عمره ثمانين سنة و هو أوّل ملوك بني أميّة

الفصل الرابع

كانت خلافة مولانا حجّة اللّه على الخلق عليّ عليه السّلام أربع سنين و ثمانية أشهر و تسعة عشر يوما، و دفن يوم الجمعة ليلة الحادي و العشرين من شهر رمضان، و هو هاشميّ الأبوين، عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، ابن عمّ الرسول شقيق والده عبد اللّه، و أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، و عمره الشريف ثلاثة و ستّون عاما، و قيل: خمسة و ستّون.

الفصل الخامس

قال أبو عنان مالك بن إسماعيل الهنديّ و يسمّى الراهب أو الواهب: حضر محمّد بن أبي بكر عند أبيه في السياق و هو ينازع سكرات الموت، فقال له: أراك يا أبتى بحال لم تكن عليها من قبل، فقال: يا بني، للرجل عليّ مظلمة إذا حلّني منها رجوت أن أفيق (2).

ص: 176


1- تبعة هذا النسب على المؤلّف فإن ورد فيه خطأ فعليه وزره.
2- كان عمر محمّد رضى اللّه عنه عندما هلك أبوه سنتين.

و حديثه سقيم، فقال محمّد: من ذلك الرجل يا أبتى؟ فقال: عليّ بن أبي طالب، فقال محمّد: أنا الضامن لعليّ أن يحاللك لأنّه رجل سليم، ثمّ أقبل محمّد على أمير المؤمنين عليه السّلام و قال: تركت أبي على شرّ حال و ضمنت له أنّك تعفو عنه و تبرء ذمّته، إن كان ذلك من رأيك، و تترحّم عليه و تعفو منه.

فقال أمير المؤمنين: «كرامة لك» و لكن قل لأبيك أن يرقى المنبر و يخبر الناس بهذا ليخرج من ذمامي، فعاد محمّد إلى أبيه و قال: قد استجيب الدعاء فقد قال عليّ: كيت و كيت، فقال أبو بكر: ما أحبّ أن لا يصلّي عليّ بعدي اثنان (1) فإنّي إن أقل هذا القول أبق لعنة على ألسن الناس إلى يوم القيامة.

سأل أمير المؤمنين يوما محمّدا بن أبي بكر: أما سمعت أباك يقرأ هذه الآية:

وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (2) و قال عمر لك أحذر يا بني أن يسمع منك ابن أبي طالب ما قال أبوك فيشمت بنا؟ فقال محمّد: صدقت يا علي، و قال: أنا سمعت (أبي) يلعنه و يقول: أنت أوردتني الموارد، فقال: بلى .. (3).

ص: 177


1- ينبغي أن تكون العبارة هكذا: أتحبّ أن لا يصلّي عليّ اثنان.
2- ق: 19.
3- من أجل الحقيقة و حدّها يجب أن لا نمرّ بهذه الأحاديث مرّ الكرام، فإنّ اليقين خير من الشكّ، و الصدق خير من نقيضه، و لا بدّ من معرفة العمر الحقيقيّ لمحمّد بن أبي بكر عند موت أبيه، فقد أجمعت كلمة المؤرّخين على صغر سنّه عند موت أبيه. قال الخوئي في معجم رجال الحديث عن وعظ محمّد لأبيه عند موته: إنّ عمر محمّد و قتئذ كان أقلّ من ثلاث سنين (9: 230)، و قال أيضا عن رجال الشيخ: محمّد بن أبي بكر ولد في حجّة الوداع و قتل بمصر سنة 38 من الهجرة في خلافة عليّ عليه السّلام، و إذا كان في وفاة أبيه بهذه السنة التي لا تتجاوز سنّ اللبن فكيف أمكنه محاورته أو وعظه و نصيحته، و المؤلّف يورد الرواية و يتركها مطلقة دون تحكيم العقل بنقدها، و إنّ هذا الأمر مريب و سرّ عجيب.

الفصل السادس

و جاء في كتاب «فعلت فلا تلم» (1) أنّ أبا بكر و عمر و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة و أبو عبيدة بن الجرّاح أدركهم الموت و هم في الويل و الثبور.

و قال محمّد بن أبي بكر: قال أبي عند الموت: هذا محمّد و عليّ قد حضرا عندي و هما يبشّراني بالنار، و في يد محمّد صحيفة هي التي كتبنا فيها عهودنا و هما يقرءان فيها و يبشّراني و عمر و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة و أبو عبيدة بن الجرّاح بجهنّم، و كانت عائشة و عبد الرحمان بن أبي بكر و عمر حاضرين عند أبي بكر، فقال عمر: إنّه ليهجر و لكن اكتموا هذا السرّ لئلّا يشمت بكم عليّ و بنو هاشم.

قال محمّد: فقال أبي: يا عمر، إنّي لا أهجر، ألا تذكر عندما كنت معه في الغار قال لي: إنّي لأرى سفينة جعفر تجري في بحر الحبشة، فقلت: يا رسول اللّه، أرنيها، فمسح بيديه على عينيّ فرأيتها، فقلت في نفسي: هذا الرجل ساحر، و لمّا رجعت إلى المدينة قلت لك بما في نفسي، و اتفقنا أنا و أنت في الرأي عمرنا كلّه على أنّه ساحر؟

فقام عمر من عنده و ذهب خارج الدار.

قال محمّد: فقلت له: يا أبت، قل لا إله إلّا اللّه، فقال: و اللّه لا قلتها و لا أستطيع قولها حتّى أدخل النار و أكون في التابوت، فذكر التابوت فقلت في نفسي: إنّه ليهجر، فسألته: و ما التابوت؟ فقال: إنّه تابوت يكوت تحت طبقات جهنّم و دركاتها و فيه اثنا عشر شخصا: أنا و أبو بكر و عمر و عثمان و معاوية و يزيد إلى أن

ص: 178


1- كتاب «فعلت فلا تلم» في المثالب، لأبي الجيش المظفّر بن محمّد البلخي الخراسانيّ المتوفّى سنة 367. قال في الفهرست: و هو كتاب كبير، و ينقل عنه في الكامل البهائي في 673 و يقال له: قد فعلت فلا تلم، راجع الذريعة 16: 277.

عدّ آخرهم، ثمّ قال: إذا أمر اللّه النار أن تثب فإنّ هذا التابوت يخرج من موضعه المسمّى بالعنق.

قال محمّد: قلت له: «يا أبت تهذي»؟ قال: و اللّه ما أهذي، لعن اللّه ابن (الضحّاك) صهّاك هو الذي صدّني عن الذكر بعد ما جائني فبئس القرين، و وضع وجهه على الأرض و نادى بالويل و الثبور إلى أن هلك، فجائني عمر و أخي عبد الرحمان و سألاني: هل قال شيئا آخر؟ فقصصت عليهما ما قال، فقال: احذر أن تبلغ عليّا قوله.

قال محمّد: و أخبرني عليّ عليه السّلام بحالات أبي كأنّما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يأتيه كلّ ليلة في النوم فيخبره بما يكون عليه حال القوم أو أنّه كان يحدّثني من الجفر الجامع للعلوم، أو أنّ ملكا يأتيه فيحدّثه كما كان يأتي مريم أمّ عيسى، أو أمّ موسى، أو زوج إبراهيم ساره التي كلّمتها الملائكة و رأتهم، و هذا كلّه مذكور في القرآن.

قال معاذ بن جبل عند موته: اتّعدنا في حجّة الوداع و تعاهدنا أن لا نترك عليّا يبلغ الخلافة، و كان بشير بن سعد و أسيد بن حضير في هذا العهد، فلمّا توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال معاذ: أنا أكفيكم الأنصار و أنتم اكفونا قريشا.

تنبيه: قال عبد اللّه بن عمر: أحضر أبي عليّا عليه السّلام عند موته و طلب منه إبراء لذمّته، فقال عليّ عليه السّلام: أفعل إن رضيت بشهادة عدلين على ذلك، فحوّل أبي وجهه إلى الحائط و سكت ساعة ثمّ أعاد القول ثانيا، فأعاد عليّ عليه السّلام قوله، فحوّل أبي وجهه إلى الحائط ثمّ نهض عليّ خارجا من المكان.

و لمّا كانت الطعنة شديدة على عمر أوتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فقصده جماعة و بشّروه بالجنّة، فتنفّس عمر الصعداء حتّى كادت روحه أن تخرج، ثمّ قال:

و اللّه لو أنّ لي ما في الأرض من صفراء و بيضاء لافتديت بها من هول المطّلع. و هذه رواية ابن عبّاس.

ص: 179

و روي أنّه قال: لوددت أنّي لا أدخل النار، و أمثال هذه الروايات.

و دلائل قول أمير المؤمنين: ما زلت مغصوبا (حقّي) منذ قبض اللّه رسوله و لقد مات و إنّي و اللّه لأولى الناس بها مني بقميصي هذا.

و كان يقول دائما: و اللّه لو كان حمزة و جعفر حيّين ما طمع فيها أبو بكر و عمر و لكن ابتليت بحالفين حافيين عقيل و العبّاس (1) و راوية هذا الخبر أبو جعفر محمّد الباقر عليه السّلام.

الفصل السابع

جاء في كتاب «فعلت فلا تلم» أنّ أبا بكر ندم في مرض موته و كان يقول: ليتني لم أؤمّن الأشعث بن قيس و لم أزوّجه أختي.

و القضيّة التي ملأت قلب الشيخ بالحسرة هي أنّ الأشعث كان قد ارتدّ و كان قد صدر الأمر بقتله، فاستشار أبو بكر أباه أبا قحافة و كان أبو قحافة قد عرض عليه الإسلام في ذلك اليوم، و قال لأبي بكر: آمنه و زوّجه أختك عسى أن ننال بذلك رفعة و فخرا، و لو كنت في الجاهليّة لما تيسّرت لك هذه الحال، ففعل أبو بكر ذلك طلبا للملك و الجاه و أجرى عليه حكم الإسلام، فقال الأصبغ بن حرملة الليثيّ:

أتيت بكنديّ قد ارتدّ و ارتقى إلى غاية من نقض ميثاقه كفرا

أكان ثواب النكث إحياء نفسه و كان ثواب الكفر تزويجه البكرا

فلو أنّه يأتي عليك نكاحهاو تزويجه يوما لأمهرته مهرا

و لو أنّه رام الزيادة مثلهالأنكحته عشرا و أتبعته عشرا

فقل لأبي بكر و قد شئت بعدهاقريشا و أحملت النباهة و الذكرا

أما كان في تيم بن مرّة واحدتزوّجه لولا أردت به الفخرا؟

ص: 180


1- لعلّهما حليفين حافيين، و لكن المؤلّف ترجمها بقوله: «دو سوگند خورنده و پا برهنه».

و لو كنت لما أن أتاك قتلته لأحرزتها ذكرا و قدّمتها ذخرا

فأضحى يرى ما قد فعلت فريضةعليك فلا حمدا حويت و لا أجرا (1) الندم الثاني قوله: «و ليتني لم أكشف بيت فاطمة» (2).

الجواب: هذا ليس ذنبه هو بل ذنب صاحبه عمر و خالد بن الوليد لينال عمر المكافأة ثمّ يقول: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» أمّا يوم الجزاء لا ينفعه صاحبه و لا يغيثونه، يوم يفرّ المرء من أبيه.

و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده

و من كان غاصبنا حقّنافيوم القيامة ميعاده التأسّف الثالث قوله: ليتني لم أولّ السقيفة (3). و هذا يدلّ على ظهور عاقبة أمره لعينه و انكاشفها له بحكم قوله تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (4) و يدلّ أيضا على أنّ فعله لم يكن بأمر اللّه و رسوله و لا بمشاورة المؤمنين و إلّا فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: «ما خاب من استشار» (5) و دليله قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة .. الخ.

ص: 181


1- الغدير 7: 175 نقلا عن تاريخ الطبريّ 3: 276، و ثمار القلوب للثعالبي: 69، الاستيعاب 1: 51، الكامل لابن الأثير 2: 160، مجمع الأمثال للميداني 2: 341، الإصابة 1: 51 و 3: 630.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 24، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 30: 420، ميزان الاعتدال 3: 109، لسان الميزان 4: 189، تاريخ الطبري 2: 619.
3- تاريخ الطبري 2: 619، لسان الميزان لابن حجر 4: 189، ميزان الاعتدال 3: 109، تاريخ دمشق 30: 420.
4- ق: 22.
5- نور البراهين للجزائري 2: 330، شرح مسند أبي حنيفة لملّا علي القاري: 517، كشف الخفاء للعجلوني 2: 188.

و لقد قال اللّه تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (1) و قوله تعالى: أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ (2).

الندم الرابع قوله: وددت أنّي لم أكن حرقت (محارب) الفجاءة السلمي و قتلته سريحا أو خلّيته نجيحا؛ لأنّ التعذيب بالنار مخالف لقول اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله (3).

الفصل الثامن في أنّهما دفنا في موضع غصب

و دليله قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا (4).

الاستدلال: منع اللّه تعالى من دخول بيت النبيّ في حال حياته إلّا بإذنه فكيف يحلّ الدخول و هو في الرفيق الأعلى، فتكون الحال للرجلين أنّهما دفنا في مكان خالفا فيه اللّه و رسوله، و البيوت بيوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد سمّاها اللّه «بيوت النبي» فأضاف البيوت إليه.

و أمّا قولهم خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حجرة عائشة، فلا يدلّ هذا القول على التمليك لأنّ الإضافة بعلاقة التمييز الملابسة كما يقولون: خرج من حجرة لأدنى ملابسة إذ من المقطوع به أنّ الخارج لم يكن في الحجرة كلّها ساعة خروجه.

ص: 182


1- المؤمن: 52.
2- فاطر: 37.
3- تاريخ دمشق 30: 420، تاريخ الطبري 2: 619.
4- الأحزاب: 53.

لا يقال: بأنّهما دفنا في حصّة ابنتيهما عائشة و حفصة لما لهما من الثمن و سهمهما من الثمن «التسع» أي تعطى كلّ واحدة منهما التسع منالثمن و هو لا يقوم بشبر واحد بل دون الشبر فكيف يتّسع الشبران لقبرين؟

ثمّ ألم يقولوا: إنّ النبيّ لم يورث بل كان إرثه صدقة على المسلمين و حينئذ يتّسع الخرق على الراقع حيث يكونان قد دفنا في أرض المسلمين و لعلّ من المسلمين من لا يرضى بدفنهما في أرضه مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: نحن أهل بيت لا يحلّ لنا الصدقة (1).

لا سيّما إذا مرّ على ذلك سنون عدّة فتبيّن من هذا أنّ الرجلين دفنا في أرض مغصوبة.

و إن قال الخصم أنّ الحجرتين ميراثهما من رسول اللّه فوهبتاه إلى أبيهما.

الجواب: و هذا قول باطل، و اعلم أنّهما إن جاز ميراثهما من رسول اللّه فقد جاز للزهراء عليها السّلام أيضا و لكنّ الخصم يزعم أنّ النبيّ لا يورث. ما أعجب هذا القول:

لا ترث ابنة رسول اللّه أباها و ترث ابنة عمر و ابنة أبي بكر رسول اللّه، إنّ هذا لمضحك من القول و شرّ المصائب ما يضحك.

و إن كانت حجرتاهما ميراثا و وهبتاه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّ الهبة لا يجوز الرجوع بها «الراجع في هبته كالكلب يعود في قيئه» (2) و بناءا على هذا يكون نقضا لعهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 183


1- إن كان غرضه من هذا القول أنّ الشقيّتين لا تحلّ عليهما الصدقة فهذا خلاف الواقع لأنّهما كانتا تأكلانها و تدفع إليهما باعتبار كونهما من غير أهل البيت المحرّمة عليهم الصدقة.
2- مسند أحمد 2: 208، سنن النسائي 6: 267، مسند ابن المبارك: 124، السنن الكبرى 4: 124، شرح معاني الآثار لابن مسلمة 4: 78، صحيح ابن حبّان 11: 523، المعجم الأوسط 4: 173، فيض القدير للمناوي 6: 502، الكامل 3: 68، إصلاح المنطق: 94.

الاستدلال الثاني: إنّ اللّه لم يأذن لأحد أن يقيم في بيت النبيّ ساعة من النهار و من فعل ذلك لامه اللّه و أدّبه فكيف يسوغ لهما بدون إذن من اللّه و رسوله النوم هناك و قال اللّه تعالى في ختام الآية: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ (1) و قال في حقّ من آذاه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ (2).

وجه آخر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ (3) و بقيت هذه السنّة إلى الآن لا يرفع القرّاء أصواتهم في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله احتراما له و امتثالا لأوامره و هؤلاء فعلوا ما فعلوا في محضر الرسول و وطأوا بساط النبوّة و كانت أصواتهم و نعراتهم تخترق المسافات حتّى تغطّي مساحة نصف المدينة، نسأل اللّه أن يرزقهم الحياء. و كان النبيّ مادام على قيد الحياة فهو في عسر معهم و بعد أن توفّاه اللّه إليه زادوا الطين بلّة، و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) إنّ اللّه لم يرض بمناداة النبيّ من وراء الحجرات فكيف يرضى لهم النوم في حجرته، و تنطلق الأصوات هناك كأنّها الصواعق منهم.

بيّنة: بقي النساء اللواتي كنّ يسكنّ الحجرات في حجراتهنّ بعد وفاته تطبيقا لقوله تعالى: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ (5) ما عدا عائشة فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخرجها من البيت.

و سرّ هذا الأمر واضح فإن كان يعلم بما يجري منها من ركوب الجمل، و غزوها و قتالها لتنال بذلك الثواب و فضلها القوم على غيرها بقصدها عليّا و حسنا و حسينا

ص: 184


1- الأحزاب: 53.
2- الأحزاب: 57.
3- الحجرات: 2.
4- الحجرات: 4.
5- الأحزاب: 33.

للقتال و غيرهم من الصحابة ممّن نصرهم، و أبى باقي النساء أن يسلكن مسلكها و ينبغي على صاحب هذا المعتقد أن يستحي من اللّه إن كان يعرف ما هو الحياء،.

و لمّا عرف النبيّ ذلك بالوحي و علم أنّ ذلك على حساب شرفه صلّى اللّه عليه و آله و حيائه حيث تقود زوجه جيشا و ترتّب ميمنته و ميسرته و قلبه لذلك أوكل أمر طلاقها إلى أمير المؤمنين فامتثل الإمام هذا الأمر لأنّه إذا فقدت البيت فقد العائل أيضا (1).

الفصل التاسع في إسلام عليّ عليه السّلام

سبق عليّ أبا بكر و عمر و عثمان بالإسلام، و عبد اللّه بعدهم حيث هلكوا قبله، و بقي يعبد اللّه بعدهم بل لم يصل العالم إلى العبادة الحقّة إلّا بفضل جهاده عليه السّلام.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ضربة عليّ خير من عبادة الثقلين» (2) و ما يقال من أنّه كان طفلا حين أسلم، الجواب: إن لم يكن لإيمان الطفل اعتبار فإنّ فطرته من نوع العبث فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (3) و مثلها الحديث: «خلقت عبادي كلّهم حنفاء» (4) و الحديث: ما من مولود إلّا يولد على الفطرة و أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه

ص: 185


1- أنا أتوقّف في هذه المسألة لأنّ ذلك يخفّف من ذنبها حين تخرج من عصمة رسول اللّه و تكون امراة عادية بالطلاق أضف إلى ذلك أنّ الطلاق لا يكون إلّا و الزوج على قيدة الحياة و النبيّ غير مستثنى من هذه المسألة.
2- مجمع الفائدة 3: 216، شرح أصول الكافي 12: 412، الطرائف: 519، عوالي اللئالي 4: 86، كتاب الأربعين لمحمّد طاهر القمّي: 42، بحار الأنوار 39: 2، الغدير للأميني 7: 206، كشف اليقين: 82، وفيات الأئمّة: 12.
3- الروم: 30.
4- المحلّى لابن حزم: 389، المصنّف لعبد الرزّاق الصنعاني 11: 120، الآحاد و المثاني للضحّاك 2: 401، مجمع البيان للطبرسي 10: 28، تفسير نور الثقلين 5: 338.

أو يمجّسانه (1)، مع أنّ درجة النبوّة أعلى الدرجات و كانت للطفل جائزة فيكون الإيمان أقرب للجواز.

أعطى اللّه النبوّة ليحيى و هو طفل و قال سبحانه: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (2)، و أعطى عيسى النبوّة و هو طفل: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (3) و هذه المعاني يمكن أن تكون بالإيمان، و كانت حال يوسف مشبهة لحال هؤلاء كما خاطبه و هو في البئر: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (4) و إذا أمكن أن يكون الطفل صاحب وحي أمكن أن يكون صاحب إيمان بطريق أولى.

جواب آخر: كان عليّ عليه السّلام عين الإيمان، و الإيمان به واجب بحكم أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (5).

جواب آخر: و عندنا اليوم لا يقال لمن ولد بين مسلمين قد أسلم لأنّه ولد على ذلك، و أشبهت حال عليّ عليه السّلام ذلك، لأنّه ولد بين يدي الرسول و لم يسجد لصنم أو يعبد صنما أبدا، و كان أبو بكر يعبد الأصنام ستّا و أربعين سنة، و من كان مثله يجب عليه أن يؤمن.

ص: 186


1- الخلاف 3: 591، مختلف الشيعة 6: 108، تذكرة الفقهاء 1: 425، المبسوط للسرخسيّ 5: 44، البحر الرائق 2: 331، حاشية ردّ المختار لابن عابدين 3: 216، المغني 6: 377، مسند أحمد 2: 315 و 364، صحيح البخاري 2: 97 و 98 و 104، و 6: 20، و 7: 211، صحيح مسلم 8: 52 و 53، سنن أبي داود 2: 416، سنن الترمذي 3: 303، سنن البيهقي 6: 202 و 203، مجمع الزوائد 7: 218، مسند الطيالسي: 311، مسند الحميدي 2: 473، المعجم الكبير 1: 283.
2- مريم: 12.
3- مريم: 30.
4- يوسف: 15.
5- النساء: 59.

جواب آخر: كان عمر عليّ عند الوفاة خمسا و أربعين سنة سلخ منها ثلاثا و عشرين عاما مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تسعا و ثلاثين عاما سوى خمسة أشهر عاشها بعده، و يصحّ البلوغ في الثالثة عشرة و يبدأ النموّ في سنّ العاشرة، سلّمنا أنّه لم يكن بالغا عند ما أسلم و لكنّه لم يكفر كغيره و لم يستظلّ بظلّ الشرك- و حاشاه من ذلك-.

جواب آخر: سلّمنا بطفولته إلّا أنّ إسلامه بنحو الإلهام أو لا؟ فإن كان الأوّل فيكون إيمانه أعلى مراتب الإيمان، و إن كان الثاني فلا بدّ من كونه بطلب و دعوة من النبيّ و النبيّ لا يفعل ذلك إلّا بأمر اللّه كما قال اللّه تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (1) و قال: ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (2) و قال: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (3).

و تخصيصه من دون فتيان العالم بالدعوة لا بدّ من كونه لخاصيّة في شخصه و درجة عالية له بين الناس. و عندنا أنّ عناية كهذه تختصّ بالأنبياء أو الأئمّة و يظهر الإعلام عند ما يبلغ المعتنى به أشدّه كما فعل عيسى عند بلوغه من البشارة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله إظهارا لنبوّته، و هذه البشارة من أعلام نبوّة المسيح على نبيّنا و آله و عليه السلام و إلّا لو افترضنا بأنّ إيمان عليّ عليه السّلام كان بالوحي أو من تلقاء نفسه فإنّها فضيلة لا تبلغها العقول، و لا يحيط بها خاطر، لأنّ النور ملأ قلبه في بيئة يغمرها الشرك، و تطغى عليها موجة الكفر.

ص: 187


1- النجم: 3 و 4.
2- ص: 86.
3- الحاقّة 46: 44.

جواب آخر: اتفق المسلمون على أنّ اللّه تعالى بعث نبيّه للمكلّفين البالغين لا للصبيان دون البلوغ و لا للمجانين، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعاه- باتفاق العلماء- إلى الدين فلا بدّ من كونه و اصلا حدّ البلوغ المكلّف.

جواب آخر: خاطب اللّه نبيّه بقوله سبحانه: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (1) فكان على النبيّ أن يبدأ بقومه أوّلا بحكم هذه الآية و مقتضاها إذ العادة قاضية بأنّه ليس من الصحيح أن يتطلّب المرء إرشاد الغرباء و هدايتهم بالوعظ و النصيحة و يترك أهله و ذويه على طرف الضلال مع أنّ اللّه تعالى يقول: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها (2)، و قال: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً (3).

و اتفقوا على أنّ عليّا كتب إلى معاوية:

سبقتكم إلى الإسلام طرّاغلاما ما بلغت أوان علمي و نزل الوحي على النبيّ يوم الاثنين و أسلم عليّ عليه السّلام يوم الثلاثاء و صلّى معه.

و قالوا: لمّا دعا النبيّ عليّا عليه السّلام قال: أمهلني حتّى أشاور أبي، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

يا عليّ، إنّها أمانة، فقال عليّ عليه السّلام: إن كانت أمانة فقد أسلمت.

و قال ابن عبّاس: لمّا دعا رسول اللّه عليّا إلى الصلاة و الإسلام قال: إنّ هذا دين يخالف دين أبي حتّى أنظر فيه و أشاور أبا طالب، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: انظر و اكتم، فمكث هنيئة ثمّ قال: أجيبك (4)، و هذا الأمر من التفكير و حفظ السرّ و مشاورة

ص: 188


1- الشعراء: 214.
2- طه: 132.
3- التحريم: 6.
4- الفصول المختارة: 280، سعد السعود: 216.

الأب، و الصبر و التمهّل، و إدراك كون هذا الأمر لا ينبغي أن يشاور فيه، دليل على أنّ إسلام عليّ لم يكن بالتقليد و الاتّباع بل بالدليل الملزم و البرهان القاطع، و الطفل لا يملك حاسّة التميز بين الحقّ و الباطل.

و لو لم يكن عليّ بالغا مبلغ الرجال لما أوصاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بكتمان السرّ و لم يأتمنه، و لمّا كان النبيّ قد ائتمنه فينبغي أن يكون واثقا به و قد أوضحت ذلك في كتاب «مناقب الطاهرين» و أشبعت هذا الباب بحثا فاطلبه هناك.

و نتيجة القول: إنّ عليّا عليه السّلام كان تحت ضغط المنافقين و لقد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما أوذي نبيّ كما أوذيت (1) و هذا يبرهن على أنّ وصيّ النبيّ و هو عليّ ما أوذي وصيّ بمثل ما أوذي به وصيّ محمّد.

الفصل العاشر

و من الترّهات ما رواه رواتهم من أنّ شاعرا أنشد النبيّ الشعر فلمّا طلع عليهم عمر أمره بالإمساك، فلمّا ولّى أمره بالإنشاد فأنشد و أخذ يتغنّى بشعره، و عاد عمر ثانية فعاد النبيّ يأمر الشاعر بالإمساك، و لمّا ولّى قال له: أنشد، فلمّا عاد قال له:

أمسك، فقال الشاعر: من هذا يا رسول اللّه؟ إذا جاء أمرتني بالإمساك، و إن ذهب أمرتني بالإنشاد، فقال رسول اللّه: إنّه عمر و إنّه لا يحبّ الباطل.

لقد حملهم حبّهم لعمر على نسبة الباطل إلى رسول اللّه فكيف يصحّ هذا أنّ النبيّ

ص: 189


1- كتاب التمحيص لمحمّد بن همام الإسكافي: 4، العوائد و الفوائد للسيّد مصطفى الخميني: 45، كامل الزيارات: 201، مناقب ابن شهر آشوب 3: 42، بحار الأنوار 39: 56، مستدرك سفينة البحار 10: 102، فتح الباري لابن حجر 7: 126، الجامع الصغير 2: 488، كنز العمّال 2: 130 رقم 5817 و 5818 و 11: 461 رقم 32160 و 32161.

يحبّ الباطل و عمر لا يحبّه، و إذا جاز حمل الباطل على النبيّ في مورد- و حاشاه من ذلك- جاز حمله عليه في كلّ الموارد، و الذي يهون الخطب أنّ اللّه سبحانه و تعالى في مذهب القوم فاعل لجميع القبائح و المظالم، و الغرض من هذا كلّه تنزيه عمر، و إذا نزّهوا عمر و نسبوا الباطل للنبيّ و أسمعوه الباطل فلا عجب من سوء مذهبهم، و مع هذا يروون عن عمر قوله: «أحبّ الأشياء إليّ الشعر»، و قال أيضا: علّموا أولادكم الشعر فإنّه ديوان العرب و معرفة أنسابكم و حفظ مناقبكم.

و قيل: إنّ سارية بن درهم (1) كان يقاتل في نهاوند و هو القائد على جيش المسلمين فأرسله عمر إلى غزاة فغلبه المشركون و هزم عسكره، فعلم عمر و هو في المدينة بما جرى عليه، فناداه: يا سارية الجبل هذا، فسمع سارية و التجأ إلى الجبل (2)، فإذا كان سارية سمع صوت عمر مع هذا البعد الشاسع فإنّه أفضل من عمر حين أوتي حدّه السمع هذه.

و الغرض من هذا تشبيه عمر برسول اللّه لمّا أخبر عن شهاده جعفر في غزوة مؤتة بوحي من اللّه و كشف الحجب له و ثنّى من بعده بزيد بن حارثة و من بعده بعبد اللّه بن رواحة، و هكذا فعل حين أخبر عن سارية و أمره باللجوء إلى الجبل.

و قالوا: سبّح الحصى بكفّ عثمان و الغرض من هذا الافتراء مساواة عثمان (البوّال على عقبيه- المترجم) برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لو كذبوا مئات بل آلافا لما بلغوا

ص: 190


1- سمّاه ابن قتيبة في مختلف الحديث «سارية بن زنم» ص 152.
2- كنز العمّال 12: 517 رقم 35789، فيض القدير 4: 664، كشف الخفاء 2: 380، الإكمال لابن ماكولا 3: 395، تاريخ مدينة دمشق 2: 366 و 20: 20، أسد الغابة 2: 244 و 4: 65، لسان الميزان 5: 301، ذكر ذلك استطرادا في حوار بين مؤمن الطاق و أبي حنيفة، الإصابة 3: 5، معجم البلدان 5: 99، تاريخ المدينة لابن شبة 2: 754، تاريخ اليعقوبي 2: 156، تاريخ الطبري 3: 254، البداية و النهاية 6: 93.

فضل سورة هل أتى و آية المباهلة حيث دعا اللّه عليّا نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و جاء في ذلك أحاديث شتّى مع معجزات جليلة صدرت من الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

و لقد بلغت رتبة عليّ عند اللّه و الناس درجة ادّعى بعضهم له الربوبيّة لعنهم اللّه و على الفرقة التي تعاديه و الذين لا يرضون بإمامته بعد الرسول بلا فصل.

و مع ما يسندونه إلى شيوخهم من الترّهات إذا سمعوا منّا في مناقب أهل البيت رفعوا عقيرتهم بنبزنا بقول (رافضيّ) فيا للعجب نحن الذين ننزّه ذات الباري من القبائح و نثبت للأنبياء العصمة و الأئمّة روافض، و هم الذين يخالفون هذه العقيدة يعتبرون أهل السنّة خالصين مسلمين و كذلك يتخيّلون.

و قالوا: أنفق أبو بكر على رسول اللّه أربعين ألف درهم أو دينار.

الجواب الأوّل: إنّ اللّه أغنى نبيّه بفضله عن مال أبي بكر حيث قال: وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (1).

الثاني: أغناه بالأنفال كما قال اللّه تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ (2).

الثالث: بالخمس، قال تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ (3) و الصدقة محرّمة على رسول اللّه و أهل بيته كما قال: نحن أهل بيت لا تحلّ لنا الصدقة.

و قال رواتهم: كانت لأبي بكر راحلتان فأعطى إحداهما لرسول اللّه في الهجرة فلم يقبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: لن أقبلها إلّا بثمنها فإمّا أن تبيعها عليّ أو تؤجرنيها فإنّي لا أركب بعيرا ليس لي.

ص: 191


1- الضحى: 8.
2- الأنفال: 1.
3- الأنفال: 41.

و لقد كان أبو بكر أفقر بيت في أهل مكّه، و كان معلّما للأطفال آداب الجاهليّة، و كان سمسارا كما زعم الثعلبيّ و يبيع الكرابيس، و أبوه صيّادا، فمن أين جاءته هذه الثروة ليت شعري. و كان أكثر أهل مكّة قوم من الفقراء: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ (1).

و لمّا تلى أمير المؤمنين سورة برائة على أهل الموسم و نهى المشركين من الطواف في الكعبة و منعوا من زيارتها، شكى أهل مكّة الفقر و قالوا: كنّا نؤمن حاجتنا من نفقات الزوّار فأعطاهم اللّه تعالى الجزية المستوفاة من اليهود و النصارى و جعل ذبح الهدي لازما، و أعطي للقانع و المعتر من فقرائهم.

و توجّه المدح من اللّه إلى فقراء المهاجرين في كلّ موضع أثنى فيه على الصحابة:

لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ (2)، و قال: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً (3) و قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (4).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المنبر في آخر عمره: اللهمّ هل بلّغت، و يظهر من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هنا أنّه لم يتوان عن التبليغ و لقد بلّغ الأمر و النهي و الحلال و الحرام و الشرائع بمجملها، فلا مجال حينئذ للقياس و الاجتهاد و الاستحسان و هي أمور باطلة و علل شرعيّة مندكّة في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (5).

ص: 192


1- التوبة: 28.
2- الحشر: 8.
3- البقرة: 273.
4- المائدة: 3.
5- المائدة: 44.

فاللّه واحد، و النبيّ واحد، و الشريعة واحدة، و لكن قضى عليهم القياس أن يتفرّقوا إلى مذاهب كأنّهم لم يقرؤوا قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ (1) فأبطلت هذه الآية كلّ اختلاف جاء بالطوائف و الفرق لأنّ الحقّ واحد لا يتجزّأ، فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (2)، و قال اللّه تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (3).

و قالوا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اختلاف أمّتي رحمة، و هذا من العجائب أن يكون اختلاف الأمّة رحمة و اتفاقها و اتحادها ليس رحمة، و لا حرج عليها من الاختلاف، و في الحديث: من حكم في وزن عشرة دراهم فأخطأ حكم اللّه يجي ء يوم القيامة مقطوعا يداه ..

و نقيض هذه الرواية صحّة الاجتهاد: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر و إذا اجتهد فأصاب فله أجران (4)، و قالوا: كلّ مجتهد مصيب (5)، و لمّا انكشفت تناقضات أئمّتهم للملأ اخترعوا مثل هذه الأحاديث ليغطّوا على أخطائهم فأضلّوا أنفسهم.

و العجب من هؤلاء أنّهم يعتقدون كلّ من اجتهد في مسألة في العالم مصيبا إلّا كامل البهائي ج 2 193 الفصل العاشر ..... ص : 189

ص: 193


1- آل عمران: 105.
2- يونس: 32.
3- النساء: 82.
4- الأمّ للشافعي 6: 216 و 7: 99، الرسالة للشافعي: 494، مختصر المزني: 299، مجموع النووي 3: 53، مغني المحتاج للشربيني 4: 372، فتح المعين للهندي 4: 39، البحر الرائق 7: 76، المغني لابن قدامة: 27، المحلّى لابن حزم 1: 69 و 70، سبل السلام 4: 778 و قال: متفق عليه، مسند أحمد 4: 197، صحيح البخاري 8: 157، صحيح مسلم 5: 131.
5- روضة الطالبين 7: 421، حواشي الشرواني 1: 50، المبسوط للسرخسي 10: 191 و 12: 69، المحلّى لابن حزم 1: 70، بداية المجتهد لابن رشد 1: 51.

الأئمّة الشيعة و علمائها كالإمام زين العابدين و محمّد الباقر و جعفر الصادق و موسى ابن جعفر و عليّ بن موسى و أمثالهم عليهم السّلام مع أنّهم أهل العصمة و الطهارة و من أهل البيت النبوي فإنّهم لم يذكروا لهم مسألة واحدة في أصل أو فرع .. و مع علمهم أيضا بأنّ علمائهم كأبي حنيفة و الشافعي من تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السّلام.

و إن تعجب فعجب أمر هؤلاء أن يكون اجتهاد السقي حقّا و اجتهاد الإمام الصادق الذي روى عنه أربعة آلاف راو موثّق منهم أبو يزيد البسطامي و أبو حنيفة الكوفي، سبحان اللّه! ما أعظم هذه العداوة لهذه الضلالة مع عترة الرسول، مع أنّه ورد في كتبهم بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّي مختلف فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي. و قال عبد اللّه بن عبّاس: أوّل من قاس إبليس، و قال النبيّ: «أهل بيتي .. الحديث» و كذلك قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: النجوم أمان لأهل السماء و أهل بيتي أمان لأمّتي (1).

و مع ما يروون من هذه الأخبار الآخذة بالأعناق يتمسّكون بأذيال الشافعيّ و أبي حنيفة و مالك و ابن حنبل بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (2)، و لم يلقوا بالا لأخبار العترة من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و يرونها من أخبار الآحاد و ما يرويه أبو هريرة أو المغيرة أو أبو موسى الأشعريّ فهو حقّ و متواتر مع أنّهم يقولون عن النبيّ أنّه قال لأبي هريرة: إنّ فيك شعبة من الكفر (3)، و زنى المغيرة و شهد عليه ثلاثة عند عمر،

ص: 194


1- كشف الغطاء للشيخ جعفر 1: 8، فقه الصادق 7: 370، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 30، مقتضب الأثر للجوهري: 15، التعجّب: 65، الاحتجاج 3: 48، العمدة: 308، الطرائف: 131، شرح الزيارة الجامعة للشبّر: 181، خلاصة عبقات الأنوار 1: 81 و 4: 315 و 318، المستدرك للحاكم 2: 448 و 3: 149، المعجم الأوسط 4: 237.
2- الكهف: 50.
3- جاء الخبر في مجمع الزوائد هكذا: عن أبي هريرة قال: سببت رجلا في الإسلام بأمّ له في الجاهليّة فاستعدى علي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فيك شعبة من الكفر. فلمّا ذكر الكفر اضطربت رجلاي فقلت: يا رسول اللّه، و الذي بعثك بالحقّ لا أسبّ مسلما بعده أبدا (8: 86).

و أخاف عمر الرابع فكتم الشهادة و تلجلج بها لأنّ المغيرة صاحب عمر و اجتمعت مصلحة الرجلين على بغض عليّ عليه السّلام، و هدّد الشاهد و أرهبه حتّى دفع شهادته، و قال النبيّ عن أبي موسى: إنّه إمام الفرقة المذبذبيّة (كذا).

و هم يروون عن حذيفة و عن سلمان عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ستفترق أمّتي على ثلاث فرق: فرقة على الحقّ لا ينقبض الباطل منها شيئا، يحبّوني و يحبّون أهل بيتي، مثلهم مثل الذهبة الحمراء أوقد عليها صاحبها فلم تزدد إلّا خيارا، و فرقة على الباطل لا ينقبض الحقّ منها، يبغضوني و يبغضون أهل بيتي، مثلهم مثل الحديد أوقد عليه صاحبه فلم تزدد إلّا شرارا، و فرقة مذبذبة فيما بين هؤلاء و هؤلاء يقولون لا مساس إمامهم الأشعريّ.

و يروون أيضا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما وليت أمّة أمرها رجلا و فيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتّى يرجعوا إلى ما تركوا ... (1). و مع هذه الرواية فقد تركوا عليّا و هو الأعلم و اختاروا غيرهم و هم جهّال و سوف يرجعون في عهد صاحب الزمان إلى ما تركوه.

ص: 195


1- مستدرك الوسائل 11: 30، كتاب سليم بن قيس: 205، المسترشد: 600، كنز الفوائد للكراجكيّ: 215، التعجّب له: 14، الأمالي للشيخ الطوسيّ: 560، الاحتجاج 1: 219 و 2: 8، حلية الأبرار 2: 77 و 80، مدينة المعاجز للبحرانيّ 2: 87، بحار الأنوار 10: 143 و 27: 113 و 30: 323، الغدير للأميني 1: 198، ينابيع المودّة 3: 369، الأنوار العلويّة: 336، صحيفة الإمام الحسن: 184.

الفصل الحادي عشر في بيان جانب من الوقائع و المظالم التي أنزلوها في آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله

اعلم بأنّ الرجال أكثر عطفا على النساء في جميع قضاياهم، و بناءا على هذا فإنّ فاطمة عليها السّلام مع جلالة قدرها و قرابتها من رسول اللّه و قرب عهدها منه خرجت تستغيث من ظالمهم بهم واحدا واحدا فما أجابها واحد منهم.

و لمّا خرجت عائشة تريد قتل عليّ و الحسن و الحسين عليهم السّلام اجتمع عليها ألف من المهاجرين، و كان غرضهم من سلب الخمس منهم تركهم فقراء مملقين لئلّا يجتمع الناس عليهم.

قال أبو بكر لفاطمة: ايتيني بأحمر أو بأسود ليشهد لك مع أنّها صاحبة اليد و هي المتصرّفة، و جاءت أبا بكر بعليّ و الحسن و الحسين و أمّ أيمن يشهدون لها، فقال أبو بكر: عليّ و ولداه يجرّون النار إلى أقراصهم، و أمّ أيمن امرأه، و لقد سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ اللهمّ أدر الحقّ معه حيثما دار، و قال في حقّ الحسن و الحسين عليهما السّلام: الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة و هما إمامان قاما أو قعدا و أبوهما خير منهما (1).

و قال في حقّ فاطمة عليها السّلام: فاطمة بعضة منّي، من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه، و إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة و يرضى لرضاها (2).

ص: 196


1- بحار الأنوار 39: 90، الإمام علي للرحماني: 306 و 350، كنز العمّال 12: 122 رقم 34293 و جميعها خلت من جملة: هما إمامان قاما أو قعدا، و هي كما أعلم حديث مستقلّ.
2- فوائد الأحكام للحلّي 1: 122، مسند زيد: 459، أمالي الصدوق: 165، كفايه الأثر: 37 و 64 و 65، ذخائر العقبى: 37، الصراط المستقيم 1: 170 و 2: 118 و 282 و 289، فضائل الصحابة للنسائي: 78، مسند أحمد 4: 5، صحيح البخاري 4: 210 و 6: 158، صحيح مسلم 7: 141، سنن ابن ماجة 1: 644، سنن أبي داود 1: 460، سنن الترمذي 5: 359، المستدرك 3: 159، و المؤلّف ذكر حديثين في سياق واحد، و الثاني: إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة، الحديث و أخرجه زيد في مسنده: 459، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1: 51، ينابيع المودّة 2: 56، اللمعة البيضاء: 133، و نسبه صاحب حقوق أهل البيت الشيخ محمّد حسين الحاج إلى كنز العمّال 1: 219.

و قال في حقّ أمّ أيمن: أنت على خير أو إلى خير.

و لم يمض طويل وقت حتّى جائه مال من البحرين و كان جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ إلى جانبه فقال له: يا أبا بكر، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا أتاني مال البحرين حبوت لك (1)، فاستدناه أبو بكر و حثى له من ذلك المال الذي في كلّ درهم منه حقّ لفقير و سهم لجائع ثلاث حثوات، بلا حجّة أو سبب، و لم يطالبه بشاهد و اعتقد صدقه.

و العجب أنّهم يرون أبا بكر مصيبا و يرون المعصوم و قد شهد له المعصوم مخطئا و كاذبا مع أنّ عددا من الآيات تدلّ على صدق فاطمة عليها السّلام و صحّة دعواها.

هاهنا أعطى مال المسلمين لآخر بدون بيّنة، و هنا غصب مال المستحقّ مع وجود البيّنة، و في كلا الحالين ادّعت فاطمة ملكيّة أرض أنحلها إيّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ادّعى جابر وعد رسول اللّه و طلب إنجازها، و تلك صاحبة اليد و دعوى جابر خارجة عن التصرّف؛ فاعتبروا يا أولي الألباب.

و كذلك لمّا ادّعى سعد بن زيد زعم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شهد لجماعة بالجنّة: أبو بكر و عمر و عثمان و عليّ و طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمان بن عوف و أبو عبيدة (2) و لم يشهد له أحد من الصحابة بصحّة ما قال و لم يصدّقه أحد، و مع كونه

ص: 197


1- لعلّها حثوت لك.
2- لم يرشح للجنّة مثل عمّار و المقداد و سلمان و خباب بن الأرت و سعد بن عبادة و مصعب بن عمير و حمزة و جعفر، و رشّح لها هؤلاء، إنّ هذا لأمر عجيب!

ادّعى هذه الدعوى للحصول على النفع و الجاه لأنّه منهم و هو شاهد لنفسه فقبل قوله و لم يردّوا دعواه، و ردّوا دعوى فاطمة و ما علموا أنّ مال الزوج و الزوجة لا يصل إلى الأولاد إلّا بالميراث أو النحلة، و كلّ الناس يرث بعضهم بعضا.

و يشهد على السابق إلى الإيمان و الإسلام الذي لم يشرك باللّه طرفة عين، و سبق الناس بالعلم و الزهد بعد رسول اللّه أمام رجل أشرك ستّا و أربعين عاما من عمره، و قدّم عبادة الأصنام على عبادة اللّه، و أكل لحم الخنزير طول عمره و لم يكن ذا علم أو عمل صالح أو ورع، و كان يتلكّأ عن الجهاد و هو أثقل عليه من الموت، و إذا سيق إلى الجهاد كأنّه و نظرائه يساقون إلى الموت، و توالت عزائمه و نكث عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رجل هذه صفاته يردّ شهادة عليّ عليه السّلام!!

و لا تعجب منه و اعجب من الأوباش الذين يثبتون له الإمامة و يرونه مصيبا، و يرون مثل عليّ مخطئا، و كذلك يرون أنّ عليّا طلب ما ليس له.

و الأعجب من هذا أنّهم يجرّدون النساء من كلّ علم لا سيّما علم الفقه و يقولون لهذا وقعت فاطمة في الخطأ و السهو، يقولون هذا عنها و هي معصومة، و يقولون عن عائشة بأنّ النبيّ قال في حقّها: خذوا ثلث دينكم عن عائشة لا بل ثلثي دينكم لا بل خذوا دينكم كلّه عن عائشة (1).

سبحان اللّه و يا للعجب أن تكون بنت أبي بكر عالمة إلى هذا الحدّ و بنت رسول اللّه و زوج عليّ و أمّ الحسن و الحسين جاهلة- حاشاها- إلى درجة لا تعرف مسألة واحدة، ما أصلف هؤلاء القوم و ما أقلّ حياءهم!

و يقول الخصم عن عليّ أنّه باب مدينة علم الرسول، و مع وفور علمه لا يعرف هذه المسألة مع أنّهم يعتقدون فيه المرشد لأبي بكر و عمر و عثمان، و يزعمون أنّ

ص: 198


1- التعجّب: 15. و ما زال الرجل يغير غارة شعواء على صاحب التعجّب فيأخذ منه العبارات الطويلة و يطعم بها كتابه.

النبيّ لم يعلم فاطمة عن حالها في النحلة و الميراث و لا أعلم غيرها من أهل بيته مع أنّ اللّه تعالى يقول: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (1)، و من العجب أن يعلّم و يؤدّب بنات الأمّة و يترك آله و ذويه على طرف الجهل مع أنّ اللّه تعالى يقول: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ (2) و قال: أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً (3) الآية، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بعثت إلى أهل بيتي خاصّة و إلى الناس عامّة (4). فنسبوه إلى التقصير في تبليغ الوحي مع أنّه جرت عادته إذا أراد سفرا أن يذهب إلى بيت فاطمة و يطيل المكث فيه، ثمّ يخرج منه إلى مقصده تيمّنا و تبرّكا به، و إذا عاد من سفر بدأ ببيت فاطمة عليها السّلام ثمّ يخرج منه إلى باقي نسائه.

و العجب أنّ الرجل يطلب من فاطمة البيّنة على دعواها ثمّ يأتي بفرية «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» فلا يطالب نفسه بالبيّنة على ما ادّعاه، و في القرآن عدّة مواضع تردّ هذه الافتراء، و هذا تحامل على أهل البيت و غمز في دين الرجل.

و من عجائب الأمور تأتي فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تطلب فدكا و تظهر أنّها تستحقّها فيكذّب قولها و لا تصدّق في دعواها و تردّ خائبة إلى بيتها، ثمّ تأتي عائشة بنت أبي بكر تطلب الحجرة التي أسكنها بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تزعم أنّها تستحقّها فيصدّق قولها و تقبل دعواها و لا تطالب ببيّنة عليها، و تسلّم هذه الحجرة إليها فتصرّف فيها و تضرب عند رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمعاول حتّى تدفن تيما و عديا فيها .. (5).

ص: 199


1- الشعراء: 214.
2- طه: 132.
3- التحريم: 6.
4- التعجّب: 54.
5- رأيت عبارة صاحب التعجّب أرشق و أجمع و المؤلّف أخذ عبارته منه يدلّ على ذلك قوله: «كلنگها كشيدند» قابل بها جملة و تضرب عند رأس النبيّ بالمعاول، انظر ص 56 من التعجّب.

و الأعجب من هذا لمّا انتقل الحسن إلى الرفيق الأعلى وصّى بجمله إلى جدّه في روضته بعد تغسيله ليجدّد به عهدا ثمّ منه ينقل إلى البقيع و يدفن هنالك عند جدّته فاطمة بنت أسد (1) و لمّا حملوا نعشه و أمّوا به روضة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ركبت الغازية المجاهدة عائشة على بغلتها و استدعت مروان مع جيشه الأمويّ و قالت: لا ندعهم يدفنونه عند قبر جدّه (لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ) فقال عبد اللّه بن عبّاس:

الحسن أجلّ شأنا من ذلك، و أن يؤذى رسول اللّه و هو في قبره بضرب المعاول عند رأسه و لكنّه طلب تجديد العهد بجدّه بدخوله الروضة، فخاصمت عائشة عبد اللّه على ذلك، و قالوا: إنّ عائشة أخذت من مروان قوسه ثمّ رشقت جنازة الحسن بالنبل.

تجمّلت تبغّلت و لو عشت تفيّلت لك التّسع من الثّمن ففي كلّ تطعّمت و أعجب من هذا أنّهم غصبوا نحلة فاطمة التي أعطاها رسول اللّه لها و لأولادها و نهبوا الخمس الذي هو حقّها و حقّ زوجها و أولادها و طعنوا في القرآن الكريم بأنّه منسوخ و تركوا أولاد فاطمة لا يملكون عيشة الكفاف و في أضيق حال فلم يصلهم أحد على الجوع و العري إلّا نفر صالح مظلوم مثلهم من المؤمنين و أقرّوا لعائشة و حفصة اثني عشر ألف درهم في كلّ سنة لكلّ واحدة ستّة آلاف، بخ بخ لإمام مثل هذا يؤمّ المسلمين و بخ بخ لخليفة رسول اللّه يجيع ابنة رسول اللّه و أولادها.

ص: 200


1- هذه العبارة مسلوخة من عبارة التعجّب و إليكها: ثمّ تمنع الحسن بن رسول اللّه بعد موته منها و من أن يقربوا سريره إليها و تقول: لا تدخلوا بيتي من لا أحبّه و إنّما أتو؟ ا به ليبرك بوداع جدّه فصدّته عنه (ص 56).

الباب الخامس و العشرون في ذكر عائشة و طلحة و الزبير على طريق الإيجاز

اشارة

اعلم أنّ ابن وائلة أبا الطفيل عامرا يقول: سمعت من أمير المؤمنين يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سمعته عائشة أيضا: لعن أهل الجمل و أصحاب صفّين و أهل النهروان. قال عمر: سمعت هذا من أمير المؤمنين عليه السّلام يقوله في البصرة بعد ظفره بأصحاب الجمل فخرجت منه و دخلت على عائشة و سألتها الخبر، فقالت عائشة: و أنا أيضا سمعت ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما سمعه عليّ و لكنّي لست من أهل الجمل، و ظهر عليها الحياء و الانفعال.

و روي عن الإمام الصادق عليه السّلام (1) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ امرأة موسى عليه السّلام (صفوراء بنت شعيب) خرجت على وصيّه يوشع بن نون، فظفر بها فأشار عليه من حضر بما لا ينبغي فيها، فقال: أبعد مضاجعة موسى لها؟ و لكن أحفظه فيها .. (2) ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و إنّي لأخشى أن تخرج واحدة من نسائي على وصيّي من بعدي و تقاتله فيظفر بها و يأسرها فيحسن أسرها. فشاع الخبر بين أزواج

ص: 201


1- الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام.
2- قصص الأنبياء للراوندي: 179، مستدرك سفينة البحار 10: 328، بحار الأنوار 13: 369.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فذهبت جماعة منهنّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قلن له: ادع اللّه لنا أن لا تكون الخارجة إحدانا. و قال: عليكنّ بتقوى اللّه و لا تركبن الجمل بعدي و قرن في بيوتكنّ و لا تبرّجن تبرّج الجاهليّة الأولى.

ثمّ قال النبيّ: و الذي بعثني بالحقّ نبيّا إنّ جبرئيل أخبرني بأنّ أصحاب الجمل ملعونون على لسان كلّ نبيّ بعثه قبلي و قد خاب من افترى.

و جاء أمير المؤمنين إلى النبيّ على الفور فلمّا رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: يا علي، إنّك المظلوم بعدي، ثمّ أقبل على أصحابه و قال: أشهدكم أنّي سلم لمن سالمه، و حرب لمن حاربه، و أقبل عليه و قال: من حاربك فقد حاربني و من حاربني فقد حارب اللّه، و من فارقك فقد فارقني و من فارقني فقد فارق اللّه.

نكتة: اعلم أنّ في مذهب الشيعة يكفر من خرج على أمير المؤمنين أو آذاه عامدا قاصدا و هو من أهل النار، و الدليل على ذلك أنّ أهل اليمامة لمّا خرجوا على أبي بكر حكم عليهم بالارتداد و الكفر في مذهب مخالفينا فكذلك الخارج على إمامنا في مذهبنا، و الخبر كما يلي:

لمّا استخلف أبو بكر أرسل الجباة لجمع الزكاة، فقال الناس: نحن في زمن النبيّ كنّا نطعمها فقراء قبائلنا و مساكينها و سوف نفعل بها اليوم ما فعلناه أمس، و لو أنّنا أعطيناها لغيرنا فلا ندفعها إلّا لمستحقّيها و هو خليفة رسول اللّه و القائم مقامه، و أنت لست من ذلك في شي ء و إنّما تأمّرت على الأمّة بظلم و بدون رضاها، و لم ينطقوا بأكثر من هذا و لم يحاربوا أحدا و لم يشتموا مسلما و لم يسلّوا سيفا في الإسلام، فبعث أبو بكر خالدا بن الوليد و معه عسكر جرّار، فلمّا بلغهم بعسكره خرجوا من بيوتهم ليدفعوا شرّ خالد عنهم فأذّن المؤذّن و لمّا سمعوا الأذان وضعوا السلاح و مالوا إلى أداء الصلاة، فامتنع العسكر من مقاتلتهم فصاح فيهم خالد

ص: 202

و أمرهم بالهجوم على القوم و هم في حال الصلاة، فقتلوا المقاتلة و أكثرهم (راكعين و ساجدين و متوجّهين إلى اللّه و إلى قبلته ..) فاستأصلوهم و قتل خالد مالكا بن نويرة و كان رئيسهم و وضع رأسه أثفية للقدر بين لهب النار، و زنى في تلك الليلة بزوجته، و أسروا النساء و الأطفال من تلك القبيلة فلمّا علم عمر بواقع الحال أشار على أبي بكر أن يحدّ خالدا .. فقال أبو بكر: خالد سيف من سيوف اللّه (1).

و نقول هنا: إنّ ما استحقّه أهل اليمامة على كلمة واحدة قالوها كان أولى منهم بهذا أهل الجمل الذين ساروا من بلد إلى بلد قاصدين حرب إمام المسلمين و حجّة اللّه على الخلق أجمعين و سلّوا السيوف في وجهه و نكثوا عهده و بيعته، و أنكرا إمامته، فأظفر اللّه تعالى أمير المؤمنين عليه السّلام بهم فقتلهم اللّه و خذلهم.

إذن كما زعم الخصم بأنّ أهل اليمامة ارتدّوا و هم يقرّون بالتوحيد و العدل و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّ طلحة و الزبير و عائشة كانوا كذلك. و قال المعتزلة: لقد تاب القوم و رووا عددا من الأخبار لا تدلّ على توبتهم.

نكتة: روي أنّ الشيخ المفيد أبا عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان حضر مجلس قاضي القضاة في بغداد و كان يستمع إلى درسه، و كان الشيخ صبيّا، فجاء رجل إلى مجلس قاضي القضاة و قال له: أيّها القاضي، يروى بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نصّ يوم غدير خم على إمامة عليّ عليه السّلام و خلافته و لكنّ عليّا لم يقم بالأمر بل قام به أبو بكر أي كان غاصبا لإمامته.

فقال القاضي: أيّها السائل، النصّ على عليّ رواية و خلافة أبي بكر دراية (و العاقل لا يترك الدراية للرواية).

ص: 203


1- لم يقصد عمر بذلك وجه اللّه أو تشييدا و تأييدا للحقّ بل خاف من خالد أن يتقوّى به أبو بكر فيعرض عن عمر و يفوته تشطّر الضرع.

فسمع المفيد هذا فصبر قليلا حتّى انفضّ المجلس و بقي القاضي وحده فالتفت إليه الشيخ و قال: ألك حاجة أيّها الصبي؟ فقال: إن أذنت لي، فقال القاضي:

هات، فقال الشيخ: روي بأنّ طلحة و الزبير حاربا عليّا في البصرة فكيف كانت الحال و عليّ خليفة؟

فقال القاضي: أيّها الفتى، لا شكّ في وقوع الحرب و لكنّهم تابوا.

فقال الشيخ: أيّها القاضي، الحرب دراية و التوبة رواية، و العاقل لا يترك الدراية للرواية.

فقال القاضي: من أنت أيّها الفتى؟

فقال الشيخ: محمّد بن محمّد النعمان، فقال القاضي: أنت المفيد حقّا، فاشتهر الشيخ بالمفيد من يومئذ (1).

نأتي إلى حكايتنا: و لمّا قتل طلحة في الحرب بيد مروان لعنه اللّه فيكون تصوّر التوبة له من نوع المحال مع أنّ الخبر اشتهر عن أمير المؤمنين أنّه مرّ على طلحة فأمر بإجلاسه فلمّا فعلوا، قال: يا طلحة، وجدت ما وعدك ربّك حقّا و قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا.

و قيل: لمّا مرّ به قال: لقد كان لك برسول اللّه صحبة لكن الشيطان دخل من منخريك فأوردك النار.

و كتب إلى عمّال الأقاليم عن الفتح بالعبارة التالية: إنّ اللّه قتل طلحة و الزبير على شقاقهما و بغيهما و نكثهما، فهزم معهما وردّت عائشة خاسرة .. (2). و لو كان للتوبة أثر في نفوسهم لم ينشر أمير المؤمنين هذا الكلام على الملأ.

ص: 204


1- راجع لهذا كتابنا حجّة الشيعة الكبرى: 35- 37.
2- الفصول المختارة: 142.

و إذا استطاع المخالف الحديث عن توبة طلحة و هو في حالات النزع فإنّ خصمه بإمكانه القول بتوبة أبي جهل و إسلامه و هو ينازع سكرات الموت.

و مثله يقال في جميع في الكفّار و المنافقين و الفسّاق، فلا بدع أن تحدث عندهم حالة التوبة التي حدثت عند طلحة و هو في ساعة الموت يعاني السياق و النزع فلا يمكن الحكم بكفر كافر و لا فسق فاسق بناءا على هذا المذهب.

و المخالف يروي عن النبيّ أنّه قال: يا عليّ، إنّك ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين (1). و هذا دليل على أنّ القوم هلكوا على بغيهم و ظلمهم، و من مات بعد التوبة لا تطلق عليه هذه الأوصاف نظير النكث و ما عداه.

و اشتهر عند العلماء كذلك بأنّ عائشة امتنعت من الذهاب إلى المدينة و كان الإمام ينصحها فلا تقبل، فأمر عبد اللّه بن عبّاس بأن يرحلها إلى المدينة، و ما سمّت عليّا أمير المؤمنين إلى أن ماتت، و من سماّه أمامها بهذا الاسم ظهر الامتعاض على وجهها (لعنة اللّه عليها- المترجم).

روى الواقديّ- و هو ناصبيّ عثمانيّ- أنّ عمّارا بن ياسر زار عائشة لمّا عادت إلى المدينة، فقال لها: يا عائشة، كيف رأيت ضرب بنيك على الحقّ (2)؟ فقالت عائشة:

ص: 205


1- رسائل المرتضى 1: 345 و 3: 110، الاقتصاد للطوسيّ: 181، تذكرة الفقهاء 1: 452، المستدرك 3: 139- 140، مجمع الزوائد 5: 186 و 6: 235 و 7: 238 بطريقين، مسند أبي يعلى 1: 397، المعجم الأوسط 8: 213 و 9: 165، المعجم الكبير 4: 172 و 10: 91 و 92، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 206 و 13: 183 و 287، كنز العمّال 11: 292 رقم 31552، ضعفاء العقيلي 3: 480، الكامل في الرجال 2: 188 و 219، علل الدارقطني 5: 148، تاريخ بغداد 13: 188، تاريخ مدينة دمشق 42: 468 و 469 بطرق عدّة، أسد الغابة 4: 33 بثلاث طرق، ميزان الاعتدال 1: 271، لسان الميزان 2: 446، سبل الهدى و الرشاد 10: 150 و 11: 290، لسان العرب 7: 378.
2- صحّفها المؤلّف إلى «بنيك» و ترجمها هكذا: چون ديدى ضرب پيغمبر تو را بر حق، و لها وجه.

يا عمّار، أجل، إنّك غلبت في أصحابك ... (1) فقال عمّار: استبصارا من ذلك، و اللّه لو ضربتمونا حتّى تبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ و أنّكم على الباطل .. (2) فقالت عائشة: هذا تخيل إليك يا عمّار أذهبت دينك لابن أبي طالب.

ذكر الطبريّ: لمّا انتهى إلى عائشة قتل عليّ رضى اللّه عنه قالت:

فألقت عصاها و استقرّ بها النوى كما قرّ عينا بالأياب المسافر فمن قتله؟ فقيل: رجل من مراد، فقالت:

فإن يك نائيا فلقد نعاه غلام ليس في فيه التراب و هذه الجملة تدلّ على إصرارها على ذنبها.

و جاءت الرواية على أنّها أبت الذهاب إلى المدينة، فقال عبد اللّه بن عبّاس:

دعها في البصرة، فقال عليه السّلام: إنّها لا تألوا شرّا و لكنّي أردّها إلى بيتها.

و روى محمّد بن إسحاق أنّها وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة لم تزل تحرّض الناس على أمير المؤمنين عليه السّلام و كتبت إلى معاوية و أهل الشام مع الأسود بن البحتري تحرّضهم عليه (3).

سؤال: و هذه أخبار آحاد.

ص: 206


1- الاقتصاد للطوسيّ: 228، الأمالي للطوسي: 143، و يؤكّد أنّ اللفظة «بنيك» جمع قوله من بعدها دون دينهم بالسيف، الصراط المستقيم 3: 162، بحار الأنوار 32: 266، خلاصة عقبات الأنوار 3: 31، الفتنة و وقعة الجمل لسيف بن عمر الضبي: 172، الدرجات الرفيعة لعلي بن معصوم: 267، تاريخ الطبري 3: 539، الجمل للشيخ المفيد: 197، بشارة المصطفى لمحمّد بن عليّ الطبري: 434.
2- ترجم سعفات هجر ترجمة خاطئة.
3- الاقتصاد للطوسي: 229، الاحتجاج 1: 241، بحار الأنوار 32: 267.

جواب: و أخباركم ضعيفة أيضا، بل أضعف منها لأنّكم انفردتم بروايتها، أمّا الشيعة فقد رواها معهم خصومهم النواصب و هي مرويّة في كتبهم، غاية الأمر أنّنا نعارض خبرا مع خبر فيتساقطان و يبقى الأصل على حاله و هو فسق القوم و معصيتهم بل كفرهم عند الشيعة.

و لمّا جاء ابن جرموز برأس ابن الزبير و سيفه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قال: سيف طالما جلّى به الكرب عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكنّ الحين و مصارع السوء.

و قال أمير المؤمنين: و اللّه لقد علمت صاحبة الهودج أنّ أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبيّ الأمّيّ و قد خاب من افترى (1).

و روى البلاذري بإسناده إلى جويريّة بن أسماء قال: بلغني أنّ الزبير لمّا ولّى اعترضه عمّار بن ياسر و قال: أبا عبد اللّه، و اللّه ما أنت بجبان و لكنّي أحسبك شككت فقال: هو ذاك، و الشكّ خلاف التوبة.

و كذلك قال طلحة في حال النزاع: ما رأيت مصرع شيخ أضيق من مصرعي ..

فلو كان قد تاب لما ضاع مصرعه.

سؤال: روي أنّ طلحة لمّا أحسّ بالموت قال:

ندمت ندامة الكسعي لمارأت عيناه ما فعلت يداه جواب: هذا يدلّ على الندم و لا ينفع الندم، إنّما ندم لأنّه استشعر الخسران، قال اللّه تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ

ص: 207


1- الاقتصاد للطوسيّ: 228، بحار الأنوار 32: 335 و اقتصر على الروآية الأولى.

الْآنَ (1)، و قال في حقّ فرعون: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (2).

و الذي ورد عن عائشة لا يدلّ إلّا على شعورها بالذنب و على حيرتها و ليس على التوبة و الرجوع إلى الحقّ كما تمنّت الموت لأنّها رات بعينيها هزيمة جيشها و فقدانها الظفر على حجّة اللّه كما قالت مريم عليها السّلام: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (3) و ما قالت ذلك مريم لأنّها عصت اللّه و إنّما قالت ذلك لما يقابلها به الناس من سوء الظنّ و الرجم بالغيب ممّا لا أساس له، إذا ليست المرأة تائبة بل قالت ذلك لمّا فاتها ما كانت تحلم به. و قالوا: إنّ الإمام قال يوم الجمل: وددت أنّي متّ قبل اليوم بعشرين سنة (4) لأنّي لا أرى من الرعيّه مساعدة أو شدّ أزر و بذل مال و جهد.

و أيضا طرأ على بال عدد من الجهّال عن هذه الحرب هل هي جائزة و مأذون بها أو لا؟ مع أنّها كانت بإذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أجمعت الأمّة على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعمّار: تقتلك الفئة الباغية، و قاتله معاوية.

و أمّا رجوع الزبير عن الحرب فلا يدلّ على ندامته و لا توبته، لأنّه لو تاب لا نضمّ إلى عسكر أمير المؤمنين و قاتل معه بل كان قتاله مع عائشة و لكنّه رأى

ص: 208


1- النساء: 18.
2- يونس: 91.
3- مريم: 23.
4- المستدرك 3: 373 و الرواية كما يلي: أجلس عليّ رضى اللّه عنه طلحة يوم الجمل فمسح التراب عن رأسه ثمّ التفت إلى الحسن بن عليّ فقال: وددت أنّي متّ قبل هذا بثلاثين سنة .. و أنا- المترجم- لا أزيد على قول كلمة واحدة: اللهمّ إنّي أسألك بجلال وجهك الكريم أن تجعل دم طلحة في عنقي؟؟ المصنّف 8: 713، أنساب الأشراف: 324، تاريخ ابن خلدون 2: 164 و هو يروى الكلمة لعائشة و الصحيح أنّها لها و لكن القوم بغضا لعليّ عليه السّلام رووها له، اللهمّ العن من يبغض عليّا و أهل بيته من الأوّلين و الآخرين.

إرهاصات النصر لعليّ لائحة لذلك ولّى الحرب ظهره و لاقى مصيره. و قيل: إنّه نوى اللجوء إلى معاوية ليسستمدّه و يحدث فتنة أخرى في خلافة الإمام عليه السّلام فقتله اللّه قبل بلوغه مراده.

و إذا كان إعراضه عن الحرب يعتبر توبة فإنّ الكفّار الذين انهزموا من كتائب رسول اللّه و ولّوا الدبر يعتبرون تائبين من الكفر، و هذا لا يقول به أحد.

و ما قاله المخالف عن الزبير من ندامته بعد نصح أمير المؤمنين له فترك الحرب عند ذلك و قال له ولده عبد اللّه بن الزبير: يا أبت، أتتركنا في هذا المقام بهذه الحالة؟

فقال له الزبير: يا ولدي، لقد ذكّرني عليّ أمرا كنت ناسيه، فقال عبد اللّه: كلّا ليس الأمر كذلك بل خفت من صوارم عليّ، فغضب الزبير و تناول رمحه و انتزع منه زجّه و حمل على عسكر أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال أمير المؤمنين لأصحابه: أفرجوا للشيخ فإنّه محرج، و هذه شهادة من قبله تدلّ على عدم التوبة.

و نقلوا كذلك عن ابن جرموز لمّا حمل رأس الزبير إلى عليّ عليه السّلام، قال عليّ عليه السّلام:

سمعت رسول اللّه يقول: بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار، فلو لم يكن من أهل الجنّة و التوبة لما ثبتت هذه البشارة في حقّه.

جواب: إن كان رجوعه عن الحرب بنصح عليّ يعتبر توبة فإنّ رجوعه بتحريض ولده على الحرب يعتبر نقضا لها، و إصرارا منه على الذنب لأنّه عند سماع كلام ولده ترك الذين للحميّة و العصبيّة و حبّ الرياسة.

و يقول السيّد المرتضى علم الهدى في الجواب: و كيف يجوز من أمير المؤمنين عليه السّلام أن يمكّن عدوّه و يمنع أصحابه من قتله، لأنّ المرء لا يدعو إلى الفسق و لا يبعث إلى خلاف الحقّ مع أنّ كلام ابنه غير مخرج لأهل الإيمان إلى إظهار الضلال و لا ملجأ لأحد من الخلق إلى ارتكاب المعاصي و الطغيان، و العبارات واضحة و جملتها لا

ص: 209

تحتاج إلى التفسير و لا يبعد أن يكون هذا الكلام على طريق الاستهزاء كما قال تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (1) و قال: وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً (2) و قال: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ (3) (4) و أمثال ذلك، و منع أصحابه من التعرّض له إمّا للاحتجاج و تكملة الحجّة أو على طريقة المنّة عليه كما فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أهل مكّة يوم فتحها و العفو عن الجاني و ترك تعجيل عقابه لا يدلّ على الرضا بمعاصيه بل هو دليل التأليف و الاستصلاح أو أنّه لإبلاغ الحجّة و الاستدراج له.

و قال تعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (5).

و قال تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً (6).

و بشارة قاتله بالنار لا يدلّ على إيمانه لأنّه قتل المعاهد و قتل الكافر للتشفّي و إراحة الغيظ لا لأجل الدين و نصره و إعلاء أمره، بل للتقرّب لمخلوق أو للعبث أو لإظهار الفساد و الفجور، و قتل المؤمن كذلك، كلّ هذه الأمور موجبة لدخول النار للقاتل، على أنّ المقتول من المستحقّين للقتل و كذلك قتل الكافر الكافر إلّا في صورة المؤمن المقتول بيد غير مؤمنه، كما ذكر المفيد ذلك في كلامه.

ص: 210


1- الدخان: 49.
2- طه: 97.
3- هود: 101.
4- الذي أظنّه- و اللّه العالم- أنّ المؤلف لم يدرك عبارة السيّد و العبارة و إن نسبها إليه فإنّها للشيخ المفيد و جاءت كالتالي: أمّا قول أمير المؤمنين عليه السّلام «أفرجوا للشيخ فإنّه محرج» فإنّه متى صحّ كان على طريق الاستهزاء و الذمّ لأنّه لا يجوز أن يأمر عليه السّلام أصحابه بالتمكين لعدوه من حربه، الخ. انظر ص 143 من الفصول المختارة.
5- مريم: 84.
6- آل عمران: 178.

حكاية: كان ابن جرموز في حرب الجمل مع عائشة و قتل جماعة من أصحاب أمير المؤمنين، و لمّا رأى الدائرة تدور على عائشة و حزبها و أنّ الأوضاع اضطربت عليها و علامات الظفر تلوح في جانب أمير المؤمنين عليه السّلام تشاور مع أصحابه بني سعد و خرج معهم إلى الأحنف بن قيس و كان قد اعتزل الحرب على بعد فرسخين من البصرة، فجاءه رجل و همس بأذنه سرّا بأنّ الزبير بوادي السباع خرج هاربا و هو يؤمّ المدينة، فرفع الأحنف عقيرته و صاح: ما عسيت أن أصنع بالزبير إن كان بوادي السباع و قد جاء فقتل الناس بعضهم ببعض، و كان غرضه من هذا التحريض على قتله، فقام ابن جرموز مع رجلين من بني سعد و كانا شريكيه في قتال أصحاب أمير المؤمنين و إعانة أصحاب الجمل و اسم أحدهما فضالة بن حانس و اسم الآخر جميع بن عمير، فرب الثلاثة و أسرعوا العدو للّحاق بالزبير، و كان الزبير مترجّلا فلمّا بصر بهم استوى على فرسه فسبقهم عمير بن جرموز فحذر منه الزبير، فقال له عمير: لا بأس عليك أنا ذاهب لوجهي و سوف أسايرك.

فأمنه الزبير فاستغفله ابن جرموز فطعنه بالرمح في صدره و قتله و نزل من فرسه و احتزّ رأسه و أقبل به إلى الأحنف و منه ذهب به إلى عليّ عليه السّلام لينال عنده الحظوة و الرياسة و لكي يعتذر بذلك عن قتاله مع عائشة و قتله لأصحابه، و قد أخبر النبيّ وصيّه أنّ ابن جرموز لم يقتل الزبير فقها و تديّنا بل قتله لنيل الرياسة و طلب الجاه، و هو من أهل النار، و كلّ من قتل آخر بعد إعطاه الأمان فإنّه ملعون، و كان هو أيضا من الخوارج و قتله عليّ عليه السّلام في النهروان، و بشارته بالنار من الرسول إخبار بمصيره و عاقبة أمره.

و مثله فعل مع قرمان حين بشّره بالنار مع أنّه يقاتل معه و يعين أهل الإسلام و الصحابة يشكرونه على جهاده و استماتته، و النبيّ يقول: إنّ قرمان من أهل النار،

ص: 211

و ذات يوم جاء الخبر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّ «قرمان» استشهد، فقال النبيّ: يفعل اللّه ما يشاء و يحكم ما يريد، و أخبروا النبيّ عن جهاده و قتاله العظيم و أنّه قتل جماعة من المشركين و قد تحمّل في جسمه ما بين سبع إلى ثماني جراحة شديدة و حملوا من مصرعه إلى منازل بني ظفر، قال المسلمون: ابشر يا قرمان فقد أبليت اليوم، فقال: بم تبشّروني، فو اللّه ما قاتلت إلّا عن أحساب قومي و لو لا ذلك ما قاتلت.

فصعب عليه تحمّل الجراح فانتزع من كنانته سهما حادّا و قتل به نفسه. و لمّا كان النبيّ يعلم عاقبة أمره أخبر المسلمين بما يجري منه لئلّا يشتبه أمره على المسلمين، و لئلّا يقال عنه «مؤمن». و من أجل ذلك قاتل مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قال النبيّ فيه:

«قاتل نفسه في النار».

فتكون حال ابن جرموز و ما أخبر النبيّ عليّا عن دخوله النار كحاله. و قال الشيخ المفيد: استحقّ ابن جرموز النار لعصيانه أوامر عليّ حيث نادى مناديه: ألا تتبعوا مدبرا و لا تجهّزوا على جريح، و لكم ما حوى عسكرهم من الكراع و السلاح، و خالف ابن جرموز أمر الإمام مفترض لطاعة و اتّبع الزبير فاستحقّ النار لهذا السبب و ليس لأنّ الزبير من أهل الجنّة لتوبته أو ندمه، و عندنا كلّ من خالف الإمام فقد خالف الرسول، و من خالف الرسول خالف اللّه، و مخالفة اللّه كفر و الكافر يستحقّ النار.

كان الزبير رأس البغاة و قتله من أعظم الجهاد و أعظم الثواب، و ينبغي أن يكون قاتله مستحقّا لأعظم الثواب و أعلى الدرجات بسبب قتله و إراحة الناس من شرّه،، و لكن بسبب كفر القاتل و نفاقه خسر الثواب و بطل منه الأجر ليس هذا فحسب بل استحقّ معه النار أيضا و كان لازما على الموحى إليه أن يخبر الأمّة بحاله لئلّا يغتر به من لا يعرفه و يعتقد له الإيمان و السلامة و يتقرّب إليه.

بيّنة:

ص: 212

و أمّا عصيان عائشة فإنّه لمخالفتها أمر ربّها و ما أمرها به من قوله سبحانه مخاطبا نساء النبيّ: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى (1) فلم تقرّ في بيتها و تنقّلت على جملها من حيّ إلى حيّ و من بلد إلى آخر، و كذلك قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: يا علي، نفسك نفسي و حربك حربي، و حرب النبيّ كفر.

و ما يقال من أنّ المرأة لن تمسّها النار لأنّها لا مست نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّ نوحا و لوطا نبيّان و لهما ذرّيّه من زوجتيهما و اسم زوجة نوح «والعة» و اسم زوجة لوط والهة، و كلتاهما ذهبتا إلى جهنّم و بئس المصير: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ إلى قوله: الدَّاخِلِينَ (2) و كلتا المرأتين في النار بنصّ الآية، و لم تقبل شفاعة زوجيهما النبيّين فيهما، و أولى منهما بالنار عائشة لأنها لم تلد للنبيّ و أعقم اللّه رحمها.

بيّنة: منزلة الولد أعظم من منزلة المرأة لأنّ المرأة يمكن فراقها بالموت أو الطلاق، أمّا الولد فلا يمكن إبعاده عن الأب بأيّ سبب من الأسباب لأنّه من صلبه، و بناءا على هذا إذا كان ابن نوح كنعان من أهل النار فإنّ زوجته أولى بدخول النار، و نزلت سورة التحريم بحقّ عائشة و حفصة و أبويهما حيث يقول اللّه تعالى في تالي الآيات:

عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ (3) و الخصم يؤمن بدليل الخطاب و يقول به (4)، فينبغي أن لا يكونا

ص: 213


1- الأحزاب: 33.
2- التحريم: 10.
3- التحريم: 5.
4- دليل الخطاب و يسمّى مفهوم المخالفة و هو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه. فقوله تعالى: «خيرا منكنّ مسلمات مؤمنات» الآية، فإنّ نقيض هذا الحكم أنّهما غير مؤمنات و لا مسلمات الخ.

مسلمتين و لا مؤمنتين و لا عابدتين و لا تائبتين و لا سائحتين و أمثال هذا، و بما أنّ القرآن أثبت نساءا خيرا منهنّ فإنّ ذلك خلاف ما ذهب إليه الخصم من كونهما أفضل النساء.

بيّنة: درج القوم على اعتبار من آذى أمير المؤمنين و أولاد فاطمة من الصحابة الإناث أو الذكور في المراتب العليا من الصحبة، و بعكس ذلك من أحبّهم و والاهم فإنّهم يصنّفون في أدنى مستويات الصحبة مثل أبي ذر و سلمان و المقداد و أمثالهم فلم يذكروهم بشأن من الشئون و لا ألقوا إليهم بالا، سبحان اللّه ما هذه العداوة مع آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ (1).

فلو أنّ رجلا تمدح بالكذب ظالمي عليّ مأة عام، دون أن يطري عليّا بحرف واحد فإنّهم يحيّونه و يوالونه، و لو أنّه ذكر عليّ بكلمة دون ذكر خلفاء الجور فإنّهم يهدرون دمه لو أمكنهم ذلك، و يسمّونه رافضيّا، و لم يعلموا أنّ لهم في مقابل هذا الاسم عشرة أسماء تجري على أسماعهم مثل: خارجيّ و ناصبيّ و مجبريّ و مروانيّ و منافق و نعثليّ و حطب جهنّم و إبليسيّ و أصحاب النار و نحوها.

ص: 214


1- الأحزاب: 57.

الفصل الأوّل في بداية وقوع المحاربة بين أمير المؤمنين و بين الناكثين طلحة و الزبير و عائشة

الفصل الأوّل في بداية وقوع المحاربة بين أمير المؤمنين و بين الناكثين طلحة و الزبير و عائشة (1)

اعلم لمّا بايع الناس عليّا و تمّ الأمر له أنهى عبد اللّه بن سلمة خبر قتل عثمان و بيعة عليّ إلى عائشة فقالت: لا نالتها تيم بعد اليوم، ليت هذه أطبقت على هذه، و لم يبايع عليّ، و كانت عائشة يوم أردى عثمان خارج المدينة و كانت تحرّض الناس دائما على قتل عليّ عليه السّلام، و لمّا بلغتها أنباء بيعته كتبت إلى معاوية كتابا و حرّضته على العصيان، و كتب معاوية إلى الزبير و لكن عائشة قالت: لو كان كتب إلى طلحة.

و ذات ليلة أقبل طلحة و الزبير على أمير المؤمنين و طلبا منه أن يولّيهما، فقال لهما: إنّنا لا نولّي إلّا من ارتضينا أمانته و دينه، و إنّكم لا ترضون بعطاء اللّه إيّاكما و تطلبا الفضل و الزيادة و لمّا اطّلعوا على ما يضمره الإمام لهما قالا: يا علي، إنّك لتعلم ما كنّا عليه في أيّام الخلفاء الماضية من الاحترام و الجاه.

و كان الإمام عليه السّلام منصرفا ساعتها إلى تنظيم بيت المال فلمّا جلسا عنده و كلّماه نادى قنبر و أمره بتغيير السراج فقالا: يا أمير المؤمنين: ما هذا؟ لماذا رفعت السراج و نصبت غيره؟ فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: هذا سراج بيت المال و كنت أستعمله لتدبير اموال المسلمين، فلمّا كلّمتكم لم يجز لي الاستفادة منها فأبدلتها بما يحلّ لي استعماله، فنظر الناس بعضهم إلى بعض و قام طلحة و الزبير فخرجا من

ص: 215


1- كتب المؤلّف عناوين كتابه باللغة العربيّة فأبقيناها على حالها و إن خالفت الجرس العربي، لأنّي أترجم الفارسيّة إلى العربيّة و لا استطيع ترجمة العربيّة بالعربيّة لأنّه تغيير لا أرضى إدخاله على أسلوب المؤلّف.

عنده و قال أحدهما للآخر: إنّ رجلا يضبط الأمور على هذه الشاكلة ما هو بمستعملنا و لا بمعطينا شيئا نرضاه، إنّه يترسّم خطى الشرع و يأمرنا بالالتزام بالزهد و الصلاح.

فلمّا أصبح الصباح أقبلا عليه و استئذنا للعمرة، فقال أمير المؤمنين: إنّكما لا تريدان العمرة و لكن تريدان الغدرة، فأقسما أنّهما لا ينويان إلّا الزيارة، و كانا قد كتبا إلى عائشة مع ابن أختها عبد اللّه بن الزبير كتابا يأمرانها بلزوم تحريض الناس على حرب عليّ عليه السّلام، و تحميلهم على نكث بيعته، و كانت عائشة دائبة على إغواء الناس و حملهم على قتال عليّ عليه السّلام و الطلب بدم عثمان.

و صفوة القول أنّ الرجلين حلّا في مكّه و دعوا الناس لحرب عليّ عليه السّلام، و جائهما عبد اللّه بن عامر والي مكّه من قبل عثمان و قبل دعوتهما و قال: أنا أكفيكم أمر البصرة و أجمع لكم من أهلها مائة ألف دينار نفقة لعسكركم.

فقال: انّ هذا بحدّ ذاته شي ء جميل و لكن لا بدّ من وجود إمام نفي ء إليه و يكون ردءا لنا و فئة، و لا يصلح لهذا الأمر إلّا عائشة، فإنّ لها شهرة و هي زوج محمّد، و إن أبت ذلك عائشة و قبضت نفسها عن إعانتنا فإنّ أمرنا لا ينفذ و غايتنا لا تتحقّق، فذهبوا إليها و خدعوها و رضيت بما عرضوا عليها و قالت: «بالرأس و العين» (1) ثمّ أقبلت عائشة و طلحة و الزبير إلى الحوأب (2) (الحورب- المؤلّف) على وزن كوكب و هو ماء في طريق البصرة فنبحتها كلابه و أجراء الكلاب في بطون أمّهاتها (3).

ص: 216


1- كانت عائشة منذ البداية عازمة على الطلب بدم عثمان و هي التي حملتهم على ذلك و ليس الأمر بالعكس، بدا منها ذلك يوم أخبرت ببيعة عليّ فصرخت و اعثماناه، و هذا مشعر بما تخبئ في سرّها.
2- في المناقب: و هو ماء نسب إلى الحوئب بنت كليب (2: 336).
3- ترجم المؤلّف بهذه الكلمة لفظ «بني كلاب».

فلمّا رأت عائشة ذلك صاحت: ردّوني ردّوني، فقد سمعت رسول اللّه يقول: إنّ امرأة من نسائي تخرج لحرب علي، هي ملعونة، و علامة ذلك أن تنبحها كلاب الحوأب، فشهد عندها أربعون و قيل ستّون شهادة كاذبة بأمر طلحة و الزبير على أنّ هذا الماء ليس ماء الحوأب، فكذبوا عليها كذبا صريحا و قلبوا أمرها رأسا على عقب .. (1).

فجاءت أمّ سلمة إلى عائشة و بالغت في نصحها و قالت لها: ألا تتذكّرين حين كنّا يوما بين يدي النبي نخدمه و كنّا على يساره و هو يناجي عليّا، فقلت أنت لعليّ:

يا علي، كلّما كانت ليلتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتيته فشغلته عنّي و لم تتركه ينصرف إليّ، فغضب رسول اللّه منك و قال: من عاداك يا علي فهو ابن زنا؟ قالت نعم أذكر ذلك.

قالت: ألا تذكرين يوم حملت قدر الحلوى الذي صنعته إلى النبيّ، فقال النبيّ: يا أمّ سلمة لا تكوني من أزواجي اللواتي يقاتلن عليّا عليه السّلام! فقلت: نعوذ باللّه من غضب اللّه و رسوله و وصيّ رسوله؟ فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك.

ثمّ قالت: ألا تذكرين يوم اجتمعنا في بيت حفصة فضرب النبيّ بيده على ظهرك و قال: صوني نفسك من أن تنبحك كلاب الحوأب يوما، فينفر منها جملك؟ فقالت عائشه: أجل لقد كان ذلك.

فقالت أمّ سلمة: يا عائشة، ألا تذكرين يوم أقبل النبيّ من السفر و غسل عليّ ثيابه و خاطها و خصف نعليه، فأقبل أبو بكر و عمر و قالا: لا ندري من يلي الأمر بعدك، فقال النبيّ: أخشى أن أخبركم فتكونوا كبني إسرائيل و تتفرّقون عنه كما

ص: 217


1- و أقول للمؤلّف رحمه اللّه: لا تحسن الظنّ بواحد من هؤلاء فإنّ الخبيثة علمت بانّه ماء الحوأب و لكن على عمد لبّست على نفسها.

تفرّقوا عن هارون، فلمّا خرجا من عند النبيّ قلت: يا رسول اللّه، من الخليفة من بعدك؟ فقال النبيّ: إنّه هو.

و جرت مشادة بين أمّ سلمة و بين عبد اللّه بن الزبير فكتبت أمّ سلمة لعليّ كتابا و فيه: إنّ عائشه خرجت لحربك بفيالقها فنصحتها، فقالت: نحن ذاهبون لإصلاح الأمّة، و جاءك عبد اللّه بن عامر للطلب بدم عثمان و لولا أنّي امرأة و النساء ليس عليهنّ جهاد لخرجت معك.

بيّنة: كان طلحة و الزبير أعظم عدوّين لعليّ عليه السّلام و هما اللذان أجلبا على عثمان و كانا دائبين في ثلبه، و طلحة هو الذي حاصر بيته و تولّى قتل عثمان بنفسه و مع كلّ ما جناه على عثمان جاء يطلب بدمه، و كانا مع عليّ في البيعة و لكنّهما نكثا بيعته و خرجا عليه.

قال عبد اللّه بن عبّاس: كنت حاضرا عند عليّ إذ أقبل طلحة و الزبير و طلبا من عليّ السفر إلى مكّة لأجل العمرة، فأجابهما عليّ بأنّكما لا تبغيان العمرة، فتوسّلا به مرّة ثانية فلم يجزهما و توجّه إليّ و قال: و اللّه ما يريدان العمرة، فقلت له: فلا تأذن لهما إذن، فارسل إليهما في الحال و أمر بردّهما، و قال: ما تريدان إلّا نكثا لبيعتكما و التفريق- يعني بين المسلمين- فأقسما باللّه لا يريدان إلّا العمرة لا نكث البيعة و لا عصيان أمره، فلم يجزهما في الثانية، فلمّا خرجا قال أمير المؤمنين مردّدا قوله الأوّل: لا يريدان العمرة و لا يريدان إلّا الإفساد في الدين.

فقال عبد اللّه: مر بردّهما لئلّا يذهبا، فقال الإمام: إنّهما أقسما فأدركني الحياء منهما، و لكن لا يعدوان ما قلت، و من هنا خرجا إلى مكّة و أرسلا بين أيديهما أبا عبد الرحمان مسعود العبديّ و عبد اللّه بن الزبير إلى عائشة لكي تكون السابقة في هذا الأمر.

ص: 218

فقالت عائشة، لا أرضى حتّى تخرج معي أمّ سلمة لأنّ الحياء يمنعها من الخروج، و أرادات أن تغوي غيرها لتكون ضالّة مضلّة كليهما، ثمّ قامت إلى أمّ سلمة، فلمّا رأتها قالت: مرحبا بعائشة، و اللّه ما كنت لي بزوّارة فما بدا لك؟ قالت:

جئتك لتخرجي معي كي ينتظم أمر الإسلام، و نقتل قتلة عثمان و نحارب عليّا، فقالت أمّ سلمة: ألا تذكرين يوم كانت ليلتك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد طهوت للنبيّ طعاما .. فقال: لا تمرّ الأيّام حتّى تنبح إحدى نسائي كلاب ماء بالعراق يدعى الحوأب، فوقع الإناء من يدي، فقال: مالك يا أمّ سلمة؟ فقلت: يا رسول اللّه، ألا يسقط الإناء من يدي و أنت تقول ما تقول، ما يؤمنني أن أكون أنا هي؟! فنظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: بم تضحكين يا حمراء الساقين، إنّي أخشاك هي (كذا) (1).

و أنشدك اللّه يا عائشة، أتذكرين مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي قبض فيه، فأتاك أبوك يعوده و معه عمر، و قد كان عليّ بن أبي طالب يتعاهد ثوب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نعله و خفّه، و يصلح ما و هى منه، فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي حضرميّة و هو يخصفها خلف البيت، فاستأذنا عليه، فأذن لهما، فقالا: يا رسول اللّه، كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحمد اللّه تعالى، قالا: ما بدّ من الموت؟

قال صلّى اللّه عليه و آله: لا بدّ منه، قالا: يا رسول اللّه، فهل استخلفت أحدا؟ فقال: ما خليفتي

ص: 219


1- جاءت الرواية في رسائل المرتضى هكذا: قالت: تخرجين معي فلعلّ اللّه أن يصلح بخروجنا أمر أمّة محمّد، فقالت: يا عائشة، أخرج و قد سمعت من رسول اللّه ما سمعت، نشدتك باللّه يا عائشة الذي يعلم صدقك إن صدقت، أتذكرين يومك من رسول اللّه فصنعت حريرة في بيتي فأتيته بها و هو عليه السّلام يقول: و اللّه لا تذهب الليالي و الأيّام حتّى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له الحوأب امرأة من نسائي في فتية باغية، فسقط الإناء من يدي، فرفع رأسه إليّ فقال: ما بالك يا أمّ سلمة؟ قلت: يا رسول اللّه، ألا يسقط الإناء من يدي و أنت تقول ما تقول؟ ما يؤمنني أن أكون أنا هي، فضحكت أنت فالتفت إليك فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما يضحكك يا حمراء الساقين، إنّي لأحسبك هي .. (4: 67، و راجع أيضا: بحار الأنوار 32: 150).

فيكم إلّا خاصف النعل، فخرجا فمرّا على عليّ عليه السّلام و هو يخصف النعل (1).

و نشدتك باللّه يا عائشة، أتذكرين ليلة أسرى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مكان كذا و كذا و هو بيني و بين عليّ بن أبي طالب يحدّثنا فأدخلت جملك فحال بينه و بين عليّ، فرفع مرفقة كانت معه فضرب بها وجه جملك و قال: أما و اللّه ما يومك منه بواحدة، و لا بليّته منك بواحدة، أما إنّه لا يبغضه إلّا منافق أو كذّاب (2).

هذه الأحاديث نصوص ظاهرة على إمامة عليّ و خلافته، و ذكرها نصر بن مزاحم المنقريّ في كتابه و هو من علماء أهل السنّة.

و صفوة القول بأنّ عائشة لمّا استمعت إلى هذه المواعظ قالت لعبد اللّه بن الزبير:

إنّي عزمت على التوبة و لن أخرج معكم و لكنّها عادت بإغوائهم إلى ضلالها الأوّل، فلمّا تناصف الليل تحمّلت إلى البصرة و معها عسكر مجر لقتل عليّ، بخ بخ لأمّ المؤمنين.

بيّنة: اعلم بأنّ اللّه تعالى سمّى نساء النبيّ أمّهات المؤمنين بعد ما أقسم طلحة أنّه سوف يتزوّج عائشة أو أنّ اللّه حرّم على حفصة العقد و هذه الأمومة مجازيّة و لذلك لا يصدق على أقربائهنّ ما صدق عليهنّ، ألا ترى أنّه لا يقال: جدّ المؤمنين و لا عمّهم و لا أخوهم و لا أختهم و لا جدّتهم و أمثال هذه الاستعمالات في النسب، و بناءا على هذا لا ينبغي أن يقال: خال المؤمنين، على أنّهم لا يقولون ذلك إلّا لمعاوية، و إن كان أولى من معاوية بهذا الاسم محمّد بن أبي بكر و عبد الرحمان أخوه و عبد اللّه بن عمر إلّا أنّ هؤلاء لم يقصدوا أمير المؤمنين بالحرب و لم يطلبوا قتله، فلم

ص: 220


1- رسائل المرتضى 4: 67.
2- رسائل المرتضى 4: 67.

يكن لهم مقام معاوية عند السفيانيّين و اقتصرت الأسماء و الألقاب على من بالغ في عدائه لأمير المؤمنين، و اللّه أعلم.

الفصل الثاني

لمّا عزمت عائشة على الخروج جاؤوها بجمل صعب و قويّ ضخم عال يدعى «عسكر»، و لمّا سمعت عائشه باسمه أبت الخروج و قالت: نهاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: احذري يا عائشة أن تركبي جملا اسمه عسكر، و تخرجين إلى الحرب و تنبحك كلاب الحوأب.

فلبّس طلحة و الزبير عليها و غرّوها و أركبوها عليه فصاحت عند ذلك بأصحابها و أمرتهم بقتال عليّ و الطلب بدم عثمان و صاحت أمّ سلمة: لا يخرجنّ أحد لحرب عليّ، و من خرج لحربه فهو كافر و عاص لربّه.

و خرج مع عائشة طلحة و الزبير بن العوام، و سعد و مروان بن الحكم، و عبد الرحمان و محمّد بن طلحة، و عبد الرحمان بن أسيد و عبد اللّه بن حكيم بن حزام، و هؤلاء أولاد الطلقاء، و دعت مروان بن الحكم و سعيد بن العاص إلى الحرب و الطلب بدم عثمان، فقال سعيد لمروان: إنّ هؤلاء الذين يرافقونك و ترافقهم هم قتلة عثمان، فتركه مروان.

و كتب مالك الأشتر كتابا إلى عائشة: اتّق اللّه الذي خاطبك بقوله: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ (1) و لا تهتكي حجاب رسول اللّه فإنّ ذلك يغضبه و يؤذيه، إذ تخرج زوجه بين العساكر تحارب. فقالت عائشة: إنّ مالكا يقول هذا لأنّه مطالب بدم عثمان.

ص: 221


1- الأحزاب: 33.

فخرج أمير المؤمنين عليه السّلام و معه سبعمائة من الرجال و نزل بذي قار، و لمّا علمت عائشة بذلك كتبت إلى حفصة: نزل عليّ بذي قار؛ إن تقدّم نحر و إن تأخّر عقر.

فجمعت حفصة النساء و ضربن بالمزامير و قلن:

ما الخبر ما الخبرعليّ في سفر

إن تقدّم نحرو إن تأخّر عقر (1) و صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «البغض يتوارث». فعلمت بذلك أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين، فلبست ثيابها و وضعت نقابها و تنكّرت و جاءت حتّى دخلت عليهنّ، و سمعت ما هنّ فيه من قول الباطل، فكشفت نقابها و أبرزت لهنّ وجهها، ثمّ قالت لحفصة: إن تظاهرت أنت و أختك على أمير المؤمنين فقد تظاهرتما على أخيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قبل أنزل اللّه عزّ و جلّ فيكما ما أنزل (2)، و اللّه من وراء حربكما، و أظهرت حفصة خجلا و قالت: إنّهنّ فعلن هذا بجهل، و فرّقتهنّ في الحال، ثمّ قالت أمّ كلثوم: ظلمك أنت و عائشة و والداكما لنا قديم.

و لمّا علمت أمّ الفضل والدة عبد اللّه بن العبّاس بخروج عائشة من بيتها، كتبت للإمام كتابا و أعطته رجلا من جهينة و قالت: اخرج مسرعا واعط هذا الكتاب بيد عليّ، و إن نفق جملك فعليّ ثمنه، فخرج الرجل مجدّا حتّى سلّم الكتاب لعليّ عليه السّلام فأذاع الإمام خروج عائشة على الناس، و خطب الناس فحمد اللّه و أثنى عليه، و ذكر النبيّ فصلّى عليه، ثمّ قال:

اعلموا أنّما الخلافة لي و أنا صاحبها و لكن اغتصبها القوم منّي و سكتّ حين

ص: 222


1- كتاب الأربعين للشيرازي: 627.
2- قوله تعالى: «و إن تظاهرا عليه فإنّ اللّه هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير». (التحريم: 4). الجمل للمفيد: 149. و اقتضانا نظم العبارة التصرّف بسياق المؤلّف و عبارة الشيخ المفيد.

لم آمن الفرقة تحلّ في الأمّة و لهذا كرهت حين زفّت إليّ، و أوّل من بايعني طلحة و الزبير، و اليوم نكثا عهدهما و أركبا عائشة على جمل و ساقوها لحربي، و ينبغي عليكم أن تجتمعوا هاهنا غدا.

فحضر عنده أربعمائة و سبعون رجلا من المهاجرين، و مائتين و ثلاثين رجلا من الأنصار، و أمّروا على المدينة سهل بن حنيف.

و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يستعدّ يومذاك لحرب معاوية، فخطب الناس و رغّبهم في جهاد طلحة (لعنه اللّه) و أتباعه فصاحوا بأجمعهم «سمعا و طاعة» فقام حجّاج بن عرية الأنصاري فقال: قاتلت بسيفي هذا بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اليوم أقاتل الناكثين طاعة للّه و رسوله، و أخذ يحرّض الناس على حرب المخالفين، و تلا عليهم شطرا من مناقب عليّ عليه السّلام، و تحمّل عليّ بمن معه حتّى نزل الربذة و هناك عقد لواءا لعمّار ليتقدّم الجيش إلى الشام.

فقال الحجّاج: أرسلني يا علي إلى حرب أهل البصرة، فقال عليّ عليه السّلام: اذهب على بركة اللّه، فركب الحجّاج و ساق معه جملا أورق و فرسا كميتا و توجّه إلى البصرة، فأقبلت عائشة بجيشها حتّى نزلت البصرة و كان عليها عثمان بن حنيف من قبل أمير المؤمنين، فكتبت عائشة إلى عثمان كتابا تخيّره بقدومها، فأعطى عثمان الكتاب إلى الأحنف بن قيس، فقال حكيم بن جبلة العبدي: رأيي أن لا تدعهم يدخلون البصرة لأنّهم إن دخلوها كانوا الغالبين و كنت أنت المغلوب، فصدّقه عثمان، و كتب عليّ إليه كتابا أن لا يدخلوها و قال: و أعذر إليهم فإن قبلوا و إلّا فقاتلهم، فأعذر إليهم عثمان فلم يستكينوا إلى أن جرّ الأمر إلى الحرب فغلبهم عثمان فمشى بينهم جماعة بالصلح بأن تكون دار الإمارة و إمامة المسجد لعثمان و يأذن لهم بالمقام في البصرة حتّى قدوم عليّ عليه السّلام.

ص: 223

و كان طلحة و الزبير يأخذان البيعة على الناس فبايعتهم بعض القبائل (1) فاجتمع منهم جيش و لبسوا الدروع و عليها الثياب، و حضروا صلاة الجمعة، و لم يطّلع عثمان على مكرهم فأمسكوا به و أوسعوه ضربا و نتفوا لحيته و شاربيه، و أرادوا قتله، فقال عثمان: اقتلوني، إنّ أخي سهلا في المدينة و اللّه لا يدع من أهلكم ديّارا، فأطلقوه و قتلوا سبعين مؤمنا من أهل بيته (2)، فخرج عليهم حكيم ابن جبلة العبديّ مع جماعة، و قال: أقاتلهم على حبّ اللّه و رسوله و أمير المؤمنين عليه السّلام الذي لا أحد أفضل منه تحت السماء، فمكر به طلحة و الزبير و خرجا عليه و ضرباه على رجليه حتّى فرّقوا بينهما و بين جسده، و مات على أثر ذلك.

و كتب سهل بن حنيف إلى عائشة كتابا شديد اللهجة و فيه الوعيد لخلاص أخيه عثمان من شرّها، فلمّا قرات الكتاب أطلقت سراح عثمان فخرج من البصرة و لحق بعليّ عليه السّلام بذي قار، فخطب عليّ بذي قار خطبة حمد اللّه فيها و ذكر ما جرى من قتل حكيم بن جبلة العبديّ و غيره من المؤمنين و بكى بكاءا طويلا حتّى ضجّ الناس من بكائه، و نزل من المنبر و كتب إلى أهل الكوفة كتابا يستنفرهم، و بعثه مع محمّد بن أبي بكر و محمّد بن جعفر، فلمّا بلغ كتابه أهل الكوفة كان أبو موسى الأشعريّ (لعنه اللّه- المترجم) يثبط الناس عن الخروج، فأغلظ له محمّد بن أبي بكر و وصل هاشم بن عتبة بعد وصول الكتاب و معه كتاب آخر من عليّ عليه السّلام، فاستشار أبو موسى السائب في أمر عليّ عليه السّلام، فقال السائب: لا بدّ من النفور مع عليّ عليه السّلام، فانكر أبو موسى ذلك.

ص: 224


1- جرى تصحيف لأسماء القبائل لذلك لم أذكرهم في المتن و هم كما يلي: قبيلة بنو درد و بنو صبية قيس سلمان و بنو سليم و بنو عامر، و أحسبهم الأزد، و ظبّة و قيس عيلان و بنو سليم.
2- المقتولون هم السابحة قوم من الزطّ و عددهم اربعون. (الجمل للمفيد: 152).

و كان في كتاب عليّ لأهل الكوفة:

يا أهل الكوفة، إنّكم لتعلمون أنّ الحقّ حقّي و لكنّي سكتّ عنه خوفا من حدوث الفرقة، و اليوم بايعوني (و نافق بعضهم) فاللّه اللّه (بوصيّ نبيّكم) فلا تتقاعدوا عن إمدادي و لا تكاسلوا عن الخروج معي.

و أرسل كتابا آخر مع الإمام الحسن و عمّار بن ياسر، فقال عبد اللّه بن عبّاس: يا أمير المؤمنين، أترى أهل الكوفة لا يجيب منهم أحد؟!

و أمّا الإمام الحسن عليه السّلام فقد قرأ عليهم الكتاب و اتّكأ على عمود هناك و حمد اللّه و أثنى عليه و خطب خطبة غاية في البلاغة و الفصاحة، فعمّ الناس الوله و الوجد من فصاحته و بلاغته حتّى أتمّها، و دعا الناس إلى نصرة أمير المؤمنين عليه السّلام، فقام أبو موسى الأشعريّ (لعنه اللّه- المترجم) إلى المنبر و خطب بمن بعده و قال: أيّها الناس، أمسكوا فقد سمعت رسول اللّه يقول: تكون من بعدي فتنة فإيّاكم و الوقوع فيها، و عليّ يدعوكم إلى قتل إخوانكم.

فقام عمّار و قال: يا أبا موسى، أنت كنت دائما رأس هذه الفتنة و أنا أشهد اللّه و رسوله على أنّي سمعت رسول اللّه يقول: يا عليّ، تقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين، و شهد أربعون إنسانا لعمّار بهذا الحديث، و قال: عليّ سابق الإسلام و ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مستحقّ الخلافة و غيره على الباطل و عثمان لا يستحقّها و ليس أهلا ليطلب بدمه لأنّه ظلم المسلمين و أتلف بيت المال و مات على غير توبة، ثمّ سأل أبا موسى: كم هم أصحاب العقبة؟ قال: ثلاثة عشر؟ قال: رابع عشرهم أنت؟ قال: نعم، لقد كنته و لكنّ رسول اللّه استغفر لي، فقال عمّار: أنا أشهد بأنّ رسول اللّه لعنك.

ص: 225

و قام رجل يدعى زيد (1) و ذكر مناقب عليّ عليه السّلام و فضله من السبق إلى الإسلام و القرابة و الشجاعة و السخاء، و قال: لا بدّ من وجود إمام على الأمّة يدفع عنها الظلم و يقيم لها صلاتها و صيامها و حجّها و جهادها و باقي أمورها الشرعيّة، و يقوّم أود الشريعة و لا يستحقّ هذا المقام اليوم إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؛ فانفروا معه و أمدّوه بالنفس و المال.

و استأذن مالك الأشتر عليّا عليه السّلام بالذهاب إلى الكوفة و قال: أنا أعرف الناس بهم و أعرف ضرر عداوتهم، فأذن له، و لمّا وصل الكوفة بالغ في ترغيبهم بالجهاد و تلا عليهم مناقب أمير المؤمنين و قال: إيّاكم و سماع ترّهات سعد بن العاص (لعنه اللّه- المترجم) و الوليد بن عتبة الفاسق الخمّار و أبي موسى.

و قام من بعده حاتم (كذا) عدي بن حاتم و من بعده حجر بن عدي و غيرهم، و كلّ واحد يدعو الناس إلى الجهاد و يرغّب فيه، و يحرّضهم على نصرة عليّ، و دعاهم أبو وهب أيضا للقتال، فقال أبو موسى: أبو وهب يكذب عليكم، فأمر مالك الأشتر بالقبض على يد أبي موسى و إنزاله عن المنبر إلى الأرض، و هكذا فعلوا و أخرجوه من المسجد إلى خارجه.

و قام عبد اللّه بن ربيعة ففعل فعلهم و دعا الناس إلى طاعة أمير المؤمنين، و أقام الإمام الحسن الصلاة بهم جماعة، و ولّى قرظ بن كعب الأنصاريّ على الكوفة نيابة عن الإمام أمير المؤمنين، و خرج من الكوفة بالجيش و قد اجتمع منهم اثنا عشر ألف مقاتل، و خرجوا تلبية لدعوة أمير المؤمنين و لحقوا به على دفعات، و بقي الإمام مستقرّا في ذي قار خمسة عشر يوما بانتظار مجي العسكر، فلمّا قدموا عليه خطبهم و شرح لهم نكث طلحة و الزبير بيعته و قال: إنّما دعوتكم لتعينوني

ص: 226


1- هو زيد بن صوحان رحمه اللّه و ليس مجهولا عند أحد ليعبّر عنه المؤلّف هذا التعبير.

و تنصروني على بغاة أهل البصرة الذين اجتمعوا على طلحة و الزبير و أقدموا عائشة من المدينة على حربي، فصاح أهل الكوفة بأجمعهم: نفديك بارواحنا و لا نحيد عن البصرة و ننصرك عليهم.

فقام عمّار و قال: يا عليّ، إخواننا و أهل قبلتنا لا يحلّ لنا قتلهم.

فقال عليّ عليه السّلام: إنّهم نكثوا عهدي و عهد عاملي عثمان بن حنيف على البصرة و قتلوا مائة نفس مؤمنة مصونة الدم فلو أنّهم قتلوا واحدا لحلّ دمهم، و لا يكون الحقّ معهم بادّعائه.

فاستحيا عمّار و سكت و قيل: إنّه لزم ركاب الإمام الحسين حتّى استشهد في كربلاء (1).

و تحمّل أمير المؤمنين من ذي قار و لم ينزل إلّا (بزانوقة) (كذا) في البصرة و أرسل إلى عبد اللّه بن عبّاس و زيد بن صوحان إلى طلحة و الزبير فلم يعتذرا و قالت عائشة: لا يجيب عليّا غيري، و قالت عائشة في جوابهما (2) ... و قد لبسوا جملها بجلد النمور و وضعوا عليها دروع الحديد و جاؤوا قاصدين الحرب للّه و رسوله و حجّة اللّه و المؤمنين، فليستحوا من اللّه تعالى، فأيّ رجل يرضى لامرأته أن تفعل هذا الفعل؟!

و أقبل عليّ عليه السّلام حاسرا اعزل من السلاح و وقف بين الصفّين و استدعى الزبير، فقالت عائشة: لا تذهب فإنّ عليّا يخدعك أو يريد تخويفك، فلمّا حضر الزبير

ص: 227


1- في صدر الحديث يخاله القارئ عمّار بن ياسر لأنّ المشترك إذا أطلق انصرف إلى أظهر أفراده، و لكنّه بيّن حقيقة عمّار هذا بشهادته في كربلاء.
2- لا بدّ من وجود حذف هنا تتمّ به الجملة، و المؤلّف لم يشر إلى مصادره لنرجع إليها و نتلافي الحذف، و الحديث و فيه الخطب كلّها مترجمة، و على القارئ إذا أراد الوقوف على المتن الصحيح البحث عنها في المصادر.

عنده، قال له: أناشدك اللّه، ألا تذكر يوم قال لك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتحبّه؟ فقلت:

و ما يمنعني من حبّه، فقال: يأتي يوم تقاتله مع الناكثين و تخون عهد اللّه و رسوله و وصيّه، و لن تنال الظفر. فقال الزبير: نعم أذكر ذلك.

ثمّ قال: ألا تذكر يوما أقبل النبيّ فيه من بني عمرو بن عوف و يدك بيده، فسلّمت أنا على النبيّ فردّ سلامي و تبسّم في وجهي، فابتسمت له، فأنكرت عليّ ذلك و قلت: ما هذا التيه يا عليّ؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: صه يا زبير، فإنّ عليّا لا يتيه، و سوف تقاتله مع الفئة الباغية و أنت ظالم له و هو مظلوم. فقال الزبير: أجل، أذكر ذلك و لا أنساه.

ثمّ عاد الزبير إلى فئته و قال: أنا شاكّ في هذا الأمر و متحيّر، فقالت عائشة:

لست شاكّا و لكنّك خفت من سيف عليّ، و قال ابنه عبد اللّه نحوا من مقال خالته، فقال له أبوه: لعنك اللّه- ثلاث مرّات- و قال: لم يكن بيني و بين عليّ بغضاء حتّى نشأت فظهرت، و لو لا وجودك المشؤوم لما كان بيني و بينه إلّا الودّ، ثمّ استدعى الزبير طلحة و قال: اترك هذا الأمر و ارجع عنه، فأبى طلحة، و خرج الزبير من العسكر إلى أن قتل مدبرا.

فجعل أمير المؤمنين مالك الأشتر على الميمنة، و عمّار بن ياسر على الميسرة، و أعطى رايته محمّد بن الحنفيّة ولده، و استعدّ للحرب فاستعرت نارها، و في هذه الأثناء حمل محمّد بن أبي بكر مع جماعة على جيش عائشة و ضرب قائمة جملها بالسيف فلم يقع الجمل، و ثنّى بضربة أخرى فما أثّرت، فقال له عليّ عليه السّلام: يا محمّد، اضطرب الثالثة، ففعل محمّد متمثّلا أمر الإمام فوقع الجمل لجنبه، و قتل مروان طلحة في الحرب.

فأرسل عليّ عليه السّلام محمّدا بن أبي بكر إلى عائشة و قال: قل لها: إلى أين تبغي الذهاب؟ فقالت إلى المدينة، فأوكل بها نساءا أوصلنها إلى هناك، و كان مع عليّ من أهل البصرة ثلاثة آلاف مقاتل.

ص: 228

الفصل الثالث في بعض قصّة معاوية و يزيد

الفصل الثالث في بعض قصّة معاوية و يزيد (1)

و جاء في الرسالة «الحاوية» أنّ ركن الإسلام الخوارزميّ قال: لمّا جي ء برأس الإمام الحسين عليه السّلام إلى يزيد بن معاوية لعنهما اللّه، قام الرجس و وضع قدمه على الرأس الشريف، و كان زيد بن أرقم حاضرا (2)، فقال: لا تفعل ذلك يا يزيد، فإنّي رأيت رسول اللّه يقبّل ذلك الفم.

و أمّا عندنا فإنّ اللعين تناول سوطه و ضرب ثناياه.

و قال في «الحاوية» أيضا أنّ اللعين طلب الساقي و هو في تلك الحالة و الرأس بين يديه فسقاه، و قال العلماء كان ثملا ساعتئذ، و كان بعد ذلك يرقص على سطح قصره و هو سكران فوقع من أعلاه و ذهب إلى جهنّم و هو سكران كما مات أبوه ثملا، و قد وضع الصليب في عنقه.

و قال بعضهم: ذهب عدوّ اللّه إلى الصيد مع عسكره فعرضت له ظبية، فأجرى فرسه ورائها فأوحى اللّه إلى الأرض أن ابلعيه «فخسفنا بداره الأرض». و قيل: لمّا عرفه القوم في دمشق تكأكأوا عليه و صار لهم ضجيج و عجيج، فهرب منهم و وقع في الكنيف، فأقبل الناس إلى ذلك الكنيف و سدّوا فروجه، و بئر الكنيف هذا معروف في دمشق، و أنشد في مذمّته و مدح عليّ و آله صلوات اللّه عليهم و سلامه (شعر):

ص: 229


1- مرّ على القارئ أنّي لا أتصرّف بعناوين الفصول التي يضعها المؤلّف لأنّها باللغة العربيّة، و لا يجوز لي تغييرها لأنّ ذلك ليس من الترجمة و إن جائت على خلاف المباني الدستوريّة للّغة.
2- تنسب هذه إلى عدوّ اللّه عبيد اللّه بن زياد لعنهما اللّه و كان ابن أرقم حاضرا عنده و لم يكن في الشام.

يهدى أسارى كربلا إلى الشئآم و البلاقد انتقلن بالدما ليس لهنّ ناعل

إلى يزيد الطاغيه معدن كلّ داهيه من نحو نار حاميه مجاهد و خاذل

حتّى رأى بدر الدجى رأى الإمام المرتجى بين يدي شرّ الورى و للّعين خاذل

يظلّ في بنانه قضيب خيزرانه ينكث في أسنانه قطعت الأنامل

أنامل لجاهد و حاقد مراصدمكائد معاند في صدره طوائل

طوائل بدريّه طوائل كفريّةشرّها جاهليّة ولّت لها الأفاضل و بعث يزيد بعد شهادة الحسين عليه السّلام جيشا إلى المدينة و أغار عليها و استباحها ثلاثة أيّام، فكان يسلب القرشيّة مقنعتها من رأسها، و من أغلق بابه و استتر في بيته أحرقوا عليه بابه (1).

قال أبو سعيد الخدري: ما كنّا نسمع الأذان إلّا من قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قتلوا في المدينة ستّة آلاف إنسان (2) و من هناك قصدوا مكّة و نصبوا المنجنيقات على أسوار البيت و خرّبوه و أحرقوا أستاره و وضعوا السيوف على عواتقهم، و القرآن تحت أقدامهم، و هدموا الكعبة مرّتين و أحرقوا مكّة.

و قيل: عثروا على الحجر الأسود بعد سنين في اليمن فأخذوه و ردّوا إلى مكانه و عمروا البيت (3)، و هذه هي سنّة معاوية و يزيد و أهل الشام، بخ بخ لإسلام كهذا، و ويل لمن يدعو هؤلاء مسلمين.

و كان غرض يزيد و الحجّاج من غزو البيت قتل عبد اللّه بن الزبير، فقتلوه

ص: 230


1- هذا درس بليغ تلقّاه يزيد لعنه اللّه من الأستاذ الأكبر أبي حفص عمر بن الخطّاب لعنه اللّه.
2- العدد أكثر من هذا بكثير.
3- إن كان يشير إلى أخذ القرامطة الحجر حين غزوا البيت فالأمر على خلاف ما قاله تماما، و إن كانت حكاية أخرى فإنّي لم أعثر عليه في التاريخ و لا بدع فما زال في الزوايا خبايا.

و صلبوه على شجرة في مكّة (1) فلمّا أنزل من الشجرة كانت قد جفّت، و كانت أمّه أسماء ذات النطاقين (2) قد شاخت و أضرّت، و لمّا وقفت على رأس ولدها وجدتهم قد مثّلوا به فقطعوا يديه و رجليه و أبانوا شفتيه، و شقّوا جوفه و وضعوا فيه الحجارة، و هو أوّل مولود في الإسلام من المهاجرين، و قد قتله الحجّاج اللعين و قال: طهّرت مكّة منه، و مكّن ليزيد معاوية أبوه ففعل ما فعل، و لقد مضى على القوم من هلالك عمر بن الخطّاب إلى هلاك يزيد سبع و أربعون سنة، و هلك يزيد لعنه اللّه بعد شهادة الحسين عليه السّلام (3).

و ما أعجب قول المخالف: نهى النبيّ عن لعن المصلّين، و معاوية و يزيد من المصلّين، و مع هذا يلعن علماء المعتزلة علماء الشيعة و يذمّون أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع أنّ الجميع يصلّون و يترضّون عن معاوية و يزيد، أسأل اللّه أن يحشرهم معهما و هو كذلك فعلا طبقا للحديث «المرء مع من أحبّه» (4)، و يحشر علماء الشيعة مع أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 231


1- بل صلبوه في البيت الحرام.
2- أخت عائشة و قد لقّبت بذات النطاقين زورا لأنّهم زعموا أنّها قسمت نطاقها قسمين لرسول اللّه ليلة الهجرة.
3- قيل: هلك عمر سنة ثلاث و عشرين و قيل أربع و عشرين، و هلك يزيد سنة أربع و ستّين، هكذا ذكر الطبريّ في تاريخه عن وفاتيهما، فيكون الحاصل من طرح ثلاث و عشرين من أربع و ستّين، اثنين و أربعين سنة، أو واحد و أربعين على القول الثاني لوفاة عمر.
4- رسائل الشهيد الثاني: 319، علل الشرائع 1: 140، أمالي الصدوق: 252، مكارم الأخلاق: 456، مسند أحمد 1: 392 و 3: 104 بطرق كثيرة و 4: 239 بطرق أكثر، سنن الدارمي 2: 321، صحيح البخاري 7: 112 و 112 بطريقين، صحيح مسلم 8: 43، سنن ابن ماجة 2: 1118، سنن أبي داود 2: 504، سنن الترمذي 4: 22 و 23 و 5: 205 و 206، مجمع الزوائد 1: 286 و 9: 364 و 10: 280، عون المعبود 14: 24 و 25.

يقول صاحب الحاوية: تدخل فاطمة يوم القيامة عرصة المحشر و على يدها حلّة خضراء و على يدها الثانية حلّة حمراء و تنادي برفيع صوتها: ربّ احكم بيني و بين قاتل ولدي بأيّ ذنب قتلوهما أحدهما بالسمّ و الآخر بالسيف بالعبارة التالية: إنّ فاطمة تجي ء يوم القيامة بيدها قميص أخضر و بالأخرى قميص أحمر، فتقول: يا ربّ، انتصف لي من قتلة ولدي لم سمّ أحدهما و ذبح الآخر، فيحكم اللّه لها أوّلا يعني الحسن من معاوية، و ثانيا من يزيد لعنه اللّه.

و قال أيضا عن العبّاس: لمّا كانت ليلة زفّت فاطمة إلى عليّ عليه السّلام كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قدّامها و جبرئيل عن يمينها و ميكائيل عن يسارها و سبعون ألف ملك من ورائها يسبّحون اللّه و يقدّسونه حتّى الفجر.

و قال أيضا: أدخلت فاطمة عليها السّلام الحسن عليه السّلام على (رسول اللّه) النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هي التي كانت ترضعه أذهب جبرئيل في خيل من الملائكة قد نشروا أجنحتهم و يبكون حزنا على الحسين و أنّه علامة المصيبة للملائكة.

و قال أيضا: إنّ ملكا في البحار نزل إلى (الهجر الأعظم- كذا) و صاح صيحة و قال في صيحته: يا أهل البحار، البسوا أثواب الحزن فإنّ فرخ محمّد مذبوح، ثمّ جاء إلى النبيّ فأخبره بذلك (1).

قال الحسام الخوارزمي: لو تصوّرتم مقدار المصيبة للبستم ثياب المصابين أو تغيّرت صوركم سودا حزنا على قتله.

روى جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه الحسين عليه السّلام، فعطش و لم نجد ماءا، فأعطاه لسانه فمصّه حتّى ارتوى، ثمّ فرحوا بقتله عطشان يلوك لسانه عند الذبح.

ص: 232


1- مدينة المعاجز 3: 438 و فيه: البحر الأعظم.

و عن حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أعطي الحسين من الفضل ما لم يعط أحد من ولد آدم ما خلا يوسف بن يعقوب.

يقول مؤلّف الكتاب: المراد من الفضل جمال الصورة و شرف المحتد من الأب و الجدّ و الأمّ كما كان ليوسف عليه السّلام، و ثانيا أحسن القصص لأنّ من قصص الأنبياء و حكاياتهم و الأوصياء و الأولياء حكاية يوسف و الحسين عليهما السّلام فإنّهما ملكا الشهرة في العالم، و الجميع يعرفون ذلك و يقرؤونه .. و يحزنون عليه .. و كذلك يقول صاحب الحاوية (1).

و يقول صاحب الحاوية أيضا: عن خيثمة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: بي أنذرتم، ثمّ بعليّ بن أبي طالب اهتديتم، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (2)، و بالحسن أعطيتم الإحسان، و بالحسين تسعدون و به تشقون، و إنّما الحسين باب من أبواب الجنّة؛ من عانده حرّم اللّه عليه ريح الجنّة (3).

عن أبي أيّوب الأنصاريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ينادي مناد يوم القيامة من بطن العرش: يا أهل الجمع، نكّسوا رؤوسكم و غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله على الصراط.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: فاطمة مهجة قلبي، و ابناها ثمرة لفؤادي، و بعلها نور بصري، و الأئمّة من ولدها أمناء ربّي و حبله الممدود بينه و بين خلقه، من اعتصم به نجى، و من تخلّف عنه هوى.

إذن ظهر من هذه الأحاديث واقع أولئك الذين غصبوا حقوقهم و قطعوا

ص: 233


1- لم أعثر في الذريعة على كتاب واحد للمولى محمّد و اسمه الحاوية في تحقيق أمر الزاوية.
2- الرعد: 7.
3- مائة منقبة لمحمّد بن أحمد القمّيّ: 22.

رؤوسهم و وضعوها على رؤوس الرماح، و أفتوا بإباحة دمائهم و أشلوا عليهم الفسّاق، و صاروا مبدء ذلك الظلم، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

و روى هذه الأخبار صاحب الحاوية أيضا بأنّ الإمام زين العابدين لمّا حملوه إلى يزيد أنشد يزيد لعنه اللّه هذا البيت:

لا تطمعوا أن تهينونا و نكرمكم و أن نكفّ الأذى عنكم و تؤذونا

اللّه يعلم أنّا لا نحبّكم و لا نلومكم ألا تحبّونا و قال يزيد: يا غلام، ليس لكم فخر علينا، فقال الإمام عليه السّلام: يا بن معاوية و هند و صخر، لم تزل النبوّة و الإمرة لآبائي و أجدادي من قبل أن تولد، و لقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يوم بدر و أحد و الأحزاب في يده راية الإسلام و ابوك و جدّك في أيديهما راية الكفر، ثمّ أنشد:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم ماذا فعلتم و أنتم آخر الأمم

بعترتي و بأهلي عند مفتقدي منهم أسارى و منهم ضرّجوا بدم ثمّ قال: يا يزيد، لو تدري ما فعلت و ما الذي ارتكبت من قتل أبي و أهل بيتي و أخي و عمومتي إذن لهربت في الجبال و فرشت في الرمال و دعوت بالويل و الثبور، و يكون رأس الحسين بن فاطمة و ابن عليّ عليه السّلام منصوبا على باب مدينتكم و هو وديعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيكم فابشروا بالخزي و الملامة غدا إذا جمع الناس ليوم القيامة.

و جاء في الحاوية أنّ يزيد شرب خمرا و سكب فضلته على رأس الحسين عليه السّلام فغسلت زوجة يزيد الرأس الشريف بالماء و ماء الورد فرأت فاطمة بالليل بعالم الرؤيا و هي تعتذر إليها، ثمّ أمر يزيد أن يحمل رأس الحسين و رؤوس أهل بيته إلى أبواب المدينة فتنصب عليها.

و أورد الحاكم في رسالته: قال اللّه تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ

ص: 234

وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (1) و النبيّ طرد مروان من المدينة و هذا دليل على كفره، فلمّا استخلف عثمان (لعنه اللّه- المترجم) ردّه و أسند إليه منصب الوزارة، و طرد أبا ذر بخلاف حكم هذه الآية من المدينة و هو حبيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أنصف من نفسك أيّها المخالف، إن صنع عثمان هذا لا يدلّ على صحّة خلافته بل و لا على إيمانه أو إسلامه.

و قال صدر الأئمّة البخاري: و أمر يزيد بنصب رأس الإمام الحسين عليه السّلام على باب مدينة دمشق و أسكن مخدّرات الرسالة في بيت يجاور بيته، و لمّا دخلن البيت خرجن نساء آل ابي سفيان لاستقبالهنّ و رحن يقبّلنّ أيديهنّ و أرجلهنّ و هنّ صارخات باكيات لاطمات، و أقمن العزاء ثلاثة أيّام، و لمّا رأين بنات النبيّ بهذه الحالة المزرية خلعن ملابسهنّ و رمينها عليهنّ، و حسرت امرأة يزيد عن رأسها و شقّت جيبها و عمدت إلى ستائر بيتها فمزّقتها و أقبلت حافية القدمين إلى مجلس يزيد و قالت: يا يزيد، أ أنت الذي أمرت بحمل رأس ابن بنت رسول اللّه على الرمح و نصبته على باب بيتك، و كان يزيد جالسا على عرش الملك و عليه تاج مرصّع بالدرّ و الياقوت و الحجارة الكريمة، فلمّا بصرت عينه بزوجته سافرة بادر إليها و سترها و قال: يا هندي، فاغفر (كذا) فاقعري و ابكي على بني بنت رسول اللّه.

و جاء في الحاوية أنّ النساء يتستّرن على ما جرى في كربلاء من قتل الرجال و الشباب على البنات و الولدان، و يعدن الأطفال الصغار بعودة آبائهم من هذا السفر إلى أن أدخلوهنّ بيت يزيد لعنه اللّه و كان معهنّ بنيّة لها من العمر أربع سنوات، انتبهت من نومها و صرخت تريد أباها الحسين عليه السّلام، لقد كان معي الساعة و أنا نائمة، فثارت للنساء و الأولاد ضجّة و صيحة، و كان يزيد لعنه اللّه يغط في نومه

ص: 235


1- الأنعام: 52.

العميق فانتبهه بإنزعاج و سأل: ما الخبر؟ فأخبروه بما جرى، فقال: خذوا لها رأس أبيها، فحملوه إليها و وضعوه بين يديها، فسألتهم: ما هذا؟ فقال لها اللعناء:

هذا رأس أبيك، فصرخت الطفلة مرعوبة و استولى عليها الرعب الشديد حتّى مرضت و بقيت من بعدها أيّاما ثمّ ماتت و أسلمت الروح إلى ربّها.

الفصل الرابع في أنّ بني أميّة لم يكونوا من قريش

اشارة

اعلم أنّ أميّة غلام روميّ لعبد الشمس و كان قد أعتقه و تبنّاه لما رأى سطوع الذكاء و الكياسة مرسوما على محيّاه، و ولد له أولاد كثيرون جلّهم لعناء.

و العلماء قول واحد أنّ الشجرة الخبيثة (الملعونة) هم بنو أميّة في قوله تعالى:

وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (1).

الفائدة الأولى

سؤال: عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، فكيف يقال لمثله غلام، أو كان غلاما؟

الجواب: جرت عادة العرب أنّ المملوك إذا أعتقوه و تبنّوه يدعى عندهم بعتيق أو معتق، نظير هذا زيد بن حارثة حين أعتقه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تبنّاه فكان يدعونه زيد ابن محمّد، و اشتهر ذلك بين أهل مكّة و المدينة و كان اللّه سبحانه يكره ذلك. و لمّا طلّق زيد زوجه زينب بنت جحش و أمر اللّه رسوله أن يتزوّجها لكي يعلم الناس أنّه ليس ولده على الحقيقة و لا هو بوارث له، إنّما ترثه فاطمة و ابناها الحسن

ص: 236


1- إبراهيم: 26.

و الحسين عليهما السّلام، كما قال تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ (1) و كتب المفسّرون حكايه ذلك في سورة الأحزاب: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (2)، ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ (3) و المراد بقوله «أبا أحد» دفع هذه الأبوّة.

و هكذا كان عبد الشمس و أميّة حين اشتهر الأخير بابن عبد شمس، و المؤرّخون أخذوا ظاهر القول، و هذا التحقيق بلغنا من المحقّقين الذين كشفوا الواقع و أبانوا عن حقيقة هذه البنوّة.

الفائدة الثانية

و لمّا ثبت كون بني أميّة روما، فقد قال اللّه تعالى: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ (4) فهذه الآية تعنيهم، و يغلب في مملكتهم أهل الصلاح و الدين و هم الغالبون، و المراد من غلبة الروم مذكور في آثار أهل البيت و الأئمّة الصادقين عليهم السّلام.

الفائدة الثالثة

وصف اللّه الشجرة الخبيثة بقوله ما لَها مِنْ قَرارٍ (5) و المعني بذلك هم، و لا تبقى مملكتهم أكثر من ألف شهر، فإذا انتهت هذه المدّة حلّ بهم الهلاك، و حينئذ يسطع نجم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يظهر المؤمنون الإيمان، و يفشو بينهم لعن الشجرة الخبيثة.

ص: 237


1- آل عمران: 61.
2- الأحزاب: 37.
3- الأحزاب: 40.
4- الروم: 1 و 2.
5- إبراهيم: 26.

الفائدة الرابعة

سئل الإمام الصادق عن ليلة القدر، فقيل: يا بن رسول اللّه، أتعرف ليلة القدر؟

فقال: كيف لا أعرفها، إنّ اللّه كشفها لنا، ففي هذه الليلة من كلّ سنة ينصب كرسيّ الكرامة لنا و يجلسنا عليه، و تأتي الملائكة المقرّبون و أرواح الأنبياء و المرسلين زرافات و وحدانا للسلام علينا و تهنئتنا، و تذهب إلى مصافها حتّى مطلع الفجر، و هي خير من ملك بني أميّة ألف ليلة.

و ما ناله بنو أميّة في هذه المدّة من اجتماع الفسّاق عليهم نحن نناله في كلّ سنة ليلة القدر و ما يضيرنا إذا جفانا الفسّاق.

الفائدة الخامسة

لمّا ثبت كون بني أميّة ليس من قريش بل من الروم بطلت خلافة عثمان و معاوية، و هذا على مزعمة القوم أنّ الأئمّة من قريش لأنّهم ليسوا منهم.

الفصل الخامس

سبّ عدي بن أرطاة على منبر البصرة أمير المؤمنين عليه السّلام و كان الحسن البصري حاضرا، فقال: و اللّه لقد سبّ أخا رسول اللّه .. (1).

قال عبد اللّه بن الحرث: ذهبنا أنا و عمرو بن الحجّاج إلى معاوية و ثنينا من بعده

ص: 238


1- الحسن البصري دجّال كبير و لا واقع لما يبدو عليه من حسن السمت فإنّه منحرف عن أمير المؤمنين، و لو صدق هنا لما سبّه في موضع آخر، فقال عنه: لا أبا لك، و الواقع أنّ هذا الخبيث الدجّال كان في عهد أمير المؤمنين ابن سنتين و من بعده لم يتقدّم به العمر ليكون بهذا المستوى من العقل و الفهم و الدين.

بعبيد اللّه بن عمرو بن العاص، فقال: إنّ معاوية منعنا من رواية الحديث و قال: و اللّه لئن حدّثت لأضربنّ عنقك بالسيف. قال عبد اللّه بن الحرث: فقلت: و اللّه لو كانت عنقي لما تركت الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ قال: كنت يوما عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمرّ معاوية يقود أباه و كان أرمد، و رسول اللّه على المنبر، فقال: لعن اللّه التابع و المتبوع (1) ثمّ حضرت عند النبيّ فأرسل وراء معاوية، فقيل له: يأكل، و أعاد الرسول مرّات و هو يأكل، فقال الرسول: يا رسول اللّه هو يأكل، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اللهمّ لا تشبع بطنه فلن يشبع، هل رأيتموه يشبع (2).

قال الراوي: فسألته: أ أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ فقال: سمت أذني و رأت عيني في المرّتين كليهما، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه (3).

ص: 239


1- بحار الأنوار 33: 191 و فيه الجملة بسياق ثان، مناقب أهل البيت للشرواني: 467، شرح ابن أبي الحديد 4: 79 و فيه: ربّ يوم لأمّتي من معاوية ذي الاستاه، قالوا: يعني الكبير العجز.
2- كان سليمان بن عبد الملك ثعبانيّ الالتهام لقمانيّ الالتقام على أنّ جميع المروانيّة كانوا أمثالا في الأكل، إمامهم في الأكل في سبعة أمعاء معاوية (لعنه اللّه و لعنهم). (ربيع الأبرار 3: 253) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الكافر يأكل في سبعة أمعاء. (رواه أحمد في المسند 2: 21) و أخرجه كثيرون يتعذّر حصرهم.
3- شرح ابن أبي الحديد 15: 176، الكامل لابن عدي 2: 146 و 209 و 3: 419 و 5: 101 و 314 و 7: 83، تاريخ مدينة دمشق 59: 155 و 156 و 157، تهذيب الكمال 7: 102، سير أعلام النبلاء 6: 105، تهذيب التهذيب 2: 369 و 5: 96 و 8: 65، لسان الميزان 3: 54، البداية و النهاية 8: 141 و 142، تقوية الإيمان لمحمّد بن عقيل: 139. و عبثت يد الغدر و الخيانة لأتباع السنّة كما يصفون أنفسهم فحرّفوه «أقبلوه» و لم يفعلوا ذلك إلّا لأنّه إدانة لإمامهم الأكبر ابن صهّاك سوّد اللّه وجهه و لعنه.

الفصل السادس في فوائد و نكات

وردت في كتاب مثالب بني أميّة من كلام الشيخ الزاهد الحافظ أبو سعيد إسماعيل بن عليّ السمّان و هو من علماء أهل السنّة، فنكتب ما هو من خلاصة كتابه و نوادره

قال الحسن البصريّ: كنت لا أستطيع ذكر اسم عليّ في عهد بني أميّة، فأقول:

حدّثني أبو زينب، خوفا من بني أميّة.

قال موسى بن داود: سمعت من عليّ و هو واقف عند أحجار الزيت، رافعا يديه يقول: اللّهم إنّي أبرأ إليك من دم عثمان، فحدّثت عبد الملك بذلك، فقال: ما أراه إلّا بريئا يا موسى. قلت: فلماذا يلعنونه على المنابر؟ فقال عبد الملك: لا يقوم الملك إلّا بذلك.

و كان قتل عثمان بسعي معاوية و لكنّه ما فتئ يشنّع على عليّ عليه السّلام و يدّعي الطلب بدم عثمان لعنه اللّه و الدليل على ذلك أنّ عبد اللّه بن سعد أقام بعسقلان بعد مقتل عثمان و لم ير وجه معاوية قطّ و قال: أكتب على نفسي أن لا أرى وجه رجل رضي بقتل عثمان و أعان عليه.

قال محمّد بن عبد الرحمان بن يزيد: قلت لأبي: يا أبتى، أتغزو في إمارة الحجّاج؟ فقال: يا بني، إنّ أصحاب رسول اللّه غزوا في زمن معاوية و هو شرّ من الحجّاج.

قال الأعمش: إنّ الحجّاج جرّد عبد الرحمان بن أبي ليلى من ثيابه و أمر بضربه حتّى تناثر لحمه و هو يقول: العن عليّا ابن أبي طالب، و هو يأبى.

قال عبد اللّه بن الزبير: أولاد الحكم ملعونون.

ص: 240

و كان رجل يحدّث عمر بن عبد العزيز فقال في أثناء كلامه: يزيد أمير المؤمنين (1) و كان عمر بن عبد العزيز في بني أميّة كمؤمن آل فرعون.

و قال مروان لحويطب: هممت أن أسلم فمنعني أبوك مرّات، و قال: لا تدع دين آبائك و أجدادك فيضيع شرفك، فلمّا أسلم عثمان و هو عمّك آلم أباك كثيرا و عاتبه و قال: إنّك فعلت سوءا.

قال الأحنف بن قيس: حضرت عند معاوية أنا و جماعة من أهل العراق فاختلفت آرائهم في يزيد و كلّ واحد قال ما عليه و كنت صامتا لا أنطق بكلمة، فقال معاوية: مالك يا أحنف ساكت أمام الملأ، فقمت و قلت بعد أن حمدت اللّه و أثنيت عليه: إنّك أعرف بيزيد ليله و نهاره، و سرّه و علنه، لأنّك أبوه، و اعلم بأنّنا شارفنا على النهاية فلا تزوّده الدنيا و تمكّنه من رقاب العباد و تذهب إلى ربّك فاللّه سائلك عن ذلك، فاتّق اللّه و لا تصيّره حاكما على رؤوس العباد، فبدر ملعون متزلّف كان حاضرا فقال: من أنكر ولاية معاوية و لم يقبل حكمه عليه ضربته بحدّ سيفي هذا، و أشار إلى قائم سيفه.

قيل: بلغ الظلم في عهد بني أميّة حدّا أن كان الناس يتمنّون الموت و قيام القيامة ليرتاحوا من ظلمهم و جورهم.

و كان سالم بن أبي حفصة يطوف في البيت و يقول: لبّيك مهلك بني أميّة لبّيك، فلمّا سمعه داود بن عليّ أرسل إليه ألف دينار مكافئة.

هرب عقبة بن شدّاد من عمر أيّام خلافته و نزل الكوفة و حضر صفّين مع أمير المؤمنين عليه السّلام فاستشهد، فلمّا استولى معاوية لعنه اللّه أمر بهدم بيته.

و لمّا ذهب معاوية إلى الميقات لعقد الإحرام و أراد أن يقول لبّيك قيل له: هذا

ص: 241


1- لم يتمّ الرواية فإنّ عمر بن عبد العزيز ضرب هذا القائل خمسا و عشرين سوطا.

مكان مقدّس لأنّ عليّا لبّى منه، فترك معاوية الإحرام تعصّبا على عليّ عليه السّلام و ذهب إلى موضع آخر.

قال المصنّف: و اليوم أهل السنّة يتّبعون سنّته و إنّما قيل للسنّيّ سنّيّ لأنّه حافظ على سنّة معاوية و تبرّأ من عليّ و أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إلّا فالمسلمون جميعا شركاء في سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ما من حنبليّ إلّا و هو ينتقص عليّا و يبحث عن غميزة يغمزه بها (1).

و قال ابن المسيّب: ولد لأخي ولد من فضل اللّه عليه فسمّاه «وليد»، فلمّا علم الرسول بذلك منعه منه و قال: هذا اسم الفراعنة «ليكوننّ في أمّتي رجل يقال له الوليد، ألا هو شرّ لأمّتي من فرعون لقومه» (2) و حكم في الإسلام وليدان: الوليد ابن يزيد و الوليد بن عبد الملك (3).

جاء أعمى يوما إلى مجلس الحسن البصريّ و قال: ارحم أعمى ليس له قائد، فقال الحسن البصريّ: هذه السارية أسوء منك حالا، هذا عبد اللّه بن الزبير مع ما

ص: 242


1- صدقت يا شيخي الكريم، فهذا مشاهد للعيان معلوم لكلّ إنسان، و أنا إزاء هذا لا املك إلّا لعن الثلاثة: أبي بكر و عمر و عثمان، و ألحق بهم أحمد بن حنبل لعنه اللّه.
2- أمالي المرتضى 1: 89 و الرواية بصيغة أخرى و الولد هو لأخي أمّ سلمة. (مسند أحمد 1: 18، المستدرك 4: 494، و الرواية عن ابن المسيّب عن أبي هريرة، قال: ولد لأخي أمّ سلمة .. الخ، و المؤلّف أخطأ بنسبتها إلى ابن المسيّب، مجمع الزوائد 7: 312، فتح الباري 10: 478 و 479، المصنّف 11: 43، بغية الباحث لابن أبي أسامة: 252، القول المسدّد في مسند أحمد: 6 و 14 و 15، كنز العمّال 11: 257، فيض القدير 4: 172، كتاب المجروحين لابن حبّان 1: 125، تاريخ مدينة دمشق 63: 322، الإصابة 6: 480، البداية و النهاية 6: 271، و هناك مصادر أعرضنا عنها لكثرتها، كلّ هذا و تجد مدح الوليد و الثناء عليه في كتاب «العواصم من القواصم» و عند الخطيب محقّق الكتاب و هذا الواقع يكشف لك ما هو دين القوم؟!
3- و لا تنس الوليد بن عقبة لعنهم اللّه جميعا.

له من الخدم الحشم و المال ليس له من يقوده، و كان هذا اللعين قد أضرّ. «الحمد للّه على عماه في الدنيا و الآخرة و استيصال بني أميّة» (1).

قال داود بن عليّ و هو من أعلام الدنيا يومذاك: كان رجل من أهل العراق يلعن أهل الشام، فقال عليّ عليه السّلام: لا تسبّوا أهل الشام جمّا غفيرا فإنّ فيهم قوما كارهين لما يرون في الشام و فيهم يكون الأبدال (2).

يقول أبو حاتم سفيان بن عتبة: لم يكن في عليّ خصلة يقصر بها عن الخلافة و لم يكن في معاوية خصلة يستحقّ بها الإمامة و الخلافة.

قال عبيد بن شداد (الهار- كذا): لو شئت لصعدت المنبر و ذكرت مناقب عليّ من الفجر إلى غياب القرص ثمّ ليأخذوني من هناك و ليضربوا عنقي.

و سمع عليّ عليه السّلام رجلا يلعن أهل الشام، فقال: ويحك لا تعمّهم فإن كنت لا بدّ فاعلا فمعاوية و شيعته و عمرو بن العاص و شيعته.

يقال: إنّ أمّ كلثوم بنت عليّ عليه السّلام ولدت لعمر ولدا و سمّته زيدا فدسّ عبد الملك بن مروان السمّ له فقتله لأنّ الناس كانوا يقولون: هذا ابن عليّ و عمر، و كان يخشاه على ملكه، و صلّى عليه عبد اللّه بن عمر.

قال شقيق: كنت أنا و مسروق في سفينة تحمل أصناما للنجاشي لبيعها في الهند، فقال شقيق: اغرقوا هذه السفينة، فقال مسروق: لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فليست هي شرّا من معاوية بن أبي سفيان إمام المسلمين.

كان عقيل بن أبي طالب ضيفا على أخيه، جاء يطالبه بالعطاء، فقال له الإمام:

ص: 243


1- لا أعرف ابن الزبير هذا و لم يتيسّر لي الاطّلاع عليه و لا شكّ في تصحيفه.
2- الأبدال في الشام حديث موضوع ردّه جلّ العلماء إن لم يكن كلّهم بل لا أبدال في البين ليكونوا في الشام أو غيرها.

اصبر حتّى يخرج عطاء الناس فأعطيك، فألحّ عليه عقيل و كان إلى جانبهما شخص ثالث، فقال له عليّ عليه السّلام: يا رجل، خذ بيده إلى هذه الدكاكين و ليحمل منها ما شاء، فقال عقيل: يابن أمّ، أتريدني أن أكون لصّا بعد الهجرة، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:

و أنت تريد منّي أن أسرق لك أموال المسلمين؟! فقال عقيل: ائذن لي بالمصير إلى معاوية، فقال له: أذنت لك، فأنت و ذاك.

فصار عقيل إلى معاوية فلمّا وصل إليه أعطاه مأة ألف درهم و قال له: اصعد المنبر يا عقيل و اذكر عطائي و عطاء أخيك، فصعد المنبر و حمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: كانت حالي مع أخي و معاوية كيت و كيت، و لكن أخي اختار دينه عليّ، و معاوية اختارني على دينه.

قال أبو سعيد الخدري: كان معاوية يخطب على المنبر فسلّ رجل سيفه في الجمع، فقيل له: ما تصنع ويحك؟! فقال: سمعت رسول اللّه يقول: إذا رأيتم معاوية يخطب على الأعواد (1) فاضربوا عنقه، و قال الحاضرون: و نحن أيضا سمعنا ما سمعته، فكتبوا إلى عمر بن الخطّاب لعنه اللّه فما ردّ عليهم الجواب إلى أن ذهب إلى جهنّم.

قال أبو سالم: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ويل لبني أميّة، ويل لبني أميّة، ويل لبني أميّة .. (2).

و كان معاوية يقول: السخاء لبني هاشم، و الشجاعة لبني العوام، و الحلم

ص: 244


1- لم يدرك الكلمة فترجمها «بعيدها» أي الأعياد، و جاءت كذلك في الكتاب.
2- الغدير 8: 250، الآحاد و المثاني 3: 300. و أبو سالم هذا حمران بن جابر و هو جدّ عبد اللّه بن بدر. كنز العمّال 11: 165 رقم 31059 و 363 رقم 31750، أسد الغابة 2: 46 و 343، الإصابة 2: 104، تاريخ المدينة لابن شبة النميريّ 2: 600، ينابيع المودّة 2: 84، النصائح الكافية: 139، تنبيه الغافلين: 105.

(الحكم- المؤلّف) لبني أميّة، فوصل قوله إلى الإمام الحسن عليه السّلام، فقال: ما قصد المدح بل ألقى الخبر إلى الناس ليقصدوا بني هاشم فينفقون أموالهم فيحتاجون إليه، و يلقي ببني العوام بين لهوات الموت، و أعطى الحلم لبني أميّة ليجتمع عليهم الناس و يبلغوا بهم غاية الملك و السلطان.

و نادى منادي معاوية: من جالس أبا ذر قتلناه، فهرب الناس منه، و القصد من ذلك أن لا يستمعوا إلى ذكر مناقب عليّ منه لأنّه طالما كان يحدّث بفضائله التي رآها أو سمعها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: زار أبو الأسود معاوية، فلمّا قام قائما انفلتت منه ريح، فقال أبو الأسود: يا معاوية، هذا مقام العائذ بك، و قال: أو يكون غير هذا .. (1). و أشهد أنّ ما وقع منّي يقع منك و من أبويك، و من لا يؤتمن على ريح كيف يؤتمن على أمارة الأمّة؟!

سئل الحجّاج بن يوسف من أبي سعيد الحسن البصريّ: ما تقول في عليّ؟

فقال: كان أوّل من اهتدى، و أوّل من اقتدى برسول اللّه، و أوّل من هاجر الهجرتين، فقال الحجّاج: صدقت، هذا من وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ (2) و كان عليّ بن أبي طالب أوّل من هداه اللّه تعالى مع الحقّ و أوّل من التحق بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

قال الحسن البصريّ: عمل معاوية أربعا كلّهنّ بوائق: ادّعائه زيادا، و استخلافه يزيد، و قتله حجر بن عديّ و أصحابه، و منازعته الأمر (3).

ص: 245


1- إن كانت الريح من معاوية فإنّه أهل لها، و إن كان المؤلّف يقصد بها أبا الأسود- و حاشاه- فإنّ ذلك من دسّ العدوّ فقد كانوا يعادونه غاية العدا لأنّه موال لأهل البيت، و ما وجدوا ما ينتقصه إلّا هذا و أمثاله، و هل هذا إلّا بعض أخلاق فاروقهم!
2- البقرة: 143.
3- القواعد الفقهيّة 4: 25 و لم ينسبها إلى أحد، البداية و النهاية 8: 139، كشف الغمّة 2: 45،

رأى بسر بن أرطاة زيدا خارجا من عند معاوية، و زيد من أمّ كلثوم بنت الإمام عليه السّلام، فشرع يسبّ عليّا، فسمعه زيد يسبّه فأقبل عليه و قبض على مراق بطنه و حمله ثمّ جلد به الأرض و كسر أضلاعه، فاجتمع الناس و خلّصوه من يد زيد، فبهت معاوية و بقي أيّاما لا يعي من أمره شيئا، و كان السيف لا يفارقه من خوف زيد، و لا يجرأ على عتابه، و كان زيد غاية في الشجاعة.

عاد معاوية عمّار فلمّا قام من عنده قال: اللهمّ لا تجعل موته بأيدينا، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يقتل عمّار بن ياسر الفئة الباغية.

و لمّا قتل عمّار أقبل عمر بن حازم في ذلك اليوم على عمرو بن العاص باكيا، فسأله عمرو: ما بالك؟ فقال: قتل عسكرنا عمّارا بن ياسر و قد سمعت رسول اللّه يقول: يقتل عمّارا الفئة الباغية، فنهض عمرو مسرعا إلى معاوية و حدّثه بما سمع، فقال معاوية: على عمّار أن لا يأتي إلى هنا، و لقد قتله من جاء به، و لبّس عليهم بحيلته و مكره.

ناظر يوما عبد الرحمان بن أبي بكر مروان بن الحكم في أمر الخلافة، فقال مروان: و هذه تقاليد الأكاسرة و القياصرة إذا مات كسرى قام كسرى مقامه، و كذا القيصر، و لأجل ذلك منعوا أهل البيت حقّهم فأوصى بها أبو بكر لعمر و عمر للشورى و عثمان قتل من دون وصيّة (1). فلمّا بلغ الأمر عائشة حوّلت وجهها إلى مروان و قالت: أنت القائل لأخي كيت و كيت، و لكن أشهد اللّه أنّ اللّه لعنك و أنت في صلب أبيك.

ص: 246


1- هذا القول لعبد الرحمان حين انبرى إلى مروان و هو يحثّ على البيعة ليزيد، فقال له: كذبت يا عدوّ اللّه، إنّكم صيّرتموها قيصريّة، ثمّ اشتدّت الملاحات بينهما حتّى تداركتها عائشة، و المؤلّف غير دقيق في الترجمة من العربيّة و لا هو بصير بما ينقل من التاريخ.

قال الحسن عليه السّلام يوما: يا قوم، لو نظرتم ما بين جابلقا و جابلسا ما وجدتم رجلا جدّه نبيّ غيري و غير أخي الحسين (1) و إنّي أرى أن تجمعوا على معاوية، و ما أدري لعلّها فتنة لكم و متاع إلى حين.

و كان الحجّاج بن يوسف دائبا في تفضيل عبد الملك بن مروان لعنه اللّه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان يعرض بذلك و يقول للناس: أرسولكم أكرم عليكم أم خليفتكم على أهلكم، فيردّون عليه: بل خليفتنا على أهلنا، يريد بذلك عبد الملك خليفة اللّه و محمّد صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه.

و كان معاوية كلّما حزبه أمر أو ألّمت به معضلة يوجّه لها إلى عليّ بن أبي طالب إلى أن جائته مسألة في الخنثى فلم يعرف لها حلّا حتّى سأل عليّا ص عليه السّلام فأفتاه.

و سئل عليّ عليه السّلام عن قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (2)، قال: الذين بدّلوا هم بنو المغيرة و استأصلوا يوم بدر و بنو أميّة و متّعوا إلى حين.

و كتب معاوية إلى مروان و هو وال على المدينة أن انقل منبر رسول اللّه من مكانه و ابعث به إليّ، فلمّا شرع ذلك الملعون في قلعه من مكانه هبّت عاصفة شديدة اظلمّت لها الدنيا و كان الناس من شدّتها لا يرى بعضهم بعضا، و لا يسمع بعضهم بعضا، فلمّا رأى ذلك تركه في مكانه فهدأ العالم و سكنت العاصفة، فاستحيا مروان من عمله هذا و قال ماكرا بهم: إنّ معاوية أمرني برفعه عن الأرض، و شنّع عليه الناس فأضاف إليه اللعين ستّ مراق أخرى حتّى صار بتسع مراق.

ص: 247


1- شرح أصول الكافي 7: 228 و اقتصر على هذا الجزء و مثله فعل صاحب ينابيع المودّة، و زاد عليه أمورا أخرى (3: 369) و أحسب إضافة المؤلّف من كلام آخر للإمام الحسن عليه السّلام.
2- إبراهيم: 28 و 29.

قال عبد اللّه بن الزبير: لعن رسول اللّه الحكم و ما (كذا) يخرج من صلبه (1).

قيل: حجّ معاوية ذات عام فلمّا بلغ المدينة أجلس عن يمينه عبد اللّه بن عمر، و عن يساره عبد اللّه بن عبّاس، و أقبل على ابن عبّاس و قال: أنا أحقّ و أولى بالأمر من ابن عمّك، فقال ابن عبّاس: لماذا؟ فقال معاوية: لأنّي ابن عمّ الخليفة المقتول ظلما، فقال عبد اللّه بن عبّاس: فهذا- و أشار إلى ابن عمر- أولى منك بها لأنّ أباه قتل مظلوما قبل ابن عمّك، فانقطع معاوية.

و كان سعد في المجلس حاضرا، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا علي، أنت مع الحقّ و الحقّ معك (2)، فقال معاوية: من سمعه غيرك؟ قال: أمّ سلمة، فقام معاوية إليها و قال: يا أمّ المؤمنين، كثرت الكذّابة على رسول اللّه، و يقول سعد كيت و كيت، فماذا تقولين أنت؟ فقالت: جرى هذا الحديث على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بيتي و سمعته أنا و سمعه سعد، فقال: لو كنت سمعته من رسول اللّه ما زلت خادما لعليّ حتّى أموت (3).

ص: 248


1- استأذن الحكم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: ائذنوا له لعنة اللّه عليه و على من يخرج من صلبه إلّا المؤمنين و قليل ما هم. (الحدائق الناضرة 4: 196، المستدرك 4: 481، كنز العمّال 11: 357 رقم 31729.
2- المحاسن 1: 17، تحف العقول: 6، شرح الأخبار للقاضي نعمان 2: 67 و 119، بحار الأنوار 38: 33 و 9340 و 74: 68.
3- و يحسن بنا أن نروي الرواية بطولها فقد اختصرها المؤلّف فضيّع كثيرا من فوائدها: حجّ معاوية ابن أبي سفيان فأتى مجلس في حلقة فجلس بين عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب، فضرب بيده على فخذ ابن عبّاس ثمّ قال: أنا كنت أحقّ و أولى بالأمر من ابن عمّك، فقال ابن عبّاس: و لم؟ قال: لأنّي ابن عمّ الخليفة المظلوم المقتول ظلما، قال ابن عبّاس- و ضرب بيده على فخذ ابن عمر-: هذا أولى بالأمر منك لأنّ أبا هذا قتل قبل ابن عمّك، قال: فانصاع، أو كلمة نحو هذا. ثمّ إنّ معاوية أقبل على سعد بن أبي وقّاص و كان حاضرا أيضا، فقال: و أنت يا سعد الذي لم تعرف حقّنا من باطل غيرنا فتكون معنا أو علينا؟ قال سعد: إنّي لمّا رأيت الظلمة قد غشيت الأرض قلت: هبج، فأنخثه، حتّى إذا أسفرت مضيت، قال معاوية: و اللّه لقد قرأت المصحف- أو ما بين الدفّتين- ما وجدت فيه هبج، فقال سعد: أمّا إذا انتبهت فإنّي سمعت رسول اللّه يقول لعليّ ابن أبي طالب عليه السّلام: أنت مع الحقّ و الحقّ معك. قال معاوية: لتجيئني عمّن سمعه معك أو لأفعلنّ بك كذا (و كذا). قال: (أمّ سلمة)، فقال: فقام و قاموا معه حتّى دخل على أمّ سلمة رضي اللّه عنها، قال: فبدأ معاوية فتكلّم فقال: يا أمّ المؤمنين، إنّ الكذبة قد كثرت على رسول اللّه بعده فلا يزال قائل يقول قال رسول اللّه ما لم يقل، و إنّ سعدا الآن روى حديثا زعم أنّك سمعته معه، قالت: و ما هو؟ قال: زعم أنّ رسول اللّه قال لعليّ: أنت مع الحقّ و الحقّ معك، قالت: صدق، في بيته قاله، فأقبل معاوية على سعد و قال: الآن أنت أكرم عليّ ممّا كنت (كذا) و اللّه لو سمعت هذا من رسول اللّه ما زلت خادما لعليّ بن أبي طالب حتّى أموت. (منتجب الدين بن بويه: 25، ط مؤسسة الهادي، أولى 1408- قم). أقول: لعن اللّه سعدا كما لعن معاوية: أيسمع هذا من رسول اللّه ثمّ يتردّد في نصرة الإمام؟! نعم لأنّهم حليت الدنيا بأعينهم وراقهم زبرجها.

جاء في المنقول عن الرواة: لمّا عزم أمير المؤمنين على حرب صفّين سبق معاوية إلى ماء الفرات، و وضع على مقدّمته أبا الأعور السلميّ و عدي بن أرطاة، فمنعوا أصحاب الإمام من ورود الماء، فبعث الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إلى معاوية لعنه اللّه رجلا من أصحابه يقول له: إنّ أصحابك حالوا بين أصحابي و بين الماء، و لو كنت السابق لما منعتكم، فشاور معاوية عمرو بن العاص و عبد اللّه بن أبي سرح و هو أخو عثمان من أمّه، فقال عمرو بن العاص: إنّي أرى أن تتنحّى بجيشكم لهم عن الماء، و قال ابن سرح: كلّا دعهم هكذا حتّى يهلكوا جميعهم عطشا كما قتلوا عثمان عطشا.

فلمّا أصبح الصباح أقبل على الإمام اثنا عشر ألفا من الرجال و قال: أنموت عطشا و نحن ننظر إليه، فقال الإمام عليه السّلام: من فيكم يقوم بهذا الأمر؟ فقال الأشعث:

ص: 249

أنا، و كان الأشعث رجلا شجاعا قويّا، يرمي السهم ثمّ يعدو معه حتّى يسبقه، ثمّ إنّ الأشعث حمل بهم على جيش الشام فأزالهم عن مراكزهم و احتلّ الفرات و ضرب أطنابه هناك، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أما قلت لك لا تمنع الماء منهم، فرددت قولي حتّى أمكنت العدوّ من الظهور عليك، فقال معاوية: إنّ عليّا رجل حليم و كريم فلا يمنعنا من الماء، و أرسل رسله إلى الإمام، فأجابه مسرعا، و أرسل إلى الأشعث: خلّ بينهم و بين الماء.

مادام عليّ حيّا لم يدع معاوية إلّا بأمير، فلمّا استشهد دعوه «أمير المؤمنين» (1) و لقّبوه بذلك دونا استحقاق له.

قال حنظلة بن خويلد: كنت عند معاوية فأقبل رجلان و معهما رأس عمّار بن ياسر و هما يختصمان فيه، كلّ يقول أنا قتلته، و كان رجل حاضرا المشهد، فقال:

سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعمّار: يقتل عمّار الفتة الباغية، فتعسا لكما و لما تختصمان فيه.

و كان النبيّ قائما على بناء مسجده و أصحابه يساعدونه، كان ينقل كلّ واحد منهم لبنة لبنة و صخرة صخرة إلّا عمّار فكان يحمل اثنتين معا، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك لحريص على الأجر، و إنّك من أهل الجنّة، و إنّك تقتلك الفئة الباغية (2).

قال سفيان بن ليلى: لمّا صالح الحسن معاوية ذهبت إليه في المدينة و دخلت عليه

ص: 250


1- بل دعي بذلك بعد التحكيم، لعن اللّه أبا موسى الأشعريّ.
2- بدايع الصنايع 1: 323، المحلّى لابن حزم 11: 97 و 304، فضائل الصحابة: 51، مسند أحمد 2: 161 و 164 و 206 و أخرجه في الأجزاء الثالث و الرابع و الخامس بطرق عدّة، صحيح البخاري 3: 207، صحيح مسلم 8: 186، سنن الترمذي 5: 333، المستدرك 2: 148 بطرق عدّة .. و 3: 386 بطرق عدّة أيضا، السنن الكبرى 8: 189، مجمع الزوائد 7: 241 بعدّة طرق .. و 9: 295 بعدّة طرق، سؤالات ابن أبي شيبة: 85، السنن الكبرى للنسائي 5: 75، خصائص أمير المؤمنين: 132.

و قلت: يا مذلّ المؤمنين، و عاتبته على الصلح كثيرا و على ترك القتال، فقال: يا سفيان، حملني عليه أنّي سمعت عليّا يقول: لا تذهب الليالي و الأيّام حتّى يجتمع أمر هذه الأمّة على رجل واسع السرم، ضخم البلعوم، لا يشبع و لا يموت حتّى لا يكون له عاذر في السماء و لا في الأرض، و إنّه معاوية، و إنّي عرفت أنّ اللّه بالغ أمره (1).

و نودي بالصلاة، فقال: هل لك يا سفيان في المسجد؟ قال: قلت: نعم، قال:

فخرجنا نمشي فمررنا على حالب يحلب ناقة فتناول منه قدحا فشرب قائما ثمّ سقاني ثمّ أتينا المسجد فصلّينا، ثمّ قال: ما جاء بك يا سفيان؟ قال: حبّكم و الذي بعث محمّدا بالهدى و دين الحقّ. قال: فابشر يا سفيان، إنّي سمعت عليّا يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يرد على الحوض أهل بيتي و من أحبّني من أمّتي كهاتين، و سوّى بين أصابعه [و سوّى بين اصبعين السبّابة و الوسطى- المؤلّف] و لو شئت لقلت:

كهاتين السبّابة و الوسطى، ليس لأحدهما فضل على الأخرى، ابشر يا سفيان فإنّ الدنيا ستتسع على البرّ و الفاجر، حتّى يبعث اللّه إمام الحقّ من آل محمّد (2).

جرت بين الإمام الحسين و بين مروان بن الحكم لعنه اللّه مشادّة لأنّ مروان أذن بلعن أهل البيت عليهم السّلام (3)، فقال له الحسين عليه السّلام: و اللّه لعنك اللّه على لسان نبيّه و أنت في ظهر أبيك.

و من جمله المعاصي التي صدرت من هذا العاصي و هي الطامّة الكبرى (4):

ص: 251


1- مناقب أمير المؤمنين للكوفيّ 2: 128 و فيه: يأكل و لا يشبع، و لا في الأرض حامد، و راجع: مقاتل الطالبيّين: 44، بحار الأنوار 44: 60، شرح ابن أبي الحديد 16: 44، كنز العمّال 11: 349.
2- مناقب أمير المؤمنين 2: 128.
3- أنا لا ألعن مروان وحده بل ألعن معه عمر بن الخطّاب لعنه اللّه لأنّه هو الذي زرع بني أميّة في ضلوع الإسلام.
4- الحديث عن معاوية بن أبي سفيان لعنهما اللّه.

أوّلها: النفاق و عداوة اللّه و رسوله و أهل بيت رسوله و حربه لعليّ عليه السّلام، و سمّه الحسن، و إذنه بقتل الحسين عليه السّلام.

الثاني: استخلافه يزيد الكافر مع علمه بفسقه و فجوره العلنيّين.

الثالث: قتله حجر بن عدي مع أصحابه من دون ذنب جنوه بل لأنّهم يحبّون أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يعبدون اللّه حقّ عبادته، و حجر رجل مشهور عند العرب، قيل: كان يصلّي في اليوم و الليلة ألف ركعة.

الرابع: استلحاقه زيادا فصيّره أخاه و دعاه يزيد عمّه، و هو زياد بن حسام (كذا) (1).

الخامس: كان ثملا عند هلاكه و قد وضع الصنم في عنقه، و مات على كفره القديم، و يزيد لعنه اللّه قصد تخريب مكّة و أشار على عبد الملك أن يرسل الحجّاج إلى مكّة ليقتل أهلها من أجل ابن زبير الذي لجأ من خوفهم إلى حرم اللّه (2).

و بعث مسلم بن عقبة إلى المدينة و أمره بقتل الأنصار و أولادهم ثأرا لقتلاه في بدر و أباحها لهم ثلاثة أيّام.

و لمّا قتل الملعون الإمام الحسين عليه السّلام قال متمثّلا:

ليت أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسل و أوعز يزيد إلى ابن مرجانة بخراب مكّة، فقال اللعين: و اللّه لا أجمع له قتل الحسين ابن بنت رسول اللّه و قتل أهل الحرم و تخريب بيت اللّه.

و قال أبو بكر البخاري: و أيّ كفر أشدّ من ذلك، من مجاهدة اللّه و غزو بيته

ص: 252


1- حسام لا ريب أنّه تصحيف من عبيد أو غيره، فلم يعرف لزياد أب بهذا الاسم فيما أعلم، و اللّه العالم.
2- إنّما لجأ إلى الكعبة ظنّا منه أنّها محترمة عند بني أميّة فلا يقتلونه فيها و يظلّ يطاولهم و يجاولهم إلى أن تدور الدائرة عليهم و هو ملعون مثلهم لأنّه استحلّ حرمتها.

الكعبة و لا فرق بينه و بين أبرهة الحبشيّ.

حجّ معاوية ذات سنة فلمّا فرغ من المناسك سأل: كيف حال فلانة، قالوا: هي حيّة ترزق، فقال: احضروها لي، و اسمها تلك المرأة (دارميّة الحجونيّة- كذا) و كانت سوداء اللون بادنة، و لها ثديان كبيران، فلمّا أقبلت على معاوية سلّمت، فردّ عليها معاوية السلام و قال: كيف حالك يابنة حام؟ فقالت: أنا لست حامية بل أنا امرأة من بني كنانة.

فقال معاوية: أتعلمين لماذا أحضرتك هنا؟ فقالت: لا. قال: أردت أن أسألك بماذا أحببت عليّا و أبغضتنا، و واليتيه و عاديتنا؟ فقالت: اعفني، فقال معاوية: كلّا لا بدّ من ذلك، فقالت المرأة: إذا كنت مصرّا فإنّي أحببت عليّا على عدله في الرعيّة و قسمته بالسويّة، و أبغضك على قتالك مع من هو أولى بالأمر منك، و طلبك ما ليس لك، و واليت عليّا على ما عقد له رسول اللّه من الولاية و حبّه للمساكين و إعظامه لأهل الدين، و عاديتك على سفك الدماء و شقّ العصى.

و لمّا سمع معاوية قولها قال: هذا بهند و اللّه يضرب المثل (1) و هند هي أمّ معاوية، فغضبت المرأة، فقال معاوية: لا تغضبي فما أردت إلّا خيرا، فإذا عظمت العجزية استوت الجلسة، و بكبر الثدي يكثر الغذاء للولد.

ثمّ قال معاوية: هل رأيت عليّا و سمعت كلامه؟ فقالت: نعم، رأيته و سمعت كلامه، فقال: كيف كان؟ قالت: يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت (البيت المظلم)، قال: صدقت، ثمّ قال: ألك حاجة؟ فقالت: إن ذكرت حاجتي تقضيها لي، قال: أجل، فقالت: مأة من الإبل حمراء و معها رعاتها و ما يلزمها، فقال معاوية: و ما تصنعين بها؟ فقالت: أجعل من لبنها طعامي و ما زاد عليّ أهديه إلى

ص: 253


1- ينبغي أن تكون العبارة هكذا ليتّسق معناها مع السياق: بهذه لا بهند و اللّه يضرب المثل.

الفقراء و المساكين و أصلح بها ذات البين، و أصل بها الرحم، و أكسب بها الخير و مكارم الأخلاق، و أصلح بها خلل العشائر و الفقراء و أمثال هذا، فقال: إن أعطيتك أكون عندك بمنزلة عليّ؟ فقالت: لا يا معاوية، و أنشدته هذين البيتين:

إذا لم أجد بالحكم منّي عليكم فمن ذا الذي بعدي يؤمّل للحكم

خذيها هنيئا و اذكري فعل ماجدحباك على حرب العداوة و السلم ثمّ قال: أعطوها ما أرادت، و قال لها: أما و اللّه لو كان عليّ ما أعطاك شيئا، قالت: اي و اللّه و لا وبرة واحدة من مال المسلمين يعطيني (1) لأنّه مؤمن و المؤمن لا يعطي مال المسلمين و أنت يا معاوية تعطيني مال المسلمين.

حجّ معاوية ذات عام فأخذ يد سعد بن أبي وقّاص و أجلسه معه على السرير و كان هذا دأبه، ثمّ أخذ يشتم عليّا عليه السّلام، فقال له سعد: ما أعجب أمرك، أدخلتني بيتك و أجلستني معك على سريرك، و رحت تشتم عليّا عليه السّلام، و اللّه إنّ لعليّ ثلاثا لو أنّ لي واحدة منها لكان خيرا لي ممّا طلعت عليه الشمس و غربت:

الأولى: في غزوة تبوك لمّا خلّفه النبيّ على المدينة فأرجف به جماعة من المنافقين فقالوا: لقد سئم رسول اللّه من عليّ و ثقل عليه، لمّا سمع عليّ ذلك كبر عليه و لحق بالنبيّ و قال: يا رسول اللّه، خلفتني مع النساء و الصبيان؟ فقال رسول اللّه: يا علي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي.

الثانية: لمّا كان يوم خيبر و أعطى الراية لأبي بكر و عمر و رجعا بها منهزمين من خيبر، قال: و اللّه لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله،

ص: 254


1- راجعها بسياقها العربي في «بلاغات النساء»: 73 مطبعة بصيرتي- قم المقدّسة، و سمّاها «الدارميّة الحجونيّة»، و قد وقع فيها حذف بسياق المؤلّف سوف تجده موفورا في البلاغات و من الحذف قولها: عاديتك .. الخ، قال: صدقت فلذلك انتفخ بطنك و كبر ثديك و عظمت عجيزتك، قالت: يا هذا بهند و اللّه يضرب المثل لا أنا .. الخ.

يفتح اللّه على يديه، كرّار غير فرّار.

و الثالثة: أنّه صهر رسول اللّه على فاطمة، و أولاده من فاطمة، و هذه المناقب أحبّ عندي ممّا طلعت عليه الشمس و غربت، ثمّ قام و نفض ثيابه و خرج من عند معاوية (1).

ص: 255


1- تخريج الحديثين: 1- حديث المنزلة: الهداية للشيخ الصدوق: 143، رسائل المرتضى 1: 333 و سمّاه متواترا بين الفريقين، الاقتصاد للطوسيّ: 222، الرسائل العشر له: 114، الكافي 8: 107، دعائم الإسلام للقاضي نعمان: 1: 16، علل الشرائع 1: 66 و 2: 474، كمال الدين و تمام النعمة للصدوق: 25، معاني الأخبار له: 57، كفاية الأثر للخزّاز القمّيّ: 135، تحف العقول: 430 و كتب كثيرة يتعسّر عدّها للشيعة أخرجت هذا الحديث. و أمّا كتب العامّة فهي: ذخائر العقبى: 120، فضائل الصحابة: 13، صحيح مسلم: 7: 120، سنن الترمذي 5: 302، المستدرك 2: 337 و 3: 109 و 133، السنن الكبرى 9: 40، مجمع الزوائد 9: 109، مسند الطيالسي: 28، المصنّف 5: 406 و 11: 226، مسند الحميدي 1: 38، مسند ابن الجعد: 301، المصنّف للكوفي 7: 496 و 8: 562، مسند ابن راهويه 5: 37، مسند سعد بن أبي وقّاص: 51، الآحاد و المثاني للضحّاك 5: 173، كتاب السنّة لعمرو بن عاصم: 551، مجلسان من إملاء النسائي: 83، السنن الكبرى للنسائي 5: 44، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 48، المعجم الصغير 2: 22، المعجم الأوسط 2: 126 و 3: 139، المعجم الكبير 1: 146 و كتب كثيرة يتعسّر حصرها. 2- حديث الراية: الكافي 1: 294، رسائل المرتضى 4: 104 و 105، الدعوات للراوندي: 63، رسائل الكركي 1: 63، الكافي 8: 351، تحف العقول: 346، روضة الواعظين: 127، الإفصاح للمفيد: 34، الإرشاد 1: 64، الاختصاص: 150، أمالي الطوسي: 171، الاحتجاج 1: 190 و 406 و 2: 64، الخرائج و الجرائح 1: 159، الأربعون حديثا لابن بابويه: 42، مناقب ابن شهر آشوب 1: 95. و ذكر ابن البطريق في العمدة (ص 97) عن ربيعة الجرشي أنّه ذكر عليّ عند رجل و عنده سعد بن أبي وقّاص، فقال له سعد: أتذكر عليّا، إنّ له مناقب أربعا لئن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إلي من كذا و كذا و ذكر حمر النعم، قوله: لأعطينّ الراية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، و قوله: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، و قوله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و نسي سفيان واحدة. الفضائل لشاذن بن جبرئيل: 152، إقبال الأعمال لابن طاووس 2: 369، الطرائف: 57، المستجاد من الإرشاد للحلّي: 74، الصراط المستقيم 1: 249، عوالي اللئالي 4: 88، الصوارم المهرقة للشهيد التستري رحمه اللّه: 84 هذا و كثير غيرها. و أمّا كتب العامّة: ذخائر العقبى: 73، فضائل الصحابة: 16، مسند أحمد 1: 99 و 189 و 4: 92، صحيح البخاري 5: 76، صحيح مسلم 5: 195 و 7: 120، سنن ابن ماجة 1: 45، سنن الترمذي 5: 302، السنن الكبرى للبيهقي 6: 362 و 9: 107، مجمع الزوائد 6: 150 و 9: 123، المصنّف 8: 520، مسند سعد بن أبي وقّاص: 51، بغية الباحث لابن أبي سلامة: 218، كتاب السنّة لأبي عاصم: 594، السنن الكبرى 5: 46 و 108، خصائص النسائي: 49، مسند أبي يعلى 1: 291 و 13: 522 و 531، صحيح ابن حبّان 15: 377 و 382، المعجم الأوسط 6: 59، المعجم الكبير 6: 152 و 6: 167 و 7: 133 و غيرها كثير.

بيّنة: وفد ضرار بن ضمرة النهشليّ على معاوية، فقال له معاوية: صف لنا عليّا، و كان ضرار من أصحاب عليّ عليه السّلام، فقال: اعفوني من ذلك، فقال معاوية: أقسمت عليك إلّا ما وصفته، قال: فإذا لم تقبل استقالتي فأنا أقول:

كان و اللّه بعيد المدى، شديد القوى، يتفجّر العلم من جوانبه، و تنطق الحكمة على لسانه، يستوحش من الدنيا و زهرتها، و يأنس بالليل و وحشته، و كان طويل الفكرة، غزير الدمعة، يقلّب كفّه، و يخاطب نفسه، كان فينا كأحدنا تقريبا إذا أتيناه، و يجيبنا إذا دعوناه، و نحن مع قربه منّا و تقريبه إيّانا لا نبتدئه لعظمته، و لا نكلّمه لهيبته، فإن تبسّم فعن أسنان مثل اللؤلؤ المنظوم، و يقدّم أهل الدين، و يفضّل المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، و لا ييأس الضعيف من عدله، و أقسم باللّه لرأيته في بعض أحواله و قد أرخى الليل سدوله و غابت نجومه و هو قابض على اللحية في محرابه، يتململ تململ السليم، و يبكي بكاء الحزين، و هو يقول في

ص: 256

بكائه: يا دنيا إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت، هيهات هيهات لا حان حينك، طلقتك ثلاثا لا رجعة فيك، عيشك حقير، و خطرك يسير، و عمرك قصير، آه من قلّة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق.

فوكفت دموع معاوية على لحيته و كفّها بكمّ (كفكفها بكمّه) و اختنق القوم جميعا بالبكاء، فقال معاوية: رحم اللّه أبا الحسن، لقد كان كذلك، فكيف كان حبّك إيّاه؟

قال: كحبّ أمّ موسى لموسى عليه السّلام، و أعتذر إلى اللّه من التقصير. قال: فكيف جزعك عليه يا ضرار؟ قال: جزع من ذبح ولدها في حجرها فما تسكن حرارتها، و لا ترقى دمعتها، ثمّ قام و خرج. فقال معاوية: و لكنّ أصحابي لو سئلوا عنّي بعد موتي ما أخبروا بشي ء مثل هذا (1).

و هذا الفصل من مختارات كلام أبي سعيد السمّان، و كلّ كلمة فيه حجّة للشيعة على المخالفين لأنّه من علماء أهل السنّة و من رواة أخبارهم و أحاديثهم.

ص: 257


1- و أنا أسأل ابن آكلة الأكباد لعنه اللّه و لعنها: و هل فيك صفة من هذا الصفات ليخبروا بها عنك، و أفضل صفاتك أكلك بمعي الكافر .. شرح الأخبار 2: 391، كشف الغطاء 1: 16، خصائص الأئمّة للرضي: 71، شرح أصول الكافي 7: 203، مناقب أمير المؤمنين لسليمان الكوفيّ 2: 51، الهداية الكبرى: 118، كنز الفوائد: 270، الأربعون حديثا لابن بابويه: 85، العمدة لابن البطريق: 16، شرح مأة كلمة لابن ميثم البحرانيّ: 227، الفضائل لابن شاذان: 97، ذخائر العقبى: 100، عدّة الداعي لابن فهد الحلّي: 195، حلية الأبرار للبحراني 2: 212، بحار الأنوار 33: 251، شرح ابن أبي الحديد 18: 225، نظم درر السمطين 135، فتح الملك العلي: 79، تاريخ مدينة دمشق 24: 401.

الباب السادس و العشرون في عداد الأشرار من بني أميّة

اشارة

و هم معاوية بن أبي سفيان، و ابنه يزيد، و مروان بن الحكم، و عبد الملك بن مروان، و الوليد بن عبد الملك، و سليمان بن عبد الملك، و الوليد بن يزيد بن عبد الملك، و يزيد بن الوليد بن عبد الملك، و إبراهيم بن الوليد المخلوع، و مروان بن محمّد بن مروان.

و أخذ معاوية البيعة لنفسه سنة أربعين بعد قتله الحسن، و دام ملكه عشرين سنة و خمسة أشهر و خمسة عشر يوما في دمشق مقرّ حكمه، و وصل إلى الدرك الأسفل من النار و هو سكران من خمر معتقة سبع سنوات، و وضع الصنم في عنقه، و قبره في دمشق، و هلك في رجب سنة ستّين من الهجرة و عمره ثمان و ثمانون سنة.

و كانت البيعة ليزيد في رجب سنة ستّين، و دام ملكه ثلاث سنوات و ثمانية أشهر، و قيل: أربع سنين و ستّة أشهر، و هلك في دمشق و دفن بين القذارات، و كان عليه يتبرزون، و إلى الآن هو باد للعيان و الناس يتفرّجون عليه. و قيل: خرج يتصيّد و جمح به الفرس فألقاه أرضا فقضى عليه.

و بايعوا بعده ولده معاوية في ربيع الأوّل سنة أربع و ستّين، و دام حكمه أربعين يوما.

ص: 258

ثمّ بايعوا بعده عبد اللّه بن الزبير في مكّه سنة أربع و ستّين و دام حكمه شهرين و اثني عشر يوما و قتل في زمان عبد الملك بن مروان و كنيته أبو بكر.

و بعد معاوية بن يزيد بايعوا مروان بن الحكم لعنهما اللّه في أوّل محرّم سنة خمس و ستّين، و كان مدّة حكمه شهرين و تسعة أيّام، و عمره واحد و ستّون سنة.

و بايعوا بعده عبد الملك بن مروان بعد وفاة أبيه مباشرة في النصف من شهر رمضان سنة خمس و ستّين، و دام ملكه واحدا و عشرين سنة و شهرا و نصف الشهر، و مات في دمشق يوم الخميس النصف من شوّال سنة ستّ و ثمانين و عمره ثمان و خمسون عاما، و كنيته أبو الوليد.

و بايعوا بعده ابنه الوليد بن عبد الملك بن مروان، و كنيته أبو العبّاس، و مات بدمشق في النصف من جمادى الثانية سنة ستّ و تسعين، و عمره سبع و أربعون سنة.

و بايعوا بعده أخاه سليمان بن عبد الملك و كان يكنّى أبا أيّوب في النصف من رجب سنة ستّ و تسعين، و كانت مدّة سلطانه سنتين و ثمانية أشهر و خمسة أيّام، و مات يوم الجمعة بدابق من أرض قنّسرين سنة تسع و تسعين، و عمره خمس و أربعون سنة، و صلّى عليه عمر بن عبد العزيز.

و بايعوا بعده عمر بن عبد العزيز و كنيته أبو حفص، في سنة تسع و تسعين، و كانت خلافته سنتين و خمسة أشهر و أربعة أيّام، و توفّي بدير سمعان يوم الجمعة من رجب سنة أحد و مأة.

و بايعوا بعده يزيد بن عبد الملك و كانت خلافته أربع سنين و شهرين و يومين، و توفّي يوم الجمعة بالبلقاء من أرض دمشق في شعبان سنة خمس و مأة، و عمره ثلاثون سنة و ثمانية أشهر.

و بايعوا بعده هشاما بن عبد الملك أبا الوليد الأحول سنة خمس و مأة، و كانت

ص: 259

خلافته تسعة عشر سنة و سبعة أشهر و أحد عشر يوما، و توفّي في (بصاقة- كذا) يوم الأربعاء من ربيع الأوّل سنة خمس و عشرين و مأة، و عمره خمسون سنة و أربع سنين.

و بايعوا بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك أبا العبّاس، في سنة مأة و خمس و عشرين، و كانت خلافته سنة و شهرين و عشرين يوما.

و بايعوا بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك في دمشق سنة ستّ و عشرين و مأة.

و بايعوا بعده إبراهيم بن الوليد أبا إسحاق في سنة مأة و عشرين و كانت خلافته شهرين و عشرة أيّام، و خلع نفسه يوم الاثنين من صفر سنة مأة و سبع و عشرين.

و بايعوا بعده مروان بن محمّد بن مروان أخا عبد الملك في صفر سنة مأة و سبع و عشرين و دامت خلافته خمس سنين و شهرين، و قتل سلخ ذي الحجّة سنة مأة و اثنين و ثلاثين في قرية من قرى مصر و عمره ستّون سنة.

و عدد ملوكهم خمسة عشر ملكا أوّلهم عثمان بن عفّان، و كانت مدّة ملكهم ألف شهر.

الفصل الأوّل

و لمّا عادت عائشة من البصرة و استقرّت في المدينة كتبت كتابا إلى معاوية ترغبه في قتل أمير المؤمنين و تحرّضه عليه فجمع معاوية جيشه و أقبل يريد حرب أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان مالك الأشتر يحارب مع أمير المؤمنين حتّى غلبوا معاوية و أوشك الفأر أن يقع في المصيدة و كادوا يقبضون على معاوية قبض اليد، فلمّا رأى عمرو بن العاص الواقعة حلّت بهم أمر برفع المصاحف على الرماح و نادى مناديه:

بيننا و بينكم كتاب اللّه تعالى، فلمّا رأى أصحاب الإمام ذلك أقبلوا عليه و قالوا: مر صاحبك الأشتر أن يعود من القتال و إلّا قتلناك، فنصحهم أمير المؤمنين عليه السّلام و بالغ

ص: 260

في نصحهم و أخبرهم بأنّ فعلهم هذا حيلة، فلم يقبلوا قوله، فأرسل إلى مالك:

أوقف الحرب و تعال إليّ، فقال مالك: قولوا لأمير المؤمنين يمهلني لحظة حتّى أقبض على معاوية، فأرسل إليه أمير المؤمنين: قد أحاط العسكر بخيمتي لقتلي فإن لم تعد فإنّك لن تراني بعد اليوم.

و أخيرا قرّروا أن يحكّموا بينهم حكما و يخلدوا إلى الصلح، و يأتي من قبل معاوية عمرو بن العاص، فلم يرتضوا عبد اللّه بن عبّاس و قالوا: لن نرضى به (1) و قالوا: لا نرضى إلّا بأبي موسى الأشعريّ، فلم يرضى به أمير المؤمنين، فشغب عليه العسكر و أجبروه على الرضا به و لكن على شرط أن يعمل بكتاب اللّه و إذا ترك العمل بكتاب اللّه سقط من الحكميّة.

و في الطريق قال له عمرو بن العاص: ادنوا منّي يا أبا موسى حتّى أكلّمك، فدنى منه فعلم عمرو بن العاص بأنّ الرجل أحمق مغفّل يدني منه أذنه في صحراء تخلو من المحتشم، ثمّ قال له: يا أبا موسى، عليّ و معاوية كلاهما فتنة للناس فاعزل أنت صاحبك عليّا و أعزل أنا صاحبي، و نستخلف ابن أخيك و يكون العالم بين أيدينا، قال هذا الشيخ الأحمق: و كذلك نفعل. فلمّا وصلوا الكوفة (2) فقال عمرو بن العاص لأبي موسى: تقدّم فأنت صاحب رسول اللّه و أسنّ منّي، فرقى أبو موسى المنبر و خطب الناس و قال: أيّها الناس، ارتضاني أصحاب عليّ حكما من قبلهم، فأنا قد عزلته و انتزع خاتمه من اصبع يده اليمنى و وضعه في يده اليسرى و قال: كما نزعت خاتمي هذا، ثمّ نزل.

ص: 261


1- يقول المؤلّف إنّ عمرا بن العاص أبى ذلك و لكن التاريخ يردّه لأنّ ابن العاص لا سلطة له على مختار أصحاب الإمام.
2- لم تكنن الكوفة مسرح الأحداث إنّما هي دومة الجندل موعد لقائهم.

و صعد بعده عمرو بن العاص المنبر و قال بعد أن خطب الناس، قال: كان أبو موسى حكما من قبل علي فعزله و أنا عزلته كما عزله، و أجلست معاوية على منبر الخلافة و أثبتّه فيها، و سلّ سيفه من غمده ثمّ أغمده و قال: هكذا، فوّضت لمعاوية الإمامة و الخلافة.

فارتفعت الضجّة من الناس و نادى أبو موسى: ما على هذا اتفقنا، فاقتتل الناس بأيديهم و بالحجارة و قبضوا على رجل عمرو بن العاص و سحبوه، فاستطاع تخليص نفسه، و قال أبو موسى لعمرو: ويحك أغضبت عليّا عليّ فأشركني في الأمر، قال: سوف أفعل.

و قال بعضهم: إنّ المحادثات وقعت في دومة الجندل، و قال بعضهم كذلك بعث الإمام أمير المؤمنين ألفي رجل لرصد الحادثة إلى أن كان ما كان، و بعد هذه الحادثة انشقّ من عسكر أمير المؤمنين عليه السّلام سبعون ألف فارس و قالوا: أنت عزلت نفسك برضاك بالحكمين و لو كنت مستيقنا بحقّك لما رضيت بهما.

فقال أمير المؤمنين: كنت مع رسول اللّه في صلح الحديبيّة و أنا كتبت الكتاب بين رسول اللّه و بين المشركين و فيه «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما تصالح عليه محمّد رسول اللّه و قريش» فقال (سراقة- المؤلّف) سهيل بن عمرو: لو كنت أعلم بأنّك رسول اللّه لما خاصمناك، فقال لي رسول اللّه: يا علي، امسح رسول اللّه و اكتب مكانها محمّد بن عبد اللّه، فأبيت أن أفعل ذلك تأدّبا منّي و رعاية لمقام النبوّة، فمحاها النبيّ بيده، فهل كان شاكّا برسالته؟ و هل قدح هذا المحو فيها؟ فقالوا: لا.

فرجع إلى صفّ أمير المؤمنين ثلاثون ألفا من المخالفين و بقي من عداهم على كفرهم و تبرّؤوا من عليّ و عثمان، و قتل جميعهم في النهروان بيد أمير المؤمنين إلّا عشرة أنفس منهم هربوا، ولاذ اثنان منهم بجزيرة العرب، و اثنان بكرمان، و اثنان بعمّان، و أربعة منهم بسيستان.

ص: 262

الباب السابع و العشرون في أحوال معاوية بن مسافر الذي اشتهر بين الناس بمعاوية بن أبي سفيان بن حرب

الفصل الأوّل في ولادته

قال الشيخ الزاهد الحافظ أبو سعيد إسماعيل بن عليّ السمّان- و هو من علماء أهل السنّة و محدّث مشهور من الطبقة الأولى- في كتاب «مثالب بني أميّة»: كان مسافر بن عمرو يخالل هندا أمّ معاوية آكلة كبد حمزة عمّ رسول اللّه، و قد زنى بها مرارا، و كانت هذه الصلة الحرام بينهما سنين طويلة، و كان يعدها الزواج بها و لكنّ التقدير حال دون ذلك إلى أن اشتملت منه على جنين، و مرّ عليه في بطنها ستّة أشهر فخاف مسافر من الفضيحة فهرب إلى النعمان في الحيرة.

و زوّجت هند من أبي سفيان بسعي بعض الناس و زفّوها إلى بيتها بعد أن عقد عليها و تعلّلوا بشتّى العلل حتّى إذا مرّ عليها ثلاثة أشهر في بيت أبي سفيان ولدت معاوية على فراشه، و لمّا بلغت أخبار هند مسافرا، قال:

ص: 263

فأصبحت كالمسلوب جفن سلاحه يقلّب بالكفّين قوسا و أسهما (1) و يشهد بهذا عداوتهم البالغة لأهل البيت و لرسول اللّه و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، لا يحبّك إلّا مؤمن تقيّ، و لا يبغضك إلّا منافق شقيّ.

و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده ذكر عليّ بن نصر المعروف بأبي الحسن البغداديّ الحنفيّ في تصنيفه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان ذات يوم يطوف فأقبل عليه شيخ بيده عصى و على رأسه عمامة من صوف و يرتدي جبّة صوف، فسلّم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه، استغفر اللّه لي ليرحمني اللّه تعالى، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اغرب يا ملعون عن وجهي، إنّ عملك إلى ضياع، و أنت من أهل النار، فلمّا خرج من عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك الشيخ قال عليّ عليه السّلام: لم يخرج أحد قبل هذا من حضرتك محروما من أهل الحاجات، فما بال هذا الشيخ قد طردته؟ فقال: يا علي، هذا ابليس طريد اللّه سبحانه.

فركض عليّ وراء إبليس ليقتله، فلمّا رأى إبليس بأنّ عليّا يقصده بالقتل لاذ

ص: 264


1- جاء عن النوفلي عن أبيه: إنّ مسافر بن عمرو بن أميّة كان من فتيان قريش جمالا و شعرا و سخاءا، قالوا: فعشق هندا بنت عتبة بن ربيعة و عشقته، فأتهم بها و حملت منه. قال بعض الرواة: فقال معروف بن خربوذ: فلمّا بان حملها أو كاد، قالت له: اخرج، فخرج حتّى أتى الحيرة، فأتى عمرا بن هند فكان ينادمه، و أقبل أبو سفيان بن حرب إلى الحيرة في بعض ما كان يأتيها فلقي مسافرا فسأله عن حال قريش و الناس، فأخبره و قال له فيما يقول: و تزوّجت هند بنت عتبة فدخله من ذلك ما اعتلّ معه حتّى استسقى بطنه، قال ابن خربوذ: فقال مسافر في ذلك: ألا إنّ هندا أصبحت منك محرّماو أصبحت من أدنى حموتها حمى و أصبحت كالمقمور جفن سلاحه يقلّب بالكفّين قوسا و أسهما قال: و خرج يريد مكّة فمات بموضع يقال له هبالة و دفن بها، انتهى. (النصائح الكافية لمحمّد بن عقيل: 113).

بالفرار ثمّ وقع، فلحق به عليّ عليه السّلام فجلس على صدره ليقتله، فضحك إبليس بوجه الإمام، فقال له عليّ: لم تضحك يا عدوّ اللّه؟ فقال: لن تستطيع قتلي لأنّي من المنظرين و لكنّي أبشّرك بشارة عظيمة، فقم عن صدري، فقام عليّ عليه السّلام عن صدره، فقال إبليس: ما تركت من أعداءك أحدا لم أشرك أباه في أمّه.

يقول مؤلّف هذا الكتاب: صدق قوله تعالى لإبليس: وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (1) و أمثال هذا، و اللّه أعلم بالصواب.

الفصل الثاني في ذكر الفرق الذين يختلفون فيه

ينقسم الناس الذين يدينون بالإسلام إلى خمس فرق: الفرق الأولى الجليّة (2) هم النواصب، و هؤلاء أهل البغي و أشدّ الناس بغضا لأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

الثانية الجليّة، الخوارج و هم القائلون: لا حكم إلّا للّه، و هؤلاء يدعون المحكّمة، و هذه الفرقة تلعن معاوية أيضا.

الثالثة الجليّة، المخطئة و هم الذين يرون التحكيم خطأ و لكنّهم لا ينكرون إمامة عليّ عليه السّلام.

الرابعة الجليّة، المرجئة و هم الذين يتوقّفون في الحكمين فلا ينسبونهم إلى حقّ و لا إلى باطل، و هذه الطائفة يهبطون بمنزلة عليّ عليه السّلام إلى الموضع الأدنى إلّا أنّهم لا يكفّرونه.

ص: 265


1- الإسراء: 64.
2- «أوّل جلى» هذا قول المؤلّف و لم أدرك معنى جلي و ترجمتها إلى ما فهمته «الجليّة» و لست واثقا من معناها، فعلى القارئ أن يتنبّه لذلك.

و يقول أحمد بن الحسن بن الحسين البيهقيّ: إنّ معاوية أخطأ و لم يخرج عن الإيمان لعداوته لعليّ عليه السّلام و حربه إيّاه.

و يقول مصنّف هذا الكتاب: إنّ معاوية لم يؤمن لكي يخرج من الإيمان و إنّما خرج من عالم الكفر إلى عالم النفاق و رجع بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى كفره، ثمّ إنّ عليّا نفس الرسول و حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفر و كذلك الحرب على عليّ عليه السّلام، و كما حلّ قتال أهل اليمامة بمنعهم الزكاة عن أبي بكر و أغير عليهم و سبيت ذراريهم و سمّوا كفّارا و مرتدّين فكذلك الحال مع محاربي أمير المؤمنين عليه السّلام فإنّهم كفّار مرتدّون.

الخامسة الجليّة، المعتزلة، و هؤلاء افترقوا فرقتين: فرقة تفسّق معاوية و فرقة تكفّره، و الحاكم صاحب الرسالة المفسّر يلعنه مع إبليس و إخوانه المجبّرة.

الفصل الثالث في الآيات التي تدلّ على أنّ معاوية واجب اللعن

اعلم أنّ معاويه كان ظالما و غاصبا حقّ أهل البيت و قال اللّه تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (1) و ثبت أيضا و قد تقدّم ذكره: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2) و أولوا الأمر هنا عليّ عليه السّلام و بمقتضى العطف تكون طاعته واجبة كطاعة اللّه و رسوله، و من خالف اللّه و رسوله كفر، و استحقّ اللعنة، و انظر إلى معاوية أين بلغ بمخالفته عليّا عليه السّلام.

قال تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً

ص: 266


1- هود: 18.
2- النساء: 59.

أَلِيماً (1) و هؤلاءهم الذين كانوا يخذّلون الناس عن عليّ في حرب معاوية و لم يخرج أحد منهم معه كما فعلوا مع رسول اللّه في تبوك و الحديبيّة، فقال اللّه تعالى عن لسان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً (2).

و الدليل على كونه ظالما ما يراه فقهاء العامّة من جواز تولّي القضاء الظالم و يجور حكم الكاذب نظير أبي هريرة و غيره كمعاوية فقد بلغ هذان الاثنان الولاية و القضاء، فظهر من هذا التمثيل أنّ معاوية كاذب و ظالم، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

معاوية فرعون هذه الأمّة، و عمرو بن العاص سامريّها، و أبو موسى الأشعريّ جاثليقها، و إنّه سفير بين اليهود، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ (3)، وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (4).

و استحقّ اللعنة بادّعائه الكاذب للإمامة و الخلافة، قال في آية المباهلة (عن سبيل المفهوم- كذا): فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (5)، و قال في آية الإفك: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (6) و إفكهم على عليّ عليه السّلام اتّهامهم إيّاه بدم عثمان لعنه اللّه و أنّه قاتل له.

و لقد أجمعت الأمّة على كفر النصارى بقولهم حيث قال اللّه تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (7) و قال المجسّمة: إنّ اللّه جسم فكفروا أيضا بقولهم

ص: 267


1- الفتح: 16.
2- التوبة: 83.
3- المؤمن: 37.
4- طه: 79.
5- آل عمران: 61.
6- النور: 23.
7- المائدة: 17.

هذا و اعترفوا بالحجج المناقضة لمذهبهم لكنّهم قالوا: بأنّنا نقول أنّه جسم لا كالأجسام.

و كتم معاوية الحقّ عن أهل الشام و ستر مناقب عليّ الواردة في القرآن و السنّة عنهم، و قال اللّه تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (1) و قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (2) و قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (3) و قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ (4) الآية.

عن أبي ذر- كما ذكر صاحب الكشّاف- أنّه قال: قام رجل بعد الصلاة و سأل الناس فلم يعطه أحد شيئا، فرفع يده و قال: أشهد أنّي سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئا، و كان عليّ عليه السّلام راكعا فأشار إليه بخنصره فأخذ السائل من حنصر يده اليمنى خاتما فلمّا فرغ النبيّ من الصلاة، قال: اللهمّ إنّ أخي موسى سألك فأعطيته سؤله، قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (5) الآية، فقلت: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (6)، و قلت: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ (7) ثمّ قال: اللهمّ و أمّا محمّد صفيّك يقول: ربّ اشرح لي صدري و اجعل لي وزيرا من أهلي، عليّا أخي، اشدد به

ص: 268


1- البقرة: 89.
2- البقرة: 159.
3- النور: 55.
4- المائدة: 55.
5- طه: 25.
6- طه: 36.
7- القصص: 35.

أزري، الآية (1)، فلم يتمّ دعائه حتّى نزل قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ الآية.

روى صدر الأئمّة موفّق بن أحمد و هو من علماء أهل السنّة بإسناده عن سلمان، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: عليكم بعليّ بن أبي طالب فإنّه مولاكم فأحبّوه، و كبيركم فاتّبعوه، و عالمكم فأكرموه، و قائدكم إلى الجنّة فعزّزوه، و إذا دعاكم فأجيبوه، و إذا أمركم فأطيعوه، و أحبّوه بحبّي، و أكرموه بكرامتي، ما قلت لكم في عليّ إلّا ما أمرني ربّي جلّت عظمته، و كاتم هذا النصّ (كاتم الحقّ.

قاضي القضاة) ذكر في كتابه «المحيط» أنّ خلافة عليّ أثبت و أحكم من خلافة الشيخين لأنّ خلافته بالنصّ و الاختيار و خلافة الخلفاء قبله بالاختيار وحده و أمّا فضائله في سورة هل أتى فهي مرتكزة على تلك الحال.

و ذكر الطحاويّ في مشكل الآثار، و الحاكم المفسّر في جلاء الأبصار: لمّا رجع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من حجّة الوداع ما كان عليّ معه بل كان في اليمن، فتوقّف النبيّ في الغدير حتّى لحق به عليّ عليه السّلام فثنّى ردائه أربع ثنيات و وقف هناك و بعد الخطبة قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله، و قال عمر: بخ بخ يا علي أصبحت مولاي و مولى جميع المؤمنين و المؤمنات.

و كان حسام الدين من «العدليّة» و قال أبو القاسم بن إبراهيم بن أحمد المؤذّن:

كانت الواقعة يوم الخميس فقد دعى النبيّ عليّا عليه السّلام و أخذ بضبعه و رفعه حتّى بان بياض إبطيهما و يقال بأنّه ألبسه عمامته و أرخى لها رغزتين على كتفيه و قال: هكذا نزلت الملائكة، ثمّ قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه .. الخ، و لم يفترقا حتّى نزلت

ص: 269


1- راجع الآيات 25- 36 من سورة طه.

الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (1) فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: شكرا للّه على إكمال الدين و رضى الربّ برسالتي و الولاية لعليّ عليه السّلام، و أنشد حسان شعرا يطابق مقتضى الحال بعد أن أذن له النبيّ و قد مرّ شعره، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من كتم علما علمه ألجم بلجام من نار (2). و معاوية كتم عددا من النصوص فمكانه معلوم أين يكون.

و قال تعالى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ (3) و معاوية قتل الإمام الحسن، و قتل أربعين ألفا في صفّين من المهاجرين و الأنصار، و قاتل المؤمن ملعون بنصّ القرآن و إجماع الأمّة.

و قال تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) و قال: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ (5) و اتفقت الأمّة على أنّ معاوية باغ فحلّ دمه حينئذ.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أعان على قتل امرئ مسلم و لو بسطر كلمة لقي اللّه يوم القيامة مكتوبا على جبهته آيس من رحمة اللّه.

و قال: من أخاف أهل المدينة إخافة ظلما فعليه لعنة اللّه و غضبه يوم القيامة، و لا يقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا (6).

و أرسل معاوية (عدي- المؤلّف) بسر بن أرطاة من قبله إلى المدينة ليأخذ منهم

ص: 270


1- المائدة: 3.
2- مسند أحمد 2: 263 و 305، المستدرك 1: 101، المعجم الأوسط 4: 183، تاريخ بغداد 2: 32، لسان الميزان 6: 66.
3- النساء: 93.
4- الشورى: 42.
5- الحجرات: 9.
6- ترجم المؤلّف «الصرف» برگشتن و هذا يدلّ على أنّه لم يعرف معناه لأنّ الصرف و العدل، الواجب و المندوب.

البيعة، فلمّا صعد المنبر قالت أمّ سلمة: هذه بيعة ضلالة، و أذنت لولدها عمر بن أبي سلمة أن يبايع خوفا من القتل.

روى عين الأئمّة أنّ لعن معاوية جائز بعشر وجوه:

الأوّل: خروجه من طاعة أمير المؤمنين.

الثاني: سلّه السيف بوجه أمير المؤمنين.

الثالث: غصبه حقّ الإمام الهمام.

الرابع: إنكار أهل البيت.

الخامس: ادّعائه الإمامة.

السادس: كتمان فضل عليّ.

السابع: لعن عليّ على المنابر.

الثامن: اتّهامه بدم عثمان و هو منه بري ء.

التاسع: توليته يزيد الكافر.

العاشر: قتل الحسن بن عليّ عليهما السّلام و الوصيّة بقتل الحسين عليه السّلام.

فتبيّن من ذلك أنّه يستحقّ اللعنة بما فعل و لم يتب قبل الموت كسائر المؤمنين و المؤمنات كما قال أبو هاشم: ما فتئ معاوية يقول: لو لا هواي في يزيد، لأبصرت رشدي و عرفت قصدي.

و قال أبو علي بلعنه ظاهرا، لأنّ محبّته ليزيد و توليته على الناس تنفي توبته.

الفصل الرابع في الأخبار التي تدلّ على أنّ معاوية ملعون

قال عبيد اللّه بن عمرو بن العاص: ذهبت إلى خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: ليدخل النار من مات على غير ملّتي، فطلع معاوية.

ص: 271

قال صاحب المصابيح: يطلع عليكم رجل من أهل النار فطلع معاوية (1).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: معاوية في تابوت من نار مصمت عليه (2).

ذكر الحافظ عن ابن مسعود: لكلّ شي ء آفة و آفة هذا الدين بنو أميّة.

عن ابن عبّاس: لو اجتمع الناس على حبّ عليّ لما خلق اللّه النار، و هذا دليل على أنّ مبغضه في النار و محبّه في الجنّة (3).

ص: 272


1- مجمع الزوائد 1: 112 فطلع فلان و لم يسمّه. و بتر العقيلي لعنه اللّه الحديث و قال: عن عبد اللّه ابن عمر بن العاص قال: كنت عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: أوّل من يطلع عليكم من هذا الفجّ، و ذكر الحديث و لا يتابع عليه (3: 380). أمّا عبد اللّه بن عدي في الكامل فقد قلّب الحديث أو رواه مقلوبا عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الآن يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة، فطلع معاوية 2: 331. و أنا أقول: لعن اللّه هذه الجنّة و لعن اللّه من يدخل فيها، و مثله فعل ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 59: 98، ميزان الاعتدال 1: 495 و 2: 623، و فيه: الآن يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة فطلع معاوية، فقال: أنت يا معاوية منّي و أنا منك لتزاحمني على باب الجنّة كهاتين، و أشار بإصبعيه. أقول: لم يتعقّب هذا الحديث الذهبيّ ابن الزانية لعنه اللّه، و إذا أدخل اللّه معاوية الجنّة فينبغي أن لا يدخل أحدا النار حتّى فرعون و هامان لأنّه ظلم و اللّه منزّه عنه. توضيح ذلك أنّ قاموس جرائم معاوية لو جمعناه لكان أضخم حجما من تاج العروس للزبيدي و لسان العرب لابن منظور، ثمّ هو مع هذه الجرائم كلّها يدخل الجنّة ثمّ يأتي اللّه إلى عباده فيدخل هذا على زنية زناها و ذاك على خمر شربه أو نفس قتلها النار، إنّ هذا لظلم عظيم و لو حابا أحدنا من الخلق مجرما فأكرمه لبصقنا في وجهه و نتفنا لحيته فكيف يحابي الخالق الرحيم هؤلاء القساة المجرمين الظالمين لعنهم اللّه.
2- شرح الأخبار 2: 536، بحار الأنوار 33: 210، مناقب أهل البيت: 466، الغدير 10: 142، و سمّى مولانا الأمينيّ الحديث مرفوعا مشهورا، شرح ابن أبي الحديد 15: 176، تاريخ الطبري 8: 186، النصائح الكافية: 261 و ليس في هذه الأحاديث الجملة: مصمت عليه.
3- الرسالة السعديّة للحلّي: 23، كشف الغطاء 1: 8 و 7، أمالي الصدوق: 755، عوالي اللئالي 4: 86، الجواهر السنيّة للحرّ العاملي: 236، بحار الأنوار 29: 42 و 39: 246 و 248 و 109: 32، مقام عليّ لنجم الدين العسكريّ: 39، ينابيع المودّة 1: 272 و 376 و 2: 290 و 293، الإمام عليّ في آراء الخلفاء: 68.

و روي عن صاحب المصابيح عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: يموت معاوية على غير ملّتي (1).

و قال أبو علي: حكم المجبّرة و المجسّمة حكم من ارتدّ، و قال أبو هاشم: حكم أهل الكتاب و هم كفّار على كلا القولين، و كان معاوية لعنه اللّه رئيس المجبّرة.

و قال صاحب المصابيح: مات معاوية و الصليب في عنقه.

و قال الأحنف بن قيس: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: يموت معاوية على غير دين الإسلام فتخالج في قلبي شي ء من ذلك- يعني حين قال عليّ كلمته- قلت في قلبي:

كيف يكون ذلك إلى أن قصدت الشام فسمعت عن مرض معاوية، فذهبت إلى عيادته فرأيته و قد أسند ظهره على الحائط، فوضعت يدي على صدره فرأيت الصنم معقودا إلى عنقه ثمّ حوّل وجهه إليّ فرآني أبكي، فقال: أنا اليوم أمثل ...

فقال الأحنف: فأجبته: أنا لا أبكي عليك بل أبكي لما سمعته من عليّ أنّه قال:

يموت معاوية و الصنم في عنقه .. فقال: لعلّك استعظمت هذا يا أحنف، أمرني الطبيب بهذا فإنّه صنمي إنّه نافع. قال الأحنف: فخرجت من عنده فما بلغت المنزل حتّى سمعت الصراخ عليه و قائل يقول: مات معاوية.

و قال قاضي القضاة: إنّ معاوية مات مستشفيا بالصنم.

و يقال: إنّ أهل اليمن على هذه العقيدة بأنّ معاوية و أباه كافران و يقولون: لقد تقمّص الكفر هؤلاء و تسربلوه.

و قال عبد اللّه بن عبّاس: كنت في مسجد المدينة يوما و كنت أصلّي صلاة بالإخفات، و قد تفرّق الناس و بقي أبو سفيان و ابنه معاوية، و كان أبو سفيان قد أضرّ، فقال لمعاوية: يا بني، هل في المسجد أحد؟ فقال معاوية: لا يا عبد اللّه،

ص: 273


1- مناقب أمير المؤمنين 2: 311، المسترشد: 534، شرح الأخبار 2: 147 و 153 و 531، بحار الأنوار 33: 187 و 209 و غيرها من الكتب.

و كنت وراء السارية، قال: انظر بالمصباح، فتناول معاوية المصباح و أخذ يسلّطه على الأطراف و الأكناف و كنت أدور حول السارية حيثما دار، فقال: ليس في المسجد أحد، فقال أبو سفيان: يا بني، أوصيك بدين الآباء و الأجداد، و إيّاك و دين محمّد فإنّه سبب فقرنا، و لا يهولنّك قول محمّد من البعث و النشور. و قال معاوية: ذاك رأيي يا أبتاه.

و جاء في الرواية أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: اللهمّ العن معاوية و مروان و أولادهما و أولاد أولادهما، و هذا المعنى علمه النبيّ بالوحي كما علم نوح حين قال: وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (1).

و ذكر أحمد بن الحسن البيهقيّ في كتابه فضائل الصحابة عن نصر بن عامر، قال:

دخلت المسجد و أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقولون: نعوذ باللّه من غضب اللّه و غضب رسوله، فقلت: ممّن ذاك؟ قالوا: معاوية قام الساعة فأخذ بيد أبي سفيان فخرجا من المسجد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لعن اللّه التابع و المتبوع، ربّ يوم لأمّتي من معاوية ذي الأستاه، قالوا: يعني الكبير العجز (2).

و قال البيهقيّ: قال مسلمة: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جالسا فاجتاز به معاوية و معه أبو سفيان و أخو معاوية أحدهما يسوق البعير و الآخر يقوده، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

ص: 274


1- نوح: 27.
2- بحار الأنوار 33: 191 و لم يعرف المؤلّف معنى ذي الأستاه فترجمها هكذا: «و ذي الاستاه عبارت از شخصى است كه بر مال غيرى متصرّف شود و با ارباب رد كند ... الخ» الترجمة: «و هو الذي يستولي على مال الغير و يردّه على الأغنياء ..» (ص 216)، شجرة طوبى 1: 95، أحاديث أمّ المؤمنين عائشة 2: 235، مجمع الزوائد 5: 242، و أبهم اسم معاوية لعنه اللّه و أباه و بتر الحديث و قال: رواه الطبرانيّ و رجاله ثقات، المعجم الكبير 17: 176، شرح ابن أبي الحديد 4: 79 و صرّح باسم معاوية، الطبقات الكبرى 7: 78، أسد الغابة 3: 76 و قال: أخرجه الثلاثة، الإصابة 3: 465.

لعن اللّه القائد و الراكب و السائق.

و قال البيهقيّ: كان عليّ عليه السّلام يقنت بلعن معاوية (1).

و روى صاحب المصباح عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم التميميّ: وقع يوما خصام بين معاوية و أبي ذر، فقال أبو ذر: يا معاوية، إنّ أحدنا فرعون هذه الأمّة، فقال معاوية: أمّا أنا فلا .. و صدق بالحديث.

و خاطب أبو ذر معاوية لما هو عليه من الخبث بما خاطب به النبيّ أهل مكّة: أنا و إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، و بالطبع هذا القول مع كفّار مكّة، و أمّا حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهو: معاوية فرعون هذه الأمّة.

و روي أيضا عن رجل قال: ذهبت إلى مكّة لأسلم فلمّا دخلت المسجد سمعت رسول اللّه يقول: أربعة في الدرك الأسفل من النار: نمرود بن كنعان، و شدّاد بن عاد، و فرعون موسى، و رجل يبايع بعدي بباب بابل، و لو لا مقالة فرعون أنا ربّكم الأعلى لكان أسفل منه- و في رواية الحافظ: لكان تحته- فلمّا استشهد أمير المؤمنين قصدت العراق فلمّا بلغت باب بابل رأيت معاوية على المنبر يأخذ من الناس البيعة له، فعرفت من هو الرابع أنّه معاوية و كان من المنافقين الذين قال اللّه فيهم: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (2).

سئل الإمام زين العابدين عليه السّلام: كيف أصبحت يابن رسول اللّه؟ قال: أصبحت في أمّتنا كبني إسرائيل في أيدي الفراعنة؛ يذبّحون أبنائهم و يستحيون نسائهم، و ليس أدنى شرّ من يزيد فإنّه أعظم شرّا منه.

ص: 275


1- كشف الغطاء 1: 19، مجمع الزوائد 1: 113 و أبهم أسمائهم .. و 5: 242، الآحاد و المثاني 2: 192، المعجم الكبير 17: 176، أسد الغابة 3: 76، الإصابة 3: 465.
2- النساء: 145.

قال كافي الكفاة أحمد بن عباد (الصاحب بن عبّاد):

قالت تحبّ معاويه قلت اسكتي يا زانيه

قالت أسأت جوابيه فأعدت قولي ثانيه

يا زانيه يا زانيه يا بنت ألفي زانيه

أ أحبّ من شتم الوصيّ أخا النبيّ علانيه

فعلى يزيد لعنة و على أبيه ثمانيه (1) و قال مالك الأشتر و عبد اللّه: الشجرة الملعونة و الظالم في قوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (2) بنو أميّة و معاوية منهم.

يقول مصنّف الكتاب: و عثمان بن عفّان أوّل ملوك بني أميّة (لعنه اللّه- المترجم).

و قال رسول اللّه لعليّ: يا علي، ستقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين ... (3)

الناكثون هم طلحة و الزبير و أتباعهما بايعوا أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ نكثوا البيعة و قال اللّه تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ (4) و القاسط معاوية وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (5) و المارقون: الخوارج.

قال الصاحب الكوفيّ:

قالت فمن قائد الأقوام إذ نكثوافقلت تفسيره في وقعة الجمل

قالت: فمن حارب الأنجاس إذ قسطوافقلت صفّين تبدي صفحة العمل

قالت: فمن قارع الأرجاس إذ مرقوافقلت معناه يوم المهرجان علي

ص: 276


1- و على عمر بن الخطّاب ألف ألف لعنة لأنّه هو الذي زرعه في ضلوع الإسلام.
2- هود: 18.
3- سبق تخريج الحديث.
4- الفتح: 10.
5- الجنّ: 15.

و هذا الشعر يشير إلى الوقائع الثلاثة: الجمل و صفّين و النهروان، و الطائفة الأولى هم الناكثون، و الثانية الظالمون و هم نجس، و الثالثة الخارجون و هم نجس أيضا و لذلك وصفهم بالأنجاس، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (1) و وصفهم بالإرجاس، و الرجس هو الخبث، و يقال: رجس و رجز و كلاهما واحد فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (2) (و فيه ما فيه) (3). و كلا هذين القولين للمخالفين.

و في كتاب «الرسالة الحاوية في مذمّات معاوية» ذكر الشيخ الفاضل زين العابدين الواعظ و القاسم بن محمّد بن أحمد المأموني و هو من علماء أهل السنّة و الجماعة في هذا الباب العظيم الغالي ما هو حجّة عليهم «و الفضل ما شهدت به الأعداء» و الأحاديث التي أخرجوها جاء كلّ حديث منها بطرق عدّة و أسانيد متعدّدة أقرّها علمائهم الكبار، و عبد أهل البيت- المؤلّف- قد اختصرها و لكنّه في أثناء ذكرها حاول سرد أمور مفيدة تعين على فهمها كما ذكر الوجوه و التأويلات التي ذكرها المؤلّف حين تتبّعه لمعاني الحديث، و صرف مصنّف هذا الكتاب معانيها لتنسجم مع توجّهاتنا في هذا المؤلّف.

الفصل الخامس في ذكر الأصحاب الذين لم يشهدوا حرب صفّين

اشارة

سمّى أصحاب رسول اللّه معاوية لعينا كما ذكر ذلك صاحب «الرسالة الحاوية» أي الملعون الأبديّ، و هم قد سمعوا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بواسطة الوحي.

قال أبو محمّد بن أحمد بن أعثم الكوفيّ في الفتوح: إنّ معاوية و عمرا بن العاص

ص: 277


1- التوبة: 28.
2- الحج: 30.
3- و كأنّ المؤلّف لم يرتض هذا التفسير.

كتبا إلى أهل المدينة: «أجيبوا إلى حرب عليّ رحمكم اللّه» و السلام، فكتبوا إليه في الجواب: أمّا أنت يا معاوية فطليق لعين، و أمّا أنت يا عمرو فخائن في الدين، فكفّا عن المكاتبة و ليس لكما في المدينة وليّ و لا نصير (1).

و أهل المدينة حكّام أهل القبلة و قد لعنوه و هذه المكاتبة كانت قبل حرب صفّين، فلعنه بعد وقوعها أولى و أوجب.

قال المأمونيّ: كتب خالد بن الوليد إلى معاوية: أمّا بعد، فإنّك وثن من أوثان أهل مكّة دخلت في الإسلام كارها و خرجت منه طائعا (2).

قال المصنّف: المراد من قوله: «وثن» كأنّه ناظر إلى قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (3) فكما أنّ اجتناب الأوثان واجب فكذلك اجتناب معاوية لعنه اللّه و محبّته و موالاته حرام.

و جاء في الفتوح بأنّ معاوية كتب إلى عبد اللّه بن عمر كتابا و دعاه إلى نفسه و وعده بجعل الخلافة له، و ذكر في الكتاب محمّد بن مسلمة و سعد بن مالك في شعر كتبه في أسفل الكتاب:

ثلاثة رهط من صحاب محمّدنجوم و مأوى للرجال الصعالك .. (4)

ص: 278


1- انظر عزيزي القارئ كيف لعبت يد الخيانة بالنصّ فصيّرته هكذا: أمّا أنت يا معاوية فطليق العيس، تجنّبا منهم لكلمة لعين حذار من أن تصيب معاوية اللعنة، راجع 2: 542 من الفتوح.
2- رحم اللّه المؤلّف كان عليه أن يتحرّى الحقيقة فيما يكتب و لا يقنع بما يرسله الرواة من دون تبصّر، فخالد بن الوليد لعنه اللّه هلك في عهد عمر بن الخطّاب لعنه اللّه و هذا الكتاب جرى بين قيس بن سعد و بين معاوية و كان البادئ بالسبّ معاوية، و سمّاه يهوديّ بن يهوديّ، فأجابه قيس: إنّما أنت وثن ابن وثن .. الخ.
3- الحج: 30.
4- جاء البيت الذي ذكره ابن الأعثم هكذا: ألا قل لعبد اللّه و اخصص محمّدافأرسنا المأمون سعد بن مالك ثمّ ذكر محقّق الكتاب بقيّه الشعر و فيه البيت الذي ذكره المؤلّف. (الفتوح 2: 544).

فكتب عبد اللّه بن عمر في جوابه: يا معاوية، إن نفسك حدّثتك أنّي أترك عليّا و المهاجرين و الأنصار- في المهاجرين و الأنصار- و أتبعك، و أجاب عن شعره:

أتطمع فينا يابن هند سفاهةعليك بعليا حمير و السكاسك .. (1)

و السكاسك جمع سكسك و هو ابن حمير ابن سبأ يضرب به المثل لكلّ كريم.

و قوله سفاهة إشارة إلى قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (2). و قال المأموني: أعطى النبيّ عبد اللّه بن عمر سيفا و قال: سله من غمده على الكافرين، فوقع في شبهة من أمر هو لم يعلم أنّ أهل البغي بحكم الكفّار و قال عند موته: ما شي ء فاتني من الدنيا إلّا أنّي لم أقاتل مع عليّ أهل البغي (3).

و سئل الأحنف بن قيس: أكان معاوية حليما؟ فقال: لو كان حليما لما سفه الحقّ، و أشار إلى هذه الآية: وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (4).

و كذلك قال- يعني المأموني- أنّ القاضي شريح سئل عن حلم معاوية، فقال:

هل كان معاوية إلّا سفيها بل كان معدن السفاهة. ثمّ قال: لمّا بلغه مقتل أمير المؤمنين استوى جالسا و كانت له جارية تغنّيه و كانت تخفي إيمانها، فاستدعاها و قال: يا جارية غنّ اليوم قرّت عيني، فقالت الجارية: ما الخبر السعيد اليوم، فقال معاوية: قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فقالت الجارية: لا غنّيت بعد اليوم،

ص: 279


1- أمر ابن أبي عزة أن يجيب عنه بأبيات و أوّلها: معاوي لا ترجو الذي لست نائلاو حاول بصيرا عند سعد بن مالك نفسه (ص 544 و 545).
2- البقرة: 13.
3- الفضل بن شاذان، الإيضاح: 369، المسترشد: 664، شرح الأخبار 2: 526، النصائح الكافية: 40، قال: ما آسى على شي ء إلّا أن أكون قاتلت الفئة الباغية .. علي الشهرستاني، وضوء النبي: 243.
4- البقرة: 130.

فأمر بضربها ضربا مبرحا بالسوط، إلى أن قالت: كفّوا عنّي ثمّ أنشأت تقول:

و كنّا قبل مهلكه زمانانرى نجوى رسول اللّه فينا

ألا أبلغ معاوية بن حرب فلا قرّت عيون الشامتينا

أفي شهر الصيام فجعتمونابخير الناس طرّا أجمعينا

قتلتم خير من ركب المطاياو أكرم كلّ من ركب السفينا

و من لبس النعال و من حذاهاو من قرأ المثاني و المئينا

فلا و اللّه لا أنسى عليّاو طول صلاته في الراكعينا

فلا تفخر معاوية بن حرب فإنّ بقيّة الخلفاء فينا

لقد علمت قريش حيث كانت بأنّك شرّهم حسبا و دينا و كان إلى جانب معاوية عمود فضرب رأس المسكينة حتّى استشهدت رحمة اللّه عليها (1).

و جاء في رسالة الحاوية: إنّ أعرابيّا سألوه: أتحبّ معاوية؟ فقال: وجدت له أربعا فكيف أحبّه؟ قيل: و ما تلك الأربعة؟ قال: سلّ أبوه السيف على رسول اللّه في ثمانين حربا، و أكلت أمّه هند كبد الحمزة، و قطع ابنه رأس سبط النبيّ الحسين عليهما السّلام، و قتل هو الحسن بالسمّ و حارب وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و ذكر صاحب الحاوية الحكاية التالية أنّ جنّيّة أسلمت فكانت تأتي مجلس النبيّ كلّ يوم فغابت ثلاثة أيّام سويّا، فلمّا عادت سألها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما أبطأك عنّي منذ ثلاثة أيّام؟ فقالت: نفست ابنة عمّ لي في الظلمات فذهبت لأقضي ما يجب من حقّها، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و ماذا عرض لك في الطريق؟ فقالت: اجتزت بالبحر

ص: 280


1- الشعر لأبي الأسود الدئلي، و قيل: لأروى بنت أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، فكيف بلغ المغنّية قبل أن يقتل الإمام و قد قيل الشعر بعد شهادته لست أدري.

السابع فرأيت إبليس جالسا على صخرة رافعا يديه و هو يقول: اللهمّ إنّك أقسمت على نفسك لتعذّبني بالنار، اللهمّ فخذ رضاء نفسك من نفسي و أدخلني في عظيم عفوك، اللهمّ بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين افعل بي ذلك، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: سلوا بنا فلو أنّ أحدكم حين يدعو السماوات و الأرض فيقول لهما: آتينا طوعا، فقالت السماوات و الأرض: أتينا طائعين.

قال صاحب الحاوية: ما أعجب حال إبليس و هو أخبث مخلوق حين قال:

لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (1) إلّا معاوية فإنّه أخبث من إبليس فإنّه صحب الفسّاق و المجان و أصحاب الدعارات و عادى أوصياء رسول اللّه و حاربهم و آذاهم.

قال الحاكم المفسّر (2) في كتابه «الكشّاف» عن أبي أمامة: إنّ المراد بقوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ (3) معاوية و جنوده.

و مذهب أهل الأصول: إنّ جوار أهل الكتاب جائز و جوار أهل البغي لا يجوز.

و قول القائل: اللعنة على معاوية و من بايعه و شايعه و نصره فإنّها أوكد و ألزم من لعنة الكفّار لأنّ الشبهة في الكفّار مرتفعة فيجوز ترك لعنهم، و أمّا أهل البغي و خصوم أهل البيت (و السلفيّة و الوهّابيّة و ابن تيميّة و محمّد بن عبد الوهّاب و أحمد ابن حنبل و أئمّتهم الثلاثة في الحكم و الثلاثة في الفقه- المترجم) فإنّ ترك لعّنهم يوجب حصول الشبهة فيجب إظهار لعنهم حينئذ يعلم الناس شقاوتهم (و هو

ص: 281


1- ص: 82 و 83.
2- لم يسمّه المؤلّف و لكن بقوله «المفسّر» ميّزه عن الحاكم المحدّث صاحب المستدرك.
3- آل عمران: 106.

أفضل الصدقات .. (1) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من ليس له صدقة فليلعن اليهود (2) فتبيّن أنّ لعنهم أفضل الصدقات.

قال قاضي القضاة في أحكام البغاة: كما أنّ الاقتداء في أحكام الكفّار برسول اللّه لأنّه الأمين الثقة فكذلك في أحكام البغاة الاقتداء بعليّ عليه السّلام لأنّه الأمين الثقة، فإنّ فعله و حكمه و تقريره مصدر أحكامنا عليهم و فيهم، لأنّه كان على الحقّ لأنّ الرسول قال فيه: إنّ عليّا مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور كما دار، لا يفترقان حتّى يردا الحوض.

و جاء في الرسالة الحاوية، في قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ (3) و هي: يا حامد بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ علي، و يا فاطر بحقّ فاطمة، و يا محسن بحقّ الحسن، و يا قديم الإحسان بحقّ الحسين عليهم السّلام فاغفر لي، فتاب عليه.

و قال أيضا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعث عليّا مع سعد بن مالك بصدقات، فاستأذن سعد عليّا في ارتحال إبل الصدقة فأبى عليه ذلك، ثمّ غالب عليّ عليه السّلام لحاجة و استناب عنه رجلا، فلمّا عاد رأى ظهر ناقة منها قد مسّه الرحل، فقال: من ركبها؟ فقال:

«أنا»، فقال: بإذن من؟ قال: بإذن خليفتك، فغرّمه أمير المؤمنين عليه السّلام، فشكى سعد عليّا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده على فخذ سعد و قال: لا تكره أخاك لدينه.

ص: 282


1- و هذا هو مذهبي الذي أدين به ربّي لأنّنا حين تركنا لعنهم صارت لهم نوع هيبة في القلوب فلا بدّ من إعادة لعنهم لتكسر هذه الهيبة الكاذبة.
2- كنز العمّال 15: 414، تاريخ بغداد 1: 274 و 14: 272، تهذيب الكمال 32: 371، تهذيب التهذيب 11 للّه 348، لسان الميزان 3: 331، تاريخ جرجان: 323، ميزان الاعتدال 2: 486 و 4: 454، الكشف الحثيث: 159.
3- البقرة: 37.

جاء إلى المدينة إمام أهل الشام شرحبيل تلميذ معاذ بن جبل برسالة إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، و نزل ضيفا على الإمام الحسين عليه السّلام، و كان في أيّام عيد الأضحى، فخرج أمير المؤمنين عليه السّلام للصلاة و عليه قميص بلا جيب، قصير الكمّين، و عليه عمامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و في يده القضيب الممشوق، فقال شرحبيل في نفسه:

اليوم أرى خوان عليّ ما لونه؟ فلمّا حضر الخوان وجد فيه خبز شعير بنخالته لم ينضح تماما، فأكل منه أمير المؤمنين عليه السّلام، فأشار أمير المؤمنين إلى الحسن قائلا:

أطعم ضيفك بما تطعم به الناس، فما كان في بيته شي ء، فاستعار من بيت المال قليلا من العسل، فمنعه أمير المؤمنين عليه السّلام منه، فقال الحسن عليه السّلام: أخذته من حصّتي.

فقال شرحبيل: حضرت يوما مع الحارث بن الأعور عند معاوية، فأحضروا له أربعين لونا من الطعام، فعجب الحارث من ذلك، و أخيرا حضروا طبقا من البلور مليئة بالطعام فأكل الحارث منه لقمة فلم يدر ما هو؟ فقال معاوية: هذا مخّ العصافير فيه دهن البلسان فكل منه فإنّه طيّب نافع للباه، فحسب شرحبيل أنّ خوان عليّ كذاك الخوان و لكنّه رأى ما رأى.

و كان أمير المؤمنين عليه السّلام و هو في حرب صفّين يحمل معه أربعين منّا من دقيق الشعير، و لمّا عاد فضل منه الكثير.

و روى بعض الصحابة أنّ أمير المؤمنين كان يصلّي معظم الليل في صفّين و كذلك أكثر أصحابه، و كنت في جوار خيمته حتّى فرغ من الصلاة و صلّى صلاة الصبح، اعتلى صهوة جواده فتقدّمت إليه فقال: هل عندك طعام قليل؟ فقدّمت له قليلا من خبز يابس و تمرا و وضعته على عنق فرسه حتّى أفطر، و كان عليه قبل اليوم صائما دائما إلّا اليوم فقد حملته الضرورة على الإفطار لأنّه لم يذق طعاما ليلا، و كانت سيرته على هذا المنوال فكيف يقال عن حربه أنّها كانت من أجل الدنيا أو الحكم و الرئاسة؟!

ص: 283

و كتب أمير المؤمنين إلى معاوية: أتدعوني يابن آكلة الأكباد إلى كتاب اللّه و أنتم به كافرون؟

و جاء في كتاب الفتوح أنّ الإمام عليّا عليه السّلام سماّهم: بقيّة الأحزاب، أي البقيّة الباقية من جيش مكّة الذي حارب في الخندق، و اعتبرهم بمثابة قوم عاد و ثمود الذين حاربوا أنبيائهم عليهم السّلام. و قال أبو علي: يريد عليّ عليه السّلام بذلك بقيّة أصحاب الخندق.

و لمّا كتب عبد اللّه بن أبي رافع عقد الصلح معهم كان كما يلي: هذا ما صالح عليه أمير المؤمنين عليه السّلام أبا الأعور السلميّ، فقام من أصحابه قوم و قالوا: لو عرفناك أنّك أمير المؤمنين ما قاتلناك، فأمر أن يكتب الكتاب باسمه، و قال عليّ عليه السّلام: صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لمّا كان يوم الحديبيّة كتبت: هذا ما صالح عليه محمّد رسول اللّه، فقال أبو سفيان و سهيل بن عمرو: لو أقررنا بأنّك رسول اللّه ما قاتلناك، فأمرني أن أكتب: محمّد بن عبد اللّه، و قال: يا علي، إنّ لك يوما كيومي، و اتّخذ رسول اللّه عليّا كنفسه و أصحابه كأصحابه.

و إنّما سماّهم أمير المؤمنين عليه السّلام بقيّة الأحزاب لأنّه كان متقلّدا في صفّين سلاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه سبعون ألفا من الصحابة و التابعين مثل أويس القرني و الربيع ابن خيثمة.

ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: سيروا إلى بقيّة الأحزاب، سيروا إلى أهل الشام العماة الطغام، سيروا إلى أولياء الشيطان و أعداء السنّة و القرآن، فقد أمرت بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين.

قال عمّار:

سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي سيروا بخير الناس أتباع علي و كانت أعداد بقيّة الأحزاب مائة و ثمانين ألفا.

ص: 284

و جاء في الفتوح بأنّ أصحاب عليّ عليه السّلام عطشوا و هم في طريقهم إلى صفّين (و احتاجوا إلى الماء، و إذا براهب في صومعته، فدنا منه عليّ عليه السّلام و صاح به فأشرف عليه، فقال له رضي اللّه عنه: هل تعلم بالقرب منك ماءا نشرب منه؟ فقال: ما أعلم ذلك، و إنّ الماء ليمل إلينا من قريب من فرسخين. قال: فتركه عليّ رضى اللّه عنه و أقبل إلى موضع من الأرض فطاف به ثمّ أشار إلى مكان منه فقال: احفروا هنا، فحفروا قليلا و إذا هم بصخرة صفراء كأنّما طليت بالذهب و إذا هي على سبيل الرحى لا ينتقلها إلّا مائة رجل، فقال عليّ عليه السّلام: اقلبوها فالماء من تحتها، فاجتمع الناس عليها فلم يقدروا على قلبها.

قال: فنزل عليّ رضى اللّه عنه عن فرسه ثمّ دنا من الصخرة و قال: بسم اللّه، ثمّ حرّكها و رفعها فدحاها ناحية، قال: فإذا بعين من الماء لم ير الناس أعذب منها و لا أصفى و لا أبرد، فنادى في الناس أن هلمّوا إلى الماء. قال: فورد الناس فنزلوا و شربوا و سقوا ما معهم من الظهر و ملأوا أسقيتهم و حملوا من الماء ما أرادوا ثمّ حمل عليّ الصخرة و هو يحرّك شفنيه بمثل كلامه لا أوّل حتّى ردّ الصخرة إلى موضعها ..) (1)

[فدهّم الراهب على عين ماء «فاستخرجها عليّ عليه السّلام» فأعطاه الراهب كتابا بخطّ عيسى و قيل بخطّ شمعون و إملاء عيسى و قيل ليس في الدنيا من هو أملح خطّا من عيسى عليه السّلام، لأنّ معلّمه اللّه تعالى، و الرسالة هي:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، الذي قضى فيما مضى و سطر فيها سطر أنّه باعث في الأمّيّين رسولا منهم يتلو عليهم الكتاب و الحكمة و يدلّهم على سبيل الرشاد

ص: 285


1- هذا ما ذكره صاحب الفتوح (2: 575) و أمّا ما ذكره المؤلّف فيختلف تماما عن هذا لأنّه زعم أنّ الراهب هو الذي أرشد الإمام إلى الماء، و عند صاحب الفتوح أنّ الراهب نفسه كان يشرب من مكان يبعد فرسخين عن ديره، و لست أدري إن كانت الرواية محذوفة من الفتوح أمّ أنّ المؤلّف تساهل بالنقل، و انظر الرواية التي ساقها المؤلّف في المتن.

و لا يكون فظّا غليظا و لا سخّابا في الأسواق، و لا يجزي بالسيّئة السيّئة و لكن يعفو و يصفح أمته (الحمّادون) لأنّهم الذين يحمدون اللّه على كلّ حال في هبوط الأرض و صعودها، ألسنتهم مديدة بالتسبيح و التحميد، ينصرون اللّه على من ناوأه، فإذا توفّاه اختلفت أمّته من بعده، فيمرّ بهذا النهر صالح يأمر بالمعروف، و ينهى عن المنكر، فمن أدرك هذا النبيّ فليؤمن، و من أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإنّه وصيّ خاتم النبيّين و القتل معه شهادة] (1).

و الشهيد في الحقيقة من قتل بأيدي الكفّار، فظهر من هذا بأنّ معاوية و جيشه من الكفّار.

فأسلم ذلك الراهب و سار مع أصحاب رسول اللّه إلى حرب معاوية و استشهد في صفّين فطلبه الإمام من بين القتلى فلمّا وجده صلّى عليه و دفنه و قال: هذا منّا أهل البيت.

و كان مالك الأشتر يبكي في صفّين، فلمّا سئل عن الأسباب قال: أخشى أن لا أنال درجة الشهادة.

و جاء في الفتوح، قال: و أصبح الناس و طلعت الشمس و ذلك في يوم الخميس، و دعا عليّ عليه السّلام بدرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلبسه، و بسيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتقلّده، و بعمامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاعتجر بها، ثمّ بفرس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستوى عليه، و جعل يقول:

أيّها الناس، من يبع نفسه يربح هذا اليوم فإنّه يوم له ما بعده من الأيّام، أما و اللّه أن لو لا أن تعطّل حدود اللّه و تبطل الحقوق و يظهر الظالمون و تفوز كلمة الشيطان ما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش و طيبه، ألا و إنّ خضاب النساء الحناء،

ص: 286


1- ما وضعناه بين حاصرتين هي رواية المؤلّف و الكتاب و صحبة الراهب للإمام و شهادته مرويّة في الفتوح ص 577 و 578 مع اختلاف يسير بينهما.

و خضاب الرجال الدماء، و الصبر خير عواقب الأمور، ألا إنّها إحن بدريّة و ضغائن أحديّة و أحقاد جاهليّة وثب بها معاوية حين الغفلة ليذكر (1) بها ثارات بني عبد شمس .. فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون (2).

و لمّا اشتدّ القتال صاح صيحة واحدة: الفرار من الحرب ارتداد عن الحقّ رغبة عن الإسلام، كقوله تعالى: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ (3).

و تلى أمير المؤمنين في صيحة القتال هذا الدعاء و هو مناجات شعيب النبيّ عليه السّلام:

اللهمّ إليك نقلت الأقدام، و إليك أفضت القلوب و رفعت الأيدي و مدّت الأعناق و طلب الحوائج و شخصت الأبصار، ربّنا افتح بيننا و بين قومنا بالحقّ و أنت خير الفاتحين.

و قتل في هذا اليوم من الجانبين ستّة و أربعون رجلا.

و ذكر قاضي القضاة في كتاب المحيط: إنّ عليّا عليه السّلام لم يبدأهم بقتال حتّى قتل عمّار ابن ياسر رضوان اللّه عليه، فلمّا قتلوا عمّارا يوم السادس و الشعرين أجرى عليهم حكم الكفّار و صار يبدأهم بالقتال، فقتل في ليلة واحدة خمسمائة و ثلاثين من أصحاب معاوية، و في كلّ ضربة يكبّر تكبيرة واحدة كما هو الشأن في قتال الكافرين.

و قال عليّ عليه السّلام: من أصابه سيفي فهو في النار.

و جاء في الفتوح: إنّ عليّا خرج بين الصفّين فبارزه واحد فصرعه، ثمّ آخر حتّى

ص: 287


1- أجدر بها أن تكون «ليدرك بها ثارات» الخ.
2- الفتوح 3: 171 و 172.
3- الأنفال: 16.

أهلك أربعة منهم، ثمّ صاح: يا معاوية، أخرج إلى مبارزتي فيسرّ به الناس، فقال معاوية: أو ما يكفيك أربعة فتطلب خامسا.

فقال رجل: إذا أباها معاوية فأنا أخرج إليه، ثمّ خرج و دعا إلى المبارزة، فقال الأصحاب: يا أمير المؤمنين، نحن نكفيك هذا الكلب، قال: يريد القتل منّي، فصرعه، و قال: انطلق يا عدوّ اللّه فأخبر قومك بما رأيت، فو الذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّا إنّه عاين النار و أصبح من النادمين، و حكم هذا اللعين حكم عاقر ناقة صالح فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (1) و حكم قابيل بن آدم، و لم يقل ذلك عليّ غضبا لنفسه إذ أنّ عليّا لم يقاتل لنفسه بل لم يفعل شيئا لها.

و قال معاوية يوما لعمرو بن العاص: إنّ ما بينك و بين عليّ من الخصومات يحملك على مبارزته، فخرج عمرو بن العاص و طلب البراز من عليّ عليه السّلام، فخرج إليه أمير المؤمنين و قال: أتحمل عليّ أم أحمل عليك؟ فقال عمرو: بل أنت فاحمل عليّ لأنّك عليّ بن أبي طالب، فلمّا حمل عليه رمى بنفسه إلى الأرض و كشف عورته، فولّى الإمام عليه السّلام وجهه عنه، و قام عمرو بن العاص هاربا هاربا إلى خيمة معاوية، فلامه معاوية على فعلته، فقال: إنّي فعلت فعلا أوقفني قبالة عليّ حتّى كشفت له سوئتي، فافعل أنت فعلي إن قدرت على ذلك، و فعل بسر بن أرطاة نفس الفعل، فقال غلام من أهل الشام:

أفي كلّ يوم فارس ذو كريهةله عورة وسط العجاجة باديه

يكفّ بها عنه عليّ سنانه و يضحك منها في الخلاء معاويه فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: كان الحقّ يدور مع عمّار حيثما دار.

و كان عمّار يقول يوم شهادته: أنا مقتول في يومي هذا، و ودّع أصحابه و أوصى

ص: 288


1- الشعراء: 157.

بوصاياه، و كان عمره يوم مقتله أربعا و سبعين سنة.

و لمّا رأى عمّار رضى اللّه عنه راية معاوية، قال: إنّ هذه الرايات قاتلناها مع رسول اللّه و هذه رابعة و ما هي بخيرهنّ و لا أبرّهنّ (1)، ألا و إنّي مقتول في يومي هذا فألحقهم بالأوّلين، ثمّ إنّ عمّارا ألحقهم بالكفّار الذين قاتلوا النبيّ في أوّل الدعوة.

قصّة قيس بن سعد بن عبادة

كان سعد الرجل الذي فضّله الأنصار على أبي بكر و قدّموه عليه، أمّا قيس ولده فكان من عمّال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أرسله رسول اللّه يوما مع أبي رعال (2) لجمع الصدقة إلى الطائف و قال: اللهمّ اجعل بركاتك على آل سعد بن عبادة. فقال قيس:

نحن بين يدي أعلام جبرئيل عن يمينها، و عن يسارها ميكائيل، و أنتم بين يدي أعلام عن يمينها أبو جهل و عن يسارها أبو لهب، و كان اصحاب عليّ من هذا الطراز.

و لعن أمير المؤمنين معاوية بهذه الأرجوزة، فقال:

ما كان يرضى أحمد لو خبّراأن تعدلوا وصيّه و الأبترا

شاني النبيّ و لعينا آخراكلاهما في جنده قد عسكرا

قد باع هذا دينه و افتخرامن ذي بيعة قد خسرا .. (3)

أشار بلفظ الأبتر إلى قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (4) النازلة في شأن

ص: 289


1- لم تمكن قرائة الكلمتين عند المؤلّف فصحّحتها من شرح ابن أبي الحديد 5: 257.
2- لم يرد فيمن عرف بكنيته من أصحاب النبيّ أحد بهذه الكنية.
3- أحسبها هكذا: «من باع ذا بدينه قد خسرا» و قد جائت عند محقّق ابن أبي الحديد هكذا: «من ذا بدينا قد خسرا» راجع 1: 148 من شرح ابن أبي الحديد.
4- الكوثر: 3.

العاص بن وائل و آله عمرو بن العاص و اللعين الآخر معاوية.

و قد كان عمرو بن العاص لعنه اللّه هجى رسول اللّه بسبعين بيتا من الشعر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللهمّ لا أحسن الشعر، فالعنه بكلّ بيت ألف لعنة.

قال بشر بن المعتمر:

تبرّا من عمرو و من معاويه و من بغاة في الزمان غاليه تبرّأ أوّلا من الأصنام و ثانيا من معاوية الوثن و عمرو بن العاص الوثن و عابدي الوثن، كما قال تعالى: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (1).

و ذكر صاحب الفتوح قال: خرج رجل من أهل الشام حتّى وقف بين الصفّين ثمّ نادى بأعلى صوته: يا أبا الحسن، إنّي أكلّمك، قال: فخرج إليه عليّ عليه السّلام حتّى اختلف أعناق فرسيهما، فقال له الشاميّ: يا أبا الحسن، إنّ لك فضلا و قدما في الإسلام و هجرة و سابقة و إخوة و قرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلا يساميك أحد و لا يدانيك، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء هذه الأمّة و تأخير هذه الحروب إلى أن ترى في ذلك رأيك؟ فقال عليّ عليه السّلام: و ما ذاك؟ قال: أن ترجع إلى عراقك و نرجع إلى شامنا، فنخلّي بينك و بين العراق، و تخلّي بيننا و بين الشام، فقال عليّ عليه السّلام: لقد علمت أنّك إنّما عرضت هذه نصيحة و شفقة و لكن قد أهمّني هذا الأمر و أسهرني، و ضربت أنفه و عينه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل اللّه عزّ و جلّ أو يرضى من أوليائه أن يعصى في الأرض و هم سكوت؟ مذعنون لا يأمرون بالمعروف و لا ينهون عن المنكر، فوجدت القتلا أهون عليّ من معالجة الأغلال في نار جهنّم. قال: فرجع الشاميّ و هو يقول: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون (2).

ص: 290


1- الممتحنة: 4.
2- الفتوح 3: 154 و 155.

و الدليل على ذلك أنّ اللّه تعالى لعن أهل الكتاب بتركهم الأمر بالمعروف حيث قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (1).

و جاء في الحاوية: و لمّا كان ترك عليّ حرب معاوية يؤدّي إلى الكفر فما حال من يرتكب هذا الفعل معه.

قال محمّد بن الحنفيّة: خاطبت معاوية و قومه و أشرت إليه بقولي: حثوا يا ذرّيّة النفاق و حثوا النار و يا حطب جهنّم عن الأسل النافذ و النجم الثاقب و القمر الباهر و الصراط المستقيم، تدرون ويلكم بأيّ عقبة تسيمون؟ و أيّ واد تقتحمون؟

و بصنو رسول اللّه تستهزؤون، كلّا سوف تعلمون، كلّا سوف تعلمون.

و استأذن عمرو بن العاص عمّارا أن يكلّمه، فأعطاه الأمان، فابتدأ قائلا:

أشهد أن لا إله إلّا اللّه، فقال عمّار: اسكت، فلست من أهل الشهادة، فقد تركتها على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اخطب خطبة الجاهليّة و قل قول من كان في الإسلام ذنبا و في الكفر رأسا، و هذا الكلام من عمّار دليل على نفاق ابن العاص، و اقتدائنا بأصحاب النبيّ الكبار (المنزّهين) من الواجبات.

الفصل السادس في إقرار أهل البغي ببغيهم

لمّا أعطى معاوية الحسن ثلاثة آلاف درهم أنكر عليه ذلك يزيد، فقال معاوية:

يا بنيّ، الحقّ و اللّه حقّهم فلا نردفهم على ركوبهم.

و لمّا ضربت معاوية اللقوة، قال: عقوبة عجّلت، إنّي دفعت عليّا من حقّه.

ص: 291


1- المائدة: 78 و 79.

و قال ليزيد: إنّي دفعت عليّا عن حقّه و حملت الوزر على ظهري.

كان لابن العاص جار أمويّ فسأله عن حال عليّ حين راسله معاوية و دعاه إلى نفسه، فقال: إنّ معاوية يدعوني إلى أمر عظيم فإنّه يدعوني إلى قتال عليّ، و من حاربه فكأنّما حارب رسول اللّه، فإنّه أخوه و وزيره و وصيّه و أحقّ الناس بالخلافة، و في قتاله هلاك الدين، و لا عوض من ذلك و لو كانت الدنيا كلّها.

فأجاب: فأمّا دعوتي إليه من خلع ربقة الإسلام من عنقي و التهوّر في الضلالة معك و أعانتي إيّاك على الباطل و اختراط السيف على وجه عليّ عليه السّلام و هو أخو رسول اللّه و منجزه وعده و وصيّه و وارثه و قاضي دينه و زوج ابنته سيّدة نساء العالمين و أبو السبطين سيّدي شباب أهل الجنّة. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم بني النضير: عليّ إمام البررة و قاتل الفجرة، منصور من نصره، و مخذول من خذله (1).

و نزل في حقّه آيات كثيرة، و ذكرها ابن العاص، و لكنّه لمّا أطمعه بمصر نسي هذا كلّه و وعظه ولده عبد اللّه و غلامه وردان فلم يتّعظ، و قال له وردان: يا مولاي، إنّ مع عليّ الآخرة و لا دنيا معه، و مع معاوية الدنيا و لا آخرة له و لا لمن معه، و الآخرة تبقى لك و الدنيا لا تبقى لك فاختر أيّهما شئت .. (2). فقال عمرو بن العاص:

ص: 292


1- الإمامة و التبصرة لابن بابويه القمّي: 151، بحار الأنوار 33: 53، الجامع الصغير 2: 177، كنز العمّال 11: 602 رقم 32909، مناقب ابن شهر آشوب: 200، نهج الإيمان: 416، كشف اليقين للعلّامة الحلّي: 23، ينابيع المودّة 2: 78 و 96 و 238 و 285 و 401، النصائح الكافية لابن عقيل: 95.
2- جاء الخبر في الإمامة و السياسة لابن قتيبة 1: 116 على النحو التالي: ثمّ دعا غلاما له- عمرو- يقال له وردان و كان داهية، فقال له عمرو: يا وردان، احطط، يا وردان ارحل، يا وردان احطط، يا وردان ارحل، فقال وردان: أمّا إنّك إن شئت نبّاتك بما في نفسك، فقال عمرو: هات يا وردان، فقال: اعتركت الدين و الآخرة على قلبك، فقلت: مع عليّ الآخرة بلا دنيا، و مع معاوية الدنيا بغير آخرة، فإنّي واقف بينهما. فقال عمرو: ما أخطأت ما في نفسي، فما ترى يا وردان؟ فقال: أرى أن تقيم في منزلك فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم، و إن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك ... الخ.

قاتل اللّه وردانا و فطنته، لقد أصاب الذي في قلبه (قلبي) فقال وردان:

أمّا عليّ فدين ليس يشركه دنيا و ذاك دين و سلطان (كذا)

فاخترت من طمعي دنيا على بصرو ما معي بالذي اخترت برهان

إنّي لأعرف ما فيها و أبصره و فيّ أيضا لما أهواه الولدان

لكن نفسي لحبّ العيش في شرف و ليس يرضى بذلّ النفس إنسان (1) و لمّا وصلوا إلى مفترق الطريق، قال له غلامه: يا مولاي، هذا طريق الدنيا، و هذا طريق الآخرة.

و كتب أمير المؤمنين في صفّين إلى ابن العاص:

لأصبحنّ العاص و ابن العاص سبعين ألفا عاقدي النواصي

مستقبحين خلق الدلاص قد جنّبوا الخيل مع القلاص

أسا و قيل حين لا مناص

فأجابه ابن العاص:

ما أنا بالعاصي و لا ابن العاص خوّفتني بلابسي الدلاص

بل مشعر من غالب مصاص و قائدي الخيل مع الدلاص

أهون بقوم في الوغى نكاص إذا رأونا ننفض النواصي هذا قوله! و في الحرب يكشف عن سوأته خوفا من سيف عليّ عليه السّلام.

و جاء في الفتوح: إنّ النعمان بن جبلة قال لمعاوية: رميتنا بين السيوف الحداد و السمر الصعاد من أجل دنياك، و إنّا اخترنا النار على هواك طلبا للدنيا، و أخذ

ص: 293


1- الشعر لركاكته لا يستحقّ التصليح.

يقاتل و هو يقول: إنّا سنقاتل عن الغوطة إن حرمنا الجنّة.

قال مصنّف هذا الكتاب: و إنّما ترك بعض الصحابة الإمام أمير المؤمنين و اتّجهوا وجهة أخرى طلبا للدنيا لا للجنّة، و قال الباقر عليه السّلام: إنّما سمّيت الغوطة غوطة لأنّ آدم يغوط بها (1).

قال عمرو بن العاص يوما لولده عبد اللّه: هل ترى عليّا؟ قال: ذاك عليّ على فرس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فتنفّس الصعداء و قال: يا بنيّ ليس هذا بذات السلاسل و لا بكذا و كذا، يا ليتني كنت عن هذا المجلس بعد المشرقين. فقال ابنه: و ما يمنعك؟

قال: حبّ الدنيا.

قال داود البكريّ: كنت مع عتبة بن أبي سفيان و لمّا رأى رايات علي و أهل بيته عليهم السّلام قال: هذه رايات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلا حاربت هؤلاء أبدا فعيّره رجل فقال له عتبة: كأنّك لست من الإسلام في شي ء ....

و جاء في الفتوح: إنّ رجلا طلب مبارزة عليّ عليه السّلام، فقال له الإمام: لأدخلنّك النار يابن آكلة الأكباد، فقال ذاك اللعين: ستعلم من منّا يدخل النار، فتناوله عليّ عليه السّلام برمحه و علّقه في الهواء، فصاح ذاك اللعين: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت نار جهنّم فأصبحت من النادمين.

قال صدر الأئمّة الماوراء النهري: إنّ عليّا عليه السّلام قال: أنا قاضي دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا انتقل رسول اللّه إلى الرفيق الأعلى كان عليه دين ثمانون ألف دينار فاستعنت اللّه على أدائها فأدّيتها إلّا قليلا منها أوصيت الحسن بأدائها بعد وفاتي، و هذا معنى قول رسول اللّه: قاضي ديني.

ص: 294


1- أجلّ الإمام الباقر روحي فداه من هذا القول، و الغوطة هي الأرض المنخفضة و منها أخذ الغائط و المتغوّط و ما شابه ذلك أكرمك اللّه.

الفصل السابع في البدع التي أحدثها معاوية

ورد في الحديث: لعن اللّه من غيّر منار الأرض (1). قال الحاكم المفسّر: يعني بمنار الأرض أحكام الشرع.

قال أبو يوسف بن إبراهيم بن جنيس الأنصاريّ صاحب أبي حنيفة في مجلس فقهه و درسه: أوّل من قاد الفئة الباغية معاوية لعنه اللّه، و أوّل من حكم بخلاف حكم رسول اللّه: الولد للفراش و للعاهر الحجر، لأجل زياد نسبه إلى أبيه أبي سفيان من فراش أبيه الذي ولد عليه.

و قاتل أوّل مؤمن، لم يكفر باللّه طرفة عين بعد إسلامه و لا زنا بعد إحصانه و هو حجر بن عدي أخو الطرمّاح (2).

و معاوية أوّل من أهدي إليه رأس مسلم و هو رأس عمرو بن الحمق الخزاعي، و أوّل من جلس على العرش في الإسلام كالأكاسرة و الفراعنة (3)، و أوّل من صالح المشركين من غير أن يأخذ الجزية، و أوّل من باع الأصنام و جعل للأصنام ثمنا، و أوّل من استعمل الحرس و باع أسرى المسلمين، و أوّل من جعل الحكم وراثة و أورثه إلى ولده، و قتل ولدي قثم بن العبّاس بيد بسر بن أرطاة لعنهما اللّه، و هذا ما

ص: 295


1- السنن الكبرى 6: 99، فتح الباري 10: 314، مصنّف عبد الرزّاق 11: 137، أصول السرخسي 2: 304، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4: 368 و 5: 127، تاج العروس للزبيدي 3: 588 و معنى منارها: أي أعلامها أراد من غير تخوم الأرضين و هو أن يقتطع طائفة من أرض جاره و يحول الحدّ من مكانه. و قال ابن الأثير: المنار جمع منارة و هي العلامة تجعل بين الحدّين.
2- لم أعثر على قائل لهذا القول لأنّ الأوّل كنديّ من اليمن و الثاني طائيّ ... فكيف يلتقيان.
3- عمر بن الخطّاب لعنه اللّه شجّعه على ذلك.

أملاه أبو يوسف كما ورد في الحاوية.

أمّا قوله: أوّل من قاد الفئة الباغية، قال ابن عبّاس: كنّا في حائط أبي سعيد الخدريّ و جرى حديث بناء مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: كنّا نحمل لبنة لبنة و كان عمّار يحمل اثنتين اثنتين، فجاء النبيّ و نفض التراب عن ظهر عمّار و نظفه له و قال: ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ فقال عمّار: أريد الأجر من اللّه، فيجعل رسول اللّه ينفض التراب عنه و يقول: ويحك تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنّة و يدعونك إلى النار.

و كان عمّار من أولئك الذين قال اللّه فيهم: وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (1)، وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ (2) الآية، و قوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا (3) و قوله: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ (4) و قوله: إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (5) و قوله في حكاية: أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (6)، و قال: وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (7) كما قال المفسّرون و هو رابع أربعة أسلموا و له من العمر أربع و عشرون سنة، و أمّه أوّل شهيد في الإسلام و اسمها سميّة، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حقّها: أوّل من استشهد في

ص: 296


1- الواقعة: 10 و 11.
2- التوبة: 100.
3- النحل: 110.
4- الأنعام: 52.
5- الأنعام: 54.
6- الأنعام: 53.
7- المطففين: 32.

أمّتي امرأة- و يعني بها سميّة عليها السّلام- إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ (1) النساء:

أمّ عمّار سميّة، و الرجال ياسر أبوه.

و عمّار استشهد على يد كافر ليس أقلّ من أبي جهل الذي قتل والدي عمّار و استشهدا على يديه و سبب ذلك: لمّا هاجر النبيّ إلى المدينة تبعه أصحابه فلمّا علم المشركون بذلك أخذوا عليهم المراصد و الطرق، فمن قبضوا عليه خارج مكّة أوسعوه ضربا حتّى يسبّ النبيّ و يرجع إلى مكّة فقبض عليهم أبو جهل لعنه اللّه و طلب منهم أن يلعنوا النبيّ فأبوا ذلك أشدّ الإباء، فجرّد ياسر و سميّة من ثيابهما و راح يضربهما حتّى اختارا الشهادة و لم يطيعاه فيما طلب و قال ياسر: بحقّ نبيّك محمّد صلّى اللّه عليه و آله إذا خرجت روحي من بدني فحوّل وجهي إلى القبلة، فوضعوا في عنق ياسر و سميّة حبلين علّقوهما فأرسل اللّه الملائكة حوّل وجهيهما إلى القبلة عند الموت و أخبر نبيّه بما جرى عليهما (2).

و قبض على عمّار بعد شهادة والديه و قال: العن ... و إلّا فعلت بك ما فعلته بأبويك، فقال عمّار ما أرادوه منه و نجى من قتلهم، و اختار الطريق الملتوي على الصراط المستقيم و أقبل ينحو المدينة، و لمّا دنى من المدينة هبط جبرئيل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بأنّ عمّارا قادم، فخرج النبيّ بأصحابه يستقبلونه و قال النبيّ: إنّ الملائكة وضعت أجنحتها على الأرض لعمّار و خرج الصحابة حفاة لاستقبال عمّار و لمّا رأى عمّار رسول اللّه انخرط بالبكاء، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما بك يا عمّار؟ فقال عمّار: يا رسول اللّه، أبكاني الفراق و البعد عنّي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: وجدت قلبك مطمئنّا بالإيمان، ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن عادوا فعد أنت، و نزل في حقّه قوله

ص: 297


1- النساء: 98.
2- المعروف عن شهادتهما غير هذا و لا ندري عن مصدر المؤلّف شيئا.

تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ (1) و ليست لأحد من الصحابة هذه الفضيلة من كونه و أباه و أمّه شهداء في الإسلام.

قيل: إنّ أبا جهل لعنه اللّه كان يعذّب سميّة عليها السّلام و كانت لا تطيق العذاب، فشتمت أبا جهل و كلّمته بكلام خشن، فغضب لعنه اللّه و أوجر بطنها بالحربة حتّى أسلمت الروح (صلّى اللّه عليها و على بعلها و ولدها).

و قيل: كان في مكّة لكلّ مستضعف مجير إلّا عمّار و أبوه ياسر لذلك كانا يتجرّعان أشدّ العذاب، و لمّا كان يوم الهودج كما جاء في الفتوح غلب الناس على الهودج فسلّ عمّار سيفه و هرع نحو الجمل و هو يرتجز:

إنّي لعمّار و شيخ ياسرصاح كلانا مؤمن مهاجر

إنّي لأصبحت فيه حاقرلا تبتلى بعد الممات عامر

إنّي إلى خيري و ضيري صابرو مالك حرما ليس فيها عاذر (2)

طلحة فينا و الزبير غادرو الحقّ في كفّ عليّ ظاهر و لمّا علم الصحابة بما دار بين عمّار و أبي جهل لعنه اللّه، قال الصحابة: يا رسول اللّه، كفر عمّار، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: خلط الإيمان بعمّار ما بين قرنه و بين قدمه، و خلط بلحمه و دمه يدور مع الحقّ حيث دار، فليس ينبغي للنار أن تأكل منه شيئا.

و لمّا كان يوم صفّين و وقعت الحرب و ارتفعت الأصوات كوساتها و أبواقها، و قرعت طبولها، و صدحت سيوفها، و غنّت في الجماجم و الرؤوس، و تمازجت بها أصوات السلاح، و علت همهمة رجالها و صهيل خيولها، إلى الحدّ الذي يذوب معه قلب الشجاع الحليم، فكان عمّار يقاتل قتالا دونه قتال شابّ جلد قويّ، و كان

ص: 298


1- النحل: 106.
2- كذا.

عمره في ذلك اليوم أربعا و سبعين سنة، إلّا أن يكون عمّار أشجع الشجعان و في هذه الأثناء رفع يديه و قال: اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو كنت أعلم أنّ رضاك في وضع سيفي على بطني حتّى يخرج إلى ظهري لفعلت، و إنّي لأعلم شيئا هو خير لك من جهاد هؤلاء.

ثمّ قال: أيّها الناس، هذه الراية التي يحملها معاوية هي الراية ذاتها التي كان يحملها أبوه إمام المشركين في بدر و حنين و أحد في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و اليوم هي المرّة الرابعة، و هو اليوم قاتليّ، فإذا قتلت فادفنوني بثيابي المزمّلة بدمي، و إيّاكم و ترك نصر أمير المؤمنين لأنّ يوم القيامة شيعته هم الفائزون. ثمّ قال: أنا أوّل من يختصم يوم القيامة بين يدي اللّه. و في رواية: فإنّي مخاصم.

و تقدّم معاوية فارتجز عمّار:

نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله و يذهل الخليل عن خليله ثمّ صاح بأهل الشام: إن هزمتمونا كلّ الهزيمة فإنّا على الحقّ و أنتم على الباطل، و كان يدمن الصوم نهارا و القيام ليلا لهذا ضعف بدنه.

و حملت عليه خيل معاوية بفرسان كثيرة فطعنه اللعين أبو الغادية فأمضّه، فحمل إلى الإمام و طلب ماءا فلم يكن الماء حاضرا، و كان أشعث أغبر فمزجوا له اللبن بالتمر، فلمّا شربه سال من الجرح الذي سدّده له أبو الغادية لعنه اللّه (1). قيل:

صاح ثلاث مرّات: اللّه أكبر، و قال: أخبرني رسول اللّه آخر شرابي من الدنيا اللبن و التمر، و يذر على وجهي و رأسي الخطمي، و قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر.

ص: 299


1- سمّاه المؤلّف: ابن حوي و هي تصحيف لا شكّ فيه.

فلمّا وصل أمير المؤمنين وجد عمّارا قتيلا مزمّلا بدمائه مرمّلا بالتراب عفيرا، قال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، إنّ امرئ لم تدخل عليه مصيبة من قتل عمّار فما هو من الإسلام في شي ء. و جمهور العلماء على أنّ عمّارا قتل في المعركة، و أنشد الإمام عند قتل عمّار:

أيا موت كم هذا التفرّق عنوةفلست تبقي للخليل خليل (1)

أراك بصيرا بالذين أحبّهم كأنّك تمضي نحوهم بدليل يقول مصنّف هذا الكتاب: إنّ ما أوردناه من الآيات و الأخبار رويناها من كتب الخصوم و المخالفين، و كلّ ما نقلناه ممّا جرى في حقّ عمّار و ما جرى أضعافه في حقّ فاطمة عليها السّلام و في هاشم و أبي ذر الغفاري فقد أجراه الصحابة معهم و لم يبقوا عليهم.

قال المأموني: و لمّا رأى عليّ عمّارا قتيلا، قال: رحم اللّه عمّارا يوم قتل، رحم اللّه عمّارا يوم يبعث، رحم اللّه عمّارا يوم يسئل، و اللّه لقد رأيت عمّارا بن ياسر و ما يذكر من أصحاب رسول اللّه ثلاثا إلّا كان رابعا، و لا أربع إلّا كان خامسا، ثمّ قال: إنّ عمّارا أوجبت له الجنّة فلقد قيل له: مع الحقّ و الحقّ معه، كان الحقّ يدور معه حيث ما دار، فقاتل عمّار في النار، و سالب عمّار في النار. ثمّ تقدّم عليه السّلام و صلّى على عمّار مع من استشهد معه من أصحابه و دفن حيث أوصى أن يدفن.

و قال الحجّاج بن عرفة الأنصاريّ:

اليوم لعظم الهمّ أرقني *** و هاج حزني أبو اليقظان عمّار

ص: 300


1- ألا أيّها الموت الذي لست تاركي *** أرحني فقد أفنيت كلّ خليل كفاية الأثر للخزاز القمّيّ: 124، بحار الأنوار 33: 19. و فيه الروايات ما ذكره المؤلّف و ما ذكره صاحب كفاية الأثر.

أهوى له ابن جوى في فوارسه من السلون في الهيجاء أعصار

فاختلّ صدابي التقضان مفترضابالرمح قد وجبت فيه له النار

كانت علامة بغي القوم مقتله ما فيه شكّ و لا ما فيه إنكار

قال النبيّ له يقتلك شرذمةسبط لحومهم بالبغي فجّار و صفوة القول: إنّ حديث «ستقتلك الفئة الباغية لعمّار» اشتهر في عسكر العراق و الشام و وقف جيش الشام عن القتال لسماع هذا الحديث، فجاء عمرو بن العاص إلى معاوية ليردع معاوية، فقال له: قتل عمّار، لعلّ معاوية يكفّ عن الحرب و يتذكّر حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال معاوية: إنّما قتله الذي جاء به، لو لم يأت به عليّ لما قتلناه، و كان عبد اللّه بن عمرو بن العاص واقفا على باب الخيمة فصاح قائلا:

فحمزة بن عبد المطّلب يوم أحد ما قتله الوحشيّ و إنّما قتله النبيّ، فقال معاوية: نحّ هذا الموسوس عنّا، فلا يدري ما يقول، فقال عمرو بن العاص لابنه: اذهب إلى قاتل عمّار و قل له: خذ الحرب و لك النار، فقال الناس: إذا كان نصيبنا النار فإنّنا لا نقاتل، و أخيرا تمكّن عمرو بن العاص أن يردّهم إلى الحرب بالمكر و الحيلة و التأويل.

قيل لعائشة: إنّ فلانا لا يأكل اللحم و لكنّه يحسو مرقه، فقالت: كان بنو إسرائيل محرّما عليهم صيد السبت فلمّا كثر السمك يوم السبت في البحر فكانوا يحفرون الحفر العميقة فتجتمع فيها الأسماك فيصدّونها يوم الأحد و قال: منع اللّه من صيدها يوم السبت لا يوم الأحد، فحال اللحم و المرق كحال صيد اليهود إلى أن مسخهم اللّه كما مسخ معاوية فقد ضربته اللقوة و كان ثملا بخمر معتقة في دنّها سبع سنين، و الصنم معلّق في عنقه، و ذهب إلى جهنّم على هذه الحالة كما ذكر ذلك المأمونيّ في «الحاوية» بأسانيد صحيحة.

و نظم بشر بن المعتمر إمام المعتزلة في حبس هارون أربعين ألف بيت من الشعر، قال:

ص: 301

تبرّا من عمرو و من معاويه و من بغاة في الزمان غاليه يقول المأموني: لا تجوز الصلاة على البغاة بعد قتلهم و لا بعد موتهم لا سيّما الباغي الذي بغى على خير من في الأرض و هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و هذا ناظر إلى أنّ معاوية مات كافرا فلا تصحّ الصلاة عليه.

يقول مصنّف هذا الكتاب: و أمّا الطائفة التي سبقت معاوية بالبغي و بغوا على عليّ عليه السّلام و خرجوا في ذلك اليوم مع قرب عهدهم برسول اللّه و معرفتهم بعليّ الحقيقية و اعترافهم بمناقبه التي لا تنكر و ما خرجوا إلّا بتأويل و حيلة كتأويل معاوية و اعتذاره عن قتل عمّار، و لو كان مقدورا لهم لشاركوا في حرب كربلاء و حرب الجمل و صفّين بل هذه الفتن و الحروب كانت ثمرة ذلك الخروج على أمير المؤمنين عليه السّلام لأنّ في تلك الأيّام الثلاثة و غرسوا شجرة عداوة أهل البيت في القلوب بالترغيب و الترهيب و أثمرت بعدهم ثمرة حملوا بها رؤوس أهل البيت على رؤوس الرماح، و الحمد للّه الذي لم يجعلنا من تابعيهم.

أمّا قول أبي يوسف: معاوية أوّل من أخذ الخلافة بالسيف و كانت خلافة غيره كذلك لأنّ الخلافة إمّا بالنصّ كما يعتقد الشيعة أو بالإجماع كما يعتقد المخالفون، و لا يصحّ أن تكون بالسيف و الظلم كما قال تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (1).

يقول المصنّف: و كانت خلافة أبي بكر و عمر بالإجماع لا بالنصّ و إلّا لما قال أبو بكر: أقيلوني، و لم يجعلها عمر شورى، و لم يقتل عثمان على أمور لا طائل ورائها، و لم تكن خلافة الخلفاء بالإجماع أيضا لأنّها لو لم يعارضها إلّا بنو هاشم لكان قادحا بها بل لو لم يعارضها إلّا عليّ لكان خرقا للإجماع المزعوم، و كانوا ظالمين بادّعائها، و هذا كلام عليّ و أولاده عليهم السّلام ما زال يتماوج في أسماع الناس نظما و نثرا.

ص: 302


1- البقرة: 118.

و أمّا قوله: هو أوّل من استأثر الفي ء، و هذا مخالف لحكم اللّه حيث قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ (1).

و زعم أبو يوسف أنّ النبيّ يورث، و هذا طعن منه بمعاوية و العجب أنّ الحديث عند ما يكون عن فدك و فاطمة يدخل إلى الميدان الفرية القائلة «نحن معاشر الأنبياء لا نرث و لا نورث» و به يستلبون حقّ الزهراء و يردّون به آيات القرآن، و عند ما يكون الخصام مع معاوية يثبت الميراث للنبوّة مع أنّ معاوية اقتدى بمن كان قبله من الأصحاب و هم أيضا فعلوا فعله بل أدهى و أمرّ من فعله و حينئذ لا فرق عندنا بين معاوية و أسلافه.

و أمّا قوله: هو أوّل من قضى بخلاف رسول اللّه حين ألحق زيادا بأبي سفيان بناءا على دعوى ادّعاها لا تثبت، و قال النبيّ: من نكاح أو من سفاح، و قال: الولد للفراش و للعاهر الحجر، فأبطل معاوية حكم رسول اللّه و ألحق زيادا الدعيّ بأبيه، و صدق اللّه: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ (2) لأنّه كان مثله ابن زنى، و أخا من سفاح «كلّ طائر يطير مع شكله»، و كفر بردّه حكم النبيّ و عدم رضاه به، و أراد زياد أن يدعى ابن أبي سفيان و عسر على الناس قولهم خلاف حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعرضوا الأمر على عائشة، فقالت: سمّوه ابن أبيه، فعرف بهذا الاسم من يومئذ.

يقول المؤلّف: إنّ تصديق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عامّ يشمل جميع الصور، و حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على مروان بالنفي و حكمه حكم اللّه و لكن عثمان لعنه اللّه أعاده، و أدنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا ذر بمقتضى قوله تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ

ص: 303


1- الحشر: 7.
2- النور: 26.

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (1) و لكن عثمان نفاه .. و قال اللّه تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (2) فأعطى رسول اللّه لفاطمة فدكا، فصادرها منها أبو بكر، و قال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (3) و عداوة عمر لعليّ أظهر من الشمس.

و صفوة القول أنّ القوم كمعوية جملة و تفصيلا، فما نسبوه إلى معاوية و ما احتجّوا به من كفره، و استدلّوا عليه من نفاقه و استحقاقه اللعنة به فإنّ الكثير من أئمّتهم شاركه به و أشبهه عليه.

و أمّا قوله: و أوّل من قتل مسلما لم يكفر بعد الإسلام و لا زنى بعد الإحصان.

يقول المأموني: سمّ معاوية الإمام الحسن عليه السّلام فقتله، و قال: ذلك معروف.

قال المصنّف: يقول أصحابنا أنّ عمر لعنه اللّه ضرب فاطمة عليها السّلام على بطنها و قتل المحسن في بطنها، و لمّا أخذ معاوية البيعة من أهل الكوفة استعمل عليهم المغيرة بن شعبة و هو عدوّ لأهل البيت عليهم السّلام. و قيل: إنّ المغيرة مات هناك، و أعطى زيادا الكوفة لأنّه كان واليا على البصرة.

و قتلوا حجر بن عدي الذي كان مسلما لم يكفر فيستحقّ القتل، و لا زنى بعد إحصانه .. و كان على الكوفة في ذلك اليوم أربع حكّام: على ربع منها أبو بردة و معه مذحج، و أسيد و عمرو بن حريث المخزومي على اليمامة، و خالد بن عرفطة العذري على تميم و همدان، و قيس بن الوليد المخزومي على كندة و ربيعة، و حين أراد زياد لعنه اللّه قتل حجر بن عدي أحضر هؤلاء الرؤساء فشهدوا جميعا على أنّه خارج على معاوية.

ص: 304


1- الأنعام: 52.
2- الإسراء: 26.
3- الشورى: 23.

و كتب أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري محضرا و فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما شهد عليه أبو بردة للّه ربّ العالمين، شهد أنّ حجر بن عدي خلع الطاعة و فارق الجماعة و لعن الخليفة و دعى إلى الحرب و الفتنة و جمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة و خلع أمير المؤمنين معاوية و كفر باللّه كفرة صلعاء ... (1) فأمر زياد أن تثبت شهادتهم في محضر خاصّ، و بهذه الحجّه الواهية قتل معاوية لعنه اللّه حجرا و خمسمائة من أصحابه رضي اللّه عنهم و أرضاهم.

و أمّا قوله- يعني قول أبي يوسف-: و أوّل من أهدي إليه رأس مسلم ذلك هو رأس عمرو بن الحمق الخزاعيّ (الأنصاريّ- المؤلّف) و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحبّه، و كان عمرو يقول: ما زنيت قبل الإسلام قطّ، و لم أظلم أحدا، و كان قد حمل كتابا إلى معاوية فأنعم عليه معاوية لعنه اللّه بحلل مصريّة و أموال طائلة فردّها عليه و قال:

عندي خمسة و عشرون درهما تكفيني إلى أن أبلغ الكوفة، و من بعده أهدي رأس الحسين عليه السّلام إلى يزيد لعنه اللّه، و رأس عمرو بن الحمق أهدي إلى الأب، و كذلك أهدي رأس يحيى بن زكريّا إلى جبّار من بني إسرائيل.

يقول القاسم المأموني: على يزيد نصف عذاب أهل الدنيا.

قال البيهقي: و لمّا رأى عمر بن الخطّاب سرير معاوية و تاجه قال: هذا كسرى العرب (2) يعني جبّارها.

قال المصنّف: إن كان معاوية كسرى العرب فإنّه صنيعة عمر بن الخطّاب، و إن

ص: 305


1- الغارات 2: 565. و عند المؤلّف: خلع أمير المؤمنين معاوية كفرا صريحا و هو خطأ طبعا. و في الطبري 4: 200: كفرة صلعاء و يعني بذلك ما لا أجرا على التصريح به، و لكنّي أجرأ مثابا إن شاء اللّه على لعن عمر بن الخطّاب الذي زرع معاوية في ضلوع الإسلام لعن اللّه معاوية.
2- نعم بهذا و شبهه أمدّ له ابن صهّاك بالطغيان حتّى تجاوز الحدود فكان شريكه في جرائمه و مآثمه، و لعن اللّه الشريكين المشركين.

كان قال ما قال خوفا على الدين فلما ذا لم ينهه عنه، هل كان يخاف أحدا إن ردعه أو منعه، و لقد فصل معاوية الشام و استقلّ به عن عمر بن الخطّاب كما فعل مع الإمام أمير المؤمنين، و هذا باعث على نقصان ملك عمر بن الخطّاب، و كان غرض عمر اللطم على خلافة الدنيا و لم يغلبه همّ الدين.

يقول حسام الدين الحنفي: ما فعله يزيد مع الحسين كان بتمهيد و إعداد من أبيه و تجربة عمل أبيه.

و يقول المصنّف هذا الكتاب: و ما فعله معاوية إنّما كان بتمهيد و إعداد و نصيحة و إشارة من الصحابة و ذلك أنّ سكوت القوم عن ظلم فاطمة و عدم نصرتهم لها شجّع الناس على ظلم أهل البيت و العدوان عليهم (1).

و أمّا قول أبي يوسف: و أوّل من صالح المشركين من غير جزية بخلاف قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (2) هذا ما أمر اللّه به الجزية أو القتل، أمّا الكافر فلا يحبّه إلّا الكافر.

و أمّا قوله: و أوّل من باع أصناما تعبد من دون اللّه ليزاد في إثمها. روى ركن الإسلام عن مشايخه إلى صاحب أبي الإبل (3) أنّه قال: يا مسروق، كنّا في «سلسلة» فاجتازت بنا سفينة محمله بالأصنام يرسلها معاوية إلى الهند لبيعها. قال مسروق: فقلت: لا يخلو هذا الرجل من أن يكون زيّن له سوء عمله فرآه حسنا أو يكون آيسا من الآخرة فهو يتمتّع بالدنيا و هذه صفة المشركين: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ

ص: 306


1- أشهد أنّ المؤلّف قال الحقّ و نطق الصدق و هكذا ينبغي أن يكون رأي الموالين في القوم و إلّا فلا.
2- التوبة: 29.
3- لا زلت ارتطم بأعلام في الكتاب غير مأنوسة و يعجز علمي عن التعرّف عليها و أحيل القارئ على كتب الأعلام إن كان يريد ضبطها فإنّي لا أجد غضاضة أن أثبتها كما رأيتها عند المؤلّف.

عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً (1) و الثانية صفة الكافرين: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (2)، و من هنا مات و الصليب في عنقه. و يقول القاسم المأموني: قد حصل الاتفاق على هذا من المتقدّمين و المتأخّرين و ذكره محمّد بن الحسن في السير الكبير على هذا الوجه.

يقول القاسم: و ما يقال من أنّ أبا حنيفة رخّص في بيع الأوثان و شرائها فهو كذب محض افتراه عليه النواصب كقدم القرآن و خلق الكفر، و هذا هو مذهب المرجئة و المجبّرة، و أبو حنيفة بري ء من هذا. إلى أن قال: فإنّه كان يعين زيدا بن عليّ على الخروج على بني أميّة و كان شيعيّا محبّا لآل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (3) و كان يقول:

خروج زيد كخروج محمّد يوم بدر، و بعث إليه جرابا من الورق له على الخروج، فقيل له: هلّا نصرته، قال: أخاف ضيعة الودائع، هذا كلامه بأسره.

و أمّا قول أبي يوسف: أوّل من اتّخذ حرسا في الإسلام لأنّه لمّا كان ظالما للأمّة بمثابة الفراعنة و القياصرة احتاج إلى من يحرسه.

و أمّا قوله: أوّل من جلس مجلس رسول اللّه بغير رضا من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقد رأى رسول اللّه رؤيا في المنام كأنّ بني الحكم و بني مروان ينزون على منبره نزو القردة فلم ير ضاحكا حتّى مات، و منه قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ (4).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه. و روى صاحب

ص: 307


1- فاطر: 8.
2- الممتحنة: 13.
3- إنّ تحديدهم التشيّع من المضحكات لأنّهم قالوا: الشيعيّ هو الذي يفضّل عليّا على عثمان، و الرافضي هو الذي يفضّله على الثلاثة، و هذا القول إلى الهراء أقرب منه إلى أقوال العلماء.
4- الإسرا: 60.

المصابيح: و لقد أذلّهم اللّه حين فعلوا ذلك.

قال محمود بن لبيد: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: هذا سيريد هذا الأمر بعدي- يعني معاوية- فمن أدركه منكم فليشقّ بطنه.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم معاوية يطلب الملك فاضربوا عنقه (1).

و أمّا قوله: قتل ابني قثم بن عبّاس، فإنّ معاوية لعنه اللّه أرسل بسر بن أرطاة لعنه اللّه في ثلاثة آلاف إلى الحجاز و في المدينة طلب أبا أيّوب الأنصاريّ مضيّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو من كبار الصحابة و إلى الآن يستسقون بقبره فيسقون، فهرب أبو أيّوب إلى الكوفة فانتضى بسر اللعين سيفه و رقى منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:

لو لا أنّ معاوية عهد إليّ لما تركت فيها رجلا واحدا و لا طفلا حيّا، و أرسل إلى بني مسلمة أحضروا لي جابرا بن عبد اللّه و إلّا ضربت أعناقكم جميعا. و استجار جابر بأمّ سلمة، فقالت أمّ سلمة: هذه بيعة ضلالة يا جابر، اذهب و بايع فأنا أمرت ولدي عمر بن أبي سلمة بالبيعة و مثله صهري.

و استنّ يزيد بن معاوية لعنهما اللّه بسنّة أبيه فأرسل مسلم بن عقبة المرّيّ إلى المدينة فجاء اللعين إليها و قتل هناك ثلاثة آلاف من أولاد المهاجرين و الأنصار و شيوخ الصحابة و ثلاثة آلاف من غيرهم من الأجانب و لكنّهم كانوا من الأخيار و المؤمنين و حفّاظ القرآن، ثمّ قصد مكّة لحرب ابن الزبير فيها، و قيل: هلك ما بين مكّه و المدينة و ذهب إلى جهنّم و استخلف الحصين بن نمير، فنصب هذا اللعين المنجنيق على الكعبة فنزلت صاعقة فأحرقته، و بقي يقاتل هناك أيّاما على أبواب مكّة حتّى جائه نعيّ يزيد و دام ملكه ثلاث سنين و ثمانية أشهر.

ص: 308


1- و ينبغي كذلك أن تضرب عنق ابن صهّاك عمر بن الخطّاب لعنه اللّه الذي أمدّ له بالطغيان و أعانه حتّى تسنّم غارب الحكم.

و قيل: إنّ اللعين قذف دما من فمه بلغ عشرين طستا حتّى مات، و قيل: وقع في الكنيف ميّتا، و قيل: مكان موته ظاهر لحدّ الآن، و قيل: ذهب يصطاد فضل في البيداء «خسر الدنيا و الآخرة».

و قبل هذا كان بسر قد قصد اليمن و عليها عبيد اللّه بن العبّاس من قبل عليّ عليه السّلام، و لمّا دخل اليمن هرب منها عبيد اللّه بن العبّاس إلى أمير المؤمنين لأنّه لا طاقة له ببسر، و استخلف على اليمن شخصا آخر فقتل أولاد العامل المستخلف و ولدين لعبيد اللّه بن العبّاس و كان الطفلان قد أودعا عند رجل، فقال ذلك الرجل لبسر: يا أمير، إنّهما لا ذنب لهما فاقتلني مكانهما، فقتله و قتل الطفلين و عاد إلى الشام و أوقع في طريقه بكلّ من له هوى في أمير المؤمنين عليه السّلام.

و لمّا بلغ أمير المؤمنين الخبر بعث محارب بن قدامة في ألفين و سرّحهما في طلب بسر ليقبضوا عليه أو يقتلوه فلم يدركاه، و هرب إلى الشام و كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام عقد للإمام الحسين عليه السّلام على عشرة آلاف و لقيس بن سعد مثله، و مثلهما أبو أيّوب الأنصاريّ و أمرهم بقصد الشام، و لكن ابن ملجم لعنه اللّه لم يمهل أمير المؤمنين عليه السّلام حتّى قتله، و لمّا بلغ الحارث مكّة ليأخذ منهم البيعة بلغه خبر قتل أمير المؤمنين عليه السّلام فتفرّق الناس عنه، و ذهب عبيد اللّه بن عبّاس إلى مكّة و شكى إليه بسرا و أخبره بقتل ولديه، فقال له معاوية: إن ظفرت بابنيه فاقتلهما- ساخرا به- و إلّا فدونك الرجل.

و هرب ولدا جعفر الطيّار من كربلاء كما روى المخالفون فأدركهما صفوان الملعون فقتلهما و بعث برأسيهما إلى عبيد اللّه بن زياد لعنهما اللّه، فقال له عبيد اللّه: إنّ هذين الطفلين لا ذنب لهما فلم قتلتهما، و أمر بضرب عنقه.

و كان عبيد اللّه رجلا فاضلا شجاعا و صاحب سخاء و بذل و جائه رجل من الأنصار فقال: وضعت امرأتي البارحة ولدا و سمّيته باسمك، فأمر في الحال بشراء

ص: 309

مرضعة له، و أعطاه مأتي دينار و أوقفها عليه ما دام حيّا، و كان يتعاهد سميّه الطفل، و ما فتى يردّد: لا أضيّع سمّيي.

الفصل الثامن

و معاوية أوّل من سنّ الغارة في الإسلام، فيقال: إنّه سرّح الضحّاك بن قيس إلى «الواقفة» (1) في ثلاثة آلاف مقاتل ليغيروا على من كان فيها على طاعة أمير المؤمنين، فأكثر الملعون الغارة و قتل كثيرا من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام و خرج منها إلى الثعلبيّة و أغار عليها و نهب ما فيها.

و بلغ عمر بن عمير محاطا بخدمه و مواليه و كان قاصدا حجّ البيت و معه عياله و أهل بيته فأغار عليه و منعه من الحجّ.

و كان معاوية يغير على قوافل الحجّاج كلّما سنحت له الفرصة، و لقد ذكر الإمام كثيرا من ذلك في نهج البلاغة.

و في الليلة التي رجع أمير المؤمنين عليه السّلام فيها من حرب الجمل تقدّم إليه مالك الأشتر و قيس بن هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص و عدي بن حاتم و عبد اللّه بن بديل ابن ورقاء و أمثالهم و قالوا: ائذن لنا أن نكون الليلة عندك فنعبد اللّه تعالى، و قال لمحمّد بن الحنفيّة و للعبّاس السقّاء: قفا هذه الليلة و احرسا المدينة فقد بلغني أنّ جيش معاوية بلغ القطقطانة لينهبا ماشية الناس.

و ذهب قيس في الليلة الثانية لحراسة الكوفة فلمّا تناصف الليل سمع صوتا عاليا فأصاخ السمع له و إذا هو صوت صعصعة بن صوحان و هو يقول: سمعت أنّ

ص: 310


1- أقول للقارئ العزيز: كن على حذر دائما من أسماء الأعلام التي لم يحقّقها المترجم لسبب من الأسباب، و لا تطمئنّ إلى صحّتها حتّى تقف على ذلك بنفسك إمّا بإشارة من المترجم أو بتحقيق تقوم به أنت نفسك.

أصحاب معاوية قادمون بخمسمائة مقاتل و معهم السلاح ابتاعوه و حملوه على أربعين حملا من بني فزارة، و ذهب صعصعة إلى الكوفة ليخبر الإمام عليه السّلام بواقع الحال، فاستقبله في الطريق مالك الأشتر فأخبره، فعجّل مالك بالخبر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و استأذن أمير المؤمنين و أخذ معه أربعمائة رجل و ذهب يتعقّب السلاح، و لمّا فرغ الإمام عليه السّلام من صلاة العتمة رأى قيس بن سعد بن عبادة قد عاد بأصحابه و بعد أن حيّوا الإمام أمير المؤمنين و استأذنوه لقتال القوم و إعادة السلاح، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: سبقك بها الأشتر.

و كان أمير عسكر معاوية مسعدة الفهريّ و معه ثلاثمائة و قد نزلوا على «رغاله» و لمّا رآهم مالك الأشتر فظنّوهم من الأعراب فهبوا للإغارة عليهم، قال عبد اللّه بن عاصم: كنت مع الأشتر، فقال: أيّها الناس، هؤلاء جمع الفسّاق و الظالمين فماذا تفعلون لينصركم اللّه عليهم، ثمّ حمل عليهم الأشتر بأصحابه فصاح مسعدة: من أنتم و ما تريدون؟ فقال مالك: أنا الأشتر النخعيّ و معي أصحاب أمير المؤمنين، فهرب القوم و أسر الأشتر مسعدة.

و أسرع أخ مالك عبد اللّه بن الحارث إلى خيمة الأريقط و كان الملعون نائما و قد ثمل، فلمّا أحسّ بقرب عبد اللّه منه استوى على ظهر فرسه و استلّ عبد اللّه سيفه، و أقبل تخبّ به فرسه فاقتتلوا قتالا شديدا، فجاء الأشتر مددا لأخيه، و حمل على الأريقط و أسره، فهرب أصحاب معاوية و أقبل مالك بالسلاح إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد شدّ مسعد و الأريقط بالوثاق، فسأل عليّ عليه السّلام عن وضع السلاح، فقالا: ابتعناه بالمال، فقال: هذا من بيت المال و نحن أولى به، ثمّ وضعه في بيت المال، و قالوا: إنّما أخذنا ماله نهبا من الناس الذين أغرنا عليهم، فأمر بالبحث عن أصحاب المال و ردّه عليهم، ثمّ أطلق الأسرى بلطفه و عدله و ذهبوا إلى الشام.

و منه كلام عليّ عليه السّلام: فتوا كلتم و تخاذلتم حتّى شنّت عليكم الغارات.

ص: 311

الفصل التاسع في أنّ معاوية أوّل من زوّر الكتب في الإسلام

كان قيس واليا على مصر من قبل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فكتب إليه معاوية أن أقبل إليّ حتّى نطلب بدم عثمان و أعطيك ولاية العراقين و أقضي لك حاجاتك و حاجات أهل بيتك، فكتب إليه قيس: أمّا بعد، فالعجب من اغترارك و طمعك فيّ و أمرك إيّاي أن أترك وصيّ النبيّ و الإمام الهادي و جنّة المأوى و أدخل طاعتك طاعة الجبت و الطاغوت، هذا ممّا لا يكون. و أمّا قولك أنّك تملأ المصر خيلا فو اللّه إنّي أشغلك عن ذلك و إنّك لذو كيد و خدع، فكد كيدك فإنّ اللّه لا يهدي كيد الخائنين.

و لمّا قرأ معاوية كتاب قيس بن سعد أيس منه شرع يزوّر محضرا على قيس و افترى عليه بالوجه التالي: من قيس بن سعد الأنصاري إلى الأمير معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد، فإنّ قتل عثمان كان في الإسلام عظيما و قد نظرته لنفسي و ديني فصدّني عن مظاهرة قوم قتلوا عثمان إمامهم مسلما تقيّا نقيّا من الآثام بريئا طاهرا من الأجرام فليستغفر اللّه لذنوبنا و نساله العصمة لأدياننا، ألا و إنّي قد ألقيت إليكم السلام و أجبتكم إلى قتال رجل قتل إمام الهدى المظلوم في حرم رسول اللّه، فحوّل عليّ بما أحببت من الأموال و الرجال أعجل بها إليك أيّان شئت، و السلام.

و اشتهر بين العرب أنّ قيسا صالح معاوية، و كتب معاوية بذلك إلى المدينة إلى أخته أمّ حبيبة، فسمع أولاد عليّ هناك فأبلغوا عليّا به، فبعث أمير المؤمنين محمّدا ابن أبي بكر مكانه إلى مصر، و لم يكن محمّد في شجاعة قيس لأنّه كان من شجعان العرب، و لمّا فرغوا من حرب صفّين أرسل عمرو بن العاص معاوية بن خديج إلى

ص: 312

مصر ليقاتل محمّدا بها، ثمّ قبضوا عليه و وضعوه في جيفة حمار و أحرقوه.

الغرض: كان قيس يرى معاوية بمنزلة اليهود و يدعوه بالجبت و الطاغوت، و كان تحريفه الكتب من صفات اليهود «يحرّفون الكلم عن مواضعه».

قال أحمد بن أعثم الكوفيّ: إنّ معاوية أرسل إلى شرحبيل والي ابن السمط في حمّص و معه رؤساء الشام و قال: اشهدوا من الذي قتل عثمان، فشهد بسر بن أرطاة و جابر بن سعد الطاريّ و مخارق بن الحارث و حمزة بن مالك و أبو الأعور السلميّ و الضحّاك بن قيس الفهريّ و ذو الكلاع الحميريّ و حوشب ذو الظليم و غيرهم بقول واحد لفظا و معنى بأنّ عليّا قاتل عثمان.

ثمّ قال معاوية: لو لا أنّ عليّاص قتل عثمان لما خالفناه، فخدع بقوله شرحبيل و بايعه و خرج منه إلى ولايات الشام و مدنه و جمع رجالا كثيرا لحرب عليّ، و كتب إليه جماعة من أصحابه يسألونه فقال: أنا لا أردّ شهادة الشهود فإن كذبوا ففي أعناقهم و السلام (1).

و لو كان معاوية مسلما لما شهد شهادة الزور، و الزور أخو الشرك كما قال تعالى:

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (2).

المعروف عن أمير المؤمنين أنّه أمر بأن لا يسدّوا طريق الماء على وارد، فلمّا أقبل معاوية و لم يجد على الماء أحدا أمر باحتلاله و منع عليّ و أصحابه منه، فأرسل الإمام عليه السّلام إليه رسولا يدعوه إلى ترك احتلال مورد الماء، فلم يفعل و استشار جماعة من أصحابه فأشاروا عليه بمنع الماء حتى يموتوا، فقال عمرو بن العاص: إنّي

ص: 313


1- تناول المؤلّف من الفتوح جملا و عبارات ليست منتظمة على شكل رواية لذلك آثرنا الإرشاد إلى الجزء و الصفحات التي يوجد فيها نقل المؤلّف الجزء الثاني ص 539 إلى آخره.
2- الحجّ: 30.

لست أرى أن تمنعهم عن الماء، افتح لهم طريق الماء و إلّا أخذوه منك قهرا، فما انثنى معاوية لقول ناصح و بات الناس و الكراع و الماشية على حرارة العطش، و قد أمضّ بهم ذلك و أجهدهم، فلمّا أصبح الصباح شكوا أمرهم إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، فأمر عليّ عليه السّلام باستنفار عدّة آلاف من المقاتلين ليبعّدوهم عن شاطئ الفرات، ثمّ اقتتلوا حتّى أبعدوا أولئك الكلاب عن مراكزهم و نزل أصحاب الإمام فيها و صار الماء في قبضة أيديهم. فقال عمرو بن العاص: ألم أقل لك لا يظمأ عليّ و سيفه على عاتقه فما ارعويت، فقال معاوية سوف نهلك نحن و ما شيتنا، فقال عمرو بن العاص: إنّ عليّا رجل حليم و كريم و لن يقابلك بالمثل، فأرسل إليه جماعة و طلب منه فتح طريق الماء، فلمّا عاد الرسل إلى معاوية بعد أن تضرّعوا لطلب الماء أمر عليّ حالا أن يخلّى بينهم و بين الماء، بينما لم يمرّ يومان على ما قاله الأشتر للإمام عليّ عليه السّلام: إنّنا يا أمير المؤمنين نشتري قربة الماء بثلاثة دراهم، و قال الأشعث: يا أمير المؤمنين، أو نموت عطشا و بأيدينا رماحنا و سهامنا و متنكّبين أقواسنا، ائذن لنا في الحرب، فأمر أن يخرج مع الأشتر و الأشعث اثنا عشر ألفا و أيديهم على مقابض سيوفهم، و دخلوا ميدان الحرب.

قيل: إنّ فيّاض بن الحارث قال لمعاوية: لو أنّ كفّارا من الروم جاؤونا يستقون الماء لما حلّ لنا منعهم و وجب سقيهم فكيف و هؤلاء صحابة رسول اللّه و فيهم وصيّه و ختنه و أولاده، فليس من الدين منع الماء عنهم، فلم يقبل قوله معاوية، و اقتدى عبيد اللّه بن زياد بمعاوية فمنع الماء على الحسين و أهل بيته.

قال القاسم المأموني في كتاب الحاوية: إنّ معاوية قال لسعد بن أبي وقّاص: و ما يمنعك من سبّ عليّ؟ فقال: ثلاثة أحاديث تمنعني من سبّه:

الأوّل: إنّ النبيّ قال له يوم خيبر: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّه اللّه و رسوله و يحبّ اللّه و رسوله، فدفعها إلى عليّ.

ص: 314

و الثاني: لمّا خرج النبيّ إلى تبوك و أعلمه الوحي أنّ الحرب لا تقع هناك، و ترك المنافقين حول المدينة، قال لعليّ: لا يسدّ أحد مسدّك و لا يقوم مقامي غيرك في الحفاظ على النساء و الأطفال، فخلّفه في المدينة و اقامه مقامه، فلمّا سار عن المدينة فراسخ أرجف به المنافقون و قالوا: استثقله رسول اللّه فتركه في المدينة و استخلفه عليها، فتبعه عليّ و قال: أتتركني مع النساء و الصبيان؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أما يرضيك أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي.

و الثالث: يوم غدير خمّ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله.

يقول المأموني: لذلك عمد إلى قتله بالسمّ بعد سمّه الإمام الحسن عليه السّلام.

و روى أيضا بأسانيده عن أنس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: خلق من نور وجه عليّ عليه السّلام سبعون ألف ملك يستغفرون له و لمحبّيه (1).

و جاء في الفتوح أنّ عليّا أعطى الراية لهشام و قال: اخرج إلى عدوّي القرآن و حزب الشيطان، فخرج عليه رجل من أهل الشام و شرع بشتم أهل البيت، فوعظه هشام و تلا عليه مناقب عليّ، فقال الشاميّ: أو تقبل توبتي؟! فقال هشام:

أجل، و أقبل به إلى الإمام فبالغ بإكرامه.

و ذكر أهل النقل أنّ عبيد اللّه بن عمر لمّا هرب من عليّ عليه السّلام و لجأ إلى معاوية خوفا من القصاص لدم الهرمزان لأنّه قتله بظلم فأكرمه معاوية و أعطاه عشرين

ص: 315


1- مائة منقبة لمحمّد بن أحمد القمّي: 42 و 148 و 169، مناقب آل أبي طالب 2: 279 و عزاه إلى عمر بن الخطّاب، المحتضر: 95، مدينة المعاجز 3: 35 و 36 و 135 و 136، بحار الأنوار 23: 320 و 27: 118 و 39: 275 و 40: 125 و 65: 142، مقام الإمام عليّ لنجم الدين العسكري: 25 و 45، مستدرك سفينة البحار 9: 426، المناقب للخوارزميّ: 71 و 329، تأويل الآيات 2: 670، مجمع النورين للمرندي: 245.

ألف درهم و فرسا و كسوة، و كان معاويه يبالغ في رفعه و التنويه فيه و يأمره أن يسبّ عليّا و يتبرّأ منه، فكان عبيد اللّه يأبى ذلك. إلى أن قال له يوما ليمتحنه: ماذا تقول في حقّ عليّ عليه السّلام؟ فقال: و ماذا أقول في حقّه؟ أبوه أبو طالب، و أمّه فاطمة بنت أسد، و هو في نفسه غنيّ عن التعريف، و الناس و أنا و أنت نعلم ذلك.

و أمره معاوية يوما أن يعتلي المنبر و يشتم عليّا، فلمّا حمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبيّ، سكت فلم ينطق ببنة شفة، فخاف منه معاوية، فقال عبيد اللّه: كرهت أن أقطع شهادة اللّه بشهادة الزور، فاستحيا معاوية و قال: الرجل أحصر عن سبّ عليّ، فلا بيان له، و ليس من أهل الفصاحة، فقال عبد اللّه أبياتا منها:

معاوية لم أحبس لخطبة خاطب و لم أك عيّا في لويّ بن غالب و كفّر معاوية عبد اللّه بن بديل و أنكر صحبته و صحبة أبيه، بينما هو من الصحابة و شأنه شأن موسى و فرعون حين قال فرعون لموسى: وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (1).

و معاوية أوّل من أعلن سبّ أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صيّرها سنّة، فكان مصداق قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ (2) و قال اللّه تعالى: أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (3) قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من سنّ في الإسلام سنّة سيّئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها (4).

ص: 316


1- الشعراء: 19.
2- البقرة: 41.
3- الأعراف: 80.
4- التحفة السنيّة لعبد اللّه الجزائري- مخطوط: 33، كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 2: 416، روضة الطالبين لمحيي الدين النووي 1: 73، حاشية ردّ المختار لابن عابدين 1: 62، نيل الأوطار للشوكاني 7: 198، شرح أصول الكافي 12: 38، مستدرك الوسائل 2: 229، المسترشد: 511، الفصول المختارة: 136، الاختصاص: 215، منية المريد للشهيد الثاني، بحار الأنوار 2: 24، مسند أحمد 4: 357، صحيح مسلم 2: 87 و تركنا أكثر الكتب.

يقول مصنّف هذا الكتاب: ذكر صاحب الحاوية هذا الحديث و نسي أن يتذكّر بأنّ أوّل ظلم وقع على أهل البيت كان من الصحابة و ظلّ هذا الظلم ساريا فيهم إلى يوم القيامة، فكلّ ظلم جرى عليهم بعد ذاك الأوّل فهو من سنّتهم و سنّة الشيخين لعنهما اللّه.

و صفوة القول: خرج في اليوم الخامس عشر عبد اللّه بن بديل خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين مع أصحابهما و الحفّاظ بإذن أمير المؤمنين عليه السّلام فكسروا جفون سيوفهم و استشهدوا بأجمعهم في ذلك اليوم، فلمّا رأى معاوية عبد اللّه بن بديل قال:

من قتل هذا فله عندي ما أحبّ من أموالي أحكّمه فيها ياخذ منها ما شاء، فقال قاسم بن مسعدة: إن جئتك برأسه تعطيني ولاية مكّة؟ فقال معاوية: نعم هي لك، فخرج ذلك اللعين إليه، و قال عليّ عليه السّلام لمالك الأشتر: صر إلى جانب عبد اللّه و كن ردءا له حتّى إذا احتاج إليك أعنته، و أرسل عبد اللّه في أوّل حملة القاسم بن مسعدة إلى نار جهنّم، و خرج سهل بن عبيد اللّه و كان نديما لمعاوية لعنه اللّه فقتله عبد اللّه بن بديل، و صاح بهم معاوية: احملوا عليه من كلّ جانب، و اقتدى به عبيد اللّه بن زياد في حربه لمسلم بن عقيل عليه السّلام و كذلك عمر بن سعد الذي نادى بالإحاطة بالحسين عليه السّلام.

و لمّا رأى مالك تفاقم الوضع حمل حملته فثارت غبرة عظيمة سدّت الأفق و اظلمّ الهواء من العثير، و كسى التراب الرايات و لم يسمع إلّا وقع السيوف على الهام و على الدرق و الأسلحة، و جرح عبد اللّه، فقال معاوية: ارموه بالحجارة،

ص: 317

و كانت هذه السنّة لعمر بن سعد مع الحسين عليه السّلام، و لم يرضه هذا حتّى فرّق بين رأسه و بدنه، و أوطأ صدره الشريف الخيل (1) و أهدوا رأسه إلى الشام و كلّ ما جنوه سببه معاوية (2).

و صفوة القول: و لمّا قتل عبد اللّه بن بديل تمنّى أن يلحق به الأشعث الكنديّ و مالكا الأشتر، و كان في كلّ يوم يتحدّث عن كفر و بغي صحابة الرسول و هذه هي حاله وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا (3) و هذا الجحد نابع من ظلمهم و تكبّرهم.

قال صاحب الكشّاف: سرق طعيمة بن الأهرق من أولاد بني ظفر درعا من جاره قتادة بن النعمان و خبأه في عنبر الدقيق ثمّ سربه إلى اليهود سرّا و قبضوا على طعيمة و اتّهموه بالدرع فأقسم باللّه أنّ الدرع ليس عنده و لم يكن قد سرقه، و رفعت عنه التهمة ليمينه التي أدّاها، من ثمّ أطلقوا سراحه، و ذهبوا إلى بيت اليهوديّ فوجدوا الدرع عنده، فساقوه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فنزلت هذه الآية: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (4) و شهد اليهود عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ هذا الدرع خبأه طعيمة عند صاحبنا و لم يسرقه من أحد، فلم يقبلوا قوله، و خلاصة الحديث أنّ معاوية في كلّ يوم يعيب أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يبهتهم.

روى زين الأئمّة إسماعيل البراري بإسناده عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: سبّاق الأمم ثلاثة لم يشركوا باللّه طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون، و يوسف بن حبيب

ص: 318


1- و هنا لا خيار لي إلّا لعنهم و على رأسهم ملهمهم و معلّمهم عمر بن الخطّاب لعنه اللّه.
2- و معاوية صنيعة ابن الخطّاب لعنهما اللّه.
3- النمل: 14.
4- النساء: 112.

النجّار، و عليّ بن أبي طالب و هو أفضلهم (1).

قال أنس: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما من أحد أفضل من إمام إن قال صدق، و إن حكم عدل، و إن استرحم رحم. قال المأموني: و هذه الخصال اجتمعت في عليّ عليه السّلام.

الفصل العاشر في إظهار إسلام معاوية

شهر معاوية لعنه اللّه إسلامه يوم فتح مكّة. و قال بعضهم: كان ذلك قبل فتح مكّة، و إن صحّ ذلك فينبغي أن يكون قد ارتدّ بعده لأنّه من المجمع عليه أنّ المهاجرين و الأنصار كانوا يخاطبونه بالطليق، و لم ينكر عليهم.

أمّا كيف أطلق عليه هذا اللفظ فإنّ صاحب الفتوح ذكر أنّ ابن عبّاس كتب إليه جوابا عن كتابه و فيه: أمّا أنت يا معاوية فطليق بن طليق رأس الأحزاب، ابن آكلة الأكباد.

دخل أبو هريرة و أبو الدرداء على معاوية كما ذكر ذلك صاحب الفتوح، فذكرا مناقبه من السبق إلى الإسلام و غيرها، و قالا: أنت طليق ابن طليق و أبوك من الأحزاب، فقال: بلى صدقتما و لكن لا أطلب الخلافة بل أطلب بدم عثمان (2).

ص: 319


1- الكفي 2: 254، و في السياقين اختلاف، و 3: 327، مناقب ابن شهر آشوب 1: 290، مدينة المعاجز 6: 110، بحار الأنوار 13: 58 و سياقه سياق المؤلّف، و 64: 205، مناقب الشيرواني: 43، مستدرك سفينة البحار 1: 509 و 4: 405، ألف حديث في المؤمن: 42، الصافي 4: 251، تفسير نور الثقلين 4: 283، تفسير الميزان 17: 83، قصص الأنبياء: 465.
2- أقول: كيف يقول أبو هريرة هذا لمعاوية و هو من أنصاره و عشّاق مضيرته، و من شانئي أمير المؤمنين و ناصبيّ لعين، و يطيب للرواة دائما أن يحشروهما معا أبو الدرداء و أبو هريرة، فما هو السبب؟

قال حسام الدين و أبو القاسم ابن أحمد المؤذني: قال الحسن: سمعت النبيّ يقول:

الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان و على الطلقاء و أبناء الطلقاء، و إذا رأيتم أحدا منهم على منبري فابقروا بطنه (1).

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لعمرو بن العاص لمّا رمى بنفسه و كشف سوئته:

أنت طليق دبرك أيّام عمرك (2).

و المهاجر كلّ من أسلم قبل الفتح، و الأنصاريّ كذلك، و الطليق أولئك الذين ساقهم رسول اللّه يوم فتح مكّه لقتلهم و هم ألف و خمسمائة ما بين رجل و امرأة، ثمّ عفى عنهم و أطلقهم و لم يقتلهم، من ثمّ يدعون الطلقاء، و كان الفتح سلخ شهر رمضان، و توفّي النبيّ في ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة، و كان معاوية قد قضى أكثر أوقاته في مكّة بعد الفتح، فمتى وجد الأهليّة للخلافة؟ و أين وجدها بل متى كتب الوحي للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله؟!

و ذكر أصحاب المغازي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يريد مكّة فقال و هو سائر: سيوافينا معاوية مرسلا من أهل مكّه بطلب الأمان، فبينما هم كذلك و النبيّ يحدّثهم إذ طلعت عليهم كوكبة و فيها أبو سفيان، فهرع نحوه الأصحاب فصاح: يا محمّد، إنّي مقتول، مرهم ليوصلوني للعبّاس، و كان العبّاس وكيله في الجاهليّة، فأشار النبيّ إلى أصحابه أن خذوه للعبّاس، فاستقبله العبّاس و عرض عليه الإسلام فلم يرض، و عرض عليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الإسلام و قال: أما آن لك يا أبا سفيان أن تسلم؟ فقال:

أمهلني أربعة أشهر، و قال بعضهم: إنّه أسلم ساعتها.

ص: 320


1- كلمات الإمام الحسين: 285 و فيه: إذا رأيتم معاوية، الحديث. حياة الإمام الحسين للقرشي 2: 275، و كلّ الأحاديث المرويّة تذكر آل أبي سفيان و ليس الطلقاء إلّا هذان المصدران.
2- الغدير 2: 161، المناقب للموفّق الخوارزمي: 236.

و صفوة القول: فلمّا أصبح الصباح أذّن المؤذّن فهب المسلمون للوضوء، فخاف أبو سفيان يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ (1) فقال للعبّاس: و ما يصنع هؤلاء؟ فقال له العبّاس: إنّهم يتطهّرون للصلاة، فقال أبو سفيان: إنّهم يطيعون كلّ ما يقوله محمّد. فقال العبّاس رضى اللّه عنه: نعم، فقال أبو سفيان: إذا نهاهم عن الأكل و الشرب؟ فقال: نعم يتركونهما و يفعلون ما يؤمرون. ثمّ قال: يا أبا سفيان، إنّي لأراهم سيهلكون قومك غدا.

فلمّا أصبح الصباح جاء به العبّاس إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اترك اللات و العزّى، فقال: ما أصنع بهما إن تركتهما؟ فقال أحد الصحابة و كان حاضرا: تحروا عليه، فلمّا ركب الجيش أردف العبّاس أبا سفيان خلفه فمرّت عليه الكتائب كتيبة كتيبة إلى أن رأى راية رسول اللّه و السواد الأعظم، فقال: ما هذا السواد؟ فقال العبّاس: هذه كتائب ابن أخي، فقال أبو سفيان: ما أعظم ملك ابن أخيك! فقال:

ليس هو بملك و لكنّه النبوّة.

و صفوة القول: إنّ النبيّ لمّا أمر منايه فنادى: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فلمّا سمعت هند قالت: و اللّه لحري أوسع من دار أبي سفيان. و جاء أبو سفيان إلى مكّه و صاح: اسلموا تسلموا، و قالت هند: هذا قول من صبأ فجرته، و قيل:

قبضت عليه من لحيته و جرّته من ثيابه و رأسه و قالت: صبوت؟ و أنكر عليه معاوية ذلك و حدث تغيير كبير في الإسلام.

قيل: و فرّ معاوية ذلك اليوم و لمّا عاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة كتب معاوية كتابا إلى العبّاس أن يأخذ له الأمان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ففعل العبّاس و جاء معاوية حتّى دخل على النبيّ و بقي النبيّ حيّا من بعد ذلك ستّة أشهر.

ص: 321


1- المنافقون: 4.

قيل: إنّ معاوية استشار يزيد في البيعة لأمير المؤمنين عليه السّلام، فقال له:

معاوي إنّ الشام شامك فاحترس و إيّاك أن تدخل عليك الأفاعيا

و حام علينا بالصوارم و القناو لا تك مقصور الذراعين وانيا

و إنّ عليّا ناظر ما تجيبه فاهد لنا حربا تشيب النواصيا (1) و كان مالك بن خالد القرشي حاضرا، فقال: يا معاوي، إنّك من أهل مكّة و ابنك شرّ منك، يا معاوية إنّ أباك قد أسلم و هو كاره، و إن كنت نسيت ذلك فإنّي أذكّرك حين ذهبت تلومه و تقرعه على الإسلام و تعيّره بهذه الأبيات:

يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنابعد الذين ببدر أصبحوا مزقا

خالي و جدّي و عمّ الأمّ يالهم قتلى و حنظلة المهدي لنا الأرقا

لا تركنن إلى أمر تكلّفناو الراقصات به من مكّة الخرقا

فالموت أيسر من قول العصاة لناخيل ابن هند عن العزّى كذا (2) فرقا (3) قال معاوية: يا عجبا منكما أكرمكا و أموالكما و أنتما على عداوتكما إيّاي و بغضكما، و أورده بلفظ التثنية و الخطاب لمالك بن خالد على عادة العرب في إجراء الواحد مجرى التثنية عند استعظام الشي ء.

قال أبو سفيان ذات يوم و هو مختل بهند: العجب من اللّه حين أنزل القرآن على

ص: 322


1- الشعر للوليد بن عقبة أخي عثمان من أمّه، كتبه إلى معاوية و منه: و إلّا فاسلم إنّ في السلم راحةلمن لا يريد الحرب فاختر معاويا الغدير 1: 317، شرح ابن أبي الحديد 3: 84، تاريخ دمشق 59: 131 و 132، سير أعلام النبلاء 3: 140، أنساب الأشراف: 289، البداية و النهاية 8: 137، وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: 52.
2- لنا.
3- التعجّب: 38، الغدير 10: 168 و 169، شرح ابن أبي الحديد 6: 289، النزاع و التخاصم للمقريزي: 22، جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب لابن الدمشقي 2: 223.

يتيم أبي طالب و لم ينزله عليّ أنا أو على عبد اللّه بن سلول المدني. و لمّا دخل على النبيّ في اليوم الثالث قرأ عليه النبيّ هذه الآية: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (1).

و جاء في كتاب الحاوية: و لمّا بايع الناس عثمان قال أبو سفيان: قد عاد ملكنا فنرجو أن يعود ديننا، و كان الملعون يتمنّى عودة الشرك.

يقول مصنّف الكتاب: إنّ الشرك لم يعد و لكنّهم انتقموا له و أخذوا بثأره، كما قتل النبيّ من المشركين و أخافهم و روّعهم فأظهروا الإسلام رهبة قاموا بعد وفاة النبيّ بأخذ الثأر منه للشرك فأخذوا نحلة ابنته و عزلوا وصيّه عن خلافته المنصوص عليها و إمامته الموروثة و منعوا ثياب الإسلام و حمل شعار النبيّ على الرأس و دفنوا أصول الدين بنفاقهم، و غيّروا معالم الدين و بدّلوها.

في كتاب «الإنسي في قتل آل النبي» أورد المأموني أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعن معاوية في سبعة مواطن وردّدها الإمام الحسن عليه السّلام عليه في بعض محاوراته معه كما رواها حسام الدين القاسم من علماء أهل السنّة.

الموطن الأوّل: يوم خرج من المدينة و يوم عسير، و يوم الأحد، و يوم الأحزاب، و يوم منع الهدي أن يبلغ محلّه، و يوم غطفان، و يوم العقبة إذ همّ بما لم ينل مع اثني عشر رجلا و لم ينكر معاوية ما قاله.

خرج عبيد اللّه بن عمر يوم صفّين يطلب المبارزة فخرج إليه الحسن، فقال:

يا بن رسول اللّه، خالف أباك نولّك هذا الأمر فأنت خير منه، فقال الحسن عليه السّلام: لا تكفر باللّه و رسوله فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال حيث مدحنا: «أبوهما خير منهما» و أمّا

ص: 323


1- الزخرف: 31.

معاوية و أبوه فلم يسلما لكنّهما استسلما، و أنّه خدعك عن دينك (1)، فضحك عبيد اللّه و عاد إلى معاوية و قال: خدعت الحسن فلم ينخدع، و هذا الكلام يدلّ على أنّ التقدّم على عليّ كفر.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، لا يتقدّمك بعدي إلّا كافر.

قال مصنّف الكتاب: و العجب من مؤلّف الحاوية المأموني و غيره حيث يروون هذا الحديث و مع ذلك يرون شيوخهم الذين تقدّموا على عليّ مصيبين، مع أنّ الإطلاق ظاهر الحديث.

الفصل الحادي عشر

و لمّا هلك يزيد لعنه اللّه و ذهب إلى جهنّم سائت مستقرّا و مقاما، انتقل الأمر إلى ولده معاوية، و كان وليّ عهد يزيد و لكنّه أعلن البرائة منه فرقى المنبر و لعن يزيد أباه و معاوية جدّه، فقالت له أمّه: يا بنيّ، ليتك كنت حيضة في خرقة، فقال:

وددت ذلك، و حكم أربعين يوما ثمّ قضوا عليه بالسمّ و قتلوا معلّمه بدفنه حيّا.

ذكر يوما عند معاوية شجاعة عليّ و الأشتر، فقال معاوية: فما منّا واحد إلّا و هو واتر له، فإذا اجتمعتم عليه فعسى أن تدركوا ثأركم منه، و شفيتم صدوركم، فأنكر عليه الوليد بن عقبة و قال: تقدّم الشيخين عليه، كان انتقاما من اللّه و رسوله لواقعة بدر و حنين.

ص: 324


1- سبق و أنّ ذكرها المؤلّف للحسين عليه السّلام. كامل البهائي ج 2 325 الفصل الثاني عشر في خطبة ضرطة معاوية ..... ص : 325

الفصل الثاني عشر في خطبة ضرطة معاوية

الفصل الثاني عشر في خطبة ضرطة معاوية (1)

يقول المأموني السنّيّ في كتابه «الحاوية» بأسانيد صحيحة أنّ معاوية خطب يوم الجمعة فأفلتت منه ريح عاصفة، فبان الانكساف في وجوه الحاضرين و سببه أنّ صلف معاوية حمله على عمل هذا الفعل القبيح على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (2) فقطع هذا الوكح الخطبة و قال: الحمد للّه الذي خلق أبداننا و أسكنها أرواحنا، و جعل فيها رياحا و جعل خروجها للنفس راحة، فربّما اختلجت في غير أوانها و انقلبت في غير وقتها فلا جناح على من جاء منه ذلك، و السلام.

فقام صعصعة بن صوحان العبدي و قال: صدقت يا معاوية، إنّ اللّه خلق أبداننا و أسكنها أرواحنا و جعل فيها رياحا و جعل خروجها للنفس راحة، و لكن جعل إرسالها في الكنيف راحة و على منبر رسول اللّه بدعة (و قباحة) ثمّ قال: يا أهل الشام، قوموا فقد خرأ (أحدث) أميركم فلا صلاة لكم (3) ثمّ خرج و توجّه إلى المدينة.

ص: 325


1- بيّنت للقارئ الكريم أنّي أذر العناوين التي وضعها المؤلّف على ما هي عليه بدون أدنى تغيير لوضعها بالعربيّة و أنا أترجم الكتاب من الفارسيّة إلى العربيّة فإلى أيّة لغة أترجم العربيّة هذا و إن خالفت القواعد أو اللياقة.
2- لا شكّ أنّ الرجل اقتدى بأستاده في الظلم و بغض أهل البيت و الغشم و الغصب و الضراط عمر بن الخطّاب لعنة اللّه فقد كان يفعلها على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
3- شجرة طوبى 1: 95، مواقف الشيعة 3: 257.

الفصل الثالث عشر جلي في اشتقاق اسمه

اشارة

الفصل الثالث عشر جلي (1) في اشتقاق اسمه

قيل: اختلف شيعيّ و سنيّ في عليّ و معاوية، فحكموا أعرابيّا، فقال الأعرابيّ:

أنا لا أعرف أيّا منها و لكن من حيث الاشتقاق فمعاوية مشتقّ من «عوى الكلب عواءا»، و معاوية يقال لأنثى الكلاب التي تعاوي غيرها، و اشتقاق عليّ من «علا يعلو علوّا فهو عال، و عليّ فها هنا كريم عال و ثمة كلب، و عمّته حمّالة الحطب و هي أمّ جميل بنت الحرب أخت أبي سفيان و زوجها أبو لهب، و الشجرة الملعونة في القرآن معاوية و سائر بني أميّة.

في بيان مذهب معاوية

اعلم بأنّ واضع عقيدة الجبر معاوية.

في المصابيح عن عبيدة بن الجرّاح عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله: لا يزال أمراء أمّتي قائمين بالقسط حتّى يكون أوّل من ثلمه رجل من بني أميّة.

و قال أبو عليّ: أوّل من وضع الجبر معاوية بن أبي سفيان. يقول:

وجدنا معاوية بن البغي أكذب قولا من الفاختة

لقد أحدث الجبر في دينناو أحيا به البدع المائتة

متى ما أتى ما يزور الحجيج أتيناه بالحجج الثابتة

ص: 326


1- هكذا هي مسطورة في العنوان و لم أرد حذفها و أحسبها مشتقّة من الجلاء و أضعها بيد القارئ ليحتال لفهمها.

و آذى النبيّ و سبّ الوصيّ و سمّ ابن فاطمة القانتة

لذلك يلعنه اللاعنون و أنكر لعنته الثابتة

الفصل الرابع عشر الجلي في وفات معاوية

في آخر مرض مرضه حيث انتقل إلى دار البوار و جهنّم القرار خطب هذه الخطبة: أيّها الناس، إنّ من زرع قد استحصد، و إنّي ولّيتكم يزيد و لن يليكم أحد بعدي ألا و هو شرّ منّي كما كان من قبلي خير منّي، و ذكر أوضاعه و أوصى بوصاياه و أخذ البيعة ليزيد الكافر من أهل العراق و الحجاز و الشام، و قال: و لن أقدر على ابن العاص في أخذ البيعة منه- قال هذا ليزيد- فإذا فرغت من جهازي فأخبره بأنّ أبي أمر أن تنزله حفرته فإذا وضعني في القبر فجرّد السيف عليه و خوّفه بالقتل حتّى يبايع (1).

و لمّا نزل عمرو بن العاص في حفرة معاوية ليودعه لحده سلّ يزيد سيفه و قال:

بايع و إلّا ضربت عنقك و أدفنك مع أبي في حفرة واحدة، و كما أوصى معاوية يزيد بهذه الطريقة حمله على البيعة، فركل عمرو معاوية برجله مرّة أو مرّتين و قال:

أقسم باللّه بأنّ هذا النغل لا يهتدي إلى هذه الطريقة لو لا ما علّمته «هذا أيضا مكرك عشت لعينا و متّ لعينا سعّر اللّه لك نار جهنّم».

ص: 327


1- كانت وفاة عمرو بن العاص قد سبقت هذا التاريخ بوقت طويل حيث توفّي بعد صفّين بسنتين و لهذا يظهر أنّ الحكاية موضوعة و كنت أسمعها تتردّد على الألسن و لا أعرف مصدرها حتّى عثرت عليها هنا.

و صعد يزيد المنبر بعد دفنه أباه و قال (1): إنّ أبي أوصاني أن أحذر من آل أبي تراب.

و قال معاوية ليزيد: يا يزيد، لا تقتل حسينا، لا لأنّ قتله خطيئة و لكن لتشنيع أهل العراق عليك و لكن احبسه حتّى يموت في الحبس و هذا دليل على أنّ معاوية مات على الكفر.

و دعا معاوية خطباء الشام و مؤذّنيها و قال لهم: العنوا عليّا بعد كلّ أذان و خطبة ليكون ذلك سنّة في الناس، و رفعه عمر بن عبد العزيز بعد أن كان سائدا، و قال عامّة الناس يومذاك غيّرت السنّة و بدّلت السنّة.

يقول صاحب كتاب الفردوس: أوّل من يختصم يوم القيامة بين يدي اللّه عليّ مع معاوية (2) كما قال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (3).

الفصل الخامس عشر في سمّ معاوية الحسن عليه السّلام

و لمّا انتقل أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الرفيق الأعلى صعد الإمام الحسن عليه السّلام المنبر و قال: قبض البارحة رجل لم يفتر من ذكر اللّه طرفة عين، لم يسبقه السابقون و لم يلحق به اللاحقون، و كان و الرسول حيّ طوع أمره و نهيه، و استقام الإسلام بجهاده، و كان النبيّ إذا أرسله على رأس جيش يكون جبرئيل عن يمينه و ميكائيل

ص: 328


1- من المعلوم بأنّ يزيد لم يكن حاضرا في دمشق مهلك أبيه و تولّى جهازه الضحّاك بن قيس و صعد المنبر و أكفان معاوية على ذراعه و هنا ينبغي أن ينظر إلى روايات المؤلّف بحذر شديد.
2- طبقات المحدّثين باصفهان 2: 301: أوّل من يختصم من هذه الأمّة بين يدي اللّه عليّ و معاوية .. الخ.
3- الزمر: 31.

عن يساره، و نصر اللّه تعالى بين يديه، و لم ينهزم بحرب قطّ، و مات في ليلة فيها رفع عيسى بن مريم، و توفّي يوشع بن نون، و لم يترك بيضاء و لا صفراء إلّا سبعمائة درهم اقتطعها من عطائه و أمرني أن أشتري بها خادمة لأهله، ثمّ اختنق بعبرته فأبكى من حضر و قال:

أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، ابن الداعي بإذنه، أنا ابن السراج المنير، أنا من أهل بيت أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، أنا من أهل بيت افترض اللّه حبّهم فقال عزّ من قائل: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1) و الحسنة مودّتنا أهل البيت.

ثمّ قام عبد اللّه بن عبّاس و قال: أيّها الناس، هذا ابن رسول اللّه و وصيّ إمامكم فبايعوه، فبايعه الناس، و أقبل عليه الحاضرون و رضوا بقتال عدوّه معه، فاجتمع حوله خمسون ألف رجل.

و لمّا بلغ معاوية نبأ شهادة الإمام عليه السّلام شمت به و بشّر الناس بذلك، ثمّ أرسل رجلين لاغتيال الإمام الحسن، أحدهما: من قيس، و الآخر من حمير، فانكشف أمرهما فقبض عليهما و قتلا في الحال.

فأقبل معاوية يريد العراق فاستقبله الحسن عليه السّلام و قدّم أمامه عبيد اللّه بن العبّاس و قال عن طريق المعجزة: فإن جرى له أمر فأمير الناس قيس بن سعد. فأغوى معاوية عبيد اللّه بالمال فلمّا جنّ عليه الليل تحمّل إلى معاوية مع خاصّته، فكتب قيس إلى الإمام الحسن فورا يعلمه بواقع الحال، و كتب رؤساء الجيش و أمراء الولاية إلى معاوية كتابا: إن شئت أوثقنا الحسن كتافا و أرسلناه إليك، و إن شئت بعثنا إليك برأسه، فجمع معاوية الكتب و بعث بها إلى الحسن، و قال له: أبهذا

ص: 329


1- الشورى: 23.

الجيش تحاربني، و أقبل الإمام الحسن إلى ساباط و خطب الناس في اليوم الثاني من نزوله بها فقال:

أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله بالحقّ، و أمينه على الوحي، أمّا بعد، فو اللّه إنّي لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد اللّه و منّته، و أنا أنصلح خلق اللّه بخلقه و ما أصبحت متحمّلا على مسلم ضغينة و لا مريدا له بسوء و لا غائلة (ألا و إنّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبّون في الفرقة) ألا و إنّي ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري و لا تردّوا عليّ رأيي، غفر اللّه لي و لكم و أرشدني و إيّاكم لما فيه المحبّة الرضا (1).

قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض و قالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنّه و اللّه يريد الصلح مع معاوية و يسلّم الأمر إليه فشدّوا على فسطاطه فانتهبوه حتّى أخذوا مصلّاه من تحته، و نزعوا مطرفه من عاتقه، فبقي جالسا متقلّدا السيف بلا رداء.

و ركب الحسن و قال: مروا ربيعة و همدان أن يسكّتوا هؤلاء الغوغاء و كانت هاتان القبيلتان من أوليائه، و لمّا بلغ ساباط و قد خيّم الظلام عمد رجل و يدعى جرّاح بن سنان لعنه اللّه و ضرب الإمام عليه السّلام بمغول بيده في فخذه حتّى بلغ العظم و رمى بنفسه عليه ليغتاله و أحدق به جماعة من المؤمنين فضربه عبد اللّه بن حنظلة بالسيف حتّى برد.

و حمل الإمام الحسن عليه السّلام بمحفّة إلى المدائن، و نزل في بيت سعيد بن مسعود الثقفيّ و تفاقم الوضع في معسكر الإمام الحسن عليه السّلام و تواتر الكتب من قادة عسكره على

ص: 330


1- مقاتل الطالبيّين: 41، الإرشاد 2: 11، مناقب ابن شهر آشوب 3: 195، بحار الأنوار 44: 47، شرح ابن أبي الحديد 16: 40، الأخبار الطوال: 216.

معاوية يوما بعد يوم ليأذن لهم بقتل الحسن عليه السّلام أو بأسره أو إرساله إليه، و طلبوا حلوله في العراق، و أقبل معاوية إلى العراق و كتب بينه و بين الإمام الحسن عهدا أن لا يسبّ عليّا و أصون مواليه، و لا أخيف شيعتكم شريطة أن تقبع في زاوية و كتب في هذه الوثيقة أن لا يعهد في الأمر إلى يزيد من بعده.

و خرج الإمام الحسن إلى المدينة و منع مروان من الخطبة، فذهب مروان إلى الشام و حرّض معاوية على قتل الحسن عليه السّلام، فقال له معاوية: اذهب و افعل ما تراه ممكنا، فأقبل مروان إلى المدينة و جائته ذات يوم و هو في بيته جارية عبيد اللّه بن عمر و كانت مشّاطة تتردّد على بيوت الأعيان لتزيين نسائهم، و كان محمّد بن الحنفيّة قد قتل سيّدها عبيد اللّه بن عمر في حرب صفّين و سألها عن حالها ثمّ قال:

إنّ عندي سرّا إن عاهدتيني على كتمانه أفضيت به إليك، فأقسمت له يمينا غموسا أنّها تكتم السرّ إذا كان الأمر كذلك، فينبغي أن توعزي إلى جعدة بنت الأشعث أن تدسّ السمّ إلى الحسن، و هي زوجته و بإمكانه ان تفعل.

فذهبت تلكم اللعينة إلى جعيدة و طلبت منها ذلك و قالت لها: إنّ معاوية يريد أن ينكحك ابنه يزيد و يعطيك ملك العرب، فوافقتها على ذلك فأرسل مروان مملوكه إلى معاوية و أخبره برضا جعيدة بسمّ الحسن عليه السّلام، فدفع لها معاوية ألف دينار و كتب إلى مروان أن يتمّ القضيّة، فأرسلت جعدة تطلب السمّ، فأرسل مروان ولده عبد الملك إلى معاوية ليأتي بالسمّ، و جاء معه بهدايا كثيرة إلى جعدة مع خاتم يحمل شعار الملك.

و كان الإمام الحسن يستطيب العسل الأبيض، فلمّا جاء إلى البيت كانت اللعينة قد وضعت ذلك السمّ في العسل و قدّمته للإمام الحسن عليه السّلام و حضر عنده محمّد بن الحنفيّة فنهاه الإمام عن شرب العسل و قال: إنّه لا يلائم حرّ مكّة و أنت قادم منها و قد أثّر فيك حرّها، و حضر الحسين فأرسلت اللعينة عسلا آخر إضافة على

ص: 331

الأوّل بدون سمّ للحسين عليه السّلام، ثمّ شرب الإمام الحسن العسل المسموم و لمّا جنّ على الإمام الحسن الليل شعر بآلام السمّ، فقاء كثيرا فسقوه لبنا قد غلي و في اليوم الثاني آلمه السمّ فصنعوا له شرابا من العسل فوضعت جعدة في العسل سما آخر فلمّا شرب الإمام شراب العسل ازداد الألم في أحشائه فقام من مكانه إلى قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حمل من تراب قبر النبيّ ذرّة و أمر أن تذوّب في شرابه و يسقاها، فسكن الألم عنده أربعين يوما.

و جاؤوا للإمام الحسن بطعام من بيت الحسين، و قالت جعدة ذات يوم: أتحفونا برطب من حائطنا أتأذن أن أجيئك بشي ء منه، فقال الحسن عليه السّلام: افعلي، فأقبلت بالطبق و سمّت جانبا و تركت جانبا آخر، و وضعت الجانب المسموم قبالة الإمام الحسن، فاكل الإمام من الطبق رطيبات مسمومة فازداد ألم السمّ، فقالت جعدة:

كان الرطب في الطبق و هو مكشوف لعلّ أفعى أو عقربا سمّت الرطب، فأبهمت الأمر على الإمام الحسن عليه السّلام و غابت عن البيت أربعين يوما و كان طبيب نصرانيّ يعالجه، فقال ذات يوم: الهواء هنا لا يطاق و ينبغي عليّ أن أذهب إلى الموصل.

و كتب مروان إلى معاوية أنّ الحسن سمّ مرّات فما أثّر السمّ فيه فلا تغفل عنه، فاستدعى معاوية واحدا من أهل التصوّف أعمى، و أعطاه مالا عددا من الدنانير و أعطاه عصى فيها زجّ مسموم، فجاء الإمام الحسن و أظهر محبّته و كان لا يفارق الإمام عليه السّلام، و عزم يوما على زيارة الإمام الحسن كما هي عادة المتصوّفة حيث يقبّلون يد الشيخ، فتقدّم إلى الإمام بحجّة تقبيل يده فوقع الزجّ على قدمه و اتكأ عليه بكلّ قوّته، فأراد الناس قتل الصوفيّ و منعهم الحسن عليه السّلام فخرج من هناك و ركب إلى دمشق فأمر عبد اللّه بضرب عنقه في الطريق.

و كان رجل يدعى إسماعيل يخدم الإمام الحسن فأعطاه يوما بطّيخا قد أعدّه للأكل بسكّين مسموم و أطعم منه الإمام الحسن عليه السّلام و ان يقطع لنفسه بسكّين

ص: 332

أخرى غير مسمومة، فأحسّ الإمام بالمرارة و علم بذلك فأراد الناس البطش بإسماعيل فمنعهم الحسن عليه السّلام منه، و قال: إسماعيل خدمنا و ختمها بذهابه إلى النار.

و كان سعد مولى أمير المؤمنين في الشام، و لمّا عاد رأى في موضع من الطريق شخصا قتيلا و جملا نافقا، و أمام القتيل آثار البطّيخ مطروحا، فترجّل إلى الأرض و رأى في تلك الرسالة ما كتبه معاوية إلى إسماعيل و معها زجاجة السمّ التي أرسلها معها، و لمّا وصل سعد إلى المدينة رأى الإمام الحسن عليه السّلام عليلا فبكى و أعطى الكتاب إلى الإمام الحسن عليه السّلام فقرأه و خبأها تحت جنحه.

و لم توات الفرصة مسعودا الثقفيّ و لا المختار ليتحدّثوا مع الإمام الحسن عليه السّلام فأشاروا إلى عبد اللّه بن عبّاس فتعجّل عبد اللّه و أخذ الكتاب و دفعه إلى مسعود، فقال: نحن مع العدوّ ليلنا و نهارنا و لا نعلم بخبره، فرام المختار قتل إسماعيل فقال له الإمام الحسن عليه السّلام: كلّا فأنت رجل ثائر و قتله يهيج العامّة و لكن ليذهب عون و يحضر لنا إسماعيل، فذهب عون و أقبل بإسماعيل، فقال الحسن عليه السّلام: يا إسماعيل، من هم آل يس في هذه الأمّة؟ فقال: عليّ و فاطمة و أنت و أخوك الحسين، فأعطاه الحسن كتاب معاوية، فنهض المختار و ضرب عنق ذلك اللعين و نهب متاعه و قتل ولده، عند ذلك غادر الإمام الحسن ذلك المكان إلى الكوفة و زار قبر والده و عاد إلى المدينة.

و أعاد معاوية الكرّة فأرسل السمّ ثانيه إلى مروان مع مسحوق من ألماس، فبعث مروان به و بالسمّ إلى جعدة مع هدايا و عهود و مواثيق جديدة، فأصلحت جعدة من نفسها و أقبلت إلى الإمام الحسن عليه السّلام و قالت في نفسها: إن بصر بي أحد فأنا ذاهبة إلى زوجي، و إلّا فسوف أعمل ما أريد، و وضعت اللعينة سلّما و ارتقت إلى سطح الدار فرأت القوم نياما، و رأت الكوز الذي يشرب منه الحسن مغطّئا، فوضعت مسحوق ألماس في الكوز و مسحت يدها به و نزلت من أعلى الدار

ص: 333

و خبأت السلّم، و لمّا استيقظ الإمام وجد الكوز على حاله و كان محتاطا من غدر جعدة، و لمّا شرب جرعات من الماء عاوده الألم بأكثر ممّا كان، فصاح بأعلى صوته يريد حسينا عليه السّلام، فأوصاه بوصاياه و سلّمه سلاح رسول اللّه و أمير المؤمنين التي أودعاه عند الإمام، و حوّل إليه الإمامة و مقاليد الشريعة، و قال: أنا أعرف من هو الذي سمّني و لكن احذر أن تأخذ بريئا بدمي و أن تريق من أجلي محجمة دم، و خذني إلى قبر جدّي بعد تجهيزي، فإن منعوك أن تدفنني هناك عنده خذني إلى البقيع عند قبر خالي إبراهيم بن محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جدّتي فاطمة بنت أسد، و أراد الحسين عليه السّلام أن يشرب ماءا من ذلك الكوز فانتزع الحسن عليه السّلام من يده و ضرب بها الأرض فتكسّرت، و لمّا انفلق عمود الصبح ترك الوجود الفاني إلى الوجود الباقي، و فارق الدنيا إلى الرفيق الأعلى.

و لمّا فرغ الإمام الحسين عليه السّلام من تجهيزه و وضعه على السرير، عزم على حمله إلى روضة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هنا أحضر مروان من جند الشام الموجودين في المدينة خمسين ألفا من الرجال و أرسلهم إلى عائشة حتّى ركبت البغلة و تقدّمت الجيش و جرت بينها و بين الحسين عليه السّلام و عبد اللّه بن عبّاس مناظرات حادّه، فقال لها عبد اللّه:

تجمّلت تبغّلت و لو عشت تفيّلت لك التسع من الثمن و في الكلّ تملّكت يوما على جمل تخرجين لحرب أبيه، و يوما تخرجين غلى بغل لحرب الولد، و ما نلتيه من اسم و شرف هو من عندنا كما قال اللّه تعالى: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ (1)، فتناولت عائشة القوس من مروان، و رمت الجنازة بسهم، و قالت: لا تدخلوا بيتي عدوّي و ابن عدوّي و أبعدوه عنّي، و فعل الحسين عليه السّلام بوصيّة الحسن فحمله إلى البقيع و قال: لو لا وصيّة سبقت منه لدفنته مع جدّه و ليكن ما يكون، فلجأت تلك

ص: 334


1- الأحزاب: 33.

اللعينة جعيدة إلى بيت مروان و حملها إلى الشام، فسألها معاوية عمّا جرى و قال:

أما استحييت أيّتها اللعينة من اللّه و رسوله ممّا فعلت بسبط رسول اللّه؟! فأمر بأخذها خارج بيته و قتلها، فخسرت الدنيا و الآخرة لعنة اللّه عليها.

الفصل السادس عشر قتل معاوية عائشة

و لمّا وصل معاوية إلى مكّة لأخذ البيعة ليزيد و قد بايعه أهل العراق و أهل الحجاز، فهدّدته عائشة لقتله أخاها محمّدا بن أبي بكر و أرسلت له: إنّك قتلت أخي و تريد أن تأخذ البيعة لولدك يزيد، و خوّفه عمرو بن العاص قائلا: إن سلّطت عائشة عليك لسانها فستهيّج عليك العامّة فانظر لنفسك.

فبعث إليها بهدايا عدّة بيد أبي هريرة و شرحبيل على دفعات و وعدها بالمصالحة و تولية أخيها عبد الرحمان بن أبي بكر و نظير هذه الوعود و قال: نحبّ أن تزورنا أمّ المؤمنين في يوم من الأيّام بنفسها و عمد إلى بئر فاحتفرها و ملأها بالنورة و وضع عليها فراشا غالي الثمن و نصب عليه منبرا و دعاها وقت الصلاة و قال:

لأجعلنّ آلاف الدنانير نثارا لقدومك، فخرجت عائشة و معها غلام هنديّ على حمار مصريّ، فبالغ معاوية بإعزازها و إكرامها و أومأ إليها بالجلوس على الكرسيّ، و ما أن جلست عليه حتّى انهار بها داخل البئر و أمر معاوية فورا بقتل المملوك و الحمار و رموهما في تلك البئر و ساووه بالالرض.

اختلف الناس فيما بينهم فمن قائل أنّها ذهبت إلى المدينة، و من قائل بأنّها ذهبت شطر اليمن، و كان الحسين وحده يعلم واقع الحال و جماعة من أصحاب معاوية،

ص: 335

و أعطى الإمام الحسين ميراثها إلى ذويها (1).

الفصل السابع عشر في يزيد اللعين و قتله للحسين عليه السّلام و أصحابه

و لمّا هلك معاوية جلس يزيد في عزائه أيّاما سبعة و خطب في اليوم السابع و دعا الناس إلى تجديد البيعة و نزل من المنبر و خلع على الأمراء و شاور وزرائه و كتّابه في الحسين بن عليّ عليه السّلام و عبد اللّه بن الزبير و عبد اللّه بن عمر و عبد الرحمان بن أبي بكر، فقالوا له: أرسل إلى المدينة لكي يأخذوا البيعة منهم لك و إن يفعلوا فليرسلوا برؤوسهم إليك، فكتب يزيد كتابا إلى الوليد بن عتبة و كان عامله على المدينة، و حين بلغه الكتاب بعث مروان بن الحكم رجلين في طلب الحسين عليه السّلام فوجدوه و عبد اللّه بن الزبير في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال الحسين عليه السّلام: أظنّ طاغيتهم قد هلك و بعث ورائنا الوالي لأخذ البيعة ليزيد، و لمّا عاد عبد اللّه بن الزبير إلى البيت هرب مع أخيه ابراهيم تحت جنح الظلام إلى مكّة فخرج في طلبه في اليوم الثاني ثمانون رجلا فلم يعثروا له على عين و لا أثر.

و أقبل الحسين عليه السّلام إلى البيت و اصطحب معه إلى ديوان الوالي خمسين رجلا من أقربائه و معهم سلاحهم، و قال: كونوا على الباب فإذا جرى عليّ أمر و سمعتم صوتي قد علا فاهجموا عليه و خلّصوني من بين يديه. فدلف الحسين عليه السّلام إلى دار الأمير و سلّم، و كان مروان و ابن عتبة على السرير و إلى جانبهم قوم وقوف، و لمّا

ص: 336


1- لست أدري ما الحاجة إلى نقل هذه الغرائب التي تسي ء إلى المذهب و أهله، و كيف التصديق برواية ليس لها سند و لا هي معزوّة إلى مصدر حتّى بالوجادة، و المؤلّف فاضل و رائد للتشيّع و لكن له ولع خاصّ بمثل هذه الروايات المستغربة.

أخذ مكانه من المجلس رمى إليه الأمير كتاب يزيد فقرأه و قال: أمهلوني هذه الليلة لآخذ للأمر أهبته و غدا يكون الجواب، و نهض الحسين عليه السّلام من فوق السرير.

و قال مروان للوليد و ألحّ عليه أن لا يترك الحسين يفلت من يديه، و قال: لا تدعه يخرج و إلّا تعرّضت لعتاب يزيد، و إنّك لا تقدر على مثلها منه بعد اليوم حتّى تسيل الدماء بينك و بينه. و أقبل يلحوا الأمير و ينحي عليه باللائمة و يأمره بالقبض على الحسين عليه السّلام، فأمسك الحسين عليه السّلام كرسيّا من الحديد كان مسندا إلى الجدار و رمى به مروان فهرب مروان إلى داره و وقع الكرسيّ في الحائط و تخلع الكرسي.

و كانت الواقعة في اليوم السابع و العشرين من شهر رجب، و لمّا عاد الإمام إلى البيت أعدّ مائتين و خمسين بعيرا للسفر و حمل عليها الأهل و الأقارب من بني هاشم من الرجال و النساء ما عدا محمّدا بن الحنفيّة بقي في المدينة، و قال لقيس بن سعد بن عبادة: تعقبني و معك من الرجال مائتان لئلّا يخرج أحد في طلبنا، فإن خرج أطبقنا عليه نحن الاثنين أنا و أنت و نقضي عليهم جميعا (1).

و قال له أصحابه و أهل بيته: لو تنكّبت الطريق كما فعل ابن الزبير و أخوه إبراهيم، فقال الحسين عليه السّلام: أعوذ باللّه من أن أذلّ، لا أمشي إلّا بالجادّة العظمى، خلق المرء للموت. و انطلق من المدينة و وصل إلى مكّة سلخ شعبان (2)، و لمّا وقعت عينه على بيوت مكّة قال: وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ (3) الآية، و لمّا دخل مكّة نزل في

ص: 337


1- أقول: كيف يكون الطلب بينهما و هو إن خرج وراء الحسين فإنّما يخرج بعد لحوق قيس له اللهمّ إلّا أن يتربّص به قيس الخروج ثمّ يتعقّبه.
2- و هذا لا يصحّ لأنّه إن خرج صبيحة لقائه مع الوليد فهو اليوم السابع و العشرون من رجب و المسافة لا تقتضي هذه المدّة و إنّما وصل إلى مكّة في الخامس من شعبان و هذا هو المؤكّد من الرواة.
3- القصص: 22.

بطحائها، و ثقل قدومه على ابن الزبير لأنّ أهل مكّة من بدو و حضر تركوا ابن الزبير و أقبلوا عليه يسألونه عن الحلال و الحرام و مناسك الحجّ، و كان عبد اللّه بن الزبير يزوره بين الحين و الحين.

الفصل الثامن عشر الجلي في أهل الكوفة و دعوتهم للحسين عليه السّلام

اجتمع في بيوت القاضي شريح سبعون رئيسا فتعاهدوا بينهم و أقسموا بالأيمان المغلّظة أن يمدّوا الحسين عليه السّلام بالمال و النفس و النفيس، و كتبوا إليه: ليس علينا إمام و ليس لنا جمعة و لا جماعة، و كانت الكتب تردّه أسبوعا بأسبوع يدعونه إليهم و يوفدون إليه الرسل على التوالي و التواتر حتّى وصل إليه في أيّام معدودة مائة كتاب، و لمّا تمّت الحجّة للإمام عليه السّلام و وعدته الرعيّة بالنصرة و إظهار الحقّ و الدعوة و إقامة قواعد الدين، و كان الإمام الحسين عليه السّلام في مكّة و المدينة يعيش في أجواء التقيّة و اضطرّه إليها ظروف الخوف المحيطة بجنابه عليه السّلام.

و دعا مسلما بن عقيل عليه السّلام و كتب معه كتابا إلى أهل الكوفة و أوفده إليهم و كان رجلا أمينا جلدا ثقة، و فيها: بعثت إليكم مسلما الأمين الثقة من أهل بيتي، ابن عمّي، ليطلعني على أمركم و اجتماع ملأكم و يكتب إليّ بذلك، و أنا على أثره إن شاء اللّه.

فاستأذن مسلم عليه السّلام و خرج من طريق المدينة و زار قبر النبيّ و قبر الحسن صلّى اللّه عليهما و آلهما، و قال: عسى أن لا أعود بعد سفري هذا، و أحيا ليال ثلاثا بالعبادة في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ ودّع عياله و أخذ دليلا يدلّه على الطريق،

ص: 338

و تجنّب الطريق العام، فعطشوا في الطريق و مات الدليلان و نجى بحشاشة نفسه إلى أن وصل إلى موضع يقال له: المضيق من بطن الخبت، و كتب من هناك كتابا إلى الحسين و أرسله مع قيس بن فهر و أعلمه بحاله و ما جرى عليه و قال: إنّي تخوّفت من وجهي هذا و استعفى الحسين عليه السّلام، و جائه الجواب: لا سبيل إلى ترك ذلك فهذه كتب أهل الكوفة لا تكاد تفارقنا و هي حجّة الرعيّة علينا، و قد تمّت.

فسار مسلم إلى الكوفة و نزل بدار المختار بن أبي عبيدة الثقفيّ، فاجتمع حوله الرؤساء و الأمراء و قاموا بإعزازه و إكرامه، و حملوا كتاب الحسين عليه السّلام على رؤوسهم و بلغ النعمان بن بشير مجي ء مسلم و هو في قصر الإمارة عامل على الكوفة من قبل يزيد، و بايع مسلم من أهل الكوفة ثاني يوم من نزوله فيها ثمانية عشر ألفا على أنّهم ينصرون الحسين و يحمونه من العدوّ، و إن أراد قتالا قاتلوا معه.

و أقبل النعمان بن بشير من قصره و صعد المنبر و شرع بتهديد القوم، و قال: إنّ جيش الشام على الأعتاب و هو حمل ثقيل عليكم، و يزيد هو وليّ المسلمين اليوم فأخشى أن ينالكم بأذى، فقال له عبد اللّه بن الحضرميّ: الملك عقيم فاقبض على مسلم واقتله، و كان النعمان حسن السيرة فأبى عليه ذلك، و كتب إلى يزيد كتابا يعلمه فيه بحال مسلم، فلمّا قرأ كتابه أسرع إلى نصب عبيد اللّه بن زياد مكانه، و كان هذا اللعين حاكما على البصرة، فولّاه يزيد على العراق كلّه، فاستخلف عبيد اللّه أخاه عثمان على البصرة و سار إلى الكوفة و معه عسكر مجر، و لمّا وصل الكوفة وصلها ملثّما على عادة العرب في أسفارها، فظنّه الناس الحسين بن عليّ عليه السّلام فرحّبوا به و ما مرّ على ملأ إلّا خفّوا في وجهه قائلين: مرحبا بك يا بن رسول اللّه، و كان اللعين يردّ عليهم بإشارة السوط، فقال بعضهم: ليست هذه أخلاق الحسين.

فلمّا وصلوا إلى باب القصر حسر عن لثامه و قال: كم تقولون: ابن رسول اللّه، أنا عبيد اللّه بن زياد، أمرني يزيد على مصركم هذا و دخل قصر الإمارة و معه

ص: 339

رؤساء الولايات و قال: سأفعل بكم ما تريدون فعله فيّ، فبايعه الجميع من شدّة خوفهم ثمّ خطبهم و قال في خطبته: إنّ يزيد ولّاني على العراق و أمرني بالإحسان إلى المطيع و قطع رأس العاصي و أن أبعثه إليه، و نادى مناديه: من كان في بيته من طلبة يزيد أحد فليوجّه به إلينا و إلّا أحرقنا داره و قتلناه على بابها و نهبنا ماله.

فانتقل مسلم من بيت المختار إلى بيت هاني بن عروة و هو و إن كان على خوف شديد من عبيد اللّه و لكن حسن الرأي حمله على استضافة مسلم عليه السّلام، و دعا عبيد اللّه مملوكا له اسمه معقل و أرسله للتجسّس عليهم و معرفة أخبار مسلم من شيعته، و لمّا علم بمسلم في بيت هاني أخبر بذلك عبيد اللّه فاستدعى هاني و هدّده بإنزال العقاب الشديد به، فخرجت مذحج وراء هاني و هي قبيلته تثير الشغب و لكن القاضي شريح لعنه اللّه استطاع أن يخمد هذه الفتنة.

و خرج مسلم من دار هاني و قد دار به أربعة آلاف رجل، و لمّا بلغ باب المسجد تناقص عددهم فلم يبق معه إلّا خمسمائة رجل و هرب الباقون، و قصد بهم مسلم باب قصر الإمارة و لم يكن معه إلّا شرذمة قليلون، فخاف عبيد اللّه و أقبل الكوفيّون يدخلون القصر من درب الرومي، و صعد لعينان منهم على السطح فنادى مناديهما: أيّها الناس، احذروا الأمير يزيد فإنّ جيش الشام على الأبواب، فكان الناس يأتون إخوانهم و أقربائهم و يأخذونهم من الجمع إلى بيوتهم، و كان مسلم رجلا شجاعا فلم يثن ذلك من عزمه و بقي يقاتل حتّى غابت الشمس و اجتمع حوله الهمج الرعاع من السكك و الحارات ثلاثون ألفا، و لمّا ذهب إلى المسجد و وقف للصلاة هربوا بأجمعهم إلّا ثلاثة، فلمّا هوى إلى سجدة الشكر رفع رأسه فلم يجد هؤلاء الثلاثة فبقي وحيدا فريدا. فخرج من المسجد يتلدد في الطرقات إلى أن وصل إلى باب امرأة مؤمنة من شيعة أهل البيت تدعى «طوعة» فطلب مسلم منها ماءا، فلمّا شرب و عادت بالقدح رجعت و إذا مسلم ما يزال على

ص: 340

الباب واقفا، فقالت: يا رجل، سقيتك ماءا فاذهب راشدا من هنا، فإنّ وقوفك على بابي في هذا الليل يدعو إلى الريبة، و نصحته ثلاث مرّات كلّما دخلت و خرجت، و كان مسلم ساكتا لا يحير جوابا، إلى أن قال لها: أنا غريب في هذا البلد، فهل لك في أجر و ثواب تبيتينني عندك هذه الليلة، فقالت طوعة: من أنت؟

فأخبرها بأمره، فأدخلته طوعة دارها و مهّدت له فراشا و آتته طعاما، فاعتذر عن الأكل، و طلب ماءا للوضوء و قال: هذه الليلة آخر عمري، و أحيا الليل كلّه.

و كان لطوعة ولد اسمه بلال من أصحاب عبيد اللّه بن زياد، فمضى هزيع من الليل حتّى رجع إلى البيت، فلامته طوعة على تأخّره في العودة، و قال: إنّ الأمير وعد بجوائز سنيّه لمن وجد مسلما و كنت جادّا في طلبه، و كانت طوعة تكثر من التردّد على مسلم، فاتّهمها بلال في وضعها المريب، فألحّ عليها لتخبره، فامتنعت أوّلا، و ما زال يلحّ عليها حتّى أخذت عليه العهود الموثّقة و المواثيق المغلّظة أن يكتم سرّها، ثمّ قالت له: أبشّرك بأنّ اللّه تعالى ساق لنا الخير كلّه، فهذا مسلم بن عقيل في بيتنا، و قد قسم اللّه لنا الشرف كلّه، فخبأناه في دارنا و سوف نسعد غدا يوم القيامة بشفاعة المصطفى و المرتضى و فاطمة الزهراء، و ننجو من عذاب النار.

فلمّا أصبح اللعين خرج مبادرا إلى عبيد اللّه بن زياد فأمّر محمّدا بن الأشعث على سبعين رجلا و قال له: اذهب و أتني بمسلم، فقصد ابن الأشعث دار المرأة طوعة، فلمّا سمعت صهيل الخيل و كان مسلم يعبد اللّه و يدعوه فعجّل في دعائه و أفرغ عليه لامة حربه و قال لها: لقد نلت شفاعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله- يا طوعة- بإحسانك هذا، و لقد سنح لي عمّي أمير المؤمنين هذه الليلة و قال: إنّك قادم علينا غدا.

و بلغ الجيش باب الدار، فخاف مسلم أن يحرقوه عليهم، فأسرع مبادرا للخروج من الدار، و قتل من الأوباش اثنين و أربعين رجلا و هرب الباقون، و كان يمدّهم عبيد اللّه بن زياد ساعة بعد ساعة بالخيل و الرجال، و صاح بهم عبيد اللّه بن

ص: 341

زياد: أما تستحون! تفرّون من واحد و أنتم جماعة! فقال له محمّد بن الأشعث:

لعلّك جهلت سواعد بني هاشم .. و وردت على مسلم جراحات كثيرة، فعجز عن الحرب و لم يسعفه أحد من الناس، فأعطاه ابن الأشعث الأمان و أخذه إلى عبيد اللّه بن زياد لعنهما اللّه، و قال اللعين: ما بعثتك لتأمنه بل لتأتيني به، و لمّا أوقفوه بين يديه أعرض عن السلام عليه، فقال عبيد اللّه لبكر بن حمران الأحمري: اصعد به إلى أعلى القصر و اضرب عنقه، و كان مسلم يحمد اللّه و يثني عليه و يصلّي على النبيّ و آله و يتشهّد الشهادتين حتّى استشهد.

و قتل عبيد اللّه هاني ابن عروة في نفس اليوم الذي قتل فيه مسلما، و قتل الرجلين اللذين كانا مع مسلم، و أرسل الرؤوس إلى الشام، و أمر بملأ أفواه السكك بالرجال، و منع الدخول و الخروج لئلّا يصل الخبر إلى الحسين عليه السّلام.

ص: 342

الباب الثامن و العشرون في خروج الحسين عليه السّلام من مكّة

اشارة

و أرسل يزيد لعنه اللّه إلى رؤساء الحجاز من يأمرهم بطلب الحسين عليه السّلام و أرسل إلى حكّام مكّة للقبض عليه، فكان الحسين عليه السّلام خائفا، فلمّا أقبل ذو الحجّة أحرم بالحجّ فلمّا شعر بالطلب أبدل حجّه إلى عمرة مفردة و حلّ من إحرامه و عزم على الفراق، و كان الفرزدق الشاعر من موالي عليّ عليه السّلام و كان حاجّا بأمّه في ذلك العام، فلمّا وصل إلى مكّة ذهب إلى حضرة الحسين عليه السّلام و سأله عن بعض المسائل الأخرى التي تعمّ بها البلوى، و قال: يا بن رسول اللّه، ما أعجلك عن الحجّ؟ قال: لو لم أعجّل لأخذت. فقال الفرزدق: فسألني: من أين أنت؟ قلت: رجل من العرب، قال: أخبرني عن الناس خلفك، قال الفرزدق: من الخبير سألت، أصدقك، قال:

الصدق أريد، فقال الفرزدق: أمّا القلوب فمعك و أمّا السيوف فمع بني أميّة، فقال الحسين عليه السّلام: ما أراك إلّا صادقا، إنّ الناس عبيد المال و إنّ الدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت لهم معائشهم فإذا محّصوا للابتلاء قلّ الديّانون (1). فودّعه

ص: 343


1- الأنوار البهيّة للشيخ عبّاس القمّي: 102، لواعج الأشجان للسيّد محسن الأمين: 102، الدرجات الرفيعة لابن معصوم: 548، حياة الإمام الحسين عليه السّلام للقرشي: 225، صحيفة الحسين: 278 و 342.

الفرزدق و سار بأهله.

و تحوّل الإمام الحسين عليه السّلام من منزله، و لمّا بلغ «ذات رمل» أرسل عبد اللّه بن يقطر و قيل قيس بن مسهّر الصيداوي إلى أهل الكوفة ليخبرهم بقدومه عليهم، و لمّا بلغ القادسيّة كان الحصين بن نمير و معه الجيش هناك يحرس الطريق، فقبض عليه و أرسله إلى الكوفة إلى عبيد اللّه بن زياد، فقتله عبيد اللّه بن زياد لعنهما اللّه، و لم يعلم به الحسين عليه السّلام حتّى بلغ زبالة و نزل فيها و كان في تلك الليل يجيل الفكر مهموما و يقول:

فإن تكن الدنيا تعدّ نفيسةفقدر ثواب اللّه أعلى و أجزل

و إن تكن الأموال للترك جمعهافما بال متروك به المرء يبخل

و إن تكن الأرزاق قسما مقدّرافقلّة حرص المرء في الكسب أجمل

و إن تكن الأبدان للموت أنشئت فقتل امرئ في اللّه بالسيف أفضل

عليكم سلام اللّه يا آل أحمدفإنّي أراني عنكم سوف أرحل و أخذ ينتقل من منزل إلى منزل، إلى أن كبّر أحد أصحاب الحسين عليه السّلام فكبّروا معه و كبّر الحسين عليه السّلام، و قالوا للأوّل: ما الذي عرض لك حتّى كبّرت؟ فقال:

رأيت نخل الكوفة، و كان مع الإمام رجلان من بني أسد، فقال: ما تزال الكوفة بعيدة لا تبصر معالمها و ليس ها هنا نخل، فقال الإمام عليه السّلام: دقّقوا النظر باحتياط تامّ، ففعلوا، و قال قائلهم: إنّنا نشاهد أسنّه الرماح، و طلب الإمام الحسين الماء من الأسديّين فأرشداه إليه و سار نحوه و نزل عليه.

و إذا بالحرّ بن يزيد الرياحيّ و معه ألف فارس، و كان وقت الصلاة قد دنا،

ص: 344

فصلّى الإمام صلاتي الظهر و العصر بالفريقين ثمّ وعظهم و قال: أنتم دعوتموني فإذا بدى لكم فإنّي أعود من حيث أتيت، قال الحرّ: بل أرسلت لقتالك، و أرسلني الحصين بن نمير و أمرني أن لا أفارقك حتّى أضعك بيد ابن زياد، فقال الحسين عليه السّلام بطريق المعجز: الموت أقرب إليك من ذلك.

و كلّما سار الإمام الحسين قطع الحرّ عليه دربه، و كتب الحرّ من هناك كتابا إلى عبيد اللّه بن زياد بأنّ الحسين عنده و أنّه يقول: إن أباني أهل الكوفة فإنّي عائد إلى قبر جدّي في المدينة، فكتب إليه الجواب: لا تفارق الحسين و جعجع به و أنزله في أرض عراء في غير ظلّ و ماء، فلمّا وصله الكتاب ناوله الحسين عليه السّلام، فقال عليه السّلام:

دعني أنزل في هذه القرى القريبة من الماء لأنّ معي عيالا و أطفالا و هم لا يستطيعون تحمّل مسّ الظماء، فقال: إنّ أمر الأمير معك و قد قرأته، فعاد الحسين عليه السّلام و نزل بكربلاء و نزل الحرّ بأزائه.

فلمّا أصبح الصباح كان يوم الخميس الثاني من المحرّم، و وصل رسول عبيد اللّه ابن زياد إلى الحرّ و قال: شدّد قبضتك على الحسين حتّى يخرج و حين يصلك كتابي فلا تنزله إلّا في أرض جرداء ليس فيها نبات و شجرة في غير ماء و لا كلاء، و إنّي أمرت رسولي أن لا يفارقك حتّى تعود إليّ و قد نفذت أمري، و السلام.

الفصل الأوّل في نزول الحسين عليه السّلام بكربلاء

و لمّا نزل كربلاء أتاه عمر بن سعد بأربعة آلاف مقاتل و نزل نينوى، و كان ذلك في سنة إحدى و ستّين للهجرة، و جمع الرؤساء حوله و أمرهم بمناشدة الحسين عليه السّلام عن سبب مجيئه، فلم يرض منهم أحد فعل ذلك، و قالوا: نحن ممّن كاتبه و رضي

ص: 345

بآخره كثير بن عبد اللّه الشعبيّ و كان من فتّاكي العرب و كان من ألدّ أعداء أهل البيت و قال: إن شئت جئتك برأسه، و لمّا وصل إلى مضارب الإمام عليه السّلام استقبله أبو ثمامة و قال: أعطني سيفك و ادخل على الإمام، فقال: لا و لا كرامة، إنّما أنا رسول، فقال: أقبض على سيفك و تتكلّم أنت؟ فقال: لا و لا هذه، فعاد اللعين من حيث أتى، فأرسل عمر قرّة بن قيس الحنظليّ إلى الإمام الحسين عليه السّلام، فقال:

كاتبني أهل مصركم هذا فإن كرهني رجعت إلى موطني.

فكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد ما دار بينه و بين الحسين عليه السّلام، فأرسل إليه بجواب:

و الآن إذ علقت مخالبنا به يرجو النجاة ولات حين مناص و كتب إليه: خذ البيعة من الحسين و أصحابه ليزيد، و أرسله إليّ سلما لأرى فيه رأيي، و إلّا فابعث إليّ برأسه و رؤوس أصحابه، و صعد عبيد اللّه بن زياد المسجد الجامع و أمر بالنداء لحرب الحسين، بأن يخرج الرجال بأسلحتهم و من وجد بعد النداء في المدينة قتل، فخرج من الناس سبعون ألفا و نزلوا وادي كربلاء ما بين فارس و راجل، و استعرض عمر بن سعد قوّاته في كربلاء و كان مصرّا على العجلة لينال ما وعد به من ولاية الري و قزوين و الديلم جزاءا على قتل الحسين، و لكنّه قبل أن يشاهد هذا الحلم ذهب إلى نار جهنّم.

و أمر ابن سعد عمرو بن الحجّاج الزبيري بالنزول على شاطئ المسنّاة و معه خمسمائة فارس و يمنعون الحسين و أصحابه من شرب الماء، فطلب الحسين عليه السّلام في تلك الليلة الاجتماع مع ابن سعد و نصبت لهما خيمة ما بين العسكرين، و حضر فيها، فقال له الحسين: ارفع الحصار عنّي لأعود إلى مدينة جدّي أو أذهب إلى مدينة من

ص: 346

مدن الإسلام أو أذهب إلى يزيد (1).

و لمّا كتب ابن سعد بهذا الأمر إلى عبيد اللّه أجابه أنّ يزيد بن معاوية أقسم أن لا ينام على الوثير و لا يشبع من خبر الفطير و لا يضع تحت رأسه و سادة حتّى يؤتى برأس الحسين، و كان شمر بن ذي الجوشن لعنه اللّه حاضرا، فقال: يا أمير، وقع الصيد في الفخّ فلا تتركه يفلت، و كتب عبيد اللّه كتابا: إنّي سرّحت الشمر و معه عدّة آلاف فإن اخترت قتل الحسين فقد أحسنت و فعلت الصواب و إلّا فخلّ بين الشمر و بين العسكر و أعطه عهد الري، و لمّا قرأ عمر بن سعد كتاب ابن زياد أمر بضرب الطبول و حمل على معسكر الحسين بسبعين ألفا، و كان الحسين عليه السّلام متّكئا على قائم سيفه و قد أخذته سنة، فرأى النبيّ في المنام و هو يقول له: أنت غدا عندنا بعد أن تستشهد.

و رمى ابن سعد عسكر الحسين بسهم و قال: أيّها الناس، اشهدوا لي عند الأمير بأنّي أوّل من رمى الحسين بسهم. فأرسل الحسين إلى ابن سعد: أمهلنا سواد هذه الليلة حتّى نعبد اللّه فإنّها آخر ليلة من ليالينا، و كانت الحادثة هذه يوم التاسع من المحرّم، فأبى عليه عمر بن سعد، فقال عمر بن الحجّاج بن سلمة بن يغوث الزبيديّ: سبحان اللّه! لو كانوا من الكفّار من الروم أو الخزر ثمّ استمهلونا

ص: 347


1- و هذه طامّة كبرى من المؤلّف لأنّه يكتب من غير تحقيق، و لو دقّق بالمسألة قليلاص لعلم أنّ بيعة الحسين ليزيد و هو في كربلاء أهون عليه من ذهابه إليه فكيف يطلبه و لو كان هذا شعاره لأراح و استراح و هو في مكّة و هل نهضة الحسين إلّا بسبب ولاية يزيد، و كيف يصفه للوليد بشارب الخمور و فاعل الفجور ثمّ يلجأ إليه؟ و ما أدراه أن لا يفعل به ما فعل أبوه بالحسن من السمّ القتال و هل يؤمن يزيد على أرنب أو قطاة أو دجاجة ليأتمنه الحسين على نفسه و حرمه، قبّح؛ اللّه ابن سعد أراد ان يستريح من الحرب فافترى هذه الفرية على الحسين، و لقد قال عقبة بن سمعان صاحبت الحسين فيم حلّه و ترحاله حتّى استشهد، و اللّه ما سمعته قال: أذهب إلى يزيد.

لأمهلناهم فكيف و هم ذرّيّة رسول اللّه و أنتم تدّعون الإسلام! فأذن ابن سعد بالمهلة، و دخل الحسين عليه السّلام خيمته و أحاط به أصحاب الشبب و الشبّان، فقال عليه السّلام: هذا الليل قد غشيكم فليأخذ كلّ واحد منكم بيد زوجه و أولاده و تفرّقوا في البلاد فإنّي طلبة القوم، فأجابوه بأجمعهم: ما جوابنا إلى اللّه و رسوله و إلى عليّ المرتضى و فاطمة و الحسين عليهم السّلام غدا يوم القيامة، فلم نضرب معك بسيف و لم نرم بسهم و لم نطعن برمح، لا و اللّه لا يصل إليك سوء و فينا عين تطرف، فأنت إمامنا و ابن نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله. فدعا لهم الحسين و جزّاهم خيرا، و قال: هذه آخر ليلة من حياتكم فقضّوها بحمد اللّه و الثناء عليه حتّى يصبح الصباح.

قال زين العابدين عليه السّلام: كنت يومئذ مريضا، فجاء أبي إلى خيمتي و بعد أن صلّى صلاة المغرب و العشاء دعا مولى لأبي ذر و كان عارفا بصقل السلاح، و قال له:

اصلح لنا سلاحنا، و كانت عمّتي حاضرة لديه و قد تناهبتها الأفكار و الهواجس، و سمعت أبي ينشد:

يا دهر أفّ لك من خليل كم لك بالإشراق و الأصيل

من صاحب و طالب قتيل و الدهر لا يقنع بالبديل

و إنّما الأمر إلى الجليل و كلّ حيّ سالك سبيلي فعلمت أنّ البلاء قد نزل، فخنقتني العبرة و صبرت، أمّا عمّتي فلم تصبر و من شأن النساء الرقّة و الجزع، فأقبلت على أخيها الحسين (1) و هي باكية و نادت:

اليوم ماتت أمّي فاطمة الزهراء و أبي عليّ و أخي الحسن، يا خليفة الماضي و ثمال

ص: 348


1- قال المؤلّف كلمة تحرّجت من ترجمتها في المتن و لكنّي أشير إليها في الحاشية ليعرف القارئ عوارها، قال: «سر برهنه كرد» أي حسرت عن رأسها، و هل يعقل هذا ببنت عليّ و فاطمة أن تفعله سامح اللّه المؤلّف، إنّي وجدته حاطب ليل.

الباقي، ليتني و سدّت أطباق الثرى، و أخذت تندبه بهذا و نحوه، فقال الحسين عليه السّلام:

يا أختاه، لا يذهبنّ بحلمك الشيطان، و ترقرقت عيناه بالدموع و قال: يا أختاه، لو ترك القطا لنام، و أغمي عليها فنضح أبي على وجهها الماء حتّى عادت إلى وعيها، و قال: أخيّه، أخيّه اتّقي اللّه و تعزّي بعزاء اللّه، إنّ أهل الأرض و السماء لا يبقون، و إن كلّ شي ء هالك إلّا وجهه الذي خلق الخلق بقدرته و إليه يعود و هو واحد، أبي خير منّي و أمّي خير منّي، فهما ماتا، و ما زال بها حتّى هدأ روعها، و خرجت من خيمته و أمر أن تقرب المضارب بعضها من بعض لئلّا يهاجمهم العدوّ ليلا، ثمّ أمرهم بالاستغفار و قرائه القرآن لأنّها ليلة آخر العمر.

الفصل الثاني في صفة الحرب

و كان عسكر الحسين عليه السّلام ثلاثين فارسا و أربعين راجلا، فجعل زهير بن القين على الميمنة، و حبيب بن مظاهر على الميسرة، و أعطى رايته أخاه العبّاس و قال:

نحن فئة قليلة و ليس بمقدورنا الحرب من جهتين فأمر بحفر خندق وراء المضارب و ملأه بالحطب، فلمّا أصبح الصباح أوقد فيه النار ليحول بينهم و بين العدوّ، و كان اليوم يوم جمعة العاشر من شهر محرّم الحرام سنة إحدى و ستّين من الهجرة.

و لم يبق في الكوفة أحد أو نواحيها إلّا سرّحه ابن زياد طوعا أو كرها لحرب الحسين في كربلاء، و سلّحهم بالسهام و السيوف و العصي و الحجارة و غيرها ليفرغوا من الحرب بأقصى سرعة ممكنة، و كان ورود الجيش إلى كربلاء ساعة بعد ساعة، و منعوا الحسين و أصحابه من الماء ثلاثة أيّام.

و عبّأ عمر بن سعد عسكره فجعل عمرو بن الحجّاج الزبيدي على الميمنة،

ص: 349

و شمر بن ذي الجوشن على الميسرة، و على الخيّالة عزرة بن قيس، و على الرجّالة شبث بن ربعي، و وقفوا جميعهم مقابل اثنين و سبعين رجلا، و قال الحسين عليه السّلام لإتمام الحجّة عليهم بعد أن وقف بين الصفّين: يا قوم، إنّ الموت حقّ و إنّي لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، اسمعوا منّي كلمات للّه فيها رضا و لكم فيها صلاح، فأوقف جيش الكوفة قرع الطبوع و الكوسات و أنصتوا له:

أيّها الناس، اسمعوا قولي و لا تعجلوني حتّى أعظكم بما لكم عليّ من حقّ و حتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم (و أظهر الحجّة عليكم) فإن قبلتم عذري و صدّقتم قولي و أعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد، و لم يكن لكم عليّ سبيل، و إن لم تقبلوا منّي العذر و لم تعطوا النّصف من أنفسكم أجمعوا أمركم و شركائكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليّ و لا تنظرون، إنّ وليّي اللّه الذي نزّل الكتاب و هو يتولّى الصالحين.

ثمّ قال: أمّا بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم و عاتبوها فانظروا هل يحلّ لكم قتلي و انتهاك حرمتي (و نهب مالي و سبي عيالي)، فمن عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول اللّه و ابن وصيّه و ابن إمامكم و ابن عمّ رسول اللّه نبيّكم، أبي عليّ أوّل المؤمنين باللّه و المصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه، أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوليس جعفر الطيّار الذي يطير بجناحيه مع الملائكة عمّي؟ و أمّي بنت رسول اللّه فاطمة الزهراء؟ ألم يقل رسول اللّه بحقّي و حقّ أخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة و قرطا العرش و ريحانة قلبي؟ فإن صدّقتماني بما أقول و هو الحقّ (و اللّه ما تعمّدت الكذب مذ علمت أنّ اللّه يمقت عليه أهله و يضربه من اختلقه) و إن كذّبتموني فإنّ فيكمم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري و أبا سعيد الخدري أو سهل بن سعد الساعدي أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك و أمثالهم يخبروكم أنّهم

ص: 350

سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لي و لأخي، مرارا و تكرارا، و سمعوا الآيات التي نزلت في حقّي و حقّ أخي و أبي، و هم يعلمون ذلك، فاسألوهم فإنّهم يشهدون بذلك.

فجعلوا لا يردّون عليه جوابا، ثمّ قال: يا أهل الكوفة، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟ و قتل أهل بيتي؟ أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته! أو مال لكم استهلكته؟ أو فساد في الأرض فعلته فتطلبوني به؟ فلم تصدر منّي خطيئة و لا ذنب أو جرم يوجب قتلي، أليست الآية: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (1) نزلت في شأني و شأن أخي؟ و آية المباهلة: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ (2) نزلت في حقّي و حقّ أخي و أبي و أمّي؟ أليست محبّتي واجبة عليكم بمقتضى قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (3) فإن جههلتم هذا، أو تجهلون أنّه ليس فيما بين جابلقا و جابلسا ابن بنت نبيّ غيري؟

ثمّ نادى: يا شبث بن ربعي و يا حجّار بن أبجر و يا قيس بن الأشعث و يا يزيد بن الحارث- و عدّ خمسين واحدا من رؤوسهم و قال- ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار و أخضرّ الجناب و إنّما تقدم على جند لك مجنّدة لك، و وعدتموني بالوعود الصالحة و أعجلتموني و كنتم ترسلون إليّ بالرسل يوما بعد آخر، و جئت على أثر كتبكم و حططت رحالي في بلدكم فأقبلتم تقاتلوني من غير جريمة فعلتها ترضية للطاغي الباغي فإن كنتم على ما فعلتم نادمين فدعوني أرجع إلى مأمني و أعود إلى قبر جدّي صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 351


1- الرحمن: 22.
2- آل عمران: 61.
3- الشورى: 23.

الفصل الثالث في توبة الحرّ بن يزيد الرياحي رحمة اللّه عليه

فلمّا رأى الحرّ أنّهم مقاتلوه، فقال في نفسه: أرى نفسي بين الجنّة و النار و إنّي أختار الجنّه على النار، ثمّ أقبل على ابن سعد و قال: أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فقال: اي و اللّه حربا أيسرها أن تطيح فيها الرؤوس و الأيدي فتكون الرؤوس في الميدان بمنزلة الكرة الطائرة و السواعد البائنة من الأجساد بمنزلة الطير الفارّ من عشّه.

فقال الحرّ: يابن سعد، و ما قولك فيما قاله لكم؟! قال: لو كان الأمر إليّ ما فعلته و لكنّ أميرك أبى.

ثمّ أقبل الحرّ على الفرات و سقى فرسه توجّه تلقاء الحسين عليه السّلام و نزل من على فرسه و طأطأ إلى الأرض و تاب و قال: هل لي من توبة؟ فقال الحسين: نعم و أنت حرّ في الدنيا و الآخرة، و لا أدخل الجنّة بدونك.

الفصل الرابع الجلي في مبدأ القتال إلى آخره

و لمّا نشبت الحرب تبارز الناس من عسكر الحسين و عسكر الملاعين، فرأى أنّ ذلك يؤدّي إلى فنائهم و قتل رجل من أصحاب الحسين مأة رجل من أصحاب عمر بن سعد، فقالوا: لو بقينا على المبارزة فإنّه الفناء الأكيد، و لا يبقى منّا أحد، و نرى من الأصلح أن نهاجمهم بأجمعنا، فحمل عمرو بن الحجّاج بجيش الكوفة على ميمنة أصحاب الحسين عليه السّلام فشرعوا له الرماح، فأقبلت الخيل لتقدم فرأت

ص: 352

الرماح مشرعة فعادت منهزمة، فرموهم أصحاب الحسين بالسهام فقتلوا منهم جماعة و جرحوا آخرين من اللعناء. فصاح عمرو بن الحجّاج: أيّها الحمقى، إنّكم تقاتلون فرسان المصر، فارموهم بالسهام و الحجارة، فاستصوب رأيه ابن سعد، فاستشهد الحرّ بن يزيد و مسلم بن عوسجة من أصحاب الحسين عليه السّلام.

و حمل شمر بن ذي الجوشن من جهة الميسرة فاقتتلوا قتالا شديدا مع أصحاب الحسين عليه السّلام حتّى أصاب عسكر الكوفه الهلع من ذلك، و كان عسكر الحسين عليه السّلام اثنين و ثلاثين فارسا و أربعين راجلا، و ان المشاة من أصحاب الحسين عليه السّلام أينما هجموا هزموا أهل الكوفة و تتهاوى الرجال على الرجال، و صاح عزرة بن قيس:

لقد قتل فرساني على يد هؤلاء النفر القليل، فأقبل الرماة نحوه فرموا خيل أصحاب الحسين فجرحوا منها أفراسا و من الفرسان جماعة، و نشب قتال شديد و حمل شمر بن ذي الجوشن على ميمنة الحسين، فحمل عليه زهير بن القين و معه عشرة من المقاتلين حتّى صدّوه، و كان القتل يبين بأصحاب الحسين لقلّتهم، و لو قتل واحد منهم، و لا يبين في أهل الكوفة لكثرتهم و لو قتل منهم ألف.

و استمرّ القتال حتّى زالت الشمس فصلّى الإمام بأصحابه صلاة الخوف الشديد، و بعد الصلاة استشهد أصحاب الحسين و لم يبق معه إلّا أهل بيته؛ أخوه و بنو عمومته. فبرز عليّ بن الحسين و كان الرجل و الرجلان يخرج منهم لقتال الأعداء فينكئ فيهم يقتل رجالا و ينكّس فرسانا، و كان الحسين عليه السّلام يحمل الشهداء و الجرحى منهم إلى المخيّم و بعد أن استشهد جميع أهل بيته و إخوانه و أبناء عمّه و أبناء إخوانه لم تبق إلّا مهجة الحسين الشريفة فاستقبل العدوّ بها إلى أن استنفدت قواه فرماه لعين منهم بسهم فوقع في جبهته، فتقدّم العبّاس إلى الحسين و أخرج السهم من جبهته و حمل عليهم العدوّ فاقتطعه عن أخيه، و استشهد على الفرات و قبره اليوم هناك.

ص: 353

و عاد الحسين عليه السّلام إلى خيمة النساء فضربه اللعين مالك الكنديّ بالسيف على رأسه فكان يقاتل جيش الكفر قتالا ضاريا و ليس معه إلّا ثلاثة رجال من أهل بيته، فيا للعجب من قتال ثلاثة رجال سبعين ألفا من الأوباش، و دخل الحسين خيمته و ضمّد جراحه و عاد إلى القتال و معه ثلاثة مقاتلين إلى أن استشهدوا بين يديه و بقي الإمام وحيدا فريدا كأنّه الأسد الغضبان، فوقع فيهم قتلا و أرسلهم إلى جهنّم.

و رواة الواقعة ثلاثة هم: حميد بن مسلم الكنديّ من جيش اللعناء، و زينب أخت الحسين عليهما السّلام، و عليّ زين العابدين عليه السّلام، و كان حميد بن مسلم من الأخيار و لكنّه أخرج لحرب الحسين قسرا (1) و حضر واقعة الطفّ من أوّلها إلى آخرها.

قال حميد بن مسلم لعنه اللّه: رأيت الحسين يحمل على العدوّ تارة على الميمنة و أخرى على الميسرة فينكشفون بين يديه و قد بلغوا عشرة آلاف، و أحيانا عشرين ألفا، و ما كان باستطاعتهم الثبات له في مراكزهم، فلمّا رأوا ما حلّ بهم نادى مناديهم: يا أسود العرب، أيّها الأبطال، إنّه رجل واحد جريح يفعل بكم هذا الفعل و تنهزمون أمامه، ألا تستحون، احملوا عليه بأجمعكم بالنبل و الحجارة، فهجموا عليه هجمة رجل واحد.

قال حميد لعنه اللّه: وصلت إلى جسد الحسين ثلاثمائة و ستّون رمية بسهم، و ضربة بسيف، و طعنة برمح، فكانت دمائها الطاهرة تسيل فلم يبق في جسمه الشريف دم فضعف ضعفا شديدا و أغمي عليه، فاتّكأ ساعة على رمحه، فدار

ص: 354


1- أحسب المؤلّف خدعه هذا الكلب بما يرويه من المآسي و ما يظهره من الجزع على أهل البيت و لذا سمّى خروجه لحربهم إكراها، و أنا لا أعرف للإكراه معنّى و هو باستطاعته أن يلحق بالحسين كما فعل الحرّ عليه السّلام أو يهرب على أقلّ تقدير، و لكن هذه من غرائب المؤلّف و لا زلت تطّلع على الغرائب و العجائب منه و لا تنتهي حتّي ينتهي الكتاب.

العسكر به، فضربه زرعة بن شريك لعنه اللّه على يده اليمنى، و طعنه سنان بن أنس لعنه اللّه بالرمح فوقع لجنبه عليه السّلام، فنزل خولّى بن يزيد لعنه اللّه ليذبحه فارتجفت يده، فنزل الشمر لعنه اللّه و ذبحه من الوريد إلى الوريد، و دفعه إلى خولّى لعنه اللّه، و قال:

احمله إلى الأمير عمر بن سعد.

قال حميد بن مسلم لعنه اللّه: ما رأيت كالحسين في شجاعته لأنّه قتل أهله و أقربائه و أصحابه فلم يوهي قواه و لا نقصت شجاعته، و أظهر من القوّة و الرجولة ما لم يستطع معها ألف رجل أن يسلبه و سلاحه، و لمّا سلبوه اقتسموا درعه و درقته و غيرهما، و هجم الجيش على مخيّم النساء (1) و نهبوا كلّ ما وقعت عليه أيديهم و وصل عمر بن سعد لعنه اللّه إلى باب الخيمة فصاح النساء في وجهه، فأوكل بهم الفرسان و الرجّالة و قال: ردّوا عليهنّ ما أخذتموه منهنّ، فما سمع كلامه و لم يردّ عليهنّ أحد ممّا أخذ شيئا.

و لمّا وصل الجيش إلى زين العابدين عليه السّلام أرادوا قتله. قال حميد بن مسلم لعنه اللّه: فمنعتهم من ذلك، و قال عمر بن سعد: ينبغي أن يقوم أحد هؤلاء بأمر النساء و لا تقتلوا ذلك الصبيّ ليكون بينا و بين النساء، فاجتمعن النساء في خيمة الإمام زين العابدين، و نهبوا كلّ ما لهم من المتاع، و ركب إسحاق بن حويه (حيات) و أخنس بن مرثد و معه عشرة من الفرسان و داسوا صدر الحسين و رضّوا عظامه ..

ص: 355


1- لا و اللّه ما وقعت عيني و لا سمعت أذني بأحطّ نفسا و لا أردأ همّة و لا أنذل طباعا من هؤلاء الذين أجلّ الكلاب عنهم فلا أسمّيهم كلابا احتراما للكلاب، لقد ارتكبوا شنائع ما من داع لارتكابها إلّا داع واحد هو خسّة نفوسهم، أترى لو أنّهم لم يهجموا على الخيام و لم يسلبوا النساء أكان أميرهم يلومهم على ذلك بعد أن فعلوا ما أراده منهم و أقرّوا عينيه لعنه اللّه و لعنهم بقتلهم سيّد شباب الجنّة و سبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله!

الفصل الخامس الجلي في أحوال رؤوسهم

قطع الشمر لعنه اللّه الرأس الشريف من القفا و أعطاه خولّى بن يزيد، و لمّا رآه عمر بن سعد خاف و امتقع لونه و وضع من كان حاضرا يديه على وجهه إلّا جماعة منهم قالوا: و ما الفائدة لقد نفذ القضاء.

و لمّا أصبح الصباح أعطى الرأس إلى خولّى و حميد و أرسلهما إلى عبيد اللّه بن زياد لعنهما اللّه في الكوفة، و أعطى باقي الرؤوس من الأصحاب و أهل البيت عليهم السّلام و كان عددها اثنتين و سبعين رأسا إلى شمر بن ذي الجوشن و قيس بن الأشعث و عمرو بن الحجّاج لعنهم اللّه، و بقي عمر بن سعد في كربلاء اليوم كلّه و اليوم الثاني إلى الزوال، و أوكل بالإمام زين العابدين و جماعة النساء من رجاله من يوثق بهم، و كان عدد النساء عشرين امرأه، و كان عمر الإمام يومئذ اثنتين و عشرين سنة، و عمر الإمام محمّد الباقر أربع سنين، و كلاهما كان حاضرا حادثة الطفّ، و حفظ اللّه الإمامين قبل ظهور إمامتهما، فلمّا ظهرت بعد الشهادة وجب حفظهما على الأمّة.

و لمّا غادر ابن سعد كربلاء نهض جماعة من بني أسد كانوا نزولا هناك و أقبلوا إلى كربلاء، و لمّا شاهدوا الحسين و أصحابه على تلك الحالة عمدوا إلى دفن الأجساد فدفنوا الإمام الحسين وحده و وضعوا عليّا الأكبر عند رجليه، و دفنوا العبّاس عليه السّلام على شاطئ الفرات و دفنوا بقيّة الشهداء في قبر واحد، و دفن الحرّ ذووه في الموضع الذي وقع فيه، و لا تعرف قبور الشهداء على التعيين لمن و لمن لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ الحائر محيط بهم تحت قبر الحسين عليه السّلام إلّا أنّ عليّا الأصغر أقرب منهم إلى الحسين عليه السّلام، و كان بنو أسد يفتخرون على قبائل العرب بأنّهم صلّوا على الحسين و دفنوه.

ص: 356

و قيل: لمّا فتح النبيّ خيبر هرب جماعة من اليهود إلى العراق و أقاموا بالقرب من أرض كربلاء و بنوا لهم منازل هناك و كان رئيسهم يدعى «إبراهيم» و «روئيل»، و كان عند مرور الجند من كربلاء إلى الكوفة ينامون على سطوح منازلهم، فوقعت عيونهم على كربلاء فرأوا النور يتصاعد من جسد الإمام و الشهداء إلى عنان السماء، فاجتمعوا في اليوم الثاني و قالوا: إنّ لهؤلاء الشهداء لشأنا عظيما عند اللّه، ألا ترون النور كيف ينزل عليهم طوال الليل، هلمّوا لدفنهم، فذهبوا إلى كربلاء و دفنوهم.

و في اليوم الثاني من شهادة الإمام عليه السّلام وصلت الرؤوس إلى الكوفة و جلس ابن زياد في قصر الإمارة و أذن للناس إذنا عامّا و وضع الرأس الشريف بين يديه، و لمّا وقعت عينيه على الرأس استبشر وضحك، فأخرج قضيبا كان معه و راح يضرب ثناياه، و كان زيد بن أرقم في المجلس (1) و هو من كبار مشايخ الصحابة (2) فقال:

ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فو اللّه الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول اللّه ما لا أحصيه يترشّفهما، فقال اللعين: أبكى اللّه عينيك، أتبكي لفتح اللّه و رسوله، لولا أنّك شيخ خرقت و ذهب عقلك لضربت عنقك، فقام زيد و ذهب إلى منزله، عند ذلك أمر عدوّ اللّه بإدخال أهل البيت و العيال عليه، فدخلت زينب أخت الحسين من فاطمة عليها السّلام و جلست في زاوية من زوايا القصر و دار بها أخواتها و جواريها، فقال عدوّ اللّه لعنه اللّه: من هذه التي انحازت ناحية و معها نسائها؟

ص: 357


1- أسألكم معاشر العقلاء: ما الذي يصنع هذا الصحابي في مجلس الطاغية الوغد الدعي و هو على علم بما يجري في كربلاء من صراع دام بين الحسين و بينه، أليس لتأييده و ليجعل من وجود هذا الكائن عنده ذريعة للفتك بأهل البيت، فما يجدي قوله: ارفع قضيبك إلى آخره، اللهمّ العن كلّ من آذى أهل بيت نبيّك بالقول أو الفعل أو أعان عليهم.
2- تعسا لهؤلاء الصحابة كبارا و صغارا.

و أعاد القول مرّات، فقالت إحدى الجواري: هذه زينب أخت الحسين من فاطمة عليها السّلام، فقال عبيد اللّه لعنه اللّه: الحمد للّه الذي فضحكم و قتلكم و أكذب أحدوثتكم، فقالت زينب عليها السّلام: الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و طهّرنا من الرجس تطهيرا، و إنّما يفتضح الفاسق و يكذب الفاجر و هو غيرنا.

ثمّ قال اللعين: كيف رأيت فعل اللّه بأهل بيتك؟! فقالت زينب عليها السّلام: كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سيجمع اللّه بينك و بينهم فيحاجّون و يختصمون عنده (فانظر لمن الفلج، ثكلتك أمّك يابن مرجانة).

فغضب، و كان عمرو بن حريث حاضرا، فقال: إنّها امرأة و المرأة لا تؤخذ بشي ء من منطقها، فقال ابن زياد لعنه اللّه: قد شفى اللّه نفسي من طاغيتك و العصاة من أهل بيتك، فاستعبرت عليها السّلام و قالت: لعمري لقد قتلت كهلي و قطعت فرعي و اجتثثت أهلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت.

(فقال ابن زياد لعنه اللّه: إنّها لسجّاعة، و لقد كان أبوها شاعرا) فقالت عليها السّلام: ما للمرأة و السجاعة، إنّ لي عن السجاعة لشغلا، و لكن صدري نفث بما قلت (1).

و أقبلوا بعليّ بن الحسين إلى ابن زياد، فقال: من أنت؟ قال: عليّ بن الحسين، قال: أليس قد قتل اللّه عليّا بن الحسين؟ فقال: كان لي أخ يسمّى عليّ قتله الناس، فقال اللعين: بل قتله اللّه، فقال الإمام: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها (2)، فقال اللعين: بك جرأة لجوابي و فيك بقيّة للردّ عليّ، اذهبوا فاضربوا عنقه، فتعلّقت به زينب و قالت: يابن زياد، حسبك من دمائنا، و قالت: و اللّه لا أفارقه فإن قتلته

ص: 358


1- ترجم المؤلّف السجاعة قوله: «اين زن و اين همه دليرى) فالظاهر أنّه هو الذي صحّفها إلى شجاعة و ليس الناسخ.
2- الزمر: 42.

فاقتلني معه، و بقي ابن زياد ساعة يحدق في المشهد ثمّ قال: عجبا للرحم، و اللّه إنّي لأظنّها ودّت أنّي قتلتها معه، دعوه فإنّي أراه لما به.

و أمر في اليوم الثاني أن يحمل رأس الحسين عليه السّلام على رأس رمح و يطاف به في شوارع الكوفة و أزقّتها، فاجتمع من الناس لمشاهدة الرأس ما يزيد على المأة ألف.

روي عن زيد بن أرقم أنّه قال: رأيت رأس الحسين على سنان الرمح و كنت في سارة لي جالسا، فرأيت الرأس مقبلين به من بعيد، و لمّا دنى منّي رأيت شفتيه يتحرّكان و سمعته يقرأ هذه الآية: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (1) فقفّ شعري فصحت: و رأسك يا بن رسول اللّه أعجب.

ثمّ إنّ عبد اللّه بن زياد لعنهما اللّه أعطى الرأس إلى زجر بن قيس و معه رؤوس الشهداء من الأصحاب و أهل البيت و قال: احملها إلى يزيد بن معاوية، ثمّ سيّر الإمام زين العابدين و أهل البيت إلى الشام و جعل عليهم شمرا بن ذي الجوشن و مخفر بن ثعلبة و وضع الغلّ في عنق الإمام زين العابدين و غلّوا يديه إلى عنقه فكان الإمام لا يفتئ في الطريق يتلو كتاب اللّه و يحمد اللّه و يثني عليه و يستغفره و لم يكلّم واحدا من الأعداء قطّ إلّا أهل بيته.

و قيل: إنّ يزيد لمّا وقعت عينه على أولئك اللعناء قال: قد كنت أقنع و أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما أنّي لو كنت صاحبه لعفوت عنه.

و حملوا أهل البيت و الإمام السجّاد على رواحل منهم لأنّ القوم انتهبوا ثقلهم فلم يتركوا عندهم شيئا، و لمّا وصلوا إلى يزيد رفع مخفر صوته مناديا: هذا مخفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة. فقال الإمام عليه السّلام: ما ولدت أمّ مخفر أشرّ و ألأم، و كان اللعناء يخشون من قبائل العرب أن تهيج عليهم و الرأس معهم

ص: 359


1- الكهف: 9.

فيستلبونه منهم، فلم يسلكوا الطريق الأعظم و إنّما تنكّبوا الطراق حذار من ذلك، فوصلوا إلى قبيلة و طلبوا منهم علفا لدوابّهم و قالوا: معنا رؤوس الخوارج نحملها إلى الأمير، و هكذا ساروا بهذه الحجّة حتّى بلغوا بعلبك، فأمر القاسم بن الربيع عامل البلد بتزيينه و حملوا الرأس إلى البلد مع آلاف الدفوف و الطبول و المزامير و الشبابات، و لمّا علموا بأنّ الرأس رأس الحسين خرج ما يقرب من نصف البلد و أحرقوا الأعلام و معالم الزينة و الفرح، و قامت الفتنة أيّاما على ساق في البلد، و هرب الذين معهم الرأس من البلد سرّا.

و وصلوا إلى أوّل بلد من بلاد الشام و كان الوالي عليه الملعون نصر بن عتبة، فأظهر الفرح و الاستبشار و زيّن البلد و قضى الليل كلّه بالرقص و الغناء، فخرجت سحابة سوداء أرعدت و أبرقت و أحرقت معالم الزينة كلّها، فقال عمر بن سعد و شمر لعنهما اللّه: هؤلاء قوم أهل نحس و شؤم فخرجوا منهم إلى ميّافارقين فاختصم كبار البلد بينهم كلّ واحد يريد دخول الرأس من بابه لأنّه عاقد الزينة فرحا به، فوقع بينهم قتال، و قتل الآلاف من الطرفين، فبقي كلاب الكوفة هناك عشرة أيّام، و من هناك انتقلوا إلى نصيبين.

قال منصور بن الياس: رفعوا أكثر من ألف علم استقبالا لرأس الحسين، و كان رأس الحسين معه فأراد أن يدخل البلد فتقهقر حصانه فأقبلوا بعدّة أفراس له فلم تتقدّم، فبينما هم كذلك إذ وقع رأس الحسين من أعلى الرمح و كان إبراهيم الموصليّ في القوم (1) فاحتاط للرأس لأنّه عرفه رأس الحسين فلام الناس و قتله الشاميّون فأخرجوا الرأس خارج حدود البلد و راحوا ينثرون المال على الناس بحيث يعسر

ص: 360


1- لست أدري عن إبراهيم الموصليّ هذا شيئا، فإن كان هو المغنّي أيّام الهادي و المهدي و الرشيد فإنّها طامّة كبرى أن يروي المؤلّف رواية تخالف العقل و النقل.

شرح ذلك فارتفع في اليوم الثالث تراب و غبار حتّى اسودّت الآفاق فساء بهم ظنّ الناس و قالوا: إن بقيتم هاهنا قتلناكم فخرجوا منهم إلى مدينة «شبديز» فتعاهد الناس فيما بينهم أن لا يعطوهم مؤنة لهم و لا لدوابّهم، و إن اضطرّتهم الحال إلى القتال قاتلوهم.

و لمّا علم الكوفيّون بواقع الحال هربوا ليلا فتعقّبهم أهل البلد يلعنونهم و يسبّونهم حتّى بلغوا حافّة الفرات فساروا على الشاطئ و قطعوا قرية قرية حتّى دنوا من دمشق أربعة فراسخ فكان الناس يقدمون لهم النثار و الهدايا و ظلّوا على باب المدينة ثلاثة أيّام حتّى يزيّنوا البلد، فزيّنوه بكلّ ما عندهم من حلي و رياش و زينة إلى درجة لم يشابهها بهذه الزينة قبل اليوم، و خرج ما يقرب من خمسمائة ألف ما بين رجل و امرأة و الدفوف بأيديهم و أخرج أمراء القوم الطبول و الكوسات و الأبواق و الدفوف و راحوا بالآلاف يرقّصون نساءا و رجالا على أصوات الدفوف و الطبول و الربابات و كان النساء قد اختضبن و اكتحلن و لبسوا الحلي و الحلل، و ذلك يوم الأربعاء السادس عشر من ربيع الأوّل (1).

و لمّا أشرقت الشمس أدخلوا الرؤوس إلى البلد و لم يصلوا إلى بيت يزيد إلّا وقت الزوال لكثرة الناس، و كان يزيد لعنه اللّه قد اعتلى عرشه و هو «تخت مرصع» و زين القصر و المجلس بأنواع الزينات و وضع كراسيّ الذهب و الفضّه عن اليمين و عن الشمال، و خرج الحجّاب و أدخلوا اللعناء الذين رافقوا الرؤوس فسألهم يزيد لعنه اللّه فقالوا: أنقذنا دولة الأمير من تدمير آل أبي تراب، و قصّوا عليه تمام

ص: 361


1- و الآن لنا أن نسأل المؤلّف إن كانوا في هذا الوقت ما يزالون في الطريق فمتى رجعوا إلى كربلاء و حضروا أربعين الحسين في العشرين من صفر لست أدري و ليت المؤلّف أشار إلى اختلاف هذا القول مع أقوال المؤرّخين.

الحكاية، و وضعوا بين يديه رؤوس أولاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و ما كان بمقدور أحد من الناس أن يسلّم على أهل البيت هذه المدّة التي هي عبارة عن ستّ و ستّين يوما و هم بأيدي الكافرين، إلى أن انبرى للإمام زين العابدين شيخ و قال له: الحمد للّه الذي قتلكم، فقال له الإمام زين العابدين: هل قرأت القرآن يا شيخ؟ فقال: نعم قرأته. قال: قرأت قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1) قال: نحن القربى، وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (2) نحن القربى، ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (3) نزلت فينا، فاستحيا الشيخ و سكت و قال: اللهمّ إنّي أبرأ إليك من أعداء آل محمّد و من قتل أهل بيت محمّد. قال: ما زلت أقرأ القرآن إلى اليوم و لا أفهمه.

و أقبل الحجّاب ليأخذوا الرؤوس و قد وضعوا رأس الحسين عليه السّلام في طشت من الذهب، فوضعوه بين يدي يزيد و عرضوا باقي الرؤوس رأسا رأسا و هو يسأل:

رأس من هذا؟ فيخبره الملاعين عنه و يعرّفونه به، و كان جماعة من المؤمنين في الحضور يبكون سرّا، فعرف يزيد اللعين الأمر، فقال:

يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون الموت على النوائح و غطّى الطشت الذي فيه الرأس و كان بيد يزيد الكافر لعنه اللّه قضيب فرفع الغطاء عن الطشت و أخذ يضرب ثنايا الحسين و يردّد أبياتا تدلّ على كفره:

ليت أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسل

لو رآه فاستهلّوا فرحاثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

ص: 362


1- الشورى: 23.
2- الإسراء: 26.
3- الأحزاب: 33.

قد قتلنا اليوم من أشياخهم فعدلناه ببدر فاعتدل

لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل ثمّ أنشد من بعده:

نفلّق هاما من رجال أعزّةعلينا و هم كانوا أعقّ و أظلما

حسين أراد الملك و الملك دونه أسنّة أقوام تلجّ له دما ...

و لمّا رأيت الودّ ليس بنافع و إن كان يوما ذا كواكب مظلما (1)

صبرنا و كان الصبر منّا سجيّةبأسيافنا يفرين هاما و معصما (2) و كان أخو مروان بن الحكم يحيى بن الحكم من المؤمنين قال:

لهام بجنب الطفّ أدنى قرابةمن ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

أميّة أمست نسلها عدد الحصى و بنت رسول اللّه ليست بذي نسل فضربه يزيد اللعين بيده على صدره و قال: اسكت. قيل: خرج يحيى من هناك و لم يره أحد بعد ذلك (3).

ثمّ حوّل وجهه إلى الإمام زين العابدين و قال له: يا بن الحسين، أبوك قطع رحمي و جهل حقّي و نازعني سلطاني، فصنع اللّه تعالى ما رأيت، فأجابه الإمام عليه السّلام: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (4).

ص: 363


1- البيت ليس له وزن و لا ألفاظ و لا معنى و صعب عليّ إصلاحه في المصادر التي أملكها و أنقله في الهامش و أترك الحكم للقارئ: كذلك يصلى بحرّ نار غشمشم يعيش بداء أو يكاد صنيعما
2- كلّ المقاتل و كتب التاريخ ذكرت البيت الأوّل فقط.
3- بل رآه كثيرون و حكايته مع الحسن المثنّى في وفادته على عبد الملك بن مروان و ما قال له و ما أجابه به يحيى بن الحكم مشهورة.
4- الحديد: 22.

و التفت يزيد إلى خالد ولده و قال: أردد عليه و كان الكافر غاية في الجهل، و أمر يزيد بعرض العائلة عليه، فلمّا رأى ما عليهنّ من الثياب الممزّقة المهلهلة تألّم (كذا) و قال: قبّح اللّه ابن مرجانة لو كانت بينكم و بينه قرابة و رحم ما فعل هذا.

قالت فاطمة بنت الحسين: و كان إلى جانب يزيد شاميّ أحمر، فأقبل على يزيد و قال: هب لي هذه الجارية، و كان يقصدني. قالت فاطمة: فخفت و تعلّقت بعمّتي زينب، فقالت: لا تخافي فليس له ذلك و لا لأميره فنحن أهل بيت قد رفع اللّه عنّا ذلك و من يستطيع أن يسترقّ أهل البيت فاطمأنّي جأشا.

ثمّ قالت زينب عليها السّلام: كذبت و اللّه يا شاميّ و لؤمت، ما ذاك لك و لا له، فغضب يزيد و قال: (بلى لو شئت لفعلت. قالت: إلّا أن تخرج من ديننا و تدين بغير ملّتنا) فغضب يزيد و قال: إيّاي تستقبلين جهرا بهذا، إنّما خرج من الدين أبوك و أخوك.

فقالت زينب عليه السّلام: بدين اللّه و دين أبي و أخي اهتديت أنت و جدّك و أبوك إن كنت مسلما. فقال يزيد لعنه اللّه: كذبت يا عدوّة اللّه، فقالت زينب: أنت أمير تشتم ظالما و تقهر بسلطانك، فكأنّه استحيا و سكت، و عاد الشاميّ يقول: هبني هذه الجارية، فحذفه بمحفّة كانت بيده و قال: أغرب (وهب اللّه لك حتفا قاضيا).

و كان في ذلك اليوم سفير ملك الروم المسمّى بعبد الشمس حاضرا، فقال: يا أمير، لي ستّون عاما أمتهن التجارة من القسطنطينيّة فجئت إلى المدينة و معي عشرة أبراد يمنيّه و عشر سرر مسكيّة و حملة ثقيلة من العنبر، و قدمت بها على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان في بيت أمّ سلمة، فاستأذن لي أنس بن مالك فدخلت على النبيّ و قدّمت له الهدايا فقبلها منّي، و أسلمت، فسماّني عبد الوهّاب، و لكن كتمت إسلامي خوفا من ملك الروم و كنت عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذ أقبل الحسنان فقبّلهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أجلسهما في حجره و اليوم يحملون لك رأس الحسين و قد أبنته عن جسده و تضرب ثناياه بقضيبك و هي مقبّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و في ديارنا بحر فيه جزيرة في

ص: 364

تلك الجزيرة صومعة و في تلك الصومعة أثر حافر الحمار الذي يقال بأن عيسى ركبه ذات يوم، و نحن صغناه من الذهب و وضعناه في صندوق فكان سلاطين الروم و أمرائها و عامّة الناس يحجّون في كلّ عام إلى ذلك الموضع و يطوفون حول تلك الصومعة و يكسون تلك الحوافر حريرا جديدا و يعمدون إلى الكسوة القديمة يتقاسمونها قطعة قطعة، و يعدّونها من أفضل التحف، و أنتم تقتلون أولاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟!

فقال يزيد: لقد نغّص علينا عيشنا ثمّ أمر بضرب عنق عبد الوهّاب، فنطق عبد الوهّاب بالشهادتين و أقرّ بنبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إمامة الحسين عليه السّلام و لعن يزيد و آبائه و أجداده ثمّ قتلوه.

و جاء زهير العراقيّ و قال: يا أمير، هبني هذه الجارية- و أشار إلى أمّ كلثوم- و مدّ يده على ملفعة السيّدة، فقالت أمّ كلثوم بالعربيّة: قطعت يدك أبعد عنّا، فتعجّب زهير من كلامها العربيّ و سأل: من أيّ القبيل هم؟! و كان يظنّ أنّهم من أسرى الروم، فقال الإمام زين العابدين: هذه بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنا ابن ابن ابنته، و هؤلاء الحرم بنات فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فخرج زهير من بينهم و قطع يده اليمنى و عاد يمسك يده القطيعة باليد الأخرى و هي تقطر دما، و قال: يا بنة رسول للّه، اعف عنّي فقد استجاب اللّه دعاك و اعتذر إليهم و خرج من هناك و لم يقع بعدها أحد على عين منه أو أثر.

قال سهل بن سعد الساعديّ: حججت في ذلك العام و زرت بيت المقدس في الشام فلمّا دخلت دمشق رأيت بلدا كثير الفرح و المرح، و رأيت جماعة في المسجد يبكون في الخفاء و يعزّي بعضهم البعض، فسألتهم: من أنتم؟! قالوا: نحن من موالي أهل البيت و اليوم يؤتى برأس الحسين إلى البلد.

قال سهل: فذهبت خارج البلد فرأيت من كثر الناس و صهيل الخيل و صوت

ص: 365

الأبواق و الطبول و الكوسات و الدفوف كأنّ القيامة قد قامت، فلمّا وصلت السواد الأعظم رأيتهم قد أقبلوا بالرؤوس على أسنّة الرماح فرأيت رأس العبّاس يتقدّم الرؤوس و ورائه ركب الحرم، و رأيت رأس الحسين و عليه البهاء و العظمة و يشرق النور منه بلحية مدوّرة قد خالطها الشيب و قد خضّبت بالوسمة، أدعج العينين، أزجّ الحاجبين، واضح اللحيين، أقنى الأنف، مبتسما إلى السماء، شاخصا ببصره نحو الأفق، و الريح تلعب بلحيته يميناص و شمالا كأنّه عليّ عليه السّلام.

قال عمر بن المنذر الهمدانيّ: و رأيت أمّ كلثوم تخالها فاطمة الزهراء و عليها إزار خلق و على وجهها نقاب، فدنوت منهم و حيّيت الإمام زين العابدين و حيّيتهم، فقالوا لي: أيّها المؤمن، إن قدرت على شي ء تدفعه إلى حامل الرأس ليقدّمه فافعل فقد خزينا من شدّة النظر إلينا، فأعطيت ذلك اللعين مأة درهم ليقدّم رأس الحسين عليه السّلام و يبعّده عن العائلة.

و ساروا هكذا حتّى وصلوا إلى يزيد لعنه اللّه و كان يهوديّ حاضرا هناك، فقال:

رأس من هذا؟ فقال: رأس رجل من العراق عربيّ خرج عليّ، فأمرت عبيد اللّه بن زياد بقتله، فقال: ابن من؟ قال: ابن عليّ من فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا من لا دين له و لا يقين، بيني و بين داود النبيّ سبعون ظهرا و اليهود تأخذ تراب قدميّ تسجد عليه و لو كان لموسى خلف لعبدناه و أنتم قتلتم أبناء نبيّكم محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و تدّعون أنّكم أتباعه و أمّته. فقال يزيد: لو لا أنّ النبيّ قال: من آذى ذمّيّا فقد آذاني لأمرت بضرب عنقك، فقال اليهوديّ: ما أعظم صلفك، أيخاصمك النبيّ من أجل يهوديّ ذمّيّ أفلا يخاصمك من أجل ولده! فأمر يزيد بضرب عنق اليهوديّ، فتشهّد اليهوديّ الشهادتين و أقرّ بنبوّة المصطفى صلّى اللّه عليه و آله و إمامة عليّ و الحسنين عليهم السّلام و رفع رأس الحسين و قبّله إلى أن قبضوا على يده و أخرجوه خارج البيت و قتلوه فذهب شهيدا، و قال يزيد: إنّه أسلم كي لا أقتله.

ص: 366

و قيل: إنّ يزيد أمر زين العابدين بمصارعة ولده و بالغ بالإلحاح عليه، فقال الإمام ليزيد: أو غير هذا؟ قال يزيد: كيف؟ قال: تعطيني سكّينا و تعطيه سكّينا لكي يعرف من الأقوى؟ فقال يزيد: هيهات لن تلد الحيّة إلّا حيّة (1)، ثمّ قال يزيد لزين العابدين: يابن الحسين، ما هو فضلكم على سائر قريش؟ فقال الإمام زين العابدين عليه السّلام: نحن أهل بيت النبوّة و معدن الرسالة و مختلف الملائكة و معدن التأويل و التنزيل من الدين، و قال اللّه تعالى: سلام على آل طه و ياسين، يا ويلك! لا يقاس صخر بن حرب بأبي طالب، و لا معاوية بعليّ بن أبي طالب، و لا أنت يا بن هند بالحسين، و لا ابنك بعليّ بن الحسين.

و بقي الإمام زمانا عند يزيد في الشام و في كلّ يوم يزداد ميل الناس إليه، و إلى عترة النبيّ و أهل بيته، و تأتي نساء الشام تعزّي نساء أهل البيت حتّى أوشك ملك يزيد أن يتزلزل، فاستدعى الإمام و قال له: هل لك من حاجة؟ فقال الإمام:

حاجتي أن تريني وجه أبي حتّى أردّه إلبى جسده، قال: لقد فعلت، و كان قد صلبه أربعين يوما على منارة الجامع في دمشق و صلب الرؤوس الباقية على المساجد و الأبواب و أحيانا على باب قصر يزيد. ثمّ قال: و ادفع لي قاتل أبي لأقتصّ منه، فكان كلّ من أحضروه يتنصّل من قتل الحسين، إلى أن وصلت النوبة إلى أحدهم، فقال: إنّما قتل الحسين من فتح بيت المال على مصراعيه و أغدق العطاء على الجند يعني بذلك يزيد هو الذي قتله، فاستحيا ذلك اللعين و سكت.

و روى الرواة أنّ يزيد أمر في اليوم الذي أحضروا عنده رأس الحسين عليه السّلام بصنع فقّاع (بضمّ الأوّل و تشديد القاف- المؤلّف) و هو مسكر يصنع من الشعير و يسمّى بالهنديّ «لوزه» و سقى جيشه منه، و كان محرّما في الإسلام، فأباحه اللعين و صار

ص: 367


1- لم تكن الحكاية مع الإمام زين العابدين بل مع أحد ولد الحسن أو عقيل و ابنه خالد.

شرب الفقّاع في ذلك اليوم سنّة سنّها هذا اللعين.

قال الإمام الرضا عليه السّلام: من رأى الفقّاع فليلعن يزيد و من تابعه و يصلّي على الحسين و أصحابه (1).

إنّ المؤرّخين تناهوا في ضبط وقائع عاشوراء للحسين و أصحابه عليهم السّلام حتّى بلغت المجلّدات و اجتازت قدرة كتاب كهذا الكتاب أن يستوعبها، و لكن وجدت من الضروريّ أن لا يخلو هذا الكتاب من ذكر الحسين و أصحابه عليهم السّلام لا سيّما المراثي و المدائح التي نظمها الإنس و الجنّ فيهم لكي لا يوجب السأم.

قيل: إنّ الإمام زين العابدين استأذن يزيد في خطبة أهل الشام يوم الجمعة، فلمّا كان يوم الجمعة أحضر يزيد لعنه اللّه خبيثا لعينا من أهل الشام و كان فصيحا بليغا و قال: اصعد على المنبر و قل ما عرض لك و جرى على لسانك من ثلب عليّ و الحسين و الثناء على الشيخين (لعنهما اللّه)، فصعد ذلك الرجل المنبر و قال كلّ ما وسعه، فقال الإمام: ائذن لي حتّى أخطب الناس، فندم اللعين و قال: كلّا لا آذن لك، فألحّ الناس على يزيد إلحاحا شديدا، فما قبل شفاعتهم، فقال ابنه معاوية:

أبتاه و ما يصنع هذا مع صغر سنّه، دعه حتّى نرى ما يقول، فقال: أنتم لا تعرفون أهل هذا البيت، إنّهم توارثوا العلم و الفصاحة، إنّي أخشى أن تثور الفتنة وراء هذه الخطبة، و تحيق بنا و لكنّه استكان للأمر و رضي أن يخطب.

فرقى الإمام المنبر و قال:

الحمد للّه الذي لا بداية له، و الدائم الذي لا نفاد له، و الأوّل الذي لا أوّل

ص: 368


1- عن الرضا عليه السّلام قال: من نظر إلى الفقّاع أو إلى الشطرنج فليذكر الحسين عليه السّلام و ليلعن يزيد و آل زياد يمحو اللّه عزّ و جلّ بذلك ذنوبه و لو كانت كعدد النجوم. (بحار الأنوار 44: 299، العوالم: 415، مستدرك سفينة البحار 5: 401 و غيرها).

لأوّليّته، و الآخر الذي لا مؤخّر لآخريّته، و الباقي بعد فناء الخلق قدر الليالي و الأيّام، و قسم فيما بينهم الأقسام، فتبارك اللّه الملك العلّام.

و قال في كلامه: إنّ اللّه أعطانا الحلم و العلم و الشجاعة و السخاء و المحبّة في قلوب المؤمنين، و منّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و منّا وصيّه و منّا سيّد الشهداء و جعفر الطيّار في الجنّة و سبطا هذه الأمّة و المهديّ الذي يقتل الدجّال. أيّها الناس، من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا أعرّفه بحسبي و نسبي، أنا ابن مكّه و منى، أنا ابن زمزم و الصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردى، أنا ابن خير من ائتزر و ارتدى، أنا ابن من طاف و سعى، أنا ابن خير من حجّ و أتى، أنا ابن من أسري به إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنى فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن الحسين القتيل بكربلا، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن سدرة المنتهى، أنا ابن شجرة طوبى، أنا ابن المزمّل بالدماء، أنا ابن من بكى عليه الجنّ في الظلماء، أنا ابن من لاح عليه الطيور في الهواء.

فلمّا بلغ إلى هذا الموضع من خطبته ارتفعت الضجّة من المجلس و بكى الناس بكاءا عاليا فضيّع يزيد نفسه و زعق بالمؤذّن: أذّن ويحك، فقام المؤذّن و صاح: اللّه أكبر، فقال الإمام عليه السّلام: نعم اللّه أكبر و أعلى و أجلّ و أكرم ممّا أخاف و أحذر.

فلمّا قال المؤذّن: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، فقال الإمام: نعم أشهد مع كلّ شاهد، و أحتمل على كلّ جاحد، ألّا إله غيره و لا ربّ سواه.

فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، قام الإمام و نزع عمامته من رأسه و قال للمؤذّن: أقسمت عليك بمحمّد هذا إلّا ما سكتّ ساعة، و استقبل يزيد لعنه اللّه بوجهه و قال: يا يزيد، هذا الرسول العزيز الكريم جدّي أم جدّك؟ فإن قلت جدّي فالناس تعلم بأنّك كاذب فيما تدّعي، و إن قلت جدّك فلماذا قتلت أبي

ص: 369

مظلوما من غير ذنب و نهبت ثقله و أسرت عياله، قال هذا و أهوى إلى جيبه فشقّة (1) و أخذ يبكي و قال: أقسم باللّه لو كان أحد في الدنيا جدّه رسول اللّه فهو أنا، فلماذا قتل هذا الرجل أبي بظلم و ساقنا كما تساق أسرى الروم؟! ثمّ قال: ويلك يا يزيد، تفعل هذا الفعل و تقول أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، و تستقبل القبلة! ويل لك يوم القيامة يوم يكون جدّي و أبي خصميك. و هنا صاح يزيد بالمؤذّن: أقم للصلاة، فتهامس الناس فيما بينهم فصلّى بعضهم و ترك الصلاة آخرون، و تفرّقوا من المسجد.

و أرسلت زينب عليها السّلام إلى يزيد ليأذن لهم في إقامة العزاء على الحسين عليه السّلام، فأذن لها يزيد و قال: خذوهم إلى دار الحجارة ليبكوا هناك، فأقاموا العزاء سبعة أيّام، فكان النساء يجتمعن عليهنّ في كلّ يوم و اجتزن حدود الحصر و الإحصاء، و حمي غضب الناس على يزيد فأرادوا الهجوم عليه و قتله في بيته، فجائه مروان و قال:

لا أرى بقاء أولاد الحسين و عياله و أهل بيته عندك إلّا مضرّا بمصلحة ملكك فاعمل على ترحيلهم من الشام إلى المدينة، اللّه اللّه في ملكك لئلّا يندثر بسبب هؤلاء العيال.

فاستدعى يزيد الإمام زين العابدين عليه السّلام و أجلسه إلى جانبه و تفدّاه و تذلّل له و أظهر الحزن على أبيه ليستميله و قال: لعن اللّه ابن مرجانة لو كنت صاحب أبيك لم أترك الأمر يصل بنا إلى هذا الحدّ، و إنّي ألبّي رغباتك كافّة فاطلب منّي ما تشاء و سلني حاجاتك أقضها لك كلّها، و لكن نفذ القدر بما جرى، فإذا وصلت إلى المدينة فكاتبني بحاجاتك و خلع عليه و أكرم النساء و زاد في إعزازهنّ. و قيل: إنّ

ص: 370


1- هذا لا يجوز تصوّره و لا تحلّ روايته لأنّه كذب محض على الإمام السجّاد، و الإمام لا يفعل هذا في مجلس يزيد لأسباب منها أنّه خرق لحجاب شخصيّته و هتك لحرمة ثورة أبيه.

أهل البيت ردّوا كلّ ما تقدّم به يزيد إليهم.

و روي أنّ أمّ كلثوم أخت الحسين توفّيت في دمشق الشام فاستدعى يزيد عمر ابن خالد القرشيّ و قيل النعمان بن بشير الأنصاريّ و كان عمر رجلا مؤمنا، و كان يكتم إيمانه و اعتقاده، و أمّره على ثلاثمائة رجل و قال له: أوصل هؤلاء الصبية و العيال إلى المدينة و سر فيهم ليلا لا نهارا كيلا تراهم، فإذا نزلت في منزل فكن بمبعدة عنهم، فقبل عمر بن خالد شروط يزيد و أوصلهم إلى المدينة سالمين (1).

و لمّا بلغوا المدينة استقبلهم الرجال و النساء بالبكاء و العويل و أقاموا العزاء على الحسين زمانا و نظموا المراثي فيه فكانت قد بلغت مجلّدين، منها قول الشافعي:

تأوّب همّي و الفؤاد كئيب و أرق عيني و الرقاد غريب

و ممّا نفى نومي و شيب لمتي تصاريف أيّام لهنّ خطوب

فواكبدي من حزن آل محمّدو من زفرات ما لهنّ طبيب

فمن مبلغ عنّي الحسين رسالةو إن كرهتها أنفس و قلوب

قتيل بلا جرم كأنّ ثيابه صبيغ بماء الأرجوان خضيب

فللسيف إعوال و للرمح رانّةو للخيل من بعد الصهيل نحيب

تزلزلت الدنيا لآل محمّدو كان لها صمّ الجبال تذوب

و غابت نجوم و اقشعرّت كواكب و هتك أشعار و شقّ جيوب

هم شفعائي يوم حشري و موقفي و بغضهم للشافعيّ ذنوب

نصلّي على المختار من آل هاشم و نؤذي بنيه إنّ ذا لعجيب

ص: 371


1- لم يذكر مرورهم في كربلاء و الظاهر أنّه لا يقول به و إلّا لما فاته ذكره.

الفصل السادس

استشهد مع الحسين عليه السّلام ثمانية عشر واحدا من أهل بيته؛ ستّة لأمير المؤمنين عليه السّلام و هم: العبّاس و عبد اللّه و محمّد و أبو بكر و جعفر و عثمان. أبو بكر و جعفر و عثمان لأمّ ولد، و العبّاس و عبد اللّه أمّهما ليلى بنت مسعود الثقفيّ و أبوها من شجعان العرب و صناديدهم، و لمّا ولدت ليلى لأمير المؤمنين عددا من الأولاد سمّيت أمّ البنين (1).

و عليّ الأوسط و عبد اللّه الرضيع ولدا الحسين، و أبو بكر و عبد اللّه و القاسم أولاد الحسن، و من هؤلاء الثلاثة القاسم و عبد اللّه لم يبلغا الحلم، و محمّد و عون ولدا عبد اللّه بن الطيّار بن أبي طالب من زينب أخت الحسين عليهما السّلام، و جعفر و عبد الرحمن ولدا عقيل، و عبد اللّه و أبو عبد اللّه ولدا مسلم بن عقيل بن أبي طالب، و محمّد بن سعيد بن عقيل بن أبي طالب، و هؤلاء كلّهم دفنوا عند رجلي الحسين عليه السّلام إلّا العبّاس السقّا الذي دفن على شاطئ المسنّاة حيث استشهد.

الفصل السابع في خاتمة الكتاب الجلي

اعلم أنّ من كان له رسوخ في الدين أو ثبات في الاعتقاد أو حظّ من العقل أو

ص: 372


1- فأين سيّدتنا فاطمة بنت حرام الكلبيّة عليها السّلام التي استشهد أولادها الأربعة مع أخيهم الحسين في كربلاء و هي أمّ العبّاس عليها و على أولادها الصلاة و السلام، و لم أر إجماعا يخرقه مؤلّف كهذا الإجماع الذي خرقه هذا المؤلّف. فأمّ البنين لا يكاد يجهلها أو يشكّ بوجودها أحد من الناس فما بال هذا الرجل!

تصديق بالقيامة أو الجنّة و الجحيم أو رجاء بالثواب أو خوف من العقاب أو معرفة بالتوحيد و العدل أو أدنى إرادة في أهل بيت العصمة و الطهارة أو نصيب من الإسلام أو مطالعة للسير و التواريخ أو تعمّق في معرفة الكتب أو أدنى توفيقا من اللّه تعالى أو امتزجت دنيّة ذاته بالإنصاف يعلم أنّ يزيد يستحقّ اللعنة و هو بري ء من الإسلام كما أنّ الإسلام بري ء منه، و هو خالد في العذاب الأبديّ و العقاب السرمديّ و هو مأواه، و عند الشيعة لعنه مستحبّ بل هو من الواجبات و الفرائض كالصلاة و الصيام المكتوبتين، و لكنّ هذا متعذّر من أهل السنّة و صعب عليهم لأنّ يزيد عندهم خليفة شرعيّ فهو وليّ معاوية و معاوية خليفة عمر و عثمان و نائب منابهما و متولّي أمرهما و مختارهما، و قد تمكّن و تسلّط من قبلهما على خلق اللّه.

يقال: إنّ ملكا من ملوك مازندران سأل علويّا: أين استشهد الحسين و أصحابه و أهل بيته؟ فقال العلويّ: في كربلاء، فقال الملك: أيّها العلوي، إنّ الحسين قتل يوم السقيفة يوم بايعوا أبا بكر.

فقد روى المؤلّف و المخالف عن ابن جرير الطبري في أحد تصانيفه: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: لثلمة في الإسلام مخالفة عليّ بن أبي طالب.

و ممّا لا شكّ فيه أنّ تقدّم الشيوخ الثلاثة على العترة و تجرّأهم على العترة و غصبهم لحقوقهم على النهج المذكور هو الذي جرّأ الفسّاق و الكفّار عليهم و وجد المنافقين الأفق مفتوحا لنفاقهم و بقيت الشهب عالقة بين الناس على قطب الضلالة و قال ضعفاء الإسلام: لو لم يكن هذا مرخّصا فيه لم يفعله أصحاب الصدر الأوّل من المهاجرين و الأنصار الذين كانوا مع رسول اللّه يوم عريشه و هم يصغون إلى نزول القرآن و يفقهون تأويله من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و هؤلاء لم يحصنوا بقوّة علميّة و خلفيّة فقهيّة يدفعون بها الشبهة عن أنفسهم و لم يكن لهم من معرفه القرآن حظّ و لا من التصديق به ثمرة و إلّا لعلموا أنّ من آذى

ص: 373

أولاد الأوبياء و ظلمهم فقد وقع الظلم على الأنبياء و الأولياء مثل قابيل الذي قتل هابيل أخاه من قبل الأب و الأمّ حسدا منه، و أولاد يعقوب حين رموا يوسف في غيابة الجبّ و باعوه كرّة أخرى بدراهم معدودة، و مثل ذلك كنعان بن نوح و سائر بني إسرائيل الذين ظلم بعضهم البعض الآخر، و امرأتا نوح و لوط اللتان كفرتا.

و الضرورة قاضية بأنّ هذا الغدر و الظلم ليس على أساس من الإنسانيّة أو القرابة الأخوّة: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (1) فتبيّن أنّ هذا الظلم و القتل من أولاد المشركين الذين قضوا أعمارهم في طاعة اللات و العزّى و صار الشرك بالنسبة إليهم نظير العادة و الجبلّة، أمكن و أولى و أحرى لا سيّما و أنّ إسلامهم كان رهبة من سيف أمير المؤمنين أو رغبة في الخلافة و الإمامة، كما و أنّهم وصلوا في الدنيا إلى غاياتهم أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا (2) و المؤرّخون و جماعة ممّن خالطهم يعرفون هذا جيّدا منهم و لكن فئة منهم نشأوا في رتب الضلالة و ثبتوا على ذلك كما نشأوا على حبّ التقليد من اتّباع طريقه الآباء و الأجداد إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ (3) مع الانسياق وراء السواد الأعظم من الناس و هذا أيضا علامة من الضلالة كما قال تعالى: وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (4)، و قال تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (5)، أو أنّ اللّه تعالى خذلهم لأنّهم لم يعشوا إلى نور العقل: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (6)، و قال تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ

ص: 374


1- النساء: 54.
2- الأحقاف: 20.
3- الزخرف: 22.
4- المائدة: 100.
5- الزخرف: 78.
6- العنكبوت: 69.

آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (1)، و هؤلاء يعلمون و يقرؤون و يسمعون و لكن لم يحالفهم التوفيق في الاعتقاد: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (2).

و طائفة موفّقة مطمئنّة قلوبهم بذكر اللّه و صارت صدورهم مرآة تنعكس فيها الأشعّة الربّانيّة و الأنوار الإلهيّة أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ (3) حيث غاصوا بأفكارهم في عمق المأساة ممّا جرى على آل الرسول من غصب الحقوق الدينيّة و الدنياويّة و استخرجوا بأيدي الأدلّة العقليّة الأعلاق النفيسة الغالية و الجواهر الثمينة من أصداف الشرع.

و عمدت أوّلا إلى وضع هذا الكتاب بألفاظ مشكلة و عويصة لا يفهمها إلّا العالمون، و لمّا نظرت في هذا الهدف وجدت الإفادة منه نزرة قليلة و الاستفادة ضئيلة.

ثانيا: رايت من الأصلح أن أجتنب هذه الخطّة فأجري تعديلا جذريّا للكتاب فأستبدل الواضحات بالعويصات و المبيّنات بالمعضلات لتعمّ الفائدة دنيا العجم كلّها و يشيع الكتاب و يشتهر في أكناف العالم و أطرافه.

و أنفقت اثني عشر عاما من عمري على جمعه بتأويل الدلائل و استخراج البراهين على شبهات الخصوم، و لم تقتصر هذه المدّة عليه وحده بل حالفني الحظّ في أثناء تأليفه في هذا الزمن الطويل نسبيّا أن أكتب كتبا غيره سرت في تأليفها إلى جانب تأليفه، منها نقض معالم فخر الدين الرازي و قد أكملت منه إلى هذا اليوم مجلّدا واحدا بالعربيّة مع السعي المضني و الجهد التام، و قد نقضته كلمة فكلمة،

ص: 375


1- الكهف: 13.
2- البقرة: 6.
3- الزمر: 22.

رحمكم اللّه و إيّانا و جميع المؤمنين و المؤمنات.

قد تمّت هذه النسخة المسماّة ب «كامل البهائي في السقيفة» في سنة خمسة و سبعين و ستّ مائة (675) و الحمد للّه ربّ العالمين.

و فرغ من ترجمته إلى العربيّة محمّد شعاع فاخر في ليل التاسع من شهر شعبان من عام 1426 هجريّة بعد صلاة المغرب و العشاء، و الحمد للّه أوّلا و آخرا و الصلاة على حبيبه المصطفى و آله و لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين على أعدائهم من الأوّلين و الآخرين الذين جهلوا حقّهم و لم يستضيئوا بنورهم فضلّوا و أضلّوا.

المترجم: محمّد شعاع فاخر

ص: 376

فهرس المحتويات

الباب الثاني عشر: في فدك 3

الفصل الأوّل في ردّ عمر بن عبد العزيز فدكا إلى محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام 8

الفصل الثاني في أمور وضعها الخلفاء خلافا لأمير المؤمنين و بني هاشم 23

الفصل الثالث: في أنّ عليّا لم يقدر على تبديل ما غيّروا عن أصله لخوفه من أصحابه و ترك

محاربتهم 24

الفصل الرابع 36

الفصل الخامس 37

الفصل السادس: في مثالب بني تيم 39

الفصل السابع 43

الفصل الثامن 44

الفصل التاسع 53

الباب الثالث عشر: في حالات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما يتبعه 56

الباب الرابع عشر: في الغار و صاحبه 60

الباب الخامس عشر: في اختيار الإمام 73

الباب السادس عشر: في صفات الإمام 82

الباب السابع عشر: في إمامة أبي بكر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله 96

الباب الثامن عشر: فوائد تليق بهذا الكتاب 102

ص: 377

الباب التاسع عشر: في غلوّهم في حبّ الصحابة 114

الباب العشرون: في أسمائهم و صفاتهم 121

الباب الواحد و العشرون: في بعض فوائد كتاب الفتوح لأبي محمّد أعثم الكوفي 129

الفصل الأوّل 140

الفصل الثاني 143

الفصل الثالث 144

الباب الثاني و العشرون: في موت الخلفاء و كيفيّة قتلهم عليهم ما يستحقّون 146

الفصل الأوّل: في قتل عمر بن الخطّاب 148

الفصل الثاني 155

الفصل الثالث: في خلافة عثمان 158

الباب الثالث و العشرون: في ذكر طرد عثمان (لعنه اللّه) أبا ذر الغفاريّ رحمة اللّه عليه 159

فصل: في قتل عثمان بن عفّان 161

الفصل الثاني: في ذكر بعض أحوال أمير المؤمنين عليه السّلام 164

الفصل الثالث: في قتل (شهادة) عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام 166

الباب الرابع و العشرون: في تعيين تاريخ أعمار الخلفاء الأربعة 173

الفصل الأوّل 173

الفصل الثاني 175

الفصل الثالث 176

الفصل الرابع 176

الفصل الخامس 176

الفصل السادس 178

الفصل السابع 180

الفصل الثامن: في أنّهما دفنا في موضع غصب 182

ص: 378

الفصل التاسع: في إسلام عليّ عليه السّلام 185

الفصل العاشر 189

الفصل الحادي عشر: في بيان جانب من الوقائع و المظالم التي أنزلوها في آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله 196

الباب الخامس و العشرون: في ذكر عائشة و طلحة و الزبير على طريق الإيجاز 201

الفصل الأوّل: في بداية وقوع المحاربة بين أمير المؤمنين و بين الناكثين طلحة و الزبير و عائشة 215

الفصل الثاني 221

الفصل الثالث: في بعض قصّة معاوية و يزيد 229

الفصل الرابع: في أنّ بني أميّة لم يكونوا من قريش 236

الفصل الخامس 238

الفصل السادس: في فوائد و نكات وردت في كتاب مثالب بني أميّة من كلام الشيخ الزاهد الحافظ أبو سعيد إسماعيل بن عليّ السمّان و هو من علماء أهل السنّة، فنكتب ما هو من خلاصة كتابه و نوادره 240

الباب السادس و العشرون: في عداد الأشرار من بني أميّة 258

الفصل الأوّل 260

الباب السابع و العشرون: في أحوال معاوية بن مسافر الذي اشتهر بين الناس بمعاوية بن أبي سفيان بن حرب 263

الفصل الأوّل: في ولادته 263

الفصل الثاني: في ذكر الفرق الذين يختلفون فيه 265

الفصل الثالث: في الآيات التي تدلّ على أنّ معاوية واجب اللعن 266

الفصل الرابع: في الأخبار التي تدلّ على أنّ معاوية ملعون 271

الفصل الخامس: في ذكر الأصحاب الذين لم يشهدوا حرب صفّين 277

ص: 379

الفصل السادس: في إقرار أهل البغي ببغيهم 291

الفصل السابع: في البدع التي أحدثها معاوية 295

الفصل الثامن 310

الفصل التاسع: في أنّ معاوية أوّل من زوّر الكتب في الإسلام 312

الفصل العاشر: في إظهار إسلام معاوية 319

الفصل الحادي عشر 324

الفصل الثاني عشر: في خطبة ضرطة معاوية 325

الفصل الثالث عشر: جلي في اشتقاق اسمه 326

الفصل الرابع عشر: الجلي في وفات معاوية 327

الفصل الخامس عشر: في سمّ معاوية الحسن عليه السّلام 328

الفصل السادس عشر: قتل معاوية عائشة 335

الفصل السابع عشر: في يزيد اللعين و قتله للحسين عليه السّلام و أصحابه 336

الفصل الثامن عشر: الجلي في أهل الكوفة و دعوتهم للحسين عليه السّلام 338

الباب الثامن و العشرون: في خروج الحسين عليه السّلام من مكّة 343

الفصل الأوّل: في نزول الحسين عليه السّلام بكربلاء 345

الفصل الثاني: في صفة الحرب 349

الفصل الثالث: في توبة الحرّ بن يزيد الرياحي رحمة اللّه عليه 352

الفصل الرابع: الجلي في مبدأ القتال إلى آخره 352

الفصل الخامس: الجلي في أحوال رؤوسهم 356

الفصل السادس 372

الفصل السابع: في خاتمة الكتاب الجلي 372

ص: 380

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.