سرشناسه:طبرسی، حسن بن علی، قرن 7ق.
عنوان قراردادی:کامل البهائی. عربی
عنوان و نام پديدآور:کامل البهائي/ [تالیف] الحسن بن علی بن علی بن الحسن الطبری (عمادالدین الطبری)؛ [تعریب و تحقیق محمدشعاع فاخر].
مشخصات نشر:قم: المکتبه الحیدریه، 1426ق.= 1384.
مشخصات ظاهری:2ج.
شابک:80000 ریال: دوره 964-503-073-0 : ؛ ج. 1 964-503-071-4 : ؛ ج. 2 964-503-072-2 :
وضعیت فهرست نویسی:برون سپاری
يادداشت:عربی
يادداشت:ج. 2 (چاپ اول: 1426ق. = 1384).
یادداشت:کتابنامه.
موضوع:چهارده معصوم -- سرگذشتنامه
شناسه افزوده:فاخر، سیدمحمدشعاع، 1360 - ق.، مترجم
رده بندی کنگره:BP14/ط24ک2043 1384
رده بندی دیویی:297/95
شماره کتابشناسی ملی:2583425
ص: 1
ص: 2
قال مولانا زين العابدين عليه السّلام: كانت أمّ أيمن تذمّ أبا بكر لما ردّ شهادتها، و قالت:
و اللّه ما أنطق لساني بذمّك حتّى سمعت أذني ذمّ رسول اللّه لك.
قال أبيّ بن كعب: فاطمة عندي صدّيقة (صادقة- المترجم) في فدك، و الشيعة على هذا المذهب بأنّ فدكا حقّ فاطمة، و أبو بكر اغتصبها منها بالقهر و الظلم، و زعم أنّها من أموال الصدقة و كانت طعمة لفاطمة و هي في يدها على هذا النحو.
و العجب ممّن يدّعي الإسلام ثمّ يثب على طعمة أطعمها رسول اللّه ابنته فيسلبها منها بعد وفاته. زه زه لهذا الخليفة و مع ذلك يدّعي بأنّ النبيّ قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، فلم يصدّقه واحد من الرواة في هذا الحديث، و النبيّ لم يقل هكذا؛ لا لعترته و لا لأمّته.
و إنّه لمحض جهل من قائله أنّ تصرّف الزهراء بفدك يحلّ يوما و يحرم يوما، و أنّ النبيّ لا يميّز بين الحرام و الحلال، و يطعم آله الحرام لا سيّما الأولاد و الأعزّة و الأوصياء، حاشا عن رسول اللّه من ذلك و حاشا مائة ألف مرّة.
و طلب البيّنة من الزهراء عليها السّلام و هو حقّها خلافا لما أجمع عليه المسلمون من عدم
ص: 3
طلب البيّنة من صاحب اليد لأنّها أمارة الملكيّة، و كانت البيّنة على أبي بكر لأنّه المدّعي و مع هذا فقد جاءت فاطمة عليها السّلام بأمّ أيمن التي بشّرها رسول اللّه بالجنّة، فردّ أبو بكر شهادتها قائلا: إنّها امرأة من العجم لا تفصح، كما ردّ شهادة عليّ و الحسن و الحسين عليهم السّلام قائلا: إنّهم يجرّون النار إلى أقراصهم، على أنّهم عليهم السّلام لم تمتدّ أيديهم إلى هذا النفع مدّة ملكهم ليثبتوا للناس كذب ادّعاء الخليفة، و أنّ الغرض من شهادتهم يوم ذاك لم يكن مجرّد النفع، بل الغرض الأساسي هو امتثال أمر اللّه سبحانه وحده: وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ (1)، و على ممّن قال في حقّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور معه حيث ما دار، و هو رجل من أهل الجنّة، و رجل هذه صفته كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيف يقيم الشهادة كذبا و زورا؟!
فتأذّت فاطمة عليها السّلام و أقسمت أن لا تكلّمه إلى أن تموت، و أوصت أن لا يحضروا جنازتها، و أن تدفن سرّا، و فعل أمير المؤمنين بما أوصته و لكنّ عمر بحث عن قبرها ليخرجها و يصلّي عليها و لكنّ اللّه أخفى القبر عنه.
و أجمعت كلمة القوم على أنّ النبيّ قال لفاطمة عليها السّلام: فاطمة بضعة منّي؛ من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه، و قال اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً* وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (2).
عن صادق آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله: إنّ فاطمة كانت تطرق بيوت المهاجرين و الأنصار ليلا و هي مريضة فلم يسعفها أحد منهم، فتألّمت من خذلانهم إلى أن قبضت سلام اللّه عليها. و حرم الناس من زيارة قبرها لظلمهم لها و رضاهم بظلمها.
ص: 4
سؤال: لقائل أن يقول: لعلّها أوصت أن تدفن ليلا مبالغة في الحجاب عن أعين الناس منها لا لسبب غضبها على القوم.
الجواب: لو كان الأمر كما تقدّم لبقي قبرها ظاهرا معلوما و ليس خفيّا مستورا، و القوم لم يحضروا الصلاة على جنازة أبيها فما بالك بجنازتها.
كان أبو بكر ذات يوم يحاور أمير المؤمنين بشأن فدك و الإمام يردّ عليه، فقال له فيما قال: إنّ البيّنة عليك لا على فاطمة لأنّك أنت المدّعي دونها، و في أثناء كلامه قال له: يا أبا بكر، لو شهد شاهد عدل على فاطمة بال ..... (1) أكنت تقيم عليها الحدّ؟ فقال أبو بكر: نعم أفعل!! فقال أمير المؤمنين: إذن و اللّه تخرج من دين اللّه و دين رسوله. و قال أمير المؤمنين: لأنّك كذّبت اللّه و رسوله و صدّقت الناس؛ لأنّ اللّه قال في حقّها و أهل بيت النبيّ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2) فقد شهد اللّه بعصمتها و فاطمة في هذه الآية معصومة بناءا على قول اللّه تعالى، فكيف يصحّ ارتكابها ... و أنت تسقط شهادة اللّه و تقبل شهادة عبده المضادّة لشهادته، و حينئذ كيف تدّعي المعصومة الباطل، و تطلب الصدقة المحرّمة عليها؟!
و ما قاله لعليّ عليه السّلام يصدق عليه، لأنّه قال: ما شهد عليّ إلّا ليجرّ النار إلى قرصه أي توخّيا لطلب المنفعة، و الحديث الذي افتراه أبو بكر لم يكن إلّا لطلب المنفعة،
ص: 5
لأنّه مالك للصدقة و لبيت المال، و الدليل على ذلك أنّه لمّا هلك كان في ذمّته لبيت المال عشرون ألف دينار، و من شهد له أو أعانه من المهاجرين و الأنصار و أيتامها أو من صدّقه منهم فإنّما الغرض من ذلك جلب النفع و تحصيل الفوائد، إذن يردّ حديثه عليه.
و أمّا الحديث «نحن أهل بيت لا يحلّ لنا الصدقة» فإنّه عامّ مشهور بين الناس كافّة، و خمس أهل البيت و الإنفال لم تقتصر معرفته على الحديث فحسب بل القرآن نصّ على ذلك و لا يدلّ الحديث وحده على حرمة الصدقة على أهل البيت.
وجه آخر: إنّ واضع خبر «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ..» إلى آخره، جاهل لا يعلم شيئا من العلم، و القرآن يكذب الخبر بقوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (1) و قال اللّه تعالى عن زكريّا: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (2) و بما أنّ الرجل يفتري بالكذب فعليه أن يقرأ القرآن أوّلا لئلّا يأتي بمناقض له، و كان عليه أن يروي حديثه الموضوع بالصيغة التالية: أنا من بين الأنبياء لا أورث، و ما أخلف يكون صدقة على المسلمين. و لا يكذب على رسول اللّه لأجل فدك و غصبها من الزهراء عليها السّلام، و لا يناقض كتاب اللّه، و كان المسكين الراوي المفتري جاهلا بالقرآن و بعلم الإعراب و بالقيامة و بالجنّة و النار.
سؤال: و ماذا عمّا يقال من أنّ سليمان ورث من داود النبوّة؟
ص: 6
الجواب: كان سليمان نبيّا و أبوه على قيد الحياة مضافا إلى أنّ النبوّه لا تورث بل لا تكون إلّا بالوحي من اللّه و بالعصمة و لو كانت النبوّة تورث لكان أولاد الأنبياء جميعهم أنبياء بالمشاركة كأولاد آدم و نوح و إبراهيم و يعقوب و موسى، و من أولاد الأنبياء اليهود و هم باقون إلى اليوم فينبغي أن يكونوا أنبياء بوراثتهم النبوّة من أبيهم، و لمّا توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ورث نسائه بيوته و سكنّ فيها و أخذ أمير المؤمنين ثياب النبيّ و دراعته و عمّامته و أمثالها و ورثها أولاده من بعده فلم ينازعهم على ذلك أحد و لم يقل أحد بأنّها صدقة؛ لا البيوت و لا غيرها.
و وقعت بردة الرسول إلى بني العبّاس إلى زمن المقتدر كما جائت الرواية بذلك، فلو كانت هذه البردة صدقة على المسلمين و الصدقة حرام على العبّاسيّين فلو لم تكن ميراثا و كان ميراثه صدقة فكيف ساغ لأئمّة أهل السنّة و الجماعة أن يحتفظوا بالحرام لأنفسهم هذه السنين الطويلة و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من بدّل دين اللّه فاقتلوه»، فيكون على هذا أنّ الخلفاء جميعا كفّار و دمهم مباح و قتلهم جائز، و كيف يقول مسلم بهذا؟! فظهر ممّا تقدّم أنّ رسول اللّه يورث كسائر الأمّة.
سؤال: لو قال قائل بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطى تلك الأشياء لعليّ في حياته.
جواب: و نحن نقول أيضا أنّه أعطى فدكا لفاطمة في حياته، و لو كان أعطاها لها بعد وفاته فإنّها تحسب بحساب الصدقة بناءا على ما ادّعاه أبو بكر، على أنّ العبّاس و الزهراء عليها السّلام احتكما إلى القضاء فحكم لهما بمخلفات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكيف ينبعض الحكم فيكون هنا إرثا و في مسألة فدك صدقة. و هذا عين التناقض.
و يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (و حاشاه) خان عترته لأنّه بلّغ أمّته و ما بلّغهم أو أنّه قال لهم
ص: 7
و لكنّهم أبوه و هذا شاهد على كفرهم- و حاشاهم- و قد أجمعت الأمّة على أنّها من أهل الجنّة بنصّ من اللّه و رسوله، و لو لم يبلّغ النبيّ لا العترة و لا الأمّة لكان قد أوقع الفتنة بين الناس و حاشاه من ذلك مع أنّه لم يؤثر عن أحد من الصحابة أو الخلفاء الإنكار على العبّاس أو عليّ في طلبهما إرث رسول اللّه؛ لأنّ النبيّ بزعم الأوّل لا يورث.
اعلم أنّ أبا بكر بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذ فدكا من فاطمة عليها السّلام بمساعدة عمر بن الخطّاب، و لقد روى علماء النواصب عن عتبة و أبي سعيد الخدري أنّهما قالا: سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لمّا نزلت آية وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1): يا فاطمة، لك فدك.
و ردّا دعوى فاطمة و لم يقبلا كلامها مع أنّ القرآن شاهد بعصمتها و طهارتها، و شهد لها عليّ و الحسنان و أمّ أيمن، و لم يقبلوا شهادتهم، و ظلّت هذه المسألة سنّة بين أتباعهما و دخلت ظلامتها معهما قبريهما.
و قالا لفاطمة عليها السّلام: «أمّ أيمن مولاتك و مولاة أمّك».
قال الواقدي- و هو من كبار علماء النواصب- عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:
سمعت عمر يقول: لمّا توفّي رسول اللّه خرجت أنا و أبو بكر و عليّ بن أبي طالب و هو في بيت فاطمة و عنده المهاجرون، قال عمر: فقلت: يا علي، ماذا تقول؟ قال:
أقول خيرا، نحن أولى برسول اللّه و ما ترك. قلت: و الذي بخيبر؟ قال: نعم، قلت:
و الذي بفدك؟ قال: نعم، قلت: كلّا و الذي نفسي بيده حتّى تحزّوا رقابنا بالمناشير.
ص: 8
يريد بخيبر أرضا تدعى العوالي و هي حقّ لفاطمة عليها السّلام، و هذا الحديث يدلّ على أنّ نيّتهم مبيّتة لقصد آل رسول اللّه بالشرّ و القتل و غصب الحقوق.
و عرف عمر بن عبد العزيز حقّ أهل بيت النبيّ أكثر من أبي بكر و عمر لأنّهما ظلماهم و هو أجرى العدل فيهم و ردّ فدكا على الإمام الباقر عليه السّلام، و هما آذيا النبيّ و هو دفع عنهم الأذى، فقال له الناس: طعنت على الشيخين، قال: هما طعنا على أنفسهما.
روى أبو صالح (الناني عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن شريك) عن هشام ابن معاذ، قال: كنت جليسا لعمر بن عبد العزيز حيث دخل المدينة فأمر مناديه فنادى: من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأت الباب، فأتاه محمّد بن عليّ الباقر عليهما السّلام فدخل إليه مولاه مزاحم، فقال: إنّ محمّد بن عليّ بالباب، فقال له: أدخله يا مزاحم، قال: فدخل و عمر يمسح عينيه من الدموع، فقال له محمّد بن عليّ: ما أبكاك يا عمر؟ فقال هشام: أبكاه كذا و كذا يابن رسول اللّه.
فقال محمّد بن عليّ: يا عمر، إنّما الدنيا سوق من الأسواق، منها خرج قوم بما ينفعهم و منها خرجوا بما يضرّهم، و كم من قوم قد ضرّهم بمثل الذي أصبحنا فيه حتّى أتاهم الموت فاستوعبوا فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا لما أحبّوا من الآخرة عدّة و لا ممّا كرهوا جنّة، قسم ما جمعوا من لا يحمدهم، و صاروا إلى من لا يعذرهم، فنحن و اللّه عزّ و جلّ محققون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنّا نغبطهم بها فنوافقهم فيها و ننظر إلى تلك الأعمال التي كنّا نتخوّف عليهم منها فنكفّ عنها؛ فاتّق اللّه و اجعل في قلبك اثنين: تنظر الذي تحبّ أن يكون معك إذا قدمت على ربّك فابتغ فيه البدل، و لا تذهبنّ إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك، فاتّق اللّه عزّ و جلّ (يا عمر) و افتح الأبواب و سهّل الحجاب و انظر
ص: 9
المظلوم و ردّ الظالم (1).
فدعا عمر بدواة و قرطاس و كتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما ردّ عمر بن عبد العزيز ظلامة محمّد بن عليّ- الباقر- فدك (2). و اعترف أنّ الثلاثة أبا بكر و عمر و عثمان (لعنهم اللّه) ظلموا فاطمة عليها السّلام.
و العجب كلّ العجب منهما حين فرضا لابنتيهما اثني عشر ألف درهم يستوفيانها من بيت المال عاما بعام، و منعوا ابنة رسول اللّه ميراثها، و لمّا آل الحكم إلى عثمان (لعنه اللّه) حسبا أنّ العادة جارية كما كانت عليه الحال زمن أبينهما و لكنّه أبى إباءا شديدا، فألحّا عليه و بالغا بالإلحاح فلم يتأثّر عثمان بذلك، و قال: لا و اللّه و لا كرامة، ما ذاك لكما عندي، و قال: ألستما اللتين شهدتما بالكذب عند أبيكما و لفّقتما معكما أعرابيّا يتطهّر ببوله- و هو مالك بن أوس بن الحرثان- فشهدتم أنّ النبيّ قال: لا نورث ما تركناه صدقة. و عجيب أمرهما حين زعما يوما أنّ النبيّ لا يورث و جاءا يوما آخر يطلبان بميراثه.
و قال أكثر المؤرّخين: إنّ أكثر أهل الكوفة عارضوا عمر بن عبد العزيز بردّه فدكا و قالوا: سفّهت رأي الشيخين و فضحتهما و هذا الأمر ليس إليك لأنّ الأمّة بأجمعها تلقّت عملهما بالقبول، فقال: إنّي أمسك الأصل و أعطي الثمرة محمّدا الباقر، فرضي الكوفيّون بهذا القدر (3).
قال جميل بن درّاج: جاء عليّ و العبّاس إلى أبي بكر يطلبان ميراثهما من
ص: 10
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قاضى العبّاس عليّا- كما جاء في الرواية- و سألت عن هذه المسألة الإمام الصادق و قلت له: رضاهما بقضائه مرشد إلى اعتباره حكما عدلا؟
فقال عليه السّلام: يا جميل، هذه حجّة عليه، و لو علم عليّ أنّ للعبّاس حقّا عنده لردّه إليه، و كذلك يفعل العبّاس و لكن عليّا قال يوما للعبّاس: يا عمّ، إنّ هذا الرجل غصب ميراثنا و مقامنا و ينبغي علينا دفعه عمّا اغتصبه، و قال عليّ عليه السّلام: و ليس لذلك من وسيلة إلّا أن تذهب بنفسك إليه و تخاصمني في ميراث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
فلمّا حضرا عند أبي بكر، قال للعبّاس: ألا تعلم أنّ رسول اللّه في أوّل البعثة صنع طعاما لبني عمومته من أولاد عبد المطّلب و كان عددهم أربعين شخصا فحضروا جميعا، و قال لهم بعد الطعام: من منكم يؤازرني على هذا فيكون وزيري و وارثي و وصيّي و أخي- إلى ثلاث مرّات- فلم يجبه أحد ما عدا عليّا و كان أصغرهم سنّا؟
فقال العبّاس: أ أنت تذكر ذلك أم نسيته؟ فقال: نعم أذكره و لا أنساه.
فقال العبّاس: فلقد ظلمته حين غصبته وزارته و وصايته و وراثته و أخوّته.
فاستيقظ أبو بكر كما يستيقظ النائم و هو يقول: نحّوهم عنّي لأنّهما خادعاني و مكرابي غدرا و أنا غافل عنهما!
قال الصادق عليه السّلام: إنّما كان غرض عليّ و العبّاس الإشعار بأنّ أهل بيت النبيّ لا سيّما عليّ عليه السّلام أولى بمقامه.
و لمّا ألزمه العبّاس الحجّة و عجز عنها و لم يحر جوابا بعد أن ألقمه حجرا توسّل بقدرته فقال: «نحّوهما عنّي» و كانا أراد فضحه أمام الناس و كانت خصومتهما في بغلة رسول اللّه و سلاحه و حجرات نسائه و قطائعه التي أقطعها لبني هاشم. و كان العبّاس يعرف قدر عليّ لكنّه أراد أن يعلم أبا بكر بظلمه كما فعل جبرئيل و ميكائيل
ص: 11
بداود إذ تسوّروا عليه المحراب، و لم يكن مجيئهما على الحقيقة بل لإشعار داود و إعلامه على انّ ما فعلته يجدر بك غيره، و هكذا الحال هنا.
حكاية: قال عبد اللّه بن عبّاس: كنّا يوما عند أبي بكر و كان عمر حاضرا هناك، و تقدّما إلى الحجاب أن لا يأذن لأحد، فبينما نحن كذلك إذ طلع علينا شيخ طويل القامة حلو المحضر، عليه رداء أحمر، و بيده عصى و في رجليه نعلان، فسلّم علينا و أمره أبو بكر بالجلوس، فأبى و قال: أنا رجل حاجّ و إلى جواري امرأة توفّي أبوها و خلّف لها ضيعة و كانت تعيش من ثمراتها و تتقوّت منها، فعمد والي البلد إلى مصادرتها و أخذ منافعها له، و أوصتني المرأة قالت: إذا جئت المدينة فاحك حالي للخليفة.
فقال أبو بكر: لا كرامة للغادر الفاجر.
و قال عمر: يا خليفة رسول اللّه، أرسل إلى هذا الغاشم الظالم من يسوقه إليك مكتوفا.
فعاد الشيخ عليهما و قال: فمن أظلم ممّن يظلم بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟!
فقال أبو بكر: ردّوه ردّوه، فتقهقر الرجل و لم يقعوا له على عين و لا أثر، فسألوا الحاجب و البوّاب عنه، فقال: ما وقعت عيني على الرجل، و قال غيره: ما دخل عليكم أحد أبدا و لم يخرج أحد، فخاف أبو بكر و قال لعمر: أرأيت و سمعت، فقال عمر: الذي أصابنا في وادي الجنّ أعظم من هذا، و إنّ الشيطان ليتحامل على المؤمن و الحاكم ليفتنه و يضلّه، فصاح بهم هاتف (1):
ص: 12
ص: 13
يا من تحلّى باسم لا يليق به اعدل على آل ياسين الميامينا
أتجعل الخضر إبليسا لقد ذهبت بك المذاهب من بين المضلّينا
نحن الشهود و قد دلّت على فدك بنت الرسول أمينا غير مغبونا (1)
اللّه يعلم أنّ الحقّ حقّهم لا حقّ تيم و لا حقّ العديّينا
و قد شهدت أخا تيم وصيّته للأصلع الهادي القوّام بالدينا
لا تغمطنّ أخا تيم أبا حسن ما خصّه اللّه من بين الوصيّينا
خصّ النبيّ عليّا يوم فارقه بالحلم و العلم و القرآن و الدينا فخاف أبو بكر و عمر، و غشي عليهما، و قد وصل رسول أمير المؤمنين إلى ابن عبّاس و قال: «أجب ابن عمّك» فأقسم عليه أبو بكر أن لا يفشينّ السرّ إلى أحد.
قال عبد اللّه بن عبّاس: فلمّا رآني أمير المؤمنين عليه السّلام تبسّم حتّى بدت نواجذه، و قال: يا بن العمّ، بالرحم و القرابة، هل حفظت الشعر أو لا؟ قلت: نعم حفظتها إلّا بيتين منها، فأعاد عليّ عليه السّلام الحكاية، و قال: كان ذلك أخي الخضر فقد حضر مجلسكم هذه الساعة، و أخبرني بما دار بين القوم و بيننا، و قال: ما ابتلي أحد بأحد كما ابتلي أبو بكر بعمر، و ما عادى أحد قوما أشدّ من معادات عمر لأهل بيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله (2).
ص: 14
قال اللّه تعالى: وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (1).
قيل: إنّ عمر استعمل رجلا و أوصاه قائلا: إيّاك و ظلم عباد اللّه، فقال له الرجل:
يا عمر، فكيف ظلمت بنت رسول اللّه و غصبت منها فدكا و رددتم قول رسول اللّه فيها و أنكرتم وصيّته و سيكون اللّه خصمك و رسوله يوم القيامة، فويل لك.
و جاءت الرواية عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ أبا بكر و عمر كانا في ملأ عظيم من المهاجرين و الأنصار إذ انبرى لهما شابّ جميل طويل القامة، حسن الثياب، و قال:
من منكم الخليفة؟ فأشاروا إلى أبي بكر، فقال له: أنت هو الخليفة؟ فقال: نعم أنا هو الخليفة، فقال: إنّ امرأة ضعيفة لها حوائط تقيت منها عيالها، فأخذها الحاكم منها تعدّيا و ظلما و انتزعها من يده من دون بيّنة، فقال عمر: يا خليفة رسول اللّه، أرسل إليه ليقبضوا عليه و يأتوا به إلى هنا لتقصر يده عن أموال الناس و يردّ حائط المرأة الضعيفة عليها.
فقال الرجل: فلم أخذت فدكا من فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كانت في يدها و قد نحلها النبيّ إيّاها، و مات و هي في يدها، ثمّ خرج من بينهم حالا فأرسل ابن عبّاس في طلبه فلم يقع منه على عين و لا أثر، فخاف أبو بكر خوفا شديدا، فقال له عمر:
لا تجزع فإنّ هذا شيطان ظهر لك، فأجابهم هاتف من جانب البيت:
عدلت أخا تيم على كلّ ملحدو جزت على آل النبيّ محمّد
ص: 15
و أغنيت تيما مع عدي و زهرةو أفقرت غرّا من سلالة أحمد
أفي فدك شكّ بأنّ محمّداحباطها لفطم دون تيم بمشهد
لأسرع ما بدّلتم و نقضتم عهودكم يا قوم بعد التوكّد عقد المأمون مجلسا في يوم عرفة للانتصاف من القريب و البعيد، و القوّاد و الخاصّة و العامّة، فقام رجل مدنيّ من أفصح الناس و قال: إن كنت منصفا فأنصف فاطمة.
فقال المأمون: أتكون وكيلا عنها؟
فقال الرجل: نعم.
ثمّ أقام وكيلا عن أبي بكر و عمر، فقال المدني: اعلم بأنّ النبيّ أخذ فدكا صلحا من غير أن يوجف عليها بخيل و لا رجال بل بمدد من الملائكة وحدهم، و كانت من جملة الفي ء الموكول إلى النبيّ أمره، فأعطاها لفاطمة عليها السّلام فكانت في يدها مدّة حياة أبيها ثلاث سنوات تتصرّف فيها تصرّف المالك بملكه، و بعد موت أبيها كان وكيلها يقوم مقامها في التصرّف فغصبها منها أبو بكر ظلما و عدوانا و مع كونها صاحبة اليد فقد طالبها بالبيّنة و شهدت لها أمّ أيمن بحقّها و هي امرأة مشهود لها بالجنّة فردّ أبو بكر شهادتها، و إذا جاءه أعرابيّ بوّال على عقبيه و ادّعى على رسول اللّه دعوى يعطيه بلا بيّنة، و شهد لفاطمة نظير هؤلاء الصلحاء فلم يقبلهم.
و شهد يحيى بن أكثم و غيره من الفقهاء على أنّ الزهراء عليها السّلام ماتت بغصّتها مظلومة.
و قال المؤمن المدني: و الأعجب من ذلك أنّ رسول اللّه لا يورث.
فقال المأمون: هل يعرف ذلك المسلمون؟
ص: 16
فقال المؤمن: لمّا نزلت إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (1) صعد النبيّ على المنبر و قال:
ستكثر عليّ الكذابة من بعدي، بالعبارة التالية: معاشر الناس، إنّي نعيت إليّ نفسي و إلى اللّه و أنزل عليّ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ألا و قد دنا حقوقي من بين أظهركم فإذا جاءكم الحديث عنّي فاضربوه على كتاب اللّه و سنّتي؛ فما خالف كتاب اللّه فارفضوه، و ما وافق كتاب اللّه و سنّتي فخذوه، و هذا الحديث مخالف للكتاب و السنّة بقوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (2) و بقوله تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (3)، و بقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (4) فهل تخرجون فاطمة من أهل بيت النبيّ نعوذ باللّه منه لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «لا توارث بين الملّتين».
فشهد يحيى و الفقهاء بأنّ فاطمة خرجت من الدنيا متظلّمة لم تنصف.
و قال أبو بكر ثلاث فعلتها وددت أنّي لم أفعلها، يا ليتني لم آخذ فدكا من فاطمة، و لم أحرق بابها، و لم أتخلّف عن جيش أسامة، و هذه الثلاث ظلم عظيم لأنّ إيذاء فاطمة عليها السّلام إيذاء اللّه و رسوله و إيذاء عليّ و هو من أهل الجنّة، و بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ (5) الآية، و إيذا المسلمين ذنب عظيم.
و التخلّف عن جيش أسامة معصية للّه و لرسوله، يقول اللّه تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (6) و قال اللّه تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً (7).
ص: 17
و قال أيضا: ثلاث لم أفعلها وددت أنّي فعلتها: الأولى: ليتني قتلت خالدا بن الوليد في قصاص مالك بن نويرة، و ليتني قتلت الأشعث بن قيس و طليحة الأسدي لأنّ هؤلاء الثلاثة للقتل مستحقّون، و قال أيضا: ليتني سألت رسول اللّه عن الذي يقوم مقامه من بعده.
و تغافل و تجاهل يوم الغدير و عن يوم حائط بني النجار كما روى ذلك عمران بن الحصين الخزاعي و بريدة الأسلمي و غيرهم، و قد تقدّم ذلك حتّى قال بريدة لأبي بكر: لماذا لم تعقد بيعتك على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عقد لك البيعة أبو عبيدة و عمرو سالم مولى أبي حذيفة في زاوية سرّا على جميع المسلمين، مع أنّك لم تحز من علم الشريعة و السنن شيئا، بل أنت يلازم باب على رسولك كلّما نابتك نائبة أو نزلت بك نازلة ليحلّها لك ابن أبي طالب عليه السّلام.
و قال: ليتيني سألت رسول اللّه حقّا ما هو نصيبه؟! و ليتني سألته عن ذبائح أهل الكتاب أحلال هي أم حرام؟ و قال عمر: لو لا عليّ لهلك عمر، و كذلك قال: لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس أبو الحسن فيها (1).
فصدّق الحاضرون المؤمن، و قال المأمون: يجب الإغضاء عن ذلك و يلزم تجاوزه.
فقال المؤمن: لا يجوز الإغضاء لأنّ اللّه لم يغض كما قال تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (2)، و قال: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (3) الآية.
ص: 18
فعمد المأمون إلى كتابة صكّ بقلمه من أوراق عدّة و أرسلها إلى المشرق و المغرب و فيها ردّ فدك إلى السادات من بني فاطمة و كتب إلى عامل المدينة أن ردّ فدكا إلى عليّ بن موسى الرضا و أطلق فيها يده لتئول من بعده إلى ابنه محمّد الجواد التقي، و أشهد الحاضرين على نفسه و على من بعده بعدم أخذها مرّة أخرى.
تنبيه: إنّ الذي افترى حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» هي عائشة و تابعتها عليه حفصة و رجل آخر يدعى أوس من قبيلة بني نضر و لم يروه أحد غيرهم .. (1).
تنبيه: لماذا لم يستردّ الإمام أمير المؤمنين فدكا في خلافته؟ يرجع ذلك إلى وجوه:
الأوّل: إنّ اللّه سبحانه أعطى الغاصب و المغصوب منه ما يستحقّانه من الثواب و العقاب (2).
الثاني: كره عليه السّلام أن تخرج فاطمة من الدنيا مغصوبا حقّها و قد تألّمت و حزنت لذلك حزنا شديدا فلم تطب نفسه أن يفرح أولاده باسترداد ما غصب من فاطمة و ذهبت إلى أبيها حزينة مكلومة غضبى من أجله؛ أسوة بفاطمة و اقتداء بجنابها، و ربّما كان من أجل إطلاق اسم الغصب عليه أبت نفسه التصرّف فيه، من ثمّ عزب عن استرداده، ثمّ إنّ أولاد عليّ من فاطمة عليهم السّلام لم يطلبوا منه ذلك فلم يسعه عليه السّلام أن
ص: 19
يذهب إلى مقاضاة الخصم دون طلب من أصحاب القضيّة، نعم أجاب الإمام زين العابدين عليه السّلام عن هذه المسألة فقال:
فمن غاصبنا حقّنافيوم القيامة ميعاده ثمّ إنّ عليّا عليه السّلام عجز عن تغيير بدع الثلاثة و محدثاتهم غير الشرعيّة، و كان يخشى عدوّه فيتّقيه فلم يقدر على محو بدعهم، و لمّا نهى عن صلاة التراويح جماعة، ارتفع ضجيج العامّة و الغوغاء، و قالوا: نهينا عن سنّة عمر.
و أيضا كان ذلك منه استدراجا للناس لئلّا يحملوه على طلب النفع في شهادته للزهراء يوم الغصب و تكذيبا لعدوّه.
تنبيه: روى أبو سعيد الخدري السبب الذي من أجله أعطى رسول اللّه فدكا لفاطمة عليها السّلام نحلة، و صدّقه المخالفون و المؤالفون، قال: لمّا نزلت هذه الآية: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1) دعا رسول اللّه فاطمة و أعطاها فدكا، فقال: هي لك ... و استلمتها و تصرّفت فيها تصرّف المالك، و كانت يدها أمارة ملكيّتها، فتكون طلب البيّنة منها غاية في الجهل أو التجاهل.
سلّمنا أنّ طلب البيّنة منها لتصحيح دعوى النحلة و لكن أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السّلام و أمّ أيمن رضي اللّه عنها أقاموا الشهادة لها، قال تعالى: وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (2)، و قال: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ (3) و ظاهر الآية يدلّ على وجوب قبول الشهادة و لا تخصّص لها بآية أخرى بالولد و الزوج، و لم يستثنهما
ص: 20
اللّه تعالى، و إنّما اشترط العدالة وحدها و من أعدل من المعصوم ليت شعري، و إذا كانت نحلة فلا تعود إلى الأولاد لا سيّما بعد الموت و آية الميراث عامّة.
و يقول المخالفون: إنّ زكريّا طلب من اللّه وارثا للنبوّة و ليس للدنيا ويّات.
الجواب: و هذا القول قدح بنبوّة زكريّا و حاشاه من ذلك، و يجرّ إلى كفره لأنّه قال: وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي (1) أجمع المفسّرون على أنّ المقصود من الموالي أولاد العمّ فلو أنّه طلب وارثا للنبوّة يكون قد خاف من أولاد عمّه أن يكونوا ورّاثا لها و النبوّة لا تكون بالمشورة و لا بالطلب بل بالاستحقاق و الأهليّة، و يكون زكريّا قد دفعها عن أولاد عمّه حسدا من عند نفسه، فيؤدّي ذلك إلى كفره، و حاشاه لعدم رضاه بقضاء اللّه و تقديره، و هو بري ء من هذا التصوّر إلى أن قال:
وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (2) و النبيّ لا بدّ و أن يكون رضيّا فلو كان مراده وراثة النبوّة تكون الجملة مكرّرة و هي لغو لا فائدة منها، و لا يجوز العدول من ظاهر اللفظ إلى التأويل.
و نهاية الأمر لو قال المخالف أنّ النحلة لم تثبت بل تثبت وراثتها لفدك و الوراثة يردّها حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» و الترجيح له من ثمّ أخذها الشيخ.
فالجواب: اتفق المسلمون على حديث أبي سعيد الخدري و تلقّاه الناس بالقبول بأنّ النبيّ أعطى الزهراء فدكا في حياته و الحديث الذي رواه أبو بكر مطعون فيه و مردود من قبل المهاجرين و الأنصار جميعا، سلّمنا به جدلا و لكنّه معارض بحديث آخر مثله و هو حديث أبي سعيد، فتبقى آية الميراث ثابتة و هي
ص: 21
قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (1) و أمثالها.
و الاتفاق حاصل على أنّ ذا الفقار كان مبتدئا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان وهبه لعليّ عليه السّلام فأخذ فدكا من فاطمة مع كونها هبة و ترك ذي الفقار عند عليّ و هو مثلها في الحكم ليس إلّا لعناد متحكّم في القوم و عداوة لرسول اللّه وردّ على قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ.
و كذلك ادّعت عائشة وراثة حجرتها و تشهد على فاطمة بأنّها لا إرث لها، إنّها من مفارقات أمّ المؤمنين، قال الصادق عليه السّلام: كان لرسول اللّه قطائع عدّة: الأوّل:
فدك، و الثاني: حسى، و الثالث: مشربة أمّ إبراهيم، و الرابع: الزلال، و الخامس:
الميثم، و السادس: الصافية، و السابع: العواف (2)، و قد أعطاها رسول اللّه إلى فاطمة عليها السّلام فانتزعها أبو بكر منها و تابعه بقيّة الشيوخ و شهد له عمر و أبو عبيدة و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة.
و جائت عائشة بعد مضي زمن طويل إلى عثمان تطلب ميراثها من رسول اللّه، فقال لها عثمان: كما أمضى أبوك شهادتك على فاطمة فإنّي أمضي شهادتك على نفسك أي لا أدفع إليك شيئا ممّا تدّعين.
ص: 22
روى المخالف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: الوقت الأوّل رضوان اللّه، و الوقت الآخر عفو اللّه، و لا يختاره المسلم إلّا لعذر من مرض و غيره، و لمّا علموا أنّ بني هاشم يصلّون الصلاة في أوّل الوقت و هو الرضوان حوّلوه إلى وقت العفو و جعلوه مختارهم.
و كذلك المسح على الخفّين وضعوه مخالفة لعليّ و بني هاشم لأنّهم علموا أنّ بني هاشم عند المسح ينزعون أخفافهم.
و مثله الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، فقد تركوه مضادّة لبني هاشم مع أنّ الجهر عندهم لا يفسد الصلاة.
و عمّموا السجود على ما يؤكل و يلبس لأنّهم علموا بأنّ عليّا يسجد على الأرض.
و كان أمير المؤمنين اقتداءا بالنبيّ يكبّر على الجنازة خمس تكبيرات لذلك نقصوها واحدة و كبّروا أربعا عنادا له.
و قال أمير المؤمنين: الجنازة متبوعة و ليست بتابعة لأنّ من كان أمامها فالجنازة تتبعه، فوضعوا بدعة المشي أمام الجنازة خلافا له. و روى أتباعهم بأنّ عليّا عليه السّلام قال: لقد علم أبو بكر أنّ المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها.
و مثله فعلوا في إباحة ذبائح أهل الذمّة و إباحة الأرانب و أمثالها خلافا لأمير المؤمنين عليه السّلام، و قيل: إنّه من قاطني الجنّة.
و شرع أمير المؤمنين بتغيير بدعهم بالهوينى و الرفق و ما عجز عن تغييره تركه
ص: 23
على حاله و كان حذرا من الفتنة و البلبلة التي يثيرها الجهّال عليه من هذا الباب و عمل بالتقيّه طيلة هذه المدّة كما قال تعالى تنبيها عليه من موسى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ (1) و قوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (2).
اعلم أنّه لا يسئل عن نفي العلّة لانتفاء المعلول و إنّما يسئل عن العلّة في إثبات المعلول، مضافا إلى أنّ الاعتراض على الإمام من سوء أدب الرعيّة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (3) فلا يجوز أن يقال عن الإمام لماذا حارب معاوية و لم يحاربهم؟ ثمّ إنّ في حربه مع معاوية كان معه من الجيش مائة ألف جندي يحاربون معه و لم يكن معه يومذاك إلّا نفر يسير و مع قلّتهم فإنّ مذاهبهم مختلفة و لكنّهم كانوا معه في حرب معاوية على رأي واحد من ثمّ لم يكن هناك مجال للتقيّة، و تأسّس بما فعله رسول اللّه مع المشركين حين حشّد المنافقين لقتالهم، و كان أكثر الصحابة على هذا الرأي و هو أنّه الخليفة الرابع و أنّ شرعيّة خلافته نظير خلافة أبي بكر و عمر، و ينظرون إليه كما ينظرون إليهما و يعتبرونه بمثابتهم، و يسير بسيرتهما، و لو علموا منه أيّ اتجاه مخالف لخرجوا عليه و حاربوه كما فعلوا معه في صلاة التراويح حين أمر بأدائها فرادى فكانوا يصيحون «نهينا عن سنّة عمر» و راحوا يشنّعون عليه
ص: 24
و يؤلّبون الرعيّة، و أوشكت الغوغاء أن تحدث شغبا لو لا أنّه قال: اذهبوا و افعلوا ما شئتم.
و ما حارب طلحة و الزبير و معاوية حتّى بدى للناس أنّهم ناكثون و قاسطون، و اعتبروا عدوّه يحبّب قتاله كعدوّ من تقدّمه، مع أنّ أصحابه لا يطيعونه إلّا في القليل حتّى أعلنها على المنبر مرارا و تكرارا و عبّر عن نقمته عليهم و شهد بذلك العدوّ و الصديق، و خطبته في هذا المعنى شاهد عدل على ذلك.
و قال ذات يوم لبني هاشم و خواصّ شيعته: لقد علمت الولاة قبلي أنّهم خالفوا رسول اللّه متعمّدين خلافه، ناقضين لعهده، متغيّرين لسنّته، و لو أحمل الناس على تركها و أحملها على مواضعها و إلى ما كانت على عهد رسول اللّه، لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي، و في قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللّه و سنّة نبيّه (1) (و سنّة رسول اللّه- الكافي) صلّى اللّه عليه و آله، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السّلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ورددت فدكا إلى ورثة فاطمة عليها السّلام ورددت صاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما كان و أمضيت قطائع أقطعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأقوام لم تمض لهم و لم تنفذ، ورددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد، ورددت قضايا من الجور قضى بها و نزعت نساءا تحت رجال بغير حقّ ورددتهنّ إلى أزواجهنّ (2) و استقبلت بهنّ الحكم في الفروج و الأرحام، و سبيت ذراري بني تغلب، ورددت ما قسّم من أرض خيبر، و محوت دواوين
ص: 25
العطايا و أعطيت كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالسويّة و لم أجعلها دولة بين الأغنياء، و ألقيت المساحة و سردت ما فتح فيه من الأبواب، و فتحت ما سدّ منه و حرّمت المسح على الخفّين، و حددت على النبيذ، و أمرت بإحلال المتعتين، و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، و ألزمت الناس الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، و أخرجت من أدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مسجده ممّن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخرجه، و أدخلت من أخرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدخله، و حملت الناس على حكم القرآن و على الطلاق على السنّة و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها، ورددت الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و مواضعها، و رددت أهل نجران إلى مواضعهم، ورددت سبايا فارس و سائر الأمم إلى كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إذا لتفرّقوا عنّي، و اللّه لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة، و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام، غيّرت سنّة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا، إلى آخر الرواية (1).
و قال له شريح القاضي و عبيدة السلماني و مسروق و أبو وائل- و كانوا من أهل عسكره- مرّات عدّة: لئن فارقت سيرة الشيخين لنفارقنّك، و خذله مسروق و سار إلى معاوية يحرّضه على حربه، و ردّ عليه عبيدة السلماني حكمه في الأمّهات و أولادهنّ و غيره من اللعناء ينطوون على الفتنة و يتحيّنون الفرص لإحداث الشغب، و لمّا اعترضه عبيدة سكت أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يقدر على إظهار مذهبه أمام عسكره كما لم يقدر على بيان بدعهم و إظهار البرائة منهم إلّا بحضرة الخواصّ من شيعته و أهل بيته.
ص: 26
و كذلك لم يطعه الناس في أشياء خالف بها عمر الإسلام و ردّها الإمام إلى واقعها، و كذّبوه إلى أن قال ذات يوم على المنبر: زعم قوم أنّي أكذب، فعلى من أكذب؟ أعلى اللّه؟ فأنا أوّل من عبده، أم على رسوله؟ فأنا أوّل من آمن به و صدّقه.
و كانت الجواسيس تراوح عسكره و تغاديه، تتجسّس عليه و تسرب أخبار عسكره إلى العدوّ، و طالما سألوه عن الشيخين لعلّهم يظفرون منه بكلمة يستيبحون بها دمه و أخيرا اتّهموه و أولاده بقتل عثمان بن عفّان، و لمّا كان عثمان قد أظهر الظلم و الجور و اتّفقت الأمّة على قتله و منهم المهاجرون و الأنصار و أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّهم بأجمعهم أفتوا بقتل عثمان بن عفّان، لذلك أمكن الإمام في هذه الحال أن يظهر جانبا من ظلمه و يمثّل للناس ما كان يرتكبه من المنكرات و الغشم و الجور، و هذا بعكس ما كان عليه الشيخان فقد سخط عليهما بعض الأمّة و لم يحصل إجماع الأمّة ضدّهما فما كان باستطاعة الإمام إلّا التفاعل مع الوضع القائم في دولته بل و عسكره خاصّة تجاه الشيخين.
و يمكن أن يقال أيضا: أنّ اللّه تعالى أمرنا بالجهاد و لم يفصل لنا العلّة، اللهمّ إلّا جانبا منها و هو صلاح الدين، و هنا يمكن أن نقنع بالإجمال من سكوت عليّ عليه السّلام بأنّه لصلاح الدين و أهل الإسلام.
ثمّ إنّ النبيّ كفّ عن القتال في أيّام الحصار بالشعب و ما تلاه من الزمن قبل الهجرة و لمّا هاجر و وجد الأنصار و الأعوان قاتل و جاهد في اللّه حقّ جهاده.
و لقد قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لو لا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم، و كانت الأكثريّة من الأمّة مقلّدة و ليس في وسعها دفع الشبهة لو حدثت، و ربّما داهمهم
ص: 27
الفكر بإعلان الردّة، فقد ظهر في بني حنيفة «ابن طيّاش» (1) و مسيلمة الكذّاب و ادّعيا النبوّة، و كان بعض الناس يشكّ في صدق دعوى أمير المؤمنين عليه السّلام لذلك كفّ عن الحرب.
و لمّا كانت أيّام معاوية اختلفت معها الحال حيث استحكم الإسلام في القلوب و ثبتت الحقيقة في الأفئدة، و الدليل على ذلك ما كتبه أمير المؤمنين إلى معاوية و فيه:
و قد كان أبوك أتاني حين شرع أبو بكر في عقد الأمر لنفسه، فقال: أنت أحقّ بهذا الأمر بعد النبيّ فهلمّ أبايعك، فكرهت ذلك مخالفة الفرقة من الإسلام و لقرب عهد الناس بالكفر.
و قال المخالفون: إنّ عليّا وتر الأحياء بقتل أمواتهم فاستحكمت الضغائن في القلوب و تلظّت الأكباد عليه و صار هذا الأمر مانعا من تقديمه.
و الجواب: إن كان هذا القتل بإذن اللّه و رسوله فلا موضع للأحقاد بل ربّما كان ببركة رسول اللّه أدعى إلى تأليف القلوب، و لقد فعل اللّه ذلك بناءا على قوله تعالى:
وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (2) و لمّا مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عادت القلوب إلى ما كانت عليه و رجعت ضغائنها و أحقادها كما كانت، و ثاروا ضدّ خليفة رسول اللّه و حاربوه، و قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الأمّة ستغدر بك، و قال أيضا: إن قاتلت فلك و إن تركت فهو خير لك (بعدي) (3).
ص: 28
و حاله كحالة هارون الذي قال: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (1) و من هنا قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللّه، قال: أما و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا؛ ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير، و أمّا لوط فقال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (2)، و قال موسى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ (3)، و قوله: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي (4)، و قوله: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (5)، و قال هارون:
أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (6)، و من هنا امتنع عن البيعة.
و قال أبو بكر لخالد: اضرب عنقه، ثمّ ندم و قال: «يا خالد لا تفعل ما أمرتك».
و قال عمر لعنه اللّه لفاطمة: يا فاطمة، ما هذا المجموع الذي يجتمع بين يديك لئن انتهيت عن هذا و إلّا لأحرقنّ البيت.
و كان إسحاق بن راهويه قد ذكر هذا الحديث و قال في ختامه: إنّما كان هذه تغليظا من عمر.
و كما لا يلام الرسول على ترك الجهاد في مكّة كذلك لا يلام عليّ على تركه لأنّ الأسباب الحاكمة على كليهما واحدة.
ص: 29
و أمّا ما كان يقبضه عليّ من العطايا منهم فإنّها بمثابة ما كان يقبضه يحيى بن زكريّا من جبّار زمانه و لعلّ ما كان يأخذه عليّ منهم إنّما كان سهمه من الخمس و لا دليل في ذلك على رضاه بإمامة الأوّل.
و أمّا عن اقتدائه بهم في الصلاة فإنّه يجعل بينه و بينهم حجابا اعتباريّا بمثابة الحائط و يصلّي لنفسه و كذلك كان أولاده يفعلون حين اقتدائهم بمن لا يقتدى به إلّا أنّ الخوف و التقيّة يقتضيان ائتمامهم بهم، و لعلّه يصلّي الفرائض في بيته و يصلّي النوافل في المسجد، و النافلة لا تصلّى جماعة لكونها بدعة و حراما، و في مذاهبنا أنّه ترك الحضور في المسجد بعد محاولة اغتياله على يد خالد بن الوليد و إن خرج معهم في سفر فإنّما كان لغرض التعليم لأنّه كان مرجعهم في الفتوى و حلّ المشاكل و المعضلات و المعاضل التي تحدث بينهم لا تخصّهم، و إنّما تتوجّه رأسا إلى حريم الإسلام فيصبح عرضة لتقوّل المنافقين و طعناتهم ثمّ استهزائهم بالرسالة و صاحبها من هنا كان الأصحاب يحملون عليّا عليه السّلام على السفر معهم من أجل حفظ بيضة الدين ....
و القوم يروون روايات ليس لها صحّة في مذهبنا و لا تعرف من طريقنا اللهمّ إلّا رواية واحدة و هي أنّ أبا بكر غاضبه أحدهم فغضب و خرج خارج المدينة فتبعه الإمام و أرضاه مع من غاضبه و عاد إلى المدينة ثانية.
و أمّا ما قالوه من ضربه الوليد بن عقبة الحدّ بحضرة عثمان فهذا لا يدلّ على أحقّيّة عثمان لأنّ إقامة الحدود بعهدة إمام الزمان بأيّ صفة كان فإنّه يجب عليه إقامتها و كان عليّ إماما في ذلك الزمان و لا يستقيم الأثر إلّا بهذا كما فعل النبيّ دانيال حين كان يقيم الحدود في مملكته و يؤدّي الأحكام الشرعيّة و أعطى الطاغية الوسيلة لفعل ذلك، و كان ابن مسعود يقيم الصلاة في بيته مع الأسود و علقمة ثمّ يخرج إلى المسجد يصلّيها مع الجماعة، و المشهور بين الأصحاب أنّ عثمان (لعنه اللّه-
ص: 30
المترجم) لا شأن له في الأمر و لا يستحقّ من الخلافة شيئا و على هذا الأساس بني إجماع الأمّة على قتله.
ثمّ إنّ الكثير من الصحابة صلّوا خلف معاوية و يزيد و ملوك بني أميّة و هذا لا يدلّ على إمامة الظالمين الحقّة.
و اتّفقوا على انّ عبد الرحمان بن عوف قال يوم الشورى: تأخذها بكتاب اللّه و سنّة رسوله و سيرة الشيخين أبي بكر و عمر (لعنهما اللّه- المترجم) فقال عليّ عليه السّلام:
بكتاب اللّه و سنّة رسوله، أمّا سنّة أبي بكر و عمر فلا.
و يقول المخالف أيضا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اقتدى بعبد الرحمان بن عوف في الصلاة فلم تثبت لعبد الرحمان الإمامة و لا النبوّة.
و قال: صلّى رسول اللّه وراء أبي بكر فعلى هذا ينغبي أن يكون أبو بكر الرسول و النبيّ تابع له.
حكاية: خرج عمر مع العبّاس إلى الشام و كانت فرسه سابقة لفرس العبّاس، تمشي أمامه، فكان أهل الشام يخضعون لعمر، حتّى أرادوا السجود له كما قال اللّه تعالى:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (1) كما يفعل اليوم أتباع المشايخ و أحبّائهم، و كانوا ينادون عمر بأمير المؤمنين، فقال العبّاس: إنّه ليس أمير المؤمنين و أنا أولى بها منه، فسمعه عمر، فحزّ كلامه في نفسه و قال: ألا أخبرك بمن هو أحقّ بها منّي و منك؟ فقال: نعم، قال عمر: رجل خلّفناه بالمدينة- يعني عليّا عليه السّلام-.
فقال العبّاس: فما منعك و صاحبك من ذلك؟ فقال عمر: نحن نقرّ بفضله و نعترف به إلّا أنّنا ما قدّمناه لأنّ قريشا تحمل له الحقد في قلوبها فخفنا أن لا يجتمع عليه
ص: 31
العرب فيخرج الأمر من أيدينا و كان تقدّمنا عليه و تأخّره عنّا لهذا السبب، ثمّ قال:
و كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها، و اللّه أعلم أصبنا أم أخطأنا (1).
الجواب: لقد كان حقد قريش على رسول اللّه أكثر و أكبر من حقدها على أمير المؤمنين، فيكون بناءا على قول عمر أن لا يمكن من تحقيق رسالته، و يقدّم عليه أبو لهب و أبو جهل و أبو سفيان، لأنّ قريشا كانت توالي هؤلاء و لا تواليه، نعوذ باللّه من هذا الكلام (2).
ثمّ إنّ هذا القتال من عليّ كان بأمر اللّه و رسوله فعداوته عداوة للّه و رسوله، و اجتمع العرب على معاوية و على ابنه يزيد (لعنهما اللّه) فينبغي على قول عمر أن يكونا إمامين في زمانهما.
تنبيه: روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ هذا الأمر لا يكون في عليّ و لا في أحد من ولده» عنى بالأمر الخلافة.
و أورد أبو جعفر ابن بابويه القمّي هذا الحديث على طريق الاعتراض، و قال:
و لعلّه لهذا السبب زعموا أنّ النبوّة و الإمامة لا يجتمعان في بيت واحد، ثمّ واصل الجواب، فقال: و لو صحّ هذا الحديث لما جعل عمر عليّا واحدا من أصحاب
ص: 32
الشورى، و كذلك لم يفوّض الإمام أمر الخلافة إلى الحسن و لم يبايع المهاجرون و الأنصار عليّا و لم يجمع أهل القبلة و معهم العالم على إمامته.
فتبيّن ممّا تقدّم أنّ إجماع المسلمين حاصل هنا و الإجماع حجّة مع أنّ مخالفينا يروون أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «المهدي من ولد فاطمة» و استخلف عليّ خمس سنوات و اتّخذه أهل القبلة إماما لهم و خليفة عليهم فإجماعهم مبطل لهذه الرواية و ثبت كذبها.
و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا تجتمع أمّتي على ضلال، مع أنّ واضع هذا الحديث هم بنو أميّة و أرادوا بالشبهة الملبسة بلباس الدليل صرف الخلافة عن أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و رووا أيضا بأنّ العبّاس قال لعليّ عليه السّلام: هلمّ أبايعك، فيقال عمّ رسول اللّه بايع ابن عمّ رسول اللّه. و ينبغي على ما ذهبوا إليه أنّ العبّاس خالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
سؤال: من الجائز أن لا يكون العبّاس لم يسمعه من النبيّ أو سمعه و نسيه.
الجواب: فلم لا يكون جائزا حينئذ أن ينسى الصحابة من ذلك الجمع و فيهم المحبّ الصادق أحاديث إمامة عليّ و كتمها الأعداء.
تنبيه: مذهب العلماء على أنّ الخلفاء لم يحضروا جهاز النبيّ و لا الصلاة عليه، بل كانا يتحيّنون الفرصة هناك و قد علموا أنّهم إذا شاركوا في تجهيز النبيّ خرجت الخلافة من أيديهم و كان أبو بكر و عمر يشكّان في موت النبيّ (1)، قال: أيّها الناس، كفّوا
ص: 33
ألسنتكم عن نبيّ اللّه فإنّ نبي اللّه لم يمت و لكن اللّه واعده كما واعد موسى، و هو آتيكم، و اللّه لا نسمع أحدا يذكر النبيّ توفّي إلّا علوته بسيفي هذا و لكن أمير المؤمنين سارع إلى دفع هذه الشبهة من أذهان الناس.
و أيضا أتظنّ أنّ عمر لم يقرأ هذه الآية: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (1) و قد نزلت قبل وفاة النبيّ بأحد عشر سنة، و كذلك قوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ (2) و قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ* كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ (3) و كان النبيّ يقول على رؤوس الأشهاد: «نعيت إليّ نفسي»، و العجيب في أمر عمر أنّه يرى أو يسمع بغسل النبيّ و كفنه و دفنه ثمّ يقول: أضرب بسيفي من يقول أنّ رسول اللّه مات.
قال عبد اللّه بن عبّاس عن عمر بأنّه قال: لو مات رسول اللّه كيف يكون علينا شهيدا، يموت الرسول و لم يظهر على الناس، فإيّاكم أن تفتتنوا أيّها الناس كما افتتن قوم موسى حين غاب منهم إلى الطور فرجع إليهم فعاقبهم.
فقبل قوله جهّال الصحابة و اجتمعوا على باب بيت النبيّ و شرعوا في إحداث الشغب قائلين: لا تحرّكوا رسول اللّه و لا تغسّلوه و لا تكفّنوه لأنّه حيّ قائم.
فخرج عليهم العبّاس و طالبهم بإثبات ما يقولون و سأل عمر و المنادين معه:
متى قال النبيّ أنا لا أموت؟! فصاحوا بأجمعهم: لا علم لنا بذلك، فأقسم العبّاس أنّه مات و قرأ الآيات الدالّة على موته، فقبل الصحابة ذلك، و لكن كان لعمر غاية وراء هذا القول و هو أنّ الحزن لا بدّ و أن يعمّ الأصحاب بموت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا بدّ من
ص: 34
بكائهم ساعة علمهم بموته، و عمر مقبل على ملك عضوض و هو فرح به مستبشر، و طالب من القوم تهنئته على هذا النصر العظيم و هي لا تجامع الحزن فمن الحزم الحيلولة بينهم و بين البكاء لئلّا تفوته فرحة النصر على العدوّ و الفوز بالملك العقيم، و كان يستحي من الظهور بمظهر الجذل و الفرح فلا بدّ من افتعال هذه الزوبعة لتمرير غابته (1).
و أيضا إنّ أرذل القبائل قبيلة أبي بكر و عمر و كان قبل الإسلام بطّالا إذا أصاب طعاما أو شرابا على خوان أحدهم قصفه، أمّا أبو بكر فكان أحيانا عضروطا أو سمسارا أو معلّم فتيان عبادة الأصنام و أحيانا يبيع البزّ، فلمّا رفع من الرفش إلى العرش فلا بدّ من أن تعمّه الفرحة التي لا حدود لها، و هم يقولون: إنّ أبا بكر ألفت ذهن عمر إلى موت رسول اللّه بقرائة الآية إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (2) فأقسم عمر كأنّه لم يسمعها قبل اليوم، و العجب من القوم أنّهم يقولن كان عمر معلّما لأبي بكر و كان أعلم منه و كان حلّ المعضلات التي تعترض أبا بكر على يديه ثمّ هو يجهل هذه الآية مع ادّعائهم أنّه كتب القرآن و جمعه و حين هلك ذهب تسعة أعشار العلم بهذه العبارة: «لمّا مات عمر ذهب تسعة أعشار العلم».
و قوله: إنّ رسول اللّه للّه شهيد علينا ألا يعلم أنّ هذه الشهادة في الآخرة لا في الدنيا.
ص: 35
و لمّا انتقل رسول اللّه إلى الرفيق الأعلى أمر عليّا و العبّاس بإلباسه حلّة يمنيّة، و يغسل فيها، فكان العبّاس يسكب الماء و الفضل يقوم بنقله إليه و الإمام يقلّب رسول اللّه و يدلّكه، و احتاج الفضل إلى الخروج من مكان الغسل لقضاء مهمّة عرضت، فانتدب مكانه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب من بني هاشم و من الأنصار أبيّ بن كعب و أوسى بن خولّى كانا مع بني هاشم خارج موضع الغسل، و كان السبب في دخولهما مع عليّ عليه السّلام و بني هاشم أنّ الأنصار قالوا لعليّ: ناشدناك اللّه و حقّنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأشركنا معكم في غسل رسول اللّه، ففعل عليه السّلام، هذا ما في روايات القوم.
و أمّا عندنا فإنّ عليّا لم يشركه أحد في غسل رسول اللّه إلّا الفضل بن العبّاس حيث كان ينقل الماء و الملائكة أعوان عليّ عليه السّلام و معهم جبرئيل في فوج من الملائكة المقرّبين.
و يقول ابن بابويه: لم يحضر الأنصار إلّا في الصلاة، و هذه مسألة قطعيّة عنده لا تقبل النقاش، و هي متّفق عليها عندنا إلّا أنّ الإجماع حاصل من أنّ عليّا عليه السّلام بعد موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «يا عليّ، أنت أوّل من آمن بي و آخر من يسلّمني إلى ربّي» أمّا مخالفونا فلقد افتروا فرى ليس لها واقع أصلا من قبيل مشاركة العبّاس و أسامة و الفضل و أبي سفيان ابن الحرث و غرضهم من ذلك الوضع من مرتبة عليّ و فضله و ليس مع عليّ غير الفضل يأتيه بالماء و باقي أعوانه من الملائكة، و لم يصلّ في مسجد النبيّ ذلك اليوم أحد سوى بني هاشم فقد كانوا في شغل شاغل عن كلّ شي ء إلّا عن مصيبتهم و عن الصلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تجهيزه، و كان أبو بكر في
ص: 36
سقيفة بني ساعدة يلاطم على الملك حتّى إذا فرغ بنو هاشم من مأتمهم على النبيّ يكون قد أحكم السيطرة على الملك.
روى يوسف بن كليب المسعودي السنيّ عن إبراهيم بن إسحاق الأزدي، عن عبد اللّه بن لهيعة المصري، عن أسود بن عروة بن الزبير (الزهر) أنّه قال: أوّل من قطع سهم ذوي القربى و سهم المؤلّفة قلوبهم أبو بكر، و يوسف هذا من قطيع السنّة النواصب، ثمّ قال: و ما أخذه منهم أنفقه على العسكر في عدّته و عدده.
الجواب: إنّ اللّه سبحانه و رسوله أعلم بترتيب الشريعة و النظر لصلاح الناس من هؤلاء القوم و أمر اللّه و رسوله لأهل البيت بحقّهم في هذه الآية وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1) و أمثالها، و أمر اللّه بإكرام أهل البيت و محبّتهم بهذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (2) و كيف يستلب منهم ما جعله اللّه حقّا لهم و تحيّة لجنابهم دون سائر الناس ثمّ يعطي إلى قوم غيرهم؟
و ذكر مسلم الأصمّ و الجاحظ و حفص و هؤلاء من أعلام النواصب: كان في ذمّة أبي بكر عند موته أربعون ألف دينار من بيت مال المسلمين، و مات و هي في ذمّته لم تؤدّ عنه، و أمر في وصيّته بأدائها عنه و لكن الخليفة من بعده لم يردّ حقوق أحد من المسلمين حتّى يؤدّيها عنه، و أخذوا حقّ أهل بيت الرسول و تركوهم جياعا عراة و قضموا حقوقهم: يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الربيع.
ص: 37
حكاية: يقال: إنّه كان في الريّ حاكم ظالم جدّا، فقبض يوما على أحد الدهاقين و صادر أمواله كلّها، و حدث ذات يوم أنّ مغنّيا كان يردّد رجزا جميلا و فيه: إنّ الوالي الذي صادر الدهقان أعطاه مال المصادرة، و لمّا بلغ الخبر الدهقان بكى و قال: يأخذ ممّن ليس عليه شي ء، و يعطيه من ليس له عنده شي ء.
و هذا الخبر منطبق على أبي بكر تمام الانطباق، لأنّه أخذ مال من لا يجوز أخذ ماله و أنفقه على من لا ينبغي أن ينفقه عليه: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا (1).
و كان مذهب الشافعي على هذا و هو أنّه في آخر عهد عمر قدم بمال كثير من فارس و كرمان و الأهواز و تستر إلى المدينة، فقال عمر: إنّ حصّة بني هاشم من هذا المال الخمس و أنا أرجوهم أن يقرضوه لي لأصلح به حال المسلمين على أنّي سوف أعوّضهم عنه في فرصة قادمة من مال آخر، فأقرضه أمير المؤمنين إيّاه و فعل بنو هاشم فعله، فطالت المدّة و لم يعوّضهم عمر عنه حتّى هلك، و لمّا جاءت نوبة عثمان بقيت الحال على ما هي عليه من سنّة عمر، و جاء الخلفاء و قد تنوسي الخمس فلم يعطوا أهل البيت شيئا.
و في رواية أخرى عن الشافعيّ عن أبي ليلى أنّه روى عن عليّ قال: ذهبت أنا و فاطمة و العبّاس و زيد بن حارثة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قلنا: يا رسول اللّه، إنّنا نخشى أن لا نعطى حقّنا من الخمس بعدك، فأعطناه في حياتك لكي لا يعترض علينا أحد أو يعارضنا، فرضي النبيّ بذلك و دفع إلينا الخمس و بقي في أيدينا أيّام أبي بكر حتّى إذا كانت أيّام عمر جائه مال كثير فأخرج خمسه و دفعه لنا، فقلت
ص: 38
لبني هاشم: ما حاجتنا بهذا المال ادفعوه إلى المسلمين لإصلاح حالهم، لعلّهم يعطونا عوضه في فرصة أخرى مؤاتية، فقبضه عمر على أنّه قرض و أعمل فيه يده بالتصرّف فأنكر العبّاس على عليّ هذا الموقف و قال: لا ينبغي لك أن تفعل هذا لأنّي أخاف أن يحلو المال بأعينهم فلا يعطوننا شيئا بعده، و كان كذلك فعلا فقد هلك عمر و لم يؤدّ إلى بني هاشم قرضهم كما سلف و بقي هذا الدين عالقا في ذمّة عمر .. و هاتان الروايتان من الشافعي.
تنبيه: لقد تمّت الصيغة الكاملة للصلاة و الزكاة و الخمس بنصّ القرآن الكريم فمن أنكر واحدة منها أو امتنع عن أدائها عدّ كافرا بالقرآن و بمنزله و رسوله.
قال الحارث بن المغيرة: طلب «نجية» الإذن على الإمام الصادق فأذن له و دخل عليه يسأله عن قضيّة الخمس و منعه، فقال ذلك الإمام: يا نجية، إنّ الخمس لنا في كتاب اللّه و لنا الأنفال و صفوة الأموال و هما و اللّه أوّل من ظلمنا و منعنا حقّنا و كانا أوّل من ركب أعناقنا- إلى أن قال:- و سوف يكشف أحوالهما قائمنا كما يستحقّون.
و وردت أخبار نظير هذا لا تقبل الحصر.
ذكر أصحاب السير و المؤرّخون عن بني تيم بأنّهم كانوا أهل مسكنة و فقر، و أخمل و أجهل بطون العرب، و سقطوا في الجاهليّة فليس لهم قدر و لا جاه، و قد ذمّهم دغفل النسّابة عند معاوية، و قال فيهم جرير:
ص: 39
و يقضي الأمر دون رجال تيم (1)و لا يستأذنون و هم شهود
و إنّك لو رأيت عبيد تيم و تيما قلت أيّها العبيد و لم يكن فيهم لا سيّد مشهور و لا تاجر معروف و لا جواد مذكور، و كان دغفل النسّابة عربيّا عارفا بأنساب العرب و سأله معاوية ذات يوم عن القبائل، فقال بعد أن ذكر عددا منها و سأله معاوية عن بني تيم:
أهل فحش فاش، أحلام الفراش! إن شبعوا بخلوا، و إن افتقروا ألحفوا (ألحّوا- المؤلّف).
و قال أبو العبّاس- لعلّه المبرّد- المترجم- قال حجر ابن جوين لأبيه: هجوت قبائل العرب و تركت تيما فما هو سبب تركك هجائهم؟ فقال: يا بني، لم أجد لهم حسبا أضعه و لا بيتا أهدمه.
و اسم أبي قحافة عثمان بن عامر و كان يعرف في قريش ب «لواطة» و كان من لؤمه ينادي على طعام عبد اللّه بن جدعان (2) و كان يعطيه عبد اللّه على فعله هذا في كلّ يوم درهما وحدا، و يملأ جوفه من فضلات طعام الأضياف و يذكر ذلك أمّية ابن أبي الصلت عن ابن جدعان، فيقول:
له داع بمكّة مشمعلّ و آخر فوق دارته ينادي إلى آخر الشعر، و المنادي هنا أبو قحافة.
و كان صائدا يصيد الطيور فصاد طيرا في الصحراء و باعه بذي الحليفة.
و كان له شريك يقطن بذي الحليفة و يدعى سعد الغاري من الغارة بن الهون بن
ص: 40
خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر (1) و قال بعضهم اسمه سعيد.
و حاصل الكلام أنّ سعيدا هذا خان أبا قحافة حين أخذ طائره الذي اصطاده فكتمها أبو قحافة في نفسه و لم يبدها لأحد و صبر على مضض و كان يبالغ في التكتّم، فدعاه شريكه ذات يوم إلى بيته فأجلسه فيه و خرج لحاجة عرضت له، فعمد أبو قحافة إلى بيته في غيابه فانتهبه و أخذ منه ما قدر على أخذه، و من هذه الجهة سمّي أبا قحافة، يقال: اقتحف اقتحافا أي شرب شربا شديدا، جمع ما في الإناء من الماء. و كان لا يقول الشعر و لكنّه قال شعرا في هذه الواقعة:
أسعد جزاك اللّه شرّ جزائه بما نلت منّي في الخيانة و الظلم
وثقت به حيّا و قلت لعلّه يكون على أمر بعيد من الظلم
فلمّا رأيت المرء ينوي خيانتي شددت عليه شدّة الليث ذي الضغم
و قلت له هذا جزاءك ظالمالما قدّمت منك اليدان مع الفم و تظهر مروئة أبي قحافة و كرمه و سخائه من هنا حيث سرق بيت شريكه و مضيّفه و هجاه من أجل طائر، و لا بدّ أن ينعكس شرفه هذا على أهل بيته فيكونون على مثل مروئته و شرفه، و كلماتنا هذه تنبيه على أباطيل من ينسبون إليه الفضائل، إذ قلّت الخبرة- خبرة- بأحواله.
قال أهل السير من الأسلاف: كان جماعة يذكرون مناقب معاوية في أحد المجالس، فقال أحدهم: كان معاوية بدريّا أي أنّه حضر موقعة بدر، و كان هشام ابن الحكم حاضرا، فقال: نعم كان بدريّا و لكنّه من جانب المشركين.
ص: 41
إنّ الجماعة الذين يوالون هؤلاء ينسبون إليهم المناقب على مثل طريقة العرب في التفاؤل حيث يسمّون الأشياء بأضدادها فيسمّون الأعمى بصيرا، و اللديغ سليما، و الصحراء المهلكة مفازة «حبّك الشي ء يعمي و يصمّ».
و الدليل على خساسة طبعهم أنّه لمّا بايع القوم أبا بكر بعد وفاة النبيّ سأل أبو قحافة: من بايعه الناس؟! قالوا: ابنك، فقال: كيف رضي بنو عبد مناف بذلك؟- لأنّه علم أنّ الأشراف و علية القوم لا يقرّون له اختيارا لذلك تملكه العجب من هذه المهزلة- فقالوا له: رضى المسلمون به، فقال: لا مانع لما أعطى اللّه، و كأنّه كان جبريّا و من ثمّ اعتقد بأنّ خلافة ولده كانت بقدر من اللّه تعالى و لم يدر أنّها تمّت بالقهر و الغلبة و الحيلة و الغدر، فإن كانت خلافته قدرا من اللّه و هبة منه سبحانه فإنّ ملك معاوية و يزيد و سائر بني أميّة و ملك الأكاسرة و القياصرة بقدر من اللّه كذلك «نعوذ باللّه منه».
قال أبو بكر لأبيه يوما: ترى صلاتنا متعبة مقيمة مقعدة و العجب أنّه لا يرى عمل الصائد بأقدامه الحافية راكضا في صحراء مترامية الأطراف وراء الطيور عملا متعبا و مقيما مقعدا، و يرى الصلاة كذلك، و هي تؤدّى في محلّ واحد!
حكاية: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما بين مكّة و المدينة و قد مرّ على قبر أبي سعيد بن العاص، فقال ابو بكر: لعن اللّه صاحب هذا القبر فإنّه كان يكذّب اللّه و رسوله- و كان ابنه سعيد حاضرا- فقال: بل لعن اللّه أبا قحافة لأنّه لا يقري الضيف و لا يدفع الضيم و لا يقاتل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا سببتم المشركين فعمّوهم بالسبّ و لا تسبّوا الأموات فإنّ سبّهم يغضب الأحياء، و ذكر أصحاب السير و التواريخ أيضا (1).
ص: 42
اعلم أنّ أبا بكر لم يثبت له قتال في الإسلام و لم ينقل عنه أنّه قتل مشركا واحدا و لم يذكر ذلك أهل المغازي، نعم، قيل أنّه استأذن من رسول اللّه يوم الخندق أن يبارز ولده فلمّا خرج إليه و دنا منه، قال له: ويحك، ما بقي من مالي؟ فقال ابنه: لم يبق إلّا شكّة و يعيبوب و فارس يضرب ضلال الشيب، و اليعبوب اسم فرس.
قال الجاحظ الناصبي اليزيدي في كتابه «العثمانيّة»: إنّ أبا بكر لمّا أسلم أسلم معه أهل بيته كلّهم، و هذا قول باطل بعبد الرحمان ابنه الذي كان كافرا يوم الخندق.
و قيل عنه: أنفق ماله بعد إسلامه و لم يبق منه درهم واحد، و هذه الدعوى الباطلة يكذّبها قوله لولده: «ويحك ما بقي من مالي».
و المشهور عنه و عن صاحبه عمر أنّهما كانا أوّل المنهزمين في وقعة خيبر و حنين.
و كان يخجل من الذهاب إلى ولده ظاهرا ليسأله عن ماله فجاء النبيّ و استأذنه في البراز يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (1) و مع هذا فقد ظهرت الفرحة على بعض المسلمين أنّ فلانا الذي لم يعرف الصحور في الحرب و لم يقاتل بمقدار جناح بعوضة سوف يخرج اليوم للمبارزة فينبغي أن يكتب له حرز عن العيون: «إنّ العين لتدخل الرجل القبر و الجمل القدر» و لمّا علم أبو بكر بما جرى لماله من ابنه رجع من ميدان القتال.
ص: 43
يقول المخالفون: إنّ الأصحاب هم الذين نطق القرآن بفضلهم و نوّهت السنّة بهم، و كلّ الذي عليه أهل القبلة من الدين و الديانة و العقيدة وصل إليهم منهم فكيف يجتمعون على الكذب و ينكرون نصّ رسول اللّه مع أنّهم يدركون رفعة مقام عليّ و فاطمة و يقرّون بفضلهما. و أهل السنّة اليوم في مجالسهم و نوادي وعظهم مشغولون بالحديث عن فضلهما و صالح أعمالهما، فكيف يتصوّر على هؤلاء إنكار النصّ فيكفرون من أجل غيرهم؟
الجواب: إذا كانت المناظرة من جهة الأخبار احتاجت إلى التصادق، و إن كانت من جهة العقل احتاجت إلى التناصف، و ما ورد من القرآن و السنّة في فضل الصحابة فإنّهم أولئك الذين لم ينكروا فضل أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا جحدوا فضائلهم و مناقبهم أبدا نظير بني هاشم و أبي ذر و عمّار و غيرهم، لم يأت القرآن و السنّة الموثوق بها بالتخصيص و إنّما أتت بطريق العموم، و وردت مجملة و مع هذا فقد ورد مثله آيات في ارتداد القوم كما سنقصّ عليك زمرة منها.
ثمّ إنّ الصحابة كانوا هم على الشرك و من سلالة مشركين و كان أولاد يعقوب من سلالة الأنبياء و يعرفون مناقب أخيهم يوسف فأرادوا قتله- كما هو مشهور في التاريخ و مذكور في سورة يوسف- من الحسد و العداوة مع أنّهم يعرفون منزلة يوسف و علوّ درجته.
و كذلك فعل قابيل فإنّه لم يقتل أخاه بناءا على الجبلّة الإنسانيّة و الغيرة الأخويّة و إنّما قتله لعلمه بعلوّ رتبته «عند اللّه و عند أبيه آدم».
و كان رسول اللّه في الوهلة الأولى لم يعاده أحد و لكن حين ظهرت بوادر شرفه
ص: 44
و منصبه و جاهه و رفعته حسدوه و ناصبوه العداء و كان في مراحله الأولى ساكتا حتّى إذا وجد المعين و الناصر خرج بالسيف، ثمّ إنّ عدوّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله ظاهروا الشرك، و عدوّ عليّ ظاهروا الصلاح و العدالة، و الشرك و المعصية مقيمان في الباطن منهم فلم يدرك الجهّال حقيقتهم لتستّرهم بقناع الإسلام و كانوا يموّهون على الناس في ظلمهم لأهل البيت بظاهر الشرع و الإسلام فلم يتيسّر لكلّ أحد معرفتهم أو الاطّلاع على حقيقتهم و كان عدوّ محمّد مشركا و عدوّ عليّ منافقا.
لقد كان النمرود و فرعون يرون المعجزات رأي العين فلم يكونوا يجهلون رتبة موسى و إبراهيم، و كان بنو إسرائيل يعرفون منذو البداية ما لزكريّا و عيسى من رفيع الدرجة و علوّ المنزلة و غيرهما من الأنبياء كما جاء في كتب السلف و قد ذكر الماضون أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون في كلّ يوم مائة و اثني عشر نبيّا، و لا تنس أهل العقبة فما كانوا يجهلون فضل رسول اللّه بل عرفوه على حقيقته.
أمّا الشريعة فهي مبنيّة بالقرآن الكريم و إجماع أهل القبلة و نحن شيعة أئمّة أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عرفنا المجمل من القرآن و ما يحتاج إلى تفسير و بيان من أقوال المعصومين من أهل البيت عليهم السّلام و من الصحابة الذين لم يخالفوهم و لم يختلفوا معهم مثل أبي ذر و سلمان و عمّار و أمثالهم من بني هاشم.
و أمّا خصومنا فقد ارتدّوا و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على قيد الحياة و كان و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة يقول: «نفّذوا جيش أسامة» إلى أن قال: لعن اللّه من تخلّف عن جيش أسامة، و قد أخبر اللّه تعالى عن هذا الارتداد بقوله: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ (1) و من الواضح أنّ أولئك الذين تجمهروا في سقيفة بني ساعدة لم يكن اجتماعهم مجرّد صفاء و اتفاق بل كانت المجادلات و المشاحنات بينهم على أشدّها فما أكثر ما تسابّوا
ص: 45
و تشاتموا و تضاربوا بالنعال و كفّر بعضهم البعض الآخر و صدرت أوامر من بعضهم بقتل البعض الآخر و مناديهم ينادي: منّا أمير و منكم أمير، و الذين بايعوا أبا بكر سلّوا السيوف بينهم.
و هؤلاء قوم موسى عرفوا نبوّة موسى و علموا بمناجاته اللّه تعالى و آمنوا بنبوّة هارون و عرفوا قدره و مع ذلك فقد عبدوا العجل و حينئذ تكون حال على حال هؤلاء الأنبياء.
و سؤال السائل مردود عليه بإجماع الصحابة على قتل عثمان و الخصم يزعم لعثمان الفضل و المنازل العالية، و الأصحاب كانوا جميعا حضروا في المدينة، فلم يذكر لأحد منهم مشاركة في الدفاع عن عثمان و ما يقوله الخصم من حجّة في توجيه تصرّفهم نقوله نحن في دفع شبهته لا سيّما على مذهب الخواجة الذي يرى الإيمان عطاءا وهبة و عسى أن يسلب اللّه العبد ما وهبه في خاتمته كما جرى لبلعم بن باعورا و برصيصا الراهب.
و طبقا لما يعتقده القوم في طلحة و الزبير و عائشة و معاوية أنّهم من أعلامهم من العشرة المبشّرة و لكنّهم خرجوا على الخليفة الرابع و بغوا عليه و هو إمام زمانهم فهم بغاة بناءا على مذهب الخصوم، و كفرة بناءا على مذهب الشيعة و قد أحدثوا في الدين أحداثا لا سيّما طلحة و الزبير و معاوية، و أجّحوا نار الفتنة في الدين، و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «أقاتلهم و هم مشركون».
و من المعلوم عند الأمّة أنّ عثمان ارتكب مظالم كثيرة ضدّ المسلمين حتّى قام الإجماع من المهاجرين و الأنصار على استباحة دمه، و قدامة بن مظعون شرب الخمر و أجروا عليه الحدّ فجلدوا ظهره، و زنى المغيرة و شهد عليه الشهود و لكن عمر درأ عنه الحدّ بحيلة واضحة عرفها الخاصّ و العام، و حدّوا حسّان بن ثابت و مسطح بن أثاثة في القذف، و أقرّ النعمان بن بشير على نفسه في حربه مع معاوية
ص: 46
و قال: أبصرت (رشد) نفسي ثمّ تركته و أنّه إن حرم عليّ الجنّة و زيتونها فإنّه يقاتل على الغوطة و زيتونها.
و يقول خصومنا أنّ سعدا بن أبي وقّاص والد عمر لعنه اللّه و محمّدا بن مسلمة و حسّان بن ثابت لم يبايعوا عليّا و بايعه طلحة و الزبير، و أظهر المغيرة الطعن على عليّ عليه السّلام كثيرا و أظهر له العداوة و أغرى عائشة بالخروج عليه و قتاله و قال لها:
تموتين بأجلك و تدخلين الجنّة و نشنع بك على عليّ إن قتلك .. يعني عليّا (1).
و أشهر منه في الخبث و العداوة أبو موسى الأشعري لعنه اللّه الذي خان إمام المسلمين و عزله، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، إنّ الضغائن في أنفس قوم لا يبدونها إلّا بعدي (2).
ص: 47
و قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ قوما من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال و يذهب بهم إلى النار، فأقول: أصحابي، فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنّهم مشوا القهقرى، فأقول لهم: بعدا و سحقا (1).
و قال: إنّ من أصحابي من لا يراني بعد موتي (2).
و قال أيضا: لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض (3).
ص: 48
و وقف يوما على الشهداء و قال: أنا الشهيد على هؤلاء، فقال بعض الأصحاب:
و نحن أسلمنا أيضا و جاهدنا معك و رجوه أن يقول فيهم ما قاله في شهداء أحد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي لا أدري ما تفعلون بعدي، و قال في حقّهم تلك اللفظة.
قال أبوذر رحمه اللّه: أصحاب العقبة قوم من أهل النار و إنّي لا آسى عليهم إنّما آسي
ص: 49
على من يضلّ بهم من خلق اللّه تعالى و هم كثير.
و قال: لقد تعاهدوا فيما بينهم أنّه متى توفّى محمّد صلّى اللّه عليه و آله لا ندع أهل بيته ينالون الخلافة من بعده و نزل فيهم قوله تعالى: وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ إلى قوله أَجْمَعِينَ (1).
قال حبيب بن أبي ثابت: قوله تعالى: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ (2) الآية، قال حذيفة: الذين نفّروا ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العقبة لكي تلقيه عن ظهرها و هم يقتلونه إذا بلغوه هم أربعة عشر نفرا: طلحة و الزبير و أبو سفيان و عتبة بن أبي سفيان و أبو الأعور و المغيرة و سعد بن أبي وقّاص و أبو قتادة و عمرو ابن العاص و أبو موسى الأشعري و عبد الرحمان بن عوف و الخلفاء الثلاثة.
قال الواقدي- و هو ناصبيّ-: لمّا طعن عمر بن الخطّاب رفعه عثمان من التراب، فقال عمر: دعني، و قال: ويلي ويلي من النار، الآن لو كانت لي الدنيا لافتديت بها من النار و لم أرها، و رواية الواقدي عن عمر حجّة.
و هذا دليل واضح على علم عمر بكونه من أهل النار و هذا مصداق قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا كان يوم القيامة أرى رجالا يختلجون دوني فيذهب بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ، أصحابي أصحابي، إلى آخر الحديث (3).
و نزل فيهم قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ (4)، فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ (5) و سبب نزول الآية التالية هو أنّ طلحة و الزير
ص: 50
و الثلاثة راسلوا اليهود أن يجيروهم إذا نزلت الهزيمة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ (1).
و قال عثمان لطلحة يوما- و قد جرى بينهما نزاع-: إنّك لأوّل أصحاب محمّد تزوّج يهوديّة، و نزل فيه: وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (2).
و كان عثمان قد اشترى أرضا من أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ ندم و أراد ردّها عليه فأبى عليّ أن يقبلها و قال: ليس لك أن تردّها فقد بعتك أنا و اشتريت أنت فهلمّ إلى رسول اللّه نحتكم عنده، فقال عثمان: كلّا، بل نذهب إلى قضاة اليهود، فأنزل فيه:
وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (3).
و قال طلحة و عثمان: أينكح محمّد نسائنا و لا ننكح نسائه! إنّ هذا أمر لا يكون، و كان يطمع طلحة بعائشة و عثمان بأمّ سلمة (4) فأنزل اللّه قوله تعالى: وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (5).
و نزل في عبد الرحمان بن عوف قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ إلى قوله: الدُّنْيا قَلِيلٌ (6).
ص: 51
أذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه في مكّة أن يجلس كلّ واحد منهم إلى جنب مشرك فإذا ظفر المشركون بالمسلمين و قتلوا واحدا منهم فإنّه يقتله مكان أخيه المسلم، و كان عبد الرحمان يتمنّى القتال و يقول للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ليت أنّا أمرنا بالقتال، فلمّا هاجروا إلى المدينة و أوجب اللّه الجهاد كان عبد الرحمان بن عوف يقول: لو تركنا نموت على فراشنا كان أحبّ إلينا.
روى أبو جعفر أنّ فاطمة عليها السّلام ذهبت يوم الأربعاء- و هو اليوم الذي دفن فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- إلى روضته، فقال لها أبو بكر: أصبح و اللّه صباحك صباح السوء، و هذا القول شماتة منه بموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ الأدب يقتضيه أن يقوم بتسليتها و إدخال العزاء على قلبها، و غرضه من هذا القول أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله دفن بقبره في يوم نحس و هذا يدلّ على نحس حاله (نعوذ باللّه من هذا القول).
أمّا ما يقال من أنّ أهل السنّة و الجماعة يذكرون عليّا و فاطمة في بلادهم فهذا صحيح إلّا أنّهم يرونهما دون أبي بكر و عمر و عثمان و عائشة و حفصة، فإذا فاه بمدحهم أحد دون أن يذكر أئمّة القوم أو أنّه مدح الزهراء دون عائشة فإنّه يرمى بالرفض فورا.
و قد وضع بنو أميّة نير العداوة و الكفر على أعناق الأمّة في الشرق و الغرب، و جهدوا في إخفاء مناقب عليّ، و حضروا على أحد ذكره ما دام العالم، و حوّلوا اسم عليّ إلى أبي تراب حتّى يتلاشى اسمه و لقبه من ذاكرة الأمّة، و لكنّ اللّه ردّ كيدهم في نحورهم و لم يتحقّق لهم ما أرادوا بمقتضى قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1).
و لمّا علم أهل الخلاف بأنّ هذا عمل مستحيل عمدوا إلى ذكر مناقبه طوعا
ص: 52
و كرها، و كتبها علماؤهم في دفاترهم، و ليس ذلك راجعا إلى سرّ حبّهم أو خلوص اعتقادهم بل بتوفيق من اللّه و تيسير منه سبحانه، قال اللّه تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (1) لأنّ المشركين لا يقدرون على إنكار ذلك.
و حرّف علماء اليهود من التوراة النصّ الخاصّ برسول اللّه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (2).
و إذا كان أبناء الشرك قد غيّروا نصّ رسول اللّه و حرّفوه و أخفوه فإنّ الأدهى من ذلك أنّهم عمدوا إلى مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام فحوّلوها إلى أبي بكر و عمر و عثمان افتراءا منهم على النبيّ، و حشدا للأحاديث الواردة في غيرهم لهم و هم لا يعدلون عند اللّه شيئا.
قال محمّد بن أبي بكر: قال أبي: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي أرى الآن جعفرا في السفينة يجري في البحر، فقلت: يا رسول اللّه، أرنيه أنا، فمسح على عيني فأبصرته، فحدث في قلبي أن قلت: إنّ محمّدا ساحر عظيم.
قال الباقر عليه السّلام: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (3) أي بكلمة الشهادة و نبوّة محمّد وَ الْإِحْسانِ أي ولاية عليّ بن أبي طالب وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى يعني الأئمّة وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يعني أبا بكر و عمر و عثمان، و هؤلاء الثلاثة ظلموا آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.
وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ (4) الآية.
ص: 53
وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (1).
و الناس في الم* أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2).
و هؤلاء الثلاثة ظالمون، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (3) و هما أبو بكر و عمر.
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (4) و هم المخاطبون بالآية.
و المشهور عن عمر أنّه قال لصاحبه أبي بكر يوم الحديبيّة: أتراه رسول اللّه و هو يردّ المؤمنين، و النبيّ فعل ذلك في حال الضرورة و عمر يردّ عليه.
روى هشام بن حسّان البصري أنّه قال لعمر: لم جعلت الأمر في الخلافة إلى هؤلاء الستّة؟ قال: لأنّي سمعت رسول اللّه يقول: لا أقف يوم القيامة إلّا و يد عليّ ابن أبي طالب في يدي.
و جاء أبو بكر و عمر لعيادة رسول اللّه في مرض موته و كان عليّ حاضرا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يموت حتّى توسعاه غدرا و غيظا ثمّ تجداه صابرا، قال تعالى:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (5) و هذا هو جواب الخصم الذي يقول: لم لم يقاتل عليّ أهل الشورى لمّا أدخله عمر فيهم؟ نقول: لأنّه فاقد للقدرة و النبيّ أمره بالصبر، و كذلك الحسن صبر و مضى على ما مضى عليه أبوه و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مروّتنا أهل البيت إعطاء من حرمنا و العفو عمّن ظلمنا.
قيل: إنّ الحسن بن عليّ عليه السّلام خرج ذات يوم من بيته ميمّما مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله
ص: 54
و معه جماعة من أصحابه، فرآه شاميّ في الطريق، فقال: من هذا؟ قيل: الحسن بن عليّ عليه السّلام، قال: هذا الضالّ ابن الضالّ! فقال الحسن عليه السّلام: لعلّك غريب! و لم يردّ عليه شيئا و اتّخذ طريقه إلى المسجد، فأقبل الشامي إلى المسجد و أعاد كلامه على الحسن عليه السّلام، فأحسن إليه الإمام للطفه و كرمه، فخجل الشامي و وقع على يديه و رجليه يقبّلهما، فقال الحسن عليه السّلام: استعملنا فيه أدب اللّه تعالى كما قال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
ذكر ابن الراوندي عن رجل من حمج (كذا) (و لعلّه مذحج- المترجم) (1) قال:
قدمت المدينة بعد الحرب التي كانت بين أهل العراق و الشام فرأيت رجلا فسألت عنه، فقيل لي: هذا الحسن بن عليّ عليهما السّلام، فحسدت عليّا أن يكون له مثله، فقلت له:
أنت ابن أبي طالب؟ فقال: لا، أنا ابن ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقلت له، شتمته و شتمت أباه، فلم يردّ عليّ خلافا، فلمّا فرغت أقبل عليّ فقال: أظنّك غريبا، فلو استغثتنا أغثناك، و لو سألتنا أعطيناك، و لو استرشدتنا أرشدناك، و لو استحملتنا حملناك.
قال الحمجي: فولّيت عنه و ليس على الأرض أحبّ إليّ منه.
و فيهم نزلت هذه الآية: وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ (2) الآية.
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ (3) «الوالد» رسول اللّه و أنا، «و ما ولد» الحسن و الحسين عليهما السّلام.
و قال: لا يجتمع إمامان إلّا و أحدهما صامت لا ينطق حتّى يهلك الأوّل كالحسن و الحسين ابني عليّ عليهم السّلام.
ص: 55
اعلم أنّ حالته الأولى يوم كان طفلا يتيما في حضن أبي طالب و زوجه فاطمة بنت أسد عليهما السّلام، فقد تكفّلاه، و قاما بشأنه خير قيام، فأنزل اللّه فيه: أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (1) و هذا المأوى و المكان الآمن باتفاق المسلمين كان بيت عليّ عليه السّلام.
الحالة الثانية: أيّام بعثته و تحزّب قريش ضدّه و مبالغته في أذاه و كان مدده عليّ و الحمزة عمّه و أبا طالب أباه عليهم السّلام جميعا، و كان في حمايتهم بعد عناية اللّه به حتّى استظهر بهم.
الحالة الثالثة: خطبته خديجة الكبرى عليها السّلام و قام بهذا العمل الهام عمّه أبو طالب عليه السّلام و هيّأ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله مجال الخطبة و الزواج.
الحالة الرابعة: حصار الشعب، و هنا احتاج النبيّ و من معه إلى مدد عظيم، و قال مخالفونا: كان عليّ عليه السّلام يوم ذاك يعمل في حوائط اليهود فيسقيها ماءا من الآبار و يأخذ الأجرة و يجعلها طعاما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان في حماية أبيه و أعمامه.
ص: 56
الحالة الخامسة: يوم الهجرة فقد نزل جبرئيل عليه السّلام على النبيّ و قال: يجمع أربعون شخصا من قريش ليوقعوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فمر عليّا بالنوم على فراشك و بارتداء ردائك، و ليتمثّل بشكلك، و هذا دليل على إمامته من وجوه عدّة جليّة:
الوجه الأوّل: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمره ينام في مكانه في حال غيابه و لم تكن لأبي بكر هذه المنزلة، و بحكم قوله تعالى: وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (1) لا بدّ من أن يقوم عليّ مقامه في غيابه الدائم.
الوجه الثاني الجلي: شبّه عليّ نفسه ليلتئذ برسول اللّه و لم تكن لأبي بكر تلكم المنزلة.
الوجه الثالث: إنّ اللّه تعالى حبى عليّا عليه السّلام الصبر العظيم و قوّة العزم و الصلابة و الجلاد المتناهي الشدّة و هذه هي درجة الأنبياء: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (2) و قال: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا (3).
و كان أبو بكر مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغار بمأمن عظيم و مع ذلك فقد أخبره رسول اللّه بسلامتهم و نجاتهم من القتل و هو خائف مضطرب و قد أمر اللّه العنكبوت فنسجت بيتها على فم الغار و نبت يمامتان عشّهما على فم الغار أيضا بوحي من اللّه تعالى، و كلا الأمرين لم يزيلا الخوف من قلب أبي بكر، فما زال يمزّق الهلع أحشائه و هو يضطرب، فتبيّن أنّ خوفه و اضطرابه ناشئان من عدم ثقته بوعد اللّه و رسوله له، و كان عليّ آمنا لثقته بوعد اللّه له، و كان الخصم و هو أربعون كافرا بأيديهم السلاح على مقربة منه يراهم و يرونه، فلم يطرق له الخوف جوفا، و بين
ص: 57
أبي بكر و العدوّ مسافات بعيدة، إلى أن حمى اللّه عليّا من القتل بما ألقاه في قلوب القرشيّين من الانصراف عن ذلك.
و قيل: إنّ أبا لهب حال بينهم و بينه للرحم فلم يفعلوا. كامل البهائي ج 2 58 الباب الثالث عشر في حالات الرسول صلى الله عليه و آله و ما يتبعه ..... ص : 56
وجه الرابع الجلي: في ساعات الحرب و شنّ الغارات و الغزو اتّفق الرواة و المؤرّخون على أنّ أبا بكر و عمر لم يهزما جيشا و لم يدخلا حربا و إنّما كانوا دائما مثارا للفتنة في الدين بسبب هزائمهم كما حدث ذلك في حنين و خيبر و ذات السلاسل و بدر، و قد نزل في حقّهم: وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (1).
الوجه الخامس الجلي: لم يكن غير عليّ حاضرا تجهيز رسول اللّه سواءا غسله و كفنه و دفنه، فلم يشهد ذلك منهم أحد بل اغتنموها فرصة ذهبيّة و ذهبوا يلاطمون على الحكم و يبرمون عقد السلطان، و على هذا متى عمل أبو بكر للّه؟
و في أيّ موضع نال رضا اللّه؟
بيّنة: أعظم فتح جرى على يد عليّ عليه السّلام في الجهاد هو يوم الأحزاب حتّى قال رسول اللّه فيه: «فضرب» لضربة عليّ يوم الخندق خير من عبادة الثقلين (2).
و يوم خيبر و يوم حنين و يوم أحد و يوم بدر فقد قتل في هذا اليوم يوم بدر
ص: 58
سبعون من المشركين قتل عليّ وحده منهم ثلاثين شخصا و شرك الصحابة في الأربعين، قال اللّه تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (1).
و هذه الفضيلة باتفاق المسلمين ليست لغير عليّ عليه السّلام من غير عليّ أولئك الذين يسمّيهم المخالفون العشرة المبشّرة لم يؤذ رسول اللّه و المؤمنين.
ص: 59
لا فضل لأبي بكر في آية الغار لأنّ إبليسا كان مع نوح في السفينة، و كذلك صاحبته في السفينة السباع و الوحوش و البهائم، و كان الكلب مع أصحاب الكهف في الغار، و امرأة لوط و امرأة نوح صحبتا زوجيهما، و يدعم ذلك قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ* وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (1) و جاء في سورة الكهف: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (2) و على هذا فما هو الفضل في مجرّد الصحبة؟
و لقد عدوت و صاحبي وحشيّةتحت الرداء بصيرة بالمشرف
و لقد دعوت الوحش فيه و صاحبي محض القوائم من هجان هيكل الصاحب هنا: الفرس.
و أمّا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا (3) فأيّ فضل فيها للرجل و اللّه تعالى مع البرّ
ص: 60
و الفاجر كما قال تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ (1) فتبيّن أنّ هذه الآية إِنَّ اللَّهَ مَعَنا لا فضل فيها.
و أمّا قوله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ (2) فإنّها عائدة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بوجوه:
الوجه الأوّل: بدليل عطف الملائكة على الجملة و من الواضح البيّن أنّ الملائكة تتنزّل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا على أبي بكر.
الوجه الثاني: جاء في الحديث أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا، فقد فرّ الأصحاب يوم حنين إلّا سبعة من بني هاشم: الأوّل العبّاس الذي أخذ بلجام البغلة، و خمسة من المقاتلين الذين شهروا سلاحهم بين يدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تقدّموا بين يديه يحمونه من الرماة، و كان أمير المؤمنين في القلب، فمرّة يحمل على القوم يقاتلهم من كلّ جانب و يحمل عليهم و يهزمهم ليحمي بيضة الإسلام و يخلّص رسول اللّه من بين المشركين، فقصّ اللّه قصّتهم فقال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) و المؤمنون هم عليّ و الأشخاص السبعة من بني هاشم، و هنا يظهر جليّا أنّ السكينة نزلت عليهم و على رسول اللّه، و كان عليّ كلّما هزم فوجا من المشركين تجمهروا مع أصحابهم و تقوّوا بهم فأمدّ اللّه رسوله بالمعجزة و هم الملائكة الذين قاتلوا معه بنصّ القرآن الكريم، و ضاقت الأرض بما رحبت على أبي بكر و عمر حيث سلّموا رسول اللّه في هذا الموضع المخيف للعدوّ و هربوا لا يلوون على شي ء.
ص: 61
و لو سلّمنا بنزول السكينة على أبي بكر فليس فيها مدح له حيث أنّه لم يكن واثقا بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يصدّقه بما قال، و كان ينوي الصراخ من شدّة خوفه في الغار لكي يسمع طالبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه السكينة عليه حماية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا كان حزنه خطأ كان معصية للّه لأنّ النبيّ لا ينهى عن الطاعة بل عن المعصية.
و في صورة جواز الخطأ لو قال الخصم أنّ اللّه خاطب موسى بقوله: أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ (1) فإنّنا نقول في جوابه: الخصم يجيز صغائر الذنوب على الأنبياء و بعض المجبّرة يجيزون حتّى الكبيرة، و بناءا على مذهبهم فإنّ اللّه منع عن المعصية و هم لا يجيزون ذلك، أمّا على مذهبنا فإنّ مؤلّف هذا الكتاب يقول: إنّ المعنى يشير إلى أنّ القضيّة وقعت على وجه الإعجاز و الغيب و ما تحقّق في العصا و اليد البيضاء إشارة إلى أنّها من تدبير اللّه تعالى لا من فعل الشيطان أو الخيال، آمنك اللّه.
و في مذهبنا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يصطحبه معه اختيارا و إنّما خرج بمهجته الشريفة و رآه قادما في الطريق فاصطحبه معه لئلّا يشي به، و لقد قال المتنبّي:
* و يستصحب الإنسان من لا يلائمه*
لأنّه لو تخلّى عنه و تركه ينساب كالأرقط حيث يقصد لأخبر المشركين عنه و صار سببا للقبض عليه، لأنّه كما يزعم أنصاره صدّيق و الصدّيق كيف يكذب، فلو سأله أحد: أين خلّفت النبيّ لدلّ على مكانه و صار سببا لهلاكه.
و العجب من القوم أنّه مع وجود هذي العيوب تراهم يتباهون بيوم الغار و لا يذكرون عليّا الباذل لمجهته في سبيل اللّه و البائت على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى نزل فيه قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ (2).
ص: 62
يقول السيّد المرتضى علم الهدى: و كما أنّ إسماعيل استسلم لذبح إبراهيم الخليل فقد استسلم عليّ لسيوف المشركين، مع أنّ العادت جرت بعلم الولد برحمة أبيه إيّاه فلن يقتله لا سيّما إذا كان هذا الأب نبيّا و له رتبة الخلّة مع ثقته بأنّه لم يجن ذنبا و لم يقترف إثما يستحقّ عليه القتل. و عدوّ أمير المؤمنين المشركون و الكافرون و هم غلاظ شداد لا دين لهم و لا اعتقاد، و يرون النبيّ و الوصيّ يستحقّان القتل بسبّهما لآلهتهم، لا سيّما عليّ و قد أثار حميّتهم الجاهليّة لمكره بهم و تغريره لهم، و تقويته النبيّ الذي أفلت من أيديهم.
قال السيّد المرتضى رحمه اللّه: فقام عليّ عليه السّلام يجالدهم و قد ظهر عليهم و أخذ يضربهم بكلّ قوّته و هم يضربونه حتّى نجى من شرّهم، إذن فالإمام عليه السّلام قام بأمرين عظيمين: فدى رسول اللّه بنفسه، و قام مقامه في الرقاد على فراشه، و كان الإمام يردّد ذلك متباهيا به:
وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى و من طاف بالبيت العتيق و بالحجر
رسول إله الخلق قد مكروا به فنجّاه ذو الطول الكريم من المكر
فبتّ أراعيهم و ما يثبتونني و قد وطّنت نفسي على القتل و الأسر و قال أبو بكر في معنى هجرته أبياتا ذكر هنّ أبو إسحاق في كتاب السير من تأليفاته:
فلمّا ولجت الغار قال محمّدأمنت فثق في كلّ ممس و مدلج
بربّك إنّ اللّه ثالثنا الذي وثقنا به في كلّ مثوى و مفرج
و لا تحزنن فالحزن لا شكّ فتنةو إثم على ذي اللهجة المتحرّج (1)
ص: 63
فقد شهد على نفسه في شعره أنّ النبيّ جعل حزنه فتنة و هي أكبر من القتل و لم يصدّقه عليه.
الثاني: ظهر أنّ حزنه فتنة و هي إثم و خطيئة عظمى فتبيّن أن لا فخر له في هذه الآية مع أنّ النبيّ قال: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (1) و الشيطان ذلك الملعون و الإنسان هو المكرّم وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ (2) و العجيب من أمرهم أنّهم يرون آية الغار أشرف آية في القرآن و نسوا الآية التي نزلت في أمير المؤمنين يوم بات على فراش رسول اللّه و هي قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ (3) لبغضهم الشديد و عداوتهم له و لأولاده الطاهرين.
و آية الختم التي أعطاه فيها الولاية و هي قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ .. (4) و آية المباهلة التي جعل اللّه فيها عليّا نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما قال:
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ إلى قوله: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ (5) و سورة هل أتى التي أظهر اللّه فيها صفاته و صفات أهل بيته بالوفاء و السخاء و الصبر و الشكر و الخوف و الإخلاص و الإسلام و الإيمان كما عبّر عن عميق اعتقادهم الثابت الوطيد.
و هم يعلمون أنّه ما من آية في القرآن و فيها «يا أيّها الذين آمنوا» إلّا و لعليّ عليه السّلام نصيب فيها بل سيّدهم و رئيسهم.
ص: 64
و لا يذكر الجهاد و المجاهدين إلّا وجدت عليّا في الطليعة.
و لا يذكر الصالحون في القرآن إلّا و عليّ منهم.
و لا تذكر عبادة فيه إلّا و عليّ القائم بها على أنّه انفرد بآيات لم يشركه فيها أحد كآية الخاتم و آية المباهلة و آية الغدير و آية المناجات، و لكن منعهم من إظهار ذلك شديد عداوتهم له و لأهل بيته.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة الإخلاص ثلاث مرّات فكأنّما قرأ جميع القرآن (1)، و قال في فاتحة الكتاب: كلّ صلاة بغير الفاتحة خداج (2).
و غير هذه الآيات، فقد جاء بفضلها أحاديث كثيرة و نوّهت هذه الأحاديث بعلوّ شأن الكثير من الآيات و السور و كثرة ثواب قارئها، فلم يذكروا شيئا من ذلك و لكن لآية الغار شأنا عندهم فهي يرونها أشرف آيات الكتاب (3).
و قالوا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اصطحبه ليأنس به، حاشا للّه و لرسوله أن يفعل ذلك بل أخذه معه خوفا من وشايته و لئلّا تكون نفس رسول اللّه في خطر، و إلّا فمؤنس النبيّ الملائكة و الوحي الإلهي (4).
ص: 65
مسألة: يقول الشيعة: يكفي في الدلالة على إمامة أمير المؤمنين آية الغدير و لكنّ جلّ المخالفين لا كلّهم يقولون أنّها نزلت في زيد بن حارثة.
و لكن هؤلاء الجهّال نسوا بأنّ زيدا بن حارثة استشهد في مؤتة قبل نزولها بمدّة طويلة و نزلت آية الغدير: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (1) في حجّة الوداع و هي ختام رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
و قال أبو بكر بن مردويه المحدّث و المفسّر الأصفهاني في كتاب المناقب: كان بين نزول آية الغدير و موت النبيّ مائة يوم لا زائد و لا ناقص مع أنّه علّق على الآية قائلا: في هذه الآية جمع قوله تعالى في «ما بلّغت» الرسالة كلّها فينبغي أن يكون ما يقابلها مثلها و هي الإمامة و حفظ الشرع و ضبط الدين على طريقة العموم.
مسألة: إمامة عليّ عليه السّلام ثبتت بالنصّ من قبل اللّه و رسوله كالنصّ على الصلاة و الزكاة و الصيام إلّا أنّ في هذا الواجبات لم يحدث خلاف و لكن حدث الخلاف هنا من أجل الخلافة فقد للناس رغباتهم فيها و ميولهم الخاصّة من ثمّ حدث الاختلاف و ليس بسبب أمر آخر.
سؤال: يقولون بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم ينصّ على أحد رحمة بالأمّة لئلّا تخالفه فتكفر:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (2).
الجواب: إنّ رحمة اللّه بالخلق أكثر من رحمة رسوله و مع هذا فقد أرسل رسلا و أنبياء
ص: 66
فكفر أكثر الناس بمخالفتهم و كذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعا الناس إلى الشرائع مع علمه بأنّ أكثر الخلق لا يعملون بها كما هو الظاهر من تركهم الصلاة و الصيام.
مسألة: و رووا أنّه: كلّ ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن، و ما رأوه قبيحا فهو عند اللّه قبيح (1).
الجواب: و مراده الإجماع على إمامة أبي بكر و هذا باطل لأنّ أمير المؤمنين و جماعة بني هاشم و طائفة من أكابر الصحابة لم يقبلوها بل قبّحوها و كذلك الشيعة في الشرق و الغرب فكيف تتمّ هذه الدعوى بأنّ المسلمين جميعا رضوا بها و حسّنوها.
مسألة: و قالوا بأنّ رسول اللّه قال: لا تجتمع أمّتي على ضلالة (2) فلا تجهل الأمّة الفرض
ص: 67
و السنّة لكي تجتمع على الخطأ.
الجواب: الإمامة عندهم لا هي بالفرض و لا بالسنّة فاجتماع الأمّة لا يعدّ خطأ لأنّ الخطأ في الفرض و السنّة هكذا يقولون، أو أن يكون الحديث خبرا بمعنى النهي كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِ (1).
أو أنّ الإمامة ليست عامّة و إنّما هي خاصّة بأهل البيت عليهم السّلام، و لو كانت عامّة فإنّ الاجتماع عليها لم يكن عامّا لأنّ أهل البيت و بني هاشم و الخزرج شيعتهم لم يجتمعوا عليها أو أنّ عين «لا تجتمع» ساكنة و الراوي نطقها بالضمّ عفوا أو أنّه لا يعرف علم الإعراب و عنده أنّ معنى السكون في العين و الحركة واحد من ثمّ ارتكب الخطأ المنهيّ عنه شأنه شأن النواهي الأخرى (2).
مسألة: لا يجب على عليّ عليه السّلام الإعلان عن إمامته لأنّ الإمام عليه السّلام كالبحر أو كالكعبة يأتيه الناس لا أنّه يأتي الناس، و كان على اللّه أن ينصب الإمام كما قال لإبراهيم عليه و على نبيّنا و آله السلام: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (3) فأوكل أمر الإمامة إلى نفسه سبحانه و أبان عن صفة الإمام من كونه غير ظالم، و المخطئ ظالم أي مرتكب الخطيئة، و من يجوز عليه ارتكابها لا سيّما المشرك و عابد الوثن.
ص: 68
قال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ (1)، و قال: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً إنّ اللّه تعالى أوكل أمر الإمامة و الخلافة إلى نفسه، و أهل السنّة و الجماعة يردّون عليه حين يجعلونها موكولة إلى خلقه، ألا يرون أنّ الخلافة من آدم إلى الخاتم لم تكن موكولة إلّا إلى اللّه تعالى، و لا اختيار للناس فيها بل هي بمشيئة اللّه و إرادته وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (2) و هي سنّة بالغة.
مسألة: و قالوا: لو كان القوم على غير الهدى لنازعهم عليّ عليه السّلام و منعهم من ذلك، و هذا أمر منفيّ، و لا يعلّل النفي، و لا يكون العدم علّة.
الثاني: صالح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عام الحديبيّة بآية: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (3) و الصلح يحسن في حال عدم الناصر و العون و انقطاع المدد، و لكنّه حارب عندما تبدّلت الحال بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (4) و كذلك الإمام عليّ عليه السّلام فقد سالم مع فقدان الناصر، و لمّا ثبت كونه إماما منصوصا عليه من اللّه و رسوله فالإنكار على ما فعل أو ما ترك إنكار على اللّه و رسوله و هو كفر محض.
و من عجائبهم أنهم يروون عن رسول اللّه: من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار (5) و كذلك رووا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من عصى اللّه بمعصية؛ صغرت
ص: 69
أم كبرت ثمّ اتّخذها دينا و مضى مصرّا عليها فهو مخلّد بين أطباق الجحيم (1)، و مع هذا فقد اتفقوا على أنّ أبا بكر لم يكن خليفة رسول اللّه، و إنّما كانت إمامته بالبيعة و اختيار الأمّة و إلّا لكان قوله: «أقيلوني» كفرا و لم يقل رضيت لكم أحد هذين الرجلين: أبي عبيدة أو عمر، و هم يسمّونه و الحال هذه خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يستخلفه النبيّ باعترافهم، و فتحوا له بسبب هذا الافتراء بابا على جهنّم، و هم يقولون: مات رسول اللّه و لم يستخلف، و مثلهم كمثل الذي اشترى مملوكا و بعد شرائه صار حاكما عليه فهم الذين اختاروا أبا بكر و بايعوه بأيديهم فينبغي أن يكون الحكم لهم عليه لكن انعكست الآية فصار حاكما عليهم.
و العجيب في الأمر أنّه خليفتهم و لكن نسبوه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، من أجل تخدير العامّة لئلّا يطعنوا عليهم عداوة منهم لآل البيت و مع ذلك يأبون اعتباره حاكما فإذا غضبوا عليه عزلوه كما فعلوا بعثمان و يقولون عنه: إنّ الإمام وكيل عن المسلمين ما داموا رضاين بوكالته فإذا لم يرضهم نحّوه عن وكالته.
و لا يقولون ولاية عباد اللّه بيد اللّه سبحانه و هو أولى بالتصرّف في ملكه و أعلم بما يصلح عباده و لا يعلمون أنّ التصرّف بملك الغير بدون إذنه لا يستساغ، و كذلك التصرّف في عبيده تصرّف بغير إذنه و لا ترخيص منه، و من فعل لك فهو غاصب و ضامن و آثم.
قال اللّه تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ (2) و يقرؤون هذه الآية:
ص: 70
فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (1) و من الواضح أنّ الخليفة الذي لم ينصبه النبيّ و إنّما اختاره جماعة من الأمّة فينبغي أن يكون على باطل.
سؤال: و أقوى حجّة قال بها القوم: إنّ النبيّ لو كان نصّ على عليّ عليه السّلام لما خالفته الأمّة برمّتها.
الجواب: و ما أكثر النصوص التي خالفتها الأمّة خلافا من بعد خلاف، ثمّ إنّ موسى استخلف أخاه هارون كما نطق بذلك كتاب اللّه وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي (2) و كان موسى ترجى عودته بعد استخلافه أخاه و كان هارون عذب الحديث، فصيحا، مدرها، و القوم عبدوا العجل مع وجود هذين النبيّين بين أظهرهم فلا عجب من ترك أمّة نبيّ لا ترجى عودته خليفته و الميل إلى السامري و عجله، و هناك: عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ (3) أي أنّه صنع أيديهم و ليس فيه إلّا خروج الصوت منه على غير ما جرت به العادة و هنا «عجلا جسدا له كلام» و هناك سامريّ واحد قام بالالمر و هنا مائة سامريّ.
اعلم بأنّ عليّا عليه السّلام جاهد في سبيل اللّه بين يدي رسول اللّه فلم يترك بيتا ليس فيه واعية على واحد أو اثنين قتلهم عليّ بسيفه من ثمّ قاموا ضدّه انتقاما لقتلاهم و خالفوا النصّ مع أنّ النصّ هنا منقول شفاها و لا يحتاج إلّا إلى دقّة النظر و في مسألة موسى و هارون خالفوا العقل و النقل و ردّوا نبوّة النبيّ و تركوا أقواله و كان
ص: 71
النبيّان يومئذ حيّين و مع وجود هذه الحجج المتعدّدة فقد ارتدّ قوم موسى و لم يستحل ذلك عليهم فيكون ارتداد قوم لا يرون إلّا حجّة واحدة من طريق أولى.
مسألة: يقول المخالفون: لو كان النصّ على عليّ متواترا لكان العلم به ضروريّا لكلّ سامع كالصوم و الصلاة، و هذا باطل إذ لم يحصل به العلم الضروري.
الجواب: اعلم بأنّ منكري نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقولون: لو كانت معجزات محمّد متواترة لحصل العلم بها من السامع بالضرورة و ليست كذلك هي، و قالوا: و هي و إن صارت اليوم متواترة لكنّها لم تستو أطرافها فقد رواها في أوّل وقوعها فئة قليلة من الناس.
الجواب: و هذا نفس ما يقوله اليهود و النصارى أنّ معجزات النبيّ و إن تواترت اليوم إلّا أنّ رواتها فئة قليلة في أوّل وهلة، و جوابهم جوابنا لأنّ شبهة القوم واحدة.
مسألة: و قالوا: لماذا خصّ عليّ بالنصّ دون غيره؟
الجواب: و هذا الكلام باطل و منقوض بالأنبياء، فإنّ تخصيص محمّد بالرسالة كتخصيص عليّ بالولاية، فبماذا امتازا عن سائر خلق اللّه تعالى وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ (1) إنّ النبوّة و الإمامة فضل من اللّه و منّة منه على عباده يؤتيها من يشاء و اللّه أعلم.
ص: 72
أجمعت الأمّة على أنّ النبيّ لم يعهد إلى أحد اختيار رئيس أو أمير من أمرائه بل كان يتولّى ذلك بنفسه فيرسلهم إلى المدائن و على القبائل، فهو الذي يجيّش الجيوش و يختار الأمراء، كما اختار جعفرا قائدا حين بعث سريّة إلى مؤتة، و قال:
إن قتل فأميركم زيد بن حارثة، فإن قتل فأميركم عبد اللّه بن رواحة، فكيف يسوغ عدم نصبه إماما بعد موته و يترك الأمّة هملا؟
ثمّ إنّ رحمته بالأمّة كرحمة الوالد بولده كما قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّما أنا لكم كالوالد (1)، و جاء في القرآن الكريم: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (2) و على هذا فكيف يترك أمّته بمضيعة دون أن يقيم عليها إماما بعد موته مع شديد عنايته بها و حبّه لها و مع حكمته و رأيه الوثيق؟
و هو بالضرورة أعلم بمن يليق لهذا المنصب بواسطة الوحي، و يصلح به أمر
ص: 73
الأمّة، و تنتظم شئون حياتها، و هو مؤهّل لحمل هذا العبأ الباهض، هذا مع علمه بما يجري في الأمّة من النزاع و الاختلاف لا سيّما و قد أخبر الأمّة بذلك حين قال:
ستفترق أمّتي على ثلاث و سبعين فرقة و الناجية منها واحدة (1)، فلو لم يبيّن موقع النجاة لعدّ مقصّرا و حاشاه من ذلك في أمر الدين، و تكون آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (2) كذبا، و فساد هذا الاعتقاد لا يخفى على العقلاء.
فتبيّن ممّا تقدّم وجوب نصب الإمام على النبيّ لئلّا يقع الفساد الذي وقع، و أخبر عنه قبل وقوعه، و من قال: الإمام منصوص عليه، حصر الإمامة في عليّ و أولاده الأحد عشر إلى قائم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.
مسألة: و قالوا: ليس على الأمّة تنفيذ الأحكام الدينيّة من إقامة الحدود و تجهيز الفيالق و الجيوش لكنّهم يختارون واحدا منهم يكون ذلك بعهدته.
و العجب أنّ الإمام واحد منهم، و حكم عدم الجواز يشمله فمن أين أتته الرخصة في تنفيذ الأحكام؟ أمن اختيار الأمّة له؟ و هو غير جائز.
مسألة: و قالوا: يبقى عمل الأمّة و تنفيذ الشرع معطّلا حتّى يختار أهل الحلّ و العقد إماما
ص: 74
لهم، و قالوا: فإذا اختير في كلّ بلاد واحدا لا يبقى أمر الشرع معطّلا و لا مضطرب حبل الدين حتّى يختاروا واحدا من هذا المجموع ثمّ يعملون برأيه.
عجبا، إذا كان ذلك صحيحا و سائغا فما بال أصحاب السقيفة لم يصبروا حتّى يفرغ بنو هاشم من عزاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلّهم يشاركون في الاختيار و يدلّون برأيهم كغيرهم و هم أولى من غيرهم بهذا الاقتراع لو تحقّق بينما سارع القوم إلى خوض غمار هذه اللعبة بلا تمهّل أو انتظار، و لم يظهر على الأمّة أيّة أعراض لفتنة مقبلة أو إحداث شغب أو خصومة لكي يجعلوا ذلك ذريعة لأعمالهم المرتجلة أو يقولوا إنّا عجّلنا لإطفاء نائرة الفتنة.
فظهر أنّ الغرض الوحيد من هذه المسارعة هو اهتبال الفتنة قبل فراغ بني هاشم كي لا تتغيّر الأحداث و تتبدّل وجوهها، فقد لا يرضى بنو هاشم إلّا باستخلافهم دون من عداهم و حينئذ تفلت الدنيا من أيدي أركان السقيفة، و أخيرا اعترف عمر بن الخطّاب بهذا الأمر الذي دلّت عليه قرائن الحال و المقال بقوله: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها؛ فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ... (1).
و أعجب من هذا كلّه قوله: إنّ اختيار الإمام بيد علماء الأمّة فإنّ اختيار أبي بكر
ص: 75
من أبي عبيدة، و عمر من أبي بكر، و عثمان من عبد الرحمان بن عوف، و ليس أحد من العلماء كان حاضرا يوم ذاك، فهل حصلت شروط الاختيار هنا؟
و الأعجب من هذا أنّ الرجل في حياة النبيّ لم يكن ليستحقّ الصلاة في الناس جماعة، و لم تكن له أهليّة تبليغ آية من سورة برائة لأهل الموسم و قد عزله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كلا الحالين فكيف استحقّ بعد رسول اللّه إمامة الناس أجمعين؟ ما أشدّ وقاحة القوم!
مسألة: و زعموا أنّ رسول اللّه قال: اختاروا وليّكم فإنّهم وفودكم إلى اللّه (1)، و كذلك قال: يؤمّكم أقرأكم، فقالوا: إن كانوا في القرائة سواء؟ قال: فأفقههم (2).
و بهذه الرواية التي رووها يعلمون بأنّ عليّا كان حافظا للقرآن و لم يكن أبو بكر كذلك، و عليّ أفقه منه في العلوم الدينيّة و حلّ المشاكل و كان مفتي الصحابة و معهذا فقد قدّموا أبا بكر لإمامة الصلاة و غيرها نقضا للحديث المروي عنهم.
و يعلمون أنّ النبيّ سدّ جميع الأبواب الشارعة في المسجد إلّا باب عليّ عليه السّلام (3)،
ص: 76
ص: 77
و قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تعالى أمر موسى بن عمران أن يتّخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلّا هو و هارون و ابناه شبّر و شبير، و إنّه أمرني أن اتّخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلّا أنا و عليّ و ابناه الحسن و الحسين عليهم السّلام، فاجتمعت الخصال الموجبة لتقدّم أمير المؤمنين عليه السّلام فياليت شعري بأيّ فضّل قدّموا عليه أبا بكر.
و لمّا سئل هو و عمر عن قوله تعالى: وَ أَبًّا (1) فما أحارا جوابا و لم يعرفا لها معنى.
و أبو بكر هو القائل: ولّيتكم و لست بخيركم، أقيلوني أقيلوني و لست بخيركم؛
ص: 78
فإن استقمت فاتّبعوني، و إن اعوججت فقوّموني، و إنّ لي شيطانا يعتريني عند غضبي فإذا رأيتموني مغضبا فتجنّبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم (1).
و اختاروه مع قلّة علمه و نقصان فهمه و فقهه في الدين على عليّ الذي بسط اللّه يده على العالم كافّة مع كثرة العلم و القرابة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و زهده و طهارته كلّ ذلك يعلمونه منه كما يعرفون الجهل من صاحبهم، و لكنّهم أخّروه ردّا على اللّه و رسوله حيث قال: لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ (2).
مسألة: و قال الأنصار: نحن أولى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لنصرتنا إيّاه، و قال المهاجرون: بل نحن أولى به لقرابتنا و هجرتنا، و لم يدر بخلدهم أنّ عليّا حوى الفصيلتين: فهو أنصاريّ مهاجريّ و قرشيّ هاشميّ، فقال عليّ عليه السّلام: إنّ المهاجرين حاجّوا الأنصار بقرب قريش من رسول اللّه فإن كانت حجّتهم ثابتة فقد كنت إذن أحقّ بها لأنّي أقرب منهم، و لمّا بلغته بيعة أبي بكر قال هذين البيتين من الشعر:
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف بهذا و المشيرون غيّب
و إن كنت بالقربى حججت خصومهم فغيرك أولى بالنبيّ و أقرب (3) و قال عليه السّلام: بم احتجّ المهاجرون على الأنصار؟ قالوا: بصحبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،
ص: 79
فقال: يا عجبا! تكون الخلافة بالصحابة و لا تكون بالصحابة و القرابة!
و من عجيب أمرهم دعواهم أنّ إمامة أبي بكر تثبت عن إذن من أهل الحلّ و العقد و اختيار و تأمّل، هذا مع سماعهم قول عمر بن الخطّاب: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها، و هذا القول يكذب مزاعمهم، لأنّ الفلتة التي هي العجلة و البدار تضادّ ما يدّعون من التأمّل و الاختيار.
مسألة: و من عجيب أمرهم دعواهم أنّ الأمّة اجتمعت على إمامة أبي بكر مع علمهم بقلّة عدد المعاقد لها و تأخّر من تأخّر عنها، و إنكار المنكرين لها، و الخلف الواقع فيها في حال السقيفة و بعدها، فيقولون: إنّ من خالف من الأنصار و تأخّر من بني هاشم الأخيار (1) و ما كان مع أبي بكر إلّا نفر من قريش و هم عمر و عثمان و عبد الرحمان بن عوف و خالد بن الوليد و سعيد بن أبي وقّاص القرشي و سعيد بن العاص القرشي و سالم بن حذيفة الدعي، و جماعة من المجهولين حسبا و نسبا، و ليس من قريش إلّا هؤلاء العشرة و مع ذلك يسمّونه الإجماع.
ثمّ ينكرون أن يكون الإجماع حصل على حصار عثمان و قلعه و تكفيره و قتله، و لم يكن بالمدينة من أهلها و لا ممّن كان بها من أهل مصر و غيرهم إلّا محارب أو خاذل، و لم يحفظ عليهم في الإنكار إلّا قول القلل، و يدّعون أنّه و عبيده المحاصرين معه في الدار و مروان ابن عمّه قادحون في الإجماع، هذا و قد رام قوم من بني أميّة أن يصلّوا عليه فلم يتمكّنوا و همّوا أن يدفنوه في مقابر المسلمين فلم يتركوه حتّى مضوا إلى حشّ كوكب و هو بستان بقرب البقيع ثمّ أتوا ليجزّوا رأسه فصاح نسوة
ص: 80
من أهله و ضربن وجوههنّ فتركوه و داسه عمير بن أبي صابي فكسر ضلعا من أضلاعه ... (1) فلم ينكر عليهم أحد، و هذا المعنى أولى باسم الإجماع، فظهر من هذا بأنّ إجماعهم ربّما بني على الباطل و الظلم و غصب حقوق المسلمين (2).
و من عجيب أمرهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرسله إلى خيبر و أرسل بعده عمر فرجعا منهزمين و كان على رأس الجيش، و أرسل النبيّ أبا بكر مع جيش إلى واد قريب من المدينة ليلا فرجعوا منهزمين، فلم يحسن أن يدبّر الجيش بعقله و يرضي اللّه و رسوله فكيف يصحّ تحكيمه بالأمّة و حكمه عليها؟
و قاد الجيش عليّ بعده فهزم أولئك اللعناء و فرّق جمعهم و بدّد شملهم و كفى اللّه المسلمين شرّهم به، و إنّ رجلا بهذه الصفة من حسن القيادة و الحكمة أولى بالتقديم.
ص: 81
و قالوا: إنّ الإمام قدوة في الشريعة مع جواز جهله ببعضها، و لا يجيزون أن يكون فيها مع جهله بجميعها و قولهم: إنّه يرجع في البعض الذي لا يعلمه إلى الأمّة و لا يجيزون أن يرجع في الكلّ إذا لم يعلمه إلى أحد من الأمّة و لسنا نجد فرقا بين حاجته إلى رعيّته في بعض ما لا يعلمه و بين حاجته إليهم في كلّ ما لا يعلمه.
بل من العجب ان يكون الإمام محتاجا إلى من هو محتاج إليه، و مقتديا برعيّة يقتدون به، لأنّ هذا عند العقلاء من المناقضة القبيحة و هو دور واضح.
و من عجيب أمرهم أنّهم يروون عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من تولّى شيئا من أمور المسلمين فولّى رجلا شيئا من أمورهم و هو يعلم مكان رجل هو أعلم منه فقد خان اللّه و رسوله و المؤمنين، أي إنّ من حكم المسلمين لزم عليه إسناد الحكم و الرياسة إلى أعلمهم.
مع ذلك إنّ أبا بكر و عمر لم يولّيا أيّامهما عليّا عليه السّلام مع معرفتهما بكمال علمه، و يقدّمان الجهّال في الولايات عليه، و لا يستدلّون بذلك على خيانتهما للّه و لرسوله
ص: 82
و للمؤمنين (1) و إنّما نحّوه لئلّا يدرك الناس أنّه الأولى بالأمر، و لكن إذا نابتهم نائبة أو ألمت بهم مشكلة رجعوا إليه و اعتمدوا عليه .. و لو أنّهم دعوه لتولّى شأن من شئونهم لما قبله و حاشاه من قبول ذلك إلّا أنّ هذا لا يمنع من نسبة الخيانة إليهم.
مسألة: و من عجيب أمرهم قولهم: إنّ علوم الشريعة متفرّقة في الأمّة و أنّها قد أحاطت بها و هي الملجأ و المفزع فيها مع ما يدّعون من عصمتها، و يستعظمون قولنا أنّ الإمام هو المحيط بها و العالم بجميعها و الملجأ و المفزع فيها، و هو المسدّد المعصوم دونها (و ما انكروه منّا منكر منهم و ما أوردوه علينا وارد عليهم في عصمة الأمّة) و يقيمون أنفسهم في ذلك مقام المشركين الذين قالوا فيما تضمّنه الذكر المبين: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (2) (3).
مسألة: و رووا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: خذوا ثلث دينكم عن عائشة، لا بل خذوا ثلثي دينكم من عائشة.
فيا عجبا كيف يثبت لعائشة هذا الكمال الذي تميّزت به عن الأنام و استحال مثله في الإمام (4) (و هو مدينة علم النبي).
و من العجب إنكارهم أن يكون خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أمّته و المنفّذ بعده
ص: 83
أحكام شريعته حافظا لعلوم الشريعة محيطا بأحكام الملّة، مستغنيا في ذلك عن الرعيّة، و يدّعون أنّ شيخهم الجاحظ لعنه اللّه (1) على سخافته و هزله و خداعته و صلاعته و قبيح فعله و مشتهر فسقه قد عرف كلّ علم، و صنّف الرياضيّات و رسوم الأدبيّات إلّا و قد خاض فيه و عرف متصرّفاته و عجائبه و معايبه (2) الخ (لأنّ الجاحظ أظهر عداوة أمير المؤمنين عليه السّلام و عداوة أهل بيته و كتب في ذلك الكتب منتقصا بها عليّا و أهل بيته ... و قد ذكر في عدّة مواضع أنّ النبيّ قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها (3)) و كذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ، اللهمّ أدر
ص: 84
ص: 85
ص: 86
الحقّ معه حيثما دار.
و اتفقوا على أنّ عليّا أعلمهم، و عبد اللّه بن عبّاس واحد من تلامذته، فقد كان عمر مع ما هو عليه من جاه الخلافة يفتقر إليه في المسائل و يقول: «غص يا غوّاص»، و اعتبر برجل تلميذه غوّاص فإنّه بالأعلميّة أولى.
و قال له عمر بغير خلاف لمّا ردّه أمير المؤمنين عليه السّلام عن مواضع ظهر منه فيه الأغلاط: لو لا عليّ لهلك عمر.
مسألة: قالوا عن عليّ و أهل بيته المعصومين: إنّ هذه العصمة إن كانت منهم جاز أن يقع في غيرهم فيساويهم في منزلتهم، و إن كانت من اللّه سبحانه فجبرهم و اضطرّهم و لم يستحقّوا ثوابا على عصمتهم.
و الجواب: إنّ هذا قول باطل، لأنّها مساوية لعصمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هم مع ذلك معترفون بأنّ النبيّ معصوم في التأدية و التبليغ و معصوم عمّا سوى ذلك من جميع كبائر الذنوب في حال نبوّته و قبلها، و ما يجيبون به عن عصمة النبيّ فإنّه جوابنا بعينه بلا أدنى فرق.
الجواب: و من العجب قولهم أنّ العصمة ثابتة لجميع الأمّة منتفية عن كلّ واحد منها مع علمهم بأنّ آحادهم جماعتها و أنّها إذا كانت مؤمنة بأجمعها كان الإيمان حاصلا لا حاربا، و لو كفر جميعها لكان الكفر حاصلا مع كلّ واحد منها.
و قد قال أحد المعتزلة يوما و قد سمع هذا الكلام: فرق بين العصمة و ما ذكرت
ص: 87
من الكفر و الإيمان، و ذلك أنّ ما ثبت لكلّ واحد منها فهو ثابت لجماعتها، و ليس كلّ ما ثبت لجماعتها ثابت لكلّ واحد منها، فلذلك إذا آمن آحادها كان جميعها مؤمنين، و إذا كفر آحادها كان جميعها كافرين، و ليست إذا ثبت العصمة لجماعتها يكون آحادها معصومين.
فقلت له- الكراجكي-: ما رأيت أعجب من أمرك و انصرافك عن مقتضى قضيّتك إذا كان ما ثبت لكلّ واحد من الأمّة ثابتا لجميعها فقد ثبت عندي و عندكم الحكم على كلّ واحد منها بجواز الخطأ و النسيان و تعمّد الغلط في الأفعال و الأقوال فاحكم بثبوت ذلك بجميعها و أسقط ما ادّعيت من عصمتها، فلم يدر ما يقول بعدها ... (1).
و مع هذا يجيزون الخطأ على الآحاد و يدّعون العصمة للمجموع، و ما الفرق بين الآحاد في جواز اجتماعهم على الكفر و تبرئة الأمّة من ذلك بادّعاء عصمتها؟ و هل هذا إلّا محض عناد.
و مثال ذلك الماء فإنّ النقطة منه إن كانت رطبة فينبغي أن يكون المجموع كذلك، و كذلك الزنج فإذا كان أحدهم أسود فإنّ المجموع كذلك، و هذا من صور البسائط كون حكم الجزء و الكلّ واحدا بخلاف المركّب، و لمّا كان آحاد الأمّة يجوز عليهم الخطأ فجوازه على الأمّة كذلك و هي محتاجة إلى الإمام كآحادها، و لمّا كان جواز الخطأ في الكلّ قديما احتاج الكلّ إلى إمام معصوم، فإن لم نفترض عصمته احتاج إلى إمام معصوم يكون عليه يردّه عن الخطأ و إلّا لاحتاج إلى إمام آخر لا يخطأ و هكذا يؤدّي الحال إلى التسلسل.
ص: 88
و إنّهم جعلوا حجّتهم في عصمة الأمّة و في أنّ إجماعها صواب و حجّتهم خبر نسبوه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو أنّه لا تجتمع أمّتي على ضلال، و هذا الخبر لا يمكنهم على أصلهم أن يدّعوا فيه التواتر إذا كان غير موجب لسامعيه على الضرورة بصحّته فهو لا محالة من أخبار الآحاد فهم إذا قد جعلوا دليل الدعوى بأنّ الأمّة لا تجتمع على ضلال قول بعضها و الحجّة على عصمتها شهادة واحد منها و لم يعلموا أنّ الخلاف في قول جميعها يتضمّن الخلاف في قول بعضها و التخطئة بسائرها يدخل في التخطئة بواحدها ... (1). و يمكن أن يكون قول هذا الراوي واجد الخطأ و كذبا فيكون إجماع الأمّة على الكذب.
و من عجيب أمرهم أنّهم لا يجيزون إمامة الفاسق و يجوّزون أن يكون الإمام باطنه فاسقا، و يحتجّون في نفي من ظهر فسقه بأنّهم لا يأمنونه على إقامة الحدود و لا يثقون به في حفظ الأموال و صرفها في الواجبات ثمّ يأتمنون على هذه الأمور من يجوّزون عليه الفسق و الفجور و ارتكاب كبائر الذنوب و من لا يخيّلون أن يكون في باطن أمره على ضلال و كفر و إشراك (2)!
و العجب منهم أن لا يجيزوا إمامة الفاسق معلن الفسق و يجيزون إمامة الكافر في الباطن و بناءا على هذا لا يبعد أن يكون أئمّتهم كافرين باطنا و إذا لم تجز إمامة الفاسق فكيف تجوز إمامة الكافر (3)!
مسألة: و قالوا: يجوز تقديم المفضول على الفاضل، و هذا يستنكره العقلاء و يقبّحونه
ص: 89
و غرضهم من هذا الأمر المخالف للعقل و الشرع تقديم أبي بكر الفاقد لكلّ خصلة حميدة و مزيّة مجيدة على عليّ و هو الأعلم و الأشجع و الأكمل و الأكثر عملا و الأشدّ خوضا في ميدان الجهاد و نصر دين اللّه (1) و مع ذلك قدّموه عليه على أنّه لا نسبة بينه و بين الإمامة، و يلزم أن يكون رعيّة فصيّروه راعيا، و من له التقدّم جعلوه رعيّة، و منعوه من أجل مراتبه و هي الإمامة، و لم يقبلوا أمره و نهيه، و صيّروه تابعا للجهّال، و مثلهم كمثل الذي أعطى المعلّم للمتعلّمين يعلّمونه، و النبيّ جعله تابعا للموالي و العبيد، و هذا شأن ينكره العقل و يقبّحه العقلاء (2) و قد استغاث فيهم أمير المؤمنين عليه السّلام متظلّما و شكاهم إلى اللّه مستعديا فقال: اللهمّ إنّي أستعديك على قريش فإنّهم قطعوا رحمي و اكفوا أثاثي و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به من غيري، و قالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه و في الحقّ أن تمنعه فاصبر مغموما أو مت متأسّفا.
و من عجيب أمرهم تمحّلهم الباطل في الاعتذار لتقديم المفضول على الفاضل، قولهم: إنّ العاقدين خافوا أن يلي الفاضل عليهم فيرتدّ إلى الكفر قوم منهم لما في نفوسهم عليه من الأحقاد و ما بينه و بينهم من الغائل و الترات فوجب تأخيره و تقديم من دونه ليؤمن من وقوع هذه الحال و تسكن نفس من يخاف منهم الارتداد (3).
ص: 90
الجواب: و هذا باطل بإرسال الرسل (1) فقد نسوا ما قد أجمعوا عليه معنا و لم يخالفونا فيه من أنّ الحكيم يجب أن يفعل أفضل الأمور و أعلاها و أشرفها و أولاها، و إن ضلّ من ضلّ و كفر من كفر كإرساله سبحانه الأنبياء إلى من يعلم أنّهم يقتلونهم و يزدادون في غيّهم، و تبليغه أطفالا يعلم من حالهم أنّهم يكونون كفّارا إذا بلغهم و تكليفه قوما قد علم انّهم يضلّون إذا كلّفهم فكيف صار من الحكمة و العدل فعل هذه الأمور و إن ضلّ معها الجمهور، و من الظلم و الجور تقديم المفضول على الفاضل خوفا من ضلال قليل من كثير و لا انقادوا إلى هذا الفاضل و اتّبعوا في ذلك الواجب، فيكون الحجّة من خالف و عاند.
(قال المؤلّف (2):) و على هذا ينبغي أن لا يكلّف اللّه عباده بطاعة أمر رسله، لأنّه عند إرسال الرسل عاندهم الناس و كفروا و ارتدّوا و مع هذا فقد أرسل اللّه إليهم أفضل الناس.
و كذلك نقول: لو لا التكليف لكان الناس في بال من الأوامر و النواهي و مثله العقل إذ لولاه لكان الناس مجانين و عاشوا في أمن من التكاليف و كان الناس جميعا من أهل الجنّة ...
جواب آخر: إنّ الذي يدرأ الشرّ و الخبث و النفاق هو اتّباع الفاضل و الانقياد لأوامره و نواهيه، لكي يمتنع الفساد و الارتداد، ألا ترى أنّ موسى حين أزمع الغيبة نصب
ص: 91
أخاه هارون على بني إسرائيل مع علمه أنّ بني إسرائيل سوف يرتدّون و يعبدون العجل و اختار هارون لأنّه الأفضل لا واحدا من بني إسرائيل (1).
و يزعم الخصم: أنّ الأمّة لو قالت لا نؤمن حتّى تخرجوا هذا المؤمن من بيننا وجب حينئذ إخراجه كما فعل عثمان بأبي ذر الغفاري من بين الصحابة من أجل تسلية خاطره و هو حبيب رسول اللّه وردّ طريد رسول اللّه من النفي لكي لا يضلّ الناس بزعمهم «نعوذ باللّه من هذه الضلالة»:
لو سلّموا لوليّ الأمر أمرهم يأسل (2) بينهم في الأرض سيفان مسألة: و من عجيب أمرهم اعتمادهم على هذا الاعتذار مع علمهم باختلاف الناس بأبي بكر لما تقدّم و كراهيّتهم له مع علمهم و معرفته بما كان من أهل اليمامة لخالد بن الوليد: و اللّه لا أطعنا لأبي فصيل أبدا، و قول خالد: و اللّه لأرفعت السيف عنكم حتّى تتأمّروا بالفحل لا لأكبر، فكان من أمرهم معه ما قد اشتهر من الحرب المبيرة و الفتنة العظيمة و سفك الدم و سبي الحريم و هلاك من لا يحصى (3).
و قالوا: السبي غنيمة و هذا الارتداد ما كان لو لا تقديم أبي بكر على الناس،
ص: 92
و من العجب نسيانهم عند هذا الاعتذار كراهيّة الناس تقديم أبي بكر عمر عليهم، و نفورهم من نصبه عليهم حتّى حلّفوه اللّه عزّ و جلّ و قالوا له: ما أنت قائل إذا لقيته و قد ولّيت علينا فظّا غليظا، و اللّه ما كنّا نطيقه و هو رعيّة فكيف إذا ملك الأمر فاتّق اللّه و لا تسلّطه على الناس، فغضب و قال: أبا للّه تخوّفوني؟!! أقول: يا ربّ، ولّيت عليهم خير أهلك (1)!
و هذا من العجب أن يكون تقديم هذين مع كراهة الأمّة لهما لا يقتضي تأخيرهما و كراهيّة بعضهم لعليّ تقتضي تأخيره ... (2).
و من العجب اعتذارهم في تأخير الفاضل بما قد اعتذروا به مع سماعهم قصّة طالوت المذكورة في القرآن و تلاوتها عليهم ما اتّصلت الأيّام و لا ينتهون بها من رقدة الضلال حيث كرهه الناس و قالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ (3) فلم يمنع كراهتهم له من تقديمه، و أخبر اللّه سبحانه بما أوجب رياسته عليهم و تقدّمه، فقال: قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ (4) فأخبرهم أنّ اللّه آتاه من علمه و قوّته اقتضى تقديمه في حكمته فكيف لم يعتبروا بهذا من قول اللّه سبحانه فيعلموا أنّهم على ضلال في تقديم من عرف ضعفه في علمه و جسمه على من حصل الاجتماع على أنّ اللّه تعالى قد جعله في
ص: 93
بسطة من العلم و الجسم كطالوت في قومه (1).
مسألة: و من عجيب أمرهم أنّهم اعترفوا بأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام الفاضل بحكم اللّه أعلى الناس قدرا و أرفعهم محلّا و ذكرا، و أزكاهم عملا و أولاهم بالمدح و الثناء، و أنّه لا يحلّ استنقاصه و لا يسوغ ذمّه ثمّ أجمعوا مع ذلك على كفر الخارجين من طاعة أبي بكر و استحلال دم ما يعتد (كذا) الزكاة و سبي حريمهم و لم يقيموا للشاكّ في إمامتهم عذرا، ثمّ بسطوا عذرا للشاكّ في إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام و الممتنعين عن نصرته الخارجين عن وجوب طاعته كسعد بن أبي وقّاص و حسّان بن ثابت و عبد اللّه بن عمر و محمّد بن مسلم و أسامة بن زيد القاعدين عن إمامته و الخاذلين الناس عن نصرته (2).
هؤلاء الذين خرجوا على عليّ الأفضل عليه السّلام نحتوا لهم الأعذار و أقاموا لهم البيّنات على أنّهم مصيبون و تابوا، نعم إنّهم تابوا و لكن في نار جهنّم كما قال تعالى:
فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (3) و قال: أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي
ص: 94
كُنَّا نَعْمَلُ (1) و قالوا: إنّ الذين قاتلوا عليّا هم و إيّاه في الجنّة و من أعدائه عائشة و طلحة و الزبير و حسّان بن ثابت و محمّد بن مسلمة و أسامة بن زيد و عبد اللّه بن عمر و سعد بن أبي وقّاص، و يعتبرون هؤلاء من أهل الجنّة و هم مجتهدون في قتالهم لعليّ و تطلّبهم لقتله و قتل أهله و بنيه و هم مصيبون أيضا.
و العجب أنّ الشاكّ في خلافة المفضول يوجب الكفر و إباحة دم الفاضل و الشكّ في خلافة الفاضل و إعلان الحرب عليه شرع و دين «فاعتبروا يا أولي الأبصار من خرافات الأشرار» ألا لعنة اللّه على القوم الظالمين.
ص: 95
قال بعض المخالفين عن عائشة أنّها قالت: لمّا ثقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عجز عن الخروج إلى الصلاة أمر أبا بكر بأن يصلّي بالناس، فلمّا كبّر تكبيرة الإحرام سمعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقام و رجلاه تخطّان في الأرض و هو متّكئ على رجلين أحدهما الفضل ابن العبّاس، فأخّر أبا بكر عن المحراب.
و قال بعضهم: أتمّ أبو بكر صلاته.
و هذا غير جائز بعدد من الحجج الجليّة:
الأوّل: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (1) فإذا كان أبو بكر قد تقدّم فعلا فإنّه خالف قوله تعالى.
الثاني: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (2) فإذا كان أبو بكر إماما فلا بدّ من رفع صوته فوق صوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو مخالف لقول اللّه تعالى و ذلك كفر.
ص: 96
و يقول خصومنا: إنّها كانت صلاة الصبح.
الثالث: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (1) و لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عازما على الخروج فقد كان الأجدر بأبي بكر الصبر حتّى يخرج النبيّ إليهم و لكنّه عمل على خلاف قول اللّه تعالى.
روي أنّ رسول اللّه قال: إنّ الصلاة جائزة خلف البرّ و الفاجر و مع هذا لا يجيزون للفاجر أن يتولّى الإمامة العامّة و إمامة الصلاة داخلة في الإمامة العامّة إذن بالنسبة إلى إمامة الصلاة يجوز أن يكون الإمام فاجرا، و بناءا على هذا المذهب يقتضي أن يكون هذا الشخص فاجرا و غير فاجر في نفس الوقت، و حينئذ يجب أن يكون الإمام العام غير مقيم لصلاة الجماعة.
قالت عائشة: و لمّا سمع رسول اللّه صوت أبي بكر في المسجد يصلّي بالناس جماعة قام و هو مريض و اتّكأ على منكب عليّ و الفضل و رجلاه يخطّان في الأرض حتّى بلغ المسجد و تقدّم و صلّى بالناس و حينئذ لمّا عزله الرسول في آخر أيّامه عن صلاة الجماعة فلا تكون إمامته عامّة و لا يعلمون بأنّ النبيّ حين استأنف الصلاة بعد تنحيته أبا بكر دلّ ذلك على بطلان صلاته و صلاة من اقتدى به.
و قول عائشة هنا يدلّ على أنّه تقدّم للصلاة من دون إذن النبيّ و إلّا لما عزله.
و حينئذ يمكننا الجزم بأنّه تقدّم للصلاة بتدبير عائشة حيث أرسلت إليه بلال و آذنه بالصلاة.
مسألة: روى هؤلاء أنّه وقع تنازع بين قبيلتين من قبائل الأنصار فذهب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليصلح بينهما فتأخّر عن صلاة العشاء، فقدّموا عبد الرحمان بن عوف ليأمّهم في
ص: 97
الصلاة فجاء النبيّ و اقتدى بعبد الرحمان بن عوف و لمّا سلّم لم يرض المسلمون أن يأتمّ النبيّ بواحد من أمّته فلمّا فرغ، قالوا: يا رسول اللّه، أتصلّي خلف رجل من أمّتك؟ فقال: ما يموت نبيّ من الأنبياء حتّى يصلّي خلف رجل من أمّته ... (1).
فإن صحّت هذه الرواية كان عبد الرحمان أولى بالإمامة و الخلافة من أبي بكر، لأنّه لم يعزل عبد الرحمان هنا باتفاقهم و اقتدى به في الصلاة و أتمّ صلاته و هنا لم يقتد بأبي بكر و قطع صلاته. و هناك أجمعت الأمّة على إمامة عبد الرحمان و رضيه رسول اللّه إماما، و هنا اختيار عائشة و عزل رسول اللّه و عبد الرحمان بزعمهم مرضيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أبو بكر صلّى صلاة متنازعا فيها و لم يتمّها، و عبد الرحمان إمام النبيّ و الأمّة و لا شي ء من هذا لأبي بكر.
مسألة: قال الخصم: كان عليّ يعظّم الصحابة و هذا دليل على صحّة إمامتهم.
الجواب: من الظاهر المعلوم بأنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام و محمّد بن الحنفيّة و عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن جعفر و جابر بن عبد اللّه الأنصاري رضي اللّه عنهم و غيرهم يعظّمون معاوية من أجل التقيّة و هذا لا يدلّ على صحّة إمامة معاوية، و حال عليّ مع القوم كحال هؤلاء مع معاوية .. (2).
ص: 98
و لمّا نال عليّ الحكم غيّر كثيرا من الأحكام التي ابتدعوها في الإسلام و ما عجز عنه تركه على حاله كشأن نوافل شهر رمضان و كانوا يصلّونها جماعة فمنعهم عليّ عليه السّلام من ذلك فصاحوا صيحة واحدة (وا عمراه نهينا من سنّة عمر) و سمّوا البدعة سنّة.
و قال عليّ عليه السّلام: لو تشبّثت قدماي لغيّرت أمورا كثيرة (1).
ص: 99
و كذلك قال: فإن ترتفع عنّا و عنهم محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه، و إن تكن الأخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إنّ اللّه عليم بما يصنعون (1) (و لا تأس على القوم الفاسقين- المؤلّف).
و يظهر من هذه الأخبار أنّه عليه السّلام لم يتمكّن من التغيير و إنفاذ حكمه، و الدليل الأشدّ وضوحا من هذا و الأكثر صراحة من هذه الرواية الخاصّة و العامّة أنّ عليّا عليه السّلام قال: و اللّه لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم حتّى ينطق (يزهد- المؤلّف) كلّ كتاب و يقول: يا ربّ، قضى عليّ فينا (في هذا- المؤلّف) بقضائك ... (2).
و من هنا يعلم جيّدا أنّه لم يكن قادرا على تنفيذ الأحكام الشرعيّة لذلك كان يقول لقضاته: اقضوا بما كنتم تقضون حتّى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي (3).
مسألة: و هم لا يجيزون التقيّة على الإمام و يقولون: هو حجّة في الحرام و الحلال و الخطأ و الصواب و الأمر و النهي، من هنا لا تجوز التقيّة عليه.
مسألة: و يقولون: إنّ الأئمّة صفوة أخيار و طائفة أبرار و التقيّة عليهم جائزة إذا اعترضت الأسباب و إجماع الأمّة حجّة، و الأمّة معصومة كالإمام عندنا، و ما يقولونه في الجواب هنا فهو جواب لنا، و مع هذا و هم يعلمون أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استعمل
ص: 100
التقيّة في الشعب و في الغار كما أنّ فرار موسى من فرعون كان محض تقيّة فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ (1) و قال تعالى: فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (2) كما أنّ الأنبياء ما رسوا التقيّة كلّ بحسب ظروفه و ما صاحبنه من قرائن الأحوال، قال اللّه تعالى:
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ (3) و لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (4) و هذه عين التقيّة، و لا تنس الصلح يوم الحديبيّة (5).
ص: 101
روى عبد اللّه بن عبّاس في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ (1) قال: نزلت هذه الآية بشأن عليّ عليه السّلام.
و روى مجاهد عن أبيه: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ (2) محمّد وَ صَدَّقَ بِهِ عليّ.
و روي أيضا عن ابن عبّاس، و الاتفاق حاصل على ذلك: الصدّيقون ثلاثة:
حبيب بن مرّي النجّار و هو مؤمن آل يس، (مؤمن من الحواريّين- المؤلّف) (3) و عليّ بن أبي طالب و هو أفضلهم.
و أجمع المحدّثون على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (4).
ص: 102
و لا يسمّى أبو ذر مع ذلك صدّيقا، و جرت عادتهم على الاستهانة بأمر محبّي عليّ عليه السّلام وردّ حديثه (1)، و يسمّون أبا بكر خليفة رسول اللّه مع اعترافهم بأنّ رسول اللّه لم يستخلفه، فتبيّن على هذا أنّ في مذهبهم يسمّون من ليس بأمين و لا هو بقاض أو عالم و لا رسولا لرسول اللّه، أمينا و قاضيا و عالما و رسولا ...
و لمّا خرج النبيّ إلى تبوك، قال: يا عليّ، إنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، و قال:
أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي (2).
و لم يختلفوا في هذا الحديث بشي ء قطّ، و مع هذا لم يستخلف، و قد تعجّب أمير المؤمنين عليه السّلام من استقالة أبي بكر و نصّه على عمر حيث قال: فواعجبا بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته (و الغافل يعلم أنّ هذين الفعلين في غاية التناقض لأنّ الاستقالة تدلّ على التبرّي و الكراهة، و النصّ على الرغبة) و هذا معنى قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ (3) ... وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ (4).
و من العجب أن يؤمّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أسامة بن زيد على جماعة من أصحابه فيهم
ص: 103
أبو بكر و عمر، ثمّ يموت و لم يعزله فلا يسمّى أمير رسول اللّه ... و قد روي أنّ أسامة يوما غضب على أبي بكر و قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمّرني عليك فمن استعملك عليّ، فمشى إليه هو و عمر حتّى استرضياه، فكانا يسمّيانه مدّة حياته أميرا (1).
و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هذا فاروق أمّتي يفرق بين الحقّ و الباطل (2).
و جاءت الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حقّ عليّ عليه السّلام أنّ محبّته علم على طيب الولادة و بغضه علم على خبث الولادة (3).
و روي في الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما كنّا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم اللّه و رسوله و التخلّف عن الصلاة الخمس و البغض لعليّ بن أبي طالب (4).
و طالما قال عليّ عليه السّلام عن نفسه: «أنا الصدّيق الأكبر، أنا الفاروق الأعظم».
و من عجيب أمرهم مثل هذا قولهم أنّ عثمان بن عفّان ذو النورين و اعتقادهم من نحله هذا بأنّه تزوّج بابنتين كانتا فيما زعموا لرسول اللّه من خديجة بنت خويلد، و قد اختلفت الأقوال فيهما: فمن قائل أنّهما ربيبتاه، و أنّهما ابنتا خديجة من سواه،
ص: 104
و من قائل أنّهما ابنتا أخت خديجة من أمّها و أنّ خديجة ربّتهما لمّا ماتت أختها في حياتها (1) ... (و لا يقولون أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ذو النورين و هو أبو السبطين (2).
و سمّى اللّه نساء النبيّ جميعا أمّهات المؤمنين و هم خصّوا عائشة بهذا الاسم؛ لأنّ باقي النساء لم يحاربن عليّا عليه السّلام، بينما خديجة أوّل الناس إسلاما و أنفقت ألوف الدنانير و جملة من الجواهر الثمينة في سبيل اللّه، و قال رسول اللّه: ما نفعني مال كمالها، و رزقني اللّه الولد منها، و لم يتزوّج في حياتها إكراما لها، و كان يكثر من ذكرها و الثناء عليها، و لكثرة ما كان يذكرها قالت له عائشة يوما: تكثر من ذكر خديجة و قد أبدلك اللّه من هو خير منها، فقال: كلّا، و اللّه ما بدّلت بها من هو خير منها؛ صدّقتني إذ كذّبني الناس، و آوتني إذ طردني الناس، و أسعدتني بمالها، و رزقني اللّه منها الولد و لم أرزق (الولد) من غيرها (3).
ص: 105
و عائشة (و حفصة- المؤلّف) مذيعة سرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التي شهد القرآن بأنّها و صاحبتها قد صغت قلوبهما و أنّهما تظاهرتا عليه و تحاملتا (1) فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ (2) و هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و قال تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ (3) و يظهر من مفهوم الآية أنّهما ما كانتا مؤمنتين، و لا مؤتمنتين، و لم يكن عندهما إيمان و توبة.
و لمّا قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لتقاتلين عليّا و أنت ظالمة له (مع قول اللّه تعالى أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (4) و كيف استحقّت هذه أن يعلن القول بأنّها أمّ المؤمنين و ينادى بتفضيلها على رؤوس العالمين، فإنّا لا نعرف فعلا استحقّت به هذا التمييز) اللهمّ إلّا أن تكون استحقّت بذلك بحربها أمير المؤمنين عليه السّلام و مجاهرتها بعداوته و القدح فيه (5) [و عداوتها لفاطمة عليها السّلام].
و إنّهم يقولون إنّ معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين، و يقولون إنّه استحقّ بذلك بسبب أنّ أخته أمّ حبيبة بنت أبي سفيان إحدى أزواج النبيّ الذين هنّ بنصّ القرآن للمؤمنين أمّهات و لا يسمّون محمّد بن أبي بكر (6) و لا عبد اللّه بن عمر،
ص: 106
و السبب في ذلك أنّ معاوية شهر السيف في وجه عليّ و أنّه قاتله.
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه، و بعد ظهور الإسلام استسلم معاوية قبل وفاة النبيّ بخمسة أشهر أو ستّة أشهر، و قد هرب يوم فتح مكّة إلى اليمن، يطعن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يكتب إلى أبيه صخر يعيّره بإسلامه (1) بعد أن كتب إليه أبوه يستقدمه و يطلب منه أن يسلم، فكان جوابه يذكر فيه أمورا منكرة في حقّ النبيّ (2) و طرح نفسه على العبّاس بن عبد المطّلب فسأل فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعفا عنه ثمّ شفع له أن يشرّفه و يضيفه إلى جملة الكتاب فأجابه، و كان أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و غيره كاتبا للوحي ثلاثا و عشرين سنة فما سمّوه كاتب الوحي و سمّوا معاوية كاتب الوحي، و لم يمرّ عليه في الكتابة إلّا ستّة أشهر، و كان كتّاب الوحي أربعة عشر كاتبا أقربهم من رسول اللّه و أحبّهم إليه أمير المؤمنين عليه السّلام، و قضى معاوية عمره منافقا ناقما على الإسلام.
إنّ مجرّد الكتابة لا يحصل بها الفضل ما لم يقارنها صحيح الإيمان لأنّه قد كتب لرسول اللّه عبد اللّه بن أبي سرح ثمّ ارتدّ مشركا، و فيه نزل: وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (3)، و مثله النصراني الذي كان كاتب الوحي فارتدّ من الإسلام و مات على الكفر و دفن فلم تقبله الأرض ... فعل به ذلك ثلاث مرّات، و لّما طلع الصباح و أقبلوا على قبره وجدوه مرميا في الصحراء، فقال إخوانه النصارى: هذا من عمل محمّد و أصحابه، و لكنّهم علموا أنّ ذلك عملى دني ء لا يفعله النبيّ و لا الأصحاب بل كان على أثر ارتداده و كفره، و تركوه
ص: 107
بلا دفن حتّى أكلته السباع، و كان معاوية واحدا من هؤلاء (1).
(و المأثور أنّ رسول اللّه لعنه على منبره) و أخبر أنّه يموت على غير ملّته.
و روي عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال: أتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فسمعته يقول: (يطلع عليكم رجل يموت على غير سنّتي) يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل من أهل النار، فطلع معاوية (2). (3)
و أخذ معاوية بيد أبيه يوما و النبيّ يخطب، فقال: لعن اللّه القائد و المقود ...
و المشهور أنّه هلك على حالة السكر و شربه سبع سنين، و وضع الصليب في عنقه يتداوى به و كان قد طلبه من يوحنّا (كنيسة يوحنّا- التعجّب 39) و علّقه في عنقه.
و روي أيضا أنّه تشا فى بلحم الخنزير فأكله قبل موته، و غير ذلك.
و إذا شككت بهذه الأخبار فاعلم يقينا أنّه قتل في يوم من أيّام صفّين سبعين صحابيّا أحدهم عمّار بن ياسر الذي قال في حقّه رسول اللّه: خالط الإيمان لحمه و دمه، و قال: يا عمّار، تقتلك الفئة الباغية (4).
ص: 108
و قتل أويس القرني في ذلك اليوم.
و سنّ سبّ عليّ على المنابر في المحافل، و برأ من أهل بيت النبوّة، و حمل الناس على البرائة.
أليس شخص بهذه المثابة يكون التظلّم منه واجبا، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: عليّ سيف على أعداء اللّه، و رحمته لأوليائه.
و قال على المنبر: أنا سيف اللّه على أعدائه و رحمته لأوليائه (1).
و أمّا خالد فقد سماّه أبو بكر سيف اللّه يوم قتل مالك بن نويرة وزنى بزوجته، و من المعلوم عند العلماء أنّه كان السبب في قتل المسلمين في يوم أحد، و ما ابتلي به الرسول من الأذى حتّى كسرت رباعيّته و أدمي فمه و شجّت جبهته، و قتل حمزة و سرى القتل في أنصاره، لأنّه هجم على المسلمين بمأتي راكب من ثغرة الجبل، و كمن للمسلمين حتّى إذا خلت الثغرة من الرماة و لم يبق إلّا قائدهم عبد اللّه بن جبير فقتله و استشهد معه جماعة من المسلمين على يد خالد بن الوليد، و ما دخل على الإسلام من وهن كان من ذلك اليوم المشوم.
و كان سيفه يقتل المسلمين و النبيّ على قيد الحياة و بعد وفاته، ثمّ لمّا تظاهر بالإسلام بعثه النبيّ إلى بني خزيمة ليأخذ منهم صدقاتهم، و كان بينه و بينهم عداوة، و ذحل في الجاهليّة، فخانه في عهده و خالفه على أمره، و قتل المسلمين و استعمل في ذلك ترة كانت بينه و بينهم في الجاهليّة حتّى قام النبيّ خطيبا بالإنكار عليه رافعا إلى السماء يديه حتّى رئي بياض إبطيه، و هو يقول: اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع
ص: 109
خالد، ثمّ أنفذ إليهم بأمير المؤمنين عليه السّلام ليلا في فارطه و أمره أن يدني القوم و يسترضيهم، ففعل ذلك إليهم، و بلغ به مبلغا سرى به عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (1).
و لمّا قبض النبيّ و أنفذه أبو بكر لقتال أهل اليمامة قتل منهم ألفا و مأتي نفس (ألفين و مأتي نفس- المؤلّف) و هم على ظاهر الإسلام، و قتل مالكا صبرا و هو مسلم (2).
و أراد قتل أمير المؤمنين بأمر أبي بكر حتّى كفاه اللّه شرّه.
و لمّا مضى بسوء عمله ورث ابنه عبد الرحمان عداوة أمير المؤمنين عليه السّلام و بارزه مع معاوية بالحرب و جاهر بسبّه.
و العجب من مخالفينا أنّهم يروون قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من لقي اللّه و في قلبه مقت (بغض- المؤلّف) لعليّ بن أبي طالب لقى اللّه يهوديّا (و هو يهوديّ- المؤلّف) و هم يعلمون بأنّ خالدا لعنه اللّه يبغض عليّا عليه السّلام و مع ذلك يسمّونه سيف اللّه.
و من العجب أن تمنع بنو حنيفة من حمل الزكاة إلى أبي بكر و لم يصحّ عندهم إمامته فيسمّونهم أهل الردّة و يستحلّون دمائهم و أموالهم و نسائهم (و يفعل فيهم خالد ما قصصناه عليك و علمته- المؤلّف) ثمّ ينكث طلحة و الزبير بيعة أمير المؤمنين عليه السّلام و يخرجان مع عائشة يستنفرون الخلق و يتناهون مع من تبعهم في حربه و لا يسمّون مع ذلك أهل الردّة (و لا يتحمّلون من فعلهم هذا أيّ غرم، و تصبح رممهم مشاهد تزار من أهل السنّة و الجماعة، و يسمّونهم مؤمنين، و بنو حنيفة لمنعهم الزكاة عن أبي بكر يستحقّون أن ينزل بهم ما نزل) و قد بلغهم قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: حربك يا عليّ حربي، و سلمك سلمي، و قد علمنا أنّ من حارب
ص: 110
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كافر [فيجب أنّ من حارب أمير المؤمنين كافر كذلك] (1).
و العجيب من أمرهم أنّهم يأخذون الدين و شريعة رسول اللّه بالقياس و اجتهادات الرأي لآحاد الناس و بأهوائهم و فتاوى علمائهم متضادّة و مع ذلك يسمّون أنفسهم أهل السنّة و الجماعة، و الشيعة العاملون بنصوص الأئمّة المعصومين و بها يفتون و يرفضون القياس و اجتهاد أهل السنّة و الجماعة (2).
مسألة: لماذا لم يدع عليّ إلى نفسه في خلافتهم و قد كان الدين و الأمّة معه؟
الجواب: لقد جاءه العبّاس، فقال: يابن أخي، ابسط يدك حتّى أبايعك فيقول الناس عمّ رسول اللّه بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان، فأجابه عليّ عليه السّلام: إنّ رسول اللّه عهد إليّ أن لا أدعو أحدا حتّى يأتوني، و لا أجرّد سيفا حتّى يبايعوني، فإنّما أنا
ص: 111
كالكعبة أقصد و لا أقصد، و مع هذا فلي برسول اللّه أسوة حسنة (1).
و نقول أيضا: لمّا علم عليه السّلام أنّ القوم بغاة فلا تؤثّر فيهم الدعوة لزمه حينئذ ترك الدعوة كما فعل هارون في قوم موسى أي بني إسرائيل، و الدليل على ذلك أنّه عليه السّلام لمّا وجد أنصارا بعد مقتل عثمان دعا إلى نفسه و حاربهم.
مسألة: أمّا كونه لم يغيّر أحكامهم فإنّه بسبب عجزه عن ذلك و قد صالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المشركين في الحديبيّة لوم يختلف معهم و لم يخالفهم.
و في يوم قتل فيه عثمان استخفى الإمام عن الناس في حائط بالمدينة لئلّا يقول الناس أنّه راغب في الأمر و طلبه لنفسه، فلمّا فرغ الثائرون من أمر عثمان أقبلوا إليه يطلبونه و غلبوه على أمره فأظهر الامتناع من القبول، فهدّدوه بالقتل إن أبى، و عبّر الإمام عن ذلك بهذه العبارة: حتّى أتى الحسنان و شققت أعطافهم و قيل لي: إن لم تجبنا ألحقناك بابن عفّان، و الحقّ أنّ عليّا لم يزل خائفا حتّى و افاه الأجل (2).
مسألة: حكم عمر في قضيّة واحدة أحكاما عدّة لا يشبه الواحد منها الآخر، و قال له
ص: 112
يوما رجل و قد حكم في قضيّة: أصبت و اللّه يا أمير المؤمنين، فقال عمر: و ما يدريك أنّني أصبت فو اللّه ما يدري عمر أصاب أم أخطأ (1).
و قال عمر: إنّي أستحيي من اللّه أن أخالف أبا بكر، قال عمر هذه الجملة بعد أن أفتى في الكلالة و قال: هم الورثة غير الأولاد و الأبوين، و خالف أبا بكر في ذلك، و خالفه في مأة قضيّة، كما أنّه في أهل الردّة كان على خلاف مع أبي بكر و لا بدّ من كون أحدهما مصيبا و الآخر مخطأ، لأنّ الحقّ لا يكون إلّا واحدا، و لا حياء في قول الحقّ أو فعله (2).
و لمّا سئل أبو بكر عن معنى الأب، قال: أيّ سماء تظلّني و أيّ أرض تقلّني أم أين أذهب أم كيف أصنع إذا قلت بآية من كتاب اللّه بغير ما أراد اللّه (3).
و لمّا سئل عن الكلالة، قال: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن اللّه، و إن كان خطأ فمن قلبي، الكلالة ما دون الولد و الوالدين (4).
ص: 113
اعلم بأنّ القوم نسبوا الكفر و الزندقة إلى اللّه تعالى و وضعوا الأنبياء في مقام الفاسقين و الفاجرين كآدم و يونس و نوح و إبراهيم و يوسف و يعقوب و موسى و هارون و داود و سليمان و إدريس و أيّوب عليهم السّلام، فقد نسبوا إلى كلّ واحد من هؤلاء الأنبياء ما قدروا عليه من المعاصي، لا سيّما ما نسبوه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الهوس الجنسيّ بالنساء و أشياء أخرى لا يحلّ ذكرها و هي مستقبحة جدّا، و قائلها من أهل السنّة و الجماعة بجميع أبعاده، و ينسبون الرفض إلى من نزّه اللّه سبحانه و اعتقد العصمة للأنبياء، و يرونه عدوّا لهم، و هذا من فرط محبّتهم للصحابة، و يبرؤونهم من الظلم الذي لحق بأهل البيت منهم، و لا يؤمنون بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (1) و قوله تعالى: وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (2) و أمثال هذه الآيات، و ذلك من أجل الصحابة لأنّهم أهل خطأ و عصيان، و كانوا مشركين فرجعوا عن الشرك إلى الإسلام
ص: 114
فينسبون المعصية إلى الأنبياء ليدرؤوا العيب عن الصحابة و يصحّحون أخطائهم، و يهوّنون معاصيهم و ذنوبهم، و يتمسّكون بالمتشابه من القرآن لدفع غائلة الشيعة عنهم، و ما علموا أنّ اللّه تعالى قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ (1)، و لا يرون العقل حجّة و يتمسّكون بآراء الرجال و بالقياس لقصور علمهم و كثرة جهلهم، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شأنهم: إنّ من أصحابي من لا يراني بعد ما يفارقني (2).
و هم الذين تركوا خطبة النبيّ أثناء صلاة الجمعة كما قال تعالى: وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً (3)، و كانوا يضحكون و يسخرون وراء رسول اللّه و هم في صلاة الجماعة.
و تقاعدوا عن حرب بدر و كرهوا القتال حتّى أنزل اللّه في حقّهم: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ* يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (4).
و كانوا بمكّة يستحثّون النبيّ على الحرب و الرسول يأبى، و لمّا نزل الجهاد في المدينة كرهوه و أبوه حتّى نزل قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ (5).
و كانوا مصداق الآية التالية فقد كانوا أمام رسول اللّه يظهرون بمظهر الأمانة
ص: 115
و لكنّهم يخونونه في السرّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1).
و تركوا الجهاد و طمعوا بالغنائم كما قال تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ (2). و قال تعالى: لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (3).
و في حرب الخندق كذّبوا بوعد رسول اللّه و شكّوا به، فأنزل اللّه تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ إلى قوله: إِلَّا غُرُوراً (4).
و عاهدوا اللّه تحت الشجرة أن لا ينهزموا فكانت هزيمتهم أظهر من الشمس كما فعلوا في حرب خيبر: وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (5).
و هربوا عن رسول اللّه في حرب حنين و تركوه مع سبعة أو تسعة من أصحابه بيد العدوّ و ولّوا الأدبار: وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (6).
و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لتتبعنّ سبيل الذين من قبلكم شبرا شبرا و ذراعا ذراعا حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لاتّبعتموهم، فقالوا: اليهود و النصارى؟ قال: فمن إذن (7).
ص: 116
و قال في حقّهم أيضا: سيجي ء برجال من أمّتي فيؤخذ ذات الشمال، فأقول: يا ربي أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم، و منه قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً (1)، و قال: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ (2) الآية.
و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: بينا أنا على الحوض إذ مرّ منكم زمر فتفرّق بكم الطرق فأناديكم: ألا هلمّوا إلى الطريق، فنادى مناد: إنّهم بدّلوا بعدك، فأقول: ألا سحقا ألا سحقا.
و قال قبل وفاته مرارا: جهّزوا جيش أسامة، فلم يفعلوا لئلّا تفوتهم فرصة الخلافة.
و قال في مرضه: آتوني بدواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعدي، فقال عمر:
دعوه فإنّه يهجر في مرضه.
و هؤلاء الذين أظهروا الإيمان و الإسلام لم يكونوا في الباطن كما هم عليه في الظاهر، و لمّا كان عذاب نساء النبيّ في حال ارتكابهنّ للفاحشة مضاعفا لقربهنّ
ص: 117
من النبيّ كان عذاب الصحابة كعذابهنّ لأنّ سبب المضاعفة واحد، قال اللّه تعالى:
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (1) و يقولون: إنّ بعضهنّ تبن ممّا جرى منهنّ، و لكن الكفر مشهور، و التوبة مظنونة، و المقطوع به لا يعارضه المظنون.
قال اللّه تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (2)، و قال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (3).
ردّوا الجهّال إلى السنّة و عليكم بالمجمع عليه فإنّه لا ريب فيه (4).
و ينكرون العقل و الشرع في الحكم بالجنّة لعائشة و حفصة بمجرّد إثبات الزوجيّة لهنّ، ألا يعلمون ما قاله اللّه تعالى في امرأة نوح و امرأة لوط: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ (5) و اسم امرأة نوح والعة، و اسم امرأة لوط والهة، و دخل كلاهما النار و لم تغن عنهما نبوّة زوجيهما.
و جائت هذه الآية في حقّ ابن نوح: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ (6).
ص: 118
و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا فاطمة بنت محمّد، اعملي فإنّي لا أغني عنك من اللّه شيئا. يا عبّاس، يا عمّ رسول اللّه، اعمل فإنّي لا أغني عنك من اللّه شيئا (1).
و خاطب الأمم و هو على المنبر: أيّها الناس، لا يدّع مدّع و لا يتمنّى متمنّ و الذي بعثني بالحقّ نبيّا لا ينجي عمل إلّا مع رحمة اللّه، و لو عصيت لهويت، اللهمّ هل بلّغت- قالها ثلاثا- و هؤلاء لا تظلّهم هذه الآية: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ- إلى- عَشِيرَتَهُمْ (2).
و من عجب أنّهم يكرهون خروج فاطمة عليها السّلام من بيتها إلى مسجد أبيها و لا تعدل المسافة خمسة أذرع، تطالب بحقّها في فدك، و يحسنون خروج عائشة مع عشرة آلاف مقاتل من الرجال من اقليم إلى اقليم، و يصوّبون فعلها، و يرون أنّها تائبة، فبعدا للقوم الظالمين.
و من العجب قول المعتزلة أنّ سلمان قبل ولاية المدائن من عمر و هذا دليل على صحّة إمامة عمر (3).
ص: 119
مسألة: معاوية في مذهبنا كافر و في مذهبهم فاسق، و كان الصحابة بأجمعهم يعظّمونه و يدعونه بأمير المؤمنين، و كانوا يقبلون ولايته على الولايات و الأقاليم، و ذهبوا إلى قتال الروم تحت إمرة يزيد و بلغوا القسطنطينيّة منهم عبد اللّه بن العبّاس و عبد اللّه ابن عمر و عبد اللّه بن الزبير و أبو أيّوب الأنصاري و أبو هريرة و عمرو بن العاص و أمثالهم، و كان أبو هريرة قاضيا لمعاوية و واليا على المدينة من قبله و غالب بن فضالة واليا على خراسان و المغيرة بن شعبة على الكوفة و سمرة من قبل عبيد اللّه بن زياد على البصرة (1)، و العجب أنّهم لا يقيمون العذر عن هؤلاء و لا يستدلّون بهم على إيمان معاوية و إسلامه لأنّه كافر عند جماعة من المعتزلة «و أنا أيضا على ذلك من الشاهدين» و نستنتج من ذلك أنّ وضع سلمان مع عمر بن الخطّاب كوضع أولئك مع معاوية.
ص: 120
و هم يدّعون بأنّ ولائهم لأهل البيت أكثر من ولاء الشيعة، و مودّتهم تزيد على مودّتهم لهم، و مع هذا فهم ينبزون بالرفض من يذكر منقبة من مناقب أهل البيت أو فضيلة من فضائلهم، و إذا نسبها إلى شيوخهم صدّقوه و قالوا: حرام ذكر تقديم ذكر عليّ على الشيوخ.
و روي أنّه قال رجل لعليّ عليه السّلام: أحبّك و أتولّى عثمان، فقال له: الآن أنت أعور فإمّا أن تعمى و إمّا أن تبصر (1).
و إذا سمعوا من يقول: اللهمّ العن ظالمي آل محمّد، يغضبون و يقولون: هذا تعريض و رفض و تشرّد و بغض و المسلم لا يكون لعّانا، و الأفضل من اللعن التسبيح، و مع ذلك يلعنون الشيعة اللعن الصريح .. (2) (و يقولون اللعن حرام و التسبيح أولى من اللعن، و يلعنون الشيعة و المعتزلة .. المؤلّف).
و من عجيب أمرهم و ظاهر بغضهم لأهل البيت عليهم السّلام أنّهم إذا ذكروا الإمام الحسن بن عليّ عليه السّلام الذي هو ولد رسول اللّه و ريحانته و قرّة عينه و الذي نحله
ص: 121
الإمامة و شهد له بالجنّة حذف من اسمه الألف و اللام و يقال: حسن بن عليّ و لأولاده أولاد حسن استصغارا له و احتقارا لذكره، ثمّ يقولون مع ذلك: الحسن البصري، فيثبتون في اسمه الألف و اللام إجلالا له و إعظاما و تفخيما لذكره و إكراما، و ذلك أنّ هذا البصري كان متجاوزا عن ولاية أهل البيت عليهم السّلام و هو القائل في عثمان قتله الكفّار و خذله المنافقون، و لم يكن في المدينة يوم قتله إلّا قاتل أو خاذل، فنسب جميع المهاجرين و الأنصار إلى الكفر و النفاق (1).
و حاصل الكلام أنّهم لو كانوا يحبّون أهل البيت لم يحملوا في قلوبهم هذه العداوة لهم و لا بدّ من أن يكون الصديق صديق الصديق و هنا نرى القضيّة بعكس ذلك «و الحسن البصريّ تخلّف عن الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام (تخلّف عن عليّ و الحسن و الحسين و لمّا وقف على واقعة الحسين خرج مع قتيبة بن مسلم في جند الحجّاج إلى خراسان ..- المؤلّف) (2).
و يقال أنّ في ديار العرب مدينة تسمّى قرطبة يأخذ شبابها في ليلة العاشور رأس بقرة ميتة و يجعلونه على عصى و يحمل و يطاف به في الشوارع و قد اجتمع حوله الصبيان يصفقون و يلعبون و يقفون به على أبواب البيوت (و يغنّون) و يقولون: يأمسه العروسة اطعمينا المطنفسة، يعنون القطائف، و أنّها تعد لهم
ص: 122
و يكرمون و يتبرّكون بما يفعلون ... و يعنون به رأس الحسين (1)، و المشهور أنّ سنّة العراق و خراسان يكتحلون يوم عاشوراء و يطبخون الحبوب من سبعة أصناف و يطبخون الطعام الفاخر المتنوّع و يتزيّنون بألوان الزينة و يلبسون أفضل الثياب، و هذا هو الحبّ الذي حدّثونا عنه حيث يجعلون اليوم الذي قتل فيه آل الرسول يوم فرح و استبشار و يسمّونه عيدا مع وجود آية: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (2) في القرآن يتلونها و لكنّهم لا يعملون بها لأنّ أئمّتهم لشدّة عداوتهم لأهل البيت يزعمون أنّها من المنسوخ و هذه الآيه تكذب ما ادّعوه لأبي بكر من أنّه أنفق ماله على رسول اللّه و على أصحابه.
بيّنة: لا يزال أولاد قتلة الحسين معروفين بالشام إلى اليوم و هم معظّمون و مكرّمون عندهم بمثابة سادات بني هاشم فمنهم في الشام بنو السراويل لأنّ جدّ جدّهم نهب سراويل الحسين عليه السّلام.
و بنو السرج و هم أولاد الذين أسرجوا خيولهم و داسوا صدر الإمام و كسروا عظامه، و وصل بعض هذه الخيل إلى مصر فقلعت نعالها من حوافرها و سمّرت على أبواب الدور للتبرّك بها و جرت بذلك السنّة عندهم حتّى صاروا يتعمّدون على نظيرها على أبواب دور أكثرهم.
و بنو سنان و هم أولاد الذي حمل الرمح الذي على سنان رأس الحسين عليه السّلام.
و بنو الملحي و هم الذين ذروا الملح على جسد الحسين.
و بنو الطشتي و هم الذين وضعوا رأس الإمام بالطشت.
ص: 123
و بنو القضيبي و هم أولاد الذين أتوا بالسوط إلى يزيد لعنه اللّه ليضرب ثنايا الحسين و هي مقبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
و بنو الدرجي فأولاد الذي ترك الرأس في درج جيرون.
و بنو المكبّري فهم أولاد الذي كان يكبّر خلف رأس الحسين و هو بدمشق مع بني الملحي معروفون. و نظم شاعر هذا المعنى فقال:
جاؤوا برأسك يابن بنت محمّدمترمّلا بدمائه ترميلا
و كأنّما بك يابن بنت محمّدقتلوا جهارا عامدين رسولا
قتلوك عطشانا و لم يترقّبوافي قتلك التنزيل و التأويلا
و يكبّرون بأن قتلت و إنّماقتلوا بك التكبير و التهليلا و قد بلغنا أنّ رجلا قال لزين العابدين عليه السّلام: إنّا لنحبّكم أهل البيت، فقال عليه السّلام:
أنتم تحبّونا حبّ السنّورة من شدّة حبّها لولدها تأكله.
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أنا أوّل من يجثو يوم القيامة للخصومة .. (1).
و لا يحاولون مسائلة أنفسهم عن هذا الحقد على عليّ و أهل بيته ما سببه؟ و من أين أتاهم؟ و ما هي دواعيه التي حملتهم على لعنه على منابرهم ألف سنة فلم ينكر عليهم مسلم واحد، و لم يردّ عليهم بقول أو عمل، و لم يسائلهم عن المبرّرات المبيحة للعنه و كيف استحقّها، و هنا من يلعن ظالمي عليّ أو ينطق به لسانه يهبّون فورا لخصومته.
و من أعاجيبهم أنّهم زعموا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ في جنبي عمر ملكين كامل البهائي ج 2 124 فصل ..... ص : 124
ص: 124
يسدّدانه و يتّقيه، و إنّ ملكا ينطق على لسانه مع أنّهم ينسبون إلى رسول اللّه و إخوانه من الأنبياء عليهم السّلام و يبرؤون ساحة عمر من المعاصي لحبّهم إيّاه و لأنّهم غاية في الجهل، و تناسوا إسلامه يوم أسلم و هو سكران، و عبادته لثلاثمائة و ستّين صنما.
و في يوم الحديبيّه شكّ في نبوّة محمّد- كما مرّ- حتّى آذى النبيّ فاستقبل عمر قائلا له: أين كنتم يوم أحد إذ تصعدون و لا تلوون على أحد و أنا أدعوكم (و الرسول يدعوكم) (1) و يوم الأحزاب: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (2).
و لمّا راى عمر لعنه اللّه غضب رسول اللّه قال: أعوذ باللّه من غضب اللّه و غضب رسوله، و اللّه يا رسول اللّه إنّ الشيطان ركب على عنقي، فكيف يركب الشيطان على عنق من بينى عينيه ملك (ملكان) يسدّده؟!
فلمّا كان يوم الفتح أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مفتاح الكعبة و قال: ادعوا لي عمر، فلمّا أتاه قال: أي عمر، هذا الذي كنت قلت لكم، و كذلك لمّا عرّف في حجّه الوداع أحضره و قال له مثل ذلك. و روي عن عمر أنّه قال: ما شككت مثل يومئذ (3) و هذا من العجب أنّ النبيّ يحتاج إلى الوحي و ملكان يلازمان عمر.
(و من عجيب أمرهم في مثل هذا دعواهم أنّ النبيّ قال:) إنّ اللّه ضرب الحقّ على لسان عمر و قلبه، فكيف يصحّ هذه الدعوى و قد تكلّم في إمارته في الحدّ بسبعين قضيّة يخالف بعضها بعضا، و قال: لا تغلوا في مهور النساء فتجاوزوا أربعمائة درهم حتّى قامت إليه امرأة فقالت: كتاب اللّه أحقّ أن يتّبع أم قولك؟ قال:
ص: 125
بل كتاب اللّه، فتلت عليه قول اللّه تعالى: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً (1)، فقال لمّا استمع ذلك: ثكلتك أمّك يا عمر، كلّ أحد أفقه منك حتّى النساء (2) (و عند المؤلّف أنّ عمر قال): ما علمت بهذا. فقالت المرأة: ثكلتك أمّك يا عمر، كلّ واحد أفقه منك حتّى النساء.
و حكم يوما بين رجلين فقال أحدهما: أصبت يا عمر، فقال: لا يعلم عمر أصاب أم أخطأ بل اللّه يعلم ذلك.
و رووا عن النبيّ أنّه قال: ما من أحد إلّا و له شيطانان يلازمانه (3)، فاستبدلوا الملكين بالشيطانين الملازمين لعمر بن الخطّاب الحاضرين لدى عينيه، و لكن أين كان هذان الملكان يوم كان مشركا يعبد اللات و العزّى؟!
مسألة: و ممّا يقدح في عمر ما قاله في أهل الشورى التي لا يقولها أحد في أحد «و قال لكلّ واحد قولا لا يصحّ معه أن يرد إليه إمارة مدينة و لا تدبير ضيعة ..» (4)
ص: 126
(لا يصحّ معه مع وجود هذه العيوب التي نسبها إليه أن يسند إليه إدارة بيت أو خوان طعام أو أتون حمّام، فما بالك بملك العالم- المؤلّف). و مع ذلك فقد عهد إليه بإدارة الحكم و إمامة الناس. فدعا طلحة و وصفه بالنخوة و الكبر، و الزبير بالجفاء، و قال عنه: مؤمن الرضا كافر الغضب، و وصف سعدا بأنّه صاحب مقنب و قتال، و أنّه لا يقوم بتدبير قرية (1) (و عبد الرحمان بضعفه- التعجّب) و وصف عثمان بأنّه يحمل أهله على رقاب الناس و قال: إنّ روثة خير منه، و وصف عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بأنّه ذو لطافة و فكاهة (و بطالة) يقول هذه الجمله الخبيثة في إمام معصوم مفترض الطاعة على العالم، و كان يقول- و عليّ حاضر و الحسنان و العبّاس- دائما:
لو كان سالم مولى حذيفة ابن اليمان حيّا ما يخالجني فيه الشك (و بحضرته أمير المؤمنين و العبّاس فتخالجه الشكوك فيهما ..) و لم يدركه الحياء من أهل بيت النبيّ مع عصمتهم و طهارتهم و جعل الأمر شورى بين المسلمين فلا هي من اللّه و لا من رسوله.
و أعجب من هذا ما قاله في مرشّحيه للخلافة: إن اختلفوا ثلاثة و ثلاثة فالحقّ في الثلاثة التي فيها عبد الرحمان و اقتلوا الثلاثة الأخرى!! (لأنّه يعلم أنّ هوى عبد الرحمان مع عثمان و ليس مع عليّ عليه السّلام لأنّ بين الاثنين عبد الرحمان و عليّ عداوة، و بينه و بين عثمان صداقة و صهر، و قال: اقتلوا التي ليس فيهم عبد الرحمان، فهل هذا إلّا قصد لقتل عليّ ... (2)).
ص: 127
و أعجب منه حين يأمر بقتل جماعة يزعمون أنّهم من أهل الجنّة بدون ذنب جنوه و لا جريمة ارتكبوها: إنّها الجرأة على الدماء و على محظورات الدين.
و من العجب قوله الحقّ في الثلاثة التي فيها عبد الرحمان مع سماعه قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور حيثما دار (1).
ص: 128
اعلم: أنّ ابن الأعثم من علماء أهل السنّة و هو متعصّب لهم إلى الدرجة التي يقول فيها في كتاب الفتوح هذه رواية أهل السنّة و لا أروي الروايات الأخرى لأنّي أخشى أن تقع بيد الشيعة فتكون حجّة علينا.
و يقول في أوّل كلام السقيفة إسنادا إلى الهيثم مالك بن التيّهان الأنصاريّ (1) أنّ رسول اللّه لمّا توفّي شمت فيه اليهود و النصارى و أظهر المنافقون الذين كانوا حول المدينة مردوا على النفاق نفاقهم وهبوا لإتلاف الدين و لكن لم يشر إلى هؤلاء المنافقين من أيّ فرقة هم، أمّا عبد اللّه بن سلول فقد هلك في عهد النبيّ و قد أخبر
ص: 129
اللّه تعالى عن هذا الوضع بقوله: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ- إلى قوله- فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً (1) و نظير هذه الآية فتبيّن من هذا أنّ ظهور النفاق لم يكن سوى أبي بكر و جماعته، فقال قال: أيّها الناس (من كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لم يمت، و من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات) ... ألا و إنّ محمّد قد مضى لسبيله و لا بدّ لهذا الأمر من قائم يقوم فدبّروا و انظروا و هاتوا رأيكم (رحمكم اللّه) فناداه الناس من كلّ جانب: نصبح و نظر في ذلك إن شاء اللّه.
فلمّا كان من الغد انحازت طائفة من المهاجرين إلى أبي بكر و انحازت طائفة من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة و جلس عليّ بن أبي طالب مغموما بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عنده نفر من بني هاشم و فيهم الزبير بن العوام (2).
ثمّ قال: و كان أوّل من تكلّم يومئذ خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و قال: يا معاشر الأنصار، إنّكم إذ قدّمتم اليوم ... (3) (قريشا) صاروا مقدّمين عليكم إلى يوم القيامة (و أنتم الأنصار في كتاب اللّه تعالى و إليكم كانت الهجرة، و فيكم قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله) فأجمعوا أمركم على رجل تهابه قريش و تأمنه الأنصار. قال: فقالت الأنصار: صدقت يا خزيمة، إنّ القول لعلى ما تقول: رضينا بصاحبنا سعد بن عبادة ....
ثمّ وثب أسيد بن حضير الأنصاريّ الأوسيّ (و نصح نصائحه ثمّ قال:) إنّ هذا الأمر في قريش دونكم فمن قدّموه فقدّموه، و من أخّروه فأخّروه، قال: فوثب إليه نفر من الأنصار فأغلظوا له في القول و سكّتوه فسكت.
ص: 130
ثمّ وثب بشير بن سعد الأنصاريّ الأعور و كان أيضا من أفاضل الأنصار- فقال: (إنّما أنتم بقريش و قريش بكم، و لو كان ما تدّعون حقّا لما اعترض عليكم فيه، فإن قلتم بأنّا آوينا و نصرنا فما أعطاهم (اللّه) خير ممّا أعطيتم فلا تكونوا كالذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا و أحلّوا قومهم دار البوار جهنّم، الآية. (و كان يميل لتقديم قريش).
ثمّ وثب عويمر بن ساعدة الأنصاريّ- و هو من الذين أنزل اللّه فيهم في مسجد قباء فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (1)- فقال: يا معشر الأنصار، إنّكم أوّل من قاتل عن هذا الدين فلا تكونوا أوّل من قاتل أهله عليه، فإنّ الخلافة لا تكون إلّا لأهل النبوّة فاجعلوها حيث جعلها اللّه (جعلوها) فإنّ لهم دعوة إبراهيم.
قال: ثمّ وثب معن بن عدي الأنصاري فقال- و كان هواه في أبي بكر-: (يا معشر الأنصار، إن كان هذا الأمر لكم من دون قريش فخبّروهم بذلك حتّى يبايعوكم عليه، و إن كان لهم من دونكم فسلّموا لهم فو اللّه! ما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى صلّى بنا أبو بكر فعلمنا أنّه رضيه لنا لأنّ الصلاة عماد الدين (2)؟
فبينا الأنصار كذلك في المحاورة إذ أقبل أبو بكر و عمر و عثمان و أبو عبيدة بن الجرّاح و جماعة من المهاجرين فإذا هم بسعد بن عبادة قد زمل بالثياب في سقيفة بني ساعدة من علّة كان يجدها في بدنه، قال: فقعد المهاجرون و سكتوا ساعة لا يتكلّمون بشي ء، فتكلّم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ... فقال: يا معاشر
ص: 131
المهاجرين، لقد علمتم و علمنا أنّ اللّه تبارك و تعالى بعث نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و كان في بدء أمره مقيما بمكّة على الأذى و التكذيب لا يأمره اللّه عزّ و جلّ إلّا بالكفّ و الصفح الجميل، ثمّ أمره بعد ذلك بالهجرة و كتب عليه القتال، و نقله من داره، فكنّا أنصاره و كانت أرضنا مهاجره و قراره، ثمّ إنّكم قدمتم علينا فقاسمناكم الأموال، و كفيناكم الأعمال، و أنزلناكم الديار، و آثرناكم بالمرافق؛ فنحن أنصار اللّه و كتيبة الإسلام.
إلى أن قال: و قد خرج من الدنيا و لم يستخلف رجلا بعينه و إنّما و كل الناس إلى ما وكلهم اللّه إليه من الكتاب و السنّة الجامعة، و اللّه تبارك و تعالى لا يجمع هذه الأمّة على الضلال ... (1).
جواب: إذا كان النبيّ توفّي و لم يستخلف فكيف صار أبو بكر أولى بها من بني هاشم و الأنصار؟! فإن كان قرشيّا فإنّ عليّا قرشيّ و هاشميّ و عالم. و أبو بكر ليس بهاشميّ.
جواب آخر: فمن دعاه خليفة رسول اللّه فقد كذب على رسول اللّه لأنّه خليفة الصحابة فينبغي أن يخاطب بهذا الاسم و إلّا فإنّه مسئول يوم القيامة عن هذه التسمية بالضرورة: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (2).
نعود إلى قصّة السقيفة: فلمّا فرغ ثابت بن قيس من كلامه أقبل عليه أبو بكر فقال: يا ثابت، أنتم لعمري كما وصفت به قومكم لا يدفعهم عن ذلك دافع، و نحن الذين أنزل اللّه فينا: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا
ص: 132
مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (1) و قد أمركم اللّه في آية أخرى أن تكونوا معنا حيث يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (2).
جواب: وصف اللّه تعالى المهاجرين هنا بالفقراء و يزعم الخصوم أنّ أبا بكر لم يكن فقيرا بل كان موسرا متمكّنا، و مثله عثمان؛ لأنّ أبا بكر- كما يزعمون- أنفق أربعين ألف درهم في المدينة، و عثمان جهّز جيش العسره فهيّأ لهم عدّة الحرب من الزاد و الراحلة، و على هذا فمن يملك هذه الألوف من الدراهم و هذه القدرة على تجهيز جيش لا يعتبر من الفقراء، فعلم من هذا أنّ الآية لا تشملهما بناءا على ما ادّعاه الخصم لهما.
عجب من هؤلاء ينقلبون عند المباهات و المفاخره إلى موسرين و عند طلب الخلافة إلى فقراء؛ إمّا شاكرا و إمّا كفورا. فينبغي عليهم أن يثبتوا على حالة واحدة لكي نجيبهم و إلّا فإنّ الترك للتناقض.
جواب: قال: «و ينصرون اللّه و رسوله» متى نصر أبو بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ هل كان النبيّ يأوي إلى بيته مند الصغر حتّى بلغ الأربعين؟ و هل كان في زمن الحصار في الشعب عنده؟ و هل أعان على الحرب كبدر و حنين و أمثالهما؟ حاشا و كلّا بل كان في كلّ الحروب عاجزا مقهورا مولّيا للدبر هاربا «يولّون الدبر». فإن عدنا إلى طفولة
ص: 133
النبيّ فإنّ كافليه والدا عليّ عليهم السّلام أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (1) أي- و اللّه أعلم- أنّ عمّك أبا طالب آواك و خطب لك خديجة للتقوّى بمالها وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (2).
و في حصار الشعب كان ناصره أبا طالب و جعفرا الطيّار أخا عليّ عليهم السّلام، و أغنى عليّ بنفسه في الحروب كلّها (3) وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ (4) بعليّ بن أبي طالب عليهما السّلام.
و إذا أراد بهذه النصرة ما كان بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإنّه ذهب يلاطم على الملك و ترك رسول اللّه على المغتسل و لم يشهد جنازته لئلّا تفوته الفرصة، فمتى نصر رسول اللّه؟ و أيّ يوم من هذه الأيّام نصره به؟
جواب آخر: و قال: إنّ لي شيطانا يعتريني، و من كان بهذه الصفة فكيف يصنّف مع الصادقين مطلقا، و المراد من الصادق من صدّق محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و هذه صفة مشتركة بينه و بين الأمّة، و الباري تعالى لا يأمر باتّباع الصادقين الذين يجوز عليهم الخطأ لعدم الثقة بقوله أو فعله لطروّ الخطأ عليهما، إذ من الجائز أن يكون كلّ ما قاله أو فعله محض خطأ و انحراف و معصية، و على هذا لا يصحّ أن يكونوا معه دائما فينبغي أن يكون هذا الحكم حكما مقيّدا- أي كونوا مع الصادقين- و لا دليل على تقييده بل الدليل قائم على إطلاقه كما هو ظاهر الآية.
و دليل ما أثبتناه عن أبي بكر كلامه حيث يقول: فإن استقمت فاتّبعوني، و إن اعوججت فقوّموني، و لا جرم أن يكون على اعوجاج دائما لوجود هذا الشيطان الذي يعتريه، فتبيّن من هذا أنّ الصادقين هم المعصومون و هم عليّ و أهل بيته
ص: 134
بدليل قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1).
دليل آخر: الحديث الصحيح: من أراد أن يحيى حياتي و يموت موتي و يسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي فليتولّ عليّ بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى و لن يدخلكم في ضلالة.
و منه: إن ولّيتموها عليّا فهاد مهتد يقيمكم على الصراط المستقيم (2) و أمثال هذه الأحاديث المرويّة في كتب القوم التي تجلّ عن العدّ و الحصر، المعبّرة عن عصمة عليّ و طهره.
فلمّا ثبت أنّ الفقراء المذكورين في الآية ليسواهم، ثبت أنّهم عليّ (و أولاده) عليهم السّلام و الدليل على ذلك ما ورد عن طريق الخصوم بأنّ عليّا تصدّق بثلاثة أقراص من الشعير فأنزل اللّه تعالى سورة هل أتى في حقّه، و أعطى عشرة دراهم و نزلت آية النجوى فيه، و أعطى أربعة دراهم و نزل قوله تعالى فيه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً (3) قيل: كان لعليّ أربعة دراهم فتصدّق بدرهم منها ليلا، و بدرهم نهارا، و بدرهم علانية و بدرهم سرّا فنزل قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
ص: 135
الآية، في حقّه، و لئن كانت الدراهم التي أنفقها يسيرة و لكن الآيات النازلة فيه كثيرة، و كلّها مقبولة عند اللّه تعالى.
نعود إلى قصّة السقيفة: فقال أبو بكر: و قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين:
عمر بن الخطّاب أو أبا عبيدة بن الجرّاح فبايعوا أيّهما شئتم. قال: فقال ثابت بن قيس: يا معشر المهاجرين، أرضيتم بما يقوله أبو بكر؟ فقالوا: قد رضينا، فقال: يا هؤلاء، ليس ينبغي لكم أن تنسبوا أبا بكر لعصيان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: و كيف ذلك؟ فقال: لأنّكم ذكرتم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اختاره و رضيه لكم في حياته فقدّمه للصلاة و لم يفعل ذلك إلّا و قد استخلفه عليكم فقد عصى أبو بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بإخراج نفسه من الخلافة و قوله: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطّاب و أبا عبيدة بن الجرّاح «فكيف لكما قدوة اللتين» (1) و قد اختاره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فضّله عليهما، و لعلّكم يا معاشر المهاجرين أنتم الذين عصيتم اللّه في شهادتكم على نبيّكم أنّه استخلف أبا بكر.
(فقال المهاجرون: لقد قدّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أصلاة و هي الإمامة أي إمامة الصلاة .. فقال ثابت: كان رسول اللّه مريضا و أبو بكر يصلّي بالناس، فلمّا سمع النبيّ صوته قام من مكانه إلى المسجد و ذهب إلى الصفّ الأوّل و تقدّم للصلاة و صلّى بالناس فكانت تلك الصلاة بإمامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ليس بإمامة أبي بكر، فصدّقه المهاجرون بأجمعهم) (2).
فقال ثابت أو المهاجرون: لقد علمتم يا معشر الأنصار أنّ أوّل من عبد اللّه على وجه الأرض و آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوليائه و عشيرته، و هم أحقّ الناس من بعده
ص: 136
بهذا الأمر (1) (و أولى بالتقديم). و هذه القصّة مذكورة في كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفيّ و هي حجّة ظاهرة على بطلان دعواهم.
قال: فوثب الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاريّ و صاح في بني عمّه صيحة ثمّ قال: يا معشر الأنصار، انظروا لا تخدعوا عن حقّكم، فو اللّه ما عبد اللّه علانية إلّا في بلادكم، و لا اجتمعت الصلاة إلّا في مساجدكم- إلى أن قال- فإن أبى هؤاء القوم ما نقول، فمنّا أمير و منكم أمير.
قال: فوثب أسيد بن حضير و بشير بن سعد فقالا: بئس ما قلت يا حباب، و ليس هذا برأي أن يكون أميران في بلد واحد ... فقال الحباب: (و اللّه يا أسيد و يا بشير بن سعد ما أردت بذلك إلّا عزّكما ... فقال عمر: «اللّه واحد، والدين واحد، و الإسلام واحد، و الكتاب واحد، و النبيّ واحد، فينبغي أن يكون الإمام واحدا ..» (2) لأنّه إن جرى اليوم إمامان جرى غدا إمامان- إلى أن قال عمر- لا يصلح لها إلّا أبو بكر، فأنكر عليه الحباب قوله و راح يحرّض الأنصار على أخذها و تقديم سعد بن عبادة الخزرجيّ، و جرى بين عمر و حباب مهاترات و شتائم، فكان عمر يميل إلى أبي بكر، و هوى حباب في سعد.
إل أن قال عمر: ألم تسمعوا ما قاله رسول اللّه لكم: الأئمّة من قريش، و لا يكون هذا الأمر إلّا فيهم (3)؟ فقال بشير بن سعد: بلى و اللّه قد سمعنا ذلك (و لا نخالفه).
فقال أبو بكر: أحسنت رحمك اللّه و جزاك عن الإسلام خيرا، إنّي لست أريد هذا الأمر، هذا عمر بن الخطّاب (و هذا) عبيدة بن الجرّاح فأيّهما شئتم بايعوا (عمر أو أبا عبيدة).
ص: 137
فقال عمر و أبو عبيدة: لا يتولّى هذا الأمر أحد سواك، أنت أفضل المهاجرين و ثاني اثنين في الغار، و خليفة رسول اللّه على الصلاة، فمن ذا الذي يتقدّمك و يتولّى هذا الأمر عليك؟ ابسط يدك حتّى نبايعك.
فقال بشير بن سعد الأنصاري: و اللّه ما يبايعه أحد قبلي، ثمّ تقدّم بشير فصفق على يدي أبي بكر بالبيعة، فقال له الحباب بن المنذر: يا بشير، ما الذي أحوجك إلى ما صنعت؟ أنفست على ابن عمّك سعد بن عبادة أن يكون أميرا؟ فقال بشير:
لا و اللّه و لكنّي كرهت أن أنازع قوما حقّا جعله اللّه لهم دوني. قال: فضرب الحباب ابن المنذر يده إلى سيفه فاستلّه من غمده و همّ أن يفعل شيئا، فبادرت إليه الأنصار فأخذوا بيده و سكّنوه، فقال: أتسكّنوني و قد فعلتم ما فعلتم؟ أما و اللّه و كأنّي بأبنائكم و قد وقفوا على أبوابهم يسألون الناس الماء فلا يسقون.
قال: فقال أبو بكر: و منّي تخاف ذلك يا حباب؟ فقال: إنّي لست أخاف منك و لكنّي أخاف من يأتي بعدك. فقال أبو بكر: فإذا كان ذلك و رأيت ما لا تحبّ فالأمر في ذلك الوقت إليك. فقال الحباب: هيهات ذلك يا أبا بكر من أن يكون ذلك، إذا مضيت أنا و أنت و جاءنا قوم من بعد يسومون أبنائنا سوء العذاب و اللّه المستعان.
قال: و تابعه الأنصار بالبيعة لأبي بكر و انكسرت الخزرج خاصّة لما كانوا عزموا عليه من أمر صاحبهم سعد بن عبادة. قال: فازدحم الناس بالبيعة على أبي بكر حتّى كادوا أن يطئوا سعد بن عبادة بأرجلهم، فقال رجل من الأنصار: يا هؤلاء، اتّقوا سعدا فإنّه عليل شديد العلّة (و حمل سعد من السقيفة إلى بيته. قال:
و أقبل عبد الرحمان بن عوف الزهريّ حتّى وقف على جماعة من الأنصار فقال: يا معشر الأنصار، إنّكم إن كنتم ما ذكرتم من الفضل و الشرف و النصرة فو اللّه لا ينكر لكم ذلك .. الخ.
ص: 138
فقال له زيد بن أرقم الأنصاري: يابن عوف! إنّا لا ننكر فضل من ذكرت و إنّ منّا لسيّد الخزرج سعد بن عبادة .. الخ. يابن عوف، لو لا أنّ عليّا بن أبي طالب رضى اللّه عنه و غيره من بني هاشم اشتغلوا بدفن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بحزنهم عليه فجلسوا في منازلهم ما طمع فيها، فانصرف و لا تهيّج على أصحابك ما لا تقوم له.
قال: فانصرف إلى أبي بكر فخبّره بما كان من مقالته للأنصار و بردّهم عليه، فقال أبو بكر: لقد كنت غنيّا عن هذا، أن تأتي قوما قد بايعوا و سكتوا فتذكر لهم ما قد مضى (1).
جواب: هذا الذي قدّمناه هو رواية ابن أعثم الكوفي حرفا بحرف، و هو مخالف للإجماع المدّعى على خلافة أبي بكر، و مع هذا الجدال العنيف كيف يكون الإجماع حاصلا، مع أنّ الخزرج أنكروا خلافة أبي بكر حتّى موته و لم يكونوا حاضرين، و حال من حضر قد كشفه ابن الأعثم و قد سمعته و قرأته و حينئذ كيف يحصل الإجماع مع كثرة المخالفين.
و دلّ كلام زيد بن أرقم على رجوع الأمر إلى بني هاشم و الذين غلبوا الأنصار بدعوى القرب من النبيّ بالقرشيّة لم ينصفوا بني هاشم، و لم يراعوا كونهم أقرب منهم إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
و الذي عليه الشيعة أنّ القوم ائتمروا بينهم متى توفّي النبيّ فإنّهم يغتنمون اشتغال بني هاشم فرصة و يثبون على الخلافة، و ما قاله أبو بكر من رضاه بأحد اثنين: عمر و أبي عبيدة للأمّة فإنّه لم يكن رضا بالمعنى الحقيقيّ بل القلب كاره لما قاله مع أنّ رضاه لم يرتض لأنّ أبا عبيدة لم ينل الحكم، اللهمّ إلّا أن نقول بأنّه الرضا لجلب
ص: 139
الأتباع و تكثير السواد و تطييب الخاطر، و غصب حقّ بني هاشم، أو أنّه التزوّد للآخرة بهذا الزاد الوبي ء. و صدق اللّه حيث قال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (1).
يقول ابن الأعثم: ثمّ أرسل أبو بكر إلى عليّ فدعاه فأقبل و الناس حضور، فسلّم و جلس ثمّ أقبل على الناس فقال لهم: دعوتموني؟ فقال عمر: دعوناك للبيعة التي قد أجمع عليها المسلمون. فقال عليّ: يا هؤلاء، إنّما أخذتم هذا الأمر من الأنصار بالحجّة عليهم و القرابة (من رسول اللّه (الأئمّة من قريش) فأعطوكم المقادة و سلّموا إليكم الأمر (و تركوا اللجاج) و أنا أحتجّ عليكم بالذي احتجتم به على الأنصار: نحن أولى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حيّا و ميّتا لأنّا أهل بيته و أقرب الخلق إليه، فإن كنتم تخافون اللّه فانصفونا و اعرفوا لنا في هذا الأمر ما عرفته الأنصار لكم.
قال: فقال عمر: إنّك أيّها الرجل، لست بمتروك أو تبايع كما بايع غيرك. فقال عليّ عليه السّلام: إذا لا أقبل منك و لا أبايع من أنا أحقّ بالبيعة منه. فقال له عبيدة بن الجرّاح (لعنه اللّه): و اللّه يا أبا الحسن، إنّك لحقيق لهذا الأمر لفضلك و سابقتك و قرابتك، غير أنّ الناس قد بايعوا و رضوا بهذا الشيخ فارض بما رضي به المسلمون. فقال له عليّ كرّم اللّه وجهه: يا أبا عبيدة، (أنت أمين هذه الأمّة (2)) فاتّق اللّه في نفسك فإنّ هذا اليوم له ما بعده من الأيّام و ليس ينبغي لكم أن تخرجوا سلطان محمّد صلّى اللّه عليه و آله من داره إلى قعر دوركم ففي بيوتنا نزل القرآن و نحن معدن العلم
ص: 140
و الفقه و الدين و السنّة و الفرائض و نحن أعلم بأمور الخلق منكم، فلا تتّبعوا الهوى فيكون نصيبكم الأخسّ.
قال: فتكلّم بشير بن سعد الأنصاريّ، فقال: يا أبا الحسن، أما و اللّه لو أنّ هذا الكلام سمعه الناس منك قبل البيعة لما اختلف عليك رجلان و لبايعك الناس كلّهم، غير أنّك جلست في منزلك و لم تشهد هذا الأمر فظنّ الناس أن لا حاجة لك فيه ...
الخ. قال: فقال عليّ: ويحك يا بشير! أو كان يجب أن أترك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (من غير تجهيز و أخرج ألاطم على سلطانه ...) (1).
قال: فأقبل عليه أبو بكر فقال: يا أبا الحسن، إنّي لو علمت أنّك تنازعني في هذا الأمر ما أردته و لا طلبته و قد بايع الناس فإن بايعتني فذلك ظنّي بك، و إن لم تبايع في وقتك هذا و تحبّ أن تنظر في أمرك لم أكرهك عليه فانصرف راشدا إذا شئت.
قال: فانصرف عليّ إلى منزله فلم يبايع حتّى توفّيت فاطمة عليها السّلام حتّى بايع بعد خمس و سبعين ليلة من وفاتها، و قيل: إلى بعد ستّة أشهر، و اللّه أعلم أيّ ذلك كان.
(و تقول عائشة: إنّ عليّا بايع بعد ستّة أشهر) (2).
أمّا الصيغة العربيّة لهذا الكلام و التي تحتجّ بها الشيعة فقد رواها ابن الأعثم كما يلي:
قال عليّ عليه السّلام: يا هؤلاء، أخذتم هذا الأمر من الأنصار بالحجّة عليهم بالقرابة، لأنّكم زعمتم أنّ محمّدا منكم فأعطوكم المقادة و سلّموا إليكم الأمر، و أنا أحتجّ عليكم بالذي احتججتم به على الأنصار، نحن أولى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حيّا و ميّتا، لأنّا
ص: 141
أهل بيته و أقرب الخلق إليه فإن كنتم تخافون اللّه فانصفونا و اعرفوا لنا في هذا الأمر ما عرفت لكم الأنصار (1).
فقال عمر: أيّها الرجل، لست بمتروك أو تبايع كما بايع غيرك. فقال عليّ عليه السّلام:
إذا لا أقبل ما يقول عمر، فلمّا فرغ من عمر أقبل على أبي عبيدة و قال: و ليس ينبغي لكم أن تخرجوا سلطان محمّد صلّى اللّه عليه و آله من داره ففي بيوتنا نزل الفرقان و نحن معدن العلم و الفقه و السنّة، و نحن أعلم بأمور الخلق منكم، فلا تتّبعوا الهوى فيكون نصيبكم الخسر.
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في جواب بشير: أو كان يجب عليّ أن أترك الرسول و لم أجنّه في حفرته فأخرج فأنازع الناس للخلافة؟!
فقال أبو بكر في هذه الحالة: يا أبا الحسن، لو علمت أنّك تنازعني في هذا الأمر لما أردته و ما طلبته و قد بايع الناس .. (2).
جواب: و هذا الحديث مبطل لما احتجّ به القوم علينا من أنّ عليّا لم ينفرد عنهم و كان راض بخلافتهم و كذلك ما احتجّ به الفخر الرازيّ و غيره من أنّ عليّا لو كان يعلم بأنّ الحقّ حقّه لخرج مطالبا به. أجل، طالب عليّ بحقّه بشهادة الحديث المتقدّم.
و ما يقوله الشيعة من اغتنام القوم الفرصة بانشغال عليّ عليه السّلام و بني هاشم بتجهيز النبيّ فنزوا على الحكم و السلطان يؤيّده الحديث المتقدّم.
و يؤيّده أيضا ما قاله الشيعة من غياب القوم عن دفن النبيّ، و يدفع قول عمر لعليّ: أيّها الرجل لست بمتروك حتّى تبايع ما زعموه من بيعة عليّ بمحض اختياره
ص: 142
و رغبته و هذا يدلّ على أنّه مكره على البيعة، و الشيعة يذهبون إلى أنّ الإمام عليّا لم يبايع أبا بكر أبدا.
و أمّا قول أبي بكر لعليّ عليه السّلام: لو علمت أنّك تنازعني في هذا الأمر لما أردته، و ما طلبته و قد بايع الناس فإنّه من الأعاجيب حيث تقدّم للحكم ارتجالا و بلا رويّة، ثمّ هو يندم الآن و يطلب الإقالة.
و هذا كلّه يدلّ على صحّة قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، و لو كان الرجل يحسب للآخرة حسابها و يخاف يوم المعاد وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (1) لأرجع الحقّ إلى أهله، و لم ينازع أهل بيت النبيّ فيه، و ما كان ينبغي لمن يخلف النبيّ أن يعمل عملا يؤول به إلى الندامة في الدنيا و الآخرة.
لمّا طرق النبيّ الوجع استدعى أسامة بن زيد و أمّره على القوم و أمره بغزو بلاد الشام و كان ابو بكر و عمر لعنهما اللّه تحت لوائه، و سوف يأتي بيان ذلك.
و لمّا انتقل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الرفيق الأعلى قال عمر لأبي بكر: أرى أن تترك بعث أسامة لأنّ أعراب المدينة ارتدّوا و أخشى أن نحتاج إليه.
فأجابه: و كيف أفعل ذلك و قد أمر النبيّ ببعثه و عبارته كالتالي: لو علمت أنّ السباع تأكلني في هذه المدينة لأنفذت جيش أسامة كما قال النبيّ: أمضوا جيش أسامة، فقال عمر: لو خففت هذا العام عن كاهل القوم من بعض الزكاة لرجونا عودتهم إلى حضيرة الإسلام. فقال أبو بكر: و اللّه لو منعوني عقال ناقة ممّا كان
ص: 143
يأخذه منهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لقاتلتهم عليه أبدا و لو كره المشركون. فقال عمر: ارفق بهم يا خليفة رسول اللّه، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه، فإذا قالوها عصموا منّي دمائهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على اللّه. و هؤلاء الجماعة يصلّون و لا يزكّون أو يزكّون و لا يصلّون (1) فأبى أبو بكر و قال: لأقاتلنّها، كما نصّ على ذلك ابن الأعثم في الفتوح.
الجواب: لقد ظهر الخلاف بين الرجلين الخليفة و ظهيره .. مسكينة هذه الرعيّة فإلى من منهما تميل؟ فإن مالت إلى أبي بكر و هو محقّ فإنّ عمر مبطل حتما و العكس صحيح، و لمّا استباح أبو بكر الحرب على عقال ناقة لا بدع أن يستبيح عليّ عليه السّلام الحرب من أجل ملك الشام مع معاوية (لعنه اللّه) و كما وجب قتال من خالف أبا بكر كذلك وجب قتال من خالف عليّا فيكون معاوية على الباطل.
و كذلك نقول عن عمر لمّا أمر بتعطيل جيش أسامة أنّه داخل تحت مفهوم هذه الآية: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ (2) و من لم يرض بحكم النبيّ فإنّه معلوم الحال و لا يحتاج إلى سؤال.
و جاء في كتاب الفتوح أنّ أسامة بن زيد وجّه جيشه إلى خارج المدينة و لمّا استخلف أبو بكر قال لأسامة: امضي رحمك اللّه لوجهك الذي أمرك النبيّ و لا
ص: 144
تقصر في أمورك، و إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطّاب بالمقام عندي، فإنّي أستأنس و أستعين برأيه. قال أسامة: فقد فعلت.
الجواب: فاعتبروا يا أولي الأبصار أنّ عمر بشهادة الخصم رعيّة لأسامة بأمر النبيّ فكيف يتأمّر عليه؟ و لو علم النبيّ بأنّ عمر أجدر بها من أسامة لم يؤمّره عليه و لم يجعله رعيّة له إلّا لكي يرشد الأمّة إلى عدم صلاحيّته للخلافة.
و إذا كان أبو بكر يطلب الإذن من أسامة لعمر فلماذا لم يطلبه لنفسه، اللهمّ إلّا أن يكون بالحكم المستثنى من الإمارة، و لكن كيف يصحّ للمتمرّد على حكم النبيّ و المنتزى على حقّ غيره الخروج من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّر أسامة عليهم و حكم النبيّ و أمره باقيان على حالهما إلى يوم القيامة و كلاهما خالف حكم رسول اللّه حين أعرضا عن الطاعة بعدم الخروج مع أسامة ...
ص: 145
(من لعائن اللّه- المترجم) قال ابن الأعثم في الفتوح: و اشتدّ المرض بأبي بكر ... و دعا أبو بكر بدواة و بياض فكتب خلافة عمر ثمّ دفع الرقعة إلى رجل من المسلمين فقال: أخرج بهذه الرقعة إلى الناس فخبّرهم بما فيها، و أقبل طلحة بن عبيد اللّه حتّى دخل على أبي بكر، فقال: يا خليفة رسول اللّه، تستخلف على الناس عمر بن الخطّاب؟ فقال:
و لم لا أستخلفه يا طلحة؟ قال: لأنّك قد رأيت الناس من صرامته و غلظته فكيف إذا مضيت أنت و صار الأمر إليه؟ ثمّ قال: و بعد فإنّك قادم على ربّك فإنّه سائلك عن رعيّتك.
فسكت أبو بكر ساعة ثمّ رفع رأسه إلى طلحة، فقال: أبا لموت تفزعني أم بربّي تخوّفني؟ (نعم إذا أقدم على ربّي و سألني عن رعيّتي أقول: يا ربّ، استخلفت عليهم خير أهلك» و دار بينهما حوار و راح أبو بكر يوصي بوصاياه و أخيرا قال:
فإذا أنا متّ فاغسلوني و كفّنوني و حنّطوني و صلّوا عليّ ثمّ ائتوا بي إلى قبر حبيبي محمّد فاستأذنوا و قولوا: السلام عليك يا رسول اللّه، هذا أبو بكر بالباب فإن أذن
ص: 146
لكم في دفني إلى جنبه فادفنوني و إن لم يأذن لكم في ذلك فأتوا بي مقابر المسلمين (و إنّا للّه و إنّا إليه راجعون) (1). و كانت خلافته سنتين و ثلاثة أشهر و عشرين يوما.
الجواب: صدق اللّه حيث قال: وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (2) لمّا أدلى طلحة بحجّته عن عمر و إنّ الرجل لا يليق بالخلافة فكان جوابه فرض خلافة عمر على الأمّة، و لمّا خوّفه باللّه كان جوابه: أبا للّه تخوّفني و معناه أنّي لا أخاف اللّه، و قال اللّه تعالى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (3)، و قال: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ (4)، و قال: وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ (5) و أمثال هذه الآيات كلّها تدلّ على أنّ العبد الصالح هو من خاف اللّه تعالى، و من هنا- أي من انعدام الخوف من اللّه في قلوبهم- ظلموا أهل بيتا لنبيّ و ذلك فعل لا يخفى على أحد لا سيّما ظلم فاطمة و أمير المؤمنين، و ينبغي أن يلابسه الخوف و لو قليلا عند موافاته السياق.
و أمّا قوله: ادفنوني عند رسول اللّه إن أذن لي فإنّ اللّه سبحانه منع من ذلك في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و العجيب من الرجل حين نسيه فضيّعه فهل أنساه ذلك طول العهد؟ كلّا فقد خاطب اللّه المسلمين عن بيوت النبيّ بقوله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ (6)، و قال: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ (7).
ص: 147
و ما قاله من طلب الإذن فإن حصل و إلّا فادفنوني في مقابر المسلمين، فلم يردنا في كتاب أو مرجع أنّ الإذن حاصل له، و بناءا على هذا فإنّه غصب المكان و فعل عمر فعله لأنّه وصيّه، بل صنع خلاف صنعه و لم يستأذن، لعلّه عرف بأنّ المكان المغصوب لا يحتاج إلى الاستئذان بل جرأ على ارتكابها من دون طلب الإذن (و كم مثلها ارتكبها و هي تصغر) و منها غصب الخلافة و التأمّر على أهل بيت النبي.
أم أنّه أراد أن يغصب البيت من الأولاد كما غصب فدكا من فاطمة لتتمّ حبكة السقيفة.
و إن أراد بالإذن من عائشة فإنّها قالت: ليس لرسول اللّه ما يرث و لا يورث.
و إن قصدو به آل الرسول فلم يحصل ذلك منهم و ماتا ظالمين لهم مانعين لحقّهم.
و العجب أن يلحد أبو بكر إلى جانب النبيّ و هو البعيد القصيّ عنه، و يدفن الحسن بمبعدة عن جدّه و هو ولده و فلذة كبده.
كان للمغيرة بن شعبة غلام يدعى أبا لؤلؤة و هو مجوسيّ، و لمّا عاد المغيرة إلى المدينة شكاه فيروز غلامه إلى عمر و قال: إنّه يضطهدني بما يحملني من الغرم الفادح في كلّ شهر مرسوم عليّ دفع مأة درهم إليه و أنا لا أطيق دفع هذا المبلغ الباهض فاشفع لي عنده لتخفيفه.
فأحضر عمر المغيرة و قال: التخفيف من الإنصاف و إن كان عن كافر فخفّف عنه بشفاعتي، ففعل، ثمّ قال للمملوك: لقد خفّف عنك صاحبك (1) و الآن قل لي:
ص: 148
ماذا تجيد من الصنعة؟ فقال: إنّي أجيد عددا منها مثل التجارة و صناعة الأرحية.
فقال عمر: هل لك أن تصنع لي رحى في بيتي. فقال الغلام: سوف أصنع لك رحى تتحدّث عنها الناس في المشرق و المغرب.
فانزعج عمر من قوله هذا و قال لمن حضره: هل سمعتم ما قاله العلج، فإنّي متى شاهدته يحدث الرعب من مرآه في نفسي، إلى أن رقى المنبر ذات يوم و قال: رأيت في المنام ديكا أحمر اللون ضربني بمنقاره مرّتين أو ثلاثا فعلمت أنّ رجل من علوج فارس يقتلني بطعنة أو طعنتين. فقال الحاضرون: خيرا رأيت يا أمير.
و أمّا فيروز فقد صنع لنفسه خنجرا بحدّين و اندسّ بين الناس، فلمّا أقيمت الجماعة أخرج الخنجر من محزمه و حمل على عمر فطعنه ثلاث طعنات في السرّة و فوقها و تحتها ثمّ هرب فتعقّبه ثلاث عشرة إنسانا فقتل منهم جماعة و أمسك به أحدهم فلمّا شعر بأنّه مقبوض عليه طعن نفسه طعنات حتّى هلك.
و أمر عمر عبد الرحمان بن عوف أن يصلّي في الناس جماعة و بقي عمر حيّا في بيته ثلاثة أيّام و أوصى بوصاياه و أمر صهيبا بالصلاة عليه، و استدعى ولده عبد اللّه و قال له: إنّي مدين لبيت المال بمقدار من الدنانير الذهبيّة فاقضها عنّي. ثمّ قال: يا بني، لو أنّك رأيت غدا أباك يقاد إلى النار أما تفديه؟ فقال عبد اللّه: بلى بجميع ما ملكت. ثمّ قال: إن أذنت لي عائشة فادفنّي مع صاحبي و إلّا فادفنّي في البقيع.
فقالت عائشة: إنّي ادّخرت هذا المكان لنفسي و لكن أوثر به عمر. فتوفّي يوم الأربعاء لأربع خلون من ذي الحجّة سنة ثلاث و عشرين، و كان عمره ثلاثا و ستّين عاما.
و لمّا طعن عمر حضر عنده طبيب مسلم فقال: أسقوه نبيذا حلوا، فلمّا تجرّعه خرج من جرحه فقال قوم ممّن حضره: إنّه الدم فأحضروا له طبيبا متنصّرا فسقاه لبنا فخرج من جرحه بلون اللبن، فاتّفق الطبيبان على هلاكه و أمراه بالوصيّة.
ص: 149
الجواب: فيا للعجب كيف يكون البيت لعائشة بدون حجّة و لا بيّنة، و تحرم فاطمة من نحلتها في فدك مع شهادة الشهود العدول أصحاب العصمة. سلّمنا فإنّ حقّها التسع من الثمن و الباقي مغتصب.
يقول ابن أعثم الكوفي: فدفن عمر إلى جنب أبي بكر فأوّلهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الثاني أبو بكر و رأسه قريب من كتف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الثالث عمر و رأسه قريب من كتف أبي بكر. قال: و قد ضاق البيت لمّا دفن فيه عمر فصارت رجلا عمر تحت حائط البيت من موضع الأساس (1).
فخربوا جانبا من حائط البيت، فهل أذن لهم النبيّ في خراب بيته و اللّه تعالى يقول: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (2) و كيف يأذن لهم النبيّ و هو ميّت؟
أمّا قوله لولده عبد اللّه: لو أنّك رأيت غدا أباك يقاد إلى النار أما تفديه .. الخ، ويحه أما سمع قوله تعالى: وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً* يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ* وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ* وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ* وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ* كَلَّا إِنَّها لَظى* نَزَّاعَةً لِلشَّوى (3) و قوله تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ (4) و نسي عبد اللّه أباه كما قال اللّه تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (5). و كذلك عبد اللّه أما قرأ قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ
ص: 150
مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ (1) و حيث قال: وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (2).
أمّا ما قالوه عن النبيذ و شربه فإنّه يعلم أنّه خمر معروف و هذا مسلّم و لكن النبيذ الحلو غير المسلّم فهو لا يخلو من كونه خطأ، و هذا يصدر أحيانا في الأخبار، و أمّا كون القائلين به من أهل السنّة و الجبريّة و هم شيعة الخليفة لذلك أرادوا الاعتذار منه بوصف النبيذ بالحلو.
جمع شهريار بن يزدجرد ملك العجم ثلاثمائة و ثلاثين ألفا من قوّاته و عزم على مهاجمة المدينة و المصادمة مع عمر بن الخطّاب، فلمّا بلغ عمر الخبر خاف منه و صعد المنبر و خطب في أصحابه و قال في آخر خطبته: إنّي جئت أستشيركم بأمر «شهريار» و محاربته.
فقام عثمان بن عفّان من بين الجمع و قال: أنت رجل ميمون النفقيبة، فإذا أردت حربه فاخرج بنفسك إليه و قاتله فإنّك تظفر به. فلم يرتض قوله عمر.
ثمّ قام آخر و قال: أيّها الخليفة، أرسل إليه الجيش. فلم يقع هذا القول من نفس عمر موقعا حسنا، و كان ينظر إلى أمير المؤمنين يلتمس رأيه، فلم يقل عليّ عليه السّلام شيئا في هذا الموقف، فنزل عمر عن المنبر و أقبل على أمير المؤمنين عليه السّلام و قال له:
الرأي عندك يا أبا الحسن.
فقال عليّ عليه السّلام: إن كنت تخاف على الإسلام فإنّي أرى أن ترسل إلى الثغور كثغر
ص: 151
الروم و فارس و الأهواز و حيث تقاتل عساكر الإسلام فتستدعي من العسكر نصفه و تبقي نصفه الآخر قبالة العدوّ، و أقم أنت بالمدينة و أرسل الفيالق فإنّ اللّه تعالى وعد بقهر الكفر و ظهور الإسلام عليه حيث قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1) فأعجبه الرأي و عمل به فاستدعى نصفا من فيالقه و استبقى النصف الآخر تقاتل العدوّ، فاجتمع عنده ثلاثون ألفا فأمّر عليهم النعمان بن مقرن و قال: فإن قتل فالأمير حذيفة، فإن قتل فأمير القوم جابر بن عبد اللّه.
قال عليّ عليه السّلام: ابعث معهم عمرو بن معدي كرب و طلحة بن خويلد و ليحتالوا ما وسعتهم الحيلة فإنّ رأيهم إلى صواب.
فلمّا تقابل العسكران وضع اللّه الرعب في قلب عسكر شهريار، فأسرع شهريار و أمر قومه بحفر الخندق من حولهم و أجرى فيه الماء خوفا من عسكر الإسلام ثمّ بدأت الحرب، فاستشار النعمان عمرا و قال: ماذا نصنع و نحن قلّة و المدد يأتينا من المدينة و قد بعدت شقّتها و العدوّ ما زال يأتيه الجمع بعد الجمع و تصل إليه المؤن و الذخائر باستمرار، و قد قارب زادنا النفاد. فقال عمرو: الرأي عندي أن ننادي بموت عمر ملك العرب لكي يجد العدوّ الجرأة على قتالنا فيخرجوا من خنادقهم لقتالنا فننكشف بين أيديهم لكن بصفوف منتظمة فإذا ما بلغتنا عساكرهم كررنا عليهم و قاتلناهم.
فلمّا أصبح الصباح أعملوا الحيلة مع العدوّ فخرج شهريار بجيشه للقائهم و لكن اختطّ الظلام فحجب بين المتقاتلين، فلمّا أصبح الصباح ركب النعمان فرسه و أقبل و عليه عمامة بيضاء و حام حول العسكر و أخذ يحضّ الناس على الجهاد و قال: أيّها الناس، عليكم بحميّة العرب فإنّها تأنف من الفرّ دون الكرّ، و قاتلوا في سبيل اللّه
ص: 152
و رسوله فإنّ بيضة الإسلام بكم قائمة، و إيّاكم أن تولّوا الدبر لأنّكم إن فعلتم ذلك فإنّكم هالكون حتما عن بكرة أبيكم، و لن يرجع واحد منكم إلى المدينة لأنّها نائية الشقّة فانهضوا و كرّوا بالخيل على العدوّ بعد أن تشدّوا حزمتها و سرجها، و أقيلوا في ظلّها ساعة حتّى تهب الصبا فعندئذ نحمل حملة واحدة و ندع ما كان يفعله العرب في الحرب و لنأخذ بتقاليد العجم في الحرب فإنّهم يحملون بأجمعهم على العدوّ حملة واحدة و لكن قتالكم كلّكم بالرماح فستكون لكم الغلبة عليهم، فإذا قتلت فاكتموا خبري عن العدوّ و عموا عليه، فرضوا بقوله، و صادف أن أصيب النعمان يومها فقتل فلبس حذيفة ثيابه و أخفى عن العجم موته و خبأوه عن أعين الناس.
و نادى فيهم طلحة بن خويلد: أيّها الأصحاب، هلمّوا ليكون عشائنا في الجنّة، هلمّوا إلى الرواح إلى الجنّة ليضع ثلاثون ألفا أسنّتهم بين آذان خيولهم و ليحملوا على العدوّ حملة رجل واحد، و نضربه في القلب، و كما سوّى العجم صفوفهم و أحكموا موقع القلب صاحوا صيحة قويّة منكرة ارتجف لها جيش الإسلام فهزموهم في الحملة الأولى و أسروا فيروز مرّة ثانية و كان قائد عسكر شهريار، و أسروا ابنة شهريار شاه زنان التي تشرّفت بعد ذلك بالإسلام و اقترنت بالحسين، و غيّرت اسمها فكانت شهربانويه.
فقتل من السعكر جماعة و فرّ الباقون، فبعث حذيفة ببشارة الفتح إلى عمر بن الخطّاب، و كان عمر يخرج كلّ يوم إلى المدينة يتنسّم أخبارهم، فرأى ذات يوم أعرابيّا على راحلة فأخبر عمر عن الفتح و هو لا يعرفه، فأقبل يركض وراء الأعرابيّ فرسخا فلمّا وصل المدينة نزل إليه أصحاب الدكاكين يحيّونه، فنزل الرجل من راحلته و سلّم على عمر و اعتذر إلى عمر و بلّغه خبر الفتح، و لمّا بلغته الغنائم أراد بيع «شاه زنان» فنهاه الإمام و قال: ليس البيع على أبناء الملوك.
ص: 153
قال عمر: أجلسوا شاه زنان على قارعة الطريق و أعرضوا المسلمين عليها فمن رغبت فيه فزوّجوها منه و مرّ هو عليها فسألت: من هذا؟ قيل لها: هذا هو الخليفة، فأعرضت عنه و قالت: شيخ لا يليق بي. و أخذ كبار القوم و أعيانهم يعرضون أنفسهم عليها فتأباهم حتّى اجتاز بها أمير المؤمنين عليه السّلام فقالت: من هذا؟
فقيل لها: هذا عليّ صهر رسول اللّه على فاطمة و ابن عمّه، فقالت: هذا جدير بي و لكنّي أستحي من فاطمة يوم القيامة، فمرّ الحسن من بعده، فقالت: من هذا؟
فسألت عن سائر شئونه فأعلموها و لكنّها امتنعت منه و قالت: الحسن كبير الشأن و يحتاج إلى نساء كثر، فمرّ بها الحسين عليه السّلام فقبلته و قالت: يمكن لهذا الشابّ الجميل أن يكون زوجا لي.
فأمر عمر بإقامة مراسم الزواج في المدينة ثلاثة أيّام، و حملوا الحسين على فرس و قيل: حمل عمر غاشية الحسين على متنه و أقبل بصحبته ينحو المدينة إلى ثلاثة أيّام و في اليوم الثالث أطلقوا على المرأة اسم «شهربانويه» و عقدوا عليها للحسين عليه السّلام و بنى عليها، و كانت في كلّ ليلة تعود عذراء كالحور العين في الجنّة، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من كان من الحسن و لحسين زوجته تعود عذراء في كلّ ليلة، فإنّ الأئمّة من صلبه لذلك تزوّج الحسن عليه السّلام نساءا كثيرات فلمّا لم يجد عندهنّ السرّ الموعود طلّقهنّ و قال الحسين عليه السّلام للحسن ذات يوم: لا تحزن يا أخي، فإنّ ما كنت أنت طالبه فإنّي وجدته، فعلم الحسن أنّ الأئمّة ليسوا من صلبه (1).
ص: 154
و لمّا قسّمت الغنائم صار أبو لؤلؤة فيروز من نصيب المغيرة بن شعبة و كان صيقلا ماهرا، و صارت له علاقة بأمير المؤمنين عليه السّلام فكان يزوره بين الحين و الحين، فوضع عليه المغيرة ضريبة ثقيلة إذ كان عليه أن يدفع للمغيرة دانقين من الذهب، ثمّ صيّرهما نصف دينار، فكان يدفع ذلك، ثمّ رفع الضريبة إلى أربعة دوانق فأعطاها، ثمّ خمسا فأعطاها، و ان عمر يفعل ذلك و قال له: إن قطعت زيارتك لعليّ حرّرناك من الضريبة، فلم يرض أبو لؤلؤة بذلك. و أقبل يوما على عمر و قال: أيّها الخليفة، إنّي لأعجب منك و من عليّ أن يكون له سيف مثل ذي الفقار و إنّي لقادر على صنع ما هو خير منه لك بشرط أن لا تحجبني عنك، فقال عمر: افعل. و قال:
سأصنع السيف من معادن سبعة، و أخذ جملة من الحديد و بدأ بصنع السيف و كان يبكّر إلى عمر في كلّ يوم و يأتيه مرارا و يريه السيف الذي صنعه إلى أن تمّ صنع السيف، و كان ما تزال حرارة الضرب فيه، فأقبل على عمر بعد أن انفضّ المجلس و لم يبق فيه سواه و كان غلاف السيف من الخشب الأبيض، و قد ثقب قريبا من قائمه ثقبا و أنبت فيه مسمارا بحيث لا يستطيع أحد أن يسلّه إلّا صاحبه الذي صنعه،
ص: 155
فلمّا أعطاه عمر أراد أن يجرّده من الغمد فعسر عليه ذلك، فقال أبو لؤلؤة: ناولنيه، فلمّا تسلّمه أزال عنه المسمار و نظر يمينا و شمالا فلم يجد أحدا معهما فعند ذلك حمل على عمر و أغمد السيد في بطنه و تركه عليها و هرب.
قيل: أقبل ركضا إلى بيت عليّ عليه السّلام و كان عليّ جالسا على باب داره، فقام من مكانه و قعد في مكان آخر، فلمّا أقبل الناس يطلبون القاتل أقسم عليّ عليه السّلام أنّه منذ أن جلس في هذا المكان لم يشاهد أحدا، و حمل الإمام أبا لؤلؤة على دلدل و قال له:
أينما وقفت دلدل فقف هناك، و نفس الليلة استدعى امرأة و بعث معها رسالة إلى أهل قم و فيها: إذا بلغت قم فانكحوها منه، و لمّا حال الحول و جاؤوا يطلبونه إلى قم وجدوه قد تزوّج المرأة و أولدها ولدا، فعلموا انّ هذه من معاجز عليّ عليه السّلام.
و هذه الرواية لا صحّة لها، و إنّما بقي أبو لؤلؤة في المدينة و نهى عمر عن قتله و قال: لا يكون العبد ثأرا لي، و أمر بإطلاق سراحه.
و جوهر القول أنّ عمر بقي جريحا ثلاثة أيّام و هلك في اليوم الرابعة، و كان المغيرة يحضره كلّ ليلة و تأخّر عنه ليلتين، فسأله عمر عن سبب ذلك، فقال: وقع الناس في فتنة من يخلفك، فقال عمر: يا مغيرة، الناس يقولون ماذا؟ فقال: منهم من يراها لعليّ، و منهم لعثمان، و آخرون يرون طلحة أهلا لها، و قوم تعلّقوا بسعد و عبد الرحمان بن عوف.
فقال عمر: ماذا يقال في عليّ؟ إلّا أنّ هذا الأمر لا يتمّ به لحداثة سنّه و لعداوة قريش له و هو أيضا شديد التمسّك برأيه، و أراها تتمّ بعثمان لأنّه رأس بني أميّة، أمّا الزبير فرجل جبّار و من كان مثله لا يليق لإمامة الناس، و طلحة ساقط الهمّة لا شأن له، و سعد بن أبي وقّاص زئر نساء، و عبد الرحمان مليح الظاهر.
ثمّ أمر بإحضار رجل و أمره على مأة رجل و قال: إنّي أجعل الخلافة شورى بين ستّة، فأحضرهم في المسجد؛ فمن بايعه عبد الرحمان فعلى الباقين مبايعته و إن
ص: 156
لم يفعلوا فاضرب أعناقهم، و كان يعلم أنّ هوى عبد الرحمان ليس مع عليّ لما بينهما من العداوة السالفة.
فلمّا حضروا في المسجد قال عبد الرحمان لعليّ عليه السّلام: أبايعك على كتاب اللّه و سنّة رسوله و سيره عمر بن الخطّاب. فقال: بل على كتاب اللّه و سنّة رسوله، و لا أرضى بسيرة عمر لأنّه أحدث أمورا لا بدّ من تغييرها، فأعاد القول عليه ثانية فأجابه عليّ بما أجاب به أوّلا، إلى ثلاث مرّات، ثمّ أمسك يد عثمان و بايعه .. (1) على كتاب اللّه و سنّة رسوله و سيرة عمر، و كان هوى عبد الرحمان مع عثمان لأنّه صهره على أخته أمّ كلثوم من أمّه، و بايع طلحة و الزبير و نهض عليّ بعد أن مسح بيده على أيديهم و خرج من بينهم.
و قال عبد اللّه بن عبّاس (2): لم دخلت الشورى معهم يا أمير المؤمنين؟ فقال:
ذلك لأظهر كذب عمر لأنّه قال: سمعت رسول اللّه يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نرث و لا نورث، و الإمامة و النبوّة لا تجتمع في بيت وحد، فإن كنت لا أستحقّها فلم دعاني معهم، و لا يظهر باطه إلّا بهذا.
و ليثبت للملأ كذبه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كانت مدّة خلافته عشر سنوات و سبعة أشهر و سبعة أيّام، و قيل: كان عمره ثلاثا و ستّين سنة (3).
ص: 157
و لمّا نال الخلافة أرسل وراء مروان بن الحكم فأقدمه من منفاه و أسند إليه وزارته و كان طريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ اللعين هجا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال النبيّ: لا أحبّ أن أرى مروان فطرده من المدينة إلى مكان يبعد عنها بعشرين فرسخا (1)، فلمّا استخلف أبو بكر أبعده عشرين فرسخا أخرى، فلمّا استخلف عثمان ردّه و آواه و أعطاه الوزارة حتّى قيل عنه: آوى طريد رسول اللّه و طرد أباذر حبيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
ص: 158
قال الإمام الصادق عليه السّلام: كان سبب نفي عثمان أباذر أنّه حضر عنده فرأى بين يديه مأة ألف درهم، فسأله: ما هذا المال يا عثمان؟ فقال: لبيت مال المسلمين و أريد أن أضيف إليه عددا آخر ثمّ أضعه حيث أختار، و كان قد جمع حوله بني أميّة. فقال أبوذر: أما تذكر يا عثمان حين دخلنا أنا و أنت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجدناه كئيبا مغموما و دخلنا عليه في اليوم الثاني فوجدناه مستبشرا مسرورا، فقلت له: روحي فداك يا رسول اللّه، فيم غمّك أمس و سرورك اليوم؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله:
قسمت بيت المال فبقيت فيه بقيّة لم أقسمها و هي أربعة آلاف دينار فكان غمّي لها أن أكون ملوما عند اللّه و اليوم قسمتها ففرحت من أجل ذلك، و مائة ألف درهم أكثر من أربعة آلاف دينار.
و كان كعب الأحبار عند عثمان فأقبل عليه عثمان و قال: يا كعب، هل ترى من حرج على المرء إذا أعطى ما وجب عليه أن يستبقي الفاضل من المال؟ فقال كعب:
كلّا إذا أدّى ما وجب عليه فله أن يصوغ الباقي آجرا من ذهب و فضّة.
فقال أبو ذر: أيّها اليهودي، ما أنت و هذا الأمر، إنّما أنت يهوديّ، فكيف تفتي في
ص: 159
الإسلام، إنّ اللّه تعالى كذّبك حيث قال: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (1) و رفع عصاه و أهوى بها على رأس كعب.
فقال عثمان: لو لم تكن صاحب رسول اللّه و أنت شيخ قد خرفت لضربت عنقك.
فقال أبو ذر: كذبت يا عثمان ليس ذلك إليك فإنّ النبيّ أخبرني بانّكم غير قاتليّ و لكنّكم مخرجيّ من البلاد و إذا بلغ آل العاص ثلاثين اتخذوا دين اللّه دغلا و فسّروا كتاب اللّه برأيهم.
قيل: فكذّب من حضر من الصحابة أبا ذر من أجل عثمان، فقال عثمان لعنه اللّه:
أحضروا لي عليّا، فلمّا حضر عنده، قال له عثمان: أسمعت يا عليّ هذا الحديث من النبيّ فقد أجمع الصحابة على عدم سماعه منه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّي سمعت رسول اللّه يقول: ما أظلّت الخضراء و ما أقلّت الغبراء على أحد أصدق لهجة من أبي ذر ... (2) و أبو ذر لا يكذب أبدا.
فصدّق الحاضرون أمير المؤمنين فقالوا سمعناه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، عند ذلك بكى أبوذر و قال: الحمد للّه ما كنت كاذبا.
فقال عثمان: أقسمت عليك بحقّ رسول اللّه أيّ البلاد أحبّ إليك؟ قال: الحرمان فقد عبدت اللّه فيهما و أخبرني النبي بإبعادي إلى الربذة و قال: تعيش وحدك و تموت وحدك و تبعث أمّة وحدك و تحشر وحدك و تدخل الجنّة وحدك، و يحضرك جماعة
ص: 160
من أهل العراق عند موتك فيجهّزونك و يدفنونك، أخبرني بذلك في غزوة تبوك.
فأمر عثمان جلاوزته بترحيله إلى الربذة و هي مكان في البادية موحش تقع بين الشام و بلاد الروم (كذا) فلم يخرج لتشييعه إلّا الإمام أمير المؤمنين و الحسنان عليهم السّلام و بقي أبوذر في الربذة زمانا قصيرا ثمّ مرض، فقال له بعضهم: ماذا تشتهي؟ فقال:
رحمة ربّي، قالوا: ممّن تشكو؟ قال: مرض ذنوبي، فقال: أنجيئك بطبيب؟ قال:
الطبيب أمرضني (1)، فبكت ابنته و هي عند رأسه، فقالت: ابتاه من لي في هذا القفر الموحش؟ فقال أبوذر: بنيّة، إذا أنا متّ فضعي البساط على وجهي و قفي على قارعة الطريق إلى العراق، فسوف يصل إليك تجّار فأخبريهم بحالي فإنّهم يلون أمري، فامتثلت الفتاة أمر أبيها و إذا بتجّار قد أقبلوا عليها فقامت في وجوههم:
أيّها الناس، أبوذر صاحب رسول اللّه فارق الحياة فأعينوا على تجهيزه.
فلمّا سمع القوم اسم أبي ذر ترجّلوا بأجمعهم عن دوابّهم و شرعوا في البكاء و كان أحدهم جاء معه بأربعة آلاف حلّة فانتزع إحداها و كفّنه بها ثمّ شيّعوه إلى قبره و دفنوه بخير تجلّة. أنظر إلى صنع خليفة رسول اللّه، بخ بخ لهذا الخليفة، و بخ بخ لهذا الصلاح.
اعلم بأنّ عثمان حين استتبت له الأمرة أرسل عمّاله إلى الولايات و الأقاليم في بلاد العرب و العجم فبعث إلى مصر عاملا من أقرب قرباء مروان لم يدخل الإيمان جوفه و كان مدمنا، كثير الزنا و الفجور، لا يكاد يفارق الثمل، و اسمه عبد اللّه، فسكر
ص: 161
ذات ليلة إلى الصباح فصلّى بهم الصبح أربع ركعات و قرأ مكان الفاتحة:
عشق القلب الربابابعد ما شابت و شابا ثمّ سلّم و التفت إلى المصلّين و قال: هل أزيدكم (1) أنا سكران فإن شئتم صلّيتها ثمانيا، فاجتمع الناس، قيل: ثلاثة و عشرون إنسانا، و قيل: ثمانون ألف رجلا، و قصدوا المدينة فلمّا وصلوا إلى المدينة كان عثمان على المنبر فصاحوا بعثمان: اعتزل امرنا أو اعتدل و غيّر عمّالنا. فقال: لا أنزع قميصا ألبسنيه اللّه (2)، و تشاجر القوم معه و أخيرا قبلوا بتأمير محمّد على مصر، و كتب عثمان معه كتابا بتأميره، و كتب كتابا آخر سرّا، و فيه: إذا جاءكم محمّد بن أبي بكر فاقتلوه.
و قال أمير المؤمنين لمحمّد: كن من القوم على حذر و احتط لنفسك فإنّك لا تصل مصر، لأنّهم يضمرون قتلك.
و عاد محمّد إلى مصر و في الطريق شاهدوا راكبا مسرعا، فأحضره محمّد و طالبه بالكتاب، فأنكره، فقال له محمّد: أخبرني به من لا يكذب، و فتّشوه فوجد الكتاب معه و قد وضعه في شنّ بالية، و لمّا قرأوه عادوا بأجمعهم إلى المدينة فوجدوا عثمان على المنبر، فقرأوا الكتاب على الناس و هو يستمع، فاعتذر عثمان بمروان و قال: هو صاحبها، فقال الناس: ادفع إلينا مروان، فقال عثمان: لا أفعل، فصاحوا
ص: 162
به، فنزل مسرعا عن المنبر و اختبأ في بيته، فحاصروه ثلاثة أيّام و منعوا عليه الماء (1)، و في اليوم الثالث دخل عليه محمّد و ضربه ضربات جارحة و هجم عليه المهاجرون و الأنصار مجتمعين و استباحوا دمه و قتلوه، و تركوه ملقى في بيته ثلاثة أيّام لم يأذنوا بدفنه.
و قيل: ربطوا في رجله حبلا و سحبوه في الأسواق (2) فمنع أمير المؤمنين من ذلك و قال: هذا لا يليق بنا فإنّ أهل الكتاب يعيبوننا و يقولون: انظروا إلى ما يصنعه المسلمون بإمامهم و لكنّهم لا يعرفون عن ظلمه شيئا و كيف كانت سيرته، و دفن في مقابر اليهود بالقرب ممّن يدعى كوكب (كذا)، فلمّا استخلف معاوية لعنه اللّه ألحق المكان في مقابر المسلمين و من هذه الجهة قال بعض الصحابة: قتلناه كافرا.
و العجب من مقاييس القوم فإنّهم يجعلون إجماع أهل السقيفة حقّا و إجماع يوم الدار على قتل عثمان باطلا، و الحقّ طرح الاثنين و اعتقاد الحقّ مع عليّ عليه السّلام فنقول:
الحقّ مع عليّ عليه السّلام في الحالين.
و قيل: لمّا رجع محمّد وجد عثمان على المنبر فقال: ما قولك فيمن يدّعي الإسلام و إمامة المسلمين ثمّ يأمر بقتل أخيه المسلم من غير ذنب؟ فقال عثمان: يجب قتله إن صحّ الذي تقوله، فأخرج حينئذ محمّد كتابه و قرأه على المهاجرين و الأنصار، فصاحوا بعثمان و حملوا عليه فقتلوه و قالوا: لا يدفن في مقابر المسلمين.
ص: 163
و كان الإمام في ذلك اليوم قد اجتنب الفتنة و خرج خارج المدينة، فلمّا قتل عثمان تجمهروا في المسجد و قالوا: أنتم تعلمون بما جناه عثمان على الأمّة و نرى الصلاح في مبايعة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لأنّه أهل لها و هو صالح و عالم و عابد، و كان الحقّ حقّه، فقال عمّر و أبو الهيثم بن التيّهان و رفاعة بن نافع و مالك بن العجلان و أبو أيّوب و خالد بأجمعهم: الرأي ما رأيتم و نحن معكم فأخرجوا بنا إلى بيت عليّ عليه السّلام، فاجتمعوا على بابه فضجر من هذا الوضع أمير المؤمنين لأنّه على علم بعذر طلحة و الزبير، فقال له الناس: إن لم تقبل البيعة ألحقناك بعثمان، و أوّل من بايعه طلحة و الزبير (لعنهما اللّه) و كان طلحة يعاديه إلى آخر حدّ، فالتفت عليّ إليهما و قال:
دعوني و التمسوا غيري، و قال أيضا: لا أرضى ببيعتكم لأنّي غير آمن من شرّكم و بايعه القوم طائعين غير مكرهين.
و كان طلحة خازن بيت المال و صاحب البهم و الصدقات و الزكاة أيّام عثمان (1) و لمّا قتل عثمان أرسل المفاتيح إلى عائشة و لجأ إليها.
و بايع أهل المدينة جميعا- قلبا و لسانا- أمير المؤمنين و كان اجتماعهم على البيعة لا نظير له حتّى كاد القوم أن يهلكوا، فقال أمير المؤمنين: أرى من الصلاح أن نذهب إلى المسجد ليعلم الناس كلّهم بالبيعة و يرغبوا بها.
و لمّا تمّت البيعة لعليّ عليه السّلام خطب الناس خطبة بليغة و أمر الناس بطاعة اللّه
ص: 164
و رسوله و طاعته، و قال: إنّكم لتعلمون أنّ الحقّ حقّي، و أنّه غصب منّي بالظلم و الجور، ثمّ نزل عن المنبر و أوّل خطوة خطاها عزل ولاة عثمان و ترك أبا موسى الأشعريّ لأنّ مالكا تشفع فيه ثمّ ولّى قثم بن العبّاس على مكّة و ولّى (عبد اللّه) عبيد اللّه بن العبّاس اليمن، و ولّى عثمان بن حنيف على خراج البصرة و الحارث بن قدامة على إمامة صلاتها.
و يقال: إنّه ولّى عبد اللّه بن العبّاس على الشام فامتنع و قال: لا أقدر على ذلك، لأنّ فيها معاوية و هو ابن عمّ عثمان و أدنى غدره أن يحبسني، فشاوره أمير المؤمنين في الشام و أهله، فقال: اكتب كتاب تولية معاوية على الشام ليعلم بذلك أهل الشام ثمّ ابعثني إليه أعزله. و استدعى المغيرة و شاوره في أمر الشام، فقال المغيرة: الرأي أن تترك الشام لمعاوية و تولّي طلحه و الزبير على البصرة و الكوفة، و كان عبد اللّه بن عبّاس لا يرى رأي المغيرة و قال: يا أمير المؤمنين، البصرة و الكوفة هما السواد الأعظم، و طلحة و الزبير عدوّك فليس بعيدا أن يجمعا الرجال و يخرجا عليك، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: الرأي ما رأيت، فاستاء المغيرة من ذلك و قال: لا أشاركك الرأي بعد اليوم و لو كان بمقدار نفس واحد أي لا أشير عليك ما دمت حيّا.
و عمد عبد اللّه بن عبّاس فكتب كتاب التولية إلى معاوية سرّا فلمّا علم به أمير المؤمنين لامه فقال: إن ردّ الكتاب فإنّما يردّ كتابي، و إن قبله فإنّ النفع صائر إليك، فكتب أمير المؤمنين كتابا إليه و قال: بايعني المهاجرون و الأنصار و عليك أن تقدم بأهل الشام عليّ للبيعة و ولاية الشام لك (1).
ص: 165
و لمّا قرا معاوية كتاب أمير المؤمنين أنكره و قال: لا ولاية لعليّ عليّ، و قال قوم:
رضي معاوية بتفويض أمر الشام إليه كما جرت عادة الخلفاء من قبله و لكن الإمام عليه السّلام لم يرض بذلك و شفع له عبد اللّه بن عبّاس أن يترك الإمام ولاية الشام له ثمّ يعمل بعد ذلك بما شاء، فقال أمير المؤمنين: ما عذري إلى اللّه غدا يوم القيامة و ما جوابي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين أترك على المسلمين واليا مثل معاوية بن أبي سفيان.
و أنا- المؤلّف- آخذ بهذا القول و أعتمد عليه لأنّه الجدير بالعصمة و التقوى، و أمّا القول الأوّل فهو المكر والدهاء، و هذه السياسة لا تلائم مقام العصمة، و إن كانت إلى الساسة أقرب، و لمّا بلغ الإمام عليه السّلام إباء معاوية عن بيعته جمع أهل المدينة و حرّضهم على حرب معاوية.
جاء في الروايات أنّه بعد إبرام الصلح بين عليّ عليه السّلام و معاوية (لعنه اللّه) اجتمع جماعة من الخوارج في بيت اللّه الحرام و راحوا يتذكّرون قتلاهم في النهروان و يترحّمون عليهم و يذكرون مناقبهم و يصلّون عليهم، فقام ابن ملجم من بينهم و قال: أنا أكفيكم عليّا، و قال عبد اللّه بن سليمان: و أنا أكفيكم معاوية، و قال عمرو ابن بكر التميميّ- التيميّ- اعهدوا إليّ بقتل ابن العاص، و اتّعدوا مع بعضهم البعض و جعلوا الموعد ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، و صلّوا على عثمان و الزبير،
ص: 166
و قال: سننتقم لدماء هؤلاء (1).
و حدث لعمرو بن العاص ليلة الموعد عارض من علّة فاستناب مكانه للصلاة عبد اللّه بن خارجة التميمي فقتله عبد اللّه بن سليمى خطأ كما قيل.
و ضرب عمر بن بكر التيمي كتف معاوية- ضربه على عجيزته- فلم يعمل السيف فيه فأرادوا قتل عمرو فقال: يا معاويه أطلقني فإنّ لك عندي بشارة، فقال معاويه: ما هي؟ قال: سيأتيك غدا نبأ قتل عبد الرحمان بن ملجم عليّا، فقال معاوية: إن صدقت فإنّي مطلقك و أمر بحبسه، فلمّا بلغه قتل عليّ أطلق سراحه.
و أمّا حكايه عبد الرحمان بن ملجم لعنه اللّه فإنّه ذهب إلى الكوفة و خبأ نفسه فيها و كتم سرّه، و صادف أن جائت قطام اللعينة إلى البيت الذي فيه عبد الرحمان ملجم، فلمّا رآها هويها فخطبها إلى نفسها، فقالت له: إنّ مهري ثقيل. فقال عبد الرحمان: و كم عساه يكون؟ فقالت: ثلاثة آلاف درهم و عبد وقينة و قتل عليّ. فقال: ما أسهل المال و لكن ما أصعب قتل عليّ. فقالت: اطلبه حتّى تصيب غرّته فإن قتلته لذّلك العيش معي، و إذا قتلت فلا تعدم ثواب الآخرة. فطلبت له شبيب و هو من الخوارج ليعينه، و أفضى هؤلاء اللعناء بالسرّ إلى الأشعث بن قيس و كانت قطام قد اعتكفت في مسجد الكوفة و قد توشّحت بالسواد و كان الإمام قد قتل أباها و أخاها في النهروان فحقدت على الإمام جرّاء ذلك حقدا شديدا.
و كان حجر مقيما في المسجد تلك الليلة يصلّي، فارتاب بهم، فخرج مسرعا ليخبر أمير المؤمنين، فاختلف معه في الطريق.
ص: 167
قالت أمّ كلثوم: إرق أبي تلك الليلة فلم يغمض له جفن، و قضى ليلته مصلّيا و يخرج بين فترة و فترة و يقول: ما كذبت و لا كذّبت. قالت أمّ كلثوم: فقلت له: ما الذي جرى لك يا أبتاه لم تنم الليلة؟ فقال: غدا تعلمين ما الذي يجري على أبيك.
و كان في رمضان الذي قتل فيه أعرض عن الأكل و اقتصر على ثلاث لقمات، فقيل له: يا أمير المؤمنين، مالك لا تأكل؟ فقال: أشتهي أن ألقى اللّه و رسوله و أنا خميص البطن، و كان إذا بلغ الألم به أشدّه من رعيّته يقبض على لحيته الكريمة: متى ينبعث أشقاها فيخضب هذه من دم رأسي.
قال أبو صالح: سمعت عليّا يقول: رأيت النبيّ في النوم و شكوت له أمّته، فقال لي: لا تحزن فإنّك عن قريب تلقاني و تنجو من غدرهم، فما مرّ على تلك الرؤيا ليلتان حتّى خضّبه ابن ملجم لعنه اللّه بسيفه.
و لمّا سمع الأذان أمير المؤمنين عزم على الخورج إلى المسجد، فقالت له أمّ كلثوم:
أرى أن ترسل إلى جعدة بن هبيرة للصلاة و تقيم أنت في البيت، فقال: حسنا رأيت و لكن استثنى من ذلك و قال: لا مهرب من الموت.
اشدد حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيك
و لا تجزع من الموت إذا حلّ بواديك قيل: لمّا جاء ابن ملجم للبيعة، أخذ الإمام البيعة منه سبع مرّات، فقال الإمام الحسن: لم تفعل بأحد من الناس ما فعلته بهذا؟ فقال: لو بايع مائة مرّة فإنّه لا يترك فعلته.
و كان هذا اللعين يماشي الإمام عليه السّلام فوقفت دابّته، فأمر الإمام بإبدالها بأحسن منها، و لمّا اعتلى ابن ملجم صهوتها و أدبر، قال أمير المؤمنين:
أريد حبائه و يريد قتلي عذيرك من خليلك من مرادي كان عمر بن الخطّاب يروي رواية و يقول: إذا شككت بمولد طفل هل هو
ص: 168
لسفاح أو لنكاح فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ضعه أمام عليّ فإذا تبسّم و ضحك فهو ابن حلال، و إن بكى فهو لغير رشده.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قال لي إبليس: قل لعليّ يرد لي حقّي، فقال أمير المؤمنين:
و ما حقّ هذا اللعين- يا رسول اللّه- عليّ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّه قال: ما من عدوّ لعليّ إلّا و أشركت أباه فيه، قال اللّه تعالى: وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ (1) و الحقيقة أنّ عدوّ أهل بيت النبيّ لا يمكن أن يكون إلّا لغير رشدة.
و لمّا خرج أمير المؤمنين خرج و هو يردّد «اشدد حيازيمك للموت» و لمّا توسّط صحن الدار صحن إوز أهدين للحسنين في وجهه فزجرتهنّ أمّ كلثوم، فقال أمير المؤمنين: دعيهنّ يا بنيّة، فإنّهنّ ينحن عليّ.
و جوهر القول أنّ الإمام لمّا بلغ المسجد كان النغل الزنيم راقدا فيه يرقب غرّة الإمام، فأخذه النوم فأقبل الإمام و نادى برفيع صوته «الصلاة أيّتها الجماعة» فنهض شبيب حين دخل الإمام محرابه و شرع في الصلاة فضربه شبيب ضربة خفيفة لم تؤثّر فيه و لاذ بالفرار، و كان الإمام إذا دخل في الصلاة انقطع عن العالم، حتّى جائه عبد الرحمان بن ملجم عليه اللعنة و ضربه ضربة شديدة فخفّف في الصلاة و قد جرى الدم على لحيته الشريفة فكان يأخذ الدم و يمسح به الجدار، يقال: إنّ هذا الدم ما يزال ظاهرا في ذلك المكان.
ثمّ هرب ذلك اللعين و دخل شبيب بيته و أخذ يحلّ الحرير عن صدره و كان له ابن عمّ مسلم، فقال له: يا عدوّ اللّه، كأنّك قتلت أمير المؤمنين، فأراد أن يقول لا، فقال: نعم، فضربه ابن عمّه بالسيف حتّى ألحقه بجهنّم.
و هرب عبد الرحمان فارتفع النداء في الكوفة بأنّ عبد الرحمان قتل عليّا عليه السّلام،
ص: 169
و جاء حمّاميّ و بيده بساط فلمّا رأى ابن ملجم يعدو هاربا ألقى البساط على عنقه و أخذ يجرّه حتّى قدم به على الحسنين فأوقدوا مشعلا و حملوا الإمام إلى بيته و أمر جعدة ابن أخت الإمام أن يصلّي بالناس فجاؤوا الإمام بشراب من اللبن، فقال:
احملوا لابن ملجم مثله لأنّه خائف.
فصاح الناس به: أيّها اللعين، لم قتلت الإمام؟ فقال: ما أنا الذي قتلته، و جاؤوا بجرّاح لسبر جرح أمير المؤمنين عليه السّلام، فلمّا أرسل المسبار في جرح الإمام عليه السّلام و أخرجه قال: يا أمير المؤمنين، أوص وصيّتك فإنّ سيف الملعون نفذ إلى الدماغ، لأنّه قال: اشتريت سيفي بألف، و سممته بألف، ثمّ أوصى الإمام وصيّة للحسن عليه السّلام و هي الوصيّة التي أوصاه بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: يا حسن، أنت وصيّي، و الحسين من بعدك وصيّك، و من بعده ولده عليّ بن الحسين زين العابدين، و أخيرا قال: إن سلمت من ضربة ابن ملجم فأنا أولى بدمي؛ إن شئت اقتصصت و إن شئت عفوت، و إذا أنا متّ فاضربوه ضربه بضربه، فإذا قتلتموه فأحرقوا جثّته كقاتلي الأنبياء فإنّ جثثهم تحرق بعد قتلهم، ثمّ توفّي الإمام بعد ذلك، فعمل الحسن بوصيّة أبيه و ضربه ضربة واحدة و استوهبت أمّ الهيثم و هي امرأه مؤمنة جثّته من الإمام الحسن عليه السّلام و أحرقتها.
و توفّي أمير المؤمنين في الواحد و العشرين من شهر رمضان و أوصى: إذا غسلتموني فكفّنوني و احملوني إلى الغري، فسيرتفع المقدّم فارفعوا المؤخّر، و حيثما وضع المقدّم فضعوا المؤخّر، و ادفنوني هناك، فلمّا توفّاه اللّه إليه قام الإمام الحسن عليه السّلام بتجهيزه فغسّله و كفّنه و تقدّم للصلاة عليه و صلّى ورائه مواليه، و لمّا حملوا جنازته سمعوا للملائكة دويّا كدويّ النحل، و حملوا النعش إلى الغري، و دفن هناك حيث قبره الآن في النجف.
و لمّا بلغوا الموضع لاحت لهم صخرة بيضاء تدلّ على القبر فاشتغلوا بحفره، فلمّا حفروا قدر ذراعين ظهر لهم قبر محفور و لحد مشقوق و ساجة منقوره و كتب عليها:
ص: 170
هذا القبر من نوح لأخيه عليّ (1) بن أبي طالب وصيّ محمّد، فدفنوه فيه و ضيّعوا القبر بأمر الإمام حيث أوصاهم بإخفاء القبر لعلمه أنّ الحكم يؤول إلى بني أميّة و آل مروان و إذا علموا به فإنّهم يحفرونه.
و لمّا رجع المؤمنون من دفنه و شاهدوا معجزة القبر الذي حفره نوح قبل آلاف السنين له، بقي من لم ير ذلك في شوق زائد إليه، حتّى إذا ظهر القبر للعيان رغب مواليه في زيارته و رؤية هذه المعجزة فزاروا و شاهدوها.
و قال جماعة ذهبوا لزيارته و تحرّوا رؤية القبر فلم يقعوا على أثر له لأنّ اللّه تعالى أخفاه و بقي مستورا حتّى أيّام هارون الرشيد، و ذات يوم خرج الرشيد يصطاد فرأى قطيعا من الضباء تجثم على ذكوة بيضاء فلمّا بصرت بهم تفرّقت يمينا و شمالا فأرسلوا عليهنّ كلاب الصيد فإذا بلغن موضع الذكوة تراجعن إلى الوراء.
فتحيّر هارون في أمرهنّ فبنى أطنابه هناك و أرسل إلى الكوفة وراء شيخ طاعن في السنّ و سأله عن جلية الحال، فقال: إنّي سمعت أسلافي يقولون: ها هنا قبر عليّ بن أبي طالب. فأقام هارون ثلاثة أيّام هناك، و شرع في الصلاة و التضرّع و الزيارة، و من طلب حاجة من اللّه هناك فإنّها تقضى له.
و قيل: إنّ الإمام الصادق عليه السّلام في المدينة فاستدعاه (2) و أمره بتعيين قبر أمير المؤمنين إلى أن أقام عليه هارون قبّة فأصبح اليوم قبلة ذوي الحاجات.
قيل: لمّا رجع الحسنان من دفن أبيهما سمعا أنينا عاليا فقصدا مقصدها، فرأيا شيخا أعمى عاجزا، فقالا له: ممّ أنينك يا شيخ؟ قال: أنا شيخ أعمى كبير عاجز و كان رجل يأتيني و يتعاهدني بالرعاية، فيحمل لي طعامي و مائي، و هذه ثلاثة أيّام افتقدته فيه و لست أدري ما الذي حدث له.
ص: 171
فقال له الإمام الحسن: أما سألته عن اسمه؟ قال: سألته، فأجابني: عبدا من عباد اللّه تعالى. فإذا جاءني أحس بإشراقة باطنيّة تستولي عليّ و يذكو هذا البيت بعرف عصمته.
فبكى الحسنان و مواليهما و قالا: هذه صفة أبينا، فقال الرجل: من أبوكما؟ و من أنتما؟ فقالا: نحن الحسنان و أبونا عليّ بن أبي طالب. فقال الشيخ: و ما الذي جرى لأبيكما؟ فقالا: الآن فرغنا من دفنه و أقبلنا من قبره، فرفع الشيخ يده و قبض على تلابيبه و قال: بحقّ أمير المؤمنين إلّا ما أخذتموني إلى قبره، فحملوه إلى القبر، فوضع الشيخ رأسه على القبر و بكى بكاءا شديدا و قال: اللهمّ أسألك بعصمة أمير المؤمنين و طهارته إلّا ما قبضت روحي فإنّي لا أحبّ الحياة هذه، دعا بهذا الدعاء ثمّ أسلم الروح فقام الحسنان على تجهيزه و دفناه عند قبر أمير المؤمنين.
و كان عمره الشريف ثلاثا و ستّين سنة، ولد قبل البعثة بعشر سنين و عاش بعد البعثة مع النبيّ ثلاثا و عشرين سنة، و ثلاثين سنة بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و مدّة خلافته خمس سنوات و أشهر (1). عاش بعد البعثة يعاني الشدائد مع المشركين، و في أيّام خلافته عليه السّلام الظاهريّة عانى دائما من خبث معاوية و طلحة و الزبير و الخوارج و أمثالهم، و لم يلقّب أحد قبله و لا أحد بعده بأمير المؤمنين (2) و لم يجاهد جهاده نبيّ و لا وصيّ نبيّ، و لم يكن في شجاعته أحد من الناس.
زوجته فاطمة الزهراء مربّية رسول اللّه محمّد المصطفى منذ طفولته إلى يوم وفاته، أولاده الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، و حباه اللّه بكثرة النسل بما لم يحب به أحدا من الناس و هم السادات الكبار المعروفون بالاسم و النسب و ليس لنبيّ ما له من الذرّيّه الطاهرة، و يتّصلون برسول اللّه بواسطة الزهراء فاطمة عليها السّلام.
ص: 172
اعلم أنّ أبا موسى الأشعريّ كان واليا لعمر بن الخطّاب في بعض النواحي فكتب إلى عمر: إنّ كتبك تصل إليّ و لست عارفا بتاريخها، فجمع عمر أصحابه و شاورهم في الأمر فقال بعضهم: نجعل أوّل التاريخ مبعث الرسول، فلم يرضى عمر ذلك و استشار عليّا عليه السّلام، فقال عليّ عليه السّلام: خرج الرسول من أهل الشرك و هو يوم هاجر، فرضي بذلك عمر و جعله أوّل التاريخ و كتب إلى الولايات و الأقاليم به، فكان يوم الهجرة معتبرا في أوّل التاريخ.
و ذكر الشيخ أبو الحسن الفارسي الناصبي في كتابه تاريخ الخلفاء أنّ اسم أبي بكر عبد اللّه، و اسم أبيه عثمان، و لقّب بعتيق و هو عبد اللّه بن عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن لؤي، و كنية أبيه أبو قحافة، و أمّه سلمى بنت صخر، و وزيره عثمان بن عفّان في بيت المال و أمثاله، و وزير تدبير الملك و القهر و تولية الولايات و العزل و تعيين النوّاب على البلاد عمر بن الخطّاب.
ص: 173
و استقال أبو بكر مرّات بقوله: «أقيلوني» فلست بخيركم و عليّ فيكم. و لم يترك عمر الناس كي يقيلوه و قالوا: لا نقيلك، و كانت خلافته سنتين و ثلاثة أشهر و ثمانية أيّام، و قيل: ثلاثة عشر يوما.
أخذ البيعة من الناس في سقيفة بني ساعدة في اليوم الأوّل، و سانده جماعة من أعداء أهل البيت، توفّي في اليوم السابع و العشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة و عمره ستّون سنة (1)، و كان أبوه حيّا يوم وفاته، و لم يستخلف أحد من الخلفاء و أبوه على قيد الحياة سواه، و ليس ذلك لخير يريده اللّه به لأنّ أباه امرئ غير معصوم من الخطأ فقد يخطأ و يرتكب معصية توجب عليه الحدّ فإن أقامه عليه ابنه فقد عصى اللّه فيم قوله: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما (2) و إن ترك الحدّ عصى في تركه (3).
أمّا يوسف و نظائره من الأنبياء فإنّ نبوّتهم أتتهم بعد وفاة آبائهم، سلّمنا أنّ منهم من كان نبيّا في حياة أبيه، إلّا أنّه من ذوي العصمة الذي لا يظنّ بهم السوء، ثمّ إنّ يوسف و أشباهه نوّاب آبائهم في حياتهم و لم يكونوا أنبياء على الاستقلال (4).
أمّا ما يقال من أنّ أبا بكر كان في مبعث النبيّ ابن الأربعين عاما و بقي مع النبيّ
ص: 174
ثلاثا و عشرين سنة مدّة البعثة و بقي سنتين و ثلاثة أشهر و أيّاما بعد وفاة النبيّ فكان يوم وفاته له من العمر خمس و ستّون عاما و ثلاثة أشهر و أيّاما فإنّ هذا هو المعتمد لا الرواية الأولى.
و كان أبو بكر من بني «تيم اللات».
و كنية عمر «أبو حفص» و قالوا: عمر بن الخطّاب بن نفيل ابن عبد العزيز بن عبد اللّه بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، و وزيره زياد بن مسلم، دامت خلافته عشرة أعوام و ستّة أشهر و أربعة أيّام، و قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة في السادس و العشرين من ذي الحجّة سنة ثلاث و عشرين من الهجرة، و كان له من العمر ثلاث و ستّون سنة، و صلّى عليه صهيب مولى عبد اللّه بن جدعان.
سألوا الإمام الصادق عن أبي بكر و عمر كيف استقامت لهما الأمّة و لم تستقم لعثمان، فقال عليه السّلام: عدل الرجلان مع الناس إلّا مع أهل بيت النبيّ، أمّا عثمان فكان ظلمه عامّا؛ لأهل البيت و للناس قاطبة، من هذه الجهة اجتمع الناس عليه فقتلوه (1)، و سلبت ثقة الناس فيه، اللهمّ إلّا ما يذاع عنه من أفعال محمودة ليس لها واقع بل أنشئت كراهيّة للشيعة و أهل بيت الرسول و أذاعتها جماعة تطلق على نفسها العثمانيّة و كان عمر عدويّا.
ص: 175
و كنية عثمان أبو عبد اللّه و هو عثمان بن أبي العاص بن أميّة يعني عثمان بن أبي عاصم بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف (1)، بويع في أوّل المحرّم سنة أربع و عشرين، و دامت خلافته اثني عشر عاما إلّا ثمانية أيّام، و قتل بالمدينة بإجماع المهاجرين و الأنصار لاثني عشر ليلة بقيت من ذي الحجّة سنة ستّ و ثلاثين، و كان عمره ثمانين سنة و هو أوّل ملوك بني أميّة
كانت خلافة مولانا حجّة اللّه على الخلق عليّ عليه السّلام أربع سنين و ثمانية أشهر و تسعة عشر يوما، و دفن يوم الجمعة ليلة الحادي و العشرين من شهر رمضان، و هو هاشميّ الأبوين، عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، ابن عمّ الرسول شقيق والده عبد اللّه، و أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، و عمره الشريف ثلاثة و ستّون عاما، و قيل: خمسة و ستّون.
قال أبو عنان مالك بن إسماعيل الهنديّ و يسمّى الراهب أو الواهب: حضر محمّد بن أبي بكر عند أبيه في السياق و هو ينازع سكرات الموت، فقال له: أراك يا أبتى بحال لم تكن عليها من قبل، فقال: يا بني، للرجل عليّ مظلمة إذا حلّني منها رجوت أن أفيق (2).
ص: 176
و حديثه سقيم، فقال محمّد: من ذلك الرجل يا أبتى؟ فقال: عليّ بن أبي طالب، فقال محمّد: أنا الضامن لعليّ أن يحاللك لأنّه رجل سليم، ثمّ أقبل محمّد على أمير المؤمنين عليه السّلام و قال: تركت أبي على شرّ حال و ضمنت له أنّك تعفو عنه و تبرء ذمّته، إن كان ذلك من رأيك، و تترحّم عليه و تعفو منه.
فقال أمير المؤمنين: «كرامة لك» و لكن قل لأبيك أن يرقى المنبر و يخبر الناس بهذا ليخرج من ذمامي، فعاد محمّد إلى أبيه و قال: قد استجيب الدعاء فقد قال عليّ: كيت و كيت، فقال أبو بكر: ما أحبّ أن لا يصلّي عليّ بعدي اثنان (1) فإنّي إن أقل هذا القول أبق لعنة على ألسن الناس إلى يوم القيامة.
سأل أمير المؤمنين يوما محمّدا بن أبي بكر: أما سمعت أباك يقرأ هذه الآية:
وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (2) و قال عمر لك أحذر يا بني أن يسمع منك ابن أبي طالب ما قال أبوك فيشمت بنا؟ فقال محمّد: صدقت يا علي، و قال: أنا سمعت (أبي) يلعنه و يقول: أنت أوردتني الموارد، فقال: بلى .. (3).
ص: 177
و جاء في كتاب «فعلت فلا تلم» (1) أنّ أبا بكر و عمر و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة و أبو عبيدة بن الجرّاح أدركهم الموت و هم في الويل و الثبور.
و قال محمّد بن أبي بكر: قال أبي عند الموت: هذا محمّد و عليّ قد حضرا عندي و هما يبشّراني بالنار، و في يد محمّد صحيفة هي التي كتبنا فيها عهودنا و هما يقرءان فيها و يبشّراني و عمر و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة و أبو عبيدة بن الجرّاح بجهنّم، و كانت عائشة و عبد الرحمان بن أبي بكر و عمر حاضرين عند أبي بكر، فقال عمر: إنّه ليهجر و لكن اكتموا هذا السرّ لئلّا يشمت بكم عليّ و بنو هاشم.
قال محمّد: فقال أبي: يا عمر، إنّي لا أهجر، ألا تذكر عندما كنت معه في الغار قال لي: إنّي لأرى سفينة جعفر تجري في بحر الحبشة، فقلت: يا رسول اللّه، أرنيها، فمسح بيديه على عينيّ فرأيتها، فقلت في نفسي: هذا الرجل ساحر، و لمّا رجعت إلى المدينة قلت لك بما في نفسي، و اتفقنا أنا و أنت في الرأي عمرنا كلّه على أنّه ساحر؟
فقام عمر من عنده و ذهب خارج الدار.
قال محمّد: فقلت له: يا أبت، قل لا إله إلّا اللّه، فقال: و اللّه لا قلتها و لا أستطيع قولها حتّى أدخل النار و أكون في التابوت، فذكر التابوت فقلت في نفسي: إنّه ليهجر، فسألته: و ما التابوت؟ فقال: إنّه تابوت يكوت تحت طبقات جهنّم و دركاتها و فيه اثنا عشر شخصا: أنا و أبو بكر و عمر و عثمان و معاوية و يزيد إلى أن
ص: 178
عدّ آخرهم، ثمّ قال: إذا أمر اللّه النار أن تثب فإنّ هذا التابوت يخرج من موضعه المسمّى بالعنق.
قال محمّد: قلت له: «يا أبت تهذي»؟ قال: و اللّه ما أهذي، لعن اللّه ابن (الضحّاك) صهّاك هو الذي صدّني عن الذكر بعد ما جائني فبئس القرين، و وضع وجهه على الأرض و نادى بالويل و الثبور إلى أن هلك، فجائني عمر و أخي عبد الرحمان و سألاني: هل قال شيئا آخر؟ فقصصت عليهما ما قال، فقال: احذر أن تبلغ عليّا قوله.
قال محمّد: و أخبرني عليّ عليه السّلام بحالات أبي كأنّما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يأتيه كلّ ليلة في النوم فيخبره بما يكون عليه حال القوم أو أنّه كان يحدّثني من الجفر الجامع للعلوم، أو أنّ ملكا يأتيه فيحدّثه كما كان يأتي مريم أمّ عيسى، أو أمّ موسى، أو زوج إبراهيم ساره التي كلّمتها الملائكة و رأتهم، و هذا كلّه مذكور في القرآن.
قال معاذ بن جبل عند موته: اتّعدنا في حجّة الوداع و تعاهدنا أن لا نترك عليّا يبلغ الخلافة، و كان بشير بن سعد و أسيد بن حضير في هذا العهد، فلمّا توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال معاذ: أنا أكفيكم الأنصار و أنتم اكفونا قريشا.
تنبيه: قال عبد اللّه بن عمر: أحضر أبي عليّا عليه السّلام عند موته و طلب منه إبراء لذمّته، فقال عليّ عليه السّلام: أفعل إن رضيت بشهادة عدلين على ذلك، فحوّل أبي وجهه إلى الحائط و سكت ساعة ثمّ أعاد القول ثانيا، فأعاد عليّ عليه السّلام قوله، فحوّل أبي وجهه إلى الحائط ثمّ نهض عليّ خارجا من المكان.
و لمّا كانت الطعنة شديدة على عمر أوتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فقصده جماعة و بشّروه بالجنّة، فتنفّس عمر الصعداء حتّى كادت روحه أن تخرج، ثمّ قال:
و اللّه لو أنّ لي ما في الأرض من صفراء و بيضاء لافتديت بها من هول المطّلع. و هذه رواية ابن عبّاس.
ص: 179
و روي أنّه قال: لوددت أنّي لا أدخل النار، و أمثال هذه الروايات.
و دلائل قول أمير المؤمنين: ما زلت مغصوبا (حقّي) منذ قبض اللّه رسوله و لقد مات و إنّي و اللّه لأولى الناس بها مني بقميصي هذا.
و كان يقول دائما: و اللّه لو كان حمزة و جعفر حيّين ما طمع فيها أبو بكر و عمر و لكن ابتليت بحالفين حافيين عقيل و العبّاس (1) و راوية هذا الخبر أبو جعفر محمّد الباقر عليه السّلام.
جاء في كتاب «فعلت فلا تلم» أنّ أبا بكر ندم في مرض موته و كان يقول: ليتني لم أؤمّن الأشعث بن قيس و لم أزوّجه أختي.
و القضيّة التي ملأت قلب الشيخ بالحسرة هي أنّ الأشعث كان قد ارتدّ و كان قد صدر الأمر بقتله، فاستشار أبو بكر أباه أبا قحافة و كان أبو قحافة قد عرض عليه الإسلام في ذلك اليوم، و قال لأبي بكر: آمنه و زوّجه أختك عسى أن ننال بذلك رفعة و فخرا، و لو كنت في الجاهليّة لما تيسّرت لك هذه الحال، ففعل أبو بكر ذلك طلبا للملك و الجاه و أجرى عليه حكم الإسلام، فقال الأصبغ بن حرملة الليثيّ:
أتيت بكنديّ قد ارتدّ و ارتقى إلى غاية من نقض ميثاقه كفرا
أكان ثواب النكث إحياء نفسه و كان ثواب الكفر تزويجه البكرا
فلو أنّه يأتي عليك نكاحهاو تزويجه يوما لأمهرته مهرا
و لو أنّه رام الزيادة مثلهالأنكحته عشرا و أتبعته عشرا
فقل لأبي بكر و قد شئت بعدهاقريشا و أحملت النباهة و الذكرا
أما كان في تيم بن مرّة واحدتزوّجه لولا أردت به الفخرا؟
ص: 180
و لو كنت لما أن أتاك قتلته لأحرزتها ذكرا و قدّمتها ذخرا
فأضحى يرى ما قد فعلت فريضةعليك فلا حمدا حويت و لا أجرا (1) الندم الثاني قوله: «و ليتني لم أكشف بيت فاطمة» (2).
الجواب: هذا ليس ذنبه هو بل ذنب صاحبه عمر و خالد بن الوليد لينال عمر المكافأة ثمّ يقول: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» أمّا يوم الجزاء لا ينفعه صاحبه و لا يغيثونه، يوم يفرّ المرء من أبيه.
و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده
و من كان غاصبنا حقّنافيوم القيامة ميعاده التأسّف الثالث قوله: ليتني لم أولّ السقيفة (3). و هذا يدلّ على ظهور عاقبة أمره لعينه و انكاشفها له بحكم قوله تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (4) و يدلّ أيضا على أنّ فعله لم يكن بأمر اللّه و رسوله و لا بمشاورة المؤمنين و إلّا فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: «ما خاب من استشار» (5) و دليله قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة .. الخ.
ص: 181
و لقد قال اللّه تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (1) و قوله تعالى: أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ (2).
الندم الرابع قوله: وددت أنّي لم أكن حرقت (محارب) الفجاءة السلمي و قتلته سريحا أو خلّيته نجيحا؛ لأنّ التعذيب بالنار مخالف لقول اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله (3).
و دليله قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا (4).
الاستدلال: منع اللّه تعالى من دخول بيت النبيّ في حال حياته إلّا بإذنه فكيف يحلّ الدخول و هو في الرفيق الأعلى، فتكون الحال للرجلين أنّهما دفنا في مكان خالفا فيه اللّه و رسوله، و البيوت بيوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد سمّاها اللّه «بيوت النبي» فأضاف البيوت إليه.
و أمّا قولهم خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حجرة عائشة، فلا يدلّ هذا القول على التمليك لأنّ الإضافة بعلاقة التمييز الملابسة كما يقولون: خرج من حجرة لأدنى ملابسة إذ من المقطوع به أنّ الخارج لم يكن في الحجرة كلّها ساعة خروجه.
ص: 182
لا يقال: بأنّهما دفنا في حصّة ابنتيهما عائشة و حفصة لما لهما من الثمن و سهمهما من الثمن «التسع» أي تعطى كلّ واحدة منهما التسع منالثمن و هو لا يقوم بشبر واحد بل دون الشبر فكيف يتّسع الشبران لقبرين؟
ثمّ ألم يقولوا: إنّ النبيّ لم يورث بل كان إرثه صدقة على المسلمين و حينئذ يتّسع الخرق على الراقع حيث يكونان قد دفنا في أرض المسلمين و لعلّ من المسلمين من لا يرضى بدفنهما في أرضه مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: نحن أهل بيت لا يحلّ لنا الصدقة (1).
لا سيّما إذا مرّ على ذلك سنون عدّة فتبيّن من هذا أنّ الرجلين دفنا في أرض مغصوبة.
و إن قال الخصم أنّ الحجرتين ميراثهما من رسول اللّه فوهبتاه إلى أبيهما.
الجواب: و هذا قول باطل، و اعلم أنّهما إن جاز ميراثهما من رسول اللّه فقد جاز للزهراء عليها السّلام أيضا و لكنّ الخصم يزعم أنّ النبيّ لا يورث. ما أعجب هذا القول:
لا ترث ابنة رسول اللّه أباها و ترث ابنة عمر و ابنة أبي بكر رسول اللّه، إنّ هذا لمضحك من القول و شرّ المصائب ما يضحك.
و إن كانت حجرتاهما ميراثا و وهبتاه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّ الهبة لا يجوز الرجوع بها «الراجع في هبته كالكلب يعود في قيئه» (2) و بناءا على هذا يكون نقضا لعهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
ص: 183
الاستدلال الثاني: إنّ اللّه لم يأذن لأحد أن يقيم في بيت النبيّ ساعة من النهار و من فعل ذلك لامه اللّه و أدّبه فكيف يسوغ لهما بدون إذن من اللّه و رسوله النوم هناك و قال اللّه تعالى في ختام الآية: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ (1) و قال في حقّ من آذاه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ (2).
وجه آخر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ (3) و بقيت هذه السنّة إلى الآن لا يرفع القرّاء أصواتهم في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله احتراما له و امتثالا لأوامره و هؤلاء فعلوا ما فعلوا في محضر الرسول و وطأوا بساط النبوّة و كانت أصواتهم و نعراتهم تخترق المسافات حتّى تغطّي مساحة نصف المدينة، نسأل اللّه أن يرزقهم الحياء. و كان النبيّ مادام على قيد الحياة فهو في عسر معهم و بعد أن توفّاه اللّه إليه زادوا الطين بلّة، و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) إنّ اللّه لم يرض بمناداة النبيّ من وراء الحجرات فكيف يرضى لهم النوم في حجرته، و تنطلق الأصوات هناك كأنّها الصواعق منهم.
بيّنة: بقي النساء اللواتي كنّ يسكنّ الحجرات في حجراتهنّ بعد وفاته تطبيقا لقوله تعالى: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ (5) ما عدا عائشة فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخرجها من البيت.
و سرّ هذا الأمر واضح فإن كان يعلم بما يجري منها من ركوب الجمل، و غزوها و قتالها لتنال بذلك الثواب و فضلها القوم على غيرها بقصدها عليّا و حسنا و حسينا
ص: 184
للقتال و غيرهم من الصحابة ممّن نصرهم، و أبى باقي النساء أن يسلكن مسلكها و ينبغي على صاحب هذا المعتقد أن يستحي من اللّه إن كان يعرف ما هو الحياء،.
و لمّا عرف النبيّ ذلك بالوحي و علم أنّ ذلك على حساب شرفه صلّى اللّه عليه و آله و حيائه حيث تقود زوجه جيشا و ترتّب ميمنته و ميسرته و قلبه لذلك أوكل أمر طلاقها إلى أمير المؤمنين فامتثل الإمام هذا الأمر لأنّه إذا فقدت البيت فقد العائل أيضا (1).
سبق عليّ أبا بكر و عمر و عثمان بالإسلام، و عبد اللّه بعدهم حيث هلكوا قبله، و بقي يعبد اللّه بعدهم بل لم يصل العالم إلى العبادة الحقّة إلّا بفضل جهاده عليه السّلام.
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ضربة عليّ خير من عبادة الثقلين» (2) و ما يقال من أنّه كان طفلا حين أسلم، الجواب: إن لم يكن لإيمان الطفل اعتبار فإنّ فطرته من نوع العبث فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (3) و مثلها الحديث: «خلقت عبادي كلّهم حنفاء» (4) و الحديث: ما من مولود إلّا يولد على الفطرة و أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه
ص: 185
أو يمجّسانه (1)، مع أنّ درجة النبوّة أعلى الدرجات و كانت للطفل جائزة فيكون الإيمان أقرب للجواز.
أعطى اللّه النبوّة ليحيى و هو طفل و قال سبحانه: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (2)، و أعطى عيسى النبوّة و هو طفل: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (3) و هذه المعاني يمكن أن تكون بالإيمان، و كانت حال يوسف مشبهة لحال هؤلاء كما خاطبه و هو في البئر: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (4) و إذا أمكن أن يكون الطفل صاحب وحي أمكن أن يكون صاحب إيمان بطريق أولى.
جواب آخر: كان عليّ عليه السّلام عين الإيمان، و الإيمان به واجب بحكم أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (5).
جواب آخر: و عندنا اليوم لا يقال لمن ولد بين مسلمين قد أسلم لأنّه ولد على ذلك، و أشبهت حال عليّ عليه السّلام ذلك، لأنّه ولد بين يدي الرسول و لم يسجد لصنم أو يعبد صنما أبدا، و كان أبو بكر يعبد الأصنام ستّا و أربعين سنة، و من كان مثله يجب عليه أن يؤمن.
ص: 186
جواب آخر: كان عمر عليّ عند الوفاة خمسا و أربعين سنة سلخ منها ثلاثا و عشرين عاما مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تسعا و ثلاثين عاما سوى خمسة أشهر عاشها بعده، و يصحّ البلوغ في الثالثة عشرة و يبدأ النموّ في سنّ العاشرة، سلّمنا أنّه لم يكن بالغا عند ما أسلم و لكنّه لم يكفر كغيره و لم يستظلّ بظلّ الشرك- و حاشاه من ذلك-.
جواب آخر: سلّمنا بطفولته إلّا أنّ إسلامه بنحو الإلهام أو لا؟ فإن كان الأوّل فيكون إيمانه أعلى مراتب الإيمان، و إن كان الثاني فلا بدّ من كونه بطلب و دعوة من النبيّ و النبيّ لا يفعل ذلك إلّا بأمر اللّه كما قال اللّه تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (1) و قال: ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (2) و قال: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (3).
و تخصيصه من دون فتيان العالم بالدعوة لا بدّ من كونه لخاصيّة في شخصه و درجة عالية له بين الناس. و عندنا أنّ عناية كهذه تختصّ بالأنبياء أو الأئمّة و يظهر الإعلام عند ما يبلغ المعتنى به أشدّه كما فعل عيسى عند بلوغه من البشارة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله إظهارا لنبوّته، و هذه البشارة من أعلام نبوّة المسيح على نبيّنا و آله و عليه السلام و إلّا لو افترضنا بأنّ إيمان عليّ عليه السّلام كان بالوحي أو من تلقاء نفسه فإنّها فضيلة لا تبلغها العقول، و لا يحيط بها خاطر، لأنّ النور ملأ قلبه في بيئة يغمرها الشرك، و تطغى عليها موجة الكفر.
ص: 187
جواب آخر: اتفق المسلمون على أنّ اللّه تعالى بعث نبيّه للمكلّفين البالغين لا للصبيان دون البلوغ و لا للمجانين، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعاه- باتفاق العلماء- إلى الدين فلا بدّ من كونه و اصلا حدّ البلوغ المكلّف.
جواب آخر: خاطب اللّه نبيّه بقوله سبحانه: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (1) فكان على النبيّ أن يبدأ بقومه أوّلا بحكم هذه الآية و مقتضاها إذ العادة قاضية بأنّه ليس من الصحيح أن يتطلّب المرء إرشاد الغرباء و هدايتهم بالوعظ و النصيحة و يترك أهله و ذويه على طرف الضلال مع أنّ اللّه تعالى يقول: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها (2)، و قال: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً (3).
و اتفقوا على أنّ عليّا كتب إلى معاوية:
سبقتكم إلى الإسلام طرّاغلاما ما بلغت أوان علمي و نزل الوحي على النبيّ يوم الاثنين و أسلم عليّ عليه السّلام يوم الثلاثاء و صلّى معه.
و قالوا: لمّا دعا النبيّ عليّا عليه السّلام قال: أمهلني حتّى أشاور أبي، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:
يا عليّ، إنّها أمانة، فقال عليّ عليه السّلام: إن كانت أمانة فقد أسلمت.
و قال ابن عبّاس: لمّا دعا رسول اللّه عليّا إلى الصلاة و الإسلام قال: إنّ هذا دين يخالف دين أبي حتّى أنظر فيه و أشاور أبا طالب، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: انظر و اكتم، فمكث هنيئة ثمّ قال: أجيبك (4)، و هذا الأمر من التفكير و حفظ السرّ و مشاورة
ص: 188
الأب، و الصبر و التمهّل، و إدراك كون هذا الأمر لا ينبغي أن يشاور فيه، دليل على أنّ إسلام عليّ لم يكن بالتقليد و الاتّباع بل بالدليل الملزم و البرهان القاطع، و الطفل لا يملك حاسّة التميز بين الحقّ و الباطل.
و لو لم يكن عليّ بالغا مبلغ الرجال لما أوصاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بكتمان السرّ و لم يأتمنه، و لمّا كان النبيّ قد ائتمنه فينبغي أن يكون واثقا به و قد أوضحت ذلك في كتاب «مناقب الطاهرين» و أشبعت هذا الباب بحثا فاطلبه هناك.
و نتيجة القول: إنّ عليّا عليه السّلام كان تحت ضغط المنافقين و لقد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما أوذي نبيّ كما أوذيت (1) و هذا يبرهن على أنّ وصيّ النبيّ و هو عليّ ما أوذي وصيّ بمثل ما أوذي به وصيّ محمّد.
و من الترّهات ما رواه رواتهم من أنّ شاعرا أنشد النبيّ الشعر فلمّا طلع عليهم عمر أمره بالإمساك، فلمّا ولّى أمره بالإنشاد فأنشد و أخذ يتغنّى بشعره، و عاد عمر ثانية فعاد النبيّ يأمر الشاعر بالإمساك، و لمّا ولّى قال له: أنشد، فلمّا عاد قال له:
أمسك، فقال الشاعر: من هذا يا رسول اللّه؟ إذا جاء أمرتني بالإمساك، و إن ذهب أمرتني بالإنشاد، فقال رسول اللّه: إنّه عمر و إنّه لا يحبّ الباطل.
لقد حملهم حبّهم لعمر على نسبة الباطل إلى رسول اللّه فكيف يصحّ هذا أنّ النبيّ
ص: 189
يحبّ الباطل و عمر لا يحبّه، و إذا جاز حمل الباطل على النبيّ في مورد- و حاشاه من ذلك- جاز حمله عليه في كلّ الموارد، و الذي يهون الخطب أنّ اللّه سبحانه و تعالى في مذهب القوم فاعل لجميع القبائح و المظالم، و الغرض من هذا كلّه تنزيه عمر، و إذا نزّهوا عمر و نسبوا الباطل للنبيّ و أسمعوه الباطل فلا عجب من سوء مذهبهم، و مع هذا يروون عن عمر قوله: «أحبّ الأشياء إليّ الشعر»، و قال أيضا: علّموا أولادكم الشعر فإنّه ديوان العرب و معرفة أنسابكم و حفظ مناقبكم.
و قيل: إنّ سارية بن درهم (1) كان يقاتل في نهاوند و هو القائد على جيش المسلمين فأرسله عمر إلى غزاة فغلبه المشركون و هزم عسكره، فعلم عمر و هو في المدينة بما جرى عليه، فناداه: يا سارية الجبل هذا، فسمع سارية و التجأ إلى الجبل (2)، فإذا كان سارية سمع صوت عمر مع هذا البعد الشاسع فإنّه أفضل من عمر حين أوتي حدّه السمع هذه.
و الغرض من هذا تشبيه عمر برسول اللّه لمّا أخبر عن شهاده جعفر في غزوة مؤتة بوحي من اللّه و كشف الحجب له و ثنّى من بعده بزيد بن حارثة و من بعده بعبد اللّه بن رواحة، و هكذا فعل حين أخبر عن سارية و أمره باللجوء إلى الجبل.
و قالوا: سبّح الحصى بكفّ عثمان و الغرض من هذا الافتراء مساواة عثمان (البوّال على عقبيه- المترجم) برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لو كذبوا مئات بل آلافا لما بلغوا
ص: 190
فضل سورة هل أتى و آية المباهلة حيث دعا اللّه عليّا نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و جاء في ذلك أحاديث شتّى مع معجزات جليلة صدرت من الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.
و لقد بلغت رتبة عليّ عند اللّه و الناس درجة ادّعى بعضهم له الربوبيّة لعنهم اللّه و على الفرقة التي تعاديه و الذين لا يرضون بإمامته بعد الرسول بلا فصل.
و مع ما يسندونه إلى شيوخهم من الترّهات إذا سمعوا منّا في مناقب أهل البيت رفعوا عقيرتهم بنبزنا بقول (رافضيّ) فيا للعجب نحن الذين ننزّه ذات الباري من القبائح و نثبت للأنبياء العصمة و الأئمّة روافض، و هم الذين يخالفون هذه العقيدة يعتبرون أهل السنّة خالصين مسلمين و كذلك يتخيّلون.
و قالوا: أنفق أبو بكر على رسول اللّه أربعين ألف درهم أو دينار.
الجواب الأوّل: إنّ اللّه أغنى نبيّه بفضله عن مال أبي بكر حيث قال: وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (1).
الثاني: أغناه بالأنفال كما قال اللّه تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ (2).
الثالث: بالخمس، قال تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ (3) و الصدقة محرّمة على رسول اللّه و أهل بيته كما قال: نحن أهل بيت لا تحلّ لنا الصدقة.
و قال رواتهم: كانت لأبي بكر راحلتان فأعطى إحداهما لرسول اللّه في الهجرة فلم يقبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: لن أقبلها إلّا بثمنها فإمّا أن تبيعها عليّ أو تؤجرنيها فإنّي لا أركب بعيرا ليس لي.
ص: 191
و لقد كان أبو بكر أفقر بيت في أهل مكّه، و كان معلّما للأطفال آداب الجاهليّة، و كان سمسارا كما زعم الثعلبيّ و يبيع الكرابيس، و أبوه صيّادا، فمن أين جاءته هذه الثروة ليت شعري. و كان أكثر أهل مكّة قوم من الفقراء: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ (1).
و لمّا تلى أمير المؤمنين سورة برائة على أهل الموسم و نهى المشركين من الطواف في الكعبة و منعوا من زيارتها، شكى أهل مكّة الفقر و قالوا: كنّا نؤمن حاجتنا من نفقات الزوّار فأعطاهم اللّه تعالى الجزية المستوفاة من اليهود و النصارى و جعل ذبح الهدي لازما، و أعطي للقانع و المعتر من فقرائهم.
و توجّه المدح من اللّه إلى فقراء المهاجرين في كلّ موضع أثنى فيه على الصحابة:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ (2)، و قال: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً (3) و قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (4).
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المنبر في آخر عمره: اللهمّ هل بلّغت، و يظهر من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هنا أنّه لم يتوان عن التبليغ و لقد بلّغ الأمر و النهي و الحلال و الحرام و الشرائع بمجملها، فلا مجال حينئذ للقياس و الاجتهاد و الاستحسان و هي أمور باطلة و علل شرعيّة مندكّة في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (5).
ص: 192
فاللّه واحد، و النبيّ واحد، و الشريعة واحدة، و لكن قضى عليهم القياس أن يتفرّقوا إلى مذاهب كأنّهم لم يقرؤوا قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ (1) فأبطلت هذه الآية كلّ اختلاف جاء بالطوائف و الفرق لأنّ الحقّ واحد لا يتجزّأ، فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (2)، و قال اللّه تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (3).
و قالوا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اختلاف أمّتي رحمة، و هذا من العجائب أن يكون اختلاف الأمّة رحمة و اتفاقها و اتحادها ليس رحمة، و لا حرج عليها من الاختلاف، و في الحديث: من حكم في وزن عشرة دراهم فأخطأ حكم اللّه يجي ء يوم القيامة مقطوعا يداه ..
و نقيض هذه الرواية صحّة الاجتهاد: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر و إذا اجتهد فأصاب فله أجران (4)، و قالوا: كلّ مجتهد مصيب (5)، و لمّا انكشفت تناقضات أئمّتهم للملأ اخترعوا مثل هذه الأحاديث ليغطّوا على أخطائهم فأضلّوا أنفسهم.
و العجب من هؤلاء أنّهم يعتقدون كلّ من اجتهد في مسألة في العالم مصيبا إلّا كامل البهائي ج 2 193 الفصل العاشر ..... ص : 189
ص: 193
الأئمّة الشيعة و علمائها كالإمام زين العابدين و محمّد الباقر و جعفر الصادق و موسى ابن جعفر و عليّ بن موسى و أمثالهم عليهم السّلام مع أنّهم أهل العصمة و الطهارة و من أهل البيت النبوي فإنّهم لم يذكروا لهم مسألة واحدة في أصل أو فرع .. و مع علمهم أيضا بأنّ علمائهم كأبي حنيفة و الشافعي من تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السّلام.
و إن تعجب فعجب أمر هؤلاء أن يكون اجتهاد السقي حقّا و اجتهاد الإمام الصادق الذي روى عنه أربعة آلاف راو موثّق منهم أبو يزيد البسطامي و أبو حنيفة الكوفي، سبحان اللّه! ما أعظم هذه العداوة لهذه الضلالة مع عترة الرسول، مع أنّه ورد في كتبهم بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّي مختلف فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي. و قال عبد اللّه بن عبّاس: أوّل من قاس إبليس، و قال النبيّ: «أهل بيتي .. الحديث» و كذلك قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: النجوم أمان لأهل السماء و أهل بيتي أمان لأمّتي (1).
و مع ما يروون من هذه الأخبار الآخذة بالأعناق يتمسّكون بأذيال الشافعيّ و أبي حنيفة و مالك و ابن حنبل بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (2)، و لم يلقوا بالا لأخبار العترة من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و يرونها من أخبار الآحاد و ما يرويه أبو هريرة أو المغيرة أو أبو موسى الأشعريّ فهو حقّ و متواتر مع أنّهم يقولون عن النبيّ أنّه قال لأبي هريرة: إنّ فيك شعبة من الكفر (3)، و زنى المغيرة و شهد عليه ثلاثة عند عمر،
ص: 194
و أخاف عمر الرابع فكتم الشهادة و تلجلج بها لأنّ المغيرة صاحب عمر و اجتمعت مصلحة الرجلين على بغض عليّ عليه السّلام، و هدّد الشاهد و أرهبه حتّى دفع شهادته، و قال النبيّ عن أبي موسى: إنّه إمام الفرقة المذبذبيّة (كذا).
و هم يروون عن حذيفة و عن سلمان عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ستفترق أمّتي على ثلاث فرق: فرقة على الحقّ لا ينقبض الباطل منها شيئا، يحبّوني و يحبّون أهل بيتي، مثلهم مثل الذهبة الحمراء أوقد عليها صاحبها فلم تزدد إلّا خيارا، و فرقة على الباطل لا ينقبض الحقّ منها، يبغضوني و يبغضون أهل بيتي، مثلهم مثل الحديد أوقد عليه صاحبه فلم تزدد إلّا شرارا، و فرقة مذبذبة فيما بين هؤلاء و هؤلاء يقولون لا مساس إمامهم الأشعريّ.
و يروون أيضا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما وليت أمّة أمرها رجلا و فيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتّى يرجعوا إلى ما تركوا ... (1). و مع هذه الرواية فقد تركوا عليّا و هو الأعلم و اختاروا غيرهم و هم جهّال و سوف يرجعون في عهد صاحب الزمان إلى ما تركوه.
ص: 195
اعلم بأنّ الرجال أكثر عطفا على النساء في جميع قضاياهم، و بناءا على هذا فإنّ فاطمة عليها السّلام مع جلالة قدرها و قرابتها من رسول اللّه و قرب عهدها منه خرجت تستغيث من ظالمهم بهم واحدا واحدا فما أجابها واحد منهم.
و لمّا خرجت عائشة تريد قتل عليّ و الحسن و الحسين عليهم السّلام اجتمع عليها ألف من المهاجرين، و كان غرضهم من سلب الخمس منهم تركهم فقراء مملقين لئلّا يجتمع الناس عليهم.
قال أبو بكر لفاطمة: ايتيني بأحمر أو بأسود ليشهد لك مع أنّها صاحبة اليد و هي المتصرّفة، و جاءت أبا بكر بعليّ و الحسن و الحسين و أمّ أيمن يشهدون لها، فقال أبو بكر: عليّ و ولداه يجرّون النار إلى أقراصهم، و أمّ أيمن امرأه، و لقد سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ اللهمّ أدر الحقّ معه حيثما دار، و قال في حقّ الحسن و الحسين عليهما السّلام: الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة و هما إمامان قاما أو قعدا و أبوهما خير منهما (1).
و قال في حقّ فاطمة عليها السّلام: فاطمة بعضة منّي، من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه، و إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة و يرضى لرضاها (2).
ص: 196
و قال في حقّ أمّ أيمن: أنت على خير أو إلى خير.
و لم يمض طويل وقت حتّى جائه مال من البحرين و كان جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ إلى جانبه فقال له: يا أبا بكر، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا أتاني مال البحرين حبوت لك (1)، فاستدناه أبو بكر و حثى له من ذلك المال الذي في كلّ درهم منه حقّ لفقير و سهم لجائع ثلاث حثوات، بلا حجّة أو سبب، و لم يطالبه بشاهد و اعتقد صدقه.
و العجب أنّهم يرون أبا بكر مصيبا و يرون المعصوم و قد شهد له المعصوم مخطئا و كاذبا مع أنّ عددا من الآيات تدلّ على صدق فاطمة عليها السّلام و صحّة دعواها.
هاهنا أعطى مال المسلمين لآخر بدون بيّنة، و هنا غصب مال المستحقّ مع وجود البيّنة، و في كلا الحالين ادّعت فاطمة ملكيّة أرض أنحلها إيّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ادّعى جابر وعد رسول اللّه و طلب إنجازها، و تلك صاحبة اليد و دعوى جابر خارجة عن التصرّف؛ فاعتبروا يا أولي الألباب.
و كذلك لمّا ادّعى سعد بن زيد زعم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شهد لجماعة بالجنّة: أبو بكر و عمر و عثمان و عليّ و طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمان بن عوف و أبو عبيدة (2) و لم يشهد له أحد من الصحابة بصحّة ما قال و لم يصدّقه أحد، و مع كونه
ص: 197
ادّعى هذه الدعوى للحصول على النفع و الجاه لأنّه منهم و هو شاهد لنفسه فقبل قوله و لم يردّوا دعواه، و ردّوا دعوى فاطمة و ما علموا أنّ مال الزوج و الزوجة لا يصل إلى الأولاد إلّا بالميراث أو النحلة، و كلّ الناس يرث بعضهم بعضا.
و يشهد على السابق إلى الإيمان و الإسلام الذي لم يشرك باللّه طرفة عين، و سبق الناس بالعلم و الزهد بعد رسول اللّه أمام رجل أشرك ستّا و أربعين عاما من عمره، و قدّم عبادة الأصنام على عبادة اللّه، و أكل لحم الخنزير طول عمره و لم يكن ذا علم أو عمل صالح أو ورع، و كان يتلكّأ عن الجهاد و هو أثقل عليه من الموت، و إذا سيق إلى الجهاد كأنّه و نظرائه يساقون إلى الموت، و توالت عزائمه و نكث عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رجل هذه صفاته يردّ شهادة عليّ عليه السّلام!!
و لا تعجب منه و اعجب من الأوباش الذين يثبتون له الإمامة و يرونه مصيبا، و يرون مثل عليّ مخطئا، و كذلك يرون أنّ عليّا طلب ما ليس له.
و الأعجب من هذا أنّهم يجرّدون النساء من كلّ علم لا سيّما علم الفقه و يقولون لهذا وقعت فاطمة في الخطأ و السهو، يقولون هذا عنها و هي معصومة، و يقولون عن عائشة بأنّ النبيّ قال في حقّها: خذوا ثلث دينكم عن عائشة لا بل ثلثي دينكم لا بل خذوا دينكم كلّه عن عائشة (1).
سبحان اللّه و يا للعجب أن تكون بنت أبي بكر عالمة إلى هذا الحدّ و بنت رسول اللّه و زوج عليّ و أمّ الحسن و الحسين جاهلة- حاشاها- إلى درجة لا تعرف مسألة واحدة، ما أصلف هؤلاء القوم و ما أقلّ حياءهم!
و يقول الخصم عن عليّ أنّه باب مدينة علم الرسول، و مع وفور علمه لا يعرف هذه المسألة مع أنّهم يعتقدون فيه المرشد لأبي بكر و عمر و عثمان، و يزعمون أنّ
ص: 198
النبيّ لم يعلم فاطمة عن حالها في النحلة و الميراث و لا أعلم غيرها من أهل بيته مع أنّ اللّه تعالى يقول: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (1)، و من العجب أن يعلّم و يؤدّب بنات الأمّة و يترك آله و ذويه على طرف الجهل مع أنّ اللّه تعالى يقول: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ (2) و قال: أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً (3) الآية، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بعثت إلى أهل بيتي خاصّة و إلى الناس عامّة (4). فنسبوه إلى التقصير في تبليغ الوحي مع أنّه جرت عادته إذا أراد سفرا أن يذهب إلى بيت فاطمة و يطيل المكث فيه، ثمّ يخرج منه إلى مقصده تيمّنا و تبرّكا به، و إذا عاد من سفر بدأ ببيت فاطمة عليها السّلام ثمّ يخرج منه إلى باقي نسائه.
و العجب أنّ الرجل يطلب من فاطمة البيّنة على دعواها ثمّ يأتي بفرية «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» فلا يطالب نفسه بالبيّنة على ما ادّعاه، و في القرآن عدّة مواضع تردّ هذه الافتراء، و هذا تحامل على أهل البيت و غمز في دين الرجل.
و من عجائب الأمور تأتي فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تطلب فدكا و تظهر أنّها تستحقّها فيكذّب قولها و لا تصدّق في دعواها و تردّ خائبة إلى بيتها، ثمّ تأتي عائشة بنت أبي بكر تطلب الحجرة التي أسكنها بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تزعم أنّها تستحقّها فيصدّق قولها و تقبل دعواها و لا تطالب ببيّنة عليها، و تسلّم هذه الحجرة إليها فتصرّف فيها و تضرب عند رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمعاول حتّى تدفن تيما و عديا فيها .. (5).
ص: 199
و الأعجب من هذا لمّا انتقل الحسن إلى الرفيق الأعلى وصّى بجمله إلى جدّه في روضته بعد تغسيله ليجدّد به عهدا ثمّ منه ينقل إلى البقيع و يدفن هنالك عند جدّته فاطمة بنت أسد (1) و لمّا حملوا نعشه و أمّوا به روضة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ركبت الغازية المجاهدة عائشة على بغلتها و استدعت مروان مع جيشه الأمويّ و قالت: لا ندعهم يدفنونه عند قبر جدّه (لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ) فقال عبد اللّه بن عبّاس:
الحسن أجلّ شأنا من ذلك، و أن يؤذى رسول اللّه و هو في قبره بضرب المعاول عند رأسه و لكنّه طلب تجديد العهد بجدّه بدخوله الروضة، فخاصمت عائشة عبد اللّه على ذلك، و قالوا: إنّ عائشة أخذت من مروان قوسه ثمّ رشقت جنازة الحسن بالنبل.
تجمّلت تبغّلت و لو عشت تفيّلت لك التّسع من الثّمن ففي كلّ تطعّمت و أعجب من هذا أنّهم غصبوا نحلة فاطمة التي أعطاها رسول اللّه لها و لأولادها و نهبوا الخمس الذي هو حقّها و حقّ زوجها و أولادها و طعنوا في القرآن الكريم بأنّه منسوخ و تركوا أولاد فاطمة لا يملكون عيشة الكفاف و في أضيق حال فلم يصلهم أحد على الجوع و العري إلّا نفر صالح مظلوم مثلهم من المؤمنين و أقرّوا لعائشة و حفصة اثني عشر ألف درهم في كلّ سنة لكلّ واحدة ستّة آلاف، بخ بخ لإمام مثل هذا يؤمّ المسلمين و بخ بخ لخليفة رسول اللّه يجيع ابنة رسول اللّه و أولادها.
ص: 200
اعلم أنّ ابن وائلة أبا الطفيل عامرا يقول: سمعت من أمير المؤمنين يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سمعته عائشة أيضا: لعن أهل الجمل و أصحاب صفّين و أهل النهروان. قال عمر: سمعت هذا من أمير المؤمنين عليه السّلام يقوله في البصرة بعد ظفره بأصحاب الجمل فخرجت منه و دخلت على عائشة و سألتها الخبر، فقالت عائشة: و أنا أيضا سمعت ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما سمعه عليّ و لكنّي لست من أهل الجمل، و ظهر عليها الحياء و الانفعال.
و روي عن الإمام الصادق عليه السّلام (1) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ امرأة موسى عليه السّلام (صفوراء بنت شعيب) خرجت على وصيّه يوشع بن نون، فظفر بها فأشار عليه من حضر بما لا ينبغي فيها، فقال: أبعد مضاجعة موسى لها؟ و لكن أحفظه فيها .. (2) ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و إنّي لأخشى أن تخرج واحدة من نسائي على وصيّي من بعدي و تقاتله فيظفر بها و يأسرها فيحسن أسرها. فشاع الخبر بين أزواج
ص: 201
النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فذهبت جماعة منهنّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قلن له: ادع اللّه لنا أن لا تكون الخارجة إحدانا. و قال: عليكنّ بتقوى اللّه و لا تركبن الجمل بعدي و قرن في بيوتكنّ و لا تبرّجن تبرّج الجاهليّة الأولى.
ثمّ قال النبيّ: و الذي بعثني بالحقّ نبيّا إنّ جبرئيل أخبرني بأنّ أصحاب الجمل ملعونون على لسان كلّ نبيّ بعثه قبلي و قد خاب من افترى.
و جاء أمير المؤمنين إلى النبيّ على الفور فلمّا رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: يا علي، إنّك المظلوم بعدي، ثمّ أقبل على أصحابه و قال: أشهدكم أنّي سلم لمن سالمه، و حرب لمن حاربه، و أقبل عليه و قال: من حاربك فقد حاربني و من حاربني فقد حارب اللّه، و من فارقك فقد فارقني و من فارقني فقد فارق اللّه.
نكتة: اعلم أنّ في مذهب الشيعة يكفر من خرج على أمير المؤمنين أو آذاه عامدا قاصدا و هو من أهل النار، و الدليل على ذلك أنّ أهل اليمامة لمّا خرجوا على أبي بكر حكم عليهم بالارتداد و الكفر في مذهب مخالفينا فكذلك الخارج على إمامنا في مذهبنا، و الخبر كما يلي:
لمّا استخلف أبو بكر أرسل الجباة لجمع الزكاة، فقال الناس: نحن في زمن النبيّ كنّا نطعمها فقراء قبائلنا و مساكينها و سوف نفعل بها اليوم ما فعلناه أمس، و لو أنّنا أعطيناها لغيرنا فلا ندفعها إلّا لمستحقّيها و هو خليفة رسول اللّه و القائم مقامه، و أنت لست من ذلك في شي ء و إنّما تأمّرت على الأمّة بظلم و بدون رضاها، و لم ينطقوا بأكثر من هذا و لم يحاربوا أحدا و لم يشتموا مسلما و لم يسلّوا سيفا في الإسلام، فبعث أبو بكر خالدا بن الوليد و معه عسكر جرّار، فلمّا بلغهم بعسكره خرجوا من بيوتهم ليدفعوا شرّ خالد عنهم فأذّن المؤذّن و لمّا سمعوا الأذان وضعوا السلاح و مالوا إلى أداء الصلاة، فامتنع العسكر من مقاتلتهم فصاح فيهم خالد
ص: 202
و أمرهم بالهجوم على القوم و هم في حال الصلاة، فقتلوا المقاتلة و أكثرهم (راكعين و ساجدين و متوجّهين إلى اللّه و إلى قبلته ..) فاستأصلوهم و قتل خالد مالكا بن نويرة و كان رئيسهم و وضع رأسه أثفية للقدر بين لهب النار، و زنى في تلك الليلة بزوجته، و أسروا النساء و الأطفال من تلك القبيلة فلمّا علم عمر بواقع الحال أشار على أبي بكر أن يحدّ خالدا .. فقال أبو بكر: خالد سيف من سيوف اللّه (1).
و نقول هنا: إنّ ما استحقّه أهل اليمامة على كلمة واحدة قالوها كان أولى منهم بهذا أهل الجمل الذين ساروا من بلد إلى بلد قاصدين حرب إمام المسلمين و حجّة اللّه على الخلق أجمعين و سلّوا السيوف في وجهه و نكثوا عهده و بيعته، و أنكرا إمامته، فأظفر اللّه تعالى أمير المؤمنين عليه السّلام بهم فقتلهم اللّه و خذلهم.
إذن كما زعم الخصم بأنّ أهل اليمامة ارتدّوا و هم يقرّون بالتوحيد و العدل و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّ طلحة و الزبير و عائشة كانوا كذلك. و قال المعتزلة: لقد تاب القوم و رووا عددا من الأخبار لا تدلّ على توبتهم.
نكتة: روي أنّ الشيخ المفيد أبا عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان حضر مجلس قاضي القضاة في بغداد و كان يستمع إلى درسه، و كان الشيخ صبيّا، فجاء رجل إلى مجلس قاضي القضاة و قال له: أيّها القاضي، يروى بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نصّ يوم غدير خم على إمامة عليّ عليه السّلام و خلافته و لكنّ عليّا لم يقم بالأمر بل قام به أبو بكر أي كان غاصبا لإمامته.
فقال القاضي: أيّها السائل، النصّ على عليّ رواية و خلافة أبي بكر دراية (و العاقل لا يترك الدراية للرواية).
ص: 203
فسمع المفيد هذا فصبر قليلا حتّى انفضّ المجلس و بقي القاضي وحده فالتفت إليه الشيخ و قال: ألك حاجة أيّها الصبي؟ فقال: إن أذنت لي، فقال القاضي:
هات، فقال الشيخ: روي بأنّ طلحة و الزبير حاربا عليّا في البصرة فكيف كانت الحال و عليّ خليفة؟
فقال القاضي: أيّها الفتى، لا شكّ في وقوع الحرب و لكنّهم تابوا.
فقال الشيخ: أيّها القاضي، الحرب دراية و التوبة رواية، و العاقل لا يترك الدراية للرواية.
فقال القاضي: من أنت أيّها الفتى؟
فقال الشيخ: محمّد بن محمّد النعمان، فقال القاضي: أنت المفيد حقّا، فاشتهر الشيخ بالمفيد من يومئذ (1).
نأتي إلى حكايتنا: و لمّا قتل طلحة في الحرب بيد مروان لعنه اللّه فيكون تصوّر التوبة له من نوع المحال مع أنّ الخبر اشتهر عن أمير المؤمنين أنّه مرّ على طلحة فأمر بإجلاسه فلمّا فعلوا، قال: يا طلحة، وجدت ما وعدك ربّك حقّا و قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا.
و قيل: لمّا مرّ به قال: لقد كان لك برسول اللّه صحبة لكن الشيطان دخل من منخريك فأوردك النار.
و كتب إلى عمّال الأقاليم عن الفتح بالعبارة التالية: إنّ اللّه قتل طلحة و الزبير على شقاقهما و بغيهما و نكثهما، فهزم معهما وردّت عائشة خاسرة .. (2). و لو كان للتوبة أثر في نفوسهم لم ينشر أمير المؤمنين هذا الكلام على الملأ.
ص: 204
و إذا استطاع المخالف الحديث عن توبة طلحة و هو في حالات النزع فإنّ خصمه بإمكانه القول بتوبة أبي جهل و إسلامه و هو ينازع سكرات الموت.
و مثله يقال في جميع في الكفّار و المنافقين و الفسّاق، فلا بدع أن تحدث عندهم حالة التوبة التي حدثت عند طلحة و هو في ساعة الموت يعاني السياق و النزع فلا يمكن الحكم بكفر كافر و لا فسق فاسق بناءا على هذا المذهب.
و المخالف يروي عن النبيّ أنّه قال: يا عليّ، إنّك ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين (1). و هذا دليل على أنّ القوم هلكوا على بغيهم و ظلمهم، و من مات بعد التوبة لا تطلق عليه هذه الأوصاف نظير النكث و ما عداه.
و اشتهر عند العلماء كذلك بأنّ عائشة امتنعت من الذهاب إلى المدينة و كان الإمام ينصحها فلا تقبل، فأمر عبد اللّه بن عبّاس بأن يرحلها إلى المدينة، و ما سمّت عليّا أمير المؤمنين إلى أن ماتت، و من سماّه أمامها بهذا الاسم ظهر الامتعاض على وجهها (لعنة اللّه عليها- المترجم).
روى الواقديّ- و هو ناصبيّ عثمانيّ- أنّ عمّارا بن ياسر زار عائشة لمّا عادت إلى المدينة، فقال لها: يا عائشة، كيف رأيت ضرب بنيك على الحقّ (2)؟ فقالت عائشة:
ص: 205
يا عمّار، أجل، إنّك غلبت في أصحابك ... (1) فقال عمّار: استبصارا من ذلك، و اللّه لو ضربتمونا حتّى تبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ و أنّكم على الباطل .. (2) فقالت عائشة: هذا تخيل إليك يا عمّار أذهبت دينك لابن أبي طالب.
ذكر الطبريّ: لمّا انتهى إلى عائشة قتل عليّ رضى اللّه عنه قالت:
فألقت عصاها و استقرّ بها النوى كما قرّ عينا بالأياب المسافر فمن قتله؟ فقيل: رجل من مراد، فقالت:
فإن يك نائيا فلقد نعاه غلام ليس في فيه التراب و هذه الجملة تدلّ على إصرارها على ذنبها.
و جاءت الرواية على أنّها أبت الذهاب إلى المدينة، فقال عبد اللّه بن عبّاس:
دعها في البصرة، فقال عليه السّلام: إنّها لا تألوا شرّا و لكنّي أردّها إلى بيتها.
و روى محمّد بن إسحاق أنّها وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة لم تزل تحرّض الناس على أمير المؤمنين عليه السّلام و كتبت إلى معاوية و أهل الشام مع الأسود بن البحتري تحرّضهم عليه (3).
سؤال: و هذه أخبار آحاد.
ص: 206
جواب: و أخباركم ضعيفة أيضا، بل أضعف منها لأنّكم انفردتم بروايتها، أمّا الشيعة فقد رواها معهم خصومهم النواصب و هي مرويّة في كتبهم، غاية الأمر أنّنا نعارض خبرا مع خبر فيتساقطان و يبقى الأصل على حاله و هو فسق القوم و معصيتهم بل كفرهم عند الشيعة.
و لمّا جاء ابن جرموز برأس ابن الزبير و سيفه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قال: سيف طالما جلّى به الكرب عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكنّ الحين و مصارع السوء.
و قال أمير المؤمنين: و اللّه لقد علمت صاحبة الهودج أنّ أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبيّ الأمّيّ و قد خاب من افترى (1).
و روى البلاذري بإسناده إلى جويريّة بن أسماء قال: بلغني أنّ الزبير لمّا ولّى اعترضه عمّار بن ياسر و قال: أبا عبد اللّه، و اللّه ما أنت بجبان و لكنّي أحسبك شككت فقال: هو ذاك، و الشكّ خلاف التوبة.
و كذلك قال طلحة في حال النزاع: ما رأيت مصرع شيخ أضيق من مصرعي ..
فلو كان قد تاب لما ضاع مصرعه.
سؤال: روي أنّ طلحة لمّا أحسّ بالموت قال:
ندمت ندامة الكسعي لمارأت عيناه ما فعلت يداه جواب: هذا يدلّ على الندم و لا ينفع الندم، إنّما ندم لأنّه استشعر الخسران، قال اللّه تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ
ص: 207
الْآنَ (1)، و قال في حقّ فرعون: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (2).
و الذي ورد عن عائشة لا يدلّ إلّا على شعورها بالذنب و على حيرتها و ليس على التوبة و الرجوع إلى الحقّ كما تمنّت الموت لأنّها رات بعينيها هزيمة جيشها و فقدانها الظفر على حجّة اللّه كما قالت مريم عليها السّلام: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (3) و ما قالت ذلك مريم لأنّها عصت اللّه و إنّما قالت ذلك لما يقابلها به الناس من سوء الظنّ و الرجم بالغيب ممّا لا أساس له، إذا ليست المرأة تائبة بل قالت ذلك لمّا فاتها ما كانت تحلم به. و قالوا: إنّ الإمام قال يوم الجمل: وددت أنّي متّ قبل اليوم بعشرين سنة (4) لأنّي لا أرى من الرعيّه مساعدة أو شدّ أزر و بذل مال و جهد.
و أيضا طرأ على بال عدد من الجهّال عن هذه الحرب هل هي جائزة و مأذون بها أو لا؟ مع أنّها كانت بإذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أجمعت الأمّة على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعمّار: تقتلك الفئة الباغية، و قاتله معاوية.
و أمّا رجوع الزبير عن الحرب فلا يدلّ على ندامته و لا توبته، لأنّه لو تاب لا نضمّ إلى عسكر أمير المؤمنين و قاتل معه بل كان قتاله مع عائشة و لكنّه رأى
ص: 208
إرهاصات النصر لعليّ لائحة لذلك ولّى الحرب ظهره و لاقى مصيره. و قيل: إنّه نوى اللجوء إلى معاوية ليسستمدّه و يحدث فتنة أخرى في خلافة الإمام عليه السّلام فقتله اللّه قبل بلوغه مراده.
و إذا كان إعراضه عن الحرب يعتبر توبة فإنّ الكفّار الذين انهزموا من كتائب رسول اللّه و ولّوا الدبر يعتبرون تائبين من الكفر، و هذا لا يقول به أحد.
و ما قاله المخالف عن الزبير من ندامته بعد نصح أمير المؤمنين له فترك الحرب عند ذلك و قال له ولده عبد اللّه بن الزبير: يا أبت، أتتركنا في هذا المقام بهذه الحالة؟
فقال له الزبير: يا ولدي، لقد ذكّرني عليّ أمرا كنت ناسيه، فقال عبد اللّه: كلّا ليس الأمر كذلك بل خفت من صوارم عليّ، فغضب الزبير و تناول رمحه و انتزع منه زجّه و حمل على عسكر أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال أمير المؤمنين لأصحابه: أفرجوا للشيخ فإنّه محرج، و هذه شهادة من قبله تدلّ على عدم التوبة.
و نقلوا كذلك عن ابن جرموز لمّا حمل رأس الزبير إلى عليّ عليه السّلام، قال عليّ عليه السّلام:
سمعت رسول اللّه يقول: بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار، فلو لم يكن من أهل الجنّة و التوبة لما ثبتت هذه البشارة في حقّه.
جواب: إن كان رجوعه عن الحرب بنصح عليّ يعتبر توبة فإنّ رجوعه بتحريض ولده على الحرب يعتبر نقضا لها، و إصرارا منه على الذنب لأنّه عند سماع كلام ولده ترك الذين للحميّة و العصبيّة و حبّ الرياسة.
و يقول السيّد المرتضى علم الهدى في الجواب: و كيف يجوز من أمير المؤمنين عليه السّلام أن يمكّن عدوّه و يمنع أصحابه من قتله، لأنّ المرء لا يدعو إلى الفسق و لا يبعث إلى خلاف الحقّ مع أنّ كلام ابنه غير مخرج لأهل الإيمان إلى إظهار الضلال و لا ملجأ لأحد من الخلق إلى ارتكاب المعاصي و الطغيان، و العبارات واضحة و جملتها لا
ص: 209
تحتاج إلى التفسير و لا يبعد أن يكون هذا الكلام على طريق الاستهزاء كما قال تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (1) و قال: وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً (2) و قال: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ (3) (4) و أمثال ذلك، و منع أصحابه من التعرّض له إمّا للاحتجاج و تكملة الحجّة أو على طريقة المنّة عليه كما فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أهل مكّة يوم فتحها و العفو عن الجاني و ترك تعجيل عقابه لا يدلّ على الرضا بمعاصيه بل هو دليل التأليف و الاستصلاح أو أنّه لإبلاغ الحجّة و الاستدراج له.
و قال تعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (5).
و قال تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً (6).
و بشارة قاتله بالنار لا يدلّ على إيمانه لأنّه قتل المعاهد و قتل الكافر للتشفّي و إراحة الغيظ لا لأجل الدين و نصره و إعلاء أمره، بل للتقرّب لمخلوق أو للعبث أو لإظهار الفساد و الفجور، و قتل المؤمن كذلك، كلّ هذه الأمور موجبة لدخول النار للقاتل، على أنّ المقتول من المستحقّين للقتل و كذلك قتل الكافر الكافر إلّا في صورة المؤمن المقتول بيد غير مؤمنه، كما ذكر المفيد ذلك في كلامه.
ص: 210
حكاية: كان ابن جرموز في حرب الجمل مع عائشة و قتل جماعة من أصحاب أمير المؤمنين، و لمّا رأى الدائرة تدور على عائشة و حزبها و أنّ الأوضاع اضطربت عليها و علامات الظفر تلوح في جانب أمير المؤمنين عليه السّلام تشاور مع أصحابه بني سعد و خرج معهم إلى الأحنف بن قيس و كان قد اعتزل الحرب على بعد فرسخين من البصرة، فجاءه رجل و همس بأذنه سرّا بأنّ الزبير بوادي السباع خرج هاربا و هو يؤمّ المدينة، فرفع الأحنف عقيرته و صاح: ما عسيت أن أصنع بالزبير إن كان بوادي السباع و قد جاء فقتل الناس بعضهم ببعض، و كان غرضه من هذا التحريض على قتله، فقام ابن جرموز مع رجلين من بني سعد و كانا شريكيه في قتال أصحاب أمير المؤمنين و إعانة أصحاب الجمل و اسم أحدهما فضالة بن حانس و اسم الآخر جميع بن عمير، فرب الثلاثة و أسرعوا العدو للّحاق بالزبير، و كان الزبير مترجّلا فلمّا بصر بهم استوى على فرسه فسبقهم عمير بن جرموز فحذر منه الزبير، فقال له عمير: لا بأس عليك أنا ذاهب لوجهي و سوف أسايرك.
فأمنه الزبير فاستغفله ابن جرموز فطعنه بالرمح في صدره و قتله و نزل من فرسه و احتزّ رأسه و أقبل به إلى الأحنف و منه ذهب به إلى عليّ عليه السّلام لينال عنده الحظوة و الرياسة و لكي يعتذر بذلك عن قتاله مع عائشة و قتله لأصحابه، و قد أخبر النبيّ وصيّه أنّ ابن جرموز لم يقتل الزبير فقها و تديّنا بل قتله لنيل الرياسة و طلب الجاه، و هو من أهل النار، و كلّ من قتل آخر بعد إعطاه الأمان فإنّه ملعون، و كان هو أيضا من الخوارج و قتله عليّ عليه السّلام في النهروان، و بشارته بالنار من الرسول إخبار بمصيره و عاقبة أمره.
و مثله فعل مع قرمان حين بشّره بالنار مع أنّه يقاتل معه و يعين أهل الإسلام و الصحابة يشكرونه على جهاده و استماتته، و النبيّ يقول: إنّ قرمان من أهل النار،
ص: 211
و ذات يوم جاء الخبر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّ «قرمان» استشهد، فقال النبيّ: يفعل اللّه ما يشاء و يحكم ما يريد، و أخبروا النبيّ عن جهاده و قتاله العظيم و أنّه قتل جماعة من المشركين و قد تحمّل في جسمه ما بين سبع إلى ثماني جراحة شديدة و حملوا من مصرعه إلى منازل بني ظفر، قال المسلمون: ابشر يا قرمان فقد أبليت اليوم، فقال: بم تبشّروني، فو اللّه ما قاتلت إلّا عن أحساب قومي و لو لا ذلك ما قاتلت.
فصعب عليه تحمّل الجراح فانتزع من كنانته سهما حادّا و قتل به نفسه. و لمّا كان النبيّ يعلم عاقبة أمره أخبر المسلمين بما يجري منه لئلّا يشتبه أمره على المسلمين، و لئلّا يقال عنه «مؤمن». و من أجل ذلك قاتل مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قال النبيّ فيه:
«قاتل نفسه في النار».
فتكون حال ابن جرموز و ما أخبر النبيّ عليّا عن دخوله النار كحاله. و قال الشيخ المفيد: استحقّ ابن جرموز النار لعصيانه أوامر عليّ حيث نادى مناديه: ألا تتبعوا مدبرا و لا تجهّزوا على جريح، و لكم ما حوى عسكرهم من الكراع و السلاح، و خالف ابن جرموز أمر الإمام مفترض لطاعة و اتّبع الزبير فاستحقّ النار لهذا السبب و ليس لأنّ الزبير من أهل الجنّة لتوبته أو ندمه، و عندنا كلّ من خالف الإمام فقد خالف الرسول، و من خالف الرسول خالف اللّه، و مخالفة اللّه كفر و الكافر يستحقّ النار.
كان الزبير رأس البغاة و قتله من أعظم الجهاد و أعظم الثواب، و ينبغي أن يكون قاتله مستحقّا لأعظم الثواب و أعلى الدرجات بسبب قتله و إراحة الناس من شرّه،، و لكن بسبب كفر القاتل و نفاقه خسر الثواب و بطل منه الأجر ليس هذا فحسب بل استحقّ معه النار أيضا و كان لازما على الموحى إليه أن يخبر الأمّة بحاله لئلّا يغتر به من لا يعرفه و يعتقد له الإيمان و السلامة و يتقرّب إليه.
بيّنة:
ص: 212
و أمّا عصيان عائشة فإنّه لمخالفتها أمر ربّها و ما أمرها به من قوله سبحانه مخاطبا نساء النبيّ: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى (1) فلم تقرّ في بيتها و تنقّلت على جملها من حيّ إلى حيّ و من بلد إلى آخر، و كذلك قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: يا علي، نفسك نفسي و حربك حربي، و حرب النبيّ كفر.
و ما يقال من أنّ المرأة لن تمسّها النار لأنّها لا مست نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّ نوحا و لوطا نبيّان و لهما ذرّيّه من زوجتيهما و اسم زوجة نوح «والعة» و اسم زوجة لوط والهة، و كلتاهما ذهبتا إلى جهنّم و بئس المصير: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ إلى قوله: الدَّاخِلِينَ (2) و كلتا المرأتين في النار بنصّ الآية، و لم تقبل شفاعة زوجيهما النبيّين فيهما، و أولى منهما بالنار عائشة لأنها لم تلد للنبيّ و أعقم اللّه رحمها.
بيّنة: منزلة الولد أعظم من منزلة المرأة لأنّ المرأة يمكن فراقها بالموت أو الطلاق، أمّا الولد فلا يمكن إبعاده عن الأب بأيّ سبب من الأسباب لأنّه من صلبه، و بناءا على هذا إذا كان ابن نوح كنعان من أهل النار فإنّ زوجته أولى بدخول النار، و نزلت سورة التحريم بحقّ عائشة و حفصة و أبويهما حيث يقول اللّه تعالى في تالي الآيات:
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ (3) و الخصم يؤمن بدليل الخطاب و يقول به (4)، فينبغي أن لا يكونا
ص: 213
مسلمتين و لا مؤمنتين و لا عابدتين و لا تائبتين و لا سائحتين و أمثال هذا، و بما أنّ القرآن أثبت نساءا خيرا منهنّ فإنّ ذلك خلاف ما ذهب إليه الخصم من كونهما أفضل النساء.
بيّنة: درج القوم على اعتبار من آذى أمير المؤمنين و أولاد فاطمة من الصحابة الإناث أو الذكور في المراتب العليا من الصحبة، و بعكس ذلك من أحبّهم و والاهم فإنّهم يصنّفون في أدنى مستويات الصحبة مثل أبي ذر و سلمان و المقداد و أمثالهم فلم يذكروهم بشأن من الشئون و لا ألقوا إليهم بالا، سبحان اللّه ما هذه العداوة مع آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ (1).
فلو أنّ رجلا تمدح بالكذب ظالمي عليّ مأة عام، دون أن يطري عليّا بحرف واحد فإنّهم يحيّونه و يوالونه، و لو أنّه ذكر عليّ بكلمة دون ذكر خلفاء الجور فإنّهم يهدرون دمه لو أمكنهم ذلك، و يسمّونه رافضيّا، و لم يعلموا أنّ لهم في مقابل هذا الاسم عشرة أسماء تجري على أسماعهم مثل: خارجيّ و ناصبيّ و مجبريّ و مروانيّ و منافق و نعثليّ و حطب جهنّم و إبليسيّ و أصحاب النار و نحوها.
ص: 214
الفصل الأوّل في بداية وقوع المحاربة بين أمير المؤمنين و بين الناكثين طلحة و الزبير و عائشة (1)
اعلم لمّا بايع الناس عليّا و تمّ الأمر له أنهى عبد اللّه بن سلمة خبر قتل عثمان و بيعة عليّ إلى عائشة فقالت: لا نالتها تيم بعد اليوم، ليت هذه أطبقت على هذه، و لم يبايع عليّ، و كانت عائشة يوم أردى عثمان خارج المدينة و كانت تحرّض الناس دائما على قتل عليّ عليه السّلام، و لمّا بلغتها أنباء بيعته كتبت إلى معاوية كتابا و حرّضته على العصيان، و كتب معاوية إلى الزبير و لكن عائشة قالت: لو كان كتب إلى طلحة.
و ذات ليلة أقبل طلحة و الزبير على أمير المؤمنين و طلبا منه أن يولّيهما، فقال لهما: إنّنا لا نولّي إلّا من ارتضينا أمانته و دينه، و إنّكم لا ترضون بعطاء اللّه إيّاكما و تطلبا الفضل و الزيادة و لمّا اطّلعوا على ما يضمره الإمام لهما قالا: يا علي، إنّك لتعلم ما كنّا عليه في أيّام الخلفاء الماضية من الاحترام و الجاه.
و كان الإمام عليه السّلام منصرفا ساعتها إلى تنظيم بيت المال فلمّا جلسا عنده و كلّماه نادى قنبر و أمره بتغيير السراج فقالا: يا أمير المؤمنين: ما هذا؟ لماذا رفعت السراج و نصبت غيره؟ فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: هذا سراج بيت المال و كنت أستعمله لتدبير اموال المسلمين، فلمّا كلّمتكم لم يجز لي الاستفادة منها فأبدلتها بما يحلّ لي استعماله، فنظر الناس بعضهم إلى بعض و قام طلحة و الزبير فخرجا من
ص: 215
عنده و قال أحدهما للآخر: إنّ رجلا يضبط الأمور على هذه الشاكلة ما هو بمستعملنا و لا بمعطينا شيئا نرضاه، إنّه يترسّم خطى الشرع و يأمرنا بالالتزام بالزهد و الصلاح.
فلمّا أصبح الصباح أقبلا عليه و استئذنا للعمرة، فقال أمير المؤمنين: إنّكما لا تريدان العمرة و لكن تريدان الغدرة، فأقسما أنّهما لا ينويان إلّا الزيارة، و كانا قد كتبا إلى عائشة مع ابن أختها عبد اللّه بن الزبير كتابا يأمرانها بلزوم تحريض الناس على حرب عليّ عليه السّلام، و تحميلهم على نكث بيعته، و كانت عائشة دائبة على إغواء الناس و حملهم على قتال عليّ عليه السّلام و الطلب بدم عثمان.
و صفوة القول أنّ الرجلين حلّا في مكّه و دعوا الناس لحرب عليّ عليه السّلام، و جائهما عبد اللّه بن عامر والي مكّه من قبل عثمان و قبل دعوتهما و قال: أنا أكفيكم أمر البصرة و أجمع لكم من أهلها مائة ألف دينار نفقة لعسكركم.
فقال: انّ هذا بحدّ ذاته شي ء جميل و لكن لا بدّ من وجود إمام نفي ء إليه و يكون ردءا لنا و فئة، و لا يصلح لهذا الأمر إلّا عائشة، فإنّ لها شهرة و هي زوج محمّد، و إن أبت ذلك عائشة و قبضت نفسها عن إعانتنا فإنّ أمرنا لا ينفذ و غايتنا لا تتحقّق، فذهبوا إليها و خدعوها و رضيت بما عرضوا عليها و قالت: «بالرأس و العين» (1) ثمّ أقبلت عائشة و طلحة و الزبير إلى الحوأب (2) (الحورب- المؤلّف) على وزن كوكب و هو ماء في طريق البصرة فنبحتها كلابه و أجراء الكلاب في بطون أمّهاتها (3).
ص: 216
فلمّا رأت عائشة ذلك صاحت: ردّوني ردّوني، فقد سمعت رسول اللّه يقول: إنّ امرأة من نسائي تخرج لحرب علي، هي ملعونة، و علامة ذلك أن تنبحها كلاب الحوأب، فشهد عندها أربعون و قيل ستّون شهادة كاذبة بأمر طلحة و الزبير على أنّ هذا الماء ليس ماء الحوأب، فكذبوا عليها كذبا صريحا و قلبوا أمرها رأسا على عقب .. (1).
فجاءت أمّ سلمة إلى عائشة و بالغت في نصحها و قالت لها: ألا تتذكّرين حين كنّا يوما بين يدي النبي نخدمه و كنّا على يساره و هو يناجي عليّا، فقلت أنت لعليّ:
يا علي، كلّما كانت ليلتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتيته فشغلته عنّي و لم تتركه ينصرف إليّ، فغضب رسول اللّه منك و قال: من عاداك يا علي فهو ابن زنا؟ قالت نعم أذكر ذلك.
قالت: ألا تذكرين يوم حملت قدر الحلوى الذي صنعته إلى النبيّ، فقال النبيّ: يا أمّ سلمة لا تكوني من أزواجي اللواتي يقاتلن عليّا عليه السّلام! فقلت: نعوذ باللّه من غضب اللّه و رسوله و وصيّ رسوله؟ فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك.
ثمّ قالت: ألا تذكرين يوم اجتمعنا في بيت حفصة فضرب النبيّ بيده على ظهرك و قال: صوني نفسك من أن تنبحك كلاب الحوأب يوما، فينفر منها جملك؟ فقالت عائشه: أجل لقد كان ذلك.
فقالت أمّ سلمة: يا عائشة، ألا تذكرين يوم أقبل النبيّ من السفر و غسل عليّ ثيابه و خاطها و خصف نعليه، فأقبل أبو بكر و عمر و قالا: لا ندري من يلي الأمر بعدك، فقال النبيّ: أخشى أن أخبركم فتكونوا كبني إسرائيل و تتفرّقون عنه كما
ص: 217
تفرّقوا عن هارون، فلمّا خرجا من عند النبيّ قلت: يا رسول اللّه، من الخليفة من بعدك؟ فقال النبيّ: إنّه هو.
و جرت مشادة بين أمّ سلمة و بين عبد اللّه بن الزبير فكتبت أمّ سلمة لعليّ كتابا و فيه: إنّ عائشه خرجت لحربك بفيالقها فنصحتها، فقالت: نحن ذاهبون لإصلاح الأمّة، و جاءك عبد اللّه بن عامر للطلب بدم عثمان و لولا أنّي امرأة و النساء ليس عليهنّ جهاد لخرجت معك.
بيّنة: كان طلحة و الزبير أعظم عدوّين لعليّ عليه السّلام و هما اللذان أجلبا على عثمان و كانا دائبين في ثلبه، و طلحة هو الذي حاصر بيته و تولّى قتل عثمان بنفسه و مع كلّ ما جناه على عثمان جاء يطلب بدمه، و كانا مع عليّ في البيعة و لكنّهما نكثا بيعته و خرجا عليه.
قال عبد اللّه بن عبّاس: كنت حاضرا عند عليّ إذ أقبل طلحة و الزبير و طلبا من عليّ السفر إلى مكّة لأجل العمرة، فأجابهما عليّ بأنّكما لا تبغيان العمرة، فتوسّلا به مرّة ثانية فلم يجزهما و توجّه إليّ و قال: و اللّه ما يريدان العمرة، فقلت له: فلا تأذن لهما إذن، فارسل إليهما في الحال و أمر بردّهما، و قال: ما تريدان إلّا نكثا لبيعتكما و التفريق- يعني بين المسلمين- فأقسما باللّه لا يريدان إلّا العمرة لا نكث البيعة و لا عصيان أمره، فلم يجزهما في الثانية، فلمّا خرجا قال أمير المؤمنين مردّدا قوله الأوّل: لا يريدان العمرة و لا يريدان إلّا الإفساد في الدين.
فقال عبد اللّه: مر بردّهما لئلّا يذهبا، فقال الإمام: إنّهما أقسما فأدركني الحياء منهما، و لكن لا يعدوان ما قلت، و من هنا خرجا إلى مكّة و أرسلا بين أيديهما أبا عبد الرحمان مسعود العبديّ و عبد اللّه بن الزبير إلى عائشة لكي تكون السابقة في هذا الأمر.
ص: 218
فقالت عائشة، لا أرضى حتّى تخرج معي أمّ سلمة لأنّ الحياء يمنعها من الخروج، و أرادات أن تغوي غيرها لتكون ضالّة مضلّة كليهما، ثمّ قامت إلى أمّ سلمة، فلمّا رأتها قالت: مرحبا بعائشة، و اللّه ما كنت لي بزوّارة فما بدا لك؟ قالت:
جئتك لتخرجي معي كي ينتظم أمر الإسلام، و نقتل قتلة عثمان و نحارب عليّا، فقالت أمّ سلمة: ألا تذكرين يوم كانت ليلتك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد طهوت للنبيّ طعاما .. فقال: لا تمرّ الأيّام حتّى تنبح إحدى نسائي كلاب ماء بالعراق يدعى الحوأب، فوقع الإناء من يدي، فقال: مالك يا أمّ سلمة؟ فقلت: يا رسول اللّه، ألا يسقط الإناء من يدي و أنت تقول ما تقول، ما يؤمنني أن أكون أنا هي؟! فنظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: بم تضحكين يا حمراء الساقين، إنّي أخشاك هي (كذا) (1).
و أنشدك اللّه يا عائشة، أتذكرين مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي قبض فيه، فأتاك أبوك يعوده و معه عمر، و قد كان عليّ بن أبي طالب يتعاهد ثوب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نعله و خفّه، و يصلح ما و هى منه، فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي حضرميّة و هو يخصفها خلف البيت، فاستأذنا عليه، فأذن لهما، فقالا: يا رسول اللّه، كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحمد اللّه تعالى، قالا: ما بدّ من الموت؟
قال صلّى اللّه عليه و آله: لا بدّ منه، قالا: يا رسول اللّه، فهل استخلفت أحدا؟ فقال: ما خليفتي
ص: 219
فيكم إلّا خاصف النعل، فخرجا فمرّا على عليّ عليه السّلام و هو يخصف النعل (1).
و نشدتك باللّه يا عائشة، أتذكرين ليلة أسرى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مكان كذا و كذا و هو بيني و بين عليّ بن أبي طالب يحدّثنا فأدخلت جملك فحال بينه و بين عليّ، فرفع مرفقة كانت معه فضرب بها وجه جملك و قال: أما و اللّه ما يومك منه بواحدة، و لا بليّته منك بواحدة، أما إنّه لا يبغضه إلّا منافق أو كذّاب (2).
هذه الأحاديث نصوص ظاهرة على إمامة عليّ و خلافته، و ذكرها نصر بن مزاحم المنقريّ في كتابه و هو من علماء أهل السنّة.
و صفوة القول بأنّ عائشة لمّا استمعت إلى هذه المواعظ قالت لعبد اللّه بن الزبير:
إنّي عزمت على التوبة و لن أخرج معكم و لكنّها عادت بإغوائهم إلى ضلالها الأوّل، فلمّا تناصف الليل تحمّلت إلى البصرة و معها عسكر مجر لقتل عليّ، بخ بخ لأمّ المؤمنين.
بيّنة: اعلم بأنّ اللّه تعالى سمّى نساء النبيّ أمّهات المؤمنين بعد ما أقسم طلحة أنّه سوف يتزوّج عائشة أو أنّ اللّه حرّم على حفصة العقد و هذه الأمومة مجازيّة و لذلك لا يصدق على أقربائهنّ ما صدق عليهنّ، ألا ترى أنّه لا يقال: جدّ المؤمنين و لا عمّهم و لا أخوهم و لا أختهم و لا جدّتهم و أمثال هذه الاستعمالات في النسب، و بناءا على هذا لا ينبغي أن يقال: خال المؤمنين، على أنّهم لا يقولون ذلك إلّا لمعاوية، و إن كان أولى من معاوية بهذا الاسم محمّد بن أبي بكر و عبد الرحمان أخوه و عبد اللّه بن عمر إلّا أنّ هؤلاء لم يقصدوا أمير المؤمنين بالحرب و لم يطلبوا قتله، فلم
ص: 220
يكن لهم مقام معاوية عند السفيانيّين و اقتصرت الأسماء و الألقاب على من بالغ في عدائه لأمير المؤمنين، و اللّه أعلم.
لمّا عزمت عائشة على الخروج جاؤوها بجمل صعب و قويّ ضخم عال يدعى «عسكر»، و لمّا سمعت عائشه باسمه أبت الخروج و قالت: نهاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: احذري يا عائشة أن تركبي جملا اسمه عسكر، و تخرجين إلى الحرب و تنبحك كلاب الحوأب.
فلبّس طلحة و الزبير عليها و غرّوها و أركبوها عليه فصاحت عند ذلك بأصحابها و أمرتهم بقتال عليّ و الطلب بدم عثمان و صاحت أمّ سلمة: لا يخرجنّ أحد لحرب عليّ، و من خرج لحربه فهو كافر و عاص لربّه.
و خرج مع عائشة طلحة و الزبير بن العوام، و سعد و مروان بن الحكم، و عبد الرحمان و محمّد بن طلحة، و عبد الرحمان بن أسيد و عبد اللّه بن حكيم بن حزام، و هؤلاء أولاد الطلقاء، و دعت مروان بن الحكم و سعيد بن العاص إلى الحرب و الطلب بدم عثمان، فقال سعيد لمروان: إنّ هؤلاء الذين يرافقونك و ترافقهم هم قتلة عثمان، فتركه مروان.
و كتب مالك الأشتر كتابا إلى عائشة: اتّق اللّه الذي خاطبك بقوله: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ (1) و لا تهتكي حجاب رسول اللّه فإنّ ذلك يغضبه و يؤذيه، إذ تخرج زوجه بين العساكر تحارب. فقالت عائشة: إنّ مالكا يقول هذا لأنّه مطالب بدم عثمان.
ص: 221
فخرج أمير المؤمنين عليه السّلام و معه سبعمائة من الرجال و نزل بذي قار، و لمّا علمت عائشة بذلك كتبت إلى حفصة: نزل عليّ بذي قار؛ إن تقدّم نحر و إن تأخّر عقر.
فجمعت حفصة النساء و ضربن بالمزامير و قلن:
ما الخبر ما الخبرعليّ في سفر
إن تقدّم نحرو إن تأخّر عقر (1) و صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «البغض يتوارث». فعلمت بذلك أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين، فلبست ثيابها و وضعت نقابها و تنكّرت و جاءت حتّى دخلت عليهنّ، و سمعت ما هنّ فيه من قول الباطل، فكشفت نقابها و أبرزت لهنّ وجهها، ثمّ قالت لحفصة: إن تظاهرت أنت و أختك على أمير المؤمنين فقد تظاهرتما على أخيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قبل أنزل اللّه عزّ و جلّ فيكما ما أنزل (2)، و اللّه من وراء حربكما، و أظهرت حفصة خجلا و قالت: إنّهنّ فعلن هذا بجهل، و فرّقتهنّ في الحال، ثمّ قالت أمّ كلثوم: ظلمك أنت و عائشة و والداكما لنا قديم.
و لمّا علمت أمّ الفضل والدة عبد اللّه بن العبّاس بخروج عائشة من بيتها، كتبت للإمام كتابا و أعطته رجلا من جهينة و قالت: اخرج مسرعا واعط هذا الكتاب بيد عليّ، و إن نفق جملك فعليّ ثمنه، فخرج الرجل مجدّا حتّى سلّم الكتاب لعليّ عليه السّلام فأذاع الإمام خروج عائشة على الناس، و خطب الناس فحمد اللّه و أثنى عليه، و ذكر النبيّ فصلّى عليه، ثمّ قال:
اعلموا أنّما الخلافة لي و أنا صاحبها و لكن اغتصبها القوم منّي و سكتّ حين
ص: 222
لم آمن الفرقة تحلّ في الأمّة و لهذا كرهت حين زفّت إليّ، و أوّل من بايعني طلحة و الزبير، و اليوم نكثا عهدهما و أركبا عائشة على جمل و ساقوها لحربي، و ينبغي عليكم أن تجتمعوا هاهنا غدا.
فحضر عنده أربعمائة و سبعون رجلا من المهاجرين، و مائتين و ثلاثين رجلا من الأنصار، و أمّروا على المدينة سهل بن حنيف.
و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يستعدّ يومذاك لحرب معاوية، فخطب الناس و رغّبهم في جهاد طلحة (لعنه اللّه) و أتباعه فصاحوا بأجمعهم «سمعا و طاعة» فقام حجّاج بن عرية الأنصاري فقال: قاتلت بسيفي هذا بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اليوم أقاتل الناكثين طاعة للّه و رسوله، و أخذ يحرّض الناس على حرب المخالفين، و تلا عليهم شطرا من مناقب عليّ عليه السّلام، و تحمّل عليّ بمن معه حتّى نزل الربذة و هناك عقد لواءا لعمّار ليتقدّم الجيش إلى الشام.
فقال الحجّاج: أرسلني يا علي إلى حرب أهل البصرة، فقال عليّ عليه السّلام: اذهب على بركة اللّه، فركب الحجّاج و ساق معه جملا أورق و فرسا كميتا و توجّه إلى البصرة، فأقبلت عائشة بجيشها حتّى نزلت البصرة و كان عليها عثمان بن حنيف من قبل أمير المؤمنين، فكتبت عائشة إلى عثمان كتابا تخيّره بقدومها، فأعطى عثمان الكتاب إلى الأحنف بن قيس، فقال حكيم بن جبلة العبدي: رأيي أن لا تدعهم يدخلون البصرة لأنّهم إن دخلوها كانوا الغالبين و كنت أنت المغلوب، فصدّقه عثمان، و كتب عليّ إليه كتابا أن لا يدخلوها و قال: و أعذر إليهم فإن قبلوا و إلّا فقاتلهم، فأعذر إليهم عثمان فلم يستكينوا إلى أن جرّ الأمر إلى الحرب فغلبهم عثمان فمشى بينهم جماعة بالصلح بأن تكون دار الإمارة و إمامة المسجد لعثمان و يأذن لهم بالمقام في البصرة حتّى قدوم عليّ عليه السّلام.
ص: 223
و كان طلحة و الزبير يأخذان البيعة على الناس فبايعتهم بعض القبائل (1) فاجتمع منهم جيش و لبسوا الدروع و عليها الثياب، و حضروا صلاة الجمعة، و لم يطّلع عثمان على مكرهم فأمسكوا به و أوسعوه ضربا و نتفوا لحيته و شاربيه، و أرادوا قتله، فقال عثمان: اقتلوني، إنّ أخي سهلا في المدينة و اللّه لا يدع من أهلكم ديّارا، فأطلقوه و قتلوا سبعين مؤمنا من أهل بيته (2)، فخرج عليهم حكيم ابن جبلة العبديّ مع جماعة، و قال: أقاتلهم على حبّ اللّه و رسوله و أمير المؤمنين عليه السّلام الذي لا أحد أفضل منه تحت السماء، فمكر به طلحة و الزبير و خرجا عليه و ضرباه على رجليه حتّى فرّقوا بينهما و بين جسده، و مات على أثر ذلك.
و كتب سهل بن حنيف إلى عائشة كتابا شديد اللهجة و فيه الوعيد لخلاص أخيه عثمان من شرّها، فلمّا قرات الكتاب أطلقت سراح عثمان فخرج من البصرة و لحق بعليّ عليه السّلام بذي قار، فخطب عليّ بذي قار خطبة حمد اللّه فيها و ذكر ما جرى من قتل حكيم بن جبلة العبديّ و غيره من المؤمنين و بكى بكاءا طويلا حتّى ضجّ الناس من بكائه، و نزل من المنبر و كتب إلى أهل الكوفة كتابا يستنفرهم، و بعثه مع محمّد بن أبي بكر و محمّد بن جعفر، فلمّا بلغ كتابه أهل الكوفة كان أبو موسى الأشعريّ (لعنه اللّه- المترجم) يثبط الناس عن الخروج، فأغلظ له محمّد بن أبي بكر و وصل هاشم بن عتبة بعد وصول الكتاب و معه كتاب آخر من عليّ عليه السّلام، فاستشار أبو موسى السائب في أمر عليّ عليه السّلام، فقال السائب: لا بدّ من النفور مع عليّ عليه السّلام، فانكر أبو موسى ذلك.
ص: 224
و كان في كتاب عليّ لأهل الكوفة:
يا أهل الكوفة، إنّكم لتعلمون أنّ الحقّ حقّي و لكنّي سكتّ عنه خوفا من حدوث الفرقة، و اليوم بايعوني (و نافق بعضهم) فاللّه اللّه (بوصيّ نبيّكم) فلا تتقاعدوا عن إمدادي و لا تكاسلوا عن الخروج معي.
و أرسل كتابا آخر مع الإمام الحسن و عمّار بن ياسر، فقال عبد اللّه بن عبّاس: يا أمير المؤمنين، أترى أهل الكوفة لا يجيب منهم أحد؟!
و أمّا الإمام الحسن عليه السّلام فقد قرأ عليهم الكتاب و اتّكأ على عمود هناك و حمد اللّه و أثنى عليه و خطب خطبة غاية في البلاغة و الفصاحة، فعمّ الناس الوله و الوجد من فصاحته و بلاغته حتّى أتمّها، و دعا الناس إلى نصرة أمير المؤمنين عليه السّلام، فقام أبو موسى الأشعريّ (لعنه اللّه- المترجم) إلى المنبر و خطب بمن بعده و قال: أيّها الناس، أمسكوا فقد سمعت رسول اللّه يقول: تكون من بعدي فتنة فإيّاكم و الوقوع فيها، و عليّ يدعوكم إلى قتل إخوانكم.
فقام عمّار و قال: يا أبا موسى، أنت كنت دائما رأس هذه الفتنة و أنا أشهد اللّه و رسوله على أنّي سمعت رسول اللّه يقول: يا عليّ، تقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين، و شهد أربعون إنسانا لعمّار بهذا الحديث، و قال: عليّ سابق الإسلام و ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مستحقّ الخلافة و غيره على الباطل و عثمان لا يستحقّها و ليس أهلا ليطلب بدمه لأنّه ظلم المسلمين و أتلف بيت المال و مات على غير توبة، ثمّ سأل أبا موسى: كم هم أصحاب العقبة؟ قال: ثلاثة عشر؟ قال: رابع عشرهم أنت؟ قال: نعم، لقد كنته و لكنّ رسول اللّه استغفر لي، فقال عمّار: أنا أشهد بأنّ رسول اللّه لعنك.
ص: 225
و قام رجل يدعى زيد (1) و ذكر مناقب عليّ عليه السّلام و فضله من السبق إلى الإسلام و القرابة و الشجاعة و السخاء، و قال: لا بدّ من وجود إمام على الأمّة يدفع عنها الظلم و يقيم لها صلاتها و صيامها و حجّها و جهادها و باقي أمورها الشرعيّة، و يقوّم أود الشريعة و لا يستحقّ هذا المقام اليوم إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؛ فانفروا معه و أمدّوه بالنفس و المال.
و استأذن مالك الأشتر عليّا عليه السّلام بالذهاب إلى الكوفة و قال: أنا أعرف الناس بهم و أعرف ضرر عداوتهم، فأذن له، و لمّا وصل الكوفة بالغ في ترغيبهم بالجهاد و تلا عليهم مناقب أمير المؤمنين و قال: إيّاكم و سماع ترّهات سعد بن العاص (لعنه اللّه- المترجم) و الوليد بن عتبة الفاسق الخمّار و أبي موسى.
و قام من بعده حاتم (كذا) عدي بن حاتم و من بعده حجر بن عدي و غيرهم، و كلّ واحد يدعو الناس إلى الجهاد و يرغّب فيه، و يحرّضهم على نصرة عليّ، و دعاهم أبو وهب أيضا للقتال، فقال أبو موسى: أبو وهب يكذب عليكم، فأمر مالك الأشتر بالقبض على يد أبي موسى و إنزاله عن المنبر إلى الأرض، و هكذا فعلوا و أخرجوه من المسجد إلى خارجه.
و قام عبد اللّه بن ربيعة ففعل فعلهم و دعا الناس إلى طاعة أمير المؤمنين، و أقام الإمام الحسن الصلاة بهم جماعة، و ولّى قرظ بن كعب الأنصاريّ على الكوفة نيابة عن الإمام أمير المؤمنين، و خرج من الكوفة بالجيش و قد اجتمع منهم اثنا عشر ألف مقاتل، و خرجوا تلبية لدعوة أمير المؤمنين و لحقوا به على دفعات، و بقي الإمام مستقرّا في ذي قار خمسة عشر يوما بانتظار مجي العسكر، فلمّا قدموا عليه خطبهم و شرح لهم نكث طلحة و الزبير بيعته و قال: إنّما دعوتكم لتعينوني
ص: 226
و تنصروني على بغاة أهل البصرة الذين اجتمعوا على طلحة و الزبير و أقدموا عائشة من المدينة على حربي، فصاح أهل الكوفة بأجمعهم: نفديك بارواحنا و لا نحيد عن البصرة و ننصرك عليهم.
فقام عمّار و قال: يا عليّ، إخواننا و أهل قبلتنا لا يحلّ لنا قتلهم.
فقال عليّ عليه السّلام: إنّهم نكثوا عهدي و عهد عاملي عثمان بن حنيف على البصرة و قتلوا مائة نفس مؤمنة مصونة الدم فلو أنّهم قتلوا واحدا لحلّ دمهم، و لا يكون الحقّ معهم بادّعائه.
فاستحيا عمّار و سكت و قيل: إنّه لزم ركاب الإمام الحسين حتّى استشهد في كربلاء (1).
و تحمّل أمير المؤمنين من ذي قار و لم ينزل إلّا (بزانوقة) (كذا) في البصرة و أرسل إلى عبد اللّه بن عبّاس و زيد بن صوحان إلى طلحة و الزبير فلم يعتذرا و قالت عائشة: لا يجيب عليّا غيري، و قالت عائشة في جوابهما (2) ... و قد لبسوا جملها بجلد النمور و وضعوا عليها دروع الحديد و جاؤوا قاصدين الحرب للّه و رسوله و حجّة اللّه و المؤمنين، فليستحوا من اللّه تعالى، فأيّ رجل يرضى لامرأته أن تفعل هذا الفعل؟!
و أقبل عليّ عليه السّلام حاسرا اعزل من السلاح و وقف بين الصفّين و استدعى الزبير، فقالت عائشة: لا تذهب فإنّ عليّا يخدعك أو يريد تخويفك، فلمّا حضر الزبير
ص: 227
عنده، قال له: أناشدك اللّه، ألا تذكر يوم قال لك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتحبّه؟ فقلت:
و ما يمنعني من حبّه، فقال: يأتي يوم تقاتله مع الناكثين و تخون عهد اللّه و رسوله و وصيّه، و لن تنال الظفر. فقال الزبير: نعم أذكر ذلك.
ثمّ قال: ألا تذكر يوما أقبل النبيّ فيه من بني عمرو بن عوف و يدك بيده، فسلّمت أنا على النبيّ فردّ سلامي و تبسّم في وجهي، فابتسمت له، فأنكرت عليّ ذلك و قلت: ما هذا التيه يا عليّ؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: صه يا زبير، فإنّ عليّا لا يتيه، و سوف تقاتله مع الفئة الباغية و أنت ظالم له و هو مظلوم. فقال الزبير: أجل، أذكر ذلك و لا أنساه.
ثمّ عاد الزبير إلى فئته و قال: أنا شاكّ في هذا الأمر و متحيّر، فقالت عائشة:
لست شاكّا و لكنّك خفت من سيف عليّ، و قال ابنه عبد اللّه نحوا من مقال خالته، فقال له أبوه: لعنك اللّه- ثلاث مرّات- و قال: لم يكن بيني و بين عليّ بغضاء حتّى نشأت فظهرت، و لو لا وجودك المشؤوم لما كان بيني و بينه إلّا الودّ، ثمّ استدعى الزبير طلحة و قال: اترك هذا الأمر و ارجع عنه، فأبى طلحة، و خرج الزبير من العسكر إلى أن قتل مدبرا.
فجعل أمير المؤمنين مالك الأشتر على الميمنة، و عمّار بن ياسر على الميسرة، و أعطى رايته محمّد بن الحنفيّة ولده، و استعدّ للحرب فاستعرت نارها، و في هذه الأثناء حمل محمّد بن أبي بكر مع جماعة على جيش عائشة و ضرب قائمة جملها بالسيف فلم يقع الجمل، و ثنّى بضربة أخرى فما أثّرت، فقال له عليّ عليه السّلام: يا محمّد، اضطرب الثالثة، ففعل محمّد متمثّلا أمر الإمام فوقع الجمل لجنبه، و قتل مروان طلحة في الحرب.
فأرسل عليّ عليه السّلام محمّدا بن أبي بكر إلى عائشة و قال: قل لها: إلى أين تبغي الذهاب؟ فقالت إلى المدينة، فأوكل بها نساءا أوصلنها إلى هناك، و كان مع عليّ من أهل البصرة ثلاثة آلاف مقاتل.
ص: 228
الفصل الثالث في بعض قصّة معاوية و يزيد (1)
و جاء في الرسالة «الحاوية» أنّ ركن الإسلام الخوارزميّ قال: لمّا جي ء برأس الإمام الحسين عليه السّلام إلى يزيد بن معاوية لعنهما اللّه، قام الرجس و وضع قدمه على الرأس الشريف، و كان زيد بن أرقم حاضرا (2)، فقال: لا تفعل ذلك يا يزيد، فإنّي رأيت رسول اللّه يقبّل ذلك الفم.
و أمّا عندنا فإنّ اللعين تناول سوطه و ضرب ثناياه.
و قال في «الحاوية» أيضا أنّ اللعين طلب الساقي و هو في تلك الحالة و الرأس بين يديه فسقاه، و قال العلماء كان ثملا ساعتئذ، و كان بعد ذلك يرقص على سطح قصره و هو سكران فوقع من أعلاه و ذهب إلى جهنّم و هو سكران كما مات أبوه ثملا، و قد وضع الصليب في عنقه.
و قال بعضهم: ذهب عدوّ اللّه إلى الصيد مع عسكره فعرضت له ظبية، فأجرى فرسه ورائها فأوحى اللّه إلى الأرض أن ابلعيه «فخسفنا بداره الأرض». و قيل: لمّا عرفه القوم في دمشق تكأكأوا عليه و صار لهم ضجيج و عجيج، فهرب منهم و وقع في الكنيف، فأقبل الناس إلى ذلك الكنيف و سدّوا فروجه، و بئر الكنيف هذا معروف في دمشق، و أنشد في مذمّته و مدح عليّ و آله صلوات اللّه عليهم و سلامه (شعر):
ص: 229
يهدى أسارى كربلا إلى الشئآم و البلاقد انتقلن بالدما ليس لهنّ ناعل
إلى يزيد الطاغيه معدن كلّ داهيه من نحو نار حاميه مجاهد و خاذل
حتّى رأى بدر الدجى رأى الإمام المرتجى بين يدي شرّ الورى و للّعين خاذل
يظلّ في بنانه قضيب خيزرانه ينكث في أسنانه قطعت الأنامل
أنامل لجاهد و حاقد مراصدمكائد معاند في صدره طوائل
طوائل بدريّه طوائل كفريّةشرّها جاهليّة ولّت لها الأفاضل و بعث يزيد بعد شهادة الحسين عليه السّلام جيشا إلى المدينة و أغار عليها و استباحها ثلاثة أيّام، فكان يسلب القرشيّة مقنعتها من رأسها، و من أغلق بابه و استتر في بيته أحرقوا عليه بابه (1).
قال أبو سعيد الخدري: ما كنّا نسمع الأذان إلّا من قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
و قتلوا في المدينة ستّة آلاف إنسان (2) و من هناك قصدوا مكّة و نصبوا المنجنيقات على أسوار البيت و خرّبوه و أحرقوا أستاره و وضعوا السيوف على عواتقهم، و القرآن تحت أقدامهم، و هدموا الكعبة مرّتين و أحرقوا مكّة.
و قيل: عثروا على الحجر الأسود بعد سنين في اليمن فأخذوه و ردّوا إلى مكانه و عمروا البيت (3)، و هذه هي سنّة معاوية و يزيد و أهل الشام، بخ بخ لإسلام كهذا، و ويل لمن يدعو هؤلاء مسلمين.
و كان غرض يزيد و الحجّاج من غزو البيت قتل عبد اللّه بن الزبير، فقتلوه
ص: 230
و صلبوه على شجرة في مكّة (1) فلمّا أنزل من الشجرة كانت قد جفّت، و كانت أمّه أسماء ذات النطاقين (2) قد شاخت و أضرّت، و لمّا وقفت على رأس ولدها وجدتهم قد مثّلوا به فقطعوا يديه و رجليه و أبانوا شفتيه، و شقّوا جوفه و وضعوا فيه الحجارة، و هو أوّل مولود في الإسلام من المهاجرين، و قد قتله الحجّاج اللعين و قال: طهّرت مكّة منه، و مكّن ليزيد معاوية أبوه ففعل ما فعل، و لقد مضى على القوم من هلالك عمر بن الخطّاب إلى هلاك يزيد سبع و أربعون سنة، و هلك يزيد لعنه اللّه بعد شهادة الحسين عليه السّلام (3).
و ما أعجب قول المخالف: نهى النبيّ عن لعن المصلّين، و معاوية و يزيد من المصلّين، و مع هذا يلعن علماء المعتزلة علماء الشيعة و يذمّون أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع أنّ الجميع يصلّون و يترضّون عن معاوية و يزيد، أسأل اللّه أن يحشرهم معهما و هو كذلك فعلا طبقا للحديث «المرء مع من أحبّه» (4)، و يحشر علماء الشيعة مع أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
ص: 231
يقول صاحب الحاوية: تدخل فاطمة يوم القيامة عرصة المحشر و على يدها حلّة خضراء و على يدها الثانية حلّة حمراء و تنادي برفيع صوتها: ربّ احكم بيني و بين قاتل ولدي بأيّ ذنب قتلوهما أحدهما بالسمّ و الآخر بالسيف بالعبارة التالية: إنّ فاطمة تجي ء يوم القيامة بيدها قميص أخضر و بالأخرى قميص أحمر، فتقول: يا ربّ، انتصف لي من قتلة ولدي لم سمّ أحدهما و ذبح الآخر، فيحكم اللّه لها أوّلا يعني الحسن من معاوية، و ثانيا من يزيد لعنه اللّه.
و قال أيضا عن العبّاس: لمّا كانت ليلة زفّت فاطمة إلى عليّ عليه السّلام كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قدّامها و جبرئيل عن يمينها و ميكائيل عن يسارها و سبعون ألف ملك من ورائها يسبّحون اللّه و يقدّسونه حتّى الفجر.
و قال أيضا: أدخلت فاطمة عليها السّلام الحسن عليه السّلام على (رسول اللّه) النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هي التي كانت ترضعه أذهب جبرئيل في خيل من الملائكة قد نشروا أجنحتهم و يبكون حزنا على الحسين و أنّه علامة المصيبة للملائكة.
و قال أيضا: إنّ ملكا في البحار نزل إلى (الهجر الأعظم- كذا) و صاح صيحة و قال في صيحته: يا أهل البحار، البسوا أثواب الحزن فإنّ فرخ محمّد مذبوح، ثمّ جاء إلى النبيّ فأخبره بذلك (1).
قال الحسام الخوارزمي: لو تصوّرتم مقدار المصيبة للبستم ثياب المصابين أو تغيّرت صوركم سودا حزنا على قتله.
روى جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه الحسين عليه السّلام، فعطش و لم نجد ماءا، فأعطاه لسانه فمصّه حتّى ارتوى، ثمّ فرحوا بقتله عطشان يلوك لسانه عند الذبح.
ص: 232
و عن حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أعطي الحسين من الفضل ما لم يعط أحد من ولد آدم ما خلا يوسف بن يعقوب.
يقول مؤلّف الكتاب: المراد من الفضل جمال الصورة و شرف المحتد من الأب و الجدّ و الأمّ كما كان ليوسف عليه السّلام، و ثانيا أحسن القصص لأنّ من قصص الأنبياء و حكاياتهم و الأوصياء و الأولياء حكاية يوسف و الحسين عليهما السّلام فإنّهما ملكا الشهرة في العالم، و الجميع يعرفون ذلك و يقرؤونه .. و يحزنون عليه .. و كذلك يقول صاحب الحاوية (1).
و يقول صاحب الحاوية أيضا: عن خيثمة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: بي أنذرتم، ثمّ بعليّ بن أبي طالب اهتديتم، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (2)، و بالحسن أعطيتم الإحسان، و بالحسين تسعدون و به تشقون، و إنّما الحسين باب من أبواب الجنّة؛ من عانده حرّم اللّه عليه ريح الجنّة (3).
عن أبي أيّوب الأنصاريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ينادي مناد يوم القيامة من بطن العرش: يا أهل الجمع، نكّسوا رؤوسكم و غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله على الصراط.
و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: فاطمة مهجة قلبي، و ابناها ثمرة لفؤادي، و بعلها نور بصري، و الأئمّة من ولدها أمناء ربّي و حبله الممدود بينه و بين خلقه، من اعتصم به نجى، و من تخلّف عنه هوى.
إذن ظهر من هذه الأحاديث واقع أولئك الذين غصبوا حقوقهم و قطعوا
ص: 233
رؤوسهم و وضعوها على رؤوس الرماح، و أفتوا بإباحة دمائهم و أشلوا عليهم الفسّاق، و صاروا مبدء ذلك الظلم، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
و روى هذه الأخبار صاحب الحاوية أيضا بأنّ الإمام زين العابدين لمّا حملوه إلى يزيد أنشد يزيد لعنه اللّه هذا البيت:
لا تطمعوا أن تهينونا و نكرمكم و أن نكفّ الأذى عنكم و تؤذونا
اللّه يعلم أنّا لا نحبّكم و لا نلومكم ألا تحبّونا و قال يزيد: يا غلام، ليس لكم فخر علينا، فقال الإمام عليه السّلام: يا بن معاوية و هند و صخر، لم تزل النبوّة و الإمرة لآبائي و أجدادي من قبل أن تولد، و لقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يوم بدر و أحد و الأحزاب في يده راية الإسلام و ابوك و جدّك في أيديهما راية الكفر، ثمّ أنشد:
ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم ماذا فعلتم و أنتم آخر الأمم
بعترتي و بأهلي عند مفتقدي منهم أسارى و منهم ضرّجوا بدم ثمّ قال: يا يزيد، لو تدري ما فعلت و ما الذي ارتكبت من قتل أبي و أهل بيتي و أخي و عمومتي إذن لهربت في الجبال و فرشت في الرمال و دعوت بالويل و الثبور، و يكون رأس الحسين بن فاطمة و ابن عليّ عليه السّلام منصوبا على باب مدينتكم و هو وديعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيكم فابشروا بالخزي و الملامة غدا إذا جمع الناس ليوم القيامة.
و جاء في الحاوية أنّ يزيد شرب خمرا و سكب فضلته على رأس الحسين عليه السّلام فغسلت زوجة يزيد الرأس الشريف بالماء و ماء الورد فرأت فاطمة بالليل بعالم الرؤيا و هي تعتذر إليها، ثمّ أمر يزيد أن يحمل رأس الحسين و رؤوس أهل بيته إلى أبواب المدينة فتنصب عليها.
و أورد الحاكم في رسالته: قال اللّه تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ
ص: 234
وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (1) و النبيّ طرد مروان من المدينة و هذا دليل على كفره، فلمّا استخلف عثمان (لعنه اللّه- المترجم) ردّه و أسند إليه منصب الوزارة، و طرد أبا ذر بخلاف حكم هذه الآية من المدينة و هو حبيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أنصف من نفسك أيّها المخالف، إن صنع عثمان هذا لا يدلّ على صحّة خلافته بل و لا على إيمانه أو إسلامه.
و قال صدر الأئمّة البخاري: و أمر يزيد بنصب رأس الإمام الحسين عليه السّلام على باب مدينة دمشق و أسكن مخدّرات الرسالة في بيت يجاور بيته، و لمّا دخلن البيت خرجن نساء آل ابي سفيان لاستقبالهنّ و رحن يقبّلنّ أيديهنّ و أرجلهنّ و هنّ صارخات باكيات لاطمات، و أقمن العزاء ثلاثة أيّام، و لمّا رأين بنات النبيّ بهذه الحالة المزرية خلعن ملابسهنّ و رمينها عليهنّ، و حسرت امرأة يزيد عن رأسها و شقّت جيبها و عمدت إلى ستائر بيتها فمزّقتها و أقبلت حافية القدمين إلى مجلس يزيد و قالت: يا يزيد، أ أنت الذي أمرت بحمل رأس ابن بنت رسول اللّه على الرمح و نصبته على باب بيتك، و كان يزيد جالسا على عرش الملك و عليه تاج مرصّع بالدرّ و الياقوت و الحجارة الكريمة، فلمّا بصرت عينه بزوجته سافرة بادر إليها و سترها و قال: يا هندي، فاغفر (كذا) فاقعري و ابكي على بني بنت رسول اللّه.
و جاء في الحاوية أنّ النساء يتستّرن على ما جرى في كربلاء من قتل الرجال و الشباب على البنات و الولدان، و يعدن الأطفال الصغار بعودة آبائهم من هذا السفر إلى أن أدخلوهنّ بيت يزيد لعنه اللّه و كان معهنّ بنيّة لها من العمر أربع سنوات، انتبهت من نومها و صرخت تريد أباها الحسين عليه السّلام، لقد كان معي الساعة و أنا نائمة، فثارت للنساء و الأولاد ضجّة و صيحة، و كان يزيد لعنه اللّه يغط في نومه
ص: 235
العميق فانتبهه بإنزعاج و سأل: ما الخبر؟ فأخبروه بما جرى، فقال: خذوا لها رأس أبيها، فحملوه إليها و وضعوه بين يديها، فسألتهم: ما هذا؟ فقال لها اللعناء:
هذا رأس أبيك، فصرخت الطفلة مرعوبة و استولى عليها الرعب الشديد حتّى مرضت و بقيت من بعدها أيّاما ثمّ ماتت و أسلمت الروح إلى ربّها.
اعلم أنّ أميّة غلام روميّ لعبد الشمس و كان قد أعتقه و تبنّاه لما رأى سطوع الذكاء و الكياسة مرسوما على محيّاه، و ولد له أولاد كثيرون جلّهم لعناء.
و العلماء قول واحد أنّ الشجرة الخبيثة (الملعونة) هم بنو أميّة في قوله تعالى:
وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (1).
سؤال: عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، فكيف يقال لمثله غلام، أو كان غلاما؟
الجواب: جرت عادة العرب أنّ المملوك إذا أعتقوه و تبنّوه يدعى عندهم بعتيق أو معتق، نظير هذا زيد بن حارثة حين أعتقه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تبنّاه فكان يدعونه زيد ابن محمّد، و اشتهر ذلك بين أهل مكّة و المدينة و كان اللّه سبحانه يكره ذلك. و لمّا طلّق زيد زوجه زينب بنت جحش و أمر اللّه رسوله أن يتزوّجها لكي يعلم الناس أنّه ليس ولده على الحقيقة و لا هو بوارث له، إنّما ترثه فاطمة و ابناها الحسن
ص: 236
و الحسين عليهما السّلام، كما قال تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ (1) و كتب المفسّرون حكايه ذلك في سورة الأحزاب: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (2)، ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ (3) و المراد بقوله «أبا أحد» دفع هذه الأبوّة.
و هكذا كان عبد الشمس و أميّة حين اشتهر الأخير بابن عبد شمس، و المؤرّخون أخذوا ظاهر القول، و هذا التحقيق بلغنا من المحقّقين الذين كشفوا الواقع و أبانوا عن حقيقة هذه البنوّة.
و لمّا ثبت كون بني أميّة روما، فقد قال اللّه تعالى: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ (4) فهذه الآية تعنيهم، و يغلب في مملكتهم أهل الصلاح و الدين و هم الغالبون، و المراد من غلبة الروم مذكور في آثار أهل البيت و الأئمّة الصادقين عليهم السّلام.
وصف اللّه الشجرة الخبيثة بقوله ما لَها مِنْ قَرارٍ (5) و المعني بذلك هم، و لا تبقى مملكتهم أكثر من ألف شهر، فإذا انتهت هذه المدّة حلّ بهم الهلاك، و حينئذ يسطع نجم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يظهر المؤمنون الإيمان، و يفشو بينهم لعن الشجرة الخبيثة.
ص: 237
سئل الإمام الصادق عن ليلة القدر، فقيل: يا بن رسول اللّه، أتعرف ليلة القدر؟
فقال: كيف لا أعرفها، إنّ اللّه كشفها لنا، ففي هذه الليلة من كلّ سنة ينصب كرسيّ الكرامة لنا و يجلسنا عليه، و تأتي الملائكة المقرّبون و أرواح الأنبياء و المرسلين زرافات و وحدانا للسلام علينا و تهنئتنا، و تذهب إلى مصافها حتّى مطلع الفجر، و هي خير من ملك بني أميّة ألف ليلة.
و ما ناله بنو أميّة في هذه المدّة من اجتماع الفسّاق عليهم نحن نناله في كلّ سنة ليلة القدر و ما يضيرنا إذا جفانا الفسّاق.
لمّا ثبت كون بني أميّة ليس من قريش بل من الروم بطلت خلافة عثمان و معاوية، و هذا على مزعمة القوم أنّ الأئمّة من قريش لأنّهم ليسوا منهم.
سبّ عدي بن أرطاة على منبر البصرة أمير المؤمنين عليه السّلام و كان الحسن البصري حاضرا، فقال: و اللّه لقد سبّ أخا رسول اللّه .. (1).
قال عبد اللّه بن الحرث: ذهبنا أنا و عمرو بن الحجّاج إلى معاوية و ثنينا من بعده
ص: 238
بعبيد اللّه بن عمرو بن العاص، فقال: إنّ معاوية منعنا من رواية الحديث و قال: و اللّه لئن حدّثت لأضربنّ عنقك بالسيف. قال عبد اللّه بن الحرث: فقلت: و اللّه لو كانت عنقي لما تركت الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
ثمّ قال: كنت يوما عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمرّ معاوية يقود أباه و كان أرمد، و رسول اللّه على المنبر، فقال: لعن اللّه التابع و المتبوع (1) ثمّ حضرت عند النبيّ فأرسل وراء معاوية، فقيل له: يأكل، و أعاد الرسول مرّات و هو يأكل، فقال الرسول: يا رسول اللّه هو يأكل، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اللهمّ لا تشبع بطنه فلن يشبع، هل رأيتموه يشبع (2).
قال الراوي: فسألته: أ أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ فقال: سمت أذني و رأت عيني في المرّتين كليهما، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه (3).
ص: 239
وردت في كتاب مثالب بني أميّة من كلام الشيخ الزاهد الحافظ أبو سعيد إسماعيل بن عليّ السمّان و هو من علماء أهل السنّة، فنكتب ما هو من خلاصة كتابه و نوادره
قال الحسن البصريّ: كنت لا أستطيع ذكر اسم عليّ في عهد بني أميّة، فأقول:
حدّثني أبو زينب، خوفا من بني أميّة.
قال موسى بن داود: سمعت من عليّ و هو واقف عند أحجار الزيت، رافعا يديه يقول: اللّهم إنّي أبرأ إليك من دم عثمان، فحدّثت عبد الملك بذلك، فقال: ما أراه إلّا بريئا يا موسى. قلت: فلماذا يلعنونه على المنابر؟ فقال عبد الملك: لا يقوم الملك إلّا بذلك.
و كان قتل عثمان بسعي معاوية و لكنّه ما فتئ يشنّع على عليّ عليه السّلام و يدّعي الطلب بدم عثمان لعنه اللّه و الدليل على ذلك أنّ عبد اللّه بن سعد أقام بعسقلان بعد مقتل عثمان و لم ير وجه معاوية قطّ و قال: أكتب على نفسي أن لا أرى وجه رجل رضي بقتل عثمان و أعان عليه.
قال محمّد بن عبد الرحمان بن يزيد: قلت لأبي: يا أبتى، أتغزو في إمارة الحجّاج؟ فقال: يا بني، إنّ أصحاب رسول اللّه غزوا في زمن معاوية و هو شرّ من الحجّاج.
قال الأعمش: إنّ الحجّاج جرّد عبد الرحمان بن أبي ليلى من ثيابه و أمر بضربه حتّى تناثر لحمه و هو يقول: العن عليّا ابن أبي طالب، و هو يأبى.
قال عبد اللّه بن الزبير: أولاد الحكم ملعونون.
ص: 240
و كان رجل يحدّث عمر بن عبد العزيز فقال في أثناء كلامه: يزيد أمير المؤمنين (1) و كان عمر بن عبد العزيز في بني أميّة كمؤمن آل فرعون.
و قال مروان لحويطب: هممت أن أسلم فمنعني أبوك مرّات، و قال: لا تدع دين آبائك و أجدادك فيضيع شرفك، فلمّا أسلم عثمان و هو عمّك آلم أباك كثيرا و عاتبه و قال: إنّك فعلت سوءا.
قال الأحنف بن قيس: حضرت عند معاوية أنا و جماعة من أهل العراق فاختلفت آرائهم في يزيد و كلّ واحد قال ما عليه و كنت صامتا لا أنطق بكلمة، فقال معاوية: مالك يا أحنف ساكت أمام الملأ، فقمت و قلت بعد أن حمدت اللّه و أثنيت عليه: إنّك أعرف بيزيد ليله و نهاره، و سرّه و علنه، لأنّك أبوه، و اعلم بأنّنا شارفنا على النهاية فلا تزوّده الدنيا و تمكّنه من رقاب العباد و تذهب إلى ربّك فاللّه سائلك عن ذلك، فاتّق اللّه و لا تصيّره حاكما على رؤوس العباد، فبدر ملعون متزلّف كان حاضرا فقال: من أنكر ولاية معاوية و لم يقبل حكمه عليه ضربته بحدّ سيفي هذا، و أشار إلى قائم سيفه.
قيل: بلغ الظلم في عهد بني أميّة حدّا أن كان الناس يتمنّون الموت و قيام القيامة ليرتاحوا من ظلمهم و جورهم.
و كان سالم بن أبي حفصة يطوف في البيت و يقول: لبّيك مهلك بني أميّة لبّيك، فلمّا سمعه داود بن عليّ أرسل إليه ألف دينار مكافئة.
هرب عقبة بن شدّاد من عمر أيّام خلافته و نزل الكوفة و حضر صفّين مع أمير المؤمنين عليه السّلام فاستشهد، فلمّا استولى معاوية لعنه اللّه أمر بهدم بيته.
و لمّا ذهب معاوية إلى الميقات لعقد الإحرام و أراد أن يقول لبّيك قيل له: هذا
ص: 241
مكان مقدّس لأنّ عليّا لبّى منه، فترك معاوية الإحرام تعصّبا على عليّ عليه السّلام و ذهب إلى موضع آخر.
قال المصنّف: و اليوم أهل السنّة يتّبعون سنّته و إنّما قيل للسنّيّ سنّيّ لأنّه حافظ على سنّة معاوية و تبرّأ من عليّ و أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إلّا فالمسلمون جميعا شركاء في سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ما من حنبليّ إلّا و هو ينتقص عليّا و يبحث عن غميزة يغمزه بها (1).
و قال ابن المسيّب: ولد لأخي ولد من فضل اللّه عليه فسمّاه «وليد»، فلمّا علم الرسول بذلك منعه منه و قال: هذا اسم الفراعنة «ليكوننّ في أمّتي رجل يقال له الوليد، ألا هو شرّ لأمّتي من فرعون لقومه» (2) و حكم في الإسلام وليدان: الوليد ابن يزيد و الوليد بن عبد الملك (3).
جاء أعمى يوما إلى مجلس الحسن البصريّ و قال: ارحم أعمى ليس له قائد، فقال الحسن البصريّ: هذه السارية أسوء منك حالا، هذا عبد اللّه بن الزبير مع ما
ص: 242
له من الخدم الحشم و المال ليس له من يقوده، و كان هذا اللعين قد أضرّ. «الحمد للّه على عماه في الدنيا و الآخرة و استيصال بني أميّة» (1).
قال داود بن عليّ و هو من أعلام الدنيا يومذاك: كان رجل من أهل العراق يلعن أهل الشام، فقال عليّ عليه السّلام: لا تسبّوا أهل الشام جمّا غفيرا فإنّ فيهم قوما كارهين لما يرون في الشام و فيهم يكون الأبدال (2).
يقول أبو حاتم سفيان بن عتبة: لم يكن في عليّ خصلة يقصر بها عن الخلافة و لم يكن في معاوية خصلة يستحقّ بها الإمامة و الخلافة.
قال عبيد بن شداد (الهار- كذا): لو شئت لصعدت المنبر و ذكرت مناقب عليّ من الفجر إلى غياب القرص ثمّ ليأخذوني من هناك و ليضربوا عنقي.
و سمع عليّ عليه السّلام رجلا يلعن أهل الشام، فقال: ويحك لا تعمّهم فإن كنت لا بدّ فاعلا فمعاوية و شيعته و عمرو بن العاص و شيعته.
يقال: إنّ أمّ كلثوم بنت عليّ عليه السّلام ولدت لعمر ولدا و سمّته زيدا فدسّ عبد الملك بن مروان السمّ له فقتله لأنّ الناس كانوا يقولون: هذا ابن عليّ و عمر، و كان يخشاه على ملكه، و صلّى عليه عبد اللّه بن عمر.
قال شقيق: كنت أنا و مسروق في سفينة تحمل أصناما للنجاشي لبيعها في الهند، فقال شقيق: اغرقوا هذه السفينة، فقال مسروق: لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فليست هي شرّا من معاوية بن أبي سفيان إمام المسلمين.
كان عقيل بن أبي طالب ضيفا على أخيه، جاء يطالبه بالعطاء، فقال له الإمام:
ص: 243
اصبر حتّى يخرج عطاء الناس فأعطيك، فألحّ عليه عقيل و كان إلى جانبهما شخص ثالث، فقال له عليّ عليه السّلام: يا رجل، خذ بيده إلى هذه الدكاكين و ليحمل منها ما شاء، فقال عقيل: يابن أمّ، أتريدني أن أكون لصّا بعد الهجرة، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:
و أنت تريد منّي أن أسرق لك أموال المسلمين؟! فقال عقيل: ائذن لي بالمصير إلى معاوية، فقال له: أذنت لك، فأنت و ذاك.
فصار عقيل إلى معاوية فلمّا وصل إليه أعطاه مأة ألف درهم و قال له: اصعد المنبر يا عقيل و اذكر عطائي و عطاء أخيك، فصعد المنبر و حمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: كانت حالي مع أخي و معاوية كيت و كيت، و لكن أخي اختار دينه عليّ، و معاوية اختارني على دينه.
قال أبو سعيد الخدري: كان معاوية يخطب على المنبر فسلّ رجل سيفه في الجمع، فقيل له: ما تصنع ويحك؟! فقال: سمعت رسول اللّه يقول: إذا رأيتم معاوية يخطب على الأعواد (1) فاضربوا عنقه، و قال الحاضرون: و نحن أيضا سمعنا ما سمعته، فكتبوا إلى عمر بن الخطّاب لعنه اللّه فما ردّ عليهم الجواب إلى أن ذهب إلى جهنّم.
قال أبو سالم: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ويل لبني أميّة، ويل لبني أميّة، ويل لبني أميّة .. (2).
و كان معاوية يقول: السخاء لبني هاشم، و الشجاعة لبني العوام، و الحلم
ص: 244
(الحكم- المؤلّف) لبني أميّة، فوصل قوله إلى الإمام الحسن عليه السّلام، فقال: ما قصد المدح بل ألقى الخبر إلى الناس ليقصدوا بني هاشم فينفقون أموالهم فيحتاجون إليه، و يلقي ببني العوام بين لهوات الموت، و أعطى الحلم لبني أميّة ليجتمع عليهم الناس و يبلغوا بهم غاية الملك و السلطان.
و نادى منادي معاوية: من جالس أبا ذر قتلناه، فهرب الناس منه، و القصد من ذلك أن لا يستمعوا إلى ذكر مناقب عليّ منه لأنّه طالما كان يحدّث بفضائله التي رآها أو سمعها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
قيل: زار أبو الأسود معاوية، فلمّا قام قائما انفلتت منه ريح، فقال أبو الأسود: يا معاوية، هذا مقام العائذ بك، و قال: أو يكون غير هذا .. (1). و أشهد أنّ ما وقع منّي يقع منك و من أبويك، و من لا يؤتمن على ريح كيف يؤتمن على أمارة الأمّة؟!
سئل الحجّاج بن يوسف من أبي سعيد الحسن البصريّ: ما تقول في عليّ؟
فقال: كان أوّل من اهتدى، و أوّل من اقتدى برسول اللّه، و أوّل من هاجر الهجرتين، فقال الحجّاج: صدقت، هذا من وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ (2) و كان عليّ بن أبي طالب أوّل من هداه اللّه تعالى مع الحقّ و أوّل من التحق بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
قال الحسن البصريّ: عمل معاوية أربعا كلّهنّ بوائق: ادّعائه زيادا، و استخلافه يزيد، و قتله حجر بن عديّ و أصحابه، و منازعته الأمر (3).
ص: 245
رأى بسر بن أرطاة زيدا خارجا من عند معاوية، و زيد من أمّ كلثوم بنت الإمام عليه السّلام، فشرع يسبّ عليّا، فسمعه زيد يسبّه فأقبل عليه و قبض على مراق بطنه و حمله ثمّ جلد به الأرض و كسر أضلاعه، فاجتمع الناس و خلّصوه من يد زيد، فبهت معاوية و بقي أيّاما لا يعي من أمره شيئا، و كان السيف لا يفارقه من خوف زيد، و لا يجرأ على عتابه، و كان زيد غاية في الشجاعة.
عاد معاوية عمّار فلمّا قام من عنده قال: اللهمّ لا تجعل موته بأيدينا، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يقتل عمّار بن ياسر الفئة الباغية.
و لمّا قتل عمّار أقبل عمر بن حازم في ذلك اليوم على عمرو بن العاص باكيا، فسأله عمرو: ما بالك؟ فقال: قتل عسكرنا عمّارا بن ياسر و قد سمعت رسول اللّه يقول: يقتل عمّارا الفئة الباغية، فنهض عمرو مسرعا إلى معاوية و حدّثه بما سمع، فقال معاوية: على عمّار أن لا يأتي إلى هنا، و لقد قتله من جاء به، و لبّس عليهم بحيلته و مكره.
ناظر يوما عبد الرحمان بن أبي بكر مروان بن الحكم في أمر الخلافة، فقال مروان: و هذه تقاليد الأكاسرة و القياصرة إذا مات كسرى قام كسرى مقامه، و كذا القيصر، و لأجل ذلك منعوا أهل البيت حقّهم فأوصى بها أبو بكر لعمر و عمر للشورى و عثمان قتل من دون وصيّة (1). فلمّا بلغ الأمر عائشة حوّلت وجهها إلى مروان و قالت: أنت القائل لأخي كيت و كيت، و لكن أشهد اللّه أنّ اللّه لعنك و أنت في صلب أبيك.
ص: 246
قال الحسن عليه السّلام يوما: يا قوم، لو نظرتم ما بين جابلقا و جابلسا ما وجدتم رجلا جدّه نبيّ غيري و غير أخي الحسين (1) و إنّي أرى أن تجمعوا على معاوية، و ما أدري لعلّها فتنة لكم و متاع إلى حين.
و كان الحجّاج بن يوسف دائبا في تفضيل عبد الملك بن مروان لعنه اللّه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان يعرض بذلك و يقول للناس: أرسولكم أكرم عليكم أم خليفتكم على أهلكم، فيردّون عليه: بل خليفتنا على أهلنا، يريد بذلك عبد الملك خليفة اللّه و محمّد صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه.
و كان معاوية كلّما حزبه أمر أو ألّمت به معضلة يوجّه لها إلى عليّ بن أبي طالب إلى أن جائته مسألة في الخنثى فلم يعرف لها حلّا حتّى سأل عليّا ص عليه السّلام فأفتاه.
و سئل عليّ عليه السّلام عن قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (2)، قال: الذين بدّلوا هم بنو المغيرة و استأصلوا يوم بدر و بنو أميّة و متّعوا إلى حين.
و كتب معاوية إلى مروان و هو وال على المدينة أن انقل منبر رسول اللّه من مكانه و ابعث به إليّ، فلمّا شرع ذلك الملعون في قلعه من مكانه هبّت عاصفة شديدة اظلمّت لها الدنيا و كان الناس من شدّتها لا يرى بعضهم بعضا، و لا يسمع بعضهم بعضا، فلمّا رأى ذلك تركه في مكانه فهدأ العالم و سكنت العاصفة، فاستحيا مروان من عمله هذا و قال ماكرا بهم: إنّ معاوية أمرني برفعه عن الأرض، و شنّع عليه الناس فأضاف إليه اللعين ستّ مراق أخرى حتّى صار بتسع مراق.
ص: 247
قال عبد اللّه بن الزبير: لعن رسول اللّه الحكم و ما (كذا) يخرج من صلبه (1).
قيل: حجّ معاوية ذات عام فلمّا بلغ المدينة أجلس عن يمينه عبد اللّه بن عمر، و عن يساره عبد اللّه بن عبّاس، و أقبل على ابن عبّاس و قال: أنا أحقّ و أولى بالأمر من ابن عمّك، فقال ابن عبّاس: لماذا؟ فقال معاوية: لأنّي ابن عمّ الخليفة المقتول ظلما، فقال عبد اللّه بن عبّاس: فهذا- و أشار إلى ابن عمر- أولى منك بها لأنّ أباه قتل مظلوما قبل ابن عمّك، فانقطع معاوية.
و كان سعد في المجلس حاضرا، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا علي، أنت مع الحقّ و الحقّ معك (2)، فقال معاوية: من سمعه غيرك؟ قال: أمّ سلمة، فقام معاوية إليها و قال: يا أمّ المؤمنين، كثرت الكذّابة على رسول اللّه، و يقول سعد كيت و كيت، فماذا تقولين أنت؟ فقالت: جرى هذا الحديث على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بيتي و سمعته أنا و سمعه سعد، فقال: لو كنت سمعته من رسول اللّه ما زلت خادما لعليّ حتّى أموت (3).
ص: 248
جاء في المنقول عن الرواة: لمّا عزم أمير المؤمنين على حرب صفّين سبق معاوية إلى ماء الفرات، و وضع على مقدّمته أبا الأعور السلميّ و عدي بن أرطاة، فمنعوا أصحاب الإمام من ورود الماء، فبعث الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إلى معاوية لعنه اللّه رجلا من أصحابه يقول له: إنّ أصحابك حالوا بين أصحابي و بين الماء، و لو كنت السابق لما منعتكم، فشاور معاوية عمرو بن العاص و عبد اللّه بن أبي سرح و هو أخو عثمان من أمّه، فقال عمرو بن العاص: إنّي أرى أن تتنحّى بجيشكم لهم عن الماء، و قال ابن سرح: كلّا دعهم هكذا حتّى يهلكوا جميعهم عطشا كما قتلوا عثمان عطشا.
فلمّا أصبح الصباح أقبل على الإمام اثنا عشر ألفا من الرجال و قال: أنموت عطشا و نحن ننظر إليه، فقال الإمام عليه السّلام: من فيكم يقوم بهذا الأمر؟ فقال الأشعث:
ص: 249
أنا، و كان الأشعث رجلا شجاعا قويّا، يرمي السهم ثمّ يعدو معه حتّى يسبقه، ثمّ إنّ الأشعث حمل بهم على جيش الشام فأزالهم عن مراكزهم و احتلّ الفرات و ضرب أطنابه هناك، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أما قلت لك لا تمنع الماء منهم، فرددت قولي حتّى أمكنت العدوّ من الظهور عليك، فقال معاوية: إنّ عليّا رجل حليم و كريم فلا يمنعنا من الماء، و أرسل رسله إلى الإمام، فأجابه مسرعا، و أرسل إلى الأشعث: خلّ بينهم و بين الماء.
مادام عليّ حيّا لم يدع معاوية إلّا بأمير، فلمّا استشهد دعوه «أمير المؤمنين» (1) و لقّبوه بذلك دونا استحقاق له.
قال حنظلة بن خويلد: كنت عند معاوية فأقبل رجلان و معهما رأس عمّار بن ياسر و هما يختصمان فيه، كلّ يقول أنا قتلته، و كان رجل حاضرا المشهد، فقال:
سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعمّار: يقتل عمّار الفتة الباغية، فتعسا لكما و لما تختصمان فيه.
و كان النبيّ قائما على بناء مسجده و أصحابه يساعدونه، كان ينقل كلّ واحد منهم لبنة لبنة و صخرة صخرة إلّا عمّار فكان يحمل اثنتين معا، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك لحريص على الأجر، و إنّك من أهل الجنّة، و إنّك تقتلك الفئة الباغية (2).
قال سفيان بن ليلى: لمّا صالح الحسن معاوية ذهبت إليه في المدينة و دخلت عليه
ص: 250
و قلت: يا مذلّ المؤمنين، و عاتبته على الصلح كثيرا و على ترك القتال، فقال: يا سفيان، حملني عليه أنّي سمعت عليّا يقول: لا تذهب الليالي و الأيّام حتّى يجتمع أمر هذه الأمّة على رجل واسع السرم، ضخم البلعوم، لا يشبع و لا يموت حتّى لا يكون له عاذر في السماء و لا في الأرض، و إنّه معاوية، و إنّي عرفت أنّ اللّه بالغ أمره (1).
و نودي بالصلاة، فقال: هل لك يا سفيان في المسجد؟ قال: قلت: نعم، قال:
فخرجنا نمشي فمررنا على حالب يحلب ناقة فتناول منه قدحا فشرب قائما ثمّ سقاني ثمّ أتينا المسجد فصلّينا، ثمّ قال: ما جاء بك يا سفيان؟ قال: حبّكم و الذي بعث محمّدا بالهدى و دين الحقّ. قال: فابشر يا سفيان، إنّي سمعت عليّا يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يرد على الحوض أهل بيتي و من أحبّني من أمّتي كهاتين، و سوّى بين أصابعه [و سوّى بين اصبعين السبّابة و الوسطى- المؤلّف] و لو شئت لقلت:
كهاتين السبّابة و الوسطى، ليس لأحدهما فضل على الأخرى، ابشر يا سفيان فإنّ الدنيا ستتسع على البرّ و الفاجر، حتّى يبعث اللّه إمام الحقّ من آل محمّد (2).
جرت بين الإمام الحسين و بين مروان بن الحكم لعنه اللّه مشادّة لأنّ مروان أذن بلعن أهل البيت عليهم السّلام (3)، فقال له الحسين عليه السّلام: و اللّه لعنك اللّه على لسان نبيّه و أنت في ظهر أبيك.
و من جمله المعاصي التي صدرت من هذا العاصي و هي الطامّة الكبرى (4):
ص: 251
أوّلها: النفاق و عداوة اللّه و رسوله و أهل بيت رسوله و حربه لعليّ عليه السّلام، و سمّه الحسن، و إذنه بقتل الحسين عليه السّلام.
الثاني: استخلافه يزيد الكافر مع علمه بفسقه و فجوره العلنيّين.
الثالث: قتله حجر بن عدي مع أصحابه من دون ذنب جنوه بل لأنّهم يحبّون أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يعبدون اللّه حقّ عبادته، و حجر رجل مشهور عند العرب، قيل: كان يصلّي في اليوم و الليلة ألف ركعة.
الرابع: استلحاقه زيادا فصيّره أخاه و دعاه يزيد عمّه، و هو زياد بن حسام (كذا) (1).
الخامس: كان ثملا عند هلاكه و قد وضع الصنم في عنقه، و مات على كفره القديم، و يزيد لعنه اللّه قصد تخريب مكّة و أشار على عبد الملك أن يرسل الحجّاج إلى مكّة ليقتل أهلها من أجل ابن زبير الذي لجأ من خوفهم إلى حرم اللّه (2).
و بعث مسلم بن عقبة إلى المدينة و أمره بقتل الأنصار و أولادهم ثأرا لقتلاه في بدر و أباحها لهم ثلاثة أيّام.
و لمّا قتل الملعون الإمام الحسين عليه السّلام قال متمثّلا:
ليت أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسل و أوعز يزيد إلى ابن مرجانة بخراب مكّة، فقال اللعين: و اللّه لا أجمع له قتل الحسين ابن بنت رسول اللّه و قتل أهل الحرم و تخريب بيت اللّه.
و قال أبو بكر البخاري: و أيّ كفر أشدّ من ذلك، من مجاهدة اللّه و غزو بيته
ص: 252
الكعبة و لا فرق بينه و بين أبرهة الحبشيّ.
حجّ معاوية ذات سنة فلمّا فرغ من المناسك سأل: كيف حال فلانة، قالوا: هي حيّة ترزق، فقال: احضروها لي، و اسمها تلك المرأة (دارميّة الحجونيّة- كذا) و كانت سوداء اللون بادنة، و لها ثديان كبيران، فلمّا أقبلت على معاوية سلّمت، فردّ عليها معاوية السلام و قال: كيف حالك يابنة حام؟ فقالت: أنا لست حامية بل أنا امرأة من بني كنانة.
فقال معاوية: أتعلمين لماذا أحضرتك هنا؟ فقالت: لا. قال: أردت أن أسألك بماذا أحببت عليّا و أبغضتنا، و واليتيه و عاديتنا؟ فقالت: اعفني، فقال معاوية: كلّا لا بدّ من ذلك، فقالت المرأة: إذا كنت مصرّا فإنّي أحببت عليّا على عدله في الرعيّة و قسمته بالسويّة، و أبغضك على قتالك مع من هو أولى بالأمر منك، و طلبك ما ليس لك، و واليت عليّا على ما عقد له رسول اللّه من الولاية و حبّه للمساكين و إعظامه لأهل الدين، و عاديتك على سفك الدماء و شقّ العصى.
و لمّا سمع معاوية قولها قال: هذا بهند و اللّه يضرب المثل (1) و هند هي أمّ معاوية، فغضبت المرأة، فقال معاوية: لا تغضبي فما أردت إلّا خيرا، فإذا عظمت العجزية استوت الجلسة، و بكبر الثدي يكثر الغذاء للولد.
ثمّ قال معاوية: هل رأيت عليّا و سمعت كلامه؟ فقالت: نعم، رأيته و سمعت كلامه، فقال: كيف كان؟ قالت: يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت (البيت المظلم)، قال: صدقت، ثمّ قال: ألك حاجة؟ فقالت: إن ذكرت حاجتي تقضيها لي، قال: أجل، فقالت: مأة من الإبل حمراء و معها رعاتها و ما يلزمها، فقال معاوية: و ما تصنعين بها؟ فقالت: أجعل من لبنها طعامي و ما زاد عليّ أهديه إلى
ص: 253
الفقراء و المساكين و أصلح بها ذات البين، و أصل بها الرحم، و أكسب بها الخير و مكارم الأخلاق، و أصلح بها خلل العشائر و الفقراء و أمثال هذا، فقال: إن أعطيتك أكون عندك بمنزلة عليّ؟ فقالت: لا يا معاوية، و أنشدته هذين البيتين:
إذا لم أجد بالحكم منّي عليكم فمن ذا الذي بعدي يؤمّل للحكم
خذيها هنيئا و اذكري فعل ماجدحباك على حرب العداوة و السلم ثمّ قال: أعطوها ما أرادت، و قال لها: أما و اللّه لو كان عليّ ما أعطاك شيئا، قالت: اي و اللّه و لا وبرة واحدة من مال المسلمين يعطيني (1) لأنّه مؤمن و المؤمن لا يعطي مال المسلمين و أنت يا معاوية تعطيني مال المسلمين.
حجّ معاوية ذات عام فأخذ يد سعد بن أبي وقّاص و أجلسه معه على السرير و كان هذا دأبه، ثمّ أخذ يشتم عليّا عليه السّلام، فقال له سعد: ما أعجب أمرك، أدخلتني بيتك و أجلستني معك على سريرك، و رحت تشتم عليّا عليه السّلام، و اللّه إنّ لعليّ ثلاثا لو أنّ لي واحدة منها لكان خيرا لي ممّا طلعت عليه الشمس و غربت:
الأولى: في غزوة تبوك لمّا خلّفه النبيّ على المدينة فأرجف به جماعة من المنافقين فقالوا: لقد سئم رسول اللّه من عليّ و ثقل عليه، لمّا سمع عليّ ذلك كبر عليه و لحق بالنبيّ و قال: يا رسول اللّه، خلفتني مع النساء و الصبيان؟ فقال رسول اللّه: يا علي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي.
الثانية: لمّا كان يوم خيبر و أعطى الراية لأبي بكر و عمر و رجعا بها منهزمين من خيبر، قال: و اللّه لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله،
ص: 254
يفتح اللّه على يديه، كرّار غير فرّار.
و الثالثة: أنّه صهر رسول اللّه على فاطمة، و أولاده من فاطمة، و هذه المناقب أحبّ عندي ممّا طلعت عليه الشمس و غربت، ثمّ قام و نفض ثيابه و خرج من عند معاوية (1).
ص: 255
بيّنة: وفد ضرار بن ضمرة النهشليّ على معاوية، فقال له معاوية: صف لنا عليّا، و كان ضرار من أصحاب عليّ عليه السّلام، فقال: اعفوني من ذلك، فقال معاوية: أقسمت عليك إلّا ما وصفته، قال: فإذا لم تقبل استقالتي فأنا أقول:
كان و اللّه بعيد المدى، شديد القوى، يتفجّر العلم من جوانبه، و تنطق الحكمة على لسانه، يستوحش من الدنيا و زهرتها، و يأنس بالليل و وحشته، و كان طويل الفكرة، غزير الدمعة، يقلّب كفّه، و يخاطب نفسه، كان فينا كأحدنا تقريبا إذا أتيناه، و يجيبنا إذا دعوناه، و نحن مع قربه منّا و تقريبه إيّانا لا نبتدئه لعظمته، و لا نكلّمه لهيبته، فإن تبسّم فعن أسنان مثل اللؤلؤ المنظوم، و يقدّم أهل الدين، و يفضّل المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، و لا ييأس الضعيف من عدله، و أقسم باللّه لرأيته في بعض أحواله و قد أرخى الليل سدوله و غابت نجومه و هو قابض على اللحية في محرابه، يتململ تململ السليم، و يبكي بكاء الحزين، و هو يقول في
ص: 256
بكائه: يا دنيا إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت، هيهات هيهات لا حان حينك، طلقتك ثلاثا لا رجعة فيك، عيشك حقير، و خطرك يسير، و عمرك قصير، آه من قلّة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية على لحيته و كفّها بكمّ (كفكفها بكمّه) و اختنق القوم جميعا بالبكاء، فقال معاوية: رحم اللّه أبا الحسن، لقد كان كذلك، فكيف كان حبّك إيّاه؟
قال: كحبّ أمّ موسى لموسى عليه السّلام، و أعتذر إلى اللّه من التقصير. قال: فكيف جزعك عليه يا ضرار؟ قال: جزع من ذبح ولدها في حجرها فما تسكن حرارتها، و لا ترقى دمعتها، ثمّ قام و خرج. فقال معاوية: و لكنّ أصحابي لو سئلوا عنّي بعد موتي ما أخبروا بشي ء مثل هذا (1).
و هذا الفصل من مختارات كلام أبي سعيد السمّان، و كلّ كلمة فيه حجّة للشيعة على المخالفين لأنّه من علماء أهل السنّة و من رواة أخبارهم و أحاديثهم.
ص: 257
و هم معاوية بن أبي سفيان، و ابنه يزيد، و مروان بن الحكم، و عبد الملك بن مروان، و الوليد بن عبد الملك، و سليمان بن عبد الملك، و الوليد بن يزيد بن عبد الملك، و يزيد بن الوليد بن عبد الملك، و إبراهيم بن الوليد المخلوع، و مروان بن محمّد بن مروان.
و أخذ معاوية البيعة لنفسه سنة أربعين بعد قتله الحسن، و دام ملكه عشرين سنة و خمسة أشهر و خمسة عشر يوما في دمشق مقرّ حكمه، و وصل إلى الدرك الأسفل من النار و هو سكران من خمر معتقة سبع سنوات، و وضع الصنم في عنقه، و قبره في دمشق، و هلك في رجب سنة ستّين من الهجرة و عمره ثمان و ثمانون سنة.
و كانت البيعة ليزيد في رجب سنة ستّين، و دام ملكه ثلاث سنوات و ثمانية أشهر، و قيل: أربع سنين و ستّة أشهر، و هلك في دمشق و دفن بين القذارات، و كان عليه يتبرزون، و إلى الآن هو باد للعيان و الناس يتفرّجون عليه. و قيل: خرج يتصيّد و جمح به الفرس فألقاه أرضا فقضى عليه.
و بايعوا بعده ولده معاوية في ربيع الأوّل سنة أربع و ستّين، و دام حكمه أربعين يوما.
ص: 258
ثمّ بايعوا بعده عبد اللّه بن الزبير في مكّه سنة أربع و ستّين و دام حكمه شهرين و اثني عشر يوما و قتل في زمان عبد الملك بن مروان و كنيته أبو بكر.
و بعد معاوية بن يزيد بايعوا مروان بن الحكم لعنهما اللّه في أوّل محرّم سنة خمس و ستّين، و كان مدّة حكمه شهرين و تسعة أيّام، و عمره واحد و ستّون سنة.
و بايعوا بعده عبد الملك بن مروان بعد وفاة أبيه مباشرة في النصف من شهر رمضان سنة خمس و ستّين، و دام ملكه واحدا و عشرين سنة و شهرا و نصف الشهر، و مات في دمشق يوم الخميس النصف من شوّال سنة ستّ و ثمانين و عمره ثمان و خمسون عاما، و كنيته أبو الوليد.
و بايعوا بعده ابنه الوليد بن عبد الملك بن مروان، و كنيته أبو العبّاس، و مات بدمشق في النصف من جمادى الثانية سنة ستّ و تسعين، و عمره سبع و أربعون سنة.
و بايعوا بعده أخاه سليمان بن عبد الملك و كان يكنّى أبا أيّوب في النصف من رجب سنة ستّ و تسعين، و كانت مدّة سلطانه سنتين و ثمانية أشهر و خمسة أيّام، و مات يوم الجمعة بدابق من أرض قنّسرين سنة تسع و تسعين، و عمره خمس و أربعون سنة، و صلّى عليه عمر بن عبد العزيز.
و بايعوا بعده عمر بن عبد العزيز و كنيته أبو حفص، في سنة تسع و تسعين، و كانت خلافته سنتين و خمسة أشهر و أربعة أيّام، و توفّي بدير سمعان يوم الجمعة من رجب سنة أحد و مأة.
و بايعوا بعده يزيد بن عبد الملك و كانت خلافته أربع سنين و شهرين و يومين، و توفّي يوم الجمعة بالبلقاء من أرض دمشق في شعبان سنة خمس و مأة، و عمره ثلاثون سنة و ثمانية أشهر.
و بايعوا بعده هشاما بن عبد الملك أبا الوليد الأحول سنة خمس و مأة، و كانت
ص: 259
خلافته تسعة عشر سنة و سبعة أشهر و أحد عشر يوما، و توفّي في (بصاقة- كذا) يوم الأربعاء من ربيع الأوّل سنة خمس و عشرين و مأة، و عمره خمسون سنة و أربع سنين.
و بايعوا بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك أبا العبّاس، في سنة مأة و خمس و عشرين، و كانت خلافته سنة و شهرين و عشرين يوما.
و بايعوا بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك في دمشق سنة ستّ و عشرين و مأة.
و بايعوا بعده إبراهيم بن الوليد أبا إسحاق في سنة مأة و عشرين و كانت خلافته شهرين و عشرة أيّام، و خلع نفسه يوم الاثنين من صفر سنة مأة و سبع و عشرين.
و بايعوا بعده مروان بن محمّد بن مروان أخا عبد الملك في صفر سنة مأة و سبع و عشرين و دامت خلافته خمس سنين و شهرين، و قتل سلخ ذي الحجّة سنة مأة و اثنين و ثلاثين في قرية من قرى مصر و عمره ستّون سنة.
و عدد ملوكهم خمسة عشر ملكا أوّلهم عثمان بن عفّان، و كانت مدّة ملكهم ألف شهر.
و لمّا عادت عائشة من البصرة و استقرّت في المدينة كتبت كتابا إلى معاوية ترغبه في قتل أمير المؤمنين و تحرّضه عليه فجمع معاوية جيشه و أقبل يريد حرب أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان مالك الأشتر يحارب مع أمير المؤمنين حتّى غلبوا معاوية و أوشك الفأر أن يقع في المصيدة و كادوا يقبضون على معاوية قبض اليد، فلمّا رأى عمرو بن العاص الواقعة حلّت بهم أمر برفع المصاحف على الرماح و نادى مناديه:
بيننا و بينكم كتاب اللّه تعالى، فلمّا رأى أصحاب الإمام ذلك أقبلوا عليه و قالوا: مر صاحبك الأشتر أن يعود من القتال و إلّا قتلناك، فنصحهم أمير المؤمنين عليه السّلام و بالغ
ص: 260
في نصحهم و أخبرهم بأنّ فعلهم هذا حيلة، فلم يقبلوا قوله، فأرسل إلى مالك:
أوقف الحرب و تعال إليّ، فقال مالك: قولوا لأمير المؤمنين يمهلني لحظة حتّى أقبض على معاوية، فأرسل إليه أمير المؤمنين: قد أحاط العسكر بخيمتي لقتلي فإن لم تعد فإنّك لن تراني بعد اليوم.
و أخيرا قرّروا أن يحكّموا بينهم حكما و يخلدوا إلى الصلح، و يأتي من قبل معاوية عمرو بن العاص، فلم يرتضوا عبد اللّه بن عبّاس و قالوا: لن نرضى به (1) و قالوا: لا نرضى إلّا بأبي موسى الأشعريّ، فلم يرضى به أمير المؤمنين، فشغب عليه العسكر و أجبروه على الرضا به و لكن على شرط أن يعمل بكتاب اللّه و إذا ترك العمل بكتاب اللّه سقط من الحكميّة.
و في الطريق قال له عمرو بن العاص: ادنوا منّي يا أبا موسى حتّى أكلّمك، فدنى منه فعلم عمرو بن العاص بأنّ الرجل أحمق مغفّل يدني منه أذنه في صحراء تخلو من المحتشم، ثمّ قال له: يا أبا موسى، عليّ و معاوية كلاهما فتنة للناس فاعزل أنت صاحبك عليّا و أعزل أنا صاحبي، و نستخلف ابن أخيك و يكون العالم بين أيدينا، قال هذا الشيخ الأحمق: و كذلك نفعل. فلمّا وصلوا الكوفة (2) فقال عمرو بن العاص لأبي موسى: تقدّم فأنت صاحب رسول اللّه و أسنّ منّي، فرقى أبو موسى المنبر و خطب الناس و قال: أيّها الناس، ارتضاني أصحاب عليّ حكما من قبلهم، فأنا قد عزلته و انتزع خاتمه من اصبع يده اليمنى و وضعه في يده اليسرى و قال: كما نزعت خاتمي هذا، ثمّ نزل.
ص: 261
و صعد بعده عمرو بن العاص المنبر و قال بعد أن خطب الناس، قال: كان أبو موسى حكما من قبل علي فعزله و أنا عزلته كما عزله، و أجلست معاوية على منبر الخلافة و أثبتّه فيها، و سلّ سيفه من غمده ثمّ أغمده و قال: هكذا، فوّضت لمعاوية الإمامة و الخلافة.
فارتفعت الضجّة من الناس و نادى أبو موسى: ما على هذا اتفقنا، فاقتتل الناس بأيديهم و بالحجارة و قبضوا على رجل عمرو بن العاص و سحبوه، فاستطاع تخليص نفسه، و قال أبو موسى لعمرو: ويحك أغضبت عليّا عليّ فأشركني في الأمر، قال: سوف أفعل.
و قال بعضهم: إنّ المحادثات وقعت في دومة الجندل، و قال بعضهم كذلك بعث الإمام أمير المؤمنين ألفي رجل لرصد الحادثة إلى أن كان ما كان، و بعد هذه الحادثة انشقّ من عسكر أمير المؤمنين عليه السّلام سبعون ألف فارس و قالوا: أنت عزلت نفسك برضاك بالحكمين و لو كنت مستيقنا بحقّك لما رضيت بهما.
فقال أمير المؤمنين: كنت مع رسول اللّه في صلح الحديبيّة و أنا كتبت الكتاب بين رسول اللّه و بين المشركين و فيه «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما تصالح عليه محمّد رسول اللّه و قريش» فقال (سراقة- المؤلّف) سهيل بن عمرو: لو كنت أعلم بأنّك رسول اللّه لما خاصمناك، فقال لي رسول اللّه: يا علي، امسح رسول اللّه و اكتب مكانها محمّد بن عبد اللّه، فأبيت أن أفعل ذلك تأدّبا منّي و رعاية لمقام النبوّة، فمحاها النبيّ بيده، فهل كان شاكّا برسالته؟ و هل قدح هذا المحو فيها؟ فقالوا: لا.
فرجع إلى صفّ أمير المؤمنين ثلاثون ألفا من المخالفين و بقي من عداهم على كفرهم و تبرّؤوا من عليّ و عثمان، و قتل جميعهم في النهروان بيد أمير المؤمنين إلّا عشرة أنفس منهم هربوا، ولاذ اثنان منهم بجزيرة العرب، و اثنان بكرمان، و اثنان بعمّان، و أربعة منهم بسيستان.
ص: 262
قال الشيخ الزاهد الحافظ أبو سعيد إسماعيل بن عليّ السمّان- و هو من علماء أهل السنّة و محدّث مشهور من الطبقة الأولى- في كتاب «مثالب بني أميّة»: كان مسافر بن عمرو يخالل هندا أمّ معاوية آكلة كبد حمزة عمّ رسول اللّه، و قد زنى بها مرارا، و كانت هذه الصلة الحرام بينهما سنين طويلة، و كان يعدها الزواج بها و لكنّ التقدير حال دون ذلك إلى أن اشتملت منه على جنين، و مرّ عليه في بطنها ستّة أشهر فخاف مسافر من الفضيحة فهرب إلى النعمان في الحيرة.
و زوّجت هند من أبي سفيان بسعي بعض الناس و زفّوها إلى بيتها بعد أن عقد عليها و تعلّلوا بشتّى العلل حتّى إذا مرّ عليها ثلاثة أشهر في بيت أبي سفيان ولدت معاوية على فراشه، و لمّا بلغت أخبار هند مسافرا، قال:
ص: 263
فأصبحت كالمسلوب جفن سلاحه يقلّب بالكفّين قوسا و أسهما (1) و يشهد بهذا عداوتهم البالغة لأهل البيت و لرسول اللّه و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، لا يحبّك إلّا مؤمن تقيّ، و لا يبغضك إلّا منافق شقيّ.
و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده ذكر عليّ بن نصر المعروف بأبي الحسن البغداديّ الحنفيّ في تصنيفه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان ذات يوم يطوف فأقبل عليه شيخ بيده عصى و على رأسه عمامة من صوف و يرتدي جبّة صوف، فسلّم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه، استغفر اللّه لي ليرحمني اللّه تعالى، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اغرب يا ملعون عن وجهي، إنّ عملك إلى ضياع، و أنت من أهل النار، فلمّا خرج من عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك الشيخ قال عليّ عليه السّلام: لم يخرج أحد قبل هذا من حضرتك محروما من أهل الحاجات، فما بال هذا الشيخ قد طردته؟ فقال: يا علي، هذا ابليس طريد اللّه سبحانه.
فركض عليّ وراء إبليس ليقتله، فلمّا رأى إبليس بأنّ عليّا يقصده بالقتل لاذ
ص: 264
بالفرار ثمّ وقع، فلحق به عليّ عليه السّلام فجلس على صدره ليقتله، فضحك إبليس بوجه الإمام، فقال له عليّ: لم تضحك يا عدوّ اللّه؟ فقال: لن تستطيع قتلي لأنّي من المنظرين و لكنّي أبشّرك بشارة عظيمة، فقم عن صدري، فقام عليّ عليه السّلام عن صدره، فقال إبليس: ما تركت من أعداءك أحدا لم أشرك أباه في أمّه.
يقول مؤلّف هذا الكتاب: صدق قوله تعالى لإبليس: وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (1) و أمثال هذا، و اللّه أعلم بالصواب.
ينقسم الناس الذين يدينون بالإسلام إلى خمس فرق: الفرق الأولى الجليّة (2) هم النواصب، و هؤلاء أهل البغي و أشدّ الناس بغضا لأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
الثانية الجليّة، الخوارج و هم القائلون: لا حكم إلّا للّه، و هؤلاء يدعون المحكّمة، و هذه الفرقة تلعن معاوية أيضا.
الثالثة الجليّة، المخطئة و هم الذين يرون التحكيم خطأ و لكنّهم لا ينكرون إمامة عليّ عليه السّلام.
الرابعة الجليّة، المرجئة و هم الذين يتوقّفون في الحكمين فلا ينسبونهم إلى حقّ و لا إلى باطل، و هذه الطائفة يهبطون بمنزلة عليّ عليه السّلام إلى الموضع الأدنى إلّا أنّهم لا يكفّرونه.
ص: 265
و يقول أحمد بن الحسن بن الحسين البيهقيّ: إنّ معاوية أخطأ و لم يخرج عن الإيمان لعداوته لعليّ عليه السّلام و حربه إيّاه.
و يقول مصنّف هذا الكتاب: إنّ معاوية لم يؤمن لكي يخرج من الإيمان و إنّما خرج من عالم الكفر إلى عالم النفاق و رجع بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى كفره، ثمّ إنّ عليّا نفس الرسول و حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفر و كذلك الحرب على عليّ عليه السّلام، و كما حلّ قتال أهل اليمامة بمنعهم الزكاة عن أبي بكر و أغير عليهم و سبيت ذراريهم و سمّوا كفّارا و مرتدّين فكذلك الحال مع محاربي أمير المؤمنين عليه السّلام فإنّهم كفّار مرتدّون.
الخامسة الجليّة، المعتزلة، و هؤلاء افترقوا فرقتين: فرقة تفسّق معاوية و فرقة تكفّره، و الحاكم صاحب الرسالة المفسّر يلعنه مع إبليس و إخوانه المجبّرة.
اعلم أنّ معاويه كان ظالما و غاصبا حقّ أهل البيت و قال اللّه تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (1) و ثبت أيضا و قد تقدّم ذكره: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2) و أولوا الأمر هنا عليّ عليه السّلام و بمقتضى العطف تكون طاعته واجبة كطاعة اللّه و رسوله، و من خالف اللّه و رسوله كفر، و استحقّ اللعنة، و انظر إلى معاوية أين بلغ بمخالفته عليّا عليه السّلام.
قال تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً
ص: 266
أَلِيماً (1) و هؤلاءهم الذين كانوا يخذّلون الناس عن عليّ في حرب معاوية و لم يخرج أحد منهم معه كما فعلوا مع رسول اللّه في تبوك و الحديبيّة، فقال اللّه تعالى عن لسان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً (2).
و الدليل على كونه ظالما ما يراه فقهاء العامّة من جواز تولّي القضاء الظالم و يجور حكم الكاذب نظير أبي هريرة و غيره كمعاوية فقد بلغ هذان الاثنان الولاية و القضاء، فظهر من هذا التمثيل أنّ معاوية كاذب و ظالم، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
معاوية فرعون هذه الأمّة، و عمرو بن العاص سامريّها، و أبو موسى الأشعريّ جاثليقها، و إنّه سفير بين اليهود، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ (3)، وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (4).
و استحقّ اللعنة بادّعائه الكاذب للإمامة و الخلافة، قال في آية المباهلة (عن سبيل المفهوم- كذا): فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (5)، و قال في آية الإفك: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (6) و إفكهم على عليّ عليه السّلام اتّهامهم إيّاه بدم عثمان لعنه اللّه و أنّه قاتل له.
و لقد أجمعت الأمّة على كفر النصارى بقولهم حيث قال اللّه تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (7) و قال المجسّمة: إنّ اللّه جسم فكفروا أيضا بقولهم
ص: 267
هذا و اعترفوا بالحجج المناقضة لمذهبهم لكنّهم قالوا: بأنّنا نقول أنّه جسم لا كالأجسام.
و كتم معاوية الحقّ عن أهل الشام و ستر مناقب عليّ الواردة في القرآن و السنّة عنهم، و قال اللّه تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (1) و قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (2) و قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (3) و قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ (4) الآية.
عن أبي ذر- كما ذكر صاحب الكشّاف- أنّه قال: قام رجل بعد الصلاة و سأل الناس فلم يعطه أحد شيئا، فرفع يده و قال: أشهد أنّي سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئا، و كان عليّ عليه السّلام راكعا فأشار إليه بخنصره فأخذ السائل من حنصر يده اليمنى خاتما فلمّا فرغ النبيّ من الصلاة، قال: اللهمّ إنّ أخي موسى سألك فأعطيته سؤله، قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (5) الآية، فقلت: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (6)، و قلت: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ (7) ثمّ قال: اللهمّ و أمّا محمّد صفيّك يقول: ربّ اشرح لي صدري و اجعل لي وزيرا من أهلي، عليّا أخي، اشدد به
ص: 268
أزري، الآية (1)، فلم يتمّ دعائه حتّى نزل قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ الآية.
روى صدر الأئمّة موفّق بن أحمد و هو من علماء أهل السنّة بإسناده عن سلمان، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: عليكم بعليّ بن أبي طالب فإنّه مولاكم فأحبّوه، و كبيركم فاتّبعوه، و عالمكم فأكرموه، و قائدكم إلى الجنّة فعزّزوه، و إذا دعاكم فأجيبوه، و إذا أمركم فأطيعوه، و أحبّوه بحبّي، و أكرموه بكرامتي، ما قلت لكم في عليّ إلّا ما أمرني ربّي جلّت عظمته، و كاتم هذا النصّ (كاتم الحقّ.
قاضي القضاة) ذكر في كتابه «المحيط» أنّ خلافة عليّ أثبت و أحكم من خلافة الشيخين لأنّ خلافته بالنصّ و الاختيار و خلافة الخلفاء قبله بالاختيار وحده و أمّا فضائله في سورة هل أتى فهي مرتكزة على تلك الحال.
و ذكر الطحاويّ في مشكل الآثار، و الحاكم المفسّر في جلاء الأبصار: لمّا رجع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من حجّة الوداع ما كان عليّ معه بل كان في اليمن، فتوقّف النبيّ في الغدير حتّى لحق به عليّ عليه السّلام فثنّى ردائه أربع ثنيات و وقف هناك و بعد الخطبة قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله، و قال عمر: بخ بخ يا علي أصبحت مولاي و مولى جميع المؤمنين و المؤمنات.
و كان حسام الدين من «العدليّة» و قال أبو القاسم بن إبراهيم بن أحمد المؤذّن:
كانت الواقعة يوم الخميس فقد دعى النبيّ عليّا عليه السّلام و أخذ بضبعه و رفعه حتّى بان بياض إبطيهما و يقال بأنّه ألبسه عمامته و أرخى لها رغزتين على كتفيه و قال: هكذا نزلت الملائكة، ثمّ قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه .. الخ، و لم يفترقا حتّى نزلت
ص: 269
الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (1) فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: شكرا للّه على إكمال الدين و رضى الربّ برسالتي و الولاية لعليّ عليه السّلام، و أنشد حسان شعرا يطابق مقتضى الحال بعد أن أذن له النبيّ و قد مرّ شعره، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من كتم علما علمه ألجم بلجام من نار (2). و معاوية كتم عددا من النصوص فمكانه معلوم أين يكون.
و قال تعالى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ (3) و معاوية قتل الإمام الحسن، و قتل أربعين ألفا في صفّين من المهاجرين و الأنصار، و قاتل المؤمن ملعون بنصّ القرآن و إجماع الأمّة.
و قال تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) و قال: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ (5) و اتفقت الأمّة على أنّ معاوية باغ فحلّ دمه حينئذ.
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أعان على قتل امرئ مسلم و لو بسطر كلمة لقي اللّه يوم القيامة مكتوبا على جبهته آيس من رحمة اللّه.
و قال: من أخاف أهل المدينة إخافة ظلما فعليه لعنة اللّه و غضبه يوم القيامة، و لا يقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا (6).
و أرسل معاوية (عدي- المؤلّف) بسر بن أرطاة من قبله إلى المدينة ليأخذ منهم
ص: 270
البيعة، فلمّا صعد المنبر قالت أمّ سلمة: هذه بيعة ضلالة، و أذنت لولدها عمر بن أبي سلمة أن يبايع خوفا من القتل.
روى عين الأئمّة أنّ لعن معاوية جائز بعشر وجوه:
الأوّل: خروجه من طاعة أمير المؤمنين.
الثاني: سلّه السيف بوجه أمير المؤمنين.
الثالث: غصبه حقّ الإمام الهمام.
الرابع: إنكار أهل البيت.
الخامس: ادّعائه الإمامة.
السادس: كتمان فضل عليّ.
السابع: لعن عليّ على المنابر.
الثامن: اتّهامه بدم عثمان و هو منه بري ء.
التاسع: توليته يزيد الكافر.
العاشر: قتل الحسن بن عليّ عليهما السّلام و الوصيّة بقتل الحسين عليه السّلام.
فتبيّن من ذلك أنّه يستحقّ اللعنة بما فعل و لم يتب قبل الموت كسائر المؤمنين و المؤمنات كما قال أبو هاشم: ما فتئ معاوية يقول: لو لا هواي في يزيد، لأبصرت رشدي و عرفت قصدي.
و قال أبو علي بلعنه ظاهرا، لأنّ محبّته ليزيد و توليته على الناس تنفي توبته.
قال عبيد اللّه بن عمرو بن العاص: ذهبت إلى خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: ليدخل النار من مات على غير ملّتي، فطلع معاوية.
ص: 271
قال صاحب المصابيح: يطلع عليكم رجل من أهل النار فطلع معاوية (1).
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: معاوية في تابوت من نار مصمت عليه (2).
ذكر الحافظ عن ابن مسعود: لكلّ شي ء آفة و آفة هذا الدين بنو أميّة.
عن ابن عبّاس: لو اجتمع الناس على حبّ عليّ لما خلق اللّه النار، و هذا دليل على أنّ مبغضه في النار و محبّه في الجنّة (3).
ص: 272
و روي عن صاحب المصابيح عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: يموت معاوية على غير ملّتي (1).
و قال أبو علي: حكم المجبّرة و المجسّمة حكم من ارتدّ، و قال أبو هاشم: حكم أهل الكتاب و هم كفّار على كلا القولين، و كان معاوية لعنه اللّه رئيس المجبّرة.
و قال صاحب المصابيح: مات معاوية و الصليب في عنقه.
و قال الأحنف بن قيس: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: يموت معاوية على غير دين الإسلام فتخالج في قلبي شي ء من ذلك- يعني حين قال عليّ كلمته- قلت في قلبي:
كيف يكون ذلك إلى أن قصدت الشام فسمعت عن مرض معاوية، فذهبت إلى عيادته فرأيته و قد أسند ظهره على الحائط، فوضعت يدي على صدره فرأيت الصنم معقودا إلى عنقه ثمّ حوّل وجهه إليّ فرآني أبكي، فقال: أنا اليوم أمثل ...
فقال الأحنف: فأجبته: أنا لا أبكي عليك بل أبكي لما سمعته من عليّ أنّه قال:
يموت معاوية و الصنم في عنقه .. فقال: لعلّك استعظمت هذا يا أحنف، أمرني الطبيب بهذا فإنّه صنمي إنّه نافع. قال الأحنف: فخرجت من عنده فما بلغت المنزل حتّى سمعت الصراخ عليه و قائل يقول: مات معاوية.
و قال قاضي القضاة: إنّ معاوية مات مستشفيا بالصنم.
و يقال: إنّ أهل اليمن على هذه العقيدة بأنّ معاوية و أباه كافران و يقولون: لقد تقمّص الكفر هؤلاء و تسربلوه.
و قال عبد اللّه بن عبّاس: كنت في مسجد المدينة يوما و كنت أصلّي صلاة بالإخفات، و قد تفرّق الناس و بقي أبو سفيان و ابنه معاوية، و كان أبو سفيان قد أضرّ، فقال لمعاوية: يا بني، هل في المسجد أحد؟ فقال معاوية: لا يا عبد اللّه،
ص: 273
و كنت وراء السارية، قال: انظر بالمصباح، فتناول معاوية المصباح و أخذ يسلّطه على الأطراف و الأكناف و كنت أدور حول السارية حيثما دار، فقال: ليس في المسجد أحد، فقال أبو سفيان: يا بني، أوصيك بدين الآباء و الأجداد، و إيّاك و دين محمّد فإنّه سبب فقرنا، و لا يهولنّك قول محمّد من البعث و النشور. و قال معاوية: ذاك رأيي يا أبتاه.
و جاء في الرواية أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: اللهمّ العن معاوية و مروان و أولادهما و أولاد أولادهما، و هذا المعنى علمه النبيّ بالوحي كما علم نوح حين قال: وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (1).
و ذكر أحمد بن الحسن البيهقيّ في كتابه فضائل الصحابة عن نصر بن عامر، قال:
دخلت المسجد و أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقولون: نعوذ باللّه من غضب اللّه و غضب رسوله، فقلت: ممّن ذاك؟ قالوا: معاوية قام الساعة فأخذ بيد أبي سفيان فخرجا من المسجد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لعن اللّه التابع و المتبوع، ربّ يوم لأمّتي من معاوية ذي الأستاه، قالوا: يعني الكبير العجز (2).
و قال البيهقيّ: قال مسلمة: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جالسا فاجتاز به معاوية و معه أبو سفيان و أخو معاوية أحدهما يسوق البعير و الآخر يقوده، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
ص: 274
لعن اللّه القائد و الراكب و السائق.
و قال البيهقيّ: كان عليّ عليه السّلام يقنت بلعن معاوية (1).
و روى صاحب المصباح عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم التميميّ: وقع يوما خصام بين معاوية و أبي ذر، فقال أبو ذر: يا معاوية، إنّ أحدنا فرعون هذه الأمّة، فقال معاوية: أمّا أنا فلا .. و صدق بالحديث.
و خاطب أبو ذر معاوية لما هو عليه من الخبث بما خاطب به النبيّ أهل مكّة: أنا و إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، و بالطبع هذا القول مع كفّار مكّة، و أمّا حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهو: معاوية فرعون هذه الأمّة.
و روي أيضا عن رجل قال: ذهبت إلى مكّة لأسلم فلمّا دخلت المسجد سمعت رسول اللّه يقول: أربعة في الدرك الأسفل من النار: نمرود بن كنعان، و شدّاد بن عاد، و فرعون موسى، و رجل يبايع بعدي بباب بابل، و لو لا مقالة فرعون أنا ربّكم الأعلى لكان أسفل منه- و في رواية الحافظ: لكان تحته- فلمّا استشهد أمير المؤمنين قصدت العراق فلمّا بلغت باب بابل رأيت معاوية على المنبر يأخذ من الناس البيعة له، فعرفت من هو الرابع أنّه معاوية و كان من المنافقين الذين قال اللّه فيهم: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (2).
سئل الإمام زين العابدين عليه السّلام: كيف أصبحت يابن رسول اللّه؟ قال: أصبحت في أمّتنا كبني إسرائيل في أيدي الفراعنة؛ يذبّحون أبنائهم و يستحيون نسائهم، و ليس أدنى شرّ من يزيد فإنّه أعظم شرّا منه.
ص: 275
قال كافي الكفاة أحمد بن عباد (الصاحب بن عبّاد):
قالت تحبّ معاويه قلت اسكتي يا زانيه
قالت أسأت جوابيه فأعدت قولي ثانيه
يا زانيه يا زانيه يا بنت ألفي زانيه
أ أحبّ من شتم الوصيّ أخا النبيّ علانيه
فعلى يزيد لعنة و على أبيه ثمانيه (1) و قال مالك الأشتر و عبد اللّه: الشجرة الملعونة و الظالم في قوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (2) بنو أميّة و معاوية منهم.
يقول مصنّف الكتاب: و عثمان بن عفّان أوّل ملوك بني أميّة (لعنه اللّه- المترجم).
و قال رسول اللّه لعليّ: يا علي، ستقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين ... (3)
الناكثون هم طلحة و الزبير و أتباعهما بايعوا أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ نكثوا البيعة و قال اللّه تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ (4) و القاسط معاوية وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (5) و المارقون: الخوارج.
قال الصاحب الكوفيّ:
قالت فمن قائد الأقوام إذ نكثوافقلت تفسيره في وقعة الجمل
قالت: فمن حارب الأنجاس إذ قسطوافقلت صفّين تبدي صفحة العمل
قالت: فمن قارع الأرجاس إذ مرقوافقلت معناه يوم المهرجان علي
ص: 276
و هذا الشعر يشير إلى الوقائع الثلاثة: الجمل و صفّين و النهروان، و الطائفة الأولى هم الناكثون، و الثانية الظالمون و هم نجس، و الثالثة الخارجون و هم نجس أيضا و لذلك وصفهم بالأنجاس، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (1) و وصفهم بالإرجاس، و الرجس هو الخبث، و يقال: رجس و رجز و كلاهما واحد فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (2) (و فيه ما فيه) (3). و كلا هذين القولين للمخالفين.
و في كتاب «الرسالة الحاوية في مذمّات معاوية» ذكر الشيخ الفاضل زين العابدين الواعظ و القاسم بن محمّد بن أحمد المأموني و هو من علماء أهل السنّة و الجماعة في هذا الباب العظيم الغالي ما هو حجّة عليهم «و الفضل ما شهدت به الأعداء» و الأحاديث التي أخرجوها جاء كلّ حديث منها بطرق عدّة و أسانيد متعدّدة أقرّها علمائهم الكبار، و عبد أهل البيت- المؤلّف- قد اختصرها و لكنّه في أثناء ذكرها حاول سرد أمور مفيدة تعين على فهمها كما ذكر الوجوه و التأويلات التي ذكرها المؤلّف حين تتبّعه لمعاني الحديث، و صرف مصنّف هذا الكتاب معانيها لتنسجم مع توجّهاتنا في هذا المؤلّف.
سمّى أصحاب رسول اللّه معاوية لعينا كما ذكر ذلك صاحب «الرسالة الحاوية» أي الملعون الأبديّ، و هم قد سمعوا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بواسطة الوحي.
قال أبو محمّد بن أحمد بن أعثم الكوفيّ في الفتوح: إنّ معاوية و عمرا بن العاص
ص: 277
كتبا إلى أهل المدينة: «أجيبوا إلى حرب عليّ رحمكم اللّه» و السلام، فكتبوا إليه في الجواب: أمّا أنت يا معاوية فطليق لعين، و أمّا أنت يا عمرو فخائن في الدين، فكفّا عن المكاتبة و ليس لكما في المدينة وليّ و لا نصير (1).
و أهل المدينة حكّام أهل القبلة و قد لعنوه و هذه المكاتبة كانت قبل حرب صفّين، فلعنه بعد وقوعها أولى و أوجب.
قال المأمونيّ: كتب خالد بن الوليد إلى معاوية: أمّا بعد، فإنّك وثن من أوثان أهل مكّة دخلت في الإسلام كارها و خرجت منه طائعا (2).
قال المصنّف: المراد من قوله: «وثن» كأنّه ناظر إلى قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (3) فكما أنّ اجتناب الأوثان واجب فكذلك اجتناب معاوية لعنه اللّه و محبّته و موالاته حرام.
و جاء في الفتوح بأنّ معاوية كتب إلى عبد اللّه بن عمر كتابا و دعاه إلى نفسه و وعده بجعل الخلافة له، و ذكر في الكتاب محمّد بن مسلمة و سعد بن مالك في شعر كتبه في أسفل الكتاب:
ثلاثة رهط من صحاب محمّدنجوم و مأوى للرجال الصعالك .. (4)
ص: 278
فكتب عبد اللّه بن عمر في جوابه: يا معاوية، إن نفسك حدّثتك أنّي أترك عليّا و المهاجرين و الأنصار- في المهاجرين و الأنصار- و أتبعك، و أجاب عن شعره:
أتطمع فينا يابن هند سفاهةعليك بعليا حمير و السكاسك .. (1)
و السكاسك جمع سكسك و هو ابن حمير ابن سبأ يضرب به المثل لكلّ كريم.
و قوله سفاهة إشارة إلى قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (2). و قال المأموني: أعطى النبيّ عبد اللّه بن عمر سيفا و قال: سله من غمده على الكافرين، فوقع في شبهة من أمر هو لم يعلم أنّ أهل البغي بحكم الكفّار و قال عند موته: ما شي ء فاتني من الدنيا إلّا أنّي لم أقاتل مع عليّ أهل البغي (3).
و سئل الأحنف بن قيس: أكان معاوية حليما؟ فقال: لو كان حليما لما سفه الحقّ، و أشار إلى هذه الآية: وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (4).
و كذلك قال- يعني المأموني- أنّ القاضي شريح سئل عن حلم معاوية، فقال:
هل كان معاوية إلّا سفيها بل كان معدن السفاهة. ثمّ قال: لمّا بلغه مقتل أمير المؤمنين استوى جالسا و كانت له جارية تغنّيه و كانت تخفي إيمانها، فاستدعاها و قال: يا جارية غنّ اليوم قرّت عيني، فقالت الجارية: ما الخبر السعيد اليوم، فقال معاوية: قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فقالت الجارية: لا غنّيت بعد اليوم،
ص: 279
فأمر بضربها ضربا مبرحا بالسوط، إلى أن قالت: كفّوا عنّي ثمّ أنشأت تقول:
و كنّا قبل مهلكه زمانانرى نجوى رسول اللّه فينا
ألا أبلغ معاوية بن حرب فلا قرّت عيون الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمونابخير الناس طرّا أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطاياو أكرم كلّ من ركب السفينا
و من لبس النعال و من حذاهاو من قرأ المثاني و المئينا
فلا و اللّه لا أنسى عليّاو طول صلاته في الراكعينا
فلا تفخر معاوية بن حرب فإنّ بقيّة الخلفاء فينا
لقد علمت قريش حيث كانت بأنّك شرّهم حسبا و دينا و كان إلى جانب معاوية عمود فضرب رأس المسكينة حتّى استشهدت رحمة اللّه عليها (1).
و جاء في رسالة الحاوية: إنّ أعرابيّا سألوه: أتحبّ معاوية؟ فقال: وجدت له أربعا فكيف أحبّه؟ قيل: و ما تلك الأربعة؟ قال: سلّ أبوه السيف على رسول اللّه في ثمانين حربا، و أكلت أمّه هند كبد الحمزة، و قطع ابنه رأس سبط النبيّ الحسين عليهما السّلام، و قتل هو الحسن بالسمّ و حارب وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و ذكر صاحب الحاوية الحكاية التالية أنّ جنّيّة أسلمت فكانت تأتي مجلس النبيّ كلّ يوم فغابت ثلاثة أيّام سويّا، فلمّا عادت سألها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما أبطأك عنّي منذ ثلاثة أيّام؟ فقالت: نفست