کامل البهائي المجلد1

هویة الکتاب

سرشناسه:طبرسی، حسن بن علی، قرن 7ق.

عنوان قراردادی:کامل البهائی. عربی

عنوان و نام پديدآور:کامل البهائي/ [تالیف] الحسن بن علی بن علی بن الحسن الطبری (عمادالدین الطبری)؛ [تعریب و تحقیق محمدشعاع فاخر].

مشخصات نشر:قم: المکتبه الحیدریه، 1426ق.= 1384.

مشخصات ظاهری:2ج.

شابک:80000 ریال: دوره 964-503-073-0 : ؛ ج. 1 964-503-071-4 : ؛ ج. 2 964-503-072-2 :

وضعیت فهرست نویسی:برون سپاری

يادداشت:عربی

يادداشت:ج. 2 (چاپ اول: 1426ق. = 1384).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:چهارده معصوم -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده:فاخر، سیدمحمدشعاع، 1360 - ق.، مترجم

رده بندی کنگره:BP14/ط24ک2043 1384

رده بندی دیویی:297/95

شماره کتابشناسی ملی:2583425

ص: 1

اشارة

ص: 2

مقدّمة المترجم

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

نازعتني نفسي أن أقنع بشبه المقدّمة التي صدّرها الناشر للكتاب و أسلم من المؤاخذات التي تحاسبني على مقدّمتي بعد كتابتها، إذ ليس من اللائق بي بعد صرف هذا الجهد المضني على الترجمة أن أترك إبداء الملاحظات التي بدت لي خلالها مع علمي بمكانة المؤلّف العلميّة، فهو كما نصّ عليه أرباب التراجم: الشيخ الفقيه عماد الدين و عماد الإسلام الموثوق به عند العلماء الأعيان، العالم الخبير المتدرّب النحرير، المتكلّم الجليل، المحدّث النبيل، الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن الحسن الطبريّ أو «الطبرسيّ» الآمليّ الاسترآباديّ، كان معاصرا للمحقّق الطوسيّ و المحقّق الحلّيّ و العلّامة (1)، آرائه الفقهيّة منقولة في الكتب نقلها الشهيد الثاني في رسالة صلاة الجمعة، و المحقّق السبزواريّ في ذخيرته عند مبحث صلاة الجمعة و كذلك القاضي نور اللّه التستري و آخرون، كان من أفاضل عصره و من فحول الإماميّة و أكابرهم، له مصنّفات جيّدة في الفقه و الحديث و الكلام و غيرها، همّ فيها بتشييد قواعد الدين و تحقيق حقائق المذهب.

ص: 3


1- انظر المصادر الآتية لا سيّما رياض العلماء 1: 268 و أعيان الشيعة 5: 213 و اعلم بأنّ هذا الكلام ليس منّي و إنّما نقلته من مقال عنه في مقدّمة «أسرار الإمامة» له.

و قد نالت كتبه الفقهيّة اهتمام الفقهاء المتأخّرين، و نقلوا آرائه في كتبهم، و هذا دليل ساطع على جلالته و وثوقه عند فقهاء كبار أمثال الشهيد الثاني و صاحب الذخيرة و غيرهما، و ثمّة دليل آخر على تبحّره في العلوم الإسلاميّة و خاصّة الفقه و الكلام، هو ما نستشفّه من كلمات الثناء التي مدحه بها أصحاب التراجم، و أشرنا إلى بعضها في البداية.

يقول المرحوم المحدّث القمّي الذي أورد ترجمة مفصّلة للمؤلّف في كتاب (الفوائد الرضويّة): و اعتنى به الوزير المعظّم بهاء الدين محمّد بن الوزير شمس الدين محمّد الجويني المشهور بصاحب الديوان المتولّي حكومة بلاد فارس في عصر هلاكو، و كانت للشيخ منزلة رفيعة و مكانة سامية عنده.

نسبه و موطنه:

ذكر معظم أرباب التراجم نسب المؤلّف على النحو الآتي: الحسن بن عليّ بن محمّد ابن عليّ بن الحسن عماد الدين الطبريّ، و ذهب بعض آخر منهم إلى أنّه الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن محمّد بن الحسن عماد الدين الطبريّ.

و قال المؤلّف عن نفسه في مواضع من كتاب (كامل البهائي) أنّه الحسن بن عليّ ابن محمّد بن الحسن الطبريّ، و إذا علمنا أنّ المؤلّف سمّى نفسه في مواطن أخرى الحسن بن عليّ الطبريّ فإنّنا على يقين أنّه كان يراعي الاختصار في تعريف نفسه و أنّ جدّه الأوّل محمّد، و جدّه الثاني عليّ، و جدّه الثالث الحسن كما جاء ذلك أيضا في كتاب كامل البهائيّ المطبوع، و هكذا ذكره صاحب الذريعة في أكثر المواضع التي أورد فيها مؤلّفاته.

و أمّا نسبته إلى طبرستان فشي ء ذكره المؤلّف مرارا و صرّح به أرباب التراجم كما أنّه نفسه انتسب أيضا إلى مازندران و هما واحد، و لا شكّ أيضا في كونه من بلد

ص: 4

آمل الذي كان في القديم أوّل طبرستان كما نسبه إليه جمع كثير من العلماء و هذا العنوان كما يطلق عليه يطلق على بعض آخر من العلماء أيضا ... الخ، انتهى موضع الحاجة منه.

و مؤلّفاته تعرب عن فضله لا سيّما ما كان منها في تشييد المذهب، و رجل كهذا كيف يخترق مجاله العلميّ فيؤخذ عليه أنّه قال ما لا ينبغي أن يقال، أو كتب ما لا يصحّ خلا أنّني وجدت كثيرا من هذا و ذاك في كتابه «كامل البهائي» و داخلتني الحيرة و تأرجح قلمي بين ما تراه عيني و يشعر به فكري و بين مكانة المؤلّف السامية في عالم التشيع لأنّه واحد من روّاده في أقطار البلد المحروس ايران. و ينبغي أن تستثنى مدينة «قم» حيث أنّها لم يسبقها سابق في هذه الريادة و لم يلحق بها لا حق، و لعمري أنّها سبقت العالم كلّه في تبلور الشخصيّة الشيعيّة داخل إطار المذهب الجعفريّ، و أنّ لها مواقف لا تطال في الدعوة إلى الأخذ بهذه المدرسة ليس في ايران وحدها بل في الوطن الإسلامي كلّه.

و لا يخامرني ريب بأنّها حامي حمى الإسلام في ايران و لولاها لكانت ايران في عهد رضاخان قد تحوّلت من النقيض إلى النقيض و كان هذا الجبّار ينوي أن يقوم في ايران بالدور الذي قام به أتاتورك في تركية لو لا أنّه ارتطم في الصخرة التي لا تؤثّر فيها معاول الزمن و هي «قم» المدينة المقدّسة العالمة، و قاسى هذا البلد الأمين ما قاساه من صولة الحاكم المتمذهب بغير مذهبها و لكنّها صبرت على اللأواء و الشدّه صبر الأحرار حتّى قهرت الزمن و لم يقهرها، و طامنت من جماحة فلان عصيه لها و سمّاها المعصوم: «عشّ آل محمّد» و هي بحقّ عشّ ذهبي لهم و لشيعتهم، و لست أرى بلدا في الإسلام نظير هذا البلد لم يأو إلى دوحه سوى مذهب آل محمّد منذ نشأته على يد الأشاعرة الشيعة و إلى يوم الناس هذا لذلك يعتبر طليعة الروّاد في المذهب. أمّا خارج حدود هذا البلد الأمين و في محيط الأمّة الإيرانيّة فقد تسود

ص: 5

المذاهب العاميّة الأخرى بعنف دمويّ لأنّ أوّل الدواء عندها كآخره القتل و القتل وحده و تصفية الخصم، فكانت نقمة جبّارة على ذاتها و على غيرها من الذوات، و حينئذ حين يطلع في هذا الجوّ المكفهرّ كوكب وضّاء يضي ء للشيعة حوالك الزمن كصاحبنا عماد الدين و ينطلق من أسار هذا المناخ القائم و يجنح شطر الحق لا لمصلحة اقتضت ذلك منه بل انجذابا إلى الدليل الذي لا يخترق و البرهان الذي لا يقهر.

هنا يبدأ الغلوّ في الحرص من أبناء المذهب على مثل هذه الشخصيّة فيعد الحديث عنه بغير الأكبار و الإعجاب ضربا من التفريط به و لم يكن ذلك محض تعصّب و عناد بل نظرا لعطائه الضخم في علوم زمانه ممّا يجعل من المستحيل تحميله الهفوات الواردة في كتابه لبساطتها بحيث لا تخفى على من همّ دونه بمراتب كثيرة فما بالك به و هو العالم المتكلّم البحّاثة الواعي الملمّ بعلوم عصره و المحيط بمعارف زمانه.

و هنا أقول بصراحة: خامرتني هيبة من يرمي بنفسه إلى البحر من سفينة في أن أقول لعماد الدين: أخطأت أو قصّرت أو التبس عليك أو أو أو إلى آخره، إلّا أنّي رأيت الأمانة العلميّة و علاقتي النقيّة مع القارئ المقامة على الحقّ و الصدق و الصراحة أكبر من هذه المشاعر فحملني ذلك كلّه على كتابة المقدّمة و إن جرّ البعض إلى لومي و تقريعي و الذي يشفع لي فيما رأيت أنّي أنقد مستغربا لا جارحا، و قطع عليّ التعجّب من المؤلّف بعد الإعجاب به أنّي عزوت جلّ الهفوات إلى يد خفيّة تصرّفت بالكتاب تصرّفا إن لم تفقده مكانته العلميّة التي استحقّها بين الكتب فقد رقطت وجهه الناصع بها كما يرقط الوجه الجميل بالنمش.

وجدت في الكتاب أخطاءا لغويّة و تاريخيّة و حتّى كلاميّة أيضا و لكن بعد إجهاد الفكر و اضطرابه في هذا المنحى الصعب أخالني بلغت شاطئ الحقيقة و لم أبحر في أعماقها حتّى النهاية بما بادهني من الشعور المستأنس بأنّ النصّ قد تصرّف-

ص: 6

بالبناء للمجهول- فيه. و تسربت إليه خيوط من غير نسجه من أنوال جاهله و ربّما كانت عفويّة و لكن لا أستبعد أن يكون ذلك قصدا، و يبقى من المهمّ جدّا التعرف على الدافع الذي حمل الناسخ على استبدال لفظ مكان آخر أو وضع جملة محلّ أخرى، و إنّما عصبت التهمة بجبين الناسخ و نظرائه ممّن يملكون القدرة على التلاعب بالآثار، فلأنّ الألفاظ التي جرى تغييرها ليست ممّا يخطأ فيه الغبي الجاهل فضلا عن الحكيم العالم، خذ على سبيل المثال ترجمة المؤلّف قول الإمام لمروان «أما إنّ له إمرة» بالمرأة- زن- فهذا كيف يخطأ فيه عماد الدين المتكلّم و المؤرّخ و الفقيه الحاذق، و المؤلّف باللغة العربيّة أيضا، و جلّ الألفاظ المبدلة على هذا النمط البسيط.

أضف إلى هذا لغة الكتاب الفارسيّة فما كانت تشبه سبك عصر المؤلّف و هي أقرب إلى الفترة القاجاريّه منها إلى ذلك العصر المغولي. هذا كلّه و منه ما أترك بيانه لدارسي الكتاب و المؤلّف و عصره من ذوي الاختصاص حملني على الاعتقاد بتسرب نسيج العنكبوت إلى خيوط هذا الكتاب القيّم الحريريّة فعلمت أنّ وراء هذا الإسفاف عقولا متدنيّة إلى درجة العناء.

لا سيّما و الكتاب غير محقّق و لم يشر الناشر إلى النسخة التي اعتمدها في طبع الكتاب فللكتاب نسخ عدّة ذكرها الشيخ أغا بزرك الطهراني رحمه اللّه و ليست نسخة واحدة، و يجمل بنا أن نذكر هنا ما قاله شيخنا العظيم الأغا بزرك الطهرانيّ رحمة اللّه تعالى عليه فإنّه قال في الذريعة:

«كامل البهائي» فارسيّ في الإمامة و شرح ما جرى بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و لذا يسمّى ب «كامل السقيفة» للشيخ عماد الدين الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ الطبريّ، و في النسخة المطبوعة بدل جدّه علي الطبري الحسن، و هو المعاصر للخواجه نصير الدين الطوسي، كتبه بأمر الوزير بهاء الدين محمّد بن الوزير شمس

ص: 7

الدين محمّد الجويني صاحب الديوان و المتولّي لحكومة اصفهان في دولة هولاكو المغول.

إلى أن يقول: قال في الرياض: و هو كتاب كبير في مجلّدين، و المتداول منه المجلّد الأوّل و هو في أحوال أمير المؤمنين و إثبات إمامته و إبطال غيره، و المجلّد الثاني في أحوال باقي الأئمّة و قد رأيت منه نسخة تامّة بكاشان عند كلانتر تلك البلدة و أخرى بأسترآباد في كتب المولى حسين الأردبيلي و يوجد أيضا نسخة عتيقة عند المولى ذو الفقار و نسخة تامّة في اصفهان عند الميرزا أشرف بن الميرزا حسيب و الذي عندنا إنّما هو المجلّد الأوّل منه، و قال قبل ذلك: إنّ الموجود عندي هو المجلّد الأوّل إلى آخر شهادة الحسين عليه السّلام.

أقول: الميرزا أشرف هو صاحب فضائل السادات المطبوع، و قد كانت عنده النسخة بتمامها و ينقل عنها في كتابه كما صرّح به في (الرياض)، فلو وجد في كتابه النقل عن (الكامل) مع عدم وجوده في النسخة المطبوعة منه يعلم أنّه منقول عن مجلّده الثاني فإنّ الطبوع منه هو المجلّد الأوّل فقط كما يأتي، و نسخة الرضويّة المكتوبة في 974 ق مطابق مع المطبوع، و نسخة في المجلس: 2077 غير مؤرّخة يرجع إلى القرن الثامن ساقط الأوّل و الأخير.

إلى أن قال: و قد طبع في بمبئي في 1323 المجلّد الأوّل فقط و فيه حكاية سماعه في اصفهان في 603 عن مفتي يزيديّ، و منه إلى فراغ الكتاب أزيد من سبعين سنة، فإمّا تاريخ السماع غلط أو أنّه كان من المعمّرين لأنّه ألّف أسرار الإمامة في 698 و الأوّل أظهر لأنّ النسخة المطبوعة مغلوطة للغاية، و أمّا المجلّد الثاني فما عثرت عليه إلى اليوم (1).

ص: 8


1- الذريعة 17: 252.

فهل أنّ النسخة المطبوعة اليوم طبعت على نسخة بمبئي لابدّ أن تكون الحال كذلك لكثرة أغلاطها.

و كان على الناشر أن يتحرّى الدقّة في نشره الكتاب بتحرّيه الخير، فلا يجمد على ما أسداه الأوائل لعصرهم و عليه القيام بتحقيق هذا التراث القيّم فيميط عنه ما علّق به من غبار التشويه و التغيير فيعمد إلى تحقيق الكتاب و على رأس ذلك صحّة نسبته لمؤلّفه و تبيين النسخ المعتمدة الخطّيّه في طباعته أو حتّى النسخة الواحدة إن لم يوجد سواها إلّا أنّه لا يوجد شي ء من هذا في الطبعة الإيرانيّة للكتاب، و لست أعرف السرّ في إهمال مثل هذا الكتاب بدون تحقيق، و لو صرف مثّقّفونا بعض الجهد على تحقيقه لكان خيرا من عشرات الكتب التي كتبت بعده أو في عصرنا، و أخرجت إخراجا جيّدا أنيقا، و ما كان مردودها ليناسب جمال إخراجها، أمّا هذا الكتاب و غيره من الكتب المدافعة عن المذهب فلست واجدا من يعني بأمرها.

و الكتاب تجاوز صداه اللغة التي كتب بها و صار مفزع العلماء و مصدرهم الذي لا يستغنى عنه في موضوعه و لكنّي وجدت محتواه التاريخيّ في بعض جوانبه دون سمعته بأشواط لأنّ غرائبه كثيرة و فيه أساطير يكذّبها العقل و النقل نظير قتل معاوية لعائشة بالشكل الذي أورده رحمه اللّه فإنّه لا يعقل على الإطلاق و المشكله أنّه أورده مرسلا و هي طريقته في المستغربات و لم يعزه إلى مصدر أيضا حتّى بالوجادة فثبوت وضعه لا يحتاج إلى كبير جهد، و مثل هذه الأمور تجد الكثير في الكتاب.

هذا من جهة و من جهة أخرى، تجده يقصر في إشباع الموضوع الذي أثبت الفصل من أجله نظير الفصل الذي خصّصه لدحض النسب الأمويّ فلم يأت بشي ء يذكر اللهمّ إلّا جملة قصيرة في صدره ثمّ الخوض في مسائل لا ينظمها سلك واحد.

ص: 9

و أعجب ما رأيت منه إعراضه عن ذكر أمّ البنين عليها السّلام بل تجنّب ذكرها من رأس كأنّه لا يصحّح وجودها بل هذا هو رأيه على الحقيقة فلم يشر إلى وجودها و لو على طريقة الردّ و إنّما نسب العبّاس عليه السّلام إلى ليلى بنت مسعود الثقفيّة و جعل له أخا واحدا منها و سمّاه جعفرا و كنّاها بأمّ البنين، و هذا خرق غير مسئول لإجماع المؤرّخين و كان عليه تحقيقا أن يشير إلى من ذكر وجودها ثمّ يعمد إلى إثبات ما يراه فلماذا لم يفعل ذلك ليت شعري.

كما أنّه يؤكّد وفاة أمّ كلثوم في دمشق الشام فإذا ثبت ما يقوله البعض من أنّ زينب هي أمّ كلثوم يقع شطر من تاريخ كربلاء في مهبّ الشكوك و إن إفاد في رفع طائلة الإبهام عن القبر المنسوب في دمشق.

و يزعم أنّ بقاء أهل البيت في دمشق امتدّ إلى أكثر من عشرة أيّام من ربيع الأوّل و فيه رحلوا إلى مدينة جدّهم و لازم هذا القول إنكار يوم الأربعين و لم يصرّح بذلك لفظا لو لا اقتضاء اللزوم، و لعلّه أوّل من فتح للشيخ النوري الطريق إلى إنكاره لأنّه اعتمد على كامل البهائي و جعله من أوّل مصادره في كتابه «لؤلؤ و مرجان» و ناقش الشيخ الطوسي بقوّة ما رواه السيّد ابن طاووس في آخر اللهوف من أنّ أهل البيت قالوا للدليل مر بنا على طريق كربلاء فوصلوا إلى موضع المصرع فوجدوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري رحمه اللّه و جماعة من بني هاشم ... الخ (1). و ما من ريب أنّ النوريّ رحمه اللّه تأثّر بكتابه فقد ذكره بكثير من الإعجاب و أثنى عليه و سمّاه العالم الجليل البصير عماد الدين الحسن بن عليّ الطبرسيّ صاحب المؤلّفات الرائقة مثل أسرار الإمامة و غيرها مثل كامل السقيفة المعروف بكامل البهائي ... الخ (2)

ص: 10


1- النوري، لؤلؤ و مرجان: 149.
2- نفسه: 158.

و لا بدّ من كون الشيخ النوري حائز على النسخة الصحيحة و إلّا لما اعتعنى بالكتاب.

و أعجب ما رأيت من هذا المؤلّف هو غارته الشعواء على كتاب «التعجّب» للشيخ الكراجكيّ فقد استلّ بل استلب منه ما ينيف على الربع في مناظراته من دون إشارة و لو بالكناية إلى صاحبه أو إليه، و مهما قلنا عن حسن نيّة المؤلّف أو عن مكانته العلميّة فإنّه لا يعذر على الإطلاق، على أنّه استند إلى كتب ليست في مستوى التعجّب من قبيل كتاب فعلت فلا تلم في المثالب أو الحاوية فإنّه ذكرها أحسن ذكر، فما السبب في إهمال كتاب التعجّب و قد أتخم كتابه من مادّته البديعة، و الكتاب و إن صغر حجمه إلّا أنّه كبير المحتوى عظيم الفائدة على كلّ مسلم مطالعته بإمعان ليقف على حقيقة الخصوم، و لا يمكن أن تكون المسألة عفويّة و لا عكسيّة لأنّ الكراجكيّ عليه الرحمة توفّي سنة 449 و اسم الكتاب الكامل «التعجّب من أغلاط العامّه في مسألة الإمامة» و عماد الدين الطبري صاحبنا كتب كامل البهائي سنة 675 فبين الكتابين حدود: 236 سنة، و لم يشر أحد إلى ذلك ممّن كتب عن الكامل أو مؤلّفه و لا أقصد هنا التشهير به نعوذ باللّه من ذلك لأنّي أعتزّ بالمؤلّف اعتزازا فاق حدود المتصوّر، و لكنّي أردت جلاء الحقيقة و إن أوقف القارئ على جليّة الأمر لأنّي دهشت حقّا حين رأيت الرجل ينقل مناظرات الكراجكيّ بقضّها و قضيضها إلى كتابه دونما إشارة إليه و رأيت ذلك حقّا مضيّعا للكراجكيّ فآثرت الإشارة إليه و خلصت إلى نتيجة و ثقت بها لنفسي من أنّ عماد الدين الطبريّ رحمه اللّه مناظر لا يشقّ له غبار و هفوته مغفورة في هضم حقّ الكراجكيّ يشفع له الهدف السامي من تأليف الكامل الذي نصّ عليه في آخر الكتاب و لكن المؤرّخ يتضائل فيه إلى درجة الإسفاف.

ثمّ أنا على يقين من أنّ الهفوات اللغويّة في الكتاب ليست منه بل هي مدسوسة

ص: 11

فيه، و نحتاج لكي نصل إلى نتيجة مرضيّة إلى دراسته ببذل جهد طائل مركّز، كما أنّي واثق بل لا محيد عن ذلك من أنّ الرجوع إلى نسخة الخطّيّة يفيد كثيرا في كشف الحقيقة، أمّا الهفوات فقد ذكرتها في الهوامش و سيطّلع عليها القارئ و لا حاجة إلى تكرارها في المقدّمة.

نبذة عن الكتاب

و الكتاب نفيس للغاية و مهمّ جدّا و فيه ريّ لأوام الولي و شفاء لعلّته بما يورده من حجج دامغة على الخصم تبصرة بحقيقته إن كان ممّن يتبصّر، و كان من الحقّ ألّا تخلو المكتبة العربيّة منه، لذلك عرض عليّ الأستاذ الكبير و الناشر القدير صاحب المكتبة المضيئة أمس و اليوم و غدا إن شاء اللّه الأخ أبو زينب ترجمته فلبّيت مسرعا و جعلته شكرا للّه على سلامتنا هو من مرضه الذي ألمّ به و أنا من حادث الاصطدام الذي كاد يؤدّي بحياتي لو لا فضل اللّه عليّ و عليه و شكرا له على تعاهدة مثل هذه الآثار و تعهّده للمؤلّفين و المترجمين ببذل خير الجهد لنشر آثارهم و الحمد للّه بدءا و ختاما.

و أختم المقدّمة بالتصدير الذي صدّر به الناشر الكتاب و قد أخذه من الفوائد الرضويّه و فيه ذكر لمؤلّفات الطبري التي أغنانا عن ذكرها في المقدّمة.

المترجم- محمّد شعاع فاخر

ص: 12

بسم اللّه الرحمن الرحيم

[كلام محدث القمى]

التصدير: شرح حال المؤلّف مطابقا لما تفضّل به المحدّث القمّي رضوان اللّه عليه

قال المحدّث القمّي في كتابه الفوائد الرضويّة ص 111: الحسن بن عليّ بن محمّد ابن الحسن عماد الدين الطبريّ شيخ عالم، ماهر خبير، متدرّب، نحرير متكلّم جليل محدّث نبيل، فاضل، فهّامة.

معاصر للخواجه نصر الدين الطوسي و المحقّق الحلّي و العلّامة الحلّي، و هو صاحب الكتب الشريفة في أصول المذهب و تشييد قواعد الدين و الفقه و الحديث و غير ذلك، مثل:

1- معارف الحقائق

2- عيون المحاسن

3- بضاعة الدين

4- الكفاية في الإمامة

5- النقض على معالم فخر الدين الرازي

6- المنهج في فقه العبادات و الأدعية و الآداب الدينيّة.

7- كتاب أسرار الإمامة

ص: 13

8- جوامع الدلائل و الأصول في إمامة آل الرسول

9- العمدة في أصول الدين و فروعه

10- نهج الفرقان

11- تحفة الأبرار في أصول الدين

12- مناقب الطاهرين

13- أربعين بهائي

14- كتاب (أحوال السقيفة) (و هو كامل البهائي).

و كان الوزير المعظّم بهاء الدين محمّد بن الوزير شمس الدين محمّد الجويني المشهور بصاحب الديوان المتولّي لحكومة الممالك الإيرانيّة في أيّام السلطان هلاكو خان و كان نظير الصاحب بن عباد له عنايه خاصّة بالعلماء و شيعة الإمام أمير المؤمنين.

و كانت عنايته بالشيخ الطبري أكبر و كان ينزله عنده بالمنزلة الرفيعة و الدرجة الخصيصة، فلا بدع أن يبادله المؤلّف نفس المشاعر الخاصّه فيوقف عليه خاطره المتدفّق بالثروات العلميّة فيؤلّف له عددا من الكتب منها «أربعين بهائي» في تفضيل أمير المؤمنين، و الكتاب الذي بأيدينا الآن «كامل البهائي في السقيفة».

و قال في ديباجة الكامل: و لمّا ألّفت كتبي في مناقب الطاهرين و هي بمجموعها في التولّي، لزمني من ذلك أن أكتب كتبا في التبرّي، فكتب كتاب الكامل في موضوع التبرّي.

و كلا الكتابين هما بمثابة السيف و الرمح على المخالفين و نيف كلاهما على ثلاثين ألف سطر.

و طبع الكامل بمدينة بمبئي إلّا أنّ نسخه شحّت حتّى لا تكاد تحصل على نسخة واحدة منه، و لمّا اجتزت بتلك الديار حصلت بيدي نسخة منه و لكن لم يقدّر لي و يا

ص: 14

للأسف تصحيحها و كانت غاية في ردائة الطبع و الأخطاء إلى درجة يتعذّر على غير العالم الاستفادة منها، و هو كتاب جليل جمّ الفوائد كثير العوائد، و قد فرغ من تأليفه في سنة (675) و بقي في تحريره اثني عشر سنة بذل جهدا عظيما في جمع مادّته و ترتيبها و لكنّه لم يقتصر عليه وحده بل أخرج في هذه المدّة مع انشغاله به كتبا عدّة نفع بها العالم و المتعلّم.

و يظهر من مادّة الكتاب أنّ عند الشيخ أصول النسخ من كتب الأصحاب القدماء من قبيل كتاب «فعلت فلا تلم» و هو في المثالب و من مؤلّفات أبي الجيش مظفّر بن محمّد الخراسانيّ و هو من متكلّمي الشيعة و العارف بأخبارهم و من تلامذة أبي سهل النوبختي.

و مثله كتاب «الحاوية» و هو في مثالب معاوية لعنه اللّه، و مؤلّفه القاسم بن محمّد ابن أحمد المأموني السنّي.

و بعد أن يفيض الشيخ في نقل قضايا عدّة من كتاب الكامل، يقول:

و صفوة القول: أنّي لا أعرف تاريخ وفاته و لا موضع قبره و لم يذكرهما أحد، و قال صاحب روضات الجنّات: إنّ هذا الشيخ أشار إلى نبذ من ظرائف أحواله و لطائف أخباره و من جملة قضاياه مناظرته لأهل بروجرد في تنزيه اللّه تعالى من التشبيه، و منها انتقاله من البلدة الطيّبة قم إلى اصفهان بأمر الوزير المشار إليه يعني بهاء الدين صاحب الديوان و إقامته في تلك البقاع سبعة أشهر و اجتماع الناس عليه من اصفهان و شيراز و أبرقو و اقليم آذربيجان و قرؤوا عليه مختلف العلوم الربّانيّة و انتفعوا به، و ممّن انتفع بعلمه السادات و الأكابر و الصدور، إلى غير ذلك من نوادر أخباره، و اللّه العالم.

ختام كلام المحدّث القمّي

ص: 15

ص: 16

ديباجة الكتاب

سبحان الملك الأحد الذي لا يحيط بكرسيّ عظمته أوهام الإنس و الجنّ: وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (1) أي لا يحيط به علم مخلوق من مخلوقاته.

و يستحيل تصوّر الكمّيّة و الكيفيّة في أعتاب قدسه، و لا يمكن توهّمهما لجلال ذاته: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (2) و يستفاد من هذا أنّه عالم بكلّ سماع و رؤية.

و لا يجوز النقصان و الزوال و التغيّر على غرّة كماله: وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (3) أي إنّ ذاته الربوبيّة الأكبر و الأكرم.

و لا تحتاج شمس قدرته إلى جلال أو معين: وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ (4).

و لوح علمه يجلّ عن السهو و الغفلة و الخجل: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ (5).

و لم ينسج طيلسان رحمته إلّا من خيوط العدل و الرحمة: وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (6).

ص: 17


1- طه: 110.
2- الشورى: 11.
3- الرحمان: 27.
4- محمّد صلّى اللّه عليه و آله: 38.
5- البقرة: 255.
6- الكهف: 49.

و ذروة قدسه العليا أرفع من أن تحلق إليها طيور عقول البشريّة و أرواح و نفوس الملكيّة، أو ترقى إلى قممها العليّة: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (1).

و عقاب وحدته ما فتئ منزّها عن العوارض و الأوصاف الخلقيّة: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (2).

و شرح صفات ذاته العليا أجلّ من أن يأتي عليه ذووا الصفات الخفّاشيّة أذكياء الإنسانيّة الذين وسموا على غررهم بميسم الحدوث: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (3).

و على أحداقهم بنور القدم: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (4).

و بقيت على عرصة الوجود أبديّة: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ (5).

أولئك الذين يقبسون النور من شمس الوجود و من غرّة المعبود: «يا من لا يعرف و لا يدري كيف هو إلّا هو، يا من لا يقدر على قدرته إلّا هو، يا من هو كلّ يوم في شأن، يا من لا يشغله شأن عن شأن، يا من لا إله إلّا هو و إليه المصير».

و نهدي مئات ألوف الألوف من هديّة الصلوات و تحف التحيّات من جنابه سبحانه إلى المجلى الشريف و الوجود المطهّر، صدر الكونين، مقتدى الثقلين، و مقصود العالمين محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن عدي بن تيم بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر- و هو قريش- بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان.

ص: 18


1- الإسراء: 85.
2- الإخلاص: 3 و 4.
3- الدهر: 1.
4- الرحمان: 26.
5- آل عمران: 26.

إلى محمّد ذاك الذي بدأ بشارة أوّلا: «كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين» و بدأ آخرا بالظهور، و تجلّى بإظهار المعجزات، و استخفى بدلالة العصمة.

الذي تمنّى آدم مع اصطفائه، و إدريس مع عظمة منزلته و دراسته، و نوح مع طول عمره و كثرة عبادته، و إبراهيم مع خلّته، و موسى مع رفعته بالمناجاة، و عيسى مع دلالة نبويّه أن يكونوا في أعتاب دولته و سدّة إرادته، من: «اللّهمّ من أمّة محمّد» و سلّموا قياد أرواحهم إلى حضرة واجب الوجود.

و على أولاده و عترته عليهم الصلاة و السلام الذين هم كمال الدين و برهان اليقين، و بناة الشريعة و مقتدى الملّة، و أمناء الرحمان و مفسّر و القرآن، و حجج اللّه تعالى و أوصياء المصطفى صلّى اللّه عليه و آله المعصومون: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1).

المنصوص عليهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2).

و المراد من أولي الأمر ملوك العدل، أي الأئمّة المعصومون عليهم السّلام، و نوّابهم و سادتهم- أي سادة النوّاب-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (3).

و واهبوا نفوسهم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (4).

و المطعمون: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ (5).

ص: 19


1- الأحزاب: 33.
2- النساء: 59.
3- التوبة: 119.
4- التوبة: 111.
5- الدهر: 8.

أوّلهم أمير المؤمنين و حجّة ربّ العالمين عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب ابن هاشم بن عبد مناف صاحب العزّة.

المعنيّ بهذا الحديث: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، و إلى نوح في تقواه، و إلى إبراهيم في حلمه، و إلى موسى في هيبته، و إلى عيسى في عبادته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة و السلام- يعني ما وجد في الأنبياء موجود في عليّ عليه السّلام.

و آخرهم صاحب الدولة: لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يخرج رجل من ولدي اسمه اسمي، و كنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا.

أمّا بعد؛ فاعلم بأنّ رواة الأخبار رووا عن داود النبيّ أنّه كان يقول في مناجاته: إلهي، لم خلقت العالم و ما فيها؟! فخاطبه الحقّ تعالى قائلا: «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف».

مع أنّ العلماء أجمعوا على أنّ خلق الإنسان كان من طريق الإحسان ءليه، على صفة الدوام، و لا يتحقّق ذلك إلّا بالتكليف بعد بلوغه و كمال عقله، و نصب الأدلّة و إزاحة العلّة، و لم يكن الغرض منه دوام التعظيم و الإجلال، لأمكن أن يكون أعطاه ابتداءا من غير استحقاق كما يعطي ذلك الصالحين و الطالحين. و كمال التكليف مع الألطاف لأنّ بعثة الأنبياء و إنزال الكتب مع الوعد و الوعيد و الإنذار و التخويف كان ذلك لإتمام الحجّة، قال: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (1).

و لو أنّنا افترضنا أنّ الوجود لا يحتوي إلّا على شخص واحد يجوز عليه الخطأ و العصيان لكان إرسال الأنبياء أو الأئمّة إليه من الواجبات: وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ

ص: 20


1- الإسراء: 15.

مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى (1).

و الدليل على صحّة ذلك إرسال آدم إلى إبليس، و إن لم يجر من الإنسان إلّا ذنب واحد حيث قتل قابيل هابيل فإنّ اللّه تعالى أرسل آدم إلى بنيه الآدميّين و لمّا فارق الدنيا أرسل اللّه شيثا هبته إلى الخلق عامّة و إلى ذرّيّة قابيل خاصّة، فكان أبناء هابيل و شيث جميعا مسلمين كما كان أبناء قابيل جميعا كفّارا إلى أن استأصل اللّه شأفتهم و أتى على ذراريهم بالطوفان زمن نوح عليه السّلام فأغرقهم: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً (2).

و لم يخل زمن و لا فترة من نبيّ أو وصيّ نبيّ، و من نوح إلى سام و حام و يافت، و منهم إلى يهودا و صالح و إبراهيم و لوط و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف و أيّوب و شعيب و موسى و يوشع و طالوت و داود و سليمان و زكريّا و يحيى و عيسى و شمعون و خالد و برده (3)!! و من برده إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه، و منه إلى مذهب أهل البيت بدءا بعليّ، و منه إلى الحسن، و منه إلى الحسين و عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ الباقر و جعفر بن محمّد الصادق و موسى بن جعفر الكاظم و عليّ بن موسى الرضا و محمّد بن عليّ التقي و عليّ بن محمّد النقي و الحسن بن عليّ الزكي العسكري و الحجّة القائم المنتظر المهدي صاحب الزمان محمّد بن الحسن عليهم السّلام واحدا بعد واحد حتّى هذه الآية: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ (4).

و من يعتقد هذه العقيدة يسمّى شيعة و إماميّا و اثنا عشريّا، و لكن على مذهب الجمهور يكون المعتقد كما يلي: أنّ أمر الدين و الشريعة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله يكون

ص: 21


1- طه: 134.
2- نوح: 25.
3- لا أعرف في الأنبياء نبيّا بهذا الاسم و لعلّه مصحّف من بريده أو نظيره. (المترجم).
4- آل عمران: 34.

باختيار الأمّة، فهي التي تبايع من تختاره لمقام الخلافة على يد أهل الحلّ و العقد، و هؤلاء يدعون بأهل السنّة.

أمّا الطائفة الأولى فهم الذين ينزّهون اللّه من صفات الحدث، و من الشريك؛ لا في القدم و لا في الذات و لا في الصفات، و لا يثبتون له معاني القدم بل يقولون: هو القادر و العالم و الحيّ و الموجود، و هذه الصفات الذاتيّة و هي أزليّة أبديّة، و تعتبر ألفاظ الصفات من قول الواصف و هي من حيث كونها ألفاظا ينطق بها الواصف محدثة.

و يعتقدون بعدم وقوع الرؤية عليه لأنّ ذلك من صفات المخلوقين، و لا يوصف بالجسميّة أو الجوهر أو العرض، و لا تحويه جهة أو مكان.

و يعتقدون بأنّه عادل لا يظلم مثقال ذرّة أو أصغر من ذلك أو أكبر، و أنّه صادق سبحانه.

و يرون العبد فاعلا مختارا.

و يثبتون العصمة للأنبياء من الولادة إلى الوفاة.

و يعظّمون ذرّيّة النبيّ و يجعلون لهم نصيبا في أموالهم امتثالا لقوله تعالى:

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (1).

و لا يقدّمون أحدا من أتباع النبيّ الذين يجوز عليهم الخطأ و قد أسلموا بعد كفر على آل النبيّ المعصومين.

و يقولون بعصمة أهل بيت النبيّ محمّد عليه و عليهم الصلاة و السلام.

و يرسلون اللعنة على من ظلم أهل هذا البيت أو آذاهم.

و يصلّون عليهم.

ص: 22


1- الأنفال: 41.

و يحرّمون الخمر و الدفّ و الناي و المزمار و الربابة و الشطرنج و النرد و الفقاع؛ قليله و كثيره، و يرونه رجسا من عمل الشيطان.

و لا يسبغون الوضوء بالخمر، و يزيلون الخبث بالماء بعد البول أو الغائط، و يرون المني نجسا، و يسجدون على الأرض أو ما أنبتت ممّا لا يؤكل و لا يلبس، و يصلّون بجلد مأكول اللحم، و لا يصلّون إلّا بما أجمع المسلمون على جوازه من اللباس أو المكان.

و يحتاطون في أمور النساء، و يثبتون العدّة لهنّ، و لا ينكحون ذات العدّة حتّى تخرج من عدّة، و لا يعملون الحيلة بالمحلّل فينكحونها في صلاة العشاء للمحلّل و يؤتون بها صباحا إلى البيت لأنّهم يرون أنّها لو علقت فإنّ ما في أحشائها لا يعلم من أبوه حيث يشتبه الأمر فلا يطيب جنين يسقى من مائين في بطن أمّه.

و لا يصلّون وراء الفاجر الخمّار أو الفاسق، و إن كان فسقه باللعب بالجوز.

و لا يجيزون المعصية على الأنبياء؛ قلّت أو كثرت، من يوم الولادة إلى يوم الوفاة على الإطلاق.

و إذا أذنبوا اعتبروا أنفسهم مخطئين و مجرمين، و لا يلقون التبعة على ربّهم سبحانه، من ثمّ لا يموت ميّتهم إلّا عن توبة، و يرون التوبة حقّا.

و يحرّمون وطأ الغلمان، و لا يجيزون إجراء صيغة العقد عليهم.

و لا يقيمون الصلاة بجلد الكلب، و لا يجيزون الصلاة إلّا بالثوب الطاهر من جميع الأدناس و النجاسات.

و لا يلحقون الولد بالمرأة إذا لم تكن على فراش زوجها، و لا يقولون بأنّ رجلا لو كان في المشرق و أمرأة في المغرب ثمّ ولدت ولدا من دون أن ترى الزوج أو يراها لا يعتبر هذا الولد ابن زنا.

و لا يقولون ببقاء الولد أربع سنين في بطن أمّه، إذ من المحتمل إذا كان الأمر

ص: 23

كذلك أن تأتي امرأة بعد موت زوجها أو غيابه بولد فينسب إليه، فيسمّى ابنه و هو من حرام.

و إذا صاموا لا يفطرون حتّى يدخل الليل بغروب الشمس و حدوث الظلمة.

و لا يصبحون في شهر رمضان على جنابة.

و يوجبون الكفّارة على من أفطر عمدا و القضاء، و لا يجيزون الجماع إذا أفطروا عمدا بزعم حلّيّته و لا بغير ذلك.

و يورثون أولاد الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بآيات المواريث، و ظاهر الكتاب، و لا يعملون بخبر الواحد، و لا ينسخون القرآن بخبر الواحد، و لا يخصّصون عامّه.

و لا يرون الآيات الواردة في أهل البيت منسوخة.

و لا يتمرّدون على اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله.

و لا يعطون الوزارة لمن نفاه النبيّ من المدينة.

و لا يسلّطون الظالم و الفاسق على المسلمين.

و لا يرسلون الخمّار إلى بلد واليا أو إماما.

و يقدّمون الأعلم و الأصلح.

و لا يسمّون من لم يستخلفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خليفة.

و يرون آل رسول اللّه أولى بملك الدنيا من أولئك الذين قتلوهم و داروا برؤوسهم في البلدان.

و لا يظهرون الفرح و الزينة في يوم عزاء الرسول، و لا يكتحلون، بل يبكون و ينوحون و يوافقون رسول اللّه بيوم عزائه.

و يرون آباء الأنبياء و أمّهاتهم مؤمنين احتراما لهم.

ص: 24

و لا يقذفون الأنبياء بالزنا و لا يقولون بأنّهم كانوا مغرمين بحبّ النساء و مغازلتهنّ.

و لا يقولون أنّ النكتة السوداء التي أخرجت من قلب محمّد بعد شقّ الصدر كانت علامة الكفر.

و يتمّون الركوع و السجود في الصلاة و لا يظهرون سوء الأدب في صلاتهم بنظرهم إلى اليمين تارة و إلى اليسار أخرى بل يصوّبون النظر إلى مواضع السجود.

و إذا استقبلوا محاريبهم رفعوا أصواتهم بالأذان و الإقامة، و يكثرون من الدعاء و الذكر، و لا يظهرون سوء الأدب عند النيّة، و يقيمون النيّة في قلوبهم لتخلو من الرياء، فإذا سلّموا بعد الصلاة ما يزالون متوجّهين إلى القبلة بطمأنينة يذكرون اللّه كثيرا و يدعونه و يسبّحون و يهلّلون و يكثرون من الدعاء، و لا يتركون مكان الصلاة بسوء الأدب بل يصلّون على الأنبياء و الأوصياء و يدعون لأحبّتهم و ذويهم، و يثنون على اللّه أحسن الثناء، و يلعنون أعدائهم على سبيل الإجمال ثمّ يختمون بسجدة الشكر.

و لا يختمون الصلاة بالضرطة (1)، و لا يسجدون لمشايخهم، و لا يستقبلون القبلة بالبول أو الغائط، فإذا أخذهم النوم تطهّروا، و لا يقربون الصلاة بعد النوم من دون وضوء، و لا يتطهّرون إلّا بنيّة، و لا يقتدون في الصلاة باليهود فيضعون يدا على يد، و لا يعتريهم الشكّ بدينهم و مذهبهم، من ثمّ هم في: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (2) قائمون، و لا يقولون في ختام الفاتحة آمين.

ص: 25


1- نعتذر من هذه الكلمة و لو لا أنّ المؤلّف ذكرها بالعربيّة لغيّرناها إلى لفظ أكثر نزاكة منها. (المترجم).
2- الفاتحة: 6.

و يقولون: إنّ اللّه سبحانه ساق لنا الهداية بالقرآن و النبيّ و أهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين، و يعطون زكاة أموالهم إلى صلحائهم في ظاهرهم، و عرفوا الفرائض و السنن ...

و من ادّعى بعد رسول اللّه بأنّ: «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلالين و أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما» لا يقبلون قوله، و لا يطيعون أمره، و يقولون: إنّ اللّه تعالى قال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1) و لم يقل ما حرمكم (2) فلان و فلان.

و يقولون: ينبغي على الخليفة أن يكون أعلم الخلق لا أنّه يجهل معنى «الأبّ» الذي جعله اللّه فاكهة للبهائم كما جعل الفاكهة لابن آدم، لكي لا يتوقّف عندما يسئل عن شي ء، و يقول على المنبر أمام الخلائق حين احتجّت عليه امرأة فحجّته:

«كلّكم أفقه منّي حتّى العجائز- أو قال: المخدّرات- في البيوت» (3).

و يقولون بحكم قوله تعالى: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (4) لا يخلو المكلّف من حجّة ناطقة عليه.

و يقولون: إنّ ما أعطاه الرسول لأولاده لا يحقّ لمن يأتي بعده أن يغتصبه منهم.

و يعتقدون بحجّيّة العقل و أنّه مبنى الشرايع جميعا، و عليه يقوم التوحيد و العدل.

و يقولون: إنّ اللّه لا يفعل فعلا بغير حكمة لأنّ ذلك يؤدّي إلى العبث.

و يقولون: لا ينال شرع رسول اللّه بالقياس بل على أساس: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ.

ص: 26


1- الحشر: 7.
2- حرمكم من الحرمان لا التحريم. (المترجم).
3- و في رواية: «كلّ الناس أفقه منك يا عمر». البكري عن العقد الفريد 1: 341 ط مصر 1321 ه.
4- القيامة: 36.

و لا يستبيحون في غيبة إمامهم دما أو مالا كائنا ما كان، و لا يأكلون لحوم الضباع و يحرّمون لحوم الأرانب.

و يعتقدون بأهل البيت في التختّم باليمين، و يأنفون من وضع الخاتم في اليسار لأنّها تلي الفرج، و يقولون بأنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله قال: «اليمين للوجه و اليسار للفرج».

و يرون أنّ اللّه لا يكلّف بما لا يطاق، و لا يدخل المؤمن النار و الكافر الجنّة، و لا يفعل الفعل خلافا لما وعد.

و لا يعتقدون بمذهب وضع بعد النبيّ بمأتي سنة أو ثلاثمائة سنة، و يقولون: كلّ مذهب ليس لأهل البيت فهو باطل.

و لم يختلف أئمّة هذه الطائفة من محمّد بن الحسن إلى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم و أبنائهم، فكلّهم على صراط واحد سويّ و مذهب واحد، و كانوا جميعا على مذهب أبيهم أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان أمير المؤمنين على مذهب رسول اللّه باتفاق لا على طريقة الصحابة.

و يقولون: إنّ الاختلاف برهان البطلان بدليل قوله تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1).

و أئمّة هذه الطائفة هم ذرّيّة الرسول و أولاده و وارثه، و يصلّي عليهم العالمون، و هم آل محمّد على التعيين و اليقين، و من خاطبهم منهم فلا يخاطبهم إلّا بهذه العبارة: يابن رسول اللّه، و يابن بنت رسول اللّه، و إليه مشاهدهم قبلة ذوي الحاجات في العالمين، و ملجأ المؤمنين و المنافقين، و يظهر في كلّ عام معاجز عدّة في مشاهدهم المشرّفة.

و لا يمرّ يوم إلّا و يزيد اللّه في مواليهم و محبّيهم كما هو الحال في خطّة مازندران

ص: 27


1- النساء: 82.

موطن ولادة مصنّف هذا الكتاب الحسن بن عليّ بن محمّد بن الحسن، و لم يكن فيه قبل قرن من الزمان خمسمائة شخص على مذهب التشيّع، و في هذا اليوم و هو سنة خمسة و سبعين و ستمائة (675) ليس فيه خمسمائة إنسان على غير هذا المذهب، و لقد آمن جميع أهل المنطقة بمعجزة الأئمّة عليهم السّلام، و لا يأتي طويل زمان على هذا المذهب حتّى يختاره أهل العالم بنصّ القرآن حيث قال سبحانه و تعالى: وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (1).

و لا يأتي إيذاء هذه الطائفة على المؤذين بخير كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما عادانا بيت إلّا و خرب، و لا نبح علينا كلب إلّا جرب» و من شكّ في هذا الحديث فلينظر بعين العبرة إلى آل أبي سفيان ماذا رأوا و ماذا جنى آل زياد و آل العبّاس و البرامكة، و هم من جملة الخوارج، ليس لهؤلاء اليوم أثر يذكر، فلا مضجع ظاهر و لا قبر يزار، و ليس لهم موالون و لا ذرّيّة يذكرون، لقد استأصل الجميع و انقطع نسلهم على يد السلاطين العادلين و الملوك العاملين من دون أن يعلق بممالكهم أثر أو ضرر، و بعد القضاء على هؤلاء و استئصالهم مالوا إلى السادات و إلى أهل البيت، و رفعوا عنهم طوق القهر، و بالغوا في إكرامهم إلى أقصى حدّ، من ثمّ كان سادات أهل البيت في المشرق و المغرب أكثر عددا من النجوم و جميعهم يحيون في الرفاه و بلهنية العيش و رخاء البال مع النعمة و الجاه و الاقتدار و الإنعام و الإنظار لكي يبسط الباري ببركة وجودهم رايات هؤلاء الفاتحين على أقصى بلاد ايران و الطورانيّين و الهند و الروم و العرب و العجم، بل من مطلع الشمس إلى مغربها، و انقاد إلى أمرهم سلاطين العالم و انتهوا عند نهيهم و أطاعوا أوامرهم و امتثلوا لحكمهم، و أحاطت هيبتهم و قوّتهم، و سمو أمرهم بالمكان و الزمان حتّى قصد تجّار

ص: 28


1- النور: 55.

الصين المغرب و أمنوا الطريق: لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا (1) و إنّما قال «نيلا» لأنّ رغبة العدوّ اليوم في الشرّ، على مركب من قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (2) لأنّهم على الحقّ و يسعون من أجله.

و إن كنت في شكّ ممّا قلناه فالق نظرك على العدل و الرحمة و العظمة و العطف، و الإدارة و رعاية الدين أيّ ملك ظاهر في المملكة و السلطنة و النسب العالي و الجوهر الخالص و علوّ الهمّة و الإحاطة بأنواع العلوم و فنون الكفاية و الكياسة و حسن السيرة و صفاء السريرة و معتمد المذهب و حافظ الدين و الدنيا، من يكون بهذه الصفات إلّا المخدوم المطلق، حجّة الحقّ على الخلق، أعدل سلاطين الأوّلين و الآخرين، علاء الإسلام و المسلمين محمّد بن الصاحب الأعظم، عرق من شجرة المملكة و نبقة من دوحة السلطنة، شمس الحقّ و الدين، عماد الإسلام و المسلمين، محمّد بن محمّد صاحب الديوان حرس اللّه عليهما- كذا وردت- و أبقاهما مبرقعين بالعزّة و الجلال، قابضين على أعزّ الرفعة و الكمال، ناهضين في عقدة المجد على أقدام الهمم، فيّاضين للأيادي و النعم، باسطين للعدل في الأمم، بحقّ محمّد و عليّ و أهل بيتهما الطاهرين، آمين إلى يوم الدين.

و لقد بسط اللّه رايته على أقاصي العالم ببركة حسن سيرته و بسطه العدل و اعتقاده الصادق بآل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و البرائة من عدوّهم، و تعاهده السادات و علماء أهل البيت عليهم السّلام، و اعتكف سلاطين الربع المسكون بمقتضى الآية: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ (3) على عتبة جلاله، و خسف بأعادي إقباله و مبغضي طائفته

ص: 29


1- التوبة: 120.
2- البقرة: 38، المائدة: 69 و ...
3- آل عمران: 26.

الأرض: فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ (1)، و غاص بعضهم في بحر الهلاك: فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (2) فأصبحوا أثرا بعد عين لمفارقتهم موالاة آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يتلون الآية: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (3) على سبيل الحسرة.

و حرّمت التقيّة في زمنهم بظهور دولتهم بعد أن كانت واجبة لقلّة الأنصار و الأعوان و كثرة الأعداء بمقتضى قوله تعالى: وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ (4) و قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً (5) و قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ (6) و أمثال ذلك من الآيات و الأحاديث.

و حين أشرقت شمس هذه الدولة من مشرق السعادة، و غمر نور الرحمة و العدالة البسيطة بأجمعها، اقتلعت أنياب ظلم الظالمين من عباد اللّه، و مرّغت صولتهم و بطشهم برغام الذلّة، و أرباب الظلم و الطغيان أدخلوا رؤوسهم في ثقوب الثوبة و تسلسل الإخلاص، و تصنّعوا ورد التسبيح و التهليل: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (7) و لقد نزل فيهم: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (8).

تعالى اللّه ما أعلاه قدراو أجراه على سنن اعتدال

عليها للإله الفرد حمدلما أسدى إلينا من نوال

ص: 30


1- القصص: 81.
2- الإسراء: 103.
3- النساء: 73.
4- المؤمن: 28.
5- آل عمران: 28.
6- النحل: 106.
7- يونس: 91.
8- آل عمران: 90.

و هذا كلّه دعاء لصاحب الديوان الداعي لهذه الدولة- يعني المؤلّف نفسه- و المؤلّف و الجامع لهذا الحديث فإنّه يفخر بثنائه و دعائه و خدمته لهذه الحضرة على علماء الأرض، و يتباهى على حكماء الأوّلين و الآخرين، و إن شاقك البرهان على ذلك، فاعلم:

إنّ أوّل شخص من محبّي أهل البيت عليهم السّلام و مواليهم و رفقائهم الذين احتموا بهذه الدولة و أثبتوا حقوق خدماتهم الدينيّة و كتبوا لصاحب الحضرة ملجأ العالم الكتب الشيعيّة هو هذا العبد، أقلّ العباد شأنا و أدناهم مقاما، فقد كتب بتوفيق اللّه تعالى و ببركة أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بمعجزة من قائم آل محمّد عليه السّلام و باسم هذه القدرة الملكيّة كتاب مناقب الطاهرين، و بدأه بولادة رسول اللّه إلى خاتم الأوصياء صاحب الأمر و بيان معجزاته و مناقب سيرته، ثمّ إظهار ما أقامه المنافقون و الخارجون من مظالم عليهم.

و كذلك منهجهم في العبادات و الصلاة و الصوم و الزكاة و الخمس و الجهاد، مع مجمل توابعها من الفرائض و النوافل و الأدعية و النيابة و أحكامها، و كيفيّة العبادات و ما يحتاجها المكلّف في العام كلّه، و كذلك عرضنا أربعين البهائيّ في تفضيل أمير المؤمنين عليّ صلوات اللّه عليه و نظائره في الإمامة و غيرها، و بما أنّ عقيدة صاحب الحضرة طاهرة، و جوهره كبير، و طينة الأسرة المالكة و السلطنة و الوزارة و الإرادة صادقة مع عترة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و تعاهده للعلماء و تدليله لغرس نعمته عظيم، فقد قبل هذا كلّه قبول الرضا.

و حصل التسليم بما في الكتاب من المؤالف و المخالف بحضور علماء الطوائف زمانا بعد زمان، و هذه نعمة يجب شكرها و هو فرض عين على الشيعة كافّة، و يوم القيامة يتباهي بذلك المصطفى و المرتضى و الحسن و الحسين و الأئمّة جميعا صلوات

ص: 31

اللّه عليهم، و سائر الشيعة على الأنبياء عليهم السّلام، و الأمم السالفة، و يكونون شفعاء لصاحب الحضرة عند اللّه سبحانه.

و الأمل معقود أنّه سوف يدخل الجنّة بدون شفاعة بل ربّما كان شافعا للأمراء و الملوك و السلاطين في العالم، في عرصة القيامة إن شاء اللّه تعالى.

و كما قيل في هذا الباب بالآيات و الأخبار و الدلائل العقليّة في صدر الكتاب:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ (1).

و لمّا كانت مناقب الطاهرين و نظائرها داخلة في فرع التولّي رأينا من اللازم أن نشرع ببسط فرع التبرّي أيضا، و مزجناه بالعربيّة و الفارسيّة لتعمّ الفائدة، و هو مبنى على أبواب و فصول و دلائل و مسائل، و بعد الاستخارة و طلب الإذن من واجب الوجود عمّت عاطفته و قدرته على العالمين، سمّيناه: «كامل البهائي في السقيفة» جعل اللّه تعالى هذه التحفة على مخدومنا مباركة، و زيّن اللّه أيّام هذه الدولة بأنواع العزّة و الكرامة، و ما زال منبر دين الإسلام و الملّة و الوحي و التنزيل و سمّو محمّد و أهل بيته قائما ببقاء هذه الدولة، و ما زالت الموفّقيّة و العناية الإلهيّة و الرحمة و نظرة العطف و اللطف على هذه الدولة هاطلة، و سرادق هذه المملكة ضاربة أطنابها على البسيطة على كرّ الدهور و العصور، من قاف إلى قاف، و من جابلقا إلى جالبلسا بأوتاد الأبد، و جنّبها اللّه ريح الحسد النكباء من عيون الحسّاد، و أبعدها عن هذه الساحة المنظورة للمولى، و المتحقّقة فيها إرادة أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و تواترت على هذا المجلس نعمة العالمين، و رعاية السلطان، و توالت آناء الليل و أطراف النهار.

ص: 32


1- الأعراف: 43.

و جعل اللّه أولياء هذه الدولة و أحبّائها ممكّنين منصورين، و أعدائها مخذولين و مقهورين.

و أقرّ اللّه عين سيّد العالم شمس الحقّ و الدين محمّد صاحب الديوان بدين قرّة العين بهاء الحقّ و الدين محمّد بن محمّد صاحب الديوان، و بقاء أيّام دولته، و استجاب اللّه دعاء هذا الحقير عقب تلاوة القرآن و القيام بالفرائض المكتوبة ليلا و نهارا، و سرّا و جهارا، في حقّ هذه الدولة و هذه الأسرة، و كما أنّ الحقّ عزّ و جلّ و علا أنعم عليهم بملك الدنيا نسأله أن ينعم عليهم بنعيم الآخرة الأبديّ في جنّات النعيم: وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (1).

و بناءا على هذا الحديث: «المرء مع من أحبّه» كما أنّه في هذا العالم مقيم على محبّة أهل البيت عليهم السّلام أن يكون غدا يوم القيامة محشورا تحت لواء محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ الباقر و جعفر بن محمّد الصادق و موسى بن جعفر الكاظم و عليّ بن موسى الرضا و محمّد بن عليّ التقي و عليّ بن محمّد النقي و الحسن بن عليّ العسكري و الحجّة القائم محمّد الحسن صاحب الزمان صلوات اللّه و سلامه عليهم بحقّ محمّد و عترته الطيّبين الطاهرين.

ختام الديباجة

ص: 33


1- الدهر: 20.

الباب الأوّل في أقسام العلم

اعلم أنّ العلم إمّا ضروريّ أو كتبيّ «كسبيّ». فلو كان ضروريّا كلّه لارتفع الخلاف بين العقلاء، و لو كان استدلاليّا بأجمعه لما أمكن تحقيق أيّ علم و أيّ بحث و لأدّى ذلك إلى التسلسل، فإذا كان البحث في المنقولات كان البدء و الختام مبنيّا فيها على التصادق، و إذا كان في المعقولات بني على التناصف و التسليم أو على الضروريّ إن تعذّر التناصف. نظير حدوث العالم الذي جعله علماء الكلام المسلمون على تغيّره أو غير ذلك ممّا هو لازم العالم كالأوصاف و الأشكال و التركيب و الاختصاص بالجهة و التميز.

و أمّا العلم الضروري و هو ما يعبّر عنه بالجبليّ أيضا و الفطري أظهر و أشهر من قبيل شكر المنعم؛ من ثمّ بدأ اللّه كتابه و شريعته و دستور خير الأنبياء و الأنام بقوله:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1)، لئلّا يرى الجهّال الذين لم يتعمّقوا في بحور العلوم الدينيّة و لم يصلوا إلى أعماقها، و لم يستخرجوا الدرر و اللئالي من أصدافها بالغوص في قيعانها أنّ القرآن محض تقليد و لا يوافق الأدلّة العقليّة.

ص: 34


1- الفاتحة: 2.

أ لا ترى كيف علّل سبحانه وجه الحكمة في تحريم الخمر و الميسر بإيقاع العداوة بين الأودّاء، و إظهار البغضاء كما قال اللّه تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (1) و كلّ أمر جلب الشرّ و العداء و أوجد الشقاق و الخلاف بين الناس ينبغي الاحتراز منه بالضرورة.

و من هنا علّل وجوب الصلاة بأن جعل سبب ذلك الوجوب أنّها تنهى عن الفحشاء و المنكر، كما قال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (2) أي إنّ الصلاة من جملة الألطاف في الواجبات النقليّة و ترك القبائح العقليّة.

و ما لم يبيّن حكمته أو كله إلى العلوم الفطريّة و الضروريّة، كما قال: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ (3) و قال: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (4). و من المعلوم أنّنا لم نكن هناك ساعة المسائلة بل الغرض من بيان ذلك تحصيل العلم الضروري، و مركوز في فطرة الإنسان أنّه حيثما يوجد صنع فهناك صانع؛ شاهدا أو غائبا، و دليله قوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (5) فيكون جواب الحقّ تعالى من هذا المنطق على قوله: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى و ليس بقول لسان أو كتابة بنان.

ففي كلّ شي ء له آيةدليل على أنّه صانع

ص: 35


1- المائدة: 91.
2- العنكبوت: 45.
3- يس: 60.
4- الأعراف: 172.
5- لقمان: 25.

و روي: واحد (1).

و منه قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (2).

و تسبيح غير العاقل دليل على الصنع العجيب و التركيب اللطيف الدالّ على الصانع القادر المختار، لكي يحمل العاقل عند مشاهدة ذلك ببصيرة العقل أن يقول:

«سبحانه من خالق قادر، سبحانه ما أعظم شأنه» و أمثال هذا الذي يضطرّ العاقل عنده إلى التسبيح.

و منه قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً (3) و نحوها من الآيات.

ص: 36


1- الشعر لأبي نؤاس و هو هكذا: فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد و في كلّ شي ء له آيةتدلّ على أنّه واحد (المترجم)
2- الإسراء: 44.
3- الدهر: 4.

الباب الثاني في أقسام النعم

اشارة

أمّا أعظم النعم فأوّلها الوجود بعد العدم.

ثانيها: إفاضة الحياة و التمايز عن الجمادات.

ثالثها: الشكل الخاصّ للإنسان بصورته و فيه الخلاصة البشريّة و هي العقل و الترقّي بالنظر في عالم الملكوت و علوّ الدرجة بالعمل الصالح: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (1). و فيه أيضا الشهوات البهيميّة و هي أدنى المراتب في الحيوان، فإذا امتثلتم الأوامر و النواهي: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2) جزتم درجات الملائكة، أمّا إذا ركنتم إلى الشيطان فكنتم من حزبه و اتّبعتم المعاصي انحطّت درجاتكم عن دركات البهائم؛ لأنّ البهائم لم تكن عرضة للوساوس الشيطانيّة بخلاف الإنسان بدليل قوله تعالى: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ (3).

ص: 37


1- فاطر: 10.
2- الحشر: 7.
3- الإسراء: 70.

رابعها: كمال العقل و هو خلاصة الوجود و الأنموذج من عالم الملكوت، سبب الحياة الباقية و السلطان العادل على عالم الطبيعة، و مفتي مسند الشريعة و القاضي المولّى من قبل واجب الوجود، الذي لا يتيسّر بدونه معرفة الصانع و إدراك الكلّيّات و الجزئيّات من العالم العلوي و السفلي، ما استنبحه بنظر إرادته و بصيرته هو الحقّ، و ما قاله هو الصدق، ما سمعه الصواب: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى* أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (1).

و القوى الخمس الأركان و العناصر الجسمانيّة عبيده و مؤتمرة بأمره: وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (2).

و جنّة المأوى نتاج طاعته، و النعيم الأخروي و الحور و القصور و نيل الرغبات البشريّة في الجنّة ثمرة الائتمار بأمره، و معالم امتثال أوامره و نواهيه.

و الجحيم التي هي سجن العصاة، و معتقل المجرمين و المعاندين و الفاسقين كانت مسبّبة عن عصيانه.

و بعهدته اتّباع أحكام الأنبياء و ترجيح حكم اللّه على الهوى و الشهوة.

و النار المحرقة المجدّدة: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها (3)، وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (4)، و نصيب المعذّب من: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (5)، و طبيعة شرابه: وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ (6) كلّ

ص: 38


1- النجم: 11 و 12.
2- النحل: 50.
3- النساء: 56.
4- الحجّ: 21.
5- الحاقّة: 30 و 31.
6- الكهف: 29.

ذلك من ترك أوامره و ارتكاب نواهيه.

الخامس: الإعلام و الإلهام و الإرشاد و نصب الأدلّة و إزالة العلّة بالتوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة و ما يتّبع ذلك، و توفيق تحصيل هذه المعاني ب: وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ (1)، و منه قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (2) و قوله تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3).

السادس: التكليف؛ لأنّه إذا حصل العلم بمعرفة الذات و الصفات فإنّ الحكيم تعالى يكره أن تكون ساحة العبد معطّلة و يظلّ خالي الوفاض، و الشيطان يقول:

فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (4)، فلم يترك الحقّ سبحانه عبده فارغ البال و خليع العذار: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (5)، بل ألقى في عنقه قيد التكليف، و هو تأديب في الدنيا و حصول الثواب في العقبى: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (6).

السابع: الابتلاء و الامتحان، قال اللّه تعالى: أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (7)، و قال: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ (8)، و قال: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ (9) و تفسير الآية عند بعضهم على الوجه التالي: أنّنا

ص: 39


1- الأعراف: 43.
2- العلق: 5.
3- يوسف: 3.
4- ص: 82.
5- القيامة: 36.
6- الذاريات: 56.
7- العنكبوت: 2.
8- البقرة: 155.
9- البقرة: 143.

لم نحوّل القبلة إلى الكعبة التي كانت تدور في خلدك و كانت رغبة لك إلّا لنميّز من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبه و يعود إلى كفره الأوّل: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (1) أي الكافر من المسلم.

و في موضع آخر دلّ على كثرة الخبيث كما قال: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (2)، و الطهارة عبارة عن الإسلام، و الخبث عبارة عن الكفر و النفاق، و هذا الابتلاء محك لرجال العالم و المائز بين العالمين و الجاهلين، و إظهار لكفر الكافرين و نفاق المنافقين: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (3).

الثامن: هديّة الهدى لعباده كرامة من لدنه سبحانه و لم يسلمهم إلى حيّز الابتلاء بل ألهمهم كيفيّة الاستدلال و ألزمهم الحجّة على ذلك، و جعل مدح الدنيا و مدح ثواب الآخرة في عرض طاعة العبوديّة كما قال: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (4) و قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (5).

و جعل ذمّ الدنيا و استحقاق عقاب الآخرة في عرض معصية العباد كما قال تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ (6)، و قال: وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ* وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (7).

و بعض هذه الدلالة و التنبيه تكون حاصلة بالأدلّة العقليّة و كيفيّتها مركوزة في

ص: 40


1- آل عمران: 179.
2- المائدة: 100.
3- الأنفال: 42.
4- الكهف: 30.
5- الكهف: 107.
6- الجنّ: 23.
7- الانفطار: 14- 16.

جبلّة بني آدم، و بعضها الآخر ببيان الأنبياء؛ لأنّ العلم بكيفيّة العبادة من حيث التفصيل و المقدار لا تستقلّ بإدراكها العقول ما لم ترشد إلى ذلك و تنبّه عليه، و منه قوله تعالى: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ (1)، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (2)، و قوله تعالى: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (3).

و ينبغي على العقال أن يقيم بناء الدين و الملّة على هاتين الحجّتين: إحداهما العقليّة التي تنظر فيم موضعها في الدليل لا في الشبهة، و الثانية: السمعيّة في موضعها، و تضع العقل في ميزان النقل و تأوّل ما وافقه العقل.

و بما أنّ العامّة لا يملكون المهارات لدفع الشّبه و قعدوا عن تطلّب العلوم، و يقنعون بالتقليد و نظائره، و ليست لهم قوّة التميّز بين الطبع و الهوى، و العقل و رضا اللّه، أو أنّ بعضهم يستبدلون الدنيا الفانية بالمذهب ترغيبا بالحكّام أو ترهيبا، و لا يبدون اهتماما بالثواب الأبديّ و العقاب السرمديّ، لذلك عمد أهل البدع على وضع المذاهب بعد مرور قرن أو قرنين أو أكثر من ذلك، فأقاموا بناء الدين بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طمعا بالجاه الدنيوي أو اغترارا بكثرة السواد التابع، أو طلبا للصيت و الشهرة في الدنيا، و بحثا عن المقلّدين على النشوء و الارتقاء، و ظلّوا تابعين حيث ولدوا، فلم يسعوا وراء الحقّ عن طريق الانصاف و التتبّع، وقنعوا بهذا المقدار الذي كشفته الآية: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (4)

ص: 41


1- الأنعام: 48، الكهف: 56.
2- النساء: 165.
3- الإسراء: 15.
4- الزخرف: 23.

و قال اللّه تعالى بحقّهم: أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (1).

أو إنّهم قنعوا بتقليد المعلّم فلم يبحثوا عن الحقّ بطريق الانصاف عن المذهب الآخر ليعرفوه ما هو و ماذا فيه و ما هي مقالته؟ لكي يوازنوا بين الأقوال و يقارنوا بعضها ببعض كي يختاروا القول الحقّ منها بالنظر الصافي و العقل الكافي، و مع هذا يدّعي كلّ واحد منهم قائلا: أنا مع الحقّ، و منه قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (2).

في بيان ما هو المذهب الحقّ من المذاهب المتعدّدة

اعلم أنّ الحقّ لا يكون إلّا واحدا من هذه المذاهب، و الدليل على ذلك الإشارة من صاحب الشريعة خاتم الأنبياء محمّد المصطفى صلّى اللّه عليه و آله حيث قال: إنّ بني إسرائيل تفرّقت على اثنتين و سبعين ملّة و ستفترق أمّتي على ثلاث و سبعين ملّة كلّهم في النار إلّا ملّة واحدة. قالوا: و ما هي يا رسول اللّه؟ قال: الذين هم على ما أنا عليه و أصحابي (3).

ص: 42


1- الأنبياء: 54.
2- المؤمنون: 53.
3- علينا الآن أن نورد لك المصادر التي ذكرت الحديث عند أهل السنّة و أهل التشيّع و سوف يظهر لك أنّ عبارة «ما أنا عليه و أصحابي» مقحمة في الحديث و ليست منه. 1- مسند أحمد بن حنبل، حديث رقم 8302، و ليس فيه الجملة، و حديث رقم 16545، و فيه: كلّها في النار إلّا واحدة و هي الجماعة. و رواه ابن ماجة عن عوف بن مالك و فيه: لتفترقنّ أمّتي على ثلاث و سبعين فرقة، واحدة في الجنّة و ثنتان و سبعون في النار. قيل: يا رسول اللّه، من هم؟ قال: الجماعة. و رقم الحديث هنا 4075 و هو مرويّ عن عوف بثلاث طرق، و سياقها واحد تقريبا. و رواه الدارميّ عن معاوية بن أبي سفيان، باب في افتراق هذه الأمّة، و رقم الحديث 2516 و ليس فيه الجملة المقحمة. و رواه أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان أيضا و رقمه 4480، و فيه جملة: و هي الجماعة. و في طريق آخر عن أبي هريرة برقم 4479 و ليس فيه الجملة. و رواه الترمذي عن أبي هريرة باب ما جاء في افتراق هذه الأمّة، و رقم الحديث هنا 2710 و ليس فيه الجملة، و عقّب عليه بقوله: قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. و في طريق آخر عن عبد اللّه بن عمرو برقم 2711 و يختلف سياقه عنها جميعا، و فيه الجملة المقحمة التي ذكرها المؤلّف: «ما أنا عليه و أصحابي» و تعقّبه الترمذيّ بقوله: هذا حديث حسن مفسّر غريب لا نعرفه مثل هذا إلّا من هذا الوجه. و رواه في مصباح الزجاجة عن عوف بن مالك برقم 1412، و الجملة فيه: من هم؟ قال: «الجماعة». و رواه في عون المعبود عن أبي هريرة، رقم 4586 فاقدا للجملة المقحمة بطريقين. و أخرج حديثي الترمذيّ صاحب التحفة و لم يزد عليهما بشي ء. و هناك مصادر حديثيّة لأهل السنّة روت هذا الحديث و قلّ منها من ذكر الجملة المقحمة: «ما عليه أنا و أصحابي». و هذه الجملة يدحضها العقل و النقل، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يذكر هؤلاء الأصحاب الذين تابعوه من هم، و لم يذكرهم في حياته أو بعد وفاته، و من المعلوم أنّ أصحابه خالفوه حيّا و ميّتا، و اختلفوا بعده كما اختلفوا و هو على قيد الحياة فكيف يكون اتّباعهم عاصما من الافتراق، و العجب من المؤلّف حين يذكر هذه الجملة دونما نقد و حتّى إيعاز و إحالة إلى من رواها و أخرجها عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الآن لندرسها في مصادر الشيعة: ... عن يحيى البكّاء، عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ستفترق أمّتي على ثلاث و سبعين فرقة منها فرقة ناجية و الباقون هالكة، و الناجية الذين يتمسّكون بولايتكم و يقتبسون من علمكم و لا يعملون برأيهم، فأولئك ما عليهم من سبيل. فسألت عن الأئمّة، فقال: عدد نقباء بني إسرائيل. (الخزّاز القمّي، كفاية الأثر، ص 155). و قال ابن البطريق تعقيبا على قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا»: و هذا الأمر منه صلّى اللّه عليه و آله بالتمسّك بأهل بيته عامّ لكلّ أهل الإسلام، و هو أيضا واجب يدلّ على وجوبه و قبح تركه، لأنّه عليه السّلام قال: ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، فجعل ترك التمسّك بهما هو الضلال، فصار ترك هذا الأمر قبيحا نعلم وجوبه لقبح تركه، ثمّ جعل ذلك مستمرّا ممتدّا بذكر الأبد في لفظ الخبر و ضرب لها غاية ينتهي إليها، و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: حتّى يردا عليّ الحوض، فصار ذلك دليلا على الاقتداء بهما إلى آخر الأبد، فقد صار الخبر الوارد بإجماع كافّة أهل الإسلام من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: افترقت أمّة أخي موسى إلى إحدى و سبعين فرقة، منها فرقة ناجية و الباقون في النار، و افترقت أمّة أخي عيسى اثنين و سبعين فرقة، منها فرقة ناجية و الباقون في النار، و ستفترق أمّتي ثلاثا و سبعين فرقة، منها فرقة ناجية و الباقون في النار، بيانا عن الفرقة الناجية من أمّته، و هي التمسّك بالثقلين، و هما كتاب اللّه و عترة رسوله بدليل قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» فصار التمسّك بهما هو طريق النجاة و ترك التمسّك بهما هو طريق الضلال ... الخ. (ابن البطريق، العمدة، ص 74). نعم، ذكر السيّد ابن طاووس الحسني في الطرائف عن أنس بن مالك قال: كنّا جلوسا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فتذاكرنا رجلا يصلّي و يتصدّق و يزكّي، فقال لنا رسول اللّه: لا أعرفه- و ساق الحديث إلى أن قال:- قال لعليّ عليه السّلام: فاقتله فإنّك إن قتلته لم يقع الضلال و الاختلاف بين أمّتي أبدا. قال عليّ: فأخذت السيف و دخلت المسجد فلم أره، فرجعت إلى رسول اللّه و قلت: ما رأيته، فقال: يا أبا الحسن، إنّ أمّة موسى افترقت أحد و سبعين فرقة، فرقة ناجية و الباقون في النار، و إنّ أمّة عيسى افترقت أحد و سبعين فرقة، فرقة ناجية و الباقون في النار، و إنّ أمّة عيسى افترقت على اثنين و سبعين فرقة، فرقنة ناجية و الباقون في النار، و إنّ أمّتي ستفترق على ثلاث و سبعين فرقة، فرقة ناجية و الباقون في النار. فقال: يا رسول اللّه، من الناجي؟ قال: المتمسّك بما أنت عليه و أصحابك ... الخ. (الطرائف: 430) هذا هو الحقّ في الرواية، و الرواية التي اعتمدها المؤلّف هي رواية سنّيّة، و الجملة التي يذكر فيها النبي «أصحابي» جملة مقحمة يكذّبها العقل و النقل، و أنا أستغفر اللّه لي و للمؤلّف حيث روى الرواية من غير نظر إلى أصولها ثمّ هو لم ينقدها مع علمه بما داخلها من الوضع. (المترجم).

ص: 43

و بناءا على هذا فإنّ أصحاب الرسول ما هم معتزلة و لا أحنافا و لا شوافع و لا موالك أو حنابلة بل إنّ هذه المذاهب لم تظهر إلى الوجود إلّا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا بعد سنين طويلة.

ص: 44

و جاء القرآن مؤيّدا للحديث كما قال تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (1)، و قال اللّه تعالى: وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)، و قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (3).

و هذه الآيات دلائل واضحة على أنّ الحقّ واحد لا يتعدّد، فعلى المكلّف النظر في الملل الإسلاميّة و أقوال علمائهم و أئمّتهم، و ليعرض أقوالهم على الأدلّة العقليّة و الآيات القرآنيّة؛ فما وافقها فليقبله، و ما حاد عنها فليعتبره ردّا و باطلا و غير مقبول و خارجا عن الدين و الملّة، و اللّه أعلم بالصواب.

في بيان عقيدة الشيعة و أهل السنّة

اعلم بأنّ فرق الإسلام يدور معظمها على مدارين:

الأوّل: الجماعة التي يقال لها أهل السنّة و الجماعة، و هذه الطائفة يعتقدون بالصحابة بعد النبيّ و يجيزون الخطأ على الإمام، و يقولون: صلّوا وراء كلّ برّ و فاجر، و يقتدون بالفسّاق.

الثاني: الجماعة المسمّاة بالشيعة، و هذه الطائفة لا تجيز الاقتداء بالفاسق، و يعتقدون بإمامة عترة النبيّ و أولاده، و يقولون بعصمتهم، و يقولون عن الصحابة أتباع النبيّ، و لا يصحّ تقديم التابع على الخالق، و يقولون: لم يقدّم التابع من عهد آدم إلى رسول اللّه على ذرّيّة النبيّ؛ لأنّ للذرّيّة الأهليّة، و هي تحقّقة لأمير المؤمنين عليّ و أولاده بإجماع المسلمين لو تركهم العدوّ، و ينبغي أن يكون الأمر في عهد النبيّ

ص: 45


1- يونس: 32.
2- سبأ: 24.
3- الأنعام: 153.

كما كان عليه في سائر العهود، و هذه سنّة الأنبياء بأمر اللّه تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (1).

سؤال: و اعترض خصوم الشيعة بالطعن عليهم قائلين: إنّ الفرق ما بيننا و بينكم هو في الأقلّيّة و الأكثريّة، و الأكثريّة بجانبنا.

فأجاب الشيعة بعدّة أجوبة:

أوّلها: إنّ الكثرة وقعت موقع المذمّة و النقصان، و دلّت على البطلان، و لقد قال إمامكم الفخر الرازي: إنّ كثرة أسباب الضلالة موجبة لكثرة الضلالة.

ثانيها: في قصّة نوح عليه السّلام: وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (2)، و جاء في التفاسير أنّ هؤلاء كانوا سبعين أو اثنين و ثمانين شخصا، و لمّا هبطوا من السفينة كفروا بأجمعهم إلّا ثمانية أشخاص و هم: نوح و سام و حام و يافث مع أزواجهم، و كفر الباقون و رجعوا إلى عبادة الأصنام.

و وجه الدلالة في هذا أنّ نوحا لبث فيهم ألفا إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى اللّه فما آمن معه إلّا قليل، و ظلّ الباقون من أهل العلم على كفرهم و ضلالتهم، فما يضير الشيعة أن يقلّ عددهم عن غيرهم.

الثالث: قصّة موسى عليه السّلام كما ذكرها اللّه و فيها ذكر القوم الذين آمنوا به: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (3)، و جاء في التفسير أنّ فرعون أرسل في مقدّمة الجيش خمسمائة قائد، و كلّ قائد معه عدد من الجيوش تجشّمهم يتعقّب بني إسرائيل، و خرج فرعون بجيش لا يحصى عدده إلّا اللّه تعالى، و خرج موسى بثمانين

ص: 46


1- الإسراء: 77.
2- هود: 40.
3- الشعراء: 54 و 55.

ألفا و معهم القسيّ، يقابل كلّ واحد من بني إسرائيل عشرة آلاف رجل من أعدائهم الأقباط، بل يزيدون. و قال بعض المفسّرين: كان عدد بني إسرائيل ستّمائة ألف إنسان مع الرجال و النساء و الأطفال و العبيد و الجواري، أمّا جيش فرعون فكان في مقدّمته خمسمائة ألف قائد و أمير، و خرج فرعون بالسواد الأعظم الذي لم ير الرائون مثله.

و وجه الدلالة فيه أنّ قلّة أصحاب موسى عليه السّلام لا تدلّ على بطلان مذهبهم كما لا تدلّ الكثرة مع فرعون على أحقّيّته، و مثله يقال في قلّة سواد الشيعة إذ لا يدلّ على بطلان مذهبهم.

الرابع: قوله تعالى: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (1).

الخامس: قوله تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (2).

السادس: في قصّة داود عليه السّلام: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ (3)، و كان جيش طالوت مؤلّفا من ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، و جيش جالوت لا يحصى و لا يعدّ.

السابع: قوله تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (4)، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (5) و أمثال هذه الآيات حيث وردت الكثرة موردا للذمّ و الملام و التقبيح و القدح و البطلان.

ص: 47


1- الأنعام: 116.
2- المائدة: 100.
3- البقرة: 249.
4- الأعراف: 187.
5- العنكبوت: 63.

الثامن: قوله تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (1)، و قوله تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (2)، وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (3)، وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (4)، و قوله تعالى:

فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (5)، و قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ (6)، و قال: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها (7).

و هذا دليل على أنّ الضلالة في صفّ الكثرة و الجمهور غالبا.

التاسع: قوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (8)؛ لأنّ اللّه وعد جهنّم أن يملأها و لم يعد الجنّة بذلك، من ثمّ يكون امتلائها ممّا لا بدّ منه، و لا يكون ذلك إلّا بالكثرة، و الشيعة جمع قليل فلا يشملهم هذا الوعد.

و كذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه اللّه: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (9)، و المستثنى أقلّ من المستثنى منه بإجماع العلماء، لذلك يقول النحاة: الاستثناء هو إخراج الجزء من الكلّ.

و أمّا عرفا، فالعقلاء على علم من أنّ النفيس هو الجزء الأقلّ في العالم و ما كان خسيسا فهو الكثير الذي لا يضبط عدّه لكثرته، و لا نظير لهذه الحجج الذي يتمسّك بها الشيعة.

ص: 48


1- الزخرف: 78.
2- سبأ: 13.
3- النحل: 83.
4- التوبة: 8.
5- الأنفال: 66.
6- آل عمران: 13.
7- الأعراف: 179.
8- ق: 30.
9- ص: 82- 83.

الباب الثالث في بيان مذاهب أهل السنّة، و الجواب عنها للشيعة

اشارة

في فصول كثيرة.

الفصل الأوّل

تعتقد طائفة من أهل السنّة أنّ اللّه تعالى استوى على العرش، و يرون اللّه سبحانه جسما يزول من مكان إلى مكان، و أثبتوا له النزول و الصعود.

و الجواب: قال شيعة أهل البيت: لا يجوز اعتقاد الجسميّة له سبحانه، لأنّه إن كان جسما فلا بدّ أن يكون مشاركا للأجسام بوجه و مخالفا لها بوجه آخر، كما لا بدّ من حدوث المغايرة بين ما به المشاركة و ما به المخالفة، و حينئذ يلزم من ذلك القول بالتركيب، و المركّب محتاج إلى جزئه و جزئه غيره، و ما احتاج إلى غيره فهو الممكن، و لا يكون قديما.

و أيضا: يقول اللّه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ (1) فكيف يشابه الأجسام، و لو كان

ص: 49


1- الشورى: 11.

جسما فلا يخلو من عوارض الجسميّة كالحركات و السكنات و الأشكال و الجهات و الصور، و هذه بجملتها عوارض الحدوث، و ما لم يخل من عوارض الحدوث فهو المحدث.

ثمّ وجدنا بعد الاستقراء أنّ ذوي الحرف و الصنّاع لا يشبهون صناعاتهم، و اللّه سبحانه خالق الجسم و الجوهر و العرض فلا بدّ من منافاته مع جميع مخلوقاته، و عدم تشابهه معها.

ثمّ إنّ العرش و الجبل من خلقه و مثلها مساجد همدان التي هي مهابطه و منازله سبحانه عمّا يقول الجهّال- كما يزعم الخصم- و هذه محدثة بالإجماع، و اللّه تعالى قديم و هو مستغن عنها منذ الأزل بذاته، و الصفات الذاتيّة لا تتغيّر.

و كذلك يمنع العقل بدلائله من التجسيم، و مثله السمع: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ، و آية «استوى» معناها: استولى.

يقول مصنّف هذا الكتاب الحسن بن عليّ الطبريّ: حضرت في سنة (670) في مدينة يزدجرد، فسمعت العامّة تعتقد في اللّه أمورا لا يجوز ذكرها، فنهضت إلى مفتي البلد و كان يعرف بالزهد و الورع و العلم، و قد أسند إليه منصب القضاء و الولاية في البلد المذكور، و قلت: يلزمك و أنت معتمد هذه الخطّة و مقتداهم أن تحول بين العامّة و بين ما تقوله و تعتقده في اللّه سبحانه، فقال بعد أن ضحك: يا فلان، ماذا تقول لو علمت بأنّي أقول من هذا بأكثر من قولهم، و أعتقده بأكثر من اعتقادهم!

و بقيت شهرا أحاوره في هذا و شبهه، و كانت حالي معه مشبهة لحال نوح مع قومه: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (1).

ص: 50


1- نوح: 6.

و كان لي صديق يحاور كبيرا لهم من أهل هذه الديار، فقال له: أيجمل باللّه أن يهبك رأسا و لحية ثمّ يخلي نفسه منهما؟!

و حضرت يوما مسجدهم الجامع فسمعت الواعظ يذكر منقبة لمعاوية، و قال في ختام كلامه: يقام يوم القيامة لمعاوية سرير فوق العرش بمساحة كذا، و يجلس الحقّ تعالى تحت هذا السرير! «فاعتبروا يا أولي الأبصار».

الفصل الثاني

و أكثر أهل السنّة يثبتون المعاني في الصفات، فيقولون: إنّ اللّه عالم بعلم، و قادر بقدرة، و حيّ بحياة، و هكذا.

و الجواب عن ذلك: يقول الشيعة: إنّ صفات اللّه سبحانه ذاتيّة فهو قادر بذاته، و القدرة و العلم و الحياة صفات ذاتيّة له، و أمّا باقي الصفات من قبيل كونه مريدا و كارها و سميعا و بصيرا و مدركا فمردّها إلى العلم و تابعة له.

و إذا قلنا بأنّه قادر بقدرة فإنّ ذلك يؤول إلى تعدّد القدماء و هو مذهب قريب من الشرك، ثمّ هذا القول تماما مشبه لمذهب النصارى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ (1)، و لأنّ النصارى أثبتوا القدماء ثلاثة فاستحقّوا العقوبة لذلك، و قال عنهم: لَقَدْ كَفَرَ ... الآية، كيف نسبوا الجمع إلى القديم و حاصله ضرب ثلاثة في مثلها (2).

ص: 51


1- المائدة: 73.
2- لم يتّضح لي معنى العبارة فترجمتها كما وردت، و المعروف عن النصارى أنّهم يقولون الواحد ثلاثة و الثلاثة واحد، و يمكن أن يريد المؤلّف بأنّ قولهم هذا يؤدّي إلى أن يكونوا تسعة حين تنسب كلّ أقنوم إلى صنويه على حدّة مثلا تقول: الأب و الابن و الروح القدس، فهؤلاء ثلاثة، ثمّ الابن و الأب و الروح القدس ثلاثة فصاروا ستّة، ثمّ روح القدس و الابن و الأب ثلاثة فهؤلاء تسعة، هذا ما وصل إليه إدراكي و لا أجزم به، و العلم عند اللّه. (المترجم).

مسألة: و كذلك يقولون بقدم القرآن.

و الجواب عنه: يقول الشيعة: إنّ القرآن معجزة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و محمّد محدث فكيف تكون معجزته قديمة؟! و إذا جاز القدم لمعجزته جاز كذلك لمعاجز الأنبياء، و لو قيل بقدم ما في الدفّتين فإنّه مكتوب بالضرورة، و هذا المعنى حادث.

و لو قلنا بأنّ القرآن هو الحرف و الصوت فإنّ ذلك محال قطعا لأنّ الحرف و الصوت لا يكونان قديمين لأنّ فيه سابقا و لا حقا، و كلّ واحد منهما محدود بحدود الزمان، و ما كان كذلك فما هو بقديم.

و يقول الحقّ أيضا: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ (1)، و قال: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ (2) و المراد من الذكر القرآن بدليل قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (3)، و قال: هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ (4)، و قال: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (5)، و قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (6)، و قال: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (7). وردّ اللّه على المشركين بقوله: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (8).

و إذا كان القرآن قديما فإنّ سائر الكتب المنزلة مثله، فيكون الأنبياء و الصلحاء

ص: 52


1- الطور: 34.
2- الأنبياء: 2.
3- الحجر: 9.
4- الأنبياء: 50.
5- الزخرف: 3.
6- القدر: 1.
7- البقرة: 185.
8- الأحقاف: 11.

و الفسّاق و الكفّار الذين جاء ذكرهم في القرآن هؤلاء جميعا قدماء، «سبحانك هذا بهتان عظيم».

الفصل الثالث

و أكثر أهل السنّة و الجماعة يثبتون الرؤية، و يرون مشاهدة اللّه بالعين الباصرة جائزة.

و الجواب عنه: قال الشيعة: إنّ سلامة الرؤية مرتبطة بسلامة العين و سلامة المرئي، و رفع الحجاب عنه، و اليوم هذه الشروط الثلاثة متوفّرة، فلو كان اللّه يرى لرأيناه اليوم، و حيث لا نراه اليوم فهو دليل على استحالة رؤيته.

و لو جازت الرؤية عليه لا يخلو من كونه جسما أو جوهرا أو عرضا، و هذا محال لأنّ هذه حادثة و هو قديم، و قال اللّه سبحانه كذلك: لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ (1)، فكيف لم يره موسى على عظمته و جلالة قدره و رتبة نبوّته، و يراه الجاهل؟

سؤال: و ربّما قيل: إذا كانت الرؤية ممتنعة فكيف طلبها موسى من ربّه، فقال:

أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (2)، و الأنبياء لا يسألون المحال؟

و الجواب عنه: إنّ موسى كان مضطرّا بسؤاله الرؤية، كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ (3)، و لو كانت الرؤية تحصل بالسؤال لم يهلكهم اللّه بالصاعقة

ص: 53


1- الأعراف: 143.
2- الأعراف: 143.
3- النساء: 153.

و لم يقل: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ.

و للشيعة دليلان على عدم الرؤية: عقليّ و نقليّ، و أمّا أهل السنّة فقد تمسّكوا بالنقل وحده فتعارض النقلان ما لنا و ما لهم، و ترجّح ما عندنا عليهم لوجود الحجّة العقليّة عندنا و عدم وجودها عندهم. ثمّ إنّ الدليل النقليّ لا يعدو التأويل.

و أظهر دليل على امتناع الرؤية قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ (1).

أضف إلى ذلك أنّه لو أمكنت رؤيته فلا تمكن بالكيفيّة، و لو عدم الكيفيّة لم يكن مشاهدا مرئيّا، و الكيف محدث.

و بناءا على ما تقدّم: فلو أمكنت رؤيته لكان أحدهما معرضا على الآخر، فلو أعرض اللّه عن عبده فويل لذلك العبد، و لو أعرض العبد عن ربّه فهو الكفر بعينه.

الفصل الرابع

و أكثر أهل السنّة لا يقولون بالعدل كما يقولون: إنّ اللّه تعالى يجوز أن يكلّف عبده بما لا يطاق، و أمر أبا جهل و هو لا يريده، و ليس من المستحيل أن يسلب الإيمان من المؤمن عند موته و يعطيه الكفر ... كما لا يستحيل أن يسوق المؤمن يوم القيامة إلى النار و الكافر إلى الجنّة، و لا يقولون بالحسن و القبح العقليّين و إنّما يعرف ذلك بالنقل، و فعل اللّه خال من الحكمة، و أمثال هذه الطامّات.

و الجواب عنه: يقول الشيعة: إنّ اللّه لا يكلّف بما لا يطاق، و العقلاء يقبّحون القبيح لقبحه بالضرورة كتكليف الأعمى بتنقيط المصاحف على الدقّة، و أمر الإنسان بالطيران في الهواء.

ص: 54


1- الأنعام: 103.

و مع هذا فإنّ نفي التكليف بما لا يطاق ورد سمعا من اللّه تعالى حيث يقول:

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (1)، و قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (2)، و قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (3)، و لهذه نظائر جمّة.

مسألة: و لمّا كان التلبيس و التعمية ممتنعين على اللّه تعالى فلا يصحّ أن يأمر عبده بالإيمان و هو لا يريده، و لو صحّ لكان أبو جهل ممدوحا على كفره و يستحقّ المثوبة على ترك الإيمان، لأنّ ما فعله ما هو إلّا الامتثال لأمر اللّه، فلو عذّبه اللّه بالنار لكان ظالما له على مذهبهم، و له أن يخاطب ربّه يوم القيامة: يا ربّ، إنّك أردت الكفر منّي ففعلته فلم تعذّبني بنارك؟! «سبحانك هذا بهتان عظيم على اللّه».

و يقال أيضا: كيف يجوز على اللّه تعالى أن يبعث نبيّا مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و معه كتاب كالقرآن و فيه الأوامر و النواهي و كلاهما كذب لأنّهما أنزلهما و هو لا يريد هما و لا يريد ما قاله الرسول الذي أمر باتّباعه أو ورد في القرآن؟! «نعوذ باللّه من هذا الاعتقاد».

مسألة: و لو جاز أن يسلب العبد إيمانه عند الموت فهو الظلم الصريح، و الجور القبيح، فكيف يستساغ أن يرسل اللّه تعالى مأة ألف نبيّ و أربعة و عشرين ألفا و مع مأة كتاب و أربع كتب منها عشرة مع آدم الصفي، و خمسون مع هبة اللّه شيث ابن آدم، و ثلاثون مع إدريس و هو أوّل من تعلّم الكتابة، و عشر مع إبراهيم، و ينزل التوراة على موسى، و الإنجيل على عيسى، و الزبور على داود، و الفرقان على

ص: 55


1- البقرة: 286.
2- البقرة: 185.
3- النساء: 28.

محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و قال في هذه الكتب كلّها: آمنوا بي لأدخلكم الجنّة، فآمن المكلّف المسكين رجاء أن يدخل الجنّة و ينال الثواب الأبدي، و جاهد في سبيل الحقّ سنين عددا، و حارب الشيطان و عبد الرحمان بناءا على ما وعده اللّه و طمعا بثوابه فكيف يجوز على اللّه خلف الوعد و يكذّب هذه الكتب كلّها و يردّ دعوى أنبيائه و رسله فيسلب عبده وقت الموت إيمانه و يهبه لآخر غيره، و ربّما كان هذا الغير مشركا باللّه سنيّه كلّها، عاصيا لربّه، فيكذّب الكتب المنزلة و من أنزلت عليهم من الرسل؟!

انصفوا أيّها العقلاء، أيّ فاسق يرضى بهذا؟ و أيّ ظلم أظهر من هذا الظلم؟

حاشاه من ذلك، سبحانه و تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا.

قال سحرة فرعون لفرعون: إذا نحن غلبنا موسى ألنا أجر عندك؟ قال: بلى، و ذلك قوله تعالى: أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ* قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (1)، فالعجب كلّ العجب من عبيد فرعون المجازيين يتمنّون نيل الخير منه، و أنزلوا الثقة بفرعون، و راحوا يتمنّون عليه و هم يصدّقونه، و عبيد اللّه الحقيقيّون يرون اللّه يكذب عليهم!!

مسألة: ما يقولون من عدم معرفة الحسن و القبح بالعقل قول باطل.

اعلم أنّ البراهمة و نظائرهم المنكرين للشرع و المكذّبين للرسل يحكمون بحسن المحسنات و قبح المقبّحات، مع أنّهم ليس لهم سماعيّات و لا نقليّات و لكنّ العقلاء على العموم يعرفون القبح في ضرب شخص ليخرج من كونه إنسانا، أو ليكون جمادا، أو ليترك النفس في الهواء، أو يخرج من ملك اللّه، أو يزيل جبل أحد من مكانه، أو ماء البحر الأبيض المتوسّط بكفّه بالضرورة. كذلك يعرفون حسن شكر المنعم و برّ الوالدين و قضاء حاجة المحتاج.

ص: 56


1- الشعراء: 41 و 42.

مسألة: لو كانت أفعال اللّه من غير غرض معتدّ به لجرّ ذلك إلى العبث و هو يستحيل على الحكيم، و قال تعالى: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (1)، و قال تعالى: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ (2) و أمثال هذه الآيات و الأخبار، كذلك ما بيّنه الحديث القدسي: كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف.

الفصل الخامس

ما يقال عن الأكثر من أهل السنّة جبريّ و قدريّ بناءا على أنّهم سلبوا الاختيار من العبد و ما يفعله العبد من خير أو شرّ فهو من اللّه، و الظلم و الشرك و المعاصي كلّها و الزنا و اللواط و شرب الخمر و قتل المؤمنين و الفاسقين و نواهي العالم كلّما ما هي إلّا بمشيئة اللّه تعالى و إرادته، و جرى التقدير على هذا، و لا يجري غيره و ما يصدر من المؤمن و الكافر بتقدير حكم اللّه عليها، و لا يقدران على التغيير.

و الجواب عنه: و الشيعة يقولون بأنّ العبد فاعل مختار في ما يفعله من خير و شرّ، من الطاعة و المعصية و الإباحة، و هذا ضروريّ لا يحتاج إلى دليل. و لو لم يكن مختارا لما استحقّ المدح أو الذمّ على فعله، ألا ترى لا يمدح زيد بفعل عمر و لا يذمّ، و لمّا كان المدح و الذمّ على الفعل عائدا إلينا كان عود الفعل علينا أيضا.

و أيضا: لو لم يكن العبد فاعلا مختارا لبطل الأمر و النهي و وعيد الأنبياء و إنزال الكتب و الجنّة و النار و التماس الفعل و الترك و طلب عمل و استدعاء عامل و قضاء الحاجة و ما شابه ذلك، كان جميعه عبثا و كذبا و خال من الحكمة، و حاشا اللّه من

ص: 57


1- الذاريات: 56.
2- البيّنة: 5.

ذلك، و كيف يجوز على اللّه أن يدخل عبدا النار بذنب غيره؟!

حكاية: يحكى عن محمّد بن سليمان و هو من ملوك بني أميّة. و كان المجبّرة دائموا النقص عليه و القدح فيه أمام محمّد بن سليمان و كان مجبّرا مثلهم، و ذات يوم اجتمع المجبّرة عنده و رجوه أن يحضر ذلك العالم الشيعيّ حتّى يحاججوه و يفلجوا حجّته، و قالوا: إنّه يطعن في مذهبك و يقبّحه و أنت سلطان الوقت، و يكفّر علماء الإسلام و يضلّلهم، و يراك مخطئا بقبولك هذا المذهب، و يرى ملوك بني أميّة كلّهم فسّاقا فجّارا.

فأمر محمّد بن سليمان بإحضاره، فلمّا حضر بالغ في تهديده و توبيخه، و قال له في ختام كلامه معه: أنت القائل بأنّ العبد فاعل مختار، و ليس فعله بتقدير من اللّه؟!

فقال الشيعيّ: أيّها الأمير، ائذن لي بقول كلمة واحدة قبل إصدار أمرك.

فقال: قد أذنت لك.

فقال العالم الشيعيّ: افترض أيّها الأمير أنّني و صاحبا لي كنّا ليلا عندك و كنت عند صاحبتك فلانة التي تهواها و سمرت عندها، فلمّا أصبح الصباح عمدت أنا في السوق إلى ذكر محاسنك و عدلك و عفّتك و طهرك و كتمت ما رأيته منك من الزنا و الفواحش و المكر و الخديعة و الظلم، و أمّا صاحبي فقد فضح أمرك و شهّر بك بين الناس و أفشى سرّك، فأسألك باللّه أيّ منّا نحن الاثنين تحبّه دون صاحبه؟

قال: أحبّك أنت الذي كتمت سرّي و أأمر بإكرامك.

فقال الشيعيّ: أنت صاحب الكبائر الذي ارتكبت هذا كلّه لا ترضى أن أفضحك و أكشف أمرك و أبوح بسرّك، و اللّه المنزّه عن هذا كلّه: وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (1) أعني كيف يرضى الكريم الغني أّينسب إليه شرك أهل العالم كلّهم و كفر بني

ص: 58


1- الكهف: 49.

آدم و معاصي الفسّاق و الأجلاف و أولاد الزنا و قتل الأنبياء و الأوصياء من لدن آدم إلى انقراض العالم؟!

ثمّ قال: يا أمير، هذا هو مذهب إبليس: بِما أَغْوَيْتَنِي (1).

فهزم المجبّرة الحاضرون شرّ هزيمة، فأكرم الأمير العالم الشيعي الإكرام الذي يستحقّه و أجازه جائزة سنيّة، و قال: إذهب آمنا و لا تطعن على الأمير فإنّك لا تسلم من العتاب.

حكاية: يقول أبو بكر طاهر بن الحسين السمّان: دعى مجبّر مجوسيّا إلى الإسلام، فقال المجوسيّ: ليس الأمر لي، يريد أنّه غير مختار ليترك أو يفعل إنّما قضى اللّه عليه هذا و قدّره. فقال الجبري: صدقت يا مجوسي.

و روي أيضا أنّه كان لعبد اللّه بن داود مولى و كان عبد اللّه علما من أعلام زمانه، فقرأ قارئ في مجلسه قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ (2) و كان المولى عالما بمذهب الجبر، فقال: هو الذي منعه من السجود، و لو قال إبليس ذلك لكان صادقا و قد أخطأ إبليس الحجّة، و لو كانت أنا حاضرا لقلت له أنت منعته.

و كان في المجلس شيعيّ، فقال: ألا تستحي أيّها الرجل من ربّك! تحتجّ لإبليس عليه و إبليس مع ما هو عليه من الشيطنة لم يحتجّ بها لنفسه، بعدا لك و سحقا، فانقطع الجبريّ و سكت.

و قال أبو بكر أيضا: سأل عدليّ جبريّ: هل الزنا خير أو تركه؟ فقال الجبريّ:

بل الزنا خير. فقال العدليّ: لم ذلك؟!

فقال الجبريّ: لأنّ اللّه قضى عليه و قضاء اللّه خير.

ص: 59


1- الحجر: 39.
2- ص: 75.

فقال العدليّ: ويلك يا جبريّ، أتقول الكفر خير من الإيمان و الزنا خير من الإحصان؟!

أيّها العاقل، فهذا هو مذهب القوم، الكفر لأبي جهل خير من الإيمان لأنّه أطاع اللّه بكفره، فلو آمن لكان خلاف مشيئة اللّه تعالى، و العجب كلّ العجب أن يقاد إلى النار بعد هذه الطاعة.

أحلف باللّه الذي لا يموت بأنّي سمعت من علماء المجبّرة يقولون: إبليس خير من آدم لأنّ إبليس انقاد إلى إرادة اللّه و عمل آدم خلاف إرادته، و إنّ موسى لمّا دعا إبليس تاب إبليس و لكنّه لم يقبل توبته، فكان إبليس مطيعا و موسى عاصيا، نعوذ باللّه من هذا المذهب.

و أمّا الأخبار الواردة في هذا الباب فقد روى الشيخ الفقيه الزاهد أبو بكر بن الحسين بن عليّ السمّان عن الحسن البصريّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لن يلقى العبد ربّه بذنب أعظم من الإشراك باللّه، و أن يعمل بمعصية ثمّ يزعم أنّها من اللّه.

و عن أنس بن مالك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تقوم الساعة حتّى يحمل على اللّه كلّ ذنب عصي به.

و عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: سمعت رسول اللّه يقول: سيأتي قوم يعملون و يقولون: هي من عند اللّه، فإذا رأيتموهم فكذّبوهم فكذّبوهم فكذّبوهم- ثلاث مرّات-.

و عن أنس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّه كان يذكّرنا في آخر الزمان من الشدّة و الظلم، قال: إذا كان ذلك نشأ نشو، يعملون بالمعاصي ثمّ يزعمون أنّها من اللّه، عليهم لحق اللعنة و عليهم تقوم الساعة ...

و عن الحسن أنّه قرأ: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ

ص: 60

مُسْوَدَّةٌ (1)، فقال: هم المجوس و اليهود و النصارى و ناس من هذه الأمّة زعموا أنّ اللّه قدّر عليهم المعاصي و عذّبهم عليها و كذبوا و أثموا على اللّه، و اللّه تعالى يسوّد وجوههم لذلك.

روي عن أبي الشعثاء أنّ لصّا اجتاز بابن عبّاس، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: قدّر عليّ. فقال ابن عبّاس: كلمته أشدّ من سرقته، يحمل ذنبه على اللّه.

و روى الزهري عن مولانا حجّة اللّه على الخلق عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السّلام أنّ سارقا مرّ بحلقة عبد اللّه بن عبّاس، فقال أحد الحاضرين: نعوذ باللّه من قضاء السوء. فغضب ابن عبّاس و قال: لقولكم أعظم من سرقته، ثمّ ما زال يشنّع على قولهم حتّى تابوا منه.

و عن ابن عمر قال: القدريّة مجوس هذه الأمّة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، و إن ماتوا فلا تصلّوا عليهم، و إن لقيتموهم فلا تسلّموا عليهم. قيل: أيّهم؟ قال: الذين يعملون بالمعاصي ثمّ يزعمون أنّها من اللّه، كتبها عليهم.

أمّا الآيات الواردة في ذلك لا سيّما تلك التي تصف القرشيين بالجبريّة فقد رفعوها من القرآن، و كان معاوية و يزيد ابنه لعنهما اللّه قد أحييا هذه السنّة الخبيثة في عهدهما و أدخلوها إلى الإسلام، فكان الجبريّة من أتباعهما، و الدليل على ذلك قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا (2)، و قوله تعالى:

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ

ص: 61


1- الزمر: 60.
2- الأنعام: 148.

أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (1).

ألم يقل آدم و هو في الدنيا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (2)؟

و قال موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي (3).

و قال ذو النون: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (4).

و قال داود: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ (5).

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ الأنبياء جميعا ينزّهون اللّه تعالى و ينسبون ذنوبهم إلى أنفسهم، و لو كان الذنب ليس من العبد فما الحاجة إلى التوبة؟ و قال: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي (6). كامل البهائي ج 1 62 الفصل الخامس ..... ص : 57

قال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (7).

و قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ (8) أي: إنّ كفركم و إيمانكم على أنفسكم لا على اللّه، و هذا من أوّل القرآن إلى آخره يلقي التبعة في المعاصي على الإنسان.

و قال إبليس: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (9)، و لو كان الفعل من اللّه لكان لعن إبليس

ص: 62


1- الأعراف: 28.
2- الأعراف: 23.
3- القصص: 16.
4- الأنبياء: 87.
5- ص: 24.
6- سبأ: 50.
7- النساء: 79.
8- التغابن: 2.
9- ص: 82.

غير سائغ حيث قال: إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (1).

و غرضهم من هذا الاعتقاد حيث ردّوا شقاوة الأشقياء إلى تقدير اللّه تعالى و إرادته أنّهم حين رأوا بعض الصحابة و التابعين ظلموا عترة المصطفى و غصبوهم حقّهم، و أفتوا بالظلم و الطغيان، وسعوا في هلاك أهل البيت عليهم السّلام فلطّخوا أيديهم بدمائهم، و حملوا الأمّة عليهم، و جرّأوهم على الاستخفاف بحقّهم، و أصبحوا تحت طائلة ملام العقلاء، فوضعوا هذه البدع لدفع هذه الملامات، من أنّ العبد لا اختيار له، و الفعل كلّه من اللّه تعالى لأنّ هذا هو قضاء إرادته و محلّ تقديره أن يكون الأمر على هذه الكيفيّة، ليقصروا من لوم الناس لهم و لعنتهم إيّاهم، و ذلك حين اتّضح للناس أنّ الصحابة هم الذين ظلموا الصدّيقة عليها السّلام في فدك، و ظلموا أمير المؤمنين و الإمام الحسن و الإمام الحسين و عليّ بن الحسين عليهم السّلام.

و يجيب المخالفون على هذا أنّ اللّه تعالى أراد هذا منهم: فأراد من آدم أن يعصيه، و كذلك موسى و ذو النون و يوسف و داود و محمّد، و يقولون بأنّ يوسف داعب زليخا، و ارتكب داود القبيح مع زوج وزيره أوريا، و النبيّ مع امرأة زيد، و اللّه تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (2)، و قال في سورة الأنعام: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ (3)، إلى أن يقول بعد ذكر الأنبياء: وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)، و قال بعد ذلك: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (5)، أمر محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالاقتداء بهم، فلو جازت عليهم

ص: 63


1- ص: 78.
2- آل عمران: 33.
3- الأنعام: 83.
4- الأنعام: 87.
5- الأنعام: 90.

الذنوب و المعاصي فلا يبقى فرق بينهم و بين الفسّاق و الأجلاف حينئذ.

و الأدلّة العقليّة تعضد الآيات القرآنيّة الدالّة على العصمة من قبيل «اصطفى» و «اجتبيناهم» و «هديناهم».

و سبب نفيهم للعصمة هو ما يقول به الشيعة من وجوب عصمة الإمام و أنّ المشرك لا ينال الإمامة و إن تاب، من ثمّ نفوا وجوب العصمة عن اللّه تعالى و جوّزوا المعصية من الأنبياء من أجل تنزيه عمل الشيخين و معاوة و يزيد و أمثالهم ليجنّبوهم لعنة اللاعنين، فجعلوا اللّه تعالى و الأنبياء في منزلة الفسّاق و محلّهم.

الفصل السادس

جلّ أهل السنّة يقولون بجواز القياس في الشريعة.

الجواب عنه: و لا يجيز الشيعة القياس في الشرع كما قال عبد اللّه بن عبّاس:

أوّل من قاس إبليس حيث قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (1)، و قال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2) و لم يأت النبيّ بالقياس، و لو جاز لأحد من الناس لكان رسول اللّه أولى به.

و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (3) فلو أنّه فارق الدنيا من دون تبليغ لكان مخطئا، و يكون القرآن كذب علينا و حاشاهما من ذلك.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأيا» أي يوجد من نفسه ما لا يوجد.

ص: 64


1- الأعراف: 12، ص 76.
2- الحشر: 7.
3- النحل: 44.

و الغرض من وضع القياس هو التستّر على جهل أئمّتهم لأنّهم تصدّوا للإمامة فارغي الوفاض من العلم فالتجئوا إلى القياس، و القياس يعارض اللّه تعالى لأنّه يقوم في مقابل حكم اللّه و رسوله فيحكم عليهما فكأنّه قال: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (1).

و حرّم اللّه الخمر و النرد و الشطرنج و غيرها من أنواع القمار و هؤلاء يستحلّونها ردّا على اللّه و خلافا للقرآن حيث يقول: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ (2)، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ مسكر حرام» و لم يفرّق بين القليل و الكثير، و هؤلاء يستحلّونه إلى حدّ الإسكار و يرون ذلك تديّنا و عبادة مخالفة لقول اللّه تعالى القائل:

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً (3)، و قال: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ الآية (4).

و بناءا على مذهب الشيعة أنّ من ارتكب هذه المعاصي و اعتقد بأنّه مصيب بفعل هذا و مات على غير توبة فإنّه يحرم يوم القيامة من نعيم الجنّة كما قال تعالى:

أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا (5).

سؤال: و هذه المعاصي يفعلها كثير من الشيعة.

الجواب: نعم و لكن علماء الشيعة و صلحائهم و زهّادهم مبرّؤون من هذه الترّهات، و لا يفعلون ذلك قطّ، و لكن أهل الدنيا منهم و ملوكهم و سلاطينهم و العامّة الذين يأتون هذه الموبقات يعدّون أنفسهم عصاة مخطئين، و كلّما ذكروا استغفروا منها و استقالوا من جريرتها، و هم دائبون في تطلّب التوبة يوما بعد يوم.

ص: 65


1- الأنعام: 93.
2- المائدة: 90.
3- الأعراف: 51.
4- محمّد صلّى اللّه عليه و آله: 36.
5- الأحقاف: 20.

و لكن المخالف يخرج من هذه الدنيا عن غير توبة لأنّهم يرونها من الطاعات و هي معاصي، ثمّ إنّهم لا يرون لأنفسهم اختيارا في الفعل أو الترك، و إنّما فعلوا ذلك بإرادة من اللّه تعالى، و بعضهم يرى وطئ المملوك فعلا مباحا كما يقول مالك.

حكاية: في سنة اثنين و سبعين و ستّمائة (672) لمّا سافرت- أنا الداعي إلى المؤمنين و مصنّف هذا الكتاب الحسن بن عليّ بن الطبريّ- من قم إلى اصفهان بقيت هناك سبعة أشهر بأمر من سيّد العالم بهاء الحقّ و الدين صاحب الديوان محمّد، فنال توفيق الهداية جماعة بسبب مثولي في تلك الخطّة و أفادوا من العلوم الدينيّة من أهل اصفهان و شيراز و أبرقوه و يزد و نواحي أذربيجان من السادات و الصدور و الأكابر، الذين كانوا في ذلك الجزء من العالم ملتجئين إلى غوث العالم، فنالوا النفع كما كان عليه الحال بين العرب و العجم ممّا لا يكاد يخفى، و يعترفون اليوم به و سوف يظلّون كذلك مذعنين إلى يوم القيامة.

و خلاصة القول: أنّ بعض السادة حضروا من شيراز و حكوا لنا، قالوا: كنّا في شيراز و متى ما خرجنا من بيوتنا لطلب التطهّر و الاستنجاء ورآنا أهل السنّة و معنا المطهّرة، رفعوا عقائرهم بشتمنا.

فيا للعجب! إنّ من لم يتطهّر من الحدث و لم يجر عليه الماء ليزيل أخباثه يعتبر سنّيّا صحيح العقيدة، و من فعل ذلك نزولا عند قول اللّه تعالى: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (1) يعتبر رافضيّا.

فائدة: و كلّما نعتوا هؤلاء بالرافضة فإنّ الشيعة يطلقون عليهم رافضة أيضا، و يضيفون إلى ذلك ألقابا أخرى زيادة على ما تقدّم: الأوّل: خارجي، و الثاني:

ناصبي، و الثالث: يزيدي، و الرابع: جبري، و الخامس: مشبّهة، و السادس:

ص: 66


1- الأنفال: 11.

منافق، و السابع: مرواني، و الثامن: قدري، و التاسع: عدوّ أهل البيت أو ظالم آل محمّد، و العاشر: حطب جهنّم، و أمثال ذلك.

بيّنة: لو اجتمع أهل العالم و أرادوا إثبات ذنب واحد أو خطيئة واحدة للشيعة لما استطاعوا إلّا بقولهم أنّهم لا يؤمنون بخلافة أبي بكر، و ينكرون خلافته.

و الجواب عنه: يقول القوم- و هو من الموارد التي اتفقوا عليها- أنّ إمامة أبي بكر تمّت باختيار جماعة من الصحابة و الاختيار باطل، فإنّ اللّه تعالى يقول: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (1) ثمّ إنّ موسى مع ما هو عليه من رتبة النبوّة اختار من قومه سبعين كما قال سبحانه: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا (2) و ختام أمرهم كان الهلاك بالصاعقة، لقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً (3) و لم يكن اختيارهم موفّقا و قد حكى اللّه تعالى هذا المعنى في قصّته.

فكيف يصحّ اختيار خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و أبي سفيان بن حرب الذين ما منهم أحد إلّا و قد حارب رسول اللّه أربعا و ثمانين حربا، و قتل آلافا من المسلمين، و يكون اختيارهم صوابا؟! و نذكر جانبا من هذا الباب.

نكتة: في كتاب «الزينة» من كتب المخالفين: إنّ من الأسماء اسم الشيعة وحده كان مشهورا في عهد النبوّة و لم يكن لقب إلّا و جاء في مدحه أو ثلبه حديث إلّا اسم الشيعة فلم يرد حديث واحد ينقصهم.

ثمّ قال: كان هذا الاسم معروفا زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان مشتهرا بين الصحابة، و قد دعي به جماعة، منهم: سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و عمّار بن ياسر،

ص: 67


1- القصص: 68.
2- الأعراف: 155.
3- النساء: 153.

و المقداد بن الأسود الكندي و غيرهم، و كان هؤلاء لا يكادون ينحازون عن أمير المؤمنين أو يفارقونه، فسمّوا يومئذ شيعة عليّ عليه السّلام، و لمّا اشتعلت الحرب بين معاوية و المولى أمير المؤمنين عليه السّلام عرف أولياء عليّ و محبّوه باسم الشيعة، و جيش معاوية و تابعوه باسم أهل السنّة، و لمّا حصلت منازلة بين شخصين من العسكرين، فقال أحدهما: أنت سنّيّ، فقال الآخر: و أنا سنّيّ، و كان المقصود بهذا اللقب شيعة عليّ و ليس أمرا آخر، «إنّ في ذلك لعبرة لأولي الألباب».

نكتة: جاء في تفاسير أهل البيت عليهم السّلام: و لمّا اطلع اللّه تعالى إبراهيم الخليل على علوّ رتبة عليّ و فضله، دعا إبراهيم، فقال: اللهمّ اجعلني من شيعة عليّ، فاستجاب اللّه دعائه، بقوله: «و جعلناكم من شيعته»، فحكى رسول اللّه هذه الحكاية: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (1) (2).

و كذلك حكى عن موسى، فقال: هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ (3) فكان أتباع الأنبياء و الأوصياء و الأولياء يدعون بالشيعة، و اليوم بقي هذا اللقب ملازما لشيعته.

حكاية: قال عليّ بن نصر أبو الحسن الحنفيّ في بعض تصانيفه: حضر مجلس الإمام جعفر الصادق أحد موالي أهل البيت و قال: يابن رسول اللّه، عرضت لي حاجة مهمّة إلى السلطان و ليس لي وسيلة توصلني إليه، و جئتك الآن لتكون لي شافعا عنده لقضاء حاجتي.

فقال له الإمام الصادق عليه السّلام: قم الساعة و التحق بالسلطان و انتظر الفرصة حتّى يعرض لك رجل من صفته كذا و كذا فإنّه من خواصّ حجّابه، و جدّ في الأمر حتّى

ص: 68


1- الصافّات: 83.
2- راجع التبيان للطوسيّ 8: 508.
3- القصص: 15.

تكلّمه على انفراد، فقل له: أرسلني الإمام جعفر إليك و بعث معي علامة لتقضي حاجتي عند السلطان، ففعل ما أمره الإمام و قضي حاجته، فعاد الولي إلى الإمام الصادق عليه السّلام و قال: يابن رسول اللّه، إنّ الرجل سمع اسمك كاد يغمي عليه من النشاط و الفرح، فذهب إلى ذلك الجبّار حالا و قضى حاجتي، فما يصنع وليّكم مع هذا الحبّ في دار عدوّكم؟!

فقال الإمام عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى قضى لنا من الكرامة بأن جعل عند عدوّنا واحدا من موالينا أو أكثر مقرّبا إليه و من خواصّه و أركان ملكه ليقضي حاجات ذوي الحاجات من موالينا.

من ثمّ لم يخل وجه خليفة بدءا من الخلافة العبّاسيّة حتّى انقراض دولتهم من وجود وزير أو وكيل خراج أو حاجب خاصّ أو مدبّر لأمر ذلك الملك شيعيّ، و كذلك الحال في سلاطين خوارزم الذين أكثر وزرائهم من قم أو كاشان، و أمراء خراسان كانوا شيعة بأجمعهم، و لا تخلو بقعة من بلاد الإسلام من وجود مؤمن محترم و مكرّم؛ إمّا ظاهر الاعتقاد بالتشيّع أو عاملا بالتقيّة، كعمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبي طالب عليه السّلام يخفي إيمانهم ليلتئم مع صناديد قريش و أكابرهم بظاهره، و يوافقهم، و بهذا يستطيع أن يمدّ رسول اللّه و أصحابه بالمعونة، و ينصره بماله و بيده و روحه و كذلك بجاهه، و كان جانب النبيّ و أتباعه قويّا ما دام عمّه على قيد الحياة، فلمّا وافته منيّته هبط الأمين جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه، و أمره بالهجرة: «فقد مات ناصرك»، و اتفق العلماء على قوله تعالى: أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (1) في بيت أبي طالب، و قال اللّه تعالى في حقّ مواليه: وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا (2).

ص: 69


1- الضحى: 6.
2- الأنفال: 72 و 74.

يقول مصنّف هذا الكتاب: و قد استدللت يوما على إسلام أبي طالب و إيمانه في مدينة اصفهان بحضور المولى الأعظم بهاء الدين صاحب الديوان محمّد بهذه الآية.

نكتة: اتفق العلماء على أنّ يوم الحساب في عرصة التغابن و الندامة، تبدأ المسائلة فتأتي كلّ فرقة بعذرها ... فيقول بعضهم: حاد بي عن العبادة ضعف الهرم و تناهي الشيخوخة.

و يقول البعض الآخر: كنّا أقنانا في طاعة العباد فلم يتيسّر لنا أداء المقامين:

العبوديّة و العبادة، فصعب علينا القيام بطاعتك.

و يجيب الآخرون بأنّ أنفسنا كانت عليلة.

و يعتذر بعضهم بما أوتي من المال و الملك عن القيام بواجب الطاعة.

و يقول بعضهم: حال بيننا و بين العبادة الفقر و الفاقة: «كاد الفقر أن يكون كفرا».

و يقول قوم غيرهم: شغلنا الملك و السلطان عن عبادتك.

فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ (1) فيقول اللّه للشيوخ: كان عبدي نوح النبي أكبر منكم سنّا و كان يومئذ قد بلغ تسعمائة و خمسين عاما و هي مدّة أداء الوحي و مع ما هو عليه من الضعف و الشيخوخة لم يزل يزيد في العبادة كلّ يوم.

و يقول للأقنان و المماليك: كلّا، فإنّ يوسف كان مملوكا و أسيرا عند عزيز مصر منذ الطفولة و حتّى الكهولة فلم تحل عبوديّته لعزيز مصر عن عبادتنا و طاعتنا.

و يقول للمرضى: كلّا، فإنّ أيّوب النبيّ عاش في السقم زمانا فلم يزدد إلّا إقبالا على عبادتنا يزيد فيها كلّ يوم.

و يخاطب ذوي الثروات فيقول: كلّا، إنّ إبراهيم في أيّامه الأولى منعّما حائزا على نعم عظيمة، فنال في الآخر لا نقياده لأامرنا درجة الخلّة ببذله ذلك المال و إنفاقه في

ص: 70


1- الأنعام: 149.

طريق عبادتنا، فلم يكن عند أحد من البشر ما عنده من المال، و لم يصل بشر إلى ما وصل إليه من العبادة.

و يقول للفقراء: كلّا، فإنّ محمّدا الخاتم صلّى اللّه عليه و آله و موسى و عيسى و يحيى و هارون و زكريّا و أمثالهم كانوا فقراء و مقلّين مع درجتهم في النبوّة و العصمة و الرسالة.

و يخاطب الملوك و السلاطين: كلّا، فإنّ في الطبقة الأولى كان كيومرث أوّل ملك في الأرض مع ما حازه من الملك و الدولة و القيادة فقد كان منقادا لأمرنا و لم تفته عبادة من الواجبات بالعدل و السياسة مدّة ثلاثين عاما، و هي أيّام ملكه، و ثبتت الشريعة بسيفه و قويت، و كان في زمن نبوّة شيث.

و في الطبقة الثانية كان أفريدون، حكم العالم مدّة خمسمائة عام بالعدل و القسط و تعاهد الرعيّة، و قام بكلّ ما وجب عليه.

و في الطبقة الثالثة يوسف بن يعقوب، سلطان مصر.

و في الطبقة الرابعة الاسكندر الرومي، و يقال: إنّه متقدّم على يوسف، فملك الربع المسكون، و رأى عجائب العالم، و قهر غالب الملوك مع الاقتدار و الانتصار و الحكم، و كان النور قائد عسكره، و السائق الظلمة، و الملائكة المقرّبون أعوانه، و نزلت فيه آيات من سورة الكهف.

و في الطبقة الخامسة طالوت و داود النبي مع الشوكة و القوّة و مرتبة الرسالة و الصولة، و كان يحيط بخيمته في كلّ آن أربعون ألفا من رجال الحرب على أهبة الاستعداد لتلقّي أوامره، و أتباعه و حشمه يتلقّون أرزاقهم منه.

و في الطبقة السادسة سليمان بن داود الذي كان معسكره مأة فرسخ، خمس و عشرون فرسخا للناس، و خمس و عشرون فرسخا للجنّ، و خمس و عشرون فرسخا للوحوش و السباع، و خمس و عشرون فرسخا للطيور و الهوام و أمثالهم، و سخّرت له الريح فكانت تنقلهم بأقصر وقت صباحا من الكوفة و يهبطون

ص: 71

خراسان في الليل: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ (1)، و لم تثبت عمره كلّه في ديوانه جريمة واحدة؛ لا صغيرة و لا كبيرة، فقبضه اللّه إليه مطهّرا معصوما، و هذا الملك العظيم لم يمنعه من عبادة اللّه جلّ جلاله، و رفع اللّه عنه الحساب في ماله و ملكه و معيشته: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (2).

و يقيم الحقّ تعالى إثبات النيّة و إلزام الحجّة على هؤلاء الطوائف أصحاب الذرائع و العلل، فيسكت الجميع و يطأطأون رؤوسهم هوانا و افتضاحا: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (3) حتّى يصل النداء: خذوا هؤلاء المجرمين إلى جهنّم: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (4).

و الغرض أنّ في كلّ دورة من دورات الزمن شخصا ذا رئاسة و دولة و سلطان، يمدّه الحقّ و يعينه، و في زماننا طلع بهاء الدنيا و الدين محمّد صاحب الديوان رفع اللّه رايات الإسلام و المسلمين ببقاء دولته، فطاب باطنا و ظاهرا.

ص: 72


1- سبأ: 12.
2- ص: 39.
3- إبراهيم: 43.
4- الحاقّة: 30- 32.

الباب الرابع في أنّ الشيعة ناجية

اعلم أنّه لا خلاف بين أهل القبلة بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح؛ من ركبها نجى و من تخلّف عنها غرق» (1)، و لا ريب أنّ من كان

ص: 73


1- راجع لتخريج الحديث الكتب التالية: المستدرك 2: 343 تحقيق المرعشي، ط بيروت، دار المعرفة 1406، و الجزء الثالث منه ص 151. و مجمع الزوائد للهيثمي 9: 168 خرّجه في أربع طرق عن أبي ذر و عن ابن عبّاس و عن عبد اللّه ابن الزبير و عن أبي سعيد الخدري .. و السياق متقارب تقريبا. و أخرجه الطبرانيّ في المعجم الصغير 1: 139 ط دار الكتب العلميّة- بيروت في مجلّدين بدون تاريخ، و كذلك أخرجه في الجزء الثاني منه ص 22، و أخرجه في المعجم الأوسط بثلاث طرق: الأوّل عن أبي ذر (4: 10)، و الثاني عنه أيضا (5: 355)، و الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه (6: 85)، و أخرجه الطبراني أيضا في المعجم الكبير عن أبي ذر بطريقين، و الثالث عن ابن عبّاس (3: 45)، و في الجزء الثاني عشر عن ابن عبّاس أيضا (ص 27). و ذكره ابن سلامة في مسند الشهاب عن المقدام بن معدي كرب (2: 273) و مثله عن ابن عبّاس و عن أبي ذر. و جاء ذكر الحديث في شرح ابن أبي الحديد 1: 218. و ذكره ابن الآبار في درر السمط في خبر السبط بعبارة فخمة حيث يقول: ما غدر الأمويّة و أبنائها في قتل العلويّة و أفنائها «أهم يقسمون رحمة ربّك» دليل في غاية الوضوح على أنّهم كسفينة نوح من ركب فيها نجى و من تخلّف عنها غرق، ثمّ يحبسهم آل الطليق و يطردهم آل الطريد، و ما نقموا منهم إلّا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد ... الخ (ص 116). و ذكره الزرندي الحنفي في كتاب نظم درر السمطين (ص 235). و ذكره السيوطي في الجامع الصغير 1: 373 برقم 2442، و في الجزء الثاني ص 533 و رقمه 8162. و جاء في كنز العمّال بالأرقام التالية: 34169، 34170، 34151، 34170. و سمّاهم المناوي في فيض القدير (2: 658) فقال: (أهل بيتي) فاطمة و عليّ و ابنيهما و بنيهما أهل العدل و الديانة ... الخ، أي العصمة. و قال في الجزء الخامس بعد ذكره الحديث معلّقا على قوله (سفينة نوح): و وجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم و عظّمهم شكرا لنعمة جدّهم و أخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، و من تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم و هلك في معادن الطغيان. هذا تخريج الحديث في كتب أهل السنّة و الجماعة، و أمّا الشيعة فالحديث متواتر عندهم و لا تحصى الكتب التي أخرجته منهم، و سياقه لا يختلف كثيرا عن سياق العامّة. (المترجم).

خارج السفينة كان هالكا بشهادة النبيّ و نصّ القرآن الكريم: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً (1) و من كان معه في السفينة كتبت له النجاة.

و بناءا على هذا فإنّ مصنّف الكتاب يحمد اللّه حقّ حمده حيث وفّقه في عنفوان الشباب و أيّام الجدّة و الحداثة إلى التمسّك بأهل هذا البيت و التمذهب بمذهبهم، و سدّده لبلوغ هذه العقيدة المرضيّة، و للاعتصام بالعروة الوثقى، قال تالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (2)، و جاء في الحديث القدسيّ: «خلقت عبادي كلّهم حنفاء».

و الإنسان نزولا على حكم الفطرة يكون مؤمنا حتّى الخامسة عشرة و بعدها

ص: 74


1- نوح: 25.
2- الروم: 30.

يسمّى مؤمنا بتصديقه بالتوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة، كأمير المؤمنين عليه السّلام الذي صدّق رسول اللّه و هو ابن الثالثة عشرة أو العاشرة، و المسألة اتفاقيّة على إيمانه قبل البلوغ، و مذهب الشيعة على هذا بانّ عليّا عليه السّلام صدّق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الفترة من عمره و إلّا فلم يكن بحاجة إلى أن يؤمن؛ لأنّ الإيمان لا يكون إلّا عن شرك، و عليّ عليه السّلام لم يشرك باللّه طرفة عين، و كان غيره محتاجا إلى الإيمان. و اتفق محقّقو الشيعة على أنّ عليّا لا ينبغي أن يقال عنه بأنّه آمن لأنّه كان ممّن يجب الإيمان به و بولايته و إمامته على العالمين و هو جزء من أجزاء الإيمان.

روى بابويه القمّي في كتاب العيون المحاسن عن الثقاة عن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه تعالى أنّه قال: «ولاية عليّ بن أبي طالب حصني و من دخل حصني أمن من عذابي» (1).

و قال الإمام زين العابدين عليه السّلام:

و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده

و ما فاز من فاز إلّا بناو ما خاب من حبّنا زاده (2) و قال الحارث الهمدانيّ يوما لأمير المؤمنين عليه السّلام: يا علي، إنّي أحبّك، و أخاف

ص: 75


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 146.
2- في البحار نسبها إلى الإمام الباقر عليه السّلام مرّة و إلى زين العابدين عليه السّلام أخرى، في روايتين الأولى عن عبد اللّه بن المبارك و فيها أربعة أبيات منسوبة للإمام السجّاد عليه السّلام: لنحن على الحوض روّاده نذود و نسقي ورّاده و ما فاز من فاز إلّا بناو ما خاب من حبّنا زاده و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده و من كان غاصبنا حقّنافيوم القيامة ميعاده و الثانية عن بعضهم و الأبيات منسوبة لمحمّد بن عليّ بن الحسين (الباقر) عليهم السّلام (46: 91). (المترجم).

حالتين من حالاتي: النزع، و حالة المرور على الصراط. فقال عليه السّلام: لا تخف يا حارث، فما من أحد من أوليائي و أعدائي إلّا و هو يراني في هاتين الحالتين و أراه و يعرفني و أعرفه.

يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني طرفه و أعرفه بنعته و اسمه و ما فعلا

و أنت عند الصراط معترضي فلا تخف عثرة و لا زللا

أقول للنار حين تعرض للعرض ذريه لا تقربي الرجلا

ذريه لا تقريبه إنّ له حبلا بحبل الوصيّ متّصلا

أسقيك من بارد على ظمأتخاله في الحلاوة العسلا

هذا لنا خالص لشيعتناأعطاني اللّه فيهم الأملا (1) أبو الصلت الهروي قال: كان الإمام ذات يوم في مجلس المأمون، و جرى نقاش بينه و بين بعض المنافقين حتّى سألوه: يا بن رسول اللّه، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، أنت قسيم الجنّة و النار، فكيف يكون ذلك؟

فقال الإمام عليه السّلام: اانّ محبّته موجبة لدخول الجنّة، و عداوته موجبة لدخول النار، و بهذا ينقسم أهل النار و أهل الجنّة بمحبّته و عداوته، ثمّ شرع في بيان المسألة بيانا شافيا، و ذكر تقريرا لطيفا نال إعجاب الحاضرين من أولياء و أعداء فأطروه كثيرا، و سرّ المأمون من بيانه.

قال أبو الصلت: فلمّا خلوت بالإمام بعد قيامه من المجلس، قلت له: يا مولاي،

ص: 76


1- وردت الرواية في البحار أكثر تفصيلا و ذكر أنّ الشعر للسيّد الحميري، و أوّله: قول عليّ لحارث عجب كم ثمّ أعجوبة له حملا ج 39: 241. (المترجم)

إنّ لك اليوم اليد البيضاء على مواليك بتقريرك اللطيف، فلقد أحييت قلوبا ميتة.

فقال الإمام: يا أبا الصلت، إنّ الذي سمعته طابق مذهب القوم الذي نطقت به كتبهم و إلّا فمذهبنا أهل البيت على أنّ الإمام أمير المؤمنين يقف على شفير جهنّم يوم القيامة و يقول: يا نار خذي هذا فإنّه من أعدائي و ذري ذاك فإنّه من أحبّائي ... (1).

يقول عبد اللّه الدامغاني في كتاب «سوق العروس» في مدح فاطمة و الحسن و الحسين و أهل بيت رسول اللّه و الثناء عليهم و هو من العلماء و أصحاب الحديث و من أهل السنّة و الجماعة:

تطاول ليلي و لم أرقدفكنت كذي اللدغ و الأرمد

بذكر النبيّ و ذكر الوصي و ذكر هوى المصطفى أحمد

حسان الوجوه عظام الحلوم كرام المغارس و المحتد

و من دنس الرجس قد طهرواففاز الذي بهم يقتدي

ص: 77


1- عثرت على هذا الحديث في عيون أخبار الرضا عليه السّلام على النحو التالي: عن أبي الصلت الهروي قال: قال المأمون يوما للرضا عليه السّلام: يا أبا الحسن، أخبرني عن جدّك أمير المؤمنين بأيّ وجه هو قسيم الجنّة و النار؟ و بأيّ معنى فقد كثر فكري في ذلك؟ فقال له الرضا عليه السّلام: يا أمير المؤمنين، ألم ترو عن أبيك عن آبائه عن عبد اللّه بن عبّاس أنّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: حبّ عليّ إيمان و بغضه كفر؟ فقال: بلى. فقال الرضا عليه السّلام: فقسمة الجنّة و النار إذا كانت على حبّه و بغضه فهو قسيم الجنّة و النار. فقال المأمون: لا أبقاني بعدك يا أبا الحسن، أشهد أنّك وارث علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قال أبو الصلت الهروي: فلمّا انصرف الرضا عليه السّلام إلى منزلته أتيته فقلت له: يابن رسول اللّه، ما أحسن ما أجبت به أمير المؤمنين! فقال الرضا عليه السّلام: يا أبا الصلت، إنّما كلّمته حيث هو، و لقد سمعت أبي يحدّث عن آبائه عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، أنت قسيم الجنّة يوم القيامة، تقول للنار: هذا لي، و هذا لك. (عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 91 ط الأعلمي، الأولى 1404).

عليّ أبو الحسن و الحسين رشيدين للراشد المرشد(1) أورد إبراهيم الثعلبي و الزمخشري و النهرواني و أضرابهم و هم من علماء السنّة في آية القرابة يعني قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى(2) رواية عن جرير بن عبد اللّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات تائبا.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد فتح له من قبره باب إلى الجنّة.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة.

و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه.

ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة (3).

ص: 78


1- الأبيات تحتوي على أخطاء صحّحتها بناءا على ذوقي: اللاغ اللدغ، و ذكر هو و ذكر هوى. (المترجم).
2- الشورى: 23.
3- تفسير القرطبي 16: 23 عن الزمخشري و فيه زيادة على ما ذكر المؤلّف: ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا، و ذكر القرطبي قبل ذلك قول الثعالبي: و ليس بالقوي، إنّما يعني قول من قال عن الآية: «قل لا أسألكم» الآية، و قال قوم: الآية منسوخة و إنّما نزلت بمكّة، فقال القرطبي: و ليس بالقوي .. و كفى قبحا بقول من يقول: إنّ التقرّب إلى اللّه بطاعته و مودّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته منسوخ، و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا، إلى آخر الحديث.

نكتة: قال النهرواني: سألوا من النبيّ: يا رسول اللّه، من قرابتك؟ قال صلّى اللّه عليه و آله:

عليّ و فاطمة و ابناهما.

و يقول أمير المؤمنين: ذهبت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شكوت إليه حسد الصحابة لي، و العبارة كما يلي: شكوت ألى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسد الناس لي، فقال: أما ترضى (يا علي- المؤلّف) أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنّة أنا و أنت الحسن و الحسين و أزواجنا عن أيماننا و شمائلنا و ذرّيّتنا خلف أزواجنا (و شيعتنا و رائنا- المؤلّف) و شيعتنا من خلف ذرّيّتنا (1).

و اتفق المفسّرون من كافّة الطوائف على وجوب محبّة عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام بآية القرابة.

يقول مصنّف هذا الكتاب: الدليل على وجوب محبّة أهل البيت قوله تعالى:

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ (2) و معنى الآيه هكذا: ندعو كلّ فريق يوم القيامة مع إمامه و نحشره معه، فنحشر اليزيديّ مع يزيد و نسوقه إلى جهنّم، و محبّي معاوية معه، و أصحاب مالك و أبي حنيفة و الشافعيّ و حنبل نحشرهم كلّ فريق تحت لواء إمامه، و يكون الشيعة مع أمير المؤمنين و أولاده و أبي ذر و سلمان و عمّار و المقداد بإجماع هذه الطائفة من أهل الجنّة، فيكون حشر الشيعة معهم.

و منه الجواب عنه لعليّ عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، لا يحبّك إلّا مؤمن، و لا يبغضك إلّا منافق (3).

ص: 79


1- ابن البطريق، العمدة، ص 50 و نسبها محقّق الكتاب إلى تفسير الكشّاف للزمخشري 3: 81.
2- الإسراء: 71.
3- هذا الحديث صحيح و قد اخرجه مسلم في جامعه، و العثور عليه سهل لمن أراده. (المترجم).

و روى المحدّث الدربنديّ عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله أنّ فاطمة و عليّا و الحسن و الحسين عليهم السّلام في حظيرة القدس في قبّة بيضاء، سقفها عرش الرحمان (1) بدليل قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (2) يعني عليّا و أولاده. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، شيعتك هم الفائزون.

و يقول المخالفون: و نحن أيضا نحبّ النبيّ و أهل بيته.

الجواب: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (3).

حكاية: حضرت يوما مع نجل مخدومي بمنتزه قرية بطرية في قرية واقعة بين قم و كاشان في العاشر من محرّم الحرام سنة ثلاث و سبعين و ستّمائة (673) و كنت أتلو جانبا من مقتل عترة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان أحد العلماء حاضرا ساعتئذ و راح يصدّقني على ما أقول و يعينني خوفا من بطشه و طمعا في ماله «يقصد صاحب الديوان»، و لمّا خلا إلى شياطينه من النواصب بلغني عنه ذمّه للإمام الحسين معهم و مدحه ليزيد، مع أنّه يقال عنه أنّه أكثر انصافا من غيره من علمائهم، فإذا كانت هذه حال المنصف فما ظنّك بغير المنصف منهم!

كنت في اصفهان سنة اثنتين و سبعين، و لمّا رجعت يوما من ديوان الدولة جائني علويّ مستعرب و قال لي: أي فلان، كنت اليوم عند أحد العلماء فدعوت اللّه له بما قدرت عليه من الدعاء، و قلت له في آخره: حشرك اللّه مع أبي بكر و عمر و عثمان، فأجابني: أقسم باللّه لو أدخل هؤلاء إلى الدرك الأسفل من النار لكان أحبّ إليّ أن

ص: 80


1- كتاب الأربعين، لمحمّد بن طاهر القمّي الشيرازي، ص 473، و فيه: أنا و فاطمة، مكان قوله: «سقفها عرش الرحمان» قوله: «و هي قبّة المجد»، راجع: إحقاق الحقّ 9: 220 عنه.
2- الطور: 21.
3- الفتح: 11.

أكون معهم من أن أكون مع عليّ و أهل بيته في جنّة الخلد مع النعيم و الحور و القصور.

و قال أحمد بن حنبل: قلت يوما لمؤمن و أنا أحاوره: لا يكون الرجل مؤمنا حتّى يبغض عليّا قليلا (1). فقال المؤمن: لا يكون المؤمن مؤمنا حتّى يحبّ عليّا كثيرا، لا تعرف حقيقة المرء أو اعتقاده إلّا في حال الغضب، و نادرا ما يمكن معرفة ذلك في حال الصفاء و السلم.

و غرضنا من ذكر هذه الحكايات هو إعلام المؤمنين بأنّهم كما يبغضون الصحابة الذين ظلموا أهل البيت فإنّ مخالفي أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين يبغضونهم كذلك و لكنّهم يحجمون عن كشف ذلك لعلوّ درجة أهل البيت و سموّ مقامهم، و لمّا لم تكن هذه المنزلة للصحابة فإنّ الشيعة يجأرون ببغضهم ما لم تكن هناك تقيّة يتّقونها.

بيّنة: قال السيّد المرتضى علم الهدى رحمه اللّه: سأل سائل السيّد الحميري- و لم يكن هاشميّا و إنّما كان السيّد لقبه و كان رجلا فاضلا شاعرا مشهورا بين علماء أهل القبلة-: كيف أحببت عليّا و أهل البيت مع أنّ أبويك يلعنانه و يواليان بني أميّة (2) و أنت تواليهم و تحبّهم و تمدحهم بصدق؟

قال: ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، فلقد غاصت عليّ الرحمة غوصا، و أخرجتني من بحر الجهل و الضلالة و العداوة لآل الرسول صلّى اللّه عليه و آله وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا (3).

ص: 81


1- لعن اللّه أحمد بن حنبل فأين هو من قول النبيّ لعليّ: لا يبغضك مؤمن و لا يحبّك منافق، و أنا المترجم أقسم باللّه بأنّ دينهم النفاق و هم أعظم كفرا من إمامهم ابن آكلة الأكباد لعنه اللّه.
2- كانا على دين الأباضية و لم يكونا شيعة لبني أميّة. (المترجم).
3- النساء: 83.

قال السيّد المرتضى: صدق الحميري؛ لأنّ أبويه كانا من أتباع بني أميّة و من النواصب ظاهري النصب و العداوة لأهل البيت عليهم السّلام، و جرت العادة على أنّ المرء تابع لمحيطه و البيئة التي عاش فيها و ينشأ على أخلاقها و عاداتها أو على ما درج عليه أبواه و أقربائه و أقرانه، أو على توجيه الأدباء و العلماء له، و هؤلاء جميعا كانوا نواصب، و عاش الحميري بين ظهرانيهم فخرج من بينهم مؤمنا طاهر الاعتقاد، فلا يكون ذلك إلّا بفضل من اللّه و بتوفيق ربّانيّ خاص.

فائدة: اعلم بأنّ ملوك بني أميّة كانوا جميعا يعرفون فضل عليّ و فاطمة و أولادهما، و علوّ مرتبتهم، و حصل لهم العلم بذلك، و أمّا غيرهم فهم كما قال اللّه حكاية عن موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (1)، و هؤلاء يقينا عرفوا رسالة موسى و لكنّهم أنكروها، و كذلك فعلوا مع محمّد و القرآن كما قال تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (2).

و مثله حال بني إسرائيل مع هارون عليه السّلام و هو نبيّ و وصيّ موسى، و عرف أولئك الناس مقامه و رفيع منزلته عند اللّه و قربه من موسى، قال تعالى: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي (3) و كان ابن عمّ لبني إسرائيل و لكنّهم تركوه وحده و مالوا إلى عبادة العجل، و كذلك إخوة يوسف عرفوه بعلمه و ورعه و نبوّته أكثر من غيرهم و مع ذلك أرادوا قتله كما ظهر ذلك للعلماء و العقلاء، كما ذكر في كتاب اللّه: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا (4) و إنّما قالوا ذلك لأنّهم أبناء علات،

ص: 82


1- الصف: 5.
2- البقرة: 89.
3- الأعراف: 150.
4- يوسف: 8.

و أرادوا بأخيه شقيقه بنيامين.

و قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها (1).

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في الخطبة الشقشقيّة بعد ذكره القوم و ما جنوه عليه و شكايته منهم و جرأتهم عليه: بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها و لكنّهم حليت الدنيا بأعينهم و راقهم زبرجها، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (2) كما قتل عمر بن سعد عليه اللعنة الإمام الحسين طمعا بملك الري و قزوين و الديلم، فدخلت روحه الخبيثة النار قبل أن يرى هذا الملك بعينيه، خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (3).

سؤال: إذا كان القوم لا يجهلون مقام أمير المؤمنين عليه السّلام فكيف إذا شتموه و لعنوه و هم يعرفونه؟

الجواب: كان إبليس يعرف نبوّة آدم، و مثله بنو إسرائيل يعرفون مرتبة موسى و عزّته، و عرف أولاد يعقوب أخاهم يوسف، و يقول اللّه أيضا: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (4) و كان إيمانهم تقليدا فخذلهم اللّه تعالى، و عندنا و في مذهبنا هم كفّار باللّه و رسوله و بمخالفتهم إمام زمانهم، و صدق في حقّهم كلام اللّه حكاية عن إبليس لعنه اللّه: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (5) و قال تعالى: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (6).

ص: 83


1- النحل: 83.
2- لقمان: 33.
3- حج: 11
4- الأنعام: 91.
5- ص: 82.
6- النساء: 20.

و مع هذا فلا يخفى على أهل العقل مقام أمير المؤمنين و قرابته و أهل بيته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان بنو أميّة على فرق شديد خشية أن يعرف العامّة فضلهم و علوّ مرتبتهم و عزّتهم على صعيد الترفّع و القرابة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيخرجون عليهم.

و ذكرت كتب التاريخ و السير أنّهم كانوا يحرّضون الناس عليهم و يلعنونهم و لكنّهم لا يذكرونهم بأسمائهم، فيسمّون أمير المؤمنين أبا تراب، و الحسن و الحسين أولاد أبي تراب، فخرجوا على أهل البيت عليهم السّلام و أرادوا محو شريعة الإسلام، و يرفعونها من بين الأمّة، و اشتروا ذمم العلماء و أصحاب المعرفة بالجاه و المال و كثرة العطايا فعرّوهم عن دينهم.

و جرت حالهم مع عليّ و أولاده على نسق حال بلعم بن باعورا مع موسى و هارون، أو كبر صيصا الراهب: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (1).

سلّمنا بأنّ العامّة كانت تعلم بفضلهم و تعرف حالهم فكان شأن العامّة كشأن إخوة يوسف عليه السّلام، قال اللّه تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (2) لا سيّما اليهود فقد عرفوا موسى و عيسى، قال اللّه تعالى: وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (3)، و قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (4).

سؤال: بناء على هذا فإنّ العامّة لا تستحقّ اللوم و التعنيف؟!

ص: 84


1- إبراهيم: 28 و 29.
2- النساء: 54.
3- البقرة: 75.
4- البقرة: 146.

الجواب: قال اللّه تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ (1) إلى أن قال تعالى:

فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (2)، و قال تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (3) و يشمل الآل هنا الأقارب و الأباعد لأنّ اللّه أهلكهم جميعا معه و أدخلهم إلى جهنّم.

و قال تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ (4)، وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (5) و هذا محض كذب منهم، و في القرآن أمثال هذه الآيات واردة في مواضع لا تعدّ و هي افتراء الواحد و اتّباع الآخرين له، و إعانته على ظلمه.

و في القيامة يتبرّأ التابع من المتبوع كما قال تعالى: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا* رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (6)، و قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (7).

و أوضح من هذه الآيات الآيتان التاليتان: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (8).

الجواب الآخر: النظر واجب على المكلّف في مثل هذه القضايا و التقليد غير جائز، و المقلّد و إن كان على الحقّ هالك لأنّ التقليد باطل، فكان الواجب على العامّة أن يتحرّوا في أمر الشيعة و أهل البيت حين شوّه العدوّ صورتهم الحقّ

ص: 85


1- الزخرف: 54.
2- الإسراء: 103.
3- المؤمن: 46.
4- الأنعام: 71.
5- الفرقان: 4.
6- الأحزاب: 67- 68.
7- البقرة: 166.
8- إبراهيم: 28 و 29.

و الدقّة، بل هذا هو واجب العلماء قبل أن يجب على العامّة.

الجواب الآخر: على المكلّف أن لا يلقي بالا لما يقوله والداه و لا لما يقوله أهل الباطل.

لمّا وصل الملك السعيد محمود بن سبكتكين إلى العراق و كانت رايته قد بلغت الري، جاءه جماعة من النواصب و شكوا إليه الشيعة بأنّهم يسبّون الصحابة، فلم يقنع السلطان بأقوالهم و حكّم عقله، و شرع بالبحث و التحرّي و الفحص، و اجتهد في هذا الأمر بعد الجدّ و المثابرة، فعلم بتوفيق من اللّه أنّ الحقّ مع الشيعة، و المرجئة و القدريّة على الباطل، فاستبصر و نبذ ما كان يعتقد من العقيدة الباطلة، و لكنّه أخفى مذهبه صيانة لملكه لما رأى الضلال قد استحوذ على العالمين، فكان يمدّ الشيعة و الأشراف بالمعونة مادام على قيد الحياة بجدّ و اجتهاد بالحدّ المقدور له.

و هذه القصّة ذكرها أبو الفضل الكرماني في تاريخه، و كان يستعمل خواصّه من الوزير و غيره و أصحاب أعماله من الشيعة دائما، و كذلك ملوك مازندران كانا مؤمنين أبا عن جدّ، و مثلهم الأمراء عضد الدولة و ركن الدولة و ناصر الدولة (1)، و كان بين الخلفاء من هو من الشيعة إلّا أنّه يتخفّى منهم الخليفة الناصر، و كان من أعيان تلك الدولة الصاحب كافي الكفاة و لم يكن أحد نظيره، و له عشرة آلاف بيت في مناقب أهل البيت و مثالب أعدائهم و التبرّي من هؤلاء الأعداء.

و كان في وزراء سلاطين خوارزم القمّي و الكاشي، و آخر خليفة الذي أغار على الكرخ و نهب أهل البيت و آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم يهنأ بذلك و وقع البلاء على رأسه.

و السلطان ملكشاه الذي قبل أقوال نظام الملك و قتل الكثير من الشيعة لم يمرّ عليه عام واحد حتّى هلك، و وصل نظام الملك الناصبي أيضا إلى الدرك الأسفل.

ص: 86


1- إن كان يقصد آل بويه فهم شيعة و لا يتخفّون عن أحد لأنّ السلطان كان لهم يومذاك. (المترجم).

و إذا نظرت بعين الحقيقة فلن تجد بيتا عادى هذه الطائفة إلّا هلك، في الصدر الأوّل حين أظهر قوم من الصحابة عداوتهم أدال اللّه منهم و لم يبق لهم أمر و لا لأولادهم، فإذا سمعت عن فلان بأنّه بكريّ أو عمريّ أي أنّه من ذرّيّة هذين الاثنين فهو كذب محض، و الدليل على ذلك أنّ القوم ليست لهم شجرة و لم يقل أحد أنّ لهم أخلافا.

الثاني بنو أميّة مثل معاوية و يزيد و عثمان إلى خمسة عشر ملكا، و قضى على آخرهم الأمير الغازي أبو مسلم المروزي بجيش من خراسان، و قتلة الحسين قضى عليهم المختار و المسيّب قضاءا مبرما، و تركاهم جذاذا، و أرسلا إلى جهنّم أضعافا مضاعفة منهم، و يقرؤون اليوم هذه الآية: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا الآية (1).

و لمّا جائت النوبة إلى بني العبّاس بدؤوا حكمهم بقتل السادة و الأئمّة كما دلّ على ذلك كتاب «مقاتل الطالبيين» الذي ألّفه الاصفهاني حيث قتل كلّ خليفة منهم الآلاف ردّا على قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (2).

و جعل اللّه ما قوله الناصبون من ترّهات عن ملوكهم و سلاطينهم فيدعون هذا أمير المؤمنين، و ذاك خليفة المسلمين هباءا منثورا، و مدّ ظلّ راية محبّي أهل البيت و دولتهم على أقاصي العالم، و وضع بني زياد و بني مروان و بني العبّاس و بني سفيان و أتباعهم حيث يريد محبّو أهل البيت عليهم السّلام.

بيّنة: حكى عبد اللّه النيشابوري قال: كانت بيني و بين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فذهبت إليه يوما و أقمت في موضع، فلمّا علم بمقدمي أرسل إليّ

ص: 87


1- الأحزاب: 67.
2- الكوثر: 1.

أحد رجاله فدعاني و أنا ما أزال في ثياب السفر، فذهبت إليه و كنّا في شهر رمضان، فدعاني إلى الجلوس، فأمر لي بماء و وضوء، فغسلت يدي، و أمر لي بطعام فنسيت أنّنا في شهر رمضان فرفعت إلى فمي لقمة أو لقمتين فتذكّرت أنّنا في شهر رمضان فأمسكت عن الطعام، فقال لي حميد: مالك؟ أعرضت عن الأكل.

فقلت له: لعلّ لك عذرا من مرض و غيره منعك من الصوم، أمّا أنا فلا عذر لي.

فقال: و أنا أيضا ليس لي عذر يوجب الإفطار و لكنّي يائس من رحمة اللّه، ثمّ شرع بالبكاء، و لمّا فرغ من الأكل سألته: يا أمير، مالك تبكي هكذا؟

قال: لمّا وصل هارون الرشيد إلى طوس، دعاني ليلة و جائني خادمه فقال:

أجب أمير المؤمنين، فلمّا جئته وجدت بين يديه شمعا يضي ء، فسلّمت عليه و أنا خائف على نفسي منه، و وجدت سيفا إلى جانبه، فرفع رأسه و قال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: طاعتي لأمير المؤمنين بالنفس و المال، فردّني إلى البيت حالا.

فما بلغت بيتي حتّى جائني خادمه ثانيا و قال: أجب أمير المؤمنين، فاسترجعت و قلت في نفسي: ما دعاني إلّا للقتل، فوقفت بين يديه أرتعد من الخوف، فلمّا رآني، قال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ قلت: طاعتي لأمير المؤمنين بالنفس و المال و الأهل و الولد و الدين، فضحك و دفع إليّ السيف الذي معه و قال: اذهب مع هذا الخادم و اعمل بما يأمرك به.

ثمّ سار بي الخادم إلى البيت فرأيت فيه حفرة عميقة جدّا، و رأيت في البيت أبوابا ثلاثة مغلّقة، و فيه ستّون علويّا من أولاد فاطمة محبوسين؛ منهم الشيخ و الشابّ و الكهل، فاخجرهم واحدا بعد الآخر و أمرني بضرب أعناقهم و ألقاهم في الحفرة حتّى قتلت منهم سبعا و خمسين رجلا، و رأيت بينهم شيخا حلو الطلعة،

ص: 88

مديد القامة، فلمّا رآني قال: أيّها الشقي، أما تستحي منّا و نحن من أهل بيت النبوّة و الإمامة، فماذا تقول لربّك يوم القيامة و بماذا تجيب المصطفى و المرتضى و فاطمة و الحسن و الحسين؟

فارتعدت فرائصي من قول الرجل، فقال لي الخادم اللعين: أتريد أن تعصي أمير المؤمنين؟ فضربت عنق ذلك الشيخ خوفا على نفسي إلى أن قتلت الستّين و كلّهم فاطميّون و علويّون، أيّها الرجل، فإذا كانت حالي بهذه المثابة فماذا ينفعني الصوم و الصلاة؟! لا شكّ بأنّي من أهل النار.

بيّنة: المعروف عن المنصور الخليفة أنّه كان يقيم البناء ببغداد و يضع سادات العلويّين في جدره حتّى يموتوا، و ذكر ذلك الكبار في تصانيفهم و الشعراء بأشعارهم، و كان كلّ خليفة يأتي يفخر على صاحبه بأنّه زاد عليه بقتل العلويّين، و قال اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (1)، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ حسب و نسب ينقطع إلّا حسبي و نسبي.

و كره اللّه استئصال أهل البيت و أراد بقائهم في الدنيا، فلن تجد اليوم بقعة من بقاع الإسلام إلّا و فيها من السادة الآحاد أو العشرات أو المئات و الآلاف، يموجون كما يموج النمل في قراه، و يلعنون ظالمي آبائهم و أجدادهم كما يلعنون الشامتين بهم، و خلاصة الأمر أنّ أبا مسلم المروزي رفع اللعن عن أهل البيت.

أمّا التعصّب فقد كان ضاربا بجرانه بين الملل الإسلاميّة حتّى وصلت النوبة إلى الصاحب الأعظم شمس الحقّ و الدين محمّد صاحب الديوان، فرفع التعصّب عن العالمين و صار سادات الدنيا و علماء الزمان بإكرامه و إنعامه عليهم و نظمه لأمورهم

ص: 89


1- الكوثر: 3.

و إدرار المعاش عليهم مرفّهين، و لم يشاهد السادات في الحقب كلّها مثل هذه العزّة، و مثل هذا التقدير و الاحترام الحادث في زمانه، و كان سادات أهل البيت و أولاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقاسون الأمرّ مع الخصوم و المخالفين في مدى الأحقاب و السنين، و كانوا واقعين تحت طائلة العداوات و الخصومات، يتحمّلون المحن و الشدائد و الشتائم، بل شنّت عليهم الحرب العوان إلى هذا اليوم، حتّى بلغت النوبة الملك و العاهل. مخدومنا محبّ أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، موالي العترة الطاهرة، رضيع قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (1) وارث ملك دارا و الاسكندر المهيب: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ (2)، سيف اللّه: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ (3) فأخرج العصبيّة من هامات القدريّة، انتقام اللّه على المنافقين، حجّة اللّه على سلاطين الجور و الجبر، بهاء الحقّ و الدين محمّد بن محمّد صاحب الديوان، الذي سلب القوّة في العالم كلّه من المنافقين و المعاندين و المخالفين، فلا يستطيع أحد منهم و إن أوتي الحول و الطول أن يظهر عصبيّة أو خصاما، بل أكثر القوم خوفا من هذه الدولة يظهرون التشيّع و ليكن ما يكون.

و إنّي أنا العبد الأقلّ أحبّ أن أبيّن بعض الدلائل على إمامة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و أولاده عليهم السّلام قبل البدء في الموضوع المزمع بيانه لأنّ التوليّ سابق على التبرّي، لكي لا يخلو هذا الكتاب النفيس من فائدتين، و يكون مرجعا للشيعة، و يلمّوا منه بتحقيق المذهب، لأنّ علمائنا حين فقدوا الناصر و كثر عليهم العدوّ مالوا عن التصريح إلى التلميح، و اكتفوا عن البيان بالتعريض و الكنايات، و ما

ص: 90


1- النور: 36.
2- الحشر: 13.
3- الحديد: 25.

يسطرونه في أسفارهم لا يعدو التعريض إلّا القليل منهم، و لكنّي أنا العبد واثق باللطف الإلهي بمعاجز الأئمّة عليهم السّلام، و ما علمته كتبت أربعة دوانق منه و ذهب دانقان هدرا «لأنّ الإجماع حصل بأنّ التقيّة واجبة ...» (1).

و لقد وجدنا نحن العون و الظهير بسلطان كمخدومنا بهاء الدين محمّد، و لم يكن للعلماء هذا السند و الظهير، و ما توفيقي إلّا باللّه، و ما الاستعانة إلّا منه، و عليه أتوكّل و إليه أنيب.

ص: 91


1- أمّا في زماننا فقد ذهب موضوع التقيّة إلى غير رجعة، و يجب أن نعرّي أعداء اللّه النواصب من ثيابهم حتّى تبدو سوءاتهم، لا لأنّنا أقوى منهم بل قوّتنا بالحقّ و الحجّة. (المترجم).

الباب الخامس في دلائل حجّة اللّه على خلق اللّه أمير المؤمنين عليّ و أولاده الطاهرين صلوات اللّه عليه و عليهم أجمعين

اشارة

الدليل الأوّل: اعلم أننا وجدنا الأمّة اختلفت بعد نبيّها بالخلافة، فقال بعضهم: أبو بكر، و قال بعضهم: عليّ، و لمّا بحتنا الأمر و قلّبناه على وجوهه و فحصناه فحصا دقيقا وجدنا ثلاثا و سبعين مذهبا، مدحوا عليّا في كتبهم العلميّة و على لسان خطبائهم و وعّاظهم و أهل بيته و أثنوا عليه و عليهم و لم يعترضهم الشكّ في إمامته و لم يختلفوا و لو يوما واحدا، إلّا أنّ طائفة قالوا إنّه الإمام بعد النبيّ بلا فصل، و طائفة قالوا بعد عثمان. و اتفقت فرق الشيعة و هم ثمانية عشر فرقة على إمامته و إبطال إمامة الشيخين، فحصل الإجماع من الفرق الإسلاميّة كافّة على إمامته و بقي من عداه موضع تنازع و اختلاف، و أهل العقل يدركون على أنّ الاقتداء بالمتفق عليه أولى من المختلف فيه على كلّ حال.

الدليل الثاني: رأيت العالمين اتفقوا على عدالة عليّ و صلاحيّته و علمه و زهده و ورعه، و قال

ص: 92

الشيعة بعصمته بالدلائل العقليّة و النقليّة، و الإجماع حاصل على عدم معصوميّة أبي بكر و كان مشركا في ستّ و أربعين سنة من عمره حتّى أسلم، و اختلفوا في عدالته فنفاها بعضهم و كذلك أهليّته، و أثبتهما البعض الآخر له بعد الإسلام.

و لمّا لم يكن رسول اللّه بين ظهرانينا ليقطع مادّة النزاع بيننا و نقتدي به وجب الاقتداء بمقطوع العدالة و الورع و الصلاحيّة، و الاقتداء به أولى من الاقتداء بمن اختلف في عدالته، و طال النزاع حولها حتّى بلغت الأقوال فيها الآلاف، و لو عمد القوم إلى الانصاف، و أخرجوا التعصّب للمذهب من رؤوسهم فإنّهم لا يستطيعون إثبات العصمة و الأهليّة لأحد من الناس لا سيّما بناءا على مذهبهم الذي يجيز المعاصي حتّى على الأنبياء، و يقولون: ليس من المستحيل أن يسلب اللّه العبد إيمانه عند موته و يحلّ محلّه الكفر بإرادته، و في مذهب الشيعة لا يجوز هذا الظلم على اللّه تعالى.

أمّا الذين أثبتوا له الأهليّة و الصلاحيّة فحجّتهم ظاهرة، و أمّا الّذين نفوهما عنه فإنّهم قالوا: لو كانت للرجل صلاحيّة أو ورع لم يتقدّم على عليّ صاحب الحقّ و لم يغصب فدكا من فاطمة الزهراء عليها السّلام التي نحلها النبيّ (1) إيّاها، و لأعطى الخلافة عند هلاكه إلى عليّ عليه السّلام لأنّه صاحب الحقّ، و أجرى الحدّ على خالد بن الوليد الذي زنى بزوج مالك بن نويرة كما أشار عليه عمر بن الخطّاب و لكنّه رفض ذلك.

الدليل الثالث: طالعت كتب التاريخ، و السير زائدا على ذلك حاورت علماء الطوائف متفحّصا

ص: 93


1- يستعمل المؤلّف دائما كلمة «الرسول» و أنا لا أستحلّ استعمالها لأنّ المبشّرين و منهم عدوّ اللّه لويس شيخو لعنه اللّه استعملوها كيدا و دسّا بزعم أنّ رسول اللّه كان رسولا من رسل كنيستهم فلذلك يطلقون عليه، هذه الكلمة ليسرّوا حسوا في ارتغاء و أنا استبدلت كلمة النبيّ بها. (المترجم).

فرأيت أنّه ما من نبيّ أو رسول كان خليفته و القائم مقامه مشركا من قبل و آمن بعد سلخ أربعين سنة من عمره في الشرك، و خلّى ورائه ثلاثمائة و ستّين صنما ثمّ أسلم، و لمّا لم يشاهد هذا في تاريخ الأنبياء فإنّ نبيّنا و هو الأفضل و خاتم الأنبياء كيف يكون خليفته على خلاف ما عليه خلفاء الأنبياء، و اللّه تعالى يقول: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ (1)؟ و كيف يرتكب خليفة المعاصي و يفعل النواهي و عبد اللات و العزّى إلهين من دون اللّه؟ و جميع فرق الإسلام يقولون: إنّ عليا عليه السّلام لم يشرك باللّه طرفة عين أبدا، فوجدت العدالة و العفّة و العصمة هذه اللوازم للإمامة موجودة في عليّ عليه السّلام و ليست في غيره من سائر الخلفاء فقطعت ببطلان خلافتهم و صحّة خلافته عليه السّلام.

الدليل الرابع: تتبّعت آثار و أخبار و تواريخ علماء السلف فوجدت أنّ نبيّا لم يخرج من الدنيا حتّى يكون ذرّيّته و أقربائه خلفائه و القائمين مقامه؛ فكان وصيّ آدم ولده شيث و اسمه هبة اللّه، و وصيّ نوح سام ابنه، و أولاد إبراهيم: إسماعيل و إسحاق أوصيائه، و وصيّ يعقوب يوسف، و موسى أقام مقامه أخاه هارون في حياته، و يوشع بن نون بعد وفاته، و يوشع بن نون عمّ موسى، و داود ولده سليمان، و عيسى و يحيى و كلاهما أبناء خالفة، و زكريّا قريب عسى، و ما فعله هؤلاء الأنبياء من نصب أقاربهم خلفائهم لا بدّ من كونه بأمر اللّه تعالى فيكون هذه السنّة مطّردة في جميع الأنبياء من اللّه تعالى، كما قال: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (2) و مفهوم هذه الآية: إنّك ماض على سنن من قبلك من الأنبياء.

ص: 94


1- الأحقاف: 9.
2- الإسراء: 77.

و الإجماع حاصل على أنّ سنّة الأنبياء لم تنسخ في هذه الشريعة فلا بدّ من بقاء التوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة لكي لا يكون معنى الآية معطّلا.

و قال: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ (1) و كان إبراهيم قد استخلف ذرّيّته فلا بدّ من كون خليفة نبيّنا من أقربائه، وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (2) و لم يكن مستحقّا لهذا الأمر و مؤهّلا له بعد النبيّ من أقربائه إلّا عليّ و أولاده عليهم السّلام لو لا ما فعله الصحابة.

الدليل الخامس: كذلك استقرأت الكتب و إجماع أهل القبلة فلم أجد رسولا مات و لم يوص إلى أحد، كما قال تعالى: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (3)، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من مات بلا وصيّة مات ميتة جاهليّة (4). و نظير هذه الأخبار الدالّة على تحريضه أمّته على الوصيّة، فلا بدّ من أن يبادر إلى العمل بها قبل أمّته لأنّ اللفظ ورد بصيغة العموم، و اللّه تعالى يقول:

أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (5).

و الإجماع منعقد على أنّ أبا بكر و عمر لم يكونا وصيّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بل الوصيّ عليّ عليه السّلام، يشهد بذلك المؤالف و المخالف، على ذلك و كان أوصياء أنبياء السلف أئمّة

ص: 95


1- آل عمران: 95.
2- الأنفال: 75.
3- البقرة: 132.
4- الحديث موجود بكثرة في كتب أهل السنّة و الجماعة بالصيغة التي ذكر المؤلّف، و في بعض كتبهم غيّروا في السياق فرووه هكذا: من مات بلا إمام مات ميتة جاهليّة. (مسند أحمد، رقم 16489).
5- البقرة: 44.

و لم يكونوا خلفاء حيث لم يكن في ذلك الزمان خليفة فينبغي أن يكون في زماننا وصيّ نبيّنا إماما كذلك.

الدليل السادس: قال اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (1)، و قال: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (2)، و يس محمّد صلّى اللّه عليه و آله بدليل قوله تعالى: يس* وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3).

و آل إبراهيم هم إسماعيل و إسحاق و يعقوب كانوا جميعا أنبياء و أوصياء، و آل عمران موسى و هارون و كانا نبيّين و لهما اختيار الأنبياء في زمانهما، و كان نبيّنا أفضل الأنبياء فينبغي أن يكون آله أفضل الآل من آل إبراهيم و آل عمران و كان لهما مرتبة النبوّة، و لم يكن أبو بكر و عمر من الآل بالإجماع و إنّما آله عليّ و الحسن و الحسين و باقي الأئمّة عليهم السّلام، و الذي كان مشركا ثمّ أسلم لا يقدّم على من هو أفضل من الأنبياء و هم آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لا يمكن أن يراد بالآل جميع الأمّة لتخصيص اللفظ في القرآن بآل إبراهيم و آل عمران، و بظاهر اللغة لقول علماء السلف: آل الرجل ما يؤول إليه بالنسب و هو مشتّق من الأوّل و هو الرجوع، و تكون الأفضليّة بالعصمة و العلم و الورع و الجهاد في سبيل اللّه، و لا يوجد هذا المعنى إلّا في عليّ عليه السّلام و يفقد ذلك الصحابة كلّهم في أنفسهم على كلّ حال.

ص: 96


1- آل عمران: 33.
2- الصافّات: 130.
3- يس: 1- 3.

الدليل السابع: لا خلاف بوقوع الخلاف بين المهاجرين و الأنصار على الخلافة و كانت حجّة المهاجرين عليهم أنّ «الأئمّة من قريش» و رسول اللّه منهم، و كون الإمام من قريش لأجل قرابتهم من النبيّ، و الأنصار ليست لهم هذه القرابة يقينا، و عليّ و الحسن و الحسين وارثوا رسول اللّه، و عليّ ابن عمّه و الحسنان ابناه.

و القرابة التي كانت لأبي بكر مع النبيّ صلّى اللّه عليه و اله كانت لعمرو بن العاص و لخالد بن الوليد و لسائر القرشيّين و لم يكن أحد من هؤلاء يستحقّ الخلافة لبعد قرابتهم و رفع العصمة عنهم و نفي النصّ بشأنهم، أو لخوفهم من اللّه تعالى القائل: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (1) فلم يتقدّم أحد منهم إلى هذا الخطر العظيم ما عدى أبا بكر الذي صدقت عليه الآية: وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (2)، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه اختار من ولد إبراهيم، إسماعيل، و اختار من إسماعيل قريشا، و اختار من قريش هاشما.

و لا يحقّ للصحابة أن يؤخّروا من قدّمه اللّه و اختاره و يخذلوه و يعدوّه رعيّة، و يحكموا غيره الذين خذلهم اللّه و يقدّموهم، و يعدّوا اختيار أبي سفيان المنافق و خالد بن الوليد و عمرو بن العاص مقدّما على اختيار اللّه و راجحا، فإذا ثبت هذا ثبتت إمامة عليّ و خلافته.

الدليل الثامن: اشتهر عند المؤالف و المخالف بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ: الحقّ مع عليّ و عليّ مع

ص: 97


1- الحجرات: 1.
2- الشعراء: 227.

الحقّ يدور معه حيثما دار (1). و إذا ثبت بهذا الحديث أنّ الحقّ مع عليّ، تكون كلّ دعوى تخالفه باطلة، كما قال تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (2) و لازم هذا بطلان خلافة أبي بكر بصورة واضحة و صريحة.

الدليل التاسع: روت أمّ سلمة و نقل روايتها المخالف و المؤالف عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: عليّ مع القرآن و القرآن مع عليّ لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض (3)، و الخصم يعترف بهذا، فمن لم يكن مع القرآن كان ضالّا مضلّا، و ثبت لدينا بنقل شايع مستفيض أنّ عليّا عليه السّلام قال: ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللّه (4)، و قوله: أنا أوّل من يحشر يوم القيامة للخصومة (5) و أمثال هذه الشكايات التي صدرت من جنابه، و أجمعت

ص: 98


1- راجع مجمع الزوائد للهيثميّ 7: 235، المعيار و الموازنة: 35 و نسبه في هامش الكتاب إلى فرائد السمطين 1: 176 ط 1، و تحت الرقم 1160 من ترجمة أمير المؤمنين عليه السّلام من تاريخ دمشق 3: 117، و في الباب 25 من الفصل الأخير من غاية المرام: 539، و أيضا ذكره في ص 119 المعيار و الموازنة و ص 321 و 322، و فيه تتمّة: لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض، و جاء في شرح نهج البلاغة 2: 297 و 18: 72.
2- يونس: 32.
3- المستدرك 3: 124 و قال الحاكم: صحيح الإسناد و لم يخرجاه، مجمع الزوائد 9: 134، المعجم الصغير للطبرانيّ 1: 256، المعجم الأوسط له أيضا 5: 135، الجامع الصغير للسيوطي 2: 177، كنز العمّال 11: 603 رقم 31912، فيض القدير 4: 47.
4- الإمام عليّ عليه السّلام لأحمد الرحمانيّ الهمداني: 739، عبد اللّه الحسن، المناظرات في الإمامة: 44، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 306 و 10: 286.
5- ذكره في كتاب المناظرات في الإمامة بسياق آخر و بنفس المعنى إلّا أنّ فيه تتمّة «مع الثلاثة» ص 395، و ذكره البخاري في صحيحه 5: 6 ط دار الفكر- بيروت بالأفست عن طبعة استانبول 1401 ه، المستدرك 2: 386، النووي على مسلم 18: 166، مقدمة فتح الباري لابن حجر: 370، و فتح الباري 8: 116 و 337 و 11: 343، و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 206، كنز العمّال 2: 472 رقم 453، تفسير الطبري 17: 172، شواهد التنزيل للحسكاني: 503، تفسير القرطبي 12: 25، تفسير ابن كثير 3: 222، الدرّ المنثور للسيوطي 4: 348، تفسير الثعالبيّ 4: 113، هذه جميعها كتب للعامّة و لم نستشهد بها ثقة بها و لكن لندينها من فمها. (المترجم).

الأمّة على أنّ الحقّ مع القرآن، فمن خرج على القرآن كان ضالّا فاسقا و هو على الباطل، و عدوّ القرآن عدوّ اللّه و رسوله، فمن كان عدوّ اللّه و رسوله لا يليق بالخلافة كذلك القرآن دستور الشريعة الصامت و الإمام دستورها الناطق، و دستور الشريعة مقدّم و عدوّه عدوّ اللّه.

الدليل العاشر: ينبغي أن يكون الإمام أعلم رعيّته، له علم بكلّ ما تحتاجه و إلّا احتاج إلى إمام فوقه يعلمه و هذا يجرّ إلى التسلسل، و التسلسل باطل، و عليّ أعلم الصحابة و جاء فيه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أقضاكم عليّ و أعلمكم عليّ (1) و كان يفتيهم، و لم يستطيعوا البتّ في قضيّة في غيابه، و لقد قال عمر ما يقرب من سبعين مرّة: لو لا عليّ لهلك عمر، و جمعت قضايا الإمام عند الفرق كلّها.

و جاء في كتب أهل القبلة أنّه سئل أبو بكر و عمر عن قوله تعالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (2) فقالا: لا نعرف معنى الأبّ، و قال عليّ عليه السّلام على المنبر مرّة بعد أخرى و المهاجر حاضر: سلوني قبل أن تفقدوني، و قال: علّمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألف باب من العلم ففتح لي من كلّ باب ألف باب، فإذا ثبت كونه الأعلم ثبتت إمامته لأنّ

ص: 99


1- فتح الباري 10: 478 و اقتصر على الجزء الأوّل، شرح نهج البلاغة 1: 18 و 7: 219، المنافي في فيض القدير 1: 285، كشف الخفاء للعجلوني 1: 162، تفسير القرطبي 15: 162 و 164 و كلّها ذكرت الجزء الأوّل من الحديث. (المترجم).
2- عبس: 31.

تقديم الجاهل على العالم قبيح عند العقلاء كما قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (1)، و قال: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (2).

الدليل الحادي عشر: اعلم بأنّ القوّة و العلم من صفات الكمال و صفات الأنبياء، فقد قال اللّه تعالى:

إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (3).

و قال في حقّ جبرئيل: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (4).

و لمّا ذكر طالوت و وصفه لبني إسرائيل بعد إنكارهم نبوّته، قال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ (5).

و قال عن داود: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ (6).

و قال عن موسى حكاية لقول ابنة شعيب: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (7).

و قال عن هود: وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ (8).

ص: 100


1- الزمر: 9.
2- المجادلة: 11.
3- الذاريات: 58.
4- النجم: 5 و 6.
5- البقرة: 247.
6- ص: 17.
7- القصص: 26.
8- الأعراف: 69.

و جعل العلم في الأنبياء ضمن صفات الكمال و حصول القوّة و العلم لهم برهانا على صحّة نبوّتهم و إمامتهم، هذا و القوم يعلمون أنّ شيوخهم ليس عندهم عشر معشار ما لعليّ عليه السّلام من القوّة و العلم فلم يؤثر عنهم اشتراك في حرب أو قتل كافر على أيديهم، أو أنّهم أصلحوا اعوجاجا أو خلالا في الإسلام، بل كانوا دائما مصداقا لقوله تعالى: وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (1) كما فعلوا يوم أحد.

و لا يخفى على العلماء أنّ عثمان بن عفّان فرّ ثلاثة أيّام في وقعة أحد ثمّ عاد بعدها و كان مختفيا هذه المدّة كلّها في غار و لم يملك قوّة القلب التي يخرج بها منه، فهذا علمهم و هذه شجاعتهم، و لكن إذا يحاس الحيس يتقدّمون، و كان عليّ ظاهرا و لم يطلبه أحد.

و إذا تكون كريهة أدعى لهاو إذا يحاس الحيس يعدى جندب و لمّا ثبت أنّ عليّا أعلم و أشجع ثبتت إمامته و بطلت إمامة غيره على الوجه الأحسن.

الدليل الثاني عشر: لقد حصل الاتفاق منّا و منهم و بشهادة أبي بكر أنّه لا بجوز اتّباع غير عليّ عليه السّلام لا سيّما بناءا على مذهب الخصم من صحّة إمامة أبي بكر، فلقد قال بحضور المهاجرين و الأنصار على منبر رسول اللّه: أقيلوني و لست بخيركم و عليّ فيكم، و يزعم الخصم أنّه ندم على قبوله الخلافة. إذن، خلافته لم تصحّ بأدلّة عقليّة لأنّ العقل ليس بحجّة عند الخصم، و لم تكن بالنقل إذ لو كانت بالنقل لما وقع الخلاف (2)

ص: 101


1- القمر: 45.
2- أخشى أن يستدلّ الخصم بالصلاة مع وجود النقل فيها، فقد اختلفوا في كيفيّتها و شرائطها و غير ذلك، أقول: هذا الاختلاف لا بدّ منه في المسائل النظريّة و لا يقصد المؤلّف مثله إنّما يقصد الخلاف الواقع في الصحّة و البطلان و هو أصل المسألة و كذلك خلافة أبي بكر. (المترجم).

بين المهاجرين و الأنصار و مع ذلك فالخصم لا يدّعي نقلا يدلّ على النصّ عليه، فلم يبق في جعبتهم إلّا الاختيار، و كذلك تمّ فعلا حيث اختاره الصحابة، و لكنّه عزل نفسه و أخرجها من الخلافة و لم يأتنا خبر أكيد باختيارهم ثانية له أم لا.

و يظهر من كلامه أنّ خلافته باختيار الأمّة و يقول اللّه تعالى: ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (1) فسلب الاختيار من الأمّة.

و اعترف بأنّه ليس خيرهم فتناول الحكم جميع الصحابة فلم يستثن أحدا فيقتضي على هذا أن يكون كلّ صحابيّ خيرا منه و أكبر و أعلم، و على هذا القياس يكون مفضولا لكلّ صحابيّ، و الصحابة خير منه فيكون تقدّمه باطلا لا سيّما و قد قال: «و عليّ فيكم» أي أنّ الحقّ معه و الأهليّة له و فيه و هو حاضر لديكم فانتخبوه.

الدليل الثالث عشر: لمّا أنزلت سورة برائة و فيها نبذ العهد المشرك أعطاها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي بكر و بعثه إلى مكّة، و لمّا خرج أبو بكر من المدينة هبط الأمين جبرئيل على النبيّ و قال له: يا رسول اللّه، إنّ اللّه يقرئك السلام و يقول لك: لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك، فقال النبيّ: عليّ منّي و أنا من عليّ، فوجّهه على ناقته العضباء و كانت لرسول اللّه، و أمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه برائة و يقرأها على الناس بمكّة، و قال:

خيّره بالرواح معك أو الرجوع، و العبارة النبويّة هي: اركب يا فتى ناقتي العضباء و الحق أبا بكر فخذ برائة من يده و امض بها إلى مكّة فانبذ بها عهد المشركين إليهم،

ص: 102


1- القصص: 68.

و خيّر أبا بكر بين أن يسير مع ركابك أو يرجع إليّ ...

فلمّا وصل عليّ إلى أبي بكر خاف و أخذ يسأل عليّا عليه السّلام عن الحال، فقال: خير إن شاء اللّه، و أخبره بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا رجع إلى رسول اللّه، قال: يا رسول اللّه، إنّك جعلتني لأمر طالت الأعناق إليه، فلمّا توجّهت له رددتني عنه، هل نزلت فيّ آية؟ قال: لا و لكن الأمين هبط عليّ عن اللّه تعالى بأنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك، و عليّ منّي و لا يؤدّي عنّي إلّا عليّ عليه السّلام (1).

و كانت قوّة الإسلام بنبذ عهد المشركين، هذا و به ظهر صلاح حال المسلمين، و كان طلائع فتح مكّة، و هذا ملحق بمرتبة أمير المؤمنين العظيمة و مقاماته الرفيعة فإنّ اللّه لم ير من يليق لهذه المرتبة و هذه العزّة سواه، و شهدت بهذا كتب ثلاثة و سبعين مذهبا.

و وجه الاستدلال به أنّ سنة النبيّ باقية لا تتغيّر لا سيّما السنّة التي اعتضدت بنصّ إلهي فهي ليوم القيامة باقية: وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (2) فيكون على هذا عزل أبي بكر قائما إلى يوم القيامة، و ولاية أمير المؤمنين و توليته كذلك باقية إلى يوم القيامة، و العجب من قوم يرونه خليفة و اللّه تعالى لم يره أهلا لتبليغ آية إلى الخلق حتّى أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بواسطة جبرئيل أن يعز له و ينصب عليّا عليه السّلام لهذا العمل الكبير.

ص: 103


1- راجع للحديث الكتب التاليه للشيعة و العامّة: أحمد الرحماني الهمداني، الإمام عليّ، ص 183؛ الأحمدي الميانجي، مكاتيب الرسول 1: 264؛ البيهقي، السنن الكبرى 5: 111 و قد غيّروا في السياق و حرّفوا الكلام ليصونوا ماء وجه صدّيقهم، و يأبى اللّه إلّا إراقته؛ الزرندي الحنفي، نظم درر السمطين: 132؛ تفسير نور الثقلين 2: 179 و 181 و 184.
2- الإسراء: 77.

الدليل الرابع عشر: لمّا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالهجرة من مكّة، أمر عليّا أن ينام في فراشه، و الحكاية على النحو التالي:

ائتمرت قبائل قريش على قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهبط جبرئيل عليه و أخبره بما يعدّون له، و قال له: يا محمّد، إنّ هذه الجماعة تريد قتلك و استئصال شريعتك فاستخلف عليّا مكانك و مره بالنوم في فراشك، فأحضره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حاوره في الأمر، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: يا رسول اللّه، أو تنجو إن رقدت أنا في فراشك و تسلم نفسك أم لا؟ فقال رسول اللّه: نعم أسلم إن شاء اللّه إن نمت في فراشي، فنام عليّ عليه السّلام ليلا في فراشه و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله متخفّيا من مكّة و نادى مناديه بين أصحابه أن لا يخرج الليلة أحد من بيته من أصحابي، فرأى أبا بكر في طريقه قائما في الطريق، فقال: يا أبا بكر، ألم تسمع النداء؟ قال: نعم سمعته و لكنّي رأيت قريشا مختلفة الأهواء فحضرتهم، فاصطحبه معه لأنّ الصلاح في ذلك، و قال: ربّما تعرّض لضرب قريش فأخبرهم عنّي، و أرسل إلى عليّ عليه السّلام في اليوم الثالث أن أحمل أهلي؛ النساء و بناتي معك فإنّي لا أثق بغيرك و لا أعتمد على سواك في العالم كلّه لطهارتك و أمانتك و طيب نفسك.

فخرج عليّ عليه السّلام من بين الأعداء بعقل و رأي صائب و كفائة خلقيّة عظيمة، بحيث لم يلحق بأحد من الخارجين معه أيّ ضرر أو يشعر بخطر، و لم يظفر بهم أحد من الكفّار، و لم يجرأ أحد على التعرّض لهم في الطريق من قطّاعه لعلمهم بشجاعة عليّ عليه السّلام، و سار من مكّة ماشيا على قدميه مهاجرا حتّى بلغ المدينة و وصل إلى «قبا» و صحب رسول اللّه بأهله و عياله إلى المدينة بيوم واحد.

و لمّا كان عليّ في أوّل الهجرة خليفة رسول اللّه و القائم مقامه فلا بدّ أن يكون

ص: 104

خليفته أيضا في ختام الأمر لتبقى سنّة الرسول قائمة دون نسخ أو تحريف إلى يوم القيامة، و كان أبو بكر في تلك الآونة خادما، و شأنه شأن المكارين في خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان خليفته على أمّته عليّ عليه السّلام، و لم تكن لياقة ذلك لبشر سواه، و لمّا كان في هجرته الأولى من بلد إلى بلد على خلفته فينبغي أن يكون في هجرته الأخرى من الدار الفانية إلى الدار الباقية عليّ أيضا ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ (1).

الدليل الخامس عشر: لمّا فرغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من غزاة حنين أمره اللّه تعالى بأن يبادر إلى غزاة تبوك، و تبوك موضع في بلاد الروم، و جائه جبرئيل فأخبره بعدم الحرب هناك لذلك ما من حاجة إلى وجود عليّ في هذه الغزوة، لأنّهم سوف يصالحونك و ينالون رضاك، فأضمر المنافقون و أعراب المدينة الشرّ في أنفسهم و قالوا: سوف نغزوا المدينة و نغير عليها بعد خروجه و نأسر نساء المهاجرين و الأنصار و أطفالهم، و هذا يؤدّي إلى خراب الدين و تشويه سمعة الإسلام و تدنيس عرض أهله، و لمّا علم اللّه ما في قلوبهم أمر جبرئيل النبيّ بإبقاء عليّ في المدينة لحمايتها و استخلافه بها رعاية لحفظ دين الإسلام: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ (2) و أعلمهم اللّه بوجود جماعة من المنافقين كثيرة بينهم، فأراد سبحانه أن يميز المنافقين عن المؤمنين و تعرف المؤمنون نفاقهم.

و لمّا علم الحال من جبرئيل، أمر المنادي بتحريض المسلمين على القتال أيّاما، فأبى كثير منهم و تقاعسوا عن الجهاد، و بعضهم احتجّ بالحرّ الشديد و نضوج الثمر فلو أنّهم ذهبوا لتلفت الثمرة، و مع هذا فإنّ قوّتنا عاجزة عن قتال عدد مثل الروم،

ص: 105


1- ق: 29.
2- الحشر: 13.

فأقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّا مقامه و جعله نائبا عنه و خليفة، و خرج من المدينة في وضح النهار، فأراد المنافقون أن يأخذ عليّا معه ليخلو لهم الجوّ، و ينالوا مناهم، فأرجفوا به و قالوا: لم يتركه في المدينة حبّا به و إنّما استثقالا له، فلمّا بلغت مقالتهم أمير المؤمنين عليه السّلام خرج مسرعا ينحو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأخبره بما سمعه من ذوي النفاق، قائلا: يا رسول اللّه، إنّ المنافقين يزعمون أنّك إنّما خلّفتني استثقالا و مقتا، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ارجع يا أخي إلى مكانك فإنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي، و دار هجرتي، و قومي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي (1).

ص: 106


1- تخريج حديث المنزلة: نحن نعرض لبعض المصادر التي أخرجته بما يتيسّر لنا إيذانا منّا بأنّ العلماء كتبوا في هذا الحديث خاصّة سندا و دلالة الكتب التي بلغت العشرات، و نقتصر على كتب الخصوم: 1- النسائي، فضائل الصحابة، ص 13، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أخرجه بعدّة طرق. 2- صحيح مسلم 7: 120، ط دار الفكر- بيروت، في عدّة طرق. 3- سنن الترمذي 5: 302، ط دار الفكر- الثانية سنة 1403، بثلاث طرق. 4- المستدرك 2: 337، ط دار المعرف- بيروت، 1406، بطريق واحد، و 3: 109 بطريقين. 5- السنن الكبرى للبيهقي 9: 40، ط دار الفكر بيروت، بطريق واحد. 6- شرح النووي على صحيح مسلم 15: 174، ط دار الكتاب العربي- بيروت، الثانية 1407 ه، و قال النووي في التعقيب عليه: قال القاضي: هذا الحديث ممّا تعلّقت به الروافض و الإماميّة و سائر فرق الشيعة في أنّ الخلافة كانت لعليّ و أنّه وصّى له بها ... الخ. 7- مجمع الزوائد 9: 109، ط دار الكتب العلميّة، 1408، بخمس طرق. 8- فتح الباري 7: 60 و 9: 53، ط دار إحياء التراث العربي، رابعة. 9- الديباج على مسلم للسيوطي 5: 386، ط السعوديّة، دار ابن عفّان، 1416 أولى. 10- تحفة الأحوذي 10: 157، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1410 ه. 11- مسند أبي داود الطيالسيّ: 28، ط دار الحديث- بيروت، بثلاث طرق. 12- المصنّف للصنعاني 5: 406، تحقيق حبيب الرحمان الأعظمي، ط المجلس العلمي، و 11: 226. 13- مسند الحميدي 1: 38، تحقيق حبيب الرحمان الأعظمي، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1409 ه. 14- مسند ابن الجعد: 301، تحقيق البغوي و عامر أحمد حيدر، ط دار الكتب العلميّة- بيروت. 15- المصنّف لابن أبي شيبة 7: 496، تحقيق اللحّام، ط دار الفكر- بيروت، أولى 1409 ه، بخمس طرق، و في 8: 562 بطريق واحد. 16- مسند ابن راهويه 5: 37، ط المدينة المنوّرة، مكتب الإيمان، أولى 1412 ه، تحقيق الدكتور برد البلوسي. 17- الدورقي، مسند سعد بن أبي وقّاص: 51، تحقيق صبري، ط دار البشار الإسلاميّة- بيروت، أولى 1407، بستّ طرق. 18- ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث: 13، تحقيق الأسعردي، ط دار الكتب العلميّة- بيروت. 19- الضحّاك، الآحاد و المثاني 5: 172، تحقيق الجوابرة، ط دار الدراية، أولى 1411. 20- كتاب السنّة لعمرو بن عاصم: 551، تحقيق الألباني، ط المكتب الإسلامي- بيروت، الثالثة 1413، بعشرين طريقا. 21- مجلسان من إملاء النسائي: 83، تحقيق الأثري، ط دار ابن الجوزي- الدمّام، أولى 1415، اثنين و ثلاثين طريقا. 22- النسائي، خصائص أمير المؤمنين: 48، تحقيق الأميني، ط نينوى الحديثة، اثنين و عشرين طريقا. 23- مسند أبي يعلى 1: 286، تحقيق حسين سليم أسد، ط دار المأمون للتراث، بطريق واحد، و 2: 57 بستّ طرق، و 12: 310 بطريق واحد. و أعجب من كلّ عجيب عبد اللّه بن سليمان الأشعث في قصيدته حين روى الحديث المتواتر في عليّ، في أبي بكر و عمر، ص 43، تحقيق محمود محمّد الحدّاد، ط أولى 1408- دار طيبة الرياض، و الممسوخ هو كما يلي: و تسميتهما بالوزيرين بيّن روي من حديث ابن عبّاس و أبي سعيد و أبي ذر و ابن عمر و أبي أمامة و غيرهم بألفاظ، منها: لكلّ نبيّ وزيران، إنّ لي وزيرين، وزيراي، إنّ اللّه أيّدني بوزيرين أهل، أبو بكر و عمر منّي بمنزلة هارون من موسى، و انظر الكنز 11566 و رجعت الكنز فما وجدت شيئا من هذا، و تفاهة هذا القول لا تحتاج إلى ردّ فإنّه موضوع ليضاهوا به الحديث المتواتر الذي نحن بصدده. 24- جزء الحميري: 28، تحقيق زيد بن مجدد عليزئي، ط أولى، دار الطحاوي، حديث أكادمي- الرياض، 1413. 25- أمالي المحاملي، تأليف الحسين بن إسماعيل المحاملي، ص 209، ط أولى 1412، تحقيق الدكتور إبراهيم القيسي، بطريقين. 26- خيثمة بن سليمان الإطرابلسي، حديث خيثمة، ص 199، تحقيق الدكتور عمر عبد السلام التدمري، ط 1400 دار الكتاب العربي- بيروت. 27- صحيح ابن حبّان 15: 16، تحقيق شعيب الأرناؤط، ط مؤسسة الرسالة، الثانية 1414 ه، بأربع طرق. 28- المعجم الصغير للطبراني 2: 22، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، بطريقين. 29- الأوسط 2: 126 بطريق واحد، و 3: 139 بطريق واحد، و 5: 287 بطريق واحد، و 6: 83 بطريقين، و 7: 311 بطريق واحد، و 8: 40 بطريق احد، و الكتاب طبع دار الحرمين، تحقيق إبراهيم الحسيني. 30- الكبير 1: 146 بثلاث طرق، ط ثانية، مكتبة ابن تيميّة- القاهرة، مطبعة دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ، و 2: 247 بطريق واحد، و 4: 17 بطريقين، و 5: 203 بثلاث طرق، و 11: 61 بطريقين، و 12: 15 بطريقين، و 19: 291 بطريق واحد، و 23: 377 بطريق واحد، و 24: 147 بخمس طرق. 31- الحاكم النيسابوري ذكره في معرفة علوم الحديث من غير تخريج، ص 252، ط دار الآفاق الجديدة- بيروت، الرابعة 1400. 32- ابن عمرو النقّاش، فوائد العراقيين، ص 94، ط مكتبة القرآن- القاهرة، تحقيق مجدي السيّد إبراهيم، بطريق واحد. 33- ابن بشكوال، جزء بقي ابن مخلد، ص 126، تحقيق عبد القادر محمّد عطا صوفي، ط المدينة المنوّرة، مكتبة العلوم و الحكم، أولى 1413، بطريق واحد. 34- موارد الظمئان للهيثمي: 543، تحقيق محمّد عبد الرزاق حمزة، ط بيروت- دار الكتب العلميّة، من غير تاريخ، بطريق واحد. 35- كنز العمّال 5: 734 رقم 14241، تحقيق الحياني و صفوة السقاط، مؤسسة الرسالة- بيروت، لبنان، و 9: 167 رقم 25554، و 25555، و 11: 567. و هنا قاصمة الظهر، فقد روى الحديث في الشيخين و لفظه: أبو بكر و عمر منّي بمنزلة هارون من موسى ... و بالطبع هذا من الموضوعات التي طلبها معاوية من الوضّاعين لتناقض الحديث المتواتر حيث كتب إلى الآفاق أنّ الأحاديث في الشيخين كترت فانظروا لا تدعوا حديثا يروى في فضل ابن أبي طالب إلّا وجئتموني بمناقض له في الخلفاء، ذكر ذلك جلّ المؤرّخين، فلعن اللّه معاوية و من تابعه و شايعه و رضي عنه. و ص 599 الرقم 32881 و 32886، و ص 603 رقم 32915، و ص 606 رقم 32931- 32934، و ص 607 رقم 32935- 32937، و 13: 106 رقم 36345، و ص 124 رقم 36392 و 36395، و ص 151 رقم 36470، و ص 158 رقم 36488 و 36489، و ص 163 رقم 36495 و 36496، و ص 151 رقم 36470، و ص 158 رقم 36488 و 36489، و ص 163 رقم 36495 و 36496، و ص 172 رقم 36517، و ص 192 رقم 36572، و 16: 186 رقم 44216. و هذه الأرقام كلّها كتب و طرق أشار إليها المؤلّف بالأسماء و الأرقام و نحن اكتفينا بالثاني اختصارا. 36- الفتني، تذكرة الموضوعات: 8، ذكره و نفى عنه الوضع، و ذكره ص 97 و قال: متفق عليه، و في موضع آخر ذكر له زيادة و هي: لو كان لكنته. قال الخطيب: زيادة: و لو كان لكنته لا نعلم رواها إلّا ابن أبي الأزهر، و ذكره العجلوني في كشف الخفاء 2: 382 و قال: رواه أحمد و الشيخان و الترمذي و ابن ماجة عن سعد بن أبي وقّاص، و الكتاب مطبوع في دار الكتب العلميّة، ثانية 1408 ه. 37- نظام المتناثر من الحديث المتواتر، للشيخ محمّد جعفر الكتالي، ص 195، قال: و قد تتبّع ابن عساكر طرقه في جزء فبلغ عدد الصحابة فيه نيّفا و عشرين، و في شرح الرسالة للشيخ جسوس رحمه اللّه ما نصّه: و حديث «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» متواتر، جاء عن نيّف و عشرين صحابيّا، و استودعها ابن عساكر في نحو عشرين ورقة، انتهى، طب الكتاب في مصر، دار الكتب السلفيّة، تحقيق شرف حجازي، طبعة ثانية. 38- حسن بن عليّ السقّاف، إرغام المبتدع الغبي: 59، و قال: رواه البخاري من طريق عبيد اللّه بن موسى العبسي ... و الكتاب مؤلّفه: الغماري الحسني، و محقّقه السقّاف، ط دار الإمام النووي، ط ثانية 1412. 39- إرواء الغليل للألباني، ذكره و قال: و هذا إسناد صحيح على شرط البخاري و قد أخرجه، و في ج 8 من فتح الباري ص 86، و ج 5 ص 11، و قال في ج 8 ص 127: أخرجه البخاري 2: 436 و 3: 177، فما من حاجة إلى أن نذكر البخاري هنا في من أخرجه بعد ذكر الألباني له، و الكتب التي خرّجت الحديث كثيرة جدّا نكتفي منها بهذا، و الحمد للّه.

ص: 107

ص: 108

ص: 109

و هذا نصّ صريح في استخلافه، لأنّ هارون كان خليفة موسى عليهما السّلام، و الآيات شاهد على ذلك: قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (1)، و قال اللّه تعالى في جوابه: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (2)، و لو عاش هارون بعد موسى لما جاز عزله؛ لا بعد وفاته و لا في حال حياته، لأنّ دعاء موسى كان على الإطلاق، و أجابه اللّه جوابا على العموم: أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى.

و بناءا على هذا فقد ثبت النصّ على إمامة عليّ عليه السّلام و الحجّة قائمة في فعل الرسول و سنّته إلى يوم القيامة.

الدليل السادس عشر: لمّا حجّ النبيّ حجّه الوداع و أقبل قافلا منها ينحو المدينة وصل إلى موضع يدعى غدير خمّ و هو واد قد اجتمعت فيه مياه السيول، و لم يكن في ذلك الموضع مكان للنزول، و كان الجوّ حارّا جدّا، فنزل جبرئيل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذه الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (3).

ص: 110


1- طه: 25- 32.
2- طه: 36.
3- المائدة: 67.

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على خوف من المخالفين و المنافقين من الصحابة، لأنهم أعلنوا عداوتهم لعليّ عليه السّلام و كان وجلا منهم، فوعد اللّه نبيّه بالحفظ منهم و من شرّهم، و كان الموضع مفترقا للقبائل إلى ديارهم و مساكنهم و بواديهم، فنزل النبيّ و أمر المسلمين بالنزول، و أمر مناديا ينادي: «الصلاة جامعة»، فداروا بالنبيّ و صنعوا له منبرا من حدوج الإبل، فرقاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و رفع عليّا معه، و خطبهم خطبة بليغة، و لمّا فرغ منها و فيها الحمد و الثناء، قال:

يا قوم، إنّي دعيت و يوشك أن أجيب، و قدّمني خفوق، من بين أظهركم، و إنّي مخلّف فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، ثمّ رفع صوته عاليا و قال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: اللهمّ بلى، فقال لهم على النسق و رفع بضبع عليّ حتّى بان بياض إبطيهما، و قال: فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، ثمّ نزل من المنبر و ذهب إلى الخيمة المعدّة لذلك، و كان الحرّ شديدا إلى درجة لفّ القوم أرجلهم بأرديتهم، و لاذوا حول المنبر.

و لمّا دخل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الخيمة أذّن المؤذّن للصلاة، فصلّى بهم النبيّ جماعة، و أمر بنصب خيمة أخرى إلى جانب خيمته و أجلس عليّا فيها، و أمر من كان حاضرا هناك بالسلام عليه بالإمامة، و أن يبايعوه بإمرة المؤمنين فبايعه المهاجرون و الأنصار كلّهم، و من بينهم عمر بن الخطّاب، فحيّاه و هنّئه و قال فيما قال: بخ بخ يا علي، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة إلى يوم القيامة، و لمّا بايعه الرجال أمر النساء ببيعته، و كانت على النحو التالي: أمر بإناء ملي ء بالماء و وضع عليّ يده بالماء، و وضع الإناء على باب الخيمة فتأتي النساء للسلام عليه ثمّ يضعن أيديهنّ بالطشت و يذهبن، و كان هذا هو شكل بيعتهنّ.

ص: 111

و استأذن حسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا رسول اللّه، ائذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضيه تعالى، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا حسان، على اسم اللّه، فقام حسان واقفا على قدميه و دار به الناس و اجتمعوا حوله، فأنشد أبياتا من الشعر مطابقة لمقتضى الحال، و لمّا فرغ من الإنشاد قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تزال يا حسان مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك، و لمّا كان النبيّ يعلم ما يصير إليه أمر حسان جعل الدعاء مشروطا بلفظ «ما نصرتنا» و لم يجعله مطلقا، و مثله القول في نساء النبيّ لمّا علم اللّه مصير بعضهنّ جعل القول فيهنّ مشروطا لا مطلقا: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ (1).

و لمّا علم طهارة أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و عصمتهم و ثباتهم على الإيمان و الصلاحيّة، جعل آية مثوبتهم مطلقة و ليست مشروطة، كما قال تعالى: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً* إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً* فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً* وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (2).

الدليل السابع عشر: قال اللّه تعالى: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ (3)، يقول اللّه تعالى: الرحم أولى من غيره بمقام رحمه، و أمير المؤمنين عليه السّلام حاز الصفات الثلاث: فهو رحم و هو مهاجر و هو مؤمن:

و أمّا الدليل على إيمانه فسورة هل أتى و أمثالها، و الحديث المشهور الذي رواه

ص: 112


1- الأحزاب: 32.
2- الدهر: 8- 12.
3- الأحزاب: 6.

المخالف و المؤالف عن عليّ عليه السّلام قال: شكوت إلى رسول اللّه حسد الناس لي، فقال:

أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنّة أنا و أنت و الحسن و الحسين (1).

و الحديث المشهور أيضا: اشتاقت الجنّة إلى ثلاث: عليّ و عمّار و سلمان (2).

و عندنا أنّ أبا بكر لا يستحقّها لأنّه ليس مهاجرا كما قيل إن شاء اللّه، و العبّاس و إن كان رحما إلّا أنّه ليس مهاجرا لأنّه كان من طلقاء بدر.

و لمّا اجتمع في عليّ عليه السّلام الإيمان و الهجرة و الرحم كان أولى بمقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غيره وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (3).

الدليل الثامن عشر: قال اللّه تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ (4) أنزل اللّه هذه الآية يوم المباهلة، و أبناءنا هنا الحسنان عليهما السّلام، و نساءنا فاطمة عليها السّلام بإجماع المفسّرين و اتفاق العالمين، و لم يكن أبو بكر و عمر حاضرين حين المباهلة، و أنفسنا لم يكن أحد غير عليّ عليه السّلام، و لا يعقل أن يكون الداعي و المدعوّ واحدا، فلزم أن يكون أنفسنا غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. ثمّ إنّ العطف يدلّ على

ص: 113


1- الحسكاني، شواهد التنزيل 1: 185، تحقيق محمودي، ط أولى، مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة، و وافق سياق المؤلّف تفسير القرطبي 16: 22، ط بيروت- دار إحياء التراث العربي، 1405، كنز العمّال 13: 639 بحذف الصدر الأوّل من الرواية، المستدرك 2: 151 مثله، و كنز العمّال أيضا 12: 98. (المترجم).
2- في كنز العمّال 13: 296: تشتاق الجنّة إلى أربعة: إلى عليّ و أبي ذر و عمّار و المقداد.
3- المائدة: 44.
4- آل عمران: 61.

المغايرة ثمّ لا يجوز الفصل طبقا لقواعد اللغة بين الشي ء و نفسه بأجنبيّ (1)، فتبيّن من هذا أنّ أنفسنا غير الداعي، و لقد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا علي، نفسك نفسي، و دمك دمي، و لحمك لحمي (2).

و لمّا ثبت كون عليّ عليه السّلام نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تكون خلافة أبي بكر و عمر باطلة لوجود نفس رسول اللّه بينهم، و يحرم تقدّمهما عليه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (3).

الدليل التاسع عشر: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (4). لم يؤثر عن أحد منذ خلق اللّه آدم إلى يومنا هذا أنّه أعطى الزكاة و هو راكع سوى عليّ عليه السّلام، و الحكاية كالتالي:

كان عليّ عليه السّلام يصلّي في مسجد رسول اللّه، فجاء سائل و الإمام راكع، فسأله، فأشار إليه باصبعه إلى خاتم في بنصره.

قال جار اللّه العلّامة: كان من عادة عليّ عليه السّلام أن يتختّم باليمين، و ما قيل من أنّ

ص: 114


1- ينبغي إيضاح ذلك للقاري، فقوله: العطف يدلّ على المغايرة، ناظر إلى أنّ في «ندعو» ضمير يعود على النبيّ أي «هو» و أنفسنا معطوف عليه كلفظ «نسائنا» فلا بدّ من كون المعطوف «أنفسنا» مغايرا للمعطوف عليه «هو» و هذه سنن العطف، أضف إلى ذلك لو قلنا بأنّ أنفسنا مع ضمير «هو» في قوله «ندعو» واحد لكنّا فصّلنا بينه و بين نفسه بأجنبيّ و هو «أبناءنا و نسائنا» و هذا لا يجوز في قواعد اللغة. (المترجم).
2- اقتصر على الجزء الأخير في مناظرات الإمامة لعبد اللّه حسن، و أحال على: لسان الميزان 3: 247، مجمع الزوائد 9: 111، ينابيع المودّة: 50 الباب السادس، نظم درر السمطين: 79، فرائد السمطين 1: 150 ح 113 و ص 332 ح 257.
3- الحجرات: 1.
4- المائدة: 55.

الصلاة سنّة و الصدقة سنّة و لو قيل بأنّهما فرضان فلا يتداخلان أيضا لأنّهما متغايران، فالصلاة تغاير الزكاة.

و انتزع السائل الخاتم من اصبعه.

و في الآية إشاره إلى أنّه المتصرّف في أمور الدين و القيّم على الإسلام، و من كان بهذه الصفة أعني متصرّفا في أمور الدين بنصّ من اللّه و قيّما على عباد اللّه لا بدّ أن يكون إماما و وليّا على الناس.

الدليل العشرون: روي عن طريق المخالفين و الشيعة هذه الروايه المشهورة و هي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطى الراية يوم خيبر لأبي بكر، ثمّ أعطاها ثانية لعمر، و في الثالثة أعطاها لعمرو ابن عاص (1) فعادوا بها منهزمين، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: لأعطينّ الراية غدا رجلا يفتح اللّه على يديه، يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، فتطاولت إليها أعناق الصحابة، فلمّا أصبح الصباح نادى منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أين عليّ بن أبي طالب؟ قالوا: يا رسول اللّه، يشتكي عينيه، فبعث خلفه، فلمّا حضر وضع من ريقه في عينيه فعافاه اللّه حالا، فأعطاه الراية (2)، فقال عليّ عليه السّلام: أقاتلهم حتّى

ص: 115


1- لم يكن يومها ابن العاص قد أسلم، فقد كان إسلامه سنة ثمان قبل الفتح بستّة أشهر، و لعلّ المؤلّف استند إلى رواية تقول: إنّه أسلم عام خيبر، و لو صحّ فإنّ ذلك لا يكون إلّا بعد الواقعة لأنّ العام لم يسمّ باسم الواقعة حتّى وقعت، و على كلا التقديرين فإنّ إعطائه الراية غير صحيح. راجع: أسد الغابة 4: 116. (المترجم).
2- ذخائر العقبى: 73؛ فضائل الصحابة للنسائي: 16؛ مسند أحمد 1: 99 و 185، 4: 52؛ صحيح البخاري 5: 76؛ صحيح مسلم 5: 195، 7: 120 و 122؛ سنن ابن ماجة: 45؛ و سنن الترمذي 5: 302؛ السنن الكبرى 6: 362 و 9: 107 و 131؛ شرح النووي على صحيح مسلم 1: 141؛ مجمع الزوائد 6: 150 و 9: 123 بخمس طرق؛ فتح الباري 7: 365؛ المصنّف لابن أبي شيبة 8: 520، بطريقين؛ الدورقي، مسند سعد، ص 51، و كتب أخرى يضيق المجال عن حصرها أعرضنا عنها. (المترجم).

يكونوا مثلنا؟! فقال: انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ثمّ أدعهم إلى الإسلام، و أخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللّه، فو اللّه أن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم.

و هذا الحديث أجمع عليه أهل القبلة، و هو دليل على عزل أبي بكر و عمر و نصب عليّ عليه السّلام، و غضب النبيّ عليهما، و حبّ اللّه لعليّ الصادق الصدّيق.

الدليل الواحد و العشرون: كانت خلافة أبي بكر بالبيعة و هي باطلة؛ لأنّ الإمامة لو كانت بالبيعة أو لو كانت البيعة تدلّ على صحّتها لكان بنو أميّة بأجمعهم أئمّة حتّى لعين اللعناء يزيد بن معاوية كان إماما حقّا، و من الممكن أن يبايع كافرا و لصّا جماعة فكيف تعقد بيعتهما، بل كيف يكون المبايع (بفتح الياء) خليفة على الأمّة ببيعة جماعة معدودة له، إذ أنّ هذه الجماعة بايعت عن أنفسها لا عن الآخرين، فلو أنكرها غيرهم لبطلت لأنّها لم تكن بأمر اللّه و رسوله.

ثمّ إنّ أبا بكر قال: «أقيلوني و لست بخيركم» فلو كان منصوصا عليه لكان قوله هذا كفرا لأنّه ردّ على اللّه و رسوله (1)، و لمّا كانت البيعة باطلة و أبو بكر تمّت له الخلافة بالبيعة فتكون خلافته باطلة أيضا، و ببطلانها تثبت خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام.

ص: 116


1- أقول: قول أبي بكر هذا لا يستلزم كفره لأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام ردّ البيعة أيضا بعد مصرع عثمان لعنه اللّه، فقال: «دعوني و التمسوا غيري» الخ، و لكن يثبت كفر أبي بكر بادّعائه الإمامة فشأنه شأن مسيلمة الكذّاب، فهو أبو بكر الكذّاب لعنه اللّه. (المترجم).

الدليل الثاني و العشرون: أوصى أبو بكر إلى عمر و جعلها عمر شورى (1)، و عثمان قتل من دون وصيّة، فإن كان أبو بكر محقّا فالثاني و الثالث مبطلان، و إن كان محقّين فالأوّل مبطل، و على المكلّف الاقتداء بهم، و الاقتداء بأيّ واحد منهم باطل لأنّه مناقض للاقتداء بالآخر لأنّهم اختلفوا، فيكون الثلاثة مبطلين، و الحقّ مع عليّ لأنّ الثلاثة كلّهم خالفوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و هذا الدليل بعينه يبطل مذهبهم لأنّ أبا حنيفة اختلف مع باقي الأئمّة في مسائل كثيرة، و مثله الشافعيّ، و تصحيح قول أيّ واحد من الأئمّة إبطال لقول الآخر و لحجّته، و لا ترجيح لأحدهم على الآخر فيكون جميعهم على الباطل، و الأئمّة الإثني عشر عليهم السّلام قول أوّلهم هو نفسه قول آخرهم، و لم يظهر خلاف واحد بينهم على الإطلاق.

فما كان من عند اللّه استحال أن يختلف، و ما كان من عند غيره فالاختلاف فيه كبير، كما قال اللّه تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (2).

الدليل الثالث و العشرون: روى أنس بن مالك قال: أهدت أمّ أيمن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طائرا مشويّا، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك ليأكل معي هذا الطير،

ص: 117


1- الشورى مجرّد ادّعاء و الهدف منها إيصال عثمان إلى الحكم من أجل دخول بني أميّة عالم الإسلام من موضع القوّة لمسخه، و قد بيّنّا ذلك في كتابنا «جهاد كربلاء و الإنسان» ما يزال مخطوطا نسأل اللّه الإعانة على طبعه، آمين. (المترجم).
2- النساء: 82.

فأرسلت عائشة و حفصة و كلّ واحد من النساء إلى آبائهنّ و قبائلهنّ ليحضروا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

يقول أنس: فجاء عليّ ثلاث مرّات و لكنّي أصرفه فأقول: رسول اللّه عنك مشغول، فيرجع من حيث أتى، إلى أن كانت الثلاثة فدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، ما أبطأك عنّي؟ فقال: يا رسول اللّه، هذه هي المرّة الثالثة آتي و يصرفني أنس، فقال لأنس: لم فعلت هذا؟ فقال: سمعت دعاءك يا رسول اللّه فأحببت أن يكون رجلا من الأنصار، فقال النبيّ: إنّ الرجل يحبّ قومه.

و هذه رواية لا خلاف فيها من أحد، و لمّا كان عليّ أحبّ الخلق إلى اللّه بإجماع المسلمين فيلزم تقديمه كما أنّ رسول اللّه أحبّ الخلق إلى اللّه (1).

الدليل الرابع و العشرون: كانت إمامة الرجلين باختيار من الصحابة، و الاختيار باطل؛ لأنّ الإمامة ركن

ص: 118


1- تخريج الحديث من كتب الخصوم: الحاكم النيسابوري، المستدرك 2: 132، ط دار المعرفة- بيروت، تحقيق المرعشلي. الإسكافي، المعيار و الموازنة: 324، تحقيق المحمودي. أمالي المحاملي، للحسين بن إسماعيل المحاملي: 443، ط دار ابن القيّم، الأردن، أولى 1412، تحقيق الدكتور إبراهيم القيسي. الطبرانيّ، المعجم الأوسط 2: 207، تحقيق إبراهيم الحسيني، ط دار الحرمين، و أيضا 6: 90 و 7: 267 و 9: 146. عبد اللّه بن عدي، الكامل 2: 252، تحقيق سهيل زكار، دار الفكر- بيروت، ثالثة 1409 ه. الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 9: 376، تحقيق عطاء، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1417 ه. ابن عساكر، تاريخ دمشق 42: 250 و 257، تحقيق علي شيري، ط دار الفكر- بيروت. ابن الأثير، أسد الغابة 4: 30، ط طهران- إسماعيليان. و الإسكافي ليس من خصومنا و إن لم يكن على مذهبنا.

عظيم في الدين تعادل النبوّة و هي تقابل الرسالة كلّها، كما قال اللّه تعالى: فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (1) فكيف يجوز أن توضع معظم أمور الدين باختيار الخلق لأنّه لو جاز اختيار الإمام جاز اختيار النبيّ أيضا، فإذا أجابونا بأنّ الرسول تصدّقه المعجزة أجبناهم بأنّ الإمام تصدّقه العصمة و النّص.

من جهة أخرى فإنّ اللّه تعالى نفى الاختيار عن الخلق حيث قال: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (2).

و من جهة ثالثة فإنّ موسى مع ما هو عليه من رتبة النبوّة اختار سبعين شخصا من قومه: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا (3) فاستحقّ جميعهم العذاب و الصاعقة بما قالوا: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ (4) و الغاية من تكرار هذه القصّة هو تنبيه الغافلين ليعلموا أنّ الناس ليس لهم اختيار مع اللّه تعالى في أمور الدين و الشريعة و إنّما عليهم الامتثال فحسب في الأمر و النهي، كما قال تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (5)، و إذا بطل الاختيار لم يبق إلّا النصّ و العصمة و هما متحقّقان في أمير المؤمنين و أولاده عليهم السّلام.

الدليل الخامس و العشرون: الحديث المتلقّى بالقبول من الأمّة جميعا: مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح؛ من ركب فيها نجى، و من تخلّف عنها غرق و هوى (6).

ص: 119


1- المائدة: 67.
2- القصص: 68.
3- الأعراف: 155.
4- النساء: 153.
5- الحشر: 7.
6- سبق تخريج هذا الحديث. (المترجم).

و الغرض من هذا الحديث لزوم التمسّك بأهل البيت عليهم السّلام؛ فمن تمسّك بولايتهم نحبى، و من بعد عنهم هلك و هوى كقوم نوح، و هذا نصّ صريح على أنّ الشيعة من أهل الجنّة، من هنا حيث قال النبيّ: يا علي، شيعتك هم الفائزون (1).

و لمّا كان التمسّك بهم سبب النجاة كان التخلّي عنهم سببا للهلاك فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (2).

الدليل السادس و العشرون: أجمعت الأمّة على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، أنظروني (كذا) تخلفوني فيهما.

يقول زيد بن أرقم: نزل رسول اللّه على ماء بين مكّة و المدينة، فخطب الناس، و حمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: يا أيّها الناس، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجبت، و أنا تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه فيه الهدى و النور، فخذوا كتاب اللّه و استمسكوا به، و أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي (3)، الحديث.

و يلزم بناءا على هذا ترك غيرهم.

ص: 120


1- مشكاة الأنوار: 151، بحار الأنوار 65: 7 و 110: 12، النمازي في مستدرك سفينة البحار 10: 570، بشارة المصطفى: 42 و 256، الأبطحي في الشيعة في أحاديث الفريقين: 175.
2- يونس: 32.
3- لا يحتاج هذا الحديث إلى تخريج لشهرته بل لتواتره، و قد تركنا حديث الغدير أيضا من دون تخريج لأنّ حديثا كتب فيه مولانا الأميني كتاب الغدير لا يحتاج إلى تخريج، فمن أراده فليرجع إليه هناك.

الدليل السابع و العشرون: عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش (1).

ص: 121


1- تخريج الحديث: كثر مخرجوا هذا الحديث من الحفّاظ، و ممّن أخرجه البخاري و مسلم، و من ثمّ كثرت سياقاته، و نحن نذكر بعض من أخرجه و ندع الباقين لكثرتهم. 1- مسند أحمد 5: 90 و 93 و 98 بثلاث طرق، و ص 99 و 100 و 101 و 106، ط دار صادر- بيروت. 2- صحيح مسلم 6: 3، بثلاث طرق، ط دار الفكر- بيروت. كامل البهائي ج 1 121 الباب الخامس في دلائل حجة الله على خلق الله أمير المؤمنين علي و أولاده الطاهرين صلوات الله عليه و عليهم أجمعين ..... ص : 92 3- سنن أبي داود 2: 309، ط دار الفكر- بيروت، أولى 1410 ه، تحقيق سعيد محمّد اللحّام، و ذكر الحديث النووي في شرحه على صحيح مسلم و تخبّط في توجيه الحديث و سار على غير هدى، «إنّها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور»، راجع 2: 201، ط دار الكتاب العربي، الثانية 1407 ه، و فعل مثله ابن حجر في فتح الباري 13: 181 و خبط خبط عشواء، و ذكر حيرة قومه و تخبّطهم بهذا الحديث. 4- تحفة الأحوذي 6: 391، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1410. 5- عون المعبود 11: 344، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، ثانية 1415، و 12: 260. 6- مسند أبي داود الطيالسي: 105، ط دار الحديث- بيروت. 7- الضحّاك، الآحاد و المثاني 3: 126، تحقيق الجوابره، ط دار الدراية، أولى 1411. 8- عمرو بن عاصم، كتاب السنّة، ص 518، تحقيق الألباني، ط المكتب الإسلامي- بيروت، ط ثالثة 1413. 9- صحيح ابن حبّان 15: 44، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ط مؤسسة الرسالة، الثانية 1414 ه. 10- المعجم الكبير 2: 195 و 232، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، ط مكتبة ابن تيميّة- القاهرة، دار إحياء التراث العربي، الثانية. 11- كفايه الخطيب: 95، تحقيق أحمد عمر هاشم، ط دار الكتاب العربي- بيروت، 1405 ه. 12- كنز العمّال 11: 246 رقم 31398، و 12: 32 رقم 33850 و 33851، تحقيق بكري حياتي و السقاط، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان. 13- المناوي، فيض القدير 2: 582 و 3: 679، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1415 ه، تحقيق أحمد عبد السلام. 14- تفسير ابن كثير 2: 34، ط دار المعرفة- بيروت، 1412. و قال ابن كثير: و في هذا الحديث دلالة على أنّه لا بدّ من وجوب اثني عشر خليفة عادل، و ليسوا هم بأئمّة الشيعة الإثني عشر، فإنّ كثيرا من أولئك لم يكن لهم من الأمر شي ء (3: 312). و أقول لابن كثير: أيّها الأموي الخبيث، أخطأت أستك الحفرة. 15- نعيم بن حمّاد المروزي، كتاب الفتن: 274، تحقيق الدكتور سهيل زكار، ط دار الفكر- بيروت، 1414. 16- البداية النهاية لابن كثير 6: 221 و 9: 229، تحقيق علي شيري، ط دار إحياء التراث العربي- بيروت، أولى 1408. أقول: إنّ عبارة: «كلّهم من قريش» ليست من النبيّ بل و إنّما وضعها الوضّاعون، و إنّما قال النبيّ: «كلّهم من بني هاشم» و الشاهد على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ الأئمّة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، و لا تصلح الولاة من غيرهم. (نهج البلاغة، فضل أهل البيت، ص 301) و كأنّه قالها عليه السّلام على شكل الاستنكار على من قال: الأئمّة من قريش.

و روي: لا يزال أمر الناس ماضيا ما ولّاهم اثنا عشر رجلا كلّهم من قريش.

و من قال: الأئمّة اثنا عشر، لا يريد بهم إلّا عليّا و أولاده، و لزم كونهم اثني عشر بناءا على قول الخصم كما ذكره في المصابيح.

قالت أمّ عطيّة: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جيشا فيهم عليّ، فسمعته و هو رافع يديه يقول: اللهمّ لا تمتني حتّى تريني عليّا (1).

و روى البراء بن عازب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنت منّي و أنا منك (2).

ص: 122


1- رواه الخوارزميّ في مناقبه: 70- 71 ح 46، تحقيق المحمودي، ط مؤسسة نشر الإسلامي، الثانية 1411 ه عن أمّ عطيّة، و الطبريّ في ذخائر العقبى: 94، و قال: أخرجه الترمذي، و قال: حسن غريب، ط 1356 مصوّرة عن نسخة دار الكتب المصريّة و دار الكتب التيموريّة، مكتبة القدسي.
2- ابن البطريق، العمدة، ص 201، تحقيق جامعة المدرّسين- قم، ط أولى 1407 مؤسسة النشر الإسلاميّ، النسائي، خصائص أمير المؤمنين: 88، ط مكتبة نينوى، تحقيق هادي الأميني، مجمع النورين: 242، تنبيه الغافلين: 143، صحيفة الحسين: 252.

و روى البراء أيضا قال: رأيت النبيّ و الحسن بن عليّ على عاتقه، يقول: اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه، و قال للحسين: اللهمّ إنّي أحبّه و أحبّ من يحبّه.

قال ابن زعرة (1): رأيت النبيّ على منبره و الحسن بن عليّ إلى جنبه و هو يقبل على الناس مرّة و عليه أخرى، و هو يقول: إنّ ابني هذا سيّد، و لعلّ اللّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.

و قال ابن عمر: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الحسن و الحسين هما ريحانتاي من الدنيا.

و قال زيد بن أرقم: أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على فاطمة و الحسن و الحسين، فقال:

أنا حرب لمن حاربهم و سلم لمن سالمهم.

عن ابن ربيعة: إنّ العبّاس دخل على رسول اللّه مغضبا و أنا عنده، فقال: ما أغضبك يا عبّاس؟ قال: ما لنا و لقريش! إذا تلاقوهم تلاقوا بوجوه مستبشرة، و إذا لقونا لقونا بغير ذلك. فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى احمرّ وجهه ثمّ قال: و الذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتّى يحبّكم للّه و لرسول اللّه. ثمّ قال: أيّها الناس، من آذى عمّي فقد آذاني (2).

ص: 123


1- لم يتيسّر لي معرفة ابن زعرة هذا و لعلّه تصحيف من ابن زهرة أو ابن عمر.
2- الكوفي، مناقب أمير المؤمنين 2: 122، تحقيق المحمودي، أولى 1412 ه، ط م مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة؛ القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار 2: 493، تحقيق الجلالي، ط مؤسسة النشر الإسلامي؛ ذخائر العقبى: 9 بسياق مختلف، و قال: خرّجه الترمذي و قال: حسن صحيح، و خرّجه أحمد و قال بعد قوله: حتّى احمرّ وجهه و حتّى استدرّ عرق بين عينيه؛ النسائي، فضائل الصحابة: 22، المسند 1: 207 و 208، و 4: 165، بطريقين؛ الترمذي 5: 318؛ المستدرك 3: 333 بطريقين، و ص 568 و فيه: و أتاه ابن عبّاس فقال: إنّي انتهيت الخ، و 4: 75. و مجمع الزوائد 1: 88 و 9: 170؛ مصنّف ابن أبي شيبة 7: 518؛ السنن الكبرى 5: 51؛ الطبرانيّ في المعجم الصغير 1: 239 و 2: 96؛ المعجم الأوسط 5: 52 و 7: 373؛ و المعجم الكبير 20: 285 بطريقين؛ كنز العمّال 11: 700 رقم 33395، و 12: 41 رقم 33906 و 33907، و ص 104 رقم 34202، و 13: 642 رقم 37623؛ المناوي في فيض القدير 1: 255 و قال: رواه الطبراني بإسناد صحيح. و ضعّف الألباني قوله: من آذى عمّي في ضعيف الترمذي: 506؛ تفسير ابن كثير 4: 122 بطريقين؛ السيوطي، الدرّ المنثور 6: 7 ط الفتح- جدّة، أولى 1365؛ تاريخ بغداد 4: 146؛ ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق 26: 300 بأربع طرق؛ أسد الغابة 3: 110 و 331؛ المزّي في تهذيب الكمال 14: 228، تحقيق بشارة عوّاد معروف، ط مؤسسة الرسالة، الثانية 1413 ه، و 33: 341؛ الذهبي في سير أعلام النبلاء 2: 88 و 12: 156، تحقيق شعيب الأرناؤوط و صالح السم، ط مؤسسة الرسالة، التاسعة 1413؛ الإصابة 4: 317، تحقيق عادل أحمد عبّود، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1415 ه. ابن شبّه النميري، تاريخ المدينة 2: 639، تحقيق فهيم شلتوت، ط القدس- قم، دار الفكر- بيروت، بطريقين؛ الطبري، المنتخب من ذيل المذيّل: 49 ط مؤسسة الأعلمي- بيروت؛ ابن كثير في البداية و النهاية 2: 315؛ و في السيرة النبويّة 1: 192 تحقيق مصطفى عبد الواحد، ط أولى 1396، دار المعرفة- بيروت؛ سبيل الهدى و الرشاد 10: 476 و 11: 4 و 445؛ القندوزي في ينابيع المودّة 1: 54 و 2: 110 و 261 و 475، ط دار الأسوة، تحقيق أشرف الحسيني، أولى 1416 ه.

و هذه الأحاديث بأجمعها مرويّة من طريق المخالفين، و ترشد الخصم إلى خلافة أمير المؤمنين.

الدليل الثامن و العشرون: روى البراء بن عازب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ: أنت منّي و أنا منك.

و قال عمران بن حصين: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ عليّا منّي و أنا منه و هو وليّ كلّ مؤمن بعدي.

و روى زيد بن أرقم عن النبيّ أنّه قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و ولاية

ص: 124

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عامّة على جميع الخلق فيلزم أن تكون لعليّ مثل هذه الولاية.

قال حبيش بن جنادة: قال رسول اللّه: عليّ منّي و أنا من عليّ، و لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ (1).

و بناءا على هذا لم يحدث لأبي بكر و عمر تأدية الشريعة في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو يقدموا على أحد، و لم ينوبوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحكم يبلغونه الناس.

و لمّا آخى بين المهاجرين و الأنصار قرن كلّ واحد إلى نظبره و الشبه إلى شبهه مثل أبي بكر و عمر، و طلحة و الزبير، و أبي ذر و سلمان، و ترك عليّا وحده، فقال:

يا رسول اللّه، لم تركتني من غير أخ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنت أخي في الدنيا و الآخرة (2).

و قيل: قال العبّاس: يا رسول اللّه، لم تركت عليّا؟ فقال: ما أخّرته إلّا لنفسي.

و عن عليّ عليه السّلام: كنت إذا سألت من رسول اللّه أعطاني، و إذا سكتّ ابتدأني (3).

ص: 125


1- هذه الأحاديث لتواترها لا تحتاج إلى تخريج لأنّها موجودة في جلّ كتبهم.
2- مناقب ابن شهر آشوب 2: 33: آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين أصحابه، فجاء عليّ تدمع عيناه، فقال: يا رسول اللّه، آخيت بين أصحابك و لم تؤاخ بيني و بين أحد؟! فقال النبيّ: أنت أخي في الدنيا و الآخرة. و ذكر الحاكم في المستدرك نحوه 3: 14؛ و نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: 94 من مخطوطات مكتبة الإمام أمير المؤمنين العامّة، ط أولى 1377 ه؛ و تنبيه الغافلين لابن كرامة: 73 ط مركز الغدير للدراسات، المطبعة محمّد، ط أولى، تحقيق السيّد تحسين آل شبيب، 1420 ه و قال في الهامش: رواه الحاكم في 3: 414، و ابن ماجة في صحيحه: 12، و النسائي في سننه 3: 18، و المتقي في كنز العمّال 9: 394.
3- ذخائر العقبى: 94، و قال: أخرجه الترمذي و قال: حديث حسن؛ سنن الترمذي 5: 301؛ المستدرك 3: 125؛ تحفة الأحوذي 10: 154؛ المعيار و الموازنة: 300؛ مصنّف ابن أبي شيبة 7: 495؛ السنن الكبرى للنسائي 5: 142؛ خصائص أمير المؤمنين له أيضا: 112؛ كنز العمّال 13: 120 رقم 36387، و 16: 137 رقم 44166؛ المناوي في فيض القدير 4: 470؛ العلوي في دفع الارتياب عن حديث الباب: 15. شواهد التنزيل 1: 48؛ تفسير ابن كثير 3: 523؛ ابن سعد في الطبقات الكبرى 2: 338 ط دار صادر- بيروت؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 42: 377 و 378 و 386؛ أسد الغابة 4: 29؛ ابن النجّار البغدادي، ذيل تاريخ بغداد 5: 74، تحقيق عطاء، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، ط أولى 1417 ه؛ تهذيب الكمال 15: 373؛ تهذيب ابن حجر 5: 297 ط دار الفكر، أولى 1404؛ أنساب الأشراف: 98، تحقيق المحمودي، ط مؤسسة الأعلمي- بيروت، أولى 1394؛ ينابيع المودّة 2: 184 و 394.

و عن جابر: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعا عليّا يوم الطائف فانتجاه ...

و لمّا قدم المدينة و كان عدد أصحابه قليلا و حين بنى المسجد فتحوا من بيوتهم عليه أبوابا ليكونوا يدا واحدة و يعلموا أخبار بعضهم بعضا، فلمّا قوي الإسلام هبط جبرئيل و أمره بسدّ الأبواب إلّا باب عليّ، و قال النبيّ: لا يحلّ لأحد يستطرقه غيري و غيرك.

و روى البراء بن عازب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لعليّ عليه السّلام: أنت منّي و أنا منك.

و من هذه الأخبار التي رويتها من كتب المخالفين نستنبط بأنّ عليّا نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و حكمه حكمه، و كما أنّ التقدّم على النبيّ ضلالة فالتقدّم عليه ضلالة أيضا.

الدليل التاسع و العشرون: عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من سرّه أن يحيا حياتي و يموت يموتي و يدخل جنّة عدن غرسها ربّي فليوالي عليّا بعدي، و ليقتد بأولاده من بعده فإنّهم خلقوا من طينتي، رزقوا علما و فهما، فويل للمكذّبين

ص: 126

بفضلهم من أمّتي، لا ينالهم شفاعتي (1).

و عن فاطمة الكبرى قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ ولد أنثى ينتمون إلى عصبتهم إلّا ولد فاطمة عليها السّلام فأنا وليّهم و أنا عصبتهم (2).

و هذه الأخبار تدلّ على إمامة عليّ و أولاده.

الدليل الثلاثون: إنّ اللّه تعالى لم يجعل أحدا قسيمه سوى عليّ و أولاده، كما قال تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (3) فجعل الأقسام ثلاثة: اللّه و رسوله و ذووا القربى و هم عليّ و أولاده، و باقي الأصنام من يتامى و مساكين و أبناء السبيل و هم الذين يجتاحهم حاجة في الغربة و إن كانوا في وطنهم أغنياء بشرط كونهم من بني هاشم، فلم يستحقّ المساهمة مع اللّه و رسوله إلّا عليّ و أولاده، و هذا أعلى المناصب و دالّ على فضلهم، و تقديم المفضول على الفاضل قبيح على كلّ حال.

الدليل الواحد و الثلاثون: لم يوجب اللّه تعالى محبّة أحد من الناس على التعيين إلّا محبّة عليّ و أهل بيته،

ص: 127


1- مجموعة الرسائل للصافي 2: 69 و قال: أخرجه أبو نعيم الاصفهاني عن ابن عبّاس؛ لسان الميزان 2: 34.
2- مجمع الزوائد 4: 224 و 9: 173؛ مسند أبي يعلى 12: 109؛ المعجم الكبير 3: 44 و 22: 423؛ الجامع الصغير 2: 278؛ كنز العمّال 12: 98 رقم 34168، و ص 114 رقم 34253، و ص 116 رقم 34266؛ تذكرة الموضوعات: 98؛ فيض القدير 5: 22؛ كشف الخفاء 2: 119 و 120؛ ضعفاء العقيلي 3: 223؛ تاريخ بغداد 11: 283؛ تاريخ دمشق 36: 313 و 70: 14؛ تهذيب الكمال 19: 483؛ ميزان الاعتدال 3: 36 ط دار المعرفة- بيروت، تحقيق البجاري.
3- الأنفال: 41.

و هم القربى الذين عناهم اللّه سبحانه بقوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1)، و الدليل على هذا هو الحديث المروي من طريق المخالف و المؤالف أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له.

الا و من مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير.

ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها.

ألا و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة اللّه.

ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا.

ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة (2).

و غير خفيّ على العقلاء أنّهم غصبوا فدكا من الزهراء و سلبوا العترة الخمس، و أفتوى بإباحة دماء عترة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هذا بالضرورة ليس من المحبّة بل من العداوة.

الدليل الثاني و الثلاثون: عن البراء بن عازب، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: يا علي، قل: اللهمّ اجعل لي

ص: 128


1- الشورى: 23.
2- تخريج الحديث: تفسير القرطبي 16: 23، قال القرطبي: قلت: ذكر الزمخشري هذا الخبر بأطول من هذا و ساق الحديث بطوله؛ الثعالبي 5: 157 ط دار إحياء التراث العربي، أولى 1418، تحقيق أبو سنة، معوض، عبد الموجود؛ المقريزي، فضل آل البيت: 128، تحقيق عاشور؛ ينابيع المودّة 2: 333 و 3: 139.

عندك عهدا، و في قلوب المؤمنين ودّا (مودّة- المؤلّف)، فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (1). (2)

عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (3) فيوشع بن نون سبق إلى موسى بن عمران، و عليّ بن أبي طالب سبق إلى رسول اللّه.

و عن ابن عبّاس قال: نظر النبيّ إلى عليّ عليه السّلام، فقال: أنت سيّد في الدنيا و سيّد في الآخرة، حبيبك حبيبي و حبيبي حبيب اللّه، و عدوّك عدوّي و عدوّي عدوّ اللّه، و الويل لمن أبغضك بعدي (4).

و عن أبي سعيد الخدري، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، أنت معك يوم القيامة عصى من عصى الجنّة تذود بها المنافقين عن حوضي (5).

عن ابن عبّاس: ما كان أحد أعلم بسرّ رسول اللّه و جهره من عليّ بن أبي طالب.

عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام: ما بعث رسول اللّه عليّا قطّ إلّا أعطاه الراية (6).

هذا الأخبار بمجموعها جائت من طريق المخالفين و هي دليل إمامته و برهان على خلافته و على إبطال عمل الآخرين.

ص: 129


1- مريم: 96.
2- تفسير فرات الكوفيّ: 250 تحقيق محمّد كاظم، الطبعة الثانية، ط المطبعة التابعة لوزارة الثقافة و الإرشاد الإسلامي، أولى 1410؛ شواهد التنزيل للحسكاني 1: 469.
3- الواقعة: 10 و 11.
4- المستدرك 3: 128 و قال: صحيح على شرط الشيخين.
5- مجمع الزوائد 9: 135؛ المعجم الصغير 2: 89؛ ميزان الاعتدال 2: 178، تحقيق البجاري، ط دار المعرفة- بيروت، أولى 1382 ه؛ تهذيب التهذيب 4: 249؛ جواهر المطالب 1: 233؛ ينابيع المودّة 1: 396 و 2: 375 و 462.
6- مجمع الزوائد 9: 125؛ المعجم الكبير 2: 79 بطريقين و 3: 80.

الدليل الثالث و الثلاثون: عن ابن عبّاس، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنا دار الحكمة و عليّ بابها، و من أراد الدار فليأتها من بابها (1).

و عنه عليه الصلاة و السلام و آله أنّه قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها (2).

و الغرض من هذا الحديث هو الدلالة إلى أنّ من أراد دخول الشريعة فعليه الإيمان أوّلا بولاية عليّ و أهل بيته عليهم السّلام، و منه قوله تعالى: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ

ص: 130


1- الترمذي 5: 301؛ تحفة الأحوذي 10: 155؛ مسند أبي يعلى 2: 58؛ الجامع الصغير 1: 415؛ كنز العمّال 11: 600 رقم 32889 و 13: 147 رقم 36462؛ فيض القدير 3: 60 و قال تعقيبا على الحديث: فناهيك بهذه المرتبة ما أسناها، و هذه المنقبة ما أعلاها، و من زعم أنّ المراد بقوله: «و عليّ بابها» أنّه مرتفع من العلوّ و هو الارتفاع فقد تنحّل لغرضه الفاسد بما لا يجزاه نفعا و لا يسمنه و لا يغنيه. أقول: إذن لما ذا تقدّمون عليه ابن آوى و أخويه؟! العجلوني في كشف الخفاء 1: 203، و نقل عن أبي سعيد العلائي قوله: الصواب أنّه حسن باعتبار تعدّد طرقه لا صحيح و لا ضعيف فضلا عن أن يكون موضوعا، هذا بعد أن نقل فيه أقوالا مختلفة. ردّ اعتبار الجامع الصغير: 15، تحقيق أحمد درويش، ط دار الباز شيكاگو؛ فتح الملك العلي: 45، ط مكتبة أمير المؤمنين، تحقيق محمّد هادي الأميني، و للكتاب طبعة أخرى بمطبعة السعادة بمصر 1389 ه و حقّقه النقشبندي؛ دفع الارتياب: 3 و 9 و 10 و 11 و 14 و 21 و 43 و 52 و 53؛ كتاب المجروحين 2: 94؛ تاريخ دمشق 42: 378؛ ابن الجوزي في الموضوعات 1: 349 رواه عن طريق عليّ بخمس طرق، و عن ابن عبّاس بعشر طرق، و عن جابر بطريق واحد، ثمّ قال: هذا حديث لا يصحّ من جميع الوجوه و قد فنّد القماري دعوى من أنكره بكتاب مستقلّ سمّاه: فتح الملك العلي، و قد أتى فيه بالعجب و العجاب، و ألقم ابن الجوزي و نظرائه ألف حجر و حجر. و قال الذهبيّ في ميزان الاعتدال 3: 668 بعد أن عزاه إلى الترمذي: فما أدري من وضعه؟ البدآية و النهاية 7: 375؛ سبل الهدى و الرشاد 1: 475 و 11: 292؛ ينابيع المودّة 1: 218 و 2: 9 و 393.
2- راجع: رفع الارتياب: 3، و اقرأ كتاب فتح الملك العلي تجزم بتوتر الحديث إن شاء اللّه.

أَبْوابِها (1) و معنى البيوت هنا أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الباب عليّ عليه السّلام و إلّا فيكون الكلام لغوا إذ لا فائدة من ذكر إتيان البيوت من أبوابها إلّا بهذا التأويل.

الدليل الرابع و الثلاثون: قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2)، و طاعة الرسول واجبة بالإجماع مطلقا فينبغي أن يكون حكم المعطوف و هم أولوا الأمر حكم المعطوف عليه و هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فطاعتهم مطلقا و على كلّ حال واجبة، و لا يصحّ أن يأمر اللّه بطاعة غير المعصوم الذي يصدر منه الخطأ و الذنب لأنّه ربّما أمر المطيع بالمعصية، و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (3).

و إذا جاز الخطأ و الذنب على أولي الأمر كان أبو بكر و عمر و خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و سعد بن سعيد و مروان بن الحكم و أبو سفيان و معاوية و يزيد كلّهم من جنس واحد لا فرق بينهم؛ فوجبت العصمة على هذا لأولي الأمر و هي ليست لأحد إلّا لعليّ و أولاده عليهم السّلام.

ص: 131


1- البقرة: 189.
2- النساء: 59.
3- مسند أحمد 1: 131 و 409 و 5: 66؛ مجمع الزوائد 5: 226 و 9: 177؛ شرح سنن النسائي للسيوطي 3: 17، ط دار إحياء التراث العربي- بيروت، تحقيق عبد الفتاح، الثانية 1406؛ تحفة الأحوذي 3: 193 و 5: 298؛ مصنّف الصنعاني 2: 383؛ مصنّف ابن أبي شيبة 7: 738؛ الحارث ابن أبي أسامة في بغية الباحث: 190، تحقيق السعدني، ط دار الطلايع؛ المعجم الأوسط 4: 182 و 321؛ المعجم الكبير 18: 165 و 170 و 177 و 185 و 229؛ الدارقطنيّ في سؤالات حمزة: 76، ط مكتبة المعارف- الرياض، أولى 1404، تحقيق موفّق بن عبد اللّه؛ مسند شهاب 2: 55.

الدليل الخامس و الثلاثون: ذكر أحمد سقي صاحب «مناشير الصحابة» أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، و إلى نوح في تقواه، و إلى إبراهيم في خلّته، و إلى موسى في هيبته، و إلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام (1). أي إنّ هذه الأوصاف اجتمعت على الوجه الأكمل في الأنبياء و هي مجتمعة جميعها في عليّ عليه السّلام وحده، و الحقيقة أنّ ما تفرّق في الأنبياء منها اجتمع في عليّ، فهو بناءا على هذا أفضل من الأنبياء، و أبو بكر الذي أسلم عن شرك كيف يقال بأنّه أفضل من الأنبياء، و الاتفاق حاصل من المخالفين أنّ أبا بكر ليست له درجة أيّ واحد من الأنبياء.

و بناءا على هذا الحديث يكون عليّ عليه السّلام أفضل من الأنبياء، و كما أنّ موسى و عيسى و إبراهيم لهم التقدّم على رعاياهم في زمانهم و لا ينبغي لأحد من أتباعهم التقدّم عليهم فكذلك عليّ عليه السّلام و هو أفضلهم لا يحقّ لأحد التقدّم عليه في الإمامة و العمران من رعيّته.

و أمّا تعطيل إمامته و عزله عن تولّي شئونات الولاية فهو نظير تعطيل هارون و انزوائه أيّام ظهور السامري و عبدة العجل، و كما كان هارن يفتقر إلى القوّة التي تعينه على الخروج فعليّ مثله تماما، و لمّا نال القوّة في زمان معاوية أظهر نفسه و خرج إلى حقّه.

ص: 132


1- ابن حجر في لسان الميزان 6: 24؛ الخوارزمي في المناقب: 83 و 311، ط مؤسسة النشر الإسلاميّ، ط ثانية، تحقيق مالك المحمودي؛ الحلّي في كشف اليقين: 52 و أحال على البغوي في الصحاح، و أحال على البيهقي في فضائل الصحابة؛ أيضا الصافي في مجموعة الرسائل 2: 42.

الدليل السادس و الثلاثون: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليّ خير البشر، من أبى فقد كفر (1). و من حيث كونه خير البشر لا يجوز لأبي بكر التقدّم عليه، و إن كان تغلّب بالقوّة وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (2).

الدليل السابع و الثلاثون: و إنّما احتاجت الرعيّة إلى الإمام لسلب العصمة عنهم، فلو جاز اقتراف الذنب على الإمام و سلبت العصمة عنه أيضا لاحتاج إلى إمام فوقه يرشده و يهديه و هكذا يحصل التسلسل. و الخلفاء الذين سبقوا الإمام إلى الحكم ليسوا من أهل العصمة باتفاق المسلمين، و الإمام عقلا و شرعا هو من امتنع عليه الخطأ و الذنب، و حينئذ لا بدّ من كونه عليّا؛ لأنّ من قال بعصمة الإمام لم يعد عليّا و أولاده فثبتت لهم العصمة.

الدليل الثامن و الثلاثون: قال اللّه تعالى بعد ذكره الأنبياء و أولادهم و ذرّيّاتهم: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ

ص: 133


1- خيثمة بن سليمان الاطرابلسي في حديث خيثمة: 201، تحقيق الدكتور عمر التدمري، ط دار الكتاب العربي- بيروت، 1400؛ ابن عدي في الكامل 4: 10، ط دار الفكر- بيروت، الثالثة، تحقيق سهيل زكار؛ تاريخ بغداد 7: 433؛ ابن عساكر في تاريخ دمشق 42: 372 بخمس طرق؛ ميزان الاعتدال 2: 404؛ سير أعلام النبلاء 8: 205؛ سبط ابن العجمي في الكشف الحثيث: 94 و اقتصر على الجزء الأوّل من الحديث، و في ص 243 ذكر الحديث كلّه، تحقيق صبحي السامرائي، مكتبة النهضة العربيّة، مطبعة عالم الكتاب، أولى 1407؛ لسان الميزان 2: 252 و 3: 268؛ البدآية و النهاية 7: 395؛ ينابيع المودّة 2: 78 و 273 و 274.
2- الشعراء: 227.

بَعْضٍ (1) فأعطاهم ربّهم الولاية و الإمامة، فلو كان أبو بكر على حقّ لكانت الخلافة لأولاده، و يقال مثل ذلك في عمر، و لمنحهم اللّه ذرّيّة صالحة، و لكن لمّا كانت وصاياهم إلى الأجنبيّ لا إلى ذراريهم دلّ ذلك على نيلهم الحكم بالقهر و الغلبة، و بالغصب لا بحكم الشريعة و إذن من صاحبها.

أمّا عليّ عليه السّلام فكان من عترة النبيّ و أقربائه، و الحسن و الحسين إلى قائم آل محمّد من ذرّيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وارثيه؛ فالإمامة حقّهم بقول اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله.

الدليل التاسع و الثلاثون: روى المخالف و المؤالف عن مسروق، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: فاطمة بضعة منّي، يسوئني من سائها، و يسرّني من سرّها (2).

و روى حذيفة قال: ذهبت إلى خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال لي: إنّ هذا ملك لم ينزل الأرض قطّ قبل هذه الليلة، استأذن ربّه أن يسلّم عليّ و يبشّرني بأنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، و أنّ الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة (3).

ص: 134


1- آل عمران: 34.
2- هذا الحديث مستفيض مشهور متواتر، رواه جمع من الحفّاظ لا يعدّ و لا يحصى، و نحن نقتصر على الصحيحين فى م نقله لإمكان العثور عليه للقارئ الكريم في جلّ كتب الحديث، و نحبّ أن نلفت الأذهان إلى أنّ محمّد بن إسماعيل البخاري تصرّف في الحديث كما هي عادته فحرّف منه ما علم فيه إدانة لإماميه، أمّا مسلم فقد روى الحديث بلفظ «يؤذيني». صحيح البخاري 4: 210 و 212 و 6: 158، و صحيح مسلم 7: 141 بطريقين، و في الثاني: يؤذيني ما آذاها. و إنّما تجنّب البخاري كلمة «يؤذيني» فلأنّ مؤذي النبيّ كافر، و القوم آذوا ابنته فآذوه فأدّى ذلك إلى كفرهم.
3- سنن الترمذي 5: 326؛ مجمع الزوائد 9: 183 و لم يذكر في الحديث فاطمة عليها السّلام؛ المعجم الأوسط 6: 238 و اقتصر على ذكر الحسنين عليهما السّلام، و مثله المعجم الكبير 3: 37 و 38 و 22: 403 و فيه: و أمّهما سيّدة نساء أهل الجنّة؛ كنز العمّال 12: 96 رقم 34158 و 13: 640 رقم 37617 و ص 665 رقم 37695 و ليس فيه ذكر الزهراء عليها السّلام؛ عليّ بن معصوم في الدرجات الرفيعة: 285، ط مكتبة بصيرتي- قم، الثانية 1397؛ ابن عدي في الكامل 5: 368؛ تاريخ دمشق 13: 208؛ سير أعلام النبلاء 2: 127 و قال: سنده حسن، و 3: 252؛ البداية و النهاية 8: 225؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 161 و 162.

و بناءا على هذه الأحاديث فإنّ من آذى فاطمة فقد آذى أباها و من آذاه فقد آذى اللّه، و من آذاه لا يستحقّ خلافة رسول اللّه و النيابة عنه.

و كذلك عليّ هو من أهل الجنّة و صادق القول فإذا كانت فاطمة أوذيت لأنّ أبا بكر غصبها فدكا و خالف كتاب اللّه و تمسّك بحديث مفترى فإنّه ردّ شهادة عليّ عليه السّلام و لم يعتن بحديث «فاطمة بضعة منّي» و لا بآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ (1)، و لمّا ثبتت عصمتها فكيف يردّ المذنب المخطأ شهادة المعصوم، و هذا الفعل من أعظم الخطيئات، و هذا ممّا يقول به الخصم أيضا، و من كانت حاله على هذه الكيفيّة فلن يستحقّ الخلافة أبدا، و لمّا بطلت خلافة الأوّل بإيذائه فاطمة ثبتت إمامة عليّ عليه السّلام لئلّا يخرج الحقّ من الأمّة.

الدليل الأربعون: اعلم بأنّه ما من نبيّ ينتقل من هذه الدنيا إلى الرفيق الأعلى إلّا و يظهر من بعده الظلمة و يدّعون مقامه و خلافته، و يستأصلون شأفة أهل بيته، و الدليل على ذلك من وجوه:

الوجه الأوّل: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كائن في أمّتي ما في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّه بالقذّة (2).

ص: 135


1- الأحزاب: 33.
2- المستدرك 4: 469 بسياق يختلف عن سياق المؤلّف و المعنى واحد؛ مسند أبي داود الطيالسي: 153، نشر دار الحديث- بيروت؛ مصنّف ابن أبي شيبة 8: 636؛ شرح ابن أبي الحديد 9: 286؛ كنز العمّال 11: 230 رقم 32335؛ ينابيع المودّة 3: 283 بسياق يتفق مع المؤلّف و يزيد عليه.

و معناه انّ ما يحدث في أمّتي حدث مثله في بني إسرائيل، و قال اللّه تعالى:

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (1) يعني يغيّرون كلام اللّه كما فعل اليهود و النصارى فإنّ أتباع النبيّ يفعلون ذلك.

و اتفق أهل السير و التاريخ بأنّ صفوراء زوج موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام بنت شعيب طغت و بغت و خرجت على يوشع بن نون وصيّ موسى كما فعلت عائشة بصحبة طلحة و الزبير بخروجها على أمير المؤمنين عليه السّلام، و تغلّب يوشع وصيّ موسى عليها و قتل الطاغين و أسر صفوراء بنت شعيب.

الوجه الثاني: قال اللّه تعالى: وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ (2) و يسمّى جماعة رهبانا و هم الذين يفصلون أنفسهم عن المجتمع و يضربون عرض الصحراء، و هذا يعتبر بدعة ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ بل هم الذين ابتدعوا هذه الحياة الخارجة على نظام الشرع (3).

الوجه الثالث: اتفق أهل القبلة على أنّ موسى و عيسى أخبرا أمّتهم بمبعث النبيّ و شرح أحواله كما أخبروها بكلّ نبيّ يأتي بعدهما، و لكنّ الأمّة لم تصخ سمعها إليهما و ركبت رأسها و أصرّت على كفرها و ضلالها سنين طوالا، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كائن في أمّتي ما كان في بني إسرائيل، فينبغي أن يجري بعد النبيّ ما جرى بعد موسى

ص: 136


1- النساء: 46.
2- الحديد: 27.
3- لم يتيسّر لي و يا للأسف معرفة ارتباط هذا الوجه بما نحن فيه إلّا أن يقصد المؤلّف أنّ شورى الخلافة ما هي إلّا بدعة لم يأت بها شرع و شأنها شأن الرهبانيّة، و هذا توجيه لا أثق به.

و عيسى، و قال تعالى: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (1) و لكن النصارى ردّوا و قوله و أصرّوا على كفرهم و زعموا أنّهم قائمون على مستحكم الدين.

الوجه الرابع: و قال اللّه تعالى في سورة الأعراف بعد ذكره الأنبياء: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ ... الآية (2)، و هذا الوضع بعينه حدث فيما بين الصحابة لأنّهم جميعا يقرؤون الكتاب و يعلمون و يتركون العمل، و الخلف هو الذي يزعم أنّه خليفة و نائب لأحد و لكنّه كاذب و مفتري و خائن و مدغل في الدين و يستحقّ الذمّ على ذلك.

الوجه الخامس: قال اللّه تعالى في سورة مريم بعد ذكره الأنبياء: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (3) كما تركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثة أيّام في بيته لم يصلّوا عليه و ذهبوا إلى سقيفة بني ساعدة ينازعون على السلطان، و كانوا يرون الصلاة عليه تفوّت الفرصة عليهم، و تذهب الإمامة إلى بني هاشم أَضاعُوا الصَّلاةَ الصلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ استبدّوا بأمور الخلافة.

الوجه السادس: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (4) لقد عرف الصحابة مناقب عليّ و فاطمة و أولادهما و رحمهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكنّهم أنكروها.

ص: 137


1- الصفّ: 6.
2- الأعراف: 169.
3- مريم: 59.
4- الصف: 5.

الوجه السابع: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (1) و ليس الغرض من بيان هذا الأمر الحكاية بل العبرة و التذكير، و الدليل عليه يقوله تعالى: فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ (2) و قال اللّه تعالى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ (3)، و قال تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ (4)؛ فما فعله الرسل في الزمن الغابر و فعلته أممهم معهم تفعله هذه الأمّة مع رسولها، و كما أصرّت تلك الطوائف على كفرها آلاف السنين فقد يجري على هذه الأمّة ما جرى على تلك و يحصل لها ما حصل لأولئك الماضين من الإصرار على الكفر.

الوجه الثامن: قال اللّه تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (5) تركوا اللّه ورائهم ظهريّا كما اتّخذت تلك الطائفة رهبانهم آلهة من دون اللّه، و طائفة الإسلام المشمولة لهذه العبر اتخذوا مشايخهم و بعض الصحابة آلهة، و الدليل على ذلك سجودهم لمشايخهم و قبلاتهم لأعتابهم، و اتخاذهم كفر القوم المحض طاعة و عبادة، و يعدّون من تمسّك بأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الأشرار، و حاشاهم، و يعيبونهم بذلك، و العجب من قوم ينسبون الفسق إلى خالقهم و كذلك الشرّ، و يزنّون الأنبياء و يرمونهم بالمعاصي و الإجرام، و المشركون الذين أسلموا بعد الشيخوخة يرونهم الخلفاء و القدوة لأهل العالم، و يعوّلون عليهم في النجاة من عذاب اللّه، و يأملون في الخلاص بهم، و حاشا للّه أن تكون الحال كما يرون، و الأمر كما يظنّون و يتخيّلون.

ص: 138


1- البقرة: 89.
2- يوسف: 111.
3- البقرة: 118.
4- الأحقاف: 9.
5- التوبة: 31.

و يروننا نحن الذين نعبد ربّا عادلا منزّها سبحانه و تعالى عمّا يقولون، و نثبت العصمة للأنبياء من المهد إلى اللحد، و نقتدي بالإمام المعصوم من أهل بيت النبوّة و الإمامة، أقول: يروننا ضالّين، و يسمّوننا روافض، و عندنا هم الروافض و النواصب و الخوارج و اليزيديّون و المروانيّون و القدريّة و الجبريّة كما مرّ ذلك سالفا.

و هذه الوجوه بجملتها أفاضها الحقّ على قلبي و لم أقتبسها من كتاب مع كثير من الدلائل المذكورة في الكتاب و قد سلفت.

الفصل الأوّل في من ظلم العترة و سبّهم

ذكر الحافظ إسماعيل الاصفهاني المحدّث في قصص الصحابة عن سعيد بن جبير أنّه قال: بلغ ابن عبّاس أنّ قوما يقعون في عليّ عليه السّلام فقال لابنه عليّ بن عبد اللّه: خذ بيدي فأذهب بي إليهم، فأخذ بيده حتّى أتى إليهم، فقال: أيّكم السابّ للّه؟

فقالوا: سبحان اللّه، من يسبّ اللّه فقد أشرك.

فقال: أيّكم السابّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قالوا: من يسبّ رسول اللّه فقد كفر.

فقال: أيّكم السابّ عليّا؟ قالوا: قد كان ذلك.

قال: فأشهد لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من سبّ عليّا فقد سبّني و من سبّني فقد سبّ اللّه، و من سبّ اللّه أكبّه اللّه على وجهه في النار (1).

ص: 139


1- تخريج الحديث: مسند أحمد 6: 323 و اكتفى منه بالجزء الأوّل؛ المستدرك 3: 121 بطريقين و في الثاني: و من سبّني فقد سبّ اللّه؛ مجمع الزوائد 9: 130 و قال: رجاله رجال الصحيح؛ السنن الكبرى 5: 133 بطريقين: الأولى عن بريدة، و الثانية عن أمّ سلمة؛ خصائص أمير المؤمنين له أيضا: 99 بطريقين؛ جزء الحميري، لعليّ بن محمّد الحميري: 28، ط دار الطحاوي- الرياض، أولى 1412، تحقيق الزبير ... و فيه: فقد سبّني و من سبّني سبّه اللّه. نظم درر السمطين: 105؛ الجامع الصغير 2: 608؛ كنز العمّال 11: 573 و فيه: من سبّ اللّه عذّبه اللّه، رقم 32713، و ص 602 رقم 32903؛ فيض القدير 6: 190؛ تاريخ دمشق لابن عساكر 14: 132 و 30: 179؛ و 42: 266 و 267 و الحديث هنا موقوف على أمّ سلمة، و ص 533؛ البداية و النهاية 7: 391؛ الموفّق الخوارزمي في المناقب: 137 و سياقه يتفق مع المؤلّف، و ص 149؛ و ابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه السّلام: 65، تحقيق المحمودي، ط مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة، ثالثة 1414؛ ابن الدمشقيّ في جواهر المطالب 1: 165، تحقيق المحمودي، ط دانش- قم المقدّسة 1415 ه؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 250 و 294. ينابيع المودّة 1: 152 و 2: 102 و 156 بطريقين، و ص 274 و 278 و فيه رواية سعيد بن جبير و ص 395.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حرّمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي، و قاتلهم و المعين لهم، أولئك لا خلاق لهم و ما لهم من نصيب (1).

و روى العلماء عن الأئمّة قولهم: الشكّ فينا كفر.

و روي عن الأئمّة عليهم السّلام، قولهم: نحن أهل بيت لا يقاس بالناس، ما عادانا بيت إلّا خرب، و ما نبح علينا كلب إلّا جرب، لعن اللّه الداخل فينا من غير نسب، و الخارج عنّا من غير سبب.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «المنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا» (2)، معنى ذلك أنّ من

ص: 140


1- تفسير القرطبي 16: 22 و الحديث سياقه مختلف إلّا في الجزء الأوّل؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 9؛ ينابيع المودّة 3: 139؛ تنبيه الغافلين: 103، تحقيق السيّد تحسين آل شبيب، أولى 1420 ه، ط مركز الغدير للدراسات الإسلاميّة.
2- الشيخ الصدوق في كمال الدين: 14؛ الطبريّ الشيعيّ في نوادر المعجزات: 5؛ المفيد في الاعتقادات: 104؛ عليّ بن يونس العامليّ في الصراط المستقيم 2: 232؛ بحار الأنوار 8: 366 و 27: 61 و 29: 31؛ حجازي خسروشاهي في درر الأخبار: 104.

أنكر الإمام صاحب الزمان كان كمن أنكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و اتفقت كتب أهل السنّة على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ يوم غدير خم (1):

اللهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، و العن من ظلمه.

و ذكروا أيضا أنّ عليّا عليه السّلام قال: و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة إنّه لعهد النبيّ الأمّيّ إليّ أن لا يحبّني إلّا مؤمن و لا يبغضني إلّا منافق (2).

و المعروف عن جابر أنّه كان يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: مروا أولادكم بحبّ عليّ بن أبي طالب.

و قال الإمام زين العابدين:

و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده

ص: 141


1- الحديث متواتر و قد أخرجه جلّ الحفّاظ من أهل السنّة فلا حاجة إلى تجشّم عناء البحث في الكتب.
2- تخريجه: الغارات لإبراهيم بن محمّد الثقفي 2: 946، تحقيق المحدّث، ط بهمن؛ شرح الأخبار 1: 436؛ كنز الفوائد للكراجكيّ: 225، ط مكتبة مصطفوي، ط ثانية 1410؛ مناقب ابن شهر آشوب 3: 9؛ ابن البطريق في العمدة: 218؛ ذخائر العقبى: 91 و قال: أخرجه مسلم؛ صحيح مسلم 1: 61، ط دار الفكر- بيروت؛ شرح النووي على صحيح مسلم 2: 64؛ فتح الباري لابن حجر 7: 58، ط دار المعرفة- بيروت، الثانية. نظم درر السمطين: 102؛ النسائي في خصائص أمير المؤمنين: 104؛ ينابيع المودّة 2: 392؛ محمّد بن عقيل في النصائح الكافية: 93، ط دار الثقافة- قم المقدّسة، أولى 1412؛ محمّد محمّديان في حياة أمير المؤمنين عن لسانه 1: 229، ط مؤسسة النشر الإسلامي- قم، أولى 1417. و الحديث له شواهد منها قول ابن عبّاس: كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه ببغضهم عليّا، أو كما قال.

الفصل الثاني في مناقب عليّ عليه السّلام على سبيل الإجمال

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خلق الناس من شجر شتّى و خلقت أنا و عليّ من شجرة واحدة (1).

و قال أيضا: خلقت أنا و عليّ من نور واحد (2).

عليّ بن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو هاشميّ من جهة الأم- و الأب أيضا (المترجم)- و أبو طالب ابن هاشم و أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، و لأقرباء النبيّ الصلحاء من المناقب أعلاها، و هو صهر النبيّ على ابنة مثل فاطمة عليها السّلام سيّدة نساء أهل الجنّة،

ص: 142


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 78 و في الحديث زيادة على ما ذكره المؤلّف؛ أيضا الصدوق في الخصال: 21؛ الغارات 1: 21؛ الكوفي في مناقب أمير المؤمنين 1: 476 و 480؛ النعمانيّ في شرح الأخبار 2: 587؛ الاحتجاج 1: 208؛ ابن طاووس في إقبال الأعمال 1: 506؛ الصراط المستقيم 1: 228؛ بحار الأنوار 21: 280 و 22: 278، و راجع الأجزاء التالية من البحار: 35 و 36 و 37 و 40 و 99؛ المستدرك 2: 241 و قال: حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه؛ مجمع الزوائد 9: 100 و صحّفت كلمة «علي» إلى «ليع» خبثا منهم و تعمية، ط دار الكتب العلميّة، ط 1408 ه. المعجم الوسيط 4: 263؛ نظم درر السمطين: 79؛ كنز العمّال 11: 608 رقم 32944؛ شواهد التنزيل 1: 375 و 376 بطريقين، و ص 554؛ تفسير القرطبي 9: 283؛ الدرّ المنثور 4: 44؛ ضعفاء العقيلي 2: 212، تحقيق الدكتور عبد المعطي أمين القلعجي، ط دار الكتب العلميّة- بيروت، ثانية 1418 ه؛ تاريخ دمشق 42: 64؛ ميزان الاعتدال 2: 306؛ عليّ بن محمّد العلوي في المجدي في أنساب الطالبيين: 320 و فيه: «و ابنا أبي طالب» مكان «علي»، تحقيق الدامغاني، ط سيّد الشهداء، أولى 1409 مكتبة المرعشي؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 296؛ الحسيني في تأويل الآيات 1: 228، ط مطبعة أمير قم، تحقيق مدرسة الإمام المهدي، أولى 1407؛ السيّد مرتضى الأبطحي في الشيعة في أحاديث الفريقين: 158.
2- علل الشرايع 1: 134؛ ينابيع المودّة 1: 422 و 2: 307 و 308؛ الشيعة في أحاديث الفريقين: 210.

و أب للحسن و الحسين سيّدي شباب أهل الجنّة، و للإمام زين العابدين إلى محمّد المهدي صاحب الزمان صلوات اللّه عليهم أجمعين، و أولاده سادات المشرق و المغرب، و نقبائهما، و هو وارث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خليفته، و مصداق قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1).

و كان رسول اللّه في بيت أبيه منذ عهد الطفولة حين فقد أبويه و بلغ الثامنة و الثلاثين، و بذل أبواه للنبيّ من الودّ و الرعاية و النصرة بالنفس و النفيس، و تعهّداه بالحبّ و الخدمة حتّى وافاهما الأجل ... (2)، و نصره في أيّام الشعب أبوه و إخوانه و عمّاه، و كان أبو طالب عليه الصلاة و السلام رئيس ناصريه.

و عندما هاجر النبيّ فداه بنفسه حين نام في فراشه، و كان لأبيه موقف ممتاز في خطبه النبيّ سيّدتنا خديجة عليها السّلام؛ فقد كان هو الخاطب و الخطيب، و كان يمدّ رسول اللّه بالعون و النصرة، و يجلّي بفعله هذا كروبه و كروب من آمن به.

و كان عليّ عليه السّلام نعم المجاهد مع النبيّ، لم يولّ الأعداء ظهره قطّ، و لم يؤذ النبيّ مرّة واحدة طيلة حياته.

و هرع الصحابة في آخر أيّام النبيّ إلى طلب السلطان و تركوا النبيّ جثّة على المغتسل، فلم يحضروا تجهيزه و لم يصلّوا عليه، و كان عليّ عليه السّلام حاضرا حين فارقت النبيّ روحه الطاهرة و لم يفارقه، و قام بواجب الخدمة في تلك الساعات الحرجة، ثمّ شرع في جهازه فغسله و كفّنه و دفنه بعد أن صلّى عليه، و قام بالعزاء و حفظ الشريعة.

ص: 143


1- الكوثر: 1.
2- قال المؤلّف كلمة لم أجدها صالحة و هي قوله: «ربّياه» بل اللّه ربّاه و علّمه لذلك لم أستعملها في الجمل التي ترجمت بها عبارته.

و كان عليّ مفزع أصحاب رسول اللّه في المعاضل و المشاكل لا سيّما الثلاثة الذين يبادرون إلى الإمام كلّما عظّتهم المشاكل المعقدة فيحلّها لهم على هدي الإسلام و نور الشريعة حتّى أثر عن عمر بأنّه قال سبعين مرّة: «لو لا عليّ لهلك عمر» (1). و لو لا حضوره لما قدروا على حلّ قضيّة واحدة.

و كان أعبد الصحابة كلّهم، و عصمه اللّه من الصغائر و الكبائر، و لم يطلب الدنيا، و لا ركبه الغرور مع ما له من السوابق النادرة، و لم يزل مظلوما بعد رسول اللّه، مغصوبا حقّه، معتدى عليه، و كان في زمن النبيّ محسودا، و لكنّه كثير البشر، مشرق الوجه و النفس، و أصبح ضريحه قبلة العالم و ملجأ لذوي الحاجات.

ص: 144


1- مسند زيد: 335، ط دار الحياة- بيروت، تحقيق أحد علماء الزيديين؛ أحمد المرتضى في شرح الأزهار 4: 346، ط غمضان- صنعاء، 1400؛ ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: 152، تحقيق الأسعردي، ط دار الكتب العلميّة- بيروت؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 18 و 141، و 12: 179 و 204 و 205 و 206؛ ينابيع المودّة 1: 216.

الباب السادس في الآيات التي لم يعملوا بها

لمّا عكفت على تأليف هذا الكتاب في السنة التي حضرت فيها إلى سدّة سيّد العالم الشامخة بهاء الدين محمّد بن محمّد صاحب الديوان، كنت يوما بين جماعة من العلماء فعرضت مسائل كثيرة دينيّة في العلم و العمل، و جميعها تخصّ مذهب الشيعة، و لمّا انفضّ المجلس عمّ الجدل الحاضرين لما عليه المذهب من الانتظام، و في ذلك اليوم جمعت في خاطري مائة و أربعين آية من القرآن الكريم رفضها الصحابة و لم يعملوا بها، و لو لا خوف الإطالة لذكرتها كلّها و لكنّي أعرض منها طلبا للاختصار و تسهيلا على القرّاء أربعين آية و أترك الباقي.

الآية الأولى: آية الخمس وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ (1).

فطعنوا في هذه الآية و سلبوا سادات المشرق و المغرب حقّهم في الخمس، و منذ زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى يوم القيامة تركوا سادات أهل البيت بحاجة ماسّة إلى ما

ص: 145


1- الأنفال: 41.

بأيدي الناس، و حرموهم من حقّهم، و فرضوا عليهم العجز و الذلّة عداءا لأمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، و غرضهم من هذه المقاطعة المالية أن يبقى ذرّيّة النبيّ على طرف الحاجة لكي يعرضوهم للمسألة فيبدون في أعين الناس و كأنّهم أهل طمع يتزلّفون إلى أصحاب الجاه و الثروة، و بهذا تنخفض درجاتهم في أنفس الناس، و لم يجعل اللّه من يستحقّ هذا النصيب و المساهمة سوى أمير المؤمنين و أولاده مع اللّه و رسوله، و لكن الحاجة المفروضة عليهم غيّرت قلوب الناس عليهم.

الآية الثانية: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1).

فلم يعملوا بهذه الآية، و اختاروا عداوتهم على مودّتهم، و آثروا الحرام على الواجب من ولائهم، و منعوهم حقوقهم الدينيّة كالإمامة، و الدنيويّة كالخمس، و اللّه تعالى لم يجعل مودّة أحد من العالم واجبة إلّا مودّة عليّ و أولاده عليهم السّلام، و هذه منقبة عظيمة من مناقبهم.

الآية الثالثة: عزل اللّه أبا بكر و رسوله عن أداء الآيات الأولى من سورة برائة لأهل الموسم، و نصب أمير المؤمنين مكانه بأمر اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله.

الآية الرابعة: عزل أبو بكر و عمر و نحيا عن حمل الراية يوم خيبر و أقيم عليّ مقامهما، ثمّ إنّ هزيمتهما دليل على أنّهما لم يعملا بهذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا

ص: 146


1- الشورى: 23.

كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (1).

الآية الخامسة: لم يعمل بها عثمان و هي قوله تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (2).

الآية السادسة: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (3).

و من الثابت القطعيّ أنّهم كانوا يفتون بقرائحهم، و لكن أمير المؤمنين يبادر فيصحّح أخطائهم و يتلافى زلّاتهم، و هذا عين ما نهت عنه الآية، لأنّهم اقتفوا ما ليس لهم به علم.

الآية السابعة: لم يعمل أبو بكر بآية: الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (4).

هذا إذا كانا عزبين فإنّ حكمهما الجلد، و قد درأ أبو بكر الحدّ عن خالد بن الوليد حين زنى بزوج مالك بن نويرة بعد قتله.

الآية الثامنة: لم يعملوا بالآية: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (5) فدرئوا الحدّ عن «شيبة» (6) حين

ص: 147


1- الصفّ: 4.
2- الأنعام: 52.
3- الإسراء: 36.
4- النور: 2.
5- النور: 4.
6- بل هو الوليد بن عقبة لعنه اللّه، و أعتقد أنّ الخطأ ليس من المؤلّف.

حسا الخمرة و وقع ثملا في المحراب و تقيّأ فيه، و مثله عبد اللّه بن عامر حين اصطبح و صلّى بالناس صلاة الصبح سكرانا أربع ركعات، و كان واليا من قبل عثمان لعنه اللّه.

الآية التاسعة: لم يعملوا بها: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (1) و حديث:

أقضاكم عليّ و أعلمكم عليّ، و مع نزارة علمهم و ضحالة فهمهم و قلّة إدراكهم تقدّموا على عليّ و هو أعلمهم.

الآية العاشرة: التي لم يعملوا بها: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (2).

توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ ذو رحمه، فنحّوه عن مقامه و ظلموه و غصبوه حقّه.

الآية الحادية عشرة: التي لم يعملوا بها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (3).

فحرموا الزهراء من إرثها، و مثلها الآية: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (4) و آية: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (5) فوهب اللّه له يحيى.

فأبطلوا عددا من الآيات بحديث مفترى «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة» حاشا ثمّ حاشا أن يكون هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (6).

ص: 148


1- الزمر: 9.
2- الأنفال: 75.
3- النساء: 11.
4- النمل: 16.
5- مريم: 5 و 6.
6- لو صحّ هذا الحديث- و هو موضوع بالضرورة- لكان أفحش ظلم يدخل على أهل البيت، لأنّ اللّه تعالى حرّم عليهم الصدقة ثمّ هو يجعل إرثهم صدقة، فمن أين يأكلون ليت شعري؟ و هل ظلم أحد في التاريخ بمثل هذا الظلم؟ كلّا و حاشا اللّه أن يظلم عباده لا سيّما أهل بيت حبيبه، و لكن الخبيث الأوّل لعنه اللّه لمّا لم يجد مفرّا من حجج الزهراء لجأ إلى الوضع على رسول اللّه فتبوّأ مقعده من النار بل شارك الوضّاع آثامهم و نيرانهم لأنّه سنّ هذه السنّة السيّئة فعليه إثمها و إثم من عمل بها. و إنّي عثرت على بعض العلماء من الشيعة يحاولون توجيه هذا الكذب فيجعلون «ما» الموصولة موضع المفعول ل «نورث» فكأنّه قال: الذي تركناه صدقة لا نورثه، من هؤلاء العلماء الشيخ المفيد في بعض كتبه، و الشيخ البياضي في الصراط المستقيم، و الشهيد الصدر في فدك. و أقول لهم: إنّكم تحاولون بحسن نيّة نصرة هذا الخبيث لعنه اللّه على سيّدة النساء فاتركوا هذا التمحّل و ارجعوا إلى الحقّ فإنّة كبياض الصبح، و إنّي على يقين أنّ من المتأخّرين من يحاول توجيه هذه الموضوعة فإنّه يعين أبا بكر عدوّ الصدّيقة و يتحمّل قسطا من إثمه و عذابه فالحذر ثمّ الحذر. (المترجم).

الآية الثانية عشرة: التي لم يعملوا بها: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (1).

فدخلوا بيوت النبيّ بعد وفاته و رقدوا فيها من غير إذنه، و اليوم مرّ على دفنهم فيها سبعمائة عام- زمن تأليف الكتاب (المترجم)-.

الآية الثالثة عشرة: التي لم يعملوا بها: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها (2).

و لكنّهم دخلوا بيت فاطمة بدون إذنها فقادوا بعلها عليّا عليه السّلام مكتوفا ليبايعهم، و كذلك دخلوا بيت النبيّ من دون إذنه أو إذن ابنته فاطمة عليها السّلام.

ص: 149


1- الأحزاب: 53.
2- النور: 27.

الآية الرابعة عشرة: التي لم يعملوا بها: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1).

عن أبي سعيد الخدري قال: لمّا نزلت: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاطمة فأعطاها فدك (2).

فأبطلوا حكم هذه الآية التي أجرى حكمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و غصبوا فدكا من فاطمة.

الآية الخامسة عشرة: التي لم يعملوا بها: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (3).

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحبّ عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين، فتظاهر القوم بعداوتهم و برهان ذلك دفع آية الخمس و غصب فدك منهم.

الآية السادسة عشرة: التي لم يعملوا بها: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ (4).

و معنى الآية- و اللّه العالم- قبولهم حكم النبيّ طائعين مختارين راضين.

وقع بين عثمان و يهوديّ نزاع على درع، فقال اليهوديّ: نختصم عند محمّد، و قال عثمان: بل عند حبركم؛ لأنّ عثمان على علم بأنّ النبيّ لا يقضي إلّا بالحقّ، و لا يرتشى، و أنّ الحقّ مع اليهوديّ و ليس مع عثمان حتّى نزلت الآية و فضحت عثمان

ص: 150


1- الإسراء: 26.
2- مجمع الزوائد 7: 49، قال: رواه الطبرانيّ ... الخ.
3- الأحزاب: 21.
4- النساء: 65.

و أعطى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الدرع إلى اليهودي.

الآية السابعة عشرة: التي لم يعملوا بها: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ (1) و لم يعملوا بالآية:

لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (2).

أعاد عثمان مروان و أباه الحكم بعد أن طردهما النبيّ، و فوّض أمر وزارته إلى مروان مع عدائهما للّه و رسوله، و نفي النبيّ لهما و طرده إيّاهما من المدينة بأمر اللّه من اللّه.

الآية الثامنة عشرة: لم يعمل بها عثمان: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا (3).

أخذ مروان و هو رأس المنافقين فلم يقتله و إنّما أمّره على المسلمين، و هذه الآية طبّقت على معاوية أيضا.

الآية التاسعة عشرة: التي لم يعملوا بها: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ (4).

فكان عثمان سامعا مطيعا لمروان المنافق لعنه اللّه، طريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 151


1- المجادلة: 22.
2- الممتحنة: 13.
3- الأحزاب: 61.
4- الأحزاب: 1 و 48.

الآية العشرون: التي لم يعملوا بها: وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا (1).

فآذوا بني هاشم بإخراج الخلافة و الإمامة منهم، و آذوا فاطمة و عليّا بدفعهم آية الخمس عنهما و حرمانهما و آلهما منه، و غصبوا فدك، و نفوا أباذر جندب رضى اللّه عنه إلى الربذة، و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا يدخل قلب رجل الإيمان حتّى يحبّكم للّه و لرسوله (2).

و لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيّا لآلمه إيذائهم: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (3)، و قال: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها (4).

الآية الواحدة و العشرون: لم يعمل بها أبو بكر لعنه اللّه: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ (5).

لأنّ أبا قحافة والده كان حيّا أبّان خلافته و كان له الحكم عليه.

ص: 152


1- الأحزاب: 58.
2- ذخائر العقبى: 9 و 193 و 194؛ فضائل الصحابة للنسائي: 22؛ مسند أحمد 1: 207 و 208، و 4: 165؛ سنن الترمذي 5: 318؛ مستدرك الحاكم 3: 333 و 4: 75؛ مصنّف ابن أبي شيبة الكوفي 7: 518؛ السنن الكبرى 5: 51؛ المعجم الكبير 20: 285؛ كنز العمّال 11: 700 رقم 33395، و 12: 104 رقم 34202، و 13: 642 رقم 37623؛ تفسير ابن كثير 4: 122؛ الدرّ المنثور 6: 7؛ تاريخ دمشق 26: 300 و 301؛ أسد الغابة 3: 110 و 331؛ سير أعلام النبلاء 4: 88 و 12: 156؛ الإصابة 4: 317، هذا و قد أعرضنا عن الأكثر من هذه الكتب.
3- الأحزاب: 57.
4- الجنّ: 23.
5- الإسراء: 23.

الآية الثانية و العشرون: التي لم يعملوا بها آية التمتّع: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ (1).

و هذا الفرض من اللّه على عباده أبطلوه.

الآية الثالثة و العشرون: التي لم يعملوا بها آية المتعة: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ (2).

و إنّما منعوا العمل بها ليميل الناس شطر الزنا، و الدليل على ذلك قول أمير المؤمنين: لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنا إلّا شقي (3).

و قال عمر أيضا: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلالين أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما: متعة النساء و متعة الحجّ (4)، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى

ص: 153


1- البقرة: 196.
2- النساء: 24.
3- ابن رشد في بدآية المجتهد 2: 47، تحقيق خالد العطّار، دار الفكر- بيروت، ط 1415 و عزى القول إلى ابن عبّاس؛ مصنّف الصنعاني 7: 497 و 500؛ ابن سلمة في شرح معاني الآثار 3: 26، تحقيق محمّد زهري النجّار، ط دار الكتاب العلميّة، الثالثة 1416 ه؛ ناسخ الحديث و منسوخه لابن شاهين: 365، تحقيق سمير بن أمين الزهري، ط أولى 1408، ط مكتبة المنار الزرقاء. شرح ابن أبي الحديد 2: 253 و 20: 25؛ كنز العمّال 16: 523 رقم 45728؛ جامع البيان للطبري 5: 19، ضبط صدقي جميل العطّار، ط دار الفكر- بيروت، 1415؛ تفسير القرطبي 5: 130؛ عبد الرحمن البكري في عمر بن الخطّاب: 109.
4- أحمد المرتضى في شرح الا. هار 2: 139؛ السرخسي في المبسوط 4: 27، ط دار المعرفة- بيروت، 1406، تحقيق جمع من الأفاضل؛ المغني لابن قدامة 7: 572، ط دار الكتاب العربي، تحقيق جماعة من العلماء؛ عبد الرحمن بن قدامة في الشرح الكبير 7: 537، ط دار الكتاب العربي- بيروت؛ ابن حزم في المحلّى 7: 107، تحقيق أحمد محمّد شاكر، ط دار الفكر- بيروت؛ مسند أحمد 3: 325 عن جابر بسياق آخر؛ شرح ابن أبي الحديد 1: 182 و 12: 251و 252 و 254 و فيها يعتذر عن عمر بعد ذكر قوله، و 16: 265؛ كنز العمّال 16: 521. أحكام القرآن للجصّاص 1: 352، ط دار الكتب العلميّة، أولى 1415، و 2: 191؛ تفسير القرطبي 2: 392؛ الجصّاص في الأصول 3: 205، تحقيق الدكتور النمشي، ط أولى 1405؛ أصول السرخسي 2: 6، تحقيق أبو الوفاء الأفغاني 2: 6، ط لجنة إحياء المعارف النعمانيّة- الهند، أولى 1414؛ علل الدارقطني 2: 156، تحقيق محفوظ الرحمان السلفي، ط دار طيبة- الرياض، أولى 1405 ه؛ تاريخ بغداد 14: 202؛ تاريخ دمشق 64: 71؛ تهذيب الكمال 31: 214، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، ط أولى 1413، ط مؤسسة الرسالة؛ تذكرة الحفّاظ 1: 366؛ الإمام جعفر الصادق للجندي: 264، ط 1397.

الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ (1). و إنّ من بدّل حكم اللّه بعد ما سمعه لأعظم جرما ممّن بدّله و لم يسمعه، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (2).

الآية الرابعة و العشرون: لم يعمل بها عمر: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (3).

فقال عمر: لا تغالوا في مهور نسائكم، و قال: من أصدق امرأة أكثر من أربعمائة درهم أوجعته ضربا و أخذت المال و وضعته في بيت المال، فقامت امرأة طوال و صاحت بأعلى صوتها، و قالت: قال اللّه تعالى: آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً و أنت تحرّمه؟! أنأخذ بقولك أم بقول اللّه تعالى؟! و تلت الآية، فاستحيا عمر و قال:

كلّكم أفقه من عمر حتّى العجائز. و روي: حتّى المخدّرات في البيوت (4).

ص: 154


1- البقرة: 181.
2- المائدة: 47.
3- النساء: 20.
4- المجموع لمحيي الدين النووي 16: 327، ط دار الفكر- بيروت؛ المبسوط للسرخسي 10: 153؛ ابن حجر في سبل السلام 3: 149، ط البابي الحلبي- مصر، الرابعة 1379؛ فقه السنّة 2: 158؛ السنن الكبرى 7: 233؛ مجمع الزوائد 4: 284؛ شرح ابن أبي الحديد 1: 182، و 12: 15 و 208، و 17: 171؛ كنز العمّال 16: 537 رقم 45796، و ص 538 رقم 45798؛ فيض القدير 2: 8؛ العجلوني في كشف الخفاء 1: 269 و 2: 117 و 118؛ الألباني في إرواء الغليل 6: 348 و هضم الحقّ حين استمات في الدفاع عن الباطل؛ تفسير ابن كثير 1: 478، و كتب أخرى.

الآية الخامسة و العشرون: لم يعمل بها عثمان، و هي: وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (1).

و لمّا اضطربت أوضاع المدينة في عهد عثمان و شكى الناس من تسلّط مروان على مقدّرات الأمّة و نهضوا لتأديب مروان أو قتله، فعمل الخبيث الحيلة حتّى سرّب رسالة إلى مصر تأمر الوالي بقتل محمّد بن أبي بكر، و لمّا فاتحوا عثمان بأمر الرسالة و أنكرها و لكنّه أعلن حمايته غير المحدودة لمروان لئلّا يقتل، حتّى جرّ الأمر إلى مقتله هو.

الآية السادسة و العشرون: التي لم يعملوا بها: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (2).

زعم الخصم أنّ النبيّ مات بلا وصيّة، نعوذ باللّه من هذا القول، و غرضهم من هذا القول إنكار حقّ عليّ عليه السّلام و مخالفة أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و مع نسبتهم هذا الفعل إلى النبيّ فقد خالفه أبو بكر و أوصى بها إلى ابن الخطّاب و صيّرها عمر شورى ليفضي الأمر فيها إلى عثمان، و قتل عثمان و لم يوص، فتبيّن من هذا أنّ أحدا منهم لم يتّبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فبعدوا عن محبّة اللّه لهم.

ص: 155


1- النساء: 105.
2- آل عمران: 31.

الآية السابعة و العشرون: لم يعمل أئمّتهم بها: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1).

ذلك أنّ أحكامهم بجملتهم وضعت على خلاف القرآن، و اختلفوا فيما بينهم؛ فنقض واحد ما أثبته الآخر، و أبطل الأوّل حكم الثاني، و الثاني حكم الأوّل، و هكذا الثالث و الرابع، و كان لكلّ واحد منهم مذهب بعينه كالشافعي و أبي حنيفة و مالك و أحمد بن حنبل، و لو أنّ ما قالوه وافق كتاب اللّه لما وقع خلاف أصلا، شأن أئمّة الشيعة الذين ليس بينهم خلاف على الإطلاق، لأنّهم ساروا على سنّة النبيّ بأجمعهم؛ ابتداء من الأوّل إلى الثاني عشر عليهم السلام جميعا.

الآية الثامنة و العشرون: لم يعمل بها أبو بكر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (2).

و قد خالف أبو بكر رسول اللّه و تقدّم عليه في صلاة الصبح و أمّ المسلمين- كما يزعمون- و لمّا كان إماما كان عليه إسماع المؤمومين و قد منعه اللّه من التقدّم و الإسماع.

و اتفق علماء الإسلام على أنّ عائشة هي التي قدّمت أباها، و لمّا سمع النبيّ صوته نهض متّكئا بإحدى يديه على عليّ عليه السّلام و بالأخرى على الفضل بن العبّاس و ذهب إلى المسجد و لم يبن على صلاة أبي بكر بل أخّره و صلّى بالمسلمين مستأنفا. و قد ذكر ابن الأعثم السنّيّ الكوفيّ صاحب الفتوح نظير هذه الرواية في كتابه، و هذا هو

ص: 156


1- النساء: 82.
2- الحجرات: 1.

مذهب الشيعة (1).

الآية التاسعة و العشرون: لم يعمل بها أبو بكر: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ (2).

فقد رفع صوته على النبيّ في الصلاة المزعومة فوق صوت النبيّ، و كانت هذه آخر صلاة يصلّيها النبيّ فيكون بناءا على هذا مات مأموما لابن أبي قحافة كما يزعم الخصم و مقتد به، و خلع نفسه من الإمامة، و حاشاه من ذلك.

الآية الثلاثون: التي لم يعملوا بها: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ (3).

فحسدوا عليّا عليه السّلام حتّى قال: شكوت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسد الناس لي، و هذا المعنى جاء في تفسير السلماني و جاء مثله في مصابيحه.

الآية الواحدة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ (4).

و كان منهم ما كان يوم أحد و حنين من الهزيمة حتّى أدخلوا الوهن على الإسلام، و لم يعد عثمان من هزيمته إلّا بعد مضي ثلاثة أيّام.

ص: 157


1- لقد أعطى الشيخ العظيم آية اللّه محمّد رضا المظفّر الموضوع حقّه في كتابه النفيس السقيفة و لا بأس بمراجعته فإنّه يعطيك القول الفصل في صلاة أبي فصيل لعنه اللّه. (المترجم).
2- الحجرات: 2.
3- النساء: 54.
4- الحجّ: 78.

الآية الثانية و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: أكثر العلماء على أنّهم هم الذين أرسلوا إلى عبد اللّه بن أبي سلول يوم أحد لمّا سمعوا الصيحة «قتل محمّد» ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان حتّى يعودوا إلى مكّة فأنزل اللّه هذه الآية: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (1).

و قد عاهدوا اللّه عهدا على أن لا يفرّوا، فما وفوا بعهده الذي عاهدوا عليه:

وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (2).

الآية الثالثة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (3).

الآية الثالثة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (4).

و جاء في السنّة: من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار.

و هم تسمّوا بالخلافة كذبا و سمّوا أنفسهم خليفة رسول اللّه و أمير المؤمنين مع أنّهم يروون أنّ رسول اللّه مضى و لم يستخلف، و هذا هو الكذب على اللّه و رسوله.

ص: 158


1- آل عمران: 144.
2- الأحزاب: 15.
3- الأحزاب: 15.
4- الأنعام: 21.

الآية الرابعة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ الآية (1).

أعطى اللّه تعالى الإمارة و الولاية إلى عليّ عليه السّلام بهذه الآية الصريحة الواضحة باتفاق المفسّرين و لكنّهم ولّوا أنفسهم عليه و حكموا الناس.

الآية الخامسة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (2).

و بحكم هذه الآية نصب رسول اللّه عليّا يوم غدير خم للإمامة فمنعوه من ذلك و قدّموا أنفسهم عليه.

الآية السادسة و الثلاثون: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (3).

نزلت هذه الآية بحقّ عليّ عليه السّلام حين أوجب اللّه محبّته على العالمين، و لكن القوم نصبوا له العداء فهم خارجون من تحت ظلّ هذه الآية.

الآية السابعة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (4).

ص: 159


1- المائدة: 55.
2- المائدة: 67.
3- مريم: 96.
4- المجادلة: 12.

الآية الثامنة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ (1).

و كانوا على وفاق تامّ مع المنافقين كمروان و معاوية و أبي سفيان و عمرو بن العاص، و يتودّدون إليهم. و هذا الحديث دلّ على المنافقين: ما كنّا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم اللّه و رسوله و التخلّف عن الصلاة، و البغض لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام (2)، و لم يمل عليّ إليهم و استقام على صراط اللّه.

و منه قول رسول اللّه: لا تسبّوا عليّا فإنّه خشن في ذات اللّه (3)، و لهذا السبب حرم من حقه و حظي الآخرون به.

ص: 160


1- التوبة: 73.
2- قرب الإسناد: 26 غير سياق المؤلّف؛ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 72 مثله؛ محمّد بن سليمان الكوفي، مناقب أمير المؤمنين 2: 470؛ القاضي النعمان المغربي في شرح الأخبار 1: 153 و 446 مثله، و 2: 351 أوقفه على بعض الصحابة؛ الكراجكي في التعجّب: 35؛ ابن حمزة الطوسي في الثاقب: 122؛ ابن شهر آشوب 3: 10؛ العمدة: 216 و 264؛ ابن طاوس في الطرائف: 77؛ ذخائر العقبى: 91؛ الصراط المستقيم 2: 50؛ محمّد طاهر القمّي الشيرازي في كتاب الأربعين: 198 و 457 و 461 و 465؛ بحار الأنوار 36: 32 و 39: 263 و 295 و 301 و 302 و 303. الماحوزي في كتاب الأربعين: 244؛ الشيرواني في مناقب أهل البيت: 101؛ المستدرك 3: 129 و سيأتي ما يقرب من المؤلّف؛ جزء الحميري: 34؛ فوائف الصواف: 84؛ المعجم الأوسط 2: 328؛ شرح ابن أبي الحديد 4: 83 و 9: 135 و 13: 251؛ كنز العمّال 13: 106 رقم 36346 بسياق المؤلّف إلّا كلمة؛ شواهد التنزيل 2: 470؛ تفسير القرطبي 1: 267؛ الدرّ المنثور 6: 66؛ الطوسيّ في اختيار معرفة الرجال 1: 210؛ تهذيب المقال للأبطحي 3: 179 و سياقه سياق المؤلّف: ما كنّا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم اللّه و رسوله و التخلّف عن الصلوات و البغض لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام؛ تاريخ دمشق 42: 285؛ أنساب الأشراف: 113؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 290؛ ينابيع المودّة 2: 461.
3- الإرشاد 1: 173؛ بحار الأنوار 21: 385؛ نظم درر السمطين: 119 بصيغ متقاربة المعنى و إن اختلفت ألفاظها.

الآية التاسعة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (1).

كان القوم بحاجة إلى عليّ عليه السّلام إلى كثير من أحكام الدين و هو هاديهم و لكنّهم لم يتّبعوه، و الدليل على ذلك:

أوّلا: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (2).

ثانيا: الحديث الذي رواه المخالفون: و إن ولّيتموها عليّا فهاد مهتد يقيمكم على صراط مستقيم (3).

الآية الأربعون: التي لم يعملوا بها: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (4).

و ادّعوا أنّهم استخلفوا باختيار الصحابة و هم أهل الحلّ و العقد و قد بايعونا، و لم يلقوا نظرة إلى أنّ الاختيار مسلوب من المسلمين و هو بأمر اللّه تعالى.

و كذلك لم يعملوا بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ

ص: 161


1- يونس: 35.
2- رعد: 7.
3- المستدرك 2: 142 و قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه؛ المعيار و الموازنة: 36 و 321؛ الحاكم النيسابوريّ في معرفة علوم الحديث: 29، ط دار الآفاق الجديدة- بيروت، الرابعة 1400، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي؛ كنز العمّال 11: 631 رقم 33075 و 13: 237 رقم 36710؛ شواهد التنزيل 1: 80 و 81؛ عبد اللّه بن عدي في الكامل 5: 313؛ تاريخ بغداد 4: 70 و 11: 48؛ تاريخ دمشق 42: 419 و 420، و 44: 235؛ أنساب الأشراف: 102؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 250.
4- القصص: 68.

عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ (1) و لم يقولوا نحن لسنا من ذرّيّة محمّد بل نسبوا إليه عدم الذرّيّة، بينما هم يقرّون و يعترفون بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ عليّا منّي و أنا منه، و قال: عليّ منّي و أنا من عليّ و لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ.

و لم يعملوا بهذه الآية: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ (2).

و لو لا خوف الملل لبالغنا في بسط هذا الكتاب، و لكن من كانت له أهليّة فباستطاعته أن يضبط من القرآن ربعه بل ثلثيه ... لم يعمل به القوم «و اللّه يؤتي فضله من يشاء».

ص: 162


1- آل عمران: 33- 34.
2- البقرة: 79.

الباب السابع في بيان ما اجتمع بالقوم من الخصال الساقطة المنافية للإمامة

اشارة

الأوّل: إنّ نكاح أمّهاتهم كان في الجاهليّة، و نكاح الجاهليّة أكثره سفاح، و لكن عليّا عليه السّلام قال له رسول اللّه: يا علي، أنا و أنت من نكاح لا من سفاح، من لدن آدم إلى عبد المطّلب عليهم السّلام (1)، و دلّ القرآن على هذا بقوله: وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (2).

الثاني: كانت حياتهم متقوّمة بالخمر و لحم الخنزير، و كانت حياة عليّ متقوّمة بخدمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الثالث: عبدوا الأصنام بعد بلوغهم كاللات و العزّى، و نشأوا على المحرّمات.

الرابع: شاركوا الكفّار بإيذاء المؤمنين بالنفي و الإحراق و الخديعة، و كانوا

ص: 163


1- الخصال: 551؛ الاحتجاج 1: 170؛ حلية الأبرار 2: 309؛ مدينة المعاجز 3: 27؛ بحار الأنوار 29: 11؛ حياة أمير المؤمنين عن لسانه 2: 188 و 230. و أمّا كتب السنّة فقد خصّت النبيّ بها و لم تشرك معه الإمام و لكنّه مشارك له إلى عبد المطلّب بالضرورة و اقرأ الكتب التالية: المجموع للنووي البحر الرائق لابن نجيم المصري ج 3 و ج 4؛ الدرّ المختار للحصفكي ج 3؛ حاشية ردّ المختار لابن عابدين، ج 2؛ المغني لابن قدامة، ج 7؛ الشرح الكبير لعبد الرحمان بن قدامة و كلاهما ج 7 و غيرها.
2- الشعراء: 219.

يحيون آمين لأنّهم يعيشون في عالم النفاق حتّى ماتوا.

الخامس: لم تكن أسمائهم في الصحيفة.

السادس: لم يدخلوا الشعب أيّام المقاطعة.

السابع: لم يكونوا من المهاجرين مع الرسول إنّما كانوا قد هاجروا لغايات في أنفسهم (1).

الثامن: لم يهربوا من مكّة إلى أيّ مكان آخر لا إلى الطائف و لا إلى غيره لأنّهم كانوا مع المشركين بقلوبهم و أرواحهم و لكنّهم صحبوا المؤمنين طمعا في حطام الدنيا كما قال صاحب الأمر: إنّهم سمعوا من أهل الكتاب أنّ محمّدا سوف يكون صاحب دولة و سوف ينالون منها جزاء سعيهم و صحبتهم إيّاه، و ما لهم في الآخرة من خلاق.

التاسع: لم يكونوا من أهل الكساء ساعة نزول آية التطهير في بيت أمّ سلمة.

العاشر: سدّت الأبواب في المسجد عليهم.

الحادي عشر: لم يؤاخهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

الثاني عشر: لم يحضروا المباهلة.

الثالث عشر: لم يعملوا بآية المناجاة و الصدقة.

الرابع عشر: كانوا ممّن ولوّا الدبر يوم أحد و حنين و خيبر.

الخامس عشر: لم يدفعوا مكيدة عن النبيّ و لا عن الإسلام.

السادس عشر: أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتل مروان فعصوه.

السابع عشر: عزل أبو بكر من أداء سورة برائة.

ص: 164


1- ذكر المؤلّف هذه الغاية و هي التزويج من فاطمة، و تحاشيت ذكرها ما لم أعلّق عليها، و العجب من المؤلّف كيف استباح ذكرها و هم أقلّ و أذلّ من أن يدور بخلدهم هذا لعنهم اللّه.

الثامن عشر: أراد من رسول اللّه رمّانا فأبى أن يعطيه لأنّه طعام أهل الجنّة، و لا يحلّ إلّا لوصيّ أو سبط نبيّ في الدنيا، ثمّ أعطى النبيّ نصف رمّانة لعليّ عليه السّلام و أولاده و خصّ نفسه بالنصف الآخر: لا يأكل هذا إلّا نبيّ أو وصيّ أو سبطاه.

التاسع عشر: حرم من مشاركة النبيّ بالطائر لأنّه صلّى اللّه عليه و آله دعا فقال: آتني بأحبّ الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر، فجاء عليّ فأكل معه.

العشرون: حرّم عليهم الخمس.

الواحد العشرون: لم يؤمّرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على سريّة.

الثاني و العشرون: لم يرسلهم جباة للصدقة قطّ.

الثالث و العشرون: أمّر عليهم عليّا و لم يؤمّرهم عليه.

الرابع و العشرون: أمّر عمرا بن العاص على أبي بكر و عمر.

الخامس و العشرون: قبض النبيّ و هم رعايا تحت راية أسامة بن زيد.

السادس و العشرون: لم يساعدوا في تجهيز جيش أبدا.

السابع و العشرون: لم يستخلفهم النبيّ على المدينة أو غيرها.

الثامن و العشرون: لم يكن بينهم و بين النبيّ رحم.

التاسع و العشرون: لم يختموا القرآن قطّ.

الثلاثون: لم يجمع أبو بكر و عمر القرآن للأمّة.

الواحد و الثلاثون: لم يكونا صهري رسول اللّه.

الثاني و الثلاثون: لم يكونوا عند النبيّ آخر عهده بالدنيا.

الثالث و الثلاثون: لم ينجزوا مواعيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الرابع و الثلاثون: لم يحضروا تجهيز رسول اللّه فلم يشاركوا في غسله و كفنه و دفنه بل ذهبوا إلى السقيفة يلاطمون على السلطان لئلّا تفوتهم الفرصة الدنيويّة.

الخامس و الثلاثون: لم يكن معهم سلاح رسول اللّه و رايته و عمامته و خاتمه.

ص: 165

السادس و الثلاثون: أبعد النبيّ أبا بكر من المحراب و طرده من الصلاة عند وفاته.

السابع و الثلاثون: لم تتّفق الأمّة على إيمانهم و إسلامهم.

الثامن و الثلاثون: لم يبايعهم بنو هاشم و لا سعد بن عبادة و خاصّته.

التاسع و الثلاثون: سلّ الزبير السيف عليهم و أبي أن يبايعهم.

الأربعون: و كذلك ردّ بيعتهم أبو ذر و عمّار و سلمان و المقداد رضي اللّه عنهم.

الواحد و الأربعون: ردّ بنو حنيفة بيعة أبي بكر و امتنعوا من دفع زكاتهم له فقاتلهم و نكّل بهم و سمّاهم أهل الردّة.

الثاني و الأربعون: أرسل إلى حربهم خالد بن الوليد فقاتلهم فقتل المقاتلة و سبّى النساء و الذرّيّة، و في ليلة واحدة قتل زعيمهم مالك بن نويرة و زنا بزوجته و أغار على أموالهم و اقتسمها بينه و بين أصحابه.

الثالث و الثلاثون: لم تكن خلافتهم بنصّ من اللّه و رسوله.

الرابع و الأربعون: أنزل الحسن بن عليّ أبا بكر من المنبر في اليوم الأوّل من حكمه.

الخامس و الأربعون: لم يبايعهم بلال و ترك الأذان و الإقامة.

السادس و الأربعون: تأمّر على أبيه و كان حيّا يوم ذاك خلافا لأمر اللّه و رسوله.

السابع و الأربعون: قال أبو بكر: إنّ لي شيطانا يعتريني (1).

ص: 166


1- مصنّف عبد الرزّاق الصنعاني 11: 336؛ شرح ابن أبي الحديد 6: 20 و 17: 156 و 157- 161؛ كنز العمّال 5: 590 رقم 1405؛ ابن سعد في الطبقات الكبرى 3: 212، ط دار صادر- بيروت؛ تاريخ دمشق 30: 303 و 304؛ تاريخ الطبري 2: 460 ط مؤسسة الأعلمي؛ البداية و النهاية 6: 334؛ ابن قتيبة في الإمامة و السياسة 1: 22 و 34، تحقيق الزيني، أولى 1412، ط الحلبي و شركاه- القاهرة؛ سبل الهدى و الرشاد 12: 315.

الثامن و الأربعون: و قال أيضا: أقيلوني لست بخيركم و عليّ فيكم (1)، و نظير هذه الجملة التي تدلّ على بطلان خلافته و إمامته.

التاسع و الأربعون: كشف بيت فاطمة و دخله بدون إذنها و أمر بإخراج من فيه.

الخمسون: أمر بضرب فاطمة عليها السّلام.

الواحد و الخمسون: قتل المحسن و هو جنين في بطنها.

الثاني و الخمسون: أخذ ميراث الزهراء من أبيها و غصب فدك و هي نحلة لها و لأولادها منها و من بنيها.

الثالث و الخمسون: غصب الأنفال و الخمس من أهل البيت.

الرابع و الخمسون: ماتت فاطمة عليها السّلام غاضبة عليهم.

الخامس و الخمسون: لم يحضروا جنازتها.

السادس و الخمسون: أمر خالد بن الوليد بقتل عليّ عليه السّلام.

السابع و الخمسون: وضعه الحديث على النبيّ بقوله: إنّا لا نورّث، خلافا لنصوص القرآن.

الثامن و الخمسون: نقصان الأذان فصلين.

التاسع و الخمسون: بدعة المسح على الخفّين.

الستّون: التكفير بوضع اليد على الصدر احياءا لسنن اليهود.

الواحد و الستّون: رفع القنوت و رفع اليدين في الصلاة عند التكبير.

الثاني و الستّون: إشراك الجدّ في الإرث مع الأب.

الثالث و الستّون: ائتمان المغيرة على تأليف القرآن و أكثر الروايات على أنّ هذا الفعل يعود لعثمان.

ص: 167


1- الشيباني في السير الكبير 1: 36؛ شرح ابن أبي الحديد 17: 155.

الرابع و الستّون: طلب الشهود العشر على كلّ آية.

الخامس و الستّون: فتح الباب الذي أغلقه النبيّ عليهم.

السادس و الستّون: قيل إنّهم تزوّجوا مطلّقتين للنبيّ.

السابع و الستّون: حرمان نساء النبيّ من ميراثهنّ.

الثامن و الستّون: «نجاه» (1) لم يبايع أبا بكر و قال: إن قلت هذا الأمر بقرابة الرسول فأهله أحقّ به منك، و إن قلت هذا الأمر بالشرف فأنا أشرف منك، لهذا أمر بإحراقه.

التاسع و الستّون: إطلاق سراح الأشعث بن قيس و كان يستحقّ القتل، و القضيّة كما يلي: لمّا ارتدّ الأشعث أسر و أرسلوا به إلى أبي بكر فعرض عليه الإسلام فأباه و بقي على ارتداده فأطلقه (2).

السبعون: زوّجه أخته.

الواحد و السبعون: قتل بني حنيفة بأجمعهم لأنّهم أبوا خلافته و لم يسلّموا باختياره.

الثاني و السبعون: لمّا قال له «خضر» (كذا) يا خليفة الناس، أمر بطرده.

الثالث و السبعون: عهد إلى عمر عند موته و كان الناس يكرهونه لفظاظته.

الرابع و السبعون: أمر بدفنه مع النبيّ في حجرته بدون إذن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو من ورّاثه.

الخامس و السبعون: لمّا هلك كان في ذمّته لبيت مال المسلمين عشرون ألف دينار.

ص: 168


1- هكذا ورد في النسخة المترجمة و لم أتعرّف عليه و يمكن أن يكون مصحّفا و لعلّه «الفجائة» الذي أحرقه أبو بكر في البقيع.
2- بل زوّجه أخته أمّ فروة جزاءا على ردّته، و قاتل الناس على عقال.

السادس و السبعون: لم يرد عن رسول اللّه رواية واحدة و ما رواه لم يكن إلّا للإضرار بعليّ عليه السّلام و هو من مفترياته (1).

السابع و السبعون: درء الحد عن خالد بن الوليد و دفع القود منه.

الثامن و السبعون: كان مشمولا للآية وَ تَرَكُوكَ قائِماً (2) يعني كان من أهل اللهو و اللعب الذين تركوا النبيّ في صلاة الجمعة فنزلت فيهم الآية.

التاسع و السبعون: سمّى نفسه خليفة رسول اللّه و أمر بمتابعته.

الثمانون: كان أوّل من غصب أهل بيت النبيّ حقّهم و اعتدى عليهم، و أوّل من ابتزّ رسول اللّه مقامه، و كان الصحابة شركائه في هذه الخصال من بين فاعل و ناصر و راض إلّا عباد اللّه المخلصين، و قليل من عبادي الشكور.

خصال عمر التي تفرّد بها

أمّا ما اختصّ بعمر من الخصال و ما تفرّد بها فهي:

الأوّل: تمزيق الصكّ الذي كتبه صاحبه للزهراء عليها السّلام.

الثاني: ضرب الصدّيقة الطاهرة بكفّه حتّى بقي أثره على جسمها الشريف (3).

الثالث: ضربها على بطنها (4).

الرابع: تحريمه متعة النساء و قد قال ابن عبّاس: ما كانت المتعة إلّا رحمة رحم اللّه بها أمّة محمّد لو لا عمر نهى عنها ما احتاج إلى الزنا إلّا شقيّ و النفر القليل من

ص: 169


1- نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، إلى آخر الموضوعة.
2- الجمعة: 11.
3- اللهمّ العنه لعنا و بيلا و عذّبه عذابا أليما و خذ للزهراء بحقّها منه و ممّن شايعه و تابعه.
4- الشهرستانيّ في الملل و النحل 1: 157؛ الوافي بالوفيات 6: 30 نقلا عن النظام.

الناس، و هذا الحديث أورده جار اللّه في مترجم الأخبار (1).

الخامس: أسقط متعة الحجّ كما قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه حلالين و أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما: متعة النساء و متعة الحجّ (2).

السادس: أوّل من وضع الضمان على الناس أو العرفاء (3).

السابع: أوّل من وضع الديوان في الإسلام.

الثامن: أوّل من ردّ شهادة المملوك.

التاسع: أوّل من وضع الخراج في الإسلام.

العاشر: أوّل من قسم الأرض إلى عامر و غابر.

الحادي عشر: أحدث تغييرا كبيرا في أحكام الزكاة.

الثاني عشر: وضع بدعة صلاة التراويح.

الثالث عشر: فضل العرب على العجم و الموالي في العطاء.

الرابع عشر: ردّ كثيرا من مسائل الإرث و قبلها عن المشهور، و أقام البدع في هذا السبيل من قبيل مسائل «العول» و نظائرها.

الخامس عشر: منع وصول المراكب إلى شواطئ الجزيرة بالبرّ القادم من مصر لكي تنقله البدو بأباعرها و يكون أجر الحمل لهم.

السادس عشر: غير موضع الحجر الأسود من المكان الذي وضعه النبيّ فيه إلى ما كان عليه في العهد الجاهلي.

السابع عشر: لمّا امتنع الإمام من مصاهرته عمد إلى أشياء في الدين فغيّرها انتقاما.

ص: 170


1- مرّ تخريجه بالعشرات منسوبا إليه و إلى الإمام عليه السّلام.
2- من أنت يا كلب يا لكع حتّى تحرّم ما أحلّ اللّه! كامل البهائي ج 1 170 خصال عمر التي تفرد بها ..... ص : 169
3- الترجمة ليست دقيقة.

الثامن عشر: لجأ إلى الشورى حين وافاه الهلاك و هي من سنن الجاهليّة.

التاسع عشر: تأوّه عند الموت كثيرا، فلمّا سأله ابنه عبد اللّه، قال: على بني هاشم أن لا أصيب من يذلّهم بعدي.

العشرون: فضّل عائشة و ابنته حفصة على باقي نساء النبيّ عداءا لفاطمة و عليّ عليهما السّلام لأنّ هاتين المرأتين لعنة اللّه عليهما يبغضان الإمام و الصدّيقة الطاهرة عليها السّلام و لم تكن سائر أمّهات المؤمنين على هذه الصفة.

الواحد و العشرون: حمل صاحبه على التحريض على بيعته.

الثاني و العشرون: أمر بصوم السفر خلافا لقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (1).

الثالث و العشرون: أمر بصوم السفر خلافا لقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (1).

الثالث و العشرون: أمر بصلاة التراويح و نوافل رمضان أن تصلّى جماعة، و هي بدعة.

الرابع و العشرون: وضع البدعة القائلة: لا نكاح إلّا بولي و شاهدين. و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الأيّم أملك بنفسها من وليّها.

الخامس و العشرون: أجاز طلاق الثلاث في مجلس واحد.

السادس و العشرون: وضع عداوة عليّ و أهل بيته بين الناس. و قال أبو ذر الغفاري: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو صلّيتم حتّى تكونوا كالحناير، ما ينفعكم حتّى تحبّوا آل رسول اللّه.

و الحناير جمع الحنيرة و هي قوس بلا وتر، و قيل للعقد المضروب (2).

ص: 171


1- البقرة: 184.
2- نهاية ابن الأثير 1: 433؛ تاج العروس 3: 159 و ذكر الحديث و ختم بقوله: أي لو تعبّدتم حتّى تنحني ظهوركم، و ذكر الزمخشريّ الحديث في الفائق 1: 282 و قال: الحنايا، و في لسان العرب 4: 216، مجمع البحرين 1: 587، و العجيب أنّي عثرت على الحديث في كتب اللغة لا كتب الحديث.

عدوّ عليّ لا صلاة له و لوبجبهته صدر البعير و كلكله بيّنة: كان الصحابة يقولون: مات الرسول و ما خلّف بيضاء و لا صفراء حتّى يوصّي، عداوة لعليّ عليه السّلام لئلّا يقول الناس وصيّ رسول اللّه و هو الأولى بمقامه منهم ردّا على اللّه في كتابه، و على النبيّ في سنّته، قال: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ (1) الآية، و قال: وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ (2)، و قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (3)، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة (4).

ص: 172


1- البقرة: 132.
2- لقمان: 13.
3- البقرة: 180.
4- أحمد المرتضى في شرح الأزهار 4: 470؛ البكري الدمياضيّ في إعانة الطالبين 3: 234، ط دار الفكر- لبنان، أولى 1418 السياق مختلف و المعنى واحد؛ السيّد البجنوردي 6: 222؛ الفتّال النيسابوري في روضة الواعظين: 482، ط الرضي- قم، تحقيق الخرسان؛ الحرّ العاملي في وسائل الشيعة 19: 259، ط مؤسسة آل البيت، مطبعة مهر- قم، الثانية 1414 ه، و 13: 352، ط دار إحياء التراث العربي- بيروت، تحقيق محمّد الرازي؛ الطبرسيّ في مكارم الأخلاق: 362، ط الرضي، السادسة 1392 ه. مناقب ابن شهر آشوب 2: 246؛ كشف المحجّة لابن طاووس: 37، ط الحيدريّة- النجف، 1370 ه؛ الطرائف له أيضا: 382، ط الخيّام- قم، أولى 1371؛ مشكاة الأنوار لأبي الفضل عليّ الطبرسيّ: 585، ط الحيدريّة- النجف، تقديم صالح الجعفري، الثانية 1385؛ الفصول المهمّة للحرّ العاملي 2: 313، تحقيق القايني، ط نگين- قم، أولى 1418 ه، مؤسسة معارف اسلامي امام رضا عليه السّلام؛ مجمع البيان 1: 494؛ ابن جبر في نهج الإيمان: 208، تحقيق أحمد الحسيني، مطبعة ستاره- قم، مجتمع إمام هادي مشهد.

و عن سلمان: قلت: من وصيّك يا رسول اللّه؟ فقال: هل تدري من كان وصيّ موسى؟ قلت: يوشع بن نون. قال: و هل تدري لم كان كان أوصاه؟ إنّما كان أوصاه لأنّه أعلم أمّته بعده، و وصيّي و أعلم أمّتي بعدي عليّ بن أبي طالب (1).

و نظائر هذه الأخبار التي لا تعدّ و لا تحصى الدالّة على وجوب الوصيّة. هذا و الاتفاق حاصل بأنّ أولئك الشيوخ لم يكونوا أوصياء رسول اللّه، قال اللّه تعالى:

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ (2) و قال: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (3).

و اتفقت الأمّة على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجى و من تخلّف عنها غرق (4).

و كذلك قال: من أطاع عليّا فقد أطاعني (5).

و قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها (6).

و في الحديث الأوّل أبان عن موضع النجاة، و في الثاني عن موضع الطاعة، و في الثالث عن موضع العلم.

ص: 173


1- الأمالي للصدوق: 63؛ مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام للكوفيّ 1: 240؛ الطبري الشيعي في المسترشد: 262؛ شرح الأخبار 1: 414؛ العمدة: 76؛ الطرائف: 22 و كتب أخرى.
2- الإسراء: 71.
3- يس: 12.
4- سبق تخريجه.
5- مولانا الأميني في الغدير 7: 177 نقلا عن مستدرك الحاكم 3: 121 و 128؛ الأحمدي في مكاتيب الرسول 1: 565 نقلا عن المستدرك، أيضا قال: هذا حديث صحيح الإسناد، و قال الذهبي: صحيح؛ الأحمدي في مواقف الشيعة 3: 112 نقلا عن كنز العمّال ح 1213؛ تاريخ دمشق لابن عساكر 42: 270 و فيها كلّها تتمّة الحديث: و من عصى عليّا فقد عصاني، و لم يورده المؤلّف.
6- سبق تخريجه.

و اختلفوا في الإمامة و ينبغي الالتزام بإمامة من اتفق على إمامته و ترك من عداه، و آكد منه قوله تعالى: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (1).

ذكر الشيخ المفيد في كتاب «البساط في الإمامة» (2): توفّي النبيّ و الإجماع منعقد على عليّ و لم ينعقد لغيره بل كان الخلاف قائما فيه، و لا خلاف في صلاح بني هاشم للخلافة، و كان عليّ من بينهم مختصّا بهذه اللياقة، و لو تركوه لأجمعت الأمّة عليه، و في غيره لم يحصل الإجماع.

و كذلك أجمعوا على أنّ النبيّ أوصى عليّا عليه السّلام في أداء ديونه، و لكنّ الشيعة تقول بأنّه أوصاه بالإمامة أيضا و ليس من المعقول أن يخالف النبيّ كتاب اللّه، حيث يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (3) و قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (4)، و قوله تعالى: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ (5)، و قال صلّى اللّه عليه و آله: كائن في أمّتي ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة (6).

و ليس من اللايق بالنبيّ أن يوصي بشي ء من الخير و يتركه بلا حجّة أو سبب، و على هذا فينبغي الاقتداء بالمجمع عليه لا المختلف فيه، و هما الشيخان.

و قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (7) و قد نصح في الدين و الدنيا،

ص: 174


1- الأنفال: 75.
2- لم أعثر للشيخ على كتاب بهذا الاسم و أقرب الاحتمالات أنّ تصحيفا ورد في الكلمة.
3- البقرة: 180.
4- النساء: 11.
5- البقرة: 132.
6- سبق تخريجه.
7- الأحزاب: 6.

كما أوصى في سريّة مؤتة، فقال: إن أصيب جعفر بن أبي طالب فأميرهم زيد، و إن أصيب زيد فأميرهم عبد اللّه بن رواحة، و لم يقل أمرهم شورى كما فعل عمر بن الخطّاب، أو على ما يزعمه هو أنّه لم يوص لأحد بعد موته، و اختار الأصحاب رفيقه يوم السقيفة أو أنّه فعل ما فعله عثمان من إرجاء الأمر حتّى كبت به بطنته، و يا للعجب حين لم يترك النبيّ أمر سريّة واحدة عطلا ثمّ هو يترك الناس فوضى! و ينتقل إلى الرفيق الأعلى، و يموت بلا وصيّة، و الضرورة قاضية بأنّ الناس من بعده أحوج إلى الإمام منهم في حياته، فإذا ثبتت الوصيّة ثبتت إمامة عليّ عليه السّلام، و كان الشيوخ الثلاثة ليسوا أوصياء بالإجماع و لا هم خلفاء من قبل اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله (1).

ص: 175


1- كان على شيخنا الجليل أن يفرد الوصيّة بباب خاصّ ثمّ يشبعه بحثا و تمحيصا و لا يبحثه عرضا لأنّه موضوع جوهريّ في بحث الإمامة بل عليها ابتنت نظريّة الشيعة و على عدمها نظريّة خصومهم.

الباب الثامن في المناقب و الأخبار التي افتروها زخرفة لأباطيلهم

اشارة

الحديث الأوّل: اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر و عمر.

رواية هذا الحديث المفترى تارة بالنصب و أخرى بالرفع، و على كلا الحالتين فالمأمور بالاقتداء هما، و كأنّه قال: اقتدوا أيّها الناس من بعدي بكتاب اللّه و عترتي، أبو بكر و عمر (1).

ص: 176


1- و نحن نورد أوّلا الكتب التي أخرجته من أولياء هذين الرجلين ثمّ نجيب عنه بما أجاب عنه الأوّلون: عون المعبود 12: 235؛ مجمع الزوائد 9: 53؛ تحفة الأحوذي 7: 368 و 10: 102 و 209؛ المعجم الأوسط 4: 140 و 5: 345؛ مسند الشاميّين 2: 58؛ معرفة علوم الحديث: 252؛ شرح مسند أبي حنيفة: 498؛ كشف الخفاء للعجلوني 1: 160؛ الفصول في الأصول للجصّاص 3: 334؛ اللمع في أصول الفقه للشيرازي: 271؛ أصول السرخسي 2: 106؛ المنخول للغزالي: 585؛ المحصول للرازي 4: 175 و 6: 130 و 185؛ الأحكام للآمدي 1: 234 و 241؛ الطبقات الكبرى 2: 334؛ الثقات 7: 573؛ الكامل لابن عدي 7: 196؛ تاريخ بغداد 12: 21؛ التعديل و التجريح لسليمان الباجي 1: 17؛ تاريخ دمشق 41: 422 و 44: 227؛ تهذيب الكمال للمزي 30: 356؛ تهذيب التهذيب لابن حجر 11: 77؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 245. و ربّما كان جواب المأمون للعلماء من خيرة الأجوبة و قد ذكره الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السّلام (2: 200) و قال بعد مسائلتهم و تفضيلهم الاثنين بالكلام الموضوع: اقتدوا باللذين من بعدي ... الخ، قال المأمون: الروايات كثيرة و لا بدّ أن تكون كلّها حقّا أو كلّها باطلا، أو بعضها حقّا أو بعضها باطلا. فلو كانت كلّها حقّا كانت كلّها باطلا من قبل أنّ بعضها ينقض بعضا، و لو كانت كلّها باطلا كان في بطلانها بطلان الدين و دروس الشريعة، فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار و هو بعضها حقّ و بعضها باطل. فإذا كان كذلك فلا بدّ من دليل على ما يحقّ منها لتعتقد و ينفى خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقّا كان أولى ما اعتقده و أخذ به، و روايتك هذه من الأخبار التي أدلّتها باطلة في نفسها، و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحكم الحكماء و أولى الخلق بالصدق و أبعد الناس من الأمر بالمحال، و حمل الناس على التديّن بالخلاف. و ذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كلّ جهة أو مختلفين؛ فإن كانا متفقين من كلّ جهة كانا واحدا في العدد و الصفة و الصورة و الجسم و هذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كلّ جهة، و إن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، و هذا تكليف ما لا يطاق؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر. و الدليل على اختلافهما أنّ أبا بكر سبى أهل الردّة و ردّهم عمر أحرارا، و أشار إلى أبي بكر بعزل خالد و بقتله بمالك بن نويرة فأبى أبو بكر عليه، و حرّم عمر المتعتين و لم يفعل ذلك أبو بكر، و وضع عمر ديوان العطيّة و لم يفعله أبو بكر، و استخلف أبو بكر و لم يفعل ذلك عمر، و لهذا نظائر كثيرة. قال مصنّف هذا الكتاب (الصدوق) رضي اللّه عنه: في هذا فصل و لم يذكر المأمون لخصمه و هو أنّهم لم يرووا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر، و إنّما رووا أبو بكر و عمر، و منهم من روى أبا بكر و عمر، فلو كانت الرواية صحيحة لكان معنى قوله بالنصب: اقتدوا باللذين من بعدي كتاب اللّه و عترتي يا أبا بكر و عمر، و معنى قوله بالرفع: اقتدوا أيّها الناس و أبو بكر و عمر باللذين من بعدي كتاب اللّه و العترة ... انتهى موضع الحاجة منه. أقول: هذا توجيه ركيك جدّا لا ينطق به سيّد الفصحاء و البلغاء، و لو صحّ التوجيه الأوّل لقال: اقتديا، و لا معنى لإفرادهما بالذكر في التوجيه الثاني عن الناس بعد شمول الخطاب لهما، و هذا ما أجلّ عنه سيّدي الصدوق و أحذّر الشيعة منه فإنّهم يعمدون إلى المفتريات على النبيّ من القوم فيلتمسون لها الوجوه و التأويلات ليكون لها نسب في الحقّ، و حاشا لرسول اللّه أن يأمرنا بالاقتداء بأبناء الزواني، و لو صحّ هذا القول لكان الضراط على منبر رسول اللّه من أوكد المستحبّات لأنّ عمر كان يفعله!!

ص: 177

و الدليل على هذا المعنى ما اتفق على روايته المؤالف و المخالف أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

إنّي مخلّف فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي، و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. و في رواية أخرى: خلّفت فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا.

و حديث: اقتدوا باللّذين من بعدي ... الخ مجرّد دعوى ادّعاها مدّع، و حديث الثقلين رواها الشيعة و صدّقهم جمهور أهل السنّة (1) فدلّ على أنّ الحديث المزعوم ليس فيه دلالة على إمامتهما.

و الجواب عن هذه المفترات: نصب عمر أبو بكر للإمامة، و عمر لجأ إلى الشورى، و قتل عثمان و لم يسمّ أحدا للخلافة و ترك المكان شاغرا، و لمّا بان الاختلاف بينهم كان الاقتداء بأحدهم يناقض الاقتداء بالآخر، و أشار عمر على أبي بكر بإجراء الحدّ على خالد بن الوليد لزناه بزوج مالك بن نويرة فأبي أبو بكر و قال: خالد سيف من سيوف اللّه.

و كان أبو بكر يرى إباحة المتعتين و عمر منعهما.

و أبو بكر أمضى صكّ فدك و أعطاه فاطمة، و عمر فتحه و بصق به و محاه ثمّ خرقه- لذلك خرق اللّه جوفه-.

أبو بكر أمر بصلاة التراويح فرادى و عمر أمر بها جماعة.

ص: 178


1- الذين رووها من أهل السنّة أكثر ممّن رواها من الشيعة.

و أبو بكر و عمر لم يردا مروان و الحكم طريدي رسول اللّه و قرّبا أبا ذر، و عثمان خالفهما فنفى أبا ذر و ردّ مروان و أباه.

و أمثال هذه المتناقضات كثيرة، فيكون و الحال هذه الاقتداء بكلّ واحد مخالفا للاقتداء بالآخر: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)، و كما أنّ القرآن ليس فيه اختلاف فإنّ كلام من عمل به ليس فيه اختلاف أيضا كأئمّة الشيعة عليهم السّلام الاثني عشر، فقد قال آخرهم بما قال به أوّلهم، و ليس كأئمّة القوم لكلّ واحد منهم مذهب يتمذهب به و يضلّون به عباد اللّه.

جواب آخر: قال اللّه تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ (2) و قال: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (3) و قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (4)، و قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ (5).

الحديث الثاني: من المفتريات: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا (6).

ص: 179


1- النساء: 82.
2- الممتحنة: 6.
3- آل عمران: 31.
4- النساء: 80.
5- النساء: 59.
6- المحلّى لابن حزم 1: 35 و 9: 287؛ مسند أحمد 1: 434 و 439 و 455 و 463 و 4: 4 و 5؛ صحيح البخاري 4: 191؛ صحيح مسلم 7: 109؛ سنن الكبرى للبيهقي 6: 246؛ مجمع الزوائد 9: 44 و 45؛ الديباج على مسلم للسيوطي 2: 344؛ مسند الطيالسي: 39 و 42؛ المصنّف لعبد الرزّاق 5: 430 و 10: 263؛ المصنّف لابن أبي شيبة 7: 350؛ مسند ابن راهويه 1: 41 و 2: 22؛ كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 563، و لو ذهبنا نستقصي الكتب التي أخرجت هذه الفرية لطال بنا التجوال.

جواب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (1). قال المخالف: المراد ب «من أحببت» أبو طالب، و من هنا يظهر وضع هذا الحديث المفترى.

و قال تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (2) يظهر من حديث الخصم بأنّ أبا بكر لم يكن مؤمنا، لأنّه لو كان مؤمنا لاتّخذه الرسول وليّا و لأحبّه، و قال اللّه تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (3) و هذا خلاف ما عليه الحال بين المؤمنين، و ما زعمه الخصم يظهر أنّ النبيّ لم يحبّ أبا بكر، و الناس جميعا إمّا أن يكونوا أحبّاء النبيّ أو أعدائه، فإذا انتفت المحبّة ثبت نقيضها.

أمّا عن عليّ عليه السّلام فقد روى المخالف بلا خلاف عندهم: من أراد أن يحييا حياتي و يموت موتي و يسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي فليتولّ عليّ بن أبي طالب فإنّي أحبّه» (4).

و هذا نصّ صريح و بيان صحيح أنّ النبيّ اتخذ عليّا حبيبا، و حياة الرسول و مماته على حبّ عليّ.

و جاء في سائر الأخبار أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام في خيبر بعد أن رجع أبو بكر و عمر منهزمين: «و اللّه لأعطينّ الراية ... الخ» و كانت أعناق الصحابة قد تطاولت إليها، و كان عليّ عليه السّلام أرمد العين، فأرسل الرسول ورائه من يدعوه إليه و سقاه من ريقه فشفاه و أعطاه الراية، و كان فتح خيبر على يديه.

و جاء في المصابيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال للحسن بن عليّ عليهما السّلام: «اللهمّ إنّي أحبّه

ص: 180


1- القصص: 56.
2- التوبة: 71.
3- آل عمران: 28.
4- شرح ابن أبي الحديد 9: 170؛ كنز العمّال 12: 103 رقم 34198؛ تاريخ دمشق لابن عساكر 42 للّه 240 و 242؛ ينابيع المودّة 2: 489.

و أحبّ من يحبّه» (1).

و لمّا كانت المؤاخاة بين أبي بكر و عمر، و بين طلحة و الزبير، و بين عبد الرحمان و عثمان موجبة للصداقة و الخلّة كانت مؤاخاة النبيّ لعليّ كذلك، قال اللّه تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (2) حكمت هذه الآية على الأمّة بحبّ عليّ و أهل بيته و صيّرته من الفروض الواجبة، و هذا الحكم شامل لرسول اللّه أيضا لأنّه من غير المعقول أن يدعو الأمّة إلى أمر ثمّ يعزل نفسه منها: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (3)، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (4).

و يقول اللّه تعالى كذلك: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (5) و هذه الآية تدلّ على أنّ العلاقة بين المتقين هي الخلّة، و لو كان أبو بكر من أهل التقوى لخالله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الجواب الثاني: ذكر أبو الفتوح العجلي الاصفهاني و غيرهم من علمائهم أنّه سئل من عائشة: أيّ الناس كان أحبّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قالت: فاطمة. قيل:

ص: 181


1- نيل الأوطار للشوكاني 6: 140؛ ذخائر العقبى: 121 و 122؛ فضائل الصحابة للنسائي: 19 و 20؛ مسند أحمد 2: 249 و 331 و 532 و 4: 292؛ صحيح البخاري 4: 217 و 7: 55؛ صحيح مسلم 7: 129 و 130؛ سنن ابن ماجة 1: 51؛ سنن الترمذي 5: 327؛ مستدرك الحاكم 3: 196 و 177 و 178؛ سنن البيهقي 10: 233؛ مجمع الزوائد 9: 176؛ مسند الحميدي 2: 451؛ مسند ابن الجعد: 295؛ الأدب المفرد: 30 و 252، و كتب أخرى كثيرة.
2- الشورى: 23.
3- البقرة: 44.
4- الصفّ: 2 و 3.
5- الزخرف: 67.

من الرجال؟ قالت: زوجها (1).

عن أنس قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أيّ بنيك أحبّ إليك؟ قال: الحسن و الحسين.

و جاء في المصابيح: قال أسامة: كنت جالسا عند رسول اللّه إذ جائه عليّ و العبّاس يستأذنان، فقال: أتدري ما جاء بهما؟ قلت: لا. قال: لكنّي أدري، ائذن لهما، فدخلا، فقالا: يا رسول اللّه، جئناك نسألك أيّ أهلك أحبّ إليك؟ قال:

فاطمة بنت محمّد. قال: ما جئناك نسألك عن نساء أهلك، قال: أحبّ أهلي إليّ من أنعم اللّه عليه و أنعمت عليه، فقال أسامة. قال: ثمّ من؟ قال: عليّ بن أبي طالب. فقال العبّاس: جعلت عمّك آخرهم! قال: إنّ عليّا يسبقك بالهجرة (2).

بيّنة: في سنة (673) لمّا حملت مناقب الطاهرين معي إلى اصفهان و أردت تقديمه إلى حضرة سيّد العالم بهاء الدين محمّد صاحب الديوان، و كان في مقدّمة الكتاب شي ء من التوحيد، فشاور داعي الدولة ربّه قائلا: أرى من الصلاح

ص: 182


1- محمّد بيومي، السيّدة فاطمة الزهراء: 17 عن ابن عبد البرّ.
2- سنن الترمذي 5: 342؛ مسند أبي داود الطيالسي: 88 و اقتصر على ذكر فاطمة؛ كنز العمّال 13: 273 رقم 36802؛ ضعيف سنن الترمذي للألباني: 514 و ضعّفه عن المشكاة و الجامع الصغير و نقل قول الترمذي: هذا حديث حسن، و كان شعبة يضعّف عمر بن أبي سلمة ... الخ. و تملكني العجب من المؤلّف أن ينقل مثل هذا الحديث الذي يجعل زيد بن حارثة أحبّ إلى رسول اللّه من عليّ و هو و إن لم يصرّح؛ بذلك إلّا أنّ قول النبيّ: من أنعم اللّه عليه و أنعمت يدلّ على ذلك، و قد صرّح به الترمذي فقال: زيد بن حارثة، و هذا يأباه كلّ ذي لبّ، و زيد بن حارثة على فضله لا يبلغ من قلب رسول اللّه ما بلغه ابن عمّه و وصيّة، و كيف يكون أحبّ إليه من عليّ و عندنا مئات الأحاديث تدلّ على عكس ذلك، و قد تسالم الفريقان على نقلها، و إنّي أتّهم فيه أسامة بن زيد، و لو لا قول الإمام الصادق فيه: لا تقولوا إلّا خيرا، لأوضحت للقاري من يكون أسامة هذا إلّا أنّي أمسك عنه مرغما امتثالا لأمر الإمام الصادق عليه السّلام و في القلب ما فيه على هذا الرجل.

عرض الكتاب على فلان العالم، و كان من المقرّبين عنده و إن خالفه في المذهب، فاستخرنا اللّه فخرجت هذه الآية: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ (1) إلى أن أمكنت الفرصة فحضر عند العرض علماء الدولة في تلك الديار فلم يمكنهم إلّا السكوت و لم يقبل صاحب الديوان من الرسول اتخاذ ذلك العالم من جملة المحبّين.

الحديث الثالث: و رووا عن عليّ أنّه قال على المنبر: خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكر و عمر (2).

الجواب: لو صحّ هذا القول لم يؤمّر رسول اللّه عليهم عمرا بن العاص في حرب خيبر (3)، و حرب ذات السلاسل، و لم يؤمّر عليهم أسامة بن زيد بل لم يؤمّر عليهم عليّا في سرايا كثيرة، و لو كان الأمر كما يقولون لما ردّ اللّه أبا بكر في سورة برائة

ص: 183


1- النحل: 58- 59.
2- مسند أحمد 1: 106 بطرق كثيرة؛ مسند أبي يحيى الكوفي: 48 و 154؛ مصنّف الصنعاني 3: 448. و أخرجت هذا القول كتب كثيرة نشير إليها بالاسم فقط: مسند الجعد، مصنّف ابن أبي شيبة، سؤالات الآجري لأبي داود، كتاب السنة لابن أبي عاصم، المعجم الأوسط ج 1 و 3 و 4 و 5 و 7 و 8، و المعجم الكبير ج 1، كنز العمّال ج 11 و 12، نظم المتناثر للكتاني: 190، الثقات ج 7 و 8، كامل لابن عدي ج 1 و 7 و 7، طبقات المحدّثين باصبهان ج 2 و 3، علل الدارقطني ج 3 و 4 و 6، تاريخ بغداد ج 1 و 4 و 9 و 11 و 12 و 14، و تاريخ دمشق ج 23، و هكذا. و حملني هذا القول على التسائل: ما الذي يفضّل المرء على غيره في الإسلام؟ و أجبت نفسي بأنّه العلم و الشجاعة و الدين و الإقدام و الجهاد و السبق إلى الإسلام و هكذا، ثمّ تسائلت مرّة ثانية من نفسي: أيّة واحدة من هذه القيم موجودة في الرجلين حتّى يفضلا على بلال أو على خباب بن الأرت أو على صهيب الرومي أو على عمّار بن ياسر لا على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و لم أملك بعد ذلك إلّا لعن من افترى هذه الفرية على أمير المؤمنين عليه السّلام.
3- مرّ فيما سلف أنّ عمرو بن العاص لم يشهد خيبر.

و أرسل بها عليّا؛ فظهر من هذا أنّ قولهم كذب و افتراء على أمير المؤمنين عليه السّلام.

و كيف يكون خير الأمّة من كان يسجد للات و العزّى، و إن كان كذا فلا بدّ أن يكون العبّاس أولى بهذه الرتبة لأنّه عمّ رسول اللّه و هو أرشدهم و أكبرهم سنّا، و من قريش و هاشميّ كذلك، و لم يكن أبو بكر قرشيّا.

و قال أبو بكر: إنّ لي شيطانا، و قال عمر: أنا شاكّ في الإسلام كما جاء في كتاب «البياض و السواد» من كتب النواصب في الجزء الأوّل منه، و سأل حذيفة مرّتين:

هل أنا منافق أو لا؟ و إنّ طائفة هذه أوصافهم كيف يكونون خير الأمّة بعد نبيّها.

و قال عليّ عليه السّلام: أنا أولى بمجلس رسول اللّه و لكنّي أشفقت أن يرجع الناس كفّارا (1).

و قال أيضا: لو لا قرب الناس بالكفر لجاهدتهم (2).

و قال عليه السّلام: كيف يكونان خير الأمّة و قد عبدت اللّه قبلهما، و عبدته بعدهما (3).

و الدليل على كذب هذا الحديث قول أبي بكر أيضا: «لست بخيركم و عليّ فيكم» و اتفقت الأمّة أنّ عليّا عليه السّلام لم يذكر هما بخير طرفة عين و لم يذكر هما إلّا في معرض الشكوى منهما بأنّهما خاناه و ظلماه، و لو كانا خير الأمّة لم يظلما أهل بيت العصمة و الطهارة.

ص: 184


1- عيون أخبار الرضا 2: 201؛ بحار الأنوار 49: 192؛ مواقف الشيعة 1: 296.
2- الفصول المختارة للشيخ المفيد: 251؛ مسألتان في النصّ على عليّ 2: 28 للمفيد أيضا؛ الصراط المستقيم للعاملي 3: 158.
3- الإيضاح للفضل بن شاذان: 519؛ المسترشد للطبري الشيعي: 227؛ الفصول المختارة: 168 و 261 و 279؛ كنز الفوائد للكراجكي: 122؛ كتاب الأربعين للشيرازي: 328؛ بحار الأنوار 38: 269 و 285؛ مناقب أهل البيت للشيرواني: 44؛ مواقف الشيعة 2: 268؛ شرح ابن أبي الحديد 2: 25 و 262؛ الدرجات الرفيعة: 22؛ المجدي للعلوي: 10؛ حياة الإمام الرضا عليه السّلام للقرشي 2: 255.

و روى المخالف في حقّ عليّ عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال- كما ذكر ذلك أحمد البيهقي في كتاب مشاهير الصحابة-: من أراد أن ينظر إلى آدم ... الحديث، هذه الصفات التي تفرّقت في أولي العزم اجتمعت في عليّ عليه السّلام، و مع وجود رجل كهذا كيف يكون مشرك أسلم بعد أن أشرك أكثر عمره خير هذه الأمّة؟! «سبحانك هذا بهتان عظيم».

الحديث الرابع: قالوا: إنّ أبا بكر رجع إلى نفسه و قال: هل من مقيل فأستقيله (1)، فقال عليّ عليه السّلام: قدّمك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمن ذا يؤخّرك؟!

الجواب: لو كان الأمر كما يقولون لسارع عليّ إلى بيعته قبل الصحابة، و لم يحتج إلى الحضور في سقيفة بني ساعدة، أمّا ضرورة مذهبنا فقاضية بأنّ عليّا عليه السّلام مظلوم و مغصوب حقّه، و يعترف المخالفون بأنّه لم يبايع حتّى ماتت فاطمة عليها السّلام، و قال قوم:

بايع بعد ستّة أشهر، و قال قوم: بعد أربعين يوما، و في مذهبنا أنّه لم يبايع قطّ، و لو كان يعلم عليّ بتقدّمه في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما تأخّر عن بيعته.

و أيضا لو كان أبو بكر يعلم من نفسه أنّ رسول اللّه قدّمه لما طلب الاستقالة؛ لأنّ كلّ ما يقوله الرسول و يفعله فبوحي من اللّه تعالى، و حينئذ تكون استقالته من أعظم آثامه و ذنوبه، كما قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها (2) لا سيّما و قد رضي بتقديمه في حياة رسول اللّه، ثمّ هاهو يتأخّر عنها بعد وفاته، فهو من المجرمين بفحوى هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ

ص: 185


1- هكذا تكون العبارة صحيحة مستقيمة، أمّا عبارة المؤلّف فهي كما يلي: هل من مستقيل فأقله ... و هي خطأ حتما.
2- الجنّ: 23.

وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (1) و مع كلّ هذا يقول أنصاره المخالفون لنا: إنّ رسول اللّه مات و لم يستخلف، و هذه الحكاية تكذّب الحديث الأوّل.

ثمّ إنّ الخصم يزعم أنّ إمامة أبي بكر صحّت باختيار الصحابة و إجماع أهل الحلّ و العقد، فلو كان رسول اللّه قدّمه لما طلب الإقالة منها.

و أيضا من الأدلّة الرادّة لهذه المزعمة أنّ الرجل لو قدّمه رسول اللّه في حياته لما قال: رضيت لكم أحد هذين الرجلين: أبا عبيدة و عمر، و لو كان رسول اللّه قدّمه لم يتخلّف عن بيعته بنو هاشم و زهّاد الصحابة و سعد بن عبادة مع الخزرج، و لا زال قول أمير المؤمنين يتموّج في الدنيا حين قال بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أكثر من مرّة:

ما زلت مظلوما، و هذه الخطبة الشقشقيّة تشهد بما جرى.

الحديث الخامس: و رووا عن عمرو بن العاص أنّه قال للنبيّ: يا رسول اللّه، من أحبّ الناس إليك؟ فقال: عائشة. فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها (2).

الجواب: هذا الحديث باطل بحديث الطائر الذي رواه المخالفون عن أنس الذي قال: أهدي إلى رسول اللّه طائر مشوي، فقال: اللهمّ آتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير .. و هذا الحديث يكذّب ذاك، إذ لو كان صادقا لحضر أبو بكر هناك، و هو معارض بالحديث الوارد من طرق المخالفين و قد بسطناه في الحديث الثاني، و هو أنّه سئلت عائشة: من أحبّ الخلق إلى رسول اللّه؟ فقالت: فاطمة. قيل: من

ص: 186


1- الأنفال: 24.
2- المستدرك 4: 12؛ سنن البيهقي 7: 299 و 10: 233؛ لسان الميزان 3: 216، و فيه زيادة: فقالت فاطمة: لم أرك قلت في عليّ شيئا؟ قال: إنّ عليّا نفسي، هل رأيت أحدا يقول في نفسه شيئا. قال ابن حجر: فهذه الزيادة موضوعة و الآفة من ظفر أو من شيخه الزهراني .. الخ.

الرجال؟ قالت: زوجها. و ليس لأبي بكر ذكر في باقي الأحاديث.

مع أنّه لا يمكن أن يعمد رجل يتحلّى بقسط من الأنفة و الغيرة، يطري زوجته أمام رجل فاسق فاجر كعمرو بن العاص و يصرّح بحبّها ثمّ لا تدركه الغيرة عليها، فكيف يفعل رسول اللّه ما يأنف البشر العاديون من فعله.

أضف إلى هذا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طالما شكى من عائشة و حفصة و من إيذائهما له حتّى عاتب اللّه نبيّه بسببهما في سورة التحريم، قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ (1) الآية، و نهاه أن يبتغي مرضاتهما، فقال: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ (2) و اعتزلهنّ رسول اللّه شهرا بكامله، و تشهد بذلك سورة نوح حيث بلغ النبيّ من قول المنافقين بسبب عائشة ما آلمه و آذاه، و من قرأ تفسير القرآن للفرق كافّة فسوف يطّلع على مبلغ الألم الذي عاناه رسول اللّه من عائشة و حفصة، و لكنّه صبر، و إن لم تصدّقني فارجع إلى مصابيح الأخبار من كتب المخالفين و اقرأ بإمعان باب العترة و أهل البيت و الأزواج لتعرف صدق ما أقول لك.

جواب آخر: إنّ الذي أوجب حبّه على الأمّة إنّما هو عليّ و أهل بيته بحكم الآية: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (3).

ثانيا: إنّ المؤالف و المخالف قالوا بأنّ هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (4) نزلت في عليّ عليه السّلام، و مثلها قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (5).

ص: 187


1- التحريم: 1.
2- الآية نفسها.
3- الشورى: 23.
4- مريم: 96.
5- المائدة: 54.

و ذكروا في مصابيح المخالفين أنّ النبيّ قال- و عليّ غائب عن البيت-: اللهمّ لا تمتني حتّى تريني عليّا.

جواب آخر: قال اللّه تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ (1) لعلّكم لم تقرأوا القرآن، و لو كنتم قرأتموه لما فهمتموه أنّ اللّه تعالى حذّر من النساء «و قد قيل: حبّك الشي ء يعمي و يصمّ»، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «اتّقوا شرار النساء» (2) و كونوا من خيارهنّ على حذر، و قال رسول اللّه في مرضه لعائشة عندما قدّمت أباها بدون إذنه للصلاة: «إنّكنّ لصويحبات يوسف» (3)، و هنّ اللواتي قال اللّه بحقّهنّ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (4) و كذلك: وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ (5).

و في مذهب الشيعة الأكثر على أنّ النبيّ أو كل طلاق نسائه إلى عليّ إن عصينه، و طلّق عليّ عائشة في حرب الجمل (6)، و إن لم تصدّقني فارجع إلى كتاب الفتوح لابن الأعثم (7) و هو من علمائهم الكبار الذي رمز إلى ذلك في باب الطلاق عند ذكر

ص: 188


1- التغابن: 14.
2- الكافي 8: 517؛ وسائل الشيعة 20: 179 و 14: 128؛ عيون الحكم و المواعظ للواسطي: 90؛ بحار الأنوار 88: 255 و 100: 224؛ درر الأخبار: 624؛ نزهة الناظر و تنبيه الخاطر للحلواني: 53؛ كشف الخفاء للعجلوني 1: 44.
3- الفصول المختارة: 124؛ التعجّب: 22؛ الصراط المستقيم 3: 134؛ كتاب الأربعين: 620؛ بحار الأنوار 28: 160؛ مناقب أهل البيت: 399؛ أحاديث أمّ المؤمنين عائشة للعسكري 1: 79؛ شرح نهج البلاغة 9: 197؛ الدرجات الرفيعة لابن معصوم: 590.
4- يوسف: 28.
5- يوسف: 29.
6- أقول: لا موضوعيّة للطلاق بعد مرور ثلاثين سنة على وفاة رسول اللّه إلّا أن يقال بأنّه حكم خاصّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
7- طبع هذا الكتاب أخيرا في بيروت و لكن لعبت به الأيدي و غيّرت أسلوبه و محتواه فتجد فيه مثل كلمة «مليون» المولدة التي دخلت اللغة العربيّة في القرن العشرين، ثمّ حذف منه الكثير و الكثير، و لحدّ الآن لم نطّلع على الجهة التي فعلت هذا الفعل.

عائشة، و إن لم يجد الشجاعة الكافية لنقل الخبر برمّته «الحرّ تكفيه الإشارة».

و هل كان رسول اللّه يحبّ عائشة لأنّها غازية و مجاهدة في سبيل اللّه في حرب الجمل و يحبّ أباها لأنّه ظلم آل رسول اللّه و نام ألف سنة (1) في بيت رسول اللّه بدون إذنه خلافا لقول اللّه: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (2)؟!

الحديث السادس: و رووا عن عليّ عليه السّلام بأنّه قال: من فضّلني على أبي بكر و عمر أجلده جلدة المفتري.

و روى المخالف عن ابن مسعود عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر.

الحديث الأوّل روايه المدّعي و أنكره الخصم، و الحديث الثاني رواية المخالف و صدّقه الخصم و هو يعارضه؛ فالثاني صادق و الأوّل كذب موضوع.

و روى المخالف أيضا أنّ رسول اللّه قال: أعلمكم عليّ و أفضلكم و أقضاكم عليّ (3)، و حديث الطير، و حديث الراية، و آية المباهلة، و آية فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ (4)، و آية التطهير، و آية الخمس و آية ذوي القربى،

ص: 189


1- تمّ تأليف هذا الكتاب سنة (675) فكيف يكون مرّ على دفن أبي بكر ألف سنة!
2- الأحزاب: 53.
3- تهذيب الأحكام 6: 306؛ مستدرك الوسائل للنوري 17: 390؛ النكت الاعتقاديّة للشيخ المفيد: 41؛ الاحتجاج 2: 103 و 163؛ مناقب أهل البيت: 192 و 199؛ طرق أحاديث الأئمّة الاثني عشر لكاظم آل نوح: 92؛ مقام الإمام عليّ لنجم الدين العسكري: 28؛ كشف اليقين للحلّي: 45؛ الكنى و الألقاب للشيخ عبّاس القمّي 1: 203.
4- النساء: 95.

و حديث: لضربة عليّ يوم الخندق خير من عبادة الثقلين، هذه جميعا رواها المخالف أيضا، و هي تكذّب الحديث المفترى.

ثمّ إنّ ما يوجب حدّ الجلد معلوم، و لا يدخل فيه التفضيل، أعني من فضّل أحدا على أحد، و ليس من المعقول أن يجلد الإمام على الكذب، و لما ذكرهم عليّ فقال: زرعوا الفجور، و سقوا الغرور، و حصدوا الثبور (1).

و لما ذكر أبا بكر، قال: «و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء» و لو كان هو الأفضل، فما معنى الهجوم عليه و مقاتلته و نسبة زرع الفجور و سقي الغرور و حصد الثبور إليه؟

و الاتفاق حاصل أيضا بأنّ أبا بكر قال: «لست بخيركم و عليّ فيكم» فإن كان صادقا فما هو بأفضل من أحد من الصحابة، و إن كان كاذبا فما هو للإمامة بأهل.

و لست أدري ما هو وجه تفضيله و لا يذكر له المخالف إلّا الغار، و كان شريكه عبد اللّه بن يقطر، و كان عليّ صاحب فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هذه المرتبة أفضل من تلك، و إن قيل: إنّه ختن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فللنبيّ ثمانية عشر ختنا و هو أحدهم، و مثله صاحبه، و لم يعط النبيّ من ابنتيهما أولادا و إلّا لكانتا قد ادّعتا الربوبيّة، و إذا كان هو ختن رسول اللّه فعليّ مثله ختنه من جهة أمّ هاني (2) و صهره و ابن عمّه شقيق والده.

ص: 190


1- نهج البلاغة، الخطب 1: 30؛ كتاب الأربعين: 199 و 437؛ بحار الأنوار 23: 117؛ النجمي في أضواء على الصحيحين: 323؛ ميزان الحكمة 3: 223؛ شرح ابن أبي الحديد 1: 138؛ ينابيع المودّة: 449.
2- لم يتزوّج النبيّ بأمّ هاني، إنّما خطبها فاعتذرت بأنّها ميتّم و لا تستطيع أن تقوم بواجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كانت تخشى أن يشغلها أولادها عنه.

الحديث السابع: و رووا عن النبيّ أنّه قال: أبو بكر و عمر سيّدا كهول أهل الجنّة.

الاتفاق حاصل بين المسلمين أنّ الجنّة ليس فيها شيوخ و لا كهول، و ذات يوم قال النبيّ لامرأة عجوز كانت حاضرة عنده- «أسجعيّة» (كذا)- على سبيل الدعابة و الخلق الحسن: «لا تدخل الجنّة عجوز» فأجهشت العجوز باكية، فقال لها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قال اللّه تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (1) و معناه- و اللّه العالم- أنّهنّ يتحوّلن في الجنّة إلى أبكار عذارى، و من هنا قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّي لأمزح و لا أقول إلّا حقّا.

و غرضهم من هذه المفتراة مناقضة الحديث المشهور الذي اتفق عليه أهل القبلة لصدقه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة من الأوّلين و الآخرين، و أبوهما خير منهما (2).

ص: 191


1- الواقعة: 35 و 36.
2- مسند زيد: 461؛ الأحكام ليحيى 1: 40؛ المبسوط للسرخسي 16: 122؛ سبل السلام 4: 125؛ فقه السنّة لسيّد سابق: 417؛ ذخائر العقبى: 129؛ فضائل الصحابة للنسائي: 20 و 58؛ المسند لابن حنبل 3: 3 و 62 و 64 و 82، و 5: 391 و 392؛ سنن ابن ماجة 1: 44؛ سنن الترمذي 5: 321 و 326؛ مستدرك الحاكم 3: 167 و 381؛ شرح النووي على صحيح مسلم 16: 41؛ مجمع الزوائد 9: 165 و فيه: «و أبوهما و الذي بعثني بالحقّ خير منهما»، و ص 182 و 183 و 184 و 201؛ المعيار و الموازنة: 151 و 206 و 323؛ المصنّف لابن أبي شيبة 7: 512؛ بغية الباحث لابن أبي أسامة؛ سنن النسائي الكبير 5: 50 و 81 و 145- 150؛ الخصائص له أيضا: 117 و 118 و 123 و 124؛ مسند أبي يعلى 2: 295؛ صحيح ابن حبّان 15: 411- 413. المعجم الأوسط 2: 347 و 4: 325 و 5: 243 و 6: 10 و 327؛ المعجم الكبير 3: 35- 40 و 57، و 19: 292 و 22: 403؛ سؤالات حمزة للدارقطني: 216؛ شرح ابن أبي الحديد 1: 30 و 16: 14؛ درر السمط في خبر السبط لابن الآبار: 78؛ نظم درر السمطين: 214 و 227؛ موارد الظمئان للهيثمي: 551؛ الجامع الصغير 1: 20 و 589، و في الحديث المرقّم 3821 «و أبوهما خير منهما»؛ كنز العمّال 7: 26 رقم 17795 و 11: 573 رقم 32713 و 12: 96 رقم 34158 بطرق عدّة، و 13: 640 بطرق عدّة. نور العين للاسفراييني: 35 و 65 و 66؛ فيض القدير 3: 550؛ كشف الخفاء للعجلوني 1: 34 و فيه: «و أبوهما خير منهما»، و ص 358؛ نظم المتناثر للكتاني: 196؛ إغام المبتدع الغبي للسقّاف: 34؛ تناقضات الألباني 2: 256؛ دفع الارتياب عن حديث الباب للعلوي: 47؛ شواهد التنزيل 1: 199؛ الدّر المنثور للسيوطي 4: 262؛ الكامل لابن عدي 2: 220 و 221 و 357 و 413، و 3: 435 و 5: 323 و 368، و فيه: قال عطاء: حدّثونا أنّه قال: «و أبوهما خير منهما»، و 6: 373 و فيه: «و أبوهما خير منهما»، و 7: 284؛ علل الدارقطني 3: 166 و 11: 191 و فيه: «فمن أحبّهما فقد أحبّني و من أبغضهما فقد أبغضني»؛ تاريخ بغداد 1: 150 و فيه: «و أبوهما خير منهما»، و 2: 181 و 4: 429 و 6: 369 و 9: 230 و 231، و 10: 230 و 11: 91 و 13: 4؛ تاريخ دمشق 5: 374 و 12: 269 و 13: 207- 212 و 402، و 14: 130- 137، و 27: 399 و 30: 179 و فيه: «و لا تسبّوا عليّا فإنّه من سبّ عليّا فقد سبّني و من سبّني فقد سبّ اللّه و من سبّ اللّه عزّ و جلّ عذّبه اللّه»، و 34: 447 و فيه: «و أبوهما خير منهما»، و 42: 130 و فيه: «و أبوهما و الذي بعثني بالحقّ خير منهما»، و 64: 35، و 70: 113. أسد الغابة 1: 311 و 2: 11 و 5: 574؛ تهذيب الكمال للمزّي 6: 229 قال: زاد بعضهم: «و أبوهما خير منهما»، و ص 401، و 7: 110 و 12: 254 و 26: 391 و 32: 243؛ ميزان الاعتدال 1: 585 و 2: 250 و 4: 33 و 149 و فيه: «و أبوهما خير منهما»؛ سير أعلام النبلاء 2: 127 و 3: 251 و 252 و 255 و 282، و 5: 63 و 11: 416؛ تهذيب التهذيب 2: 258 و 3: 309 و 4: 241؛ لسان الميزان 2: 157 و 343؛ الإصابة 1: 624 و 2: 63 و 6: 252 و فيه: «و أبوهما خير منهما»؛ الأنساب للسمعاني 3: 477 و سمّاه متواترا؛ تاريخ جرجان: 395؛ ذكر أخبار اصفهان 2: 343؛ البداية و النهاية 2: 61 و 8: 39 و 193 و 224 و 225. رأس الحسين لابن تيميّة: 201؛ قصص الأنبياء لابن كثير 2: 357؛ جواهر المطالب لابن الدمشقي 2: 199؛ سبل الهدى و الرشاد 10: 47 و 11: 46 و 57 و 60 و 61 و 162 و 250. هذه الكتب التي أخرجت الحديث كلّها لأبناء العامّة، و أنا بدوري أتحدّى كلّ من ينتمي إلى أهل السنّة أن يأتيني بكتاب شيعيّ واحد أخرج شيئا من مفترياتهم. و أمّا كهول الجنّة فقد أخرجه منهم: مجمع الزوائد 9: 53 و أكمل الحديث بقول البزّار: لا نعلم، و بعبد الرحمان بن مالك قال: قلت: هو متروك؛ تاريخ دمشق 30: 170 و 176 و 44: 168 و 169؛ تهذيب الكمال 12: 387؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 250؛ لسان العرب 11: 600.

ص: 192

و في رواية أخرى: إنّ أهل الجنّة شباب كلّهم و إنّه لا يدخلها العجز.

و بناءا على هذا لو قدّر لهما الدخول إلى الجنّة لدخلوها شابّين و يكون الحسنان أفضل منهما، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الدنيا سجن المؤمن و القبر بيته و الجنّة مأواه، و الدنيا جنّة الكافر و القبر محبسه و النار مأواه، إلّا أن يكون النبيّ أراد جنّة الدنيا لأنّ الجنّة ليس فيها كهول، و إن كان الغرض كهولتهم بالقياس إلى أعمار الدنيا فإنّ الأنبياء نوح و لقمان و إبراهيم، و من الصحابة سلمان منّا أهل البيت أولى بهذه المرتبة.

الحديث الثامن: و رووا أيضا: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر.

و كذلك رووا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما أبطأ عنّي جبرئيل إلّا ظننت أنّه بعث إلى عمر.

و في رواية أخرى: ما احتبس عنّي الوحي إلّا ظننته قد نزل على عمر (1).

الجواب: جاء في كتبهم أنّ عمر قال: هل أنا منافق أو لا؟ و سأل حذيفة عن

ص: 193


1- نحن نذكر بعض كتبهم التي أخرجته و ما قبله: مجمع الزوائد 9: 68؛ شرح ابن أبي الحديد 2: 178؛ كنز العمّال 11: 581 رقم 32761؛ تذكرة الموضوعات للفتني: 94؛ كشف الخفاء 2: 154 و 164 و قال الصفائي عن حديث نظيره: موضوع؛ الكامل لابن عدي 3: 155 و 216؛ الموضوعات 1: 320 و قال ابن الجوزي: لا يصحّان.

ذلك مرّتين، و كان عليّ عليه السّلام يقول: «حذيفة كان عرّافا بالمنافقين». فمن كان شاكّا في دينه كيف يصحّ نزول الوحي عليه؟! و يكون شريك محمّد في رسالته و هو خاتم الأنبياء؟!

و إذا صحّ الحديث يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعدى عدوّ لعمر لأنّه فوّت عليه هذه الفرصة الثمينة و هي النبوّة التي لا يعادلها شي ء، و لا يسمو إلى رتبتها مقام، و يكون عمر أعدى عدوّ للنبيّ لأنّه إذا انقطع عنه الوحي استبدّ به الهاجس أنّه انصرف إلى عمر فيمتلأ حقدا عليه، نزولا عند الفطرة و موضعا لجبلة البشريّة التي يعادي الإنسان بها كلّ من ينافسه على شي ء ثمين، و يكون في موضع قلق و عذاب من وجود عمر، و ربّما زاد في عذابه ما يقتضي له رؤية عمر كلّ يوم مرّات، من الهمّ و الألم.

و العجيب في الأمر أنّ حصول عمر على هذا المقام المنيع و الوسام الرفيع من أيّة جهة؟ و لأيّ خصلة فيه و صفة له؟ و هو قد شاح في خدمة اللات و العزّى حتّى أخرجه الإسلام منها، هذا و إن جوّز شيعته الصغائر على الأنبياء و الأئمّة.

و أيضا يرى شيعة عمر و أتباعه وقوع الشي ء خلاف علم اللّه محالا ... و تكون المسألة على النحو التالي: إنّ اللّه علم برسالة عمر منذ الأزل و لكنّه لم يبعث و هذا خلاف ما علم اللّه و إن لم يكن قد علم بها فلا تقع أصلا، و يكون رسول اللّه في أمان من وقوعها لأنّها لم تكن في علم اللّه، و ما لم يكن حالا في علم اللّه فوقوعه محال من ثمّ هو على يقين بأنّ هذه الرسالة المدعاة لعمر لن تقع أصلا.

ثمّ إنّ اللّه تعالى يقول: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (1) الآية، و قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ

ص: 194


1- الأحزاب: 7.

مِنْ بَعْدِهِ (1) فكيف لم يأخذ اللّه الميثاق من عمر؟

الحديث التاسع: و رووا عن النبيّ أنّه نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسّم و قال: إنّ اللّه باهى بعباده عامّة و باهى بعمر خاصّة (2).

الجواب: و هذا محال أن يترك اللّه سيّد أنبيائه و يباهي بعمر و يفاخر به و قد كان في الجاهليّة عاكفا على الذنوب و الكبائر و كان على الشرك، و في الإسلام شاكّا في إيمانه لا يدري أهو منافق أو مسلم، و نال محمّد العزّة قاب قوسين، و بلغ من الأمكنة القدسيّة ما لم يبلغه مخلوق لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (3) و أقسم بموطئ أقدامه لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ* وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (4) و ختم اللّه به مألف ألف و أربعا و عشرين ألفا من الأنبياء، أترى اللّه يعرض عن إنسان كهذا و يفاخر بعمر ابن صهّاك و هو من أدنى الناس و عامّتهم، ينبغي أن يستحي من اللّه من يقول هذا أو يعتقده «إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

ثمّ إنّ اللّه تعالى أخذ من عباده الميثاق حيث قال: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (5) و لم يكن أبو بكر و عمر هناك لأنّهما أنكرا التوحيد حقبة طويلة من عمريهما، و كانا يسجدان لربّهما

ص: 195


1- النساء: 163.
2- كتاب السنّة لعمرو بن أبي عاصم: 572؛ كنز العمّال 12: 594 رقم 3585 و تمامه: و إن لم يبعث نبيّا، و 13: 3 رقم 36087 و سياقه مختلف؛ تاريخ دمشق 44: 117 و 118 و 56: 92؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 267.
3- الحجر: 72.
4- البلد: 1 و 2.
5- الأعراف: 172.

اللات، فهذا و اللّه من العجب.

و لكن لا عجب من القوم الذين يزعمون أنّ النبيّ لمّا عرج به إلى السماء و بلغ الجنّة سمع خفق نعال بلال لأنّه سبقه إلى الجنّة لأنّه غلام أبي بكر، فيكون أفضل من رسول اللّه فليس عجيبا أن يكون عمر أفضل «إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

الحديث العاشر: و رووا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو نزل العذاب ما نجى منه إلّا عمر (1).

الجواب: و بناءا على هذه الفرية فإنّ أبا بكر و عثمان يهلكان أيضا إلّا ابن الخطّاب و على مذهب القوم يهلك حتّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و حاشا للّه أن يعتقد بهذا مسلم.

ثمّ إنّ اللّه تعالى بشّر المؤمنين بشارة عامّة فقال: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (2) فجعل حياة النبيّ أمان الناس فإذا انتقل إلى الرفيق الأعلى كان الاستغفار أمانا لهم، فهل كان أبو بكر و عثمان على غير استغفار؟

و لا ينبغي للنبي أن يقول عن عمر ما نسبوا إليه بعد نزول هذه الآية.

و لمّا دخل عمر في السياق و عرف أنّه صائر إلى الهلاك كان يستغيث من أعماله الشنيعة فيقول: واويلاه، و اثبوراه، يا ليتني كنت ترابا، يا ليت أمّي لم تلدني، و كان يردّد دائما: ليتني كنت شعرة في صدر أبي بكر ... فيكون أبو بكر بهذه الدرجة أولى من عمر.

ص: 196


1- المبسوط للسرخسي 10: 139. قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضا لأنّ اللّه تعالى يقول لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: «و ما كان اللّه ليعذّبهم و أنت فيهم» (الأنفال: 33) فجعلتم عمر مثل الرسول. (عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 203)
2- الأنفال: 33.

و أوكل النبيّ النجاة إلى أهل بيته في حديثه المتواتر المشهور بين الأمّة: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح» الحديث (1)، و قال أيضا: «النجوم أمان لأهل السماء و أهل بيتي أمان لأهل الأرض» (2) و أمثال هذه الأخبار المروية عن طريق المؤالف و المخالف، و نتيجة لما تقدّم: إنّ رسول اللّه قال: هؤلاء في الجنّة.

الحديث الحادي عشر: قالوا: إنّ رسول اللّه قال: أبو بكر في الجنّة و عمر في الجنّة و عثمان في الجنّة و عليّ في الجنّة و طلحة في الجنّة و الزبير في الجنّة و عبد الرحمان بن عوف في الجنّة و سعد ابن أبي وقّاص في الجنّة و سعيد بن زيد في الجنّة و عبيدة بن الجرّاح في الجنّة.

الجواب: قد قال عمر لحذيفة يوما: نشدتك باللّه أمن المنافقين أنا؟ فلو أنّه صدّق رسول اللّه ببشارته لما كان سأل حذيفة عن وضعه الديني، و لم يقع في شكّ من أمره، و لا يصحّ في مذهب الخصم تكذيب الرسول، و يسأل حذيفة في حالة الشكّ عن حقيقة أمره، و هذا يدلّ على كذب حديث العشرة، و أنّه افتراء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قال أبو بكر: «إنّ شيطانا يعتريني» و بهذا يكون مصاحبا للشيطان فكيف يبشّر بالجنّة.

و لا يصحّ في مذهب الخصم الحديث إلّا بحقّ عليّ عليه السّلام، و يبقى الباقون في العراء.

و الدليل على كذب هذا الحديث ما رواه صاحب الفتوح ابن أعثم الكوفي عن عمر أنّه قال في سكرات الموت لابنه عبد اللّه: لو رأيت أباك يقاد إلى النار أتفدينّه؟

ص: 197


1- سبق تخريجه.
2- المستدرك 3: 149؛ كنز العمّال 2/ 102؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 7؛ ينابيع المودّة 2: 443؛ النصائح الكافية لمحمّد بن عقيل: 45 و عزاه في هامش الينابيع إلى الصواعق.

و مثله حديث المصابيح: فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني، و الاتفاق حاصل على أنّهم غصبوا منها فدكا و آذوها و تأذّى النبيّ لأذيّتها، و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية (1).

و كان النبيّ قد دعاهم إلى قتل رجل من الخوارج فلم يطيعوا رسول اللّه أو يقبلوا قوله، و قالوا: لا نقتله لعلّه يقرأ القرآن.

و ذكر أبو بكر الشيرازي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أرسل عمر يوم الحديبيّة إلى أهل مكّة فأبى قبول ذلك، و قال: لا أذهب، فأرسل عثمان فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (2) فلو كان مؤمنا لأطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و اشتهر بين الخاص العام بأنّ عمر قال: ما شككت منذ أسلمت إلّا يوم قاضى فيه رسول اللّه على أهل مكّة فإنّي جئت إليه و قلت: يا رسول اللّه، ألست بنبي؟

فقال: بلى، فقلت: ألسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، فقلت له: فلم تعطي الدنيّة من نفسك؟ فقال: إنّها ليست بدنيّة و لكنّها خير لك. فقلت له: أو ليس وعدتنا أن تدخل مكّة؟ قال: بلى. قلت: فما لنا أن لا ندخلها؟ قال: وعدتك أن ندخلها العام؟ قلت: لا، قال: فسندخلها إن شاء اللّه تعالى.

و جاء في تفسير السلماني: يا علي، أنت في الجنّة و شيعتك في الجنّة (3).

ص: 198


1- الأحزاب: 57.
2- الأنفال: 24.
3- مقام الإمام علي و كنز العمّال و فيض القدير و تاريخ دمشق و ذيل تاريخ بغداد، و اقتصر هؤلاء على طرف الحديث: يا علي أنت في الجنّة ... و راجع للحديث كلّه مسند زيد: 456؛ مجمع الزوائد 9: 173؛ المعجم الأوسط 6: 355 و 7: 343؛ كنز العمّال 1: 223 رقم 1127 و 11: 323 رقم 31631؛ شواهد التنزيل 1: 414؛ الكامل لابن عدي 3: 83 و 7: 213؛ تاريخ بغداد 12: 284 و 353؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 332 و 334 و 335؛ الموضوعات 1: 397؛ ميزان الاعتدال 1: 421 قال الذهبي: ذكره ابن الجوزي في الموضوعات .. الخ و ليسس بحجّة راجع للردّ عليه اللئالي المصنوعة للسيوطي، و 2: 18 و 4: 371؛ ينابيع المودّة 1: 425.

جرت العادة أنّ في الدعاوي إقرار المدّعي يكون فتحا عظيما، و إنّ طلحة و الزبير لمّا خرجا على الإمام فهما مرتدّان كما نسب ذلك إلى القوم الذين قتلهم أبو بكر حين خرجوا عليه بمنع الزكاة «هذا كيلا بكيل ردّة بردة» دعنا من هذا و لكن الردّة على عليّ أولى و أجلى بوجوه:

الأوّل: لعصمة عليّ.

الثاني: بآية المباهلة عليّ نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الثالث: اتفق المسلمون على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «حربك حربي و سلمك سلمي» (1) و محارب رسول اللّه كافر فيكون محارب عليّ مثله.

الرابع: استخلف أبو بكر باختيار الناس و استخف عليّ عليه السّلام باختيار اللّه و رسوله.

و ذكر أبو سعيد ابن علي السمّان الحافظ الزاهد المحدّث السنّي في كتابه «المثالب» أنّ راوي الحديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، رواه في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المغيرة بن شعبة حاضر و مع ناس كثيرون، فلم يشهد أحد بسماعه من رسول اللّه غير سعيد، ثمّ إنّه أدخل نفسه مع المبّشرين بالجنّة، و هذا مدعاة لردّ الحديث بناءا على مذهب العلماء في السنّة و لو لا ذلك لأمكن النظر في الحديث من حيث القبول أو الرد، أمّا و الحال هذه فيعتبر مكذوبا به على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الحديث الثاني عشر: و رووا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ الشيطان يفرّ من ظلّ عمر ... الخ (2).

ص: 199


1- ينابيع المودّة 1: 172؛ مناقب الخوارزمي: 129.
2- صحيح ابن حبّان 15: 315؛ كنز العمّال 11: 575 رقم 32725؛ فيض القدير 5: 586؛ كشف الخفاء 2: 302؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 267: و ليس فيها ذكر للظلّ و في بعضها: ما في السماء ملك إلّا و هو يوقر عمر و لا في الأرض شيطان إلّا و هو يفرّ من عمر ... الخ.

الجواب: يقال: إنّ الشيطان وسوس لآدم كما جاء في القرآن الكريم: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ الآية (1)، و وسوس لموسى حيث قال: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ (2)، و قال أيّوب: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ (3)، و يقولون: ما من رسول إلّا و قد وقع عرضة لهذه الوسوسة: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ (4)، و قالوا: كان النبيّ في المسجد الحرام يصلّي و كان المشركون مجتمعين هناك و النبيّ يقرأ سورة و النجم حتّى وصل إلى قوله: وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (5) فألقى الشيطان في كلامه: «تلك الغرانيق العلى، و إنّ شفاعتهنّ لترتجى» ففرح المشركون بهذا و قالوا: لقد عظّم محمّد أصنامنا و أثبت لهنّ الشفاعة، فحزن النبيّ جرّاء ذلك حزنا شديدا و تألّم منه فأنزل اللّه عليه هذه الآية: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الآية.

و العجب من القوم أنّهم يجيزون وسوسة الشيطان على الأنبياء و المرسلين مع أنّهم لم يعبدوا صنما قط، و هذا عمر قضى أكثر عمره في عبادة الأصنام و كان مشركا باللّه، صار الشيطان يفرّ منه.

و لو نظرت بعين البصيرة إلى الحقيقة لكانت هذه الفرية مدعاة إلى القدح في عمر لأنّ الناس يقولون بلغ فلانا حدّا صار الشيطان يفرّ منه أي بلغ هذا الحدّ في الشيطنة.

ص: 200


1- طه: 120.
2- القصص: 15.
3- ص: 41.
4- الحجّ: 52.
5- النجم: 20.

الحديث الثالث عشر: و رووا عن الرسول أيضا بأنّه قال: وضعت في كفّة الميزان و وضعت أمّتي في أخرى فرجحت، فوضع مكاني أبو بكر فرجح، ثمّ وضع عمر فرجح بهم، ثمّ رفع الميزان (1).

الجواب: ليس في الدنيا شي ء أرخص من الكذب و أسهل منه، و قد أسلم عمر بعد شرك فكيف يرجح على رسول اللّه ثلاث مرّات، فإن كان الرجحان بالعلم فإنّه لم يعرف الأبّ حين سئل عن قوله تعالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (2) و قد أحصر في سبعين قضيّة و قضى بها عليّ عليه السّلام و هو القائل: «لو لا عليّ لهلك عمر» (3) و قال على المنبر:

كلّكم أفقه من عمر حتّى العجائز. و هذا القول مثبت في كتب أنصاره و شيعته، و أراد أن يحفظ سورة البقرة فأنفق عمره على حفظها فلم يتسنّ له و علم أنّ العلم في الكبر كالرقم على الماء.

و إن كان الرجحان بالزهد و الورع و حسن الخلق أو بالجهاد فقد أمن عمر من هذه القيم و عاش معافى منها و سليما من عاهاتها!!! أو كان بالقرابة فإنّها جميعا اجتمعت في عليّ عليه السّلام، مع أنّ عمر كان قد تمنّى أن يكون شعره في صدر أبي بكر (4).

ص: 201


1- كنز العمّال 13: 241 رقم 36720 و فيه: ثمّ جي ء بعثمان فوزن فوزنهم ثمّ استيقظت و رفعت ...؛ تاريخ دمشق 39: 116.
2- عبس: 31.
3- مناقب الخوارزمي: 81؛ نظم درر السمطين: 130؛ أحمد بن الصدّيق الغماري: 71؛ دفع الارتياب عن حديث الباب لعلي بن محمّد العلوي: 16؛ ينابيع المودّة 3: 147؛ عمر بن الخطّاب للبكري: 151 و أحال على الاستيعاب 3: 1103، و ص 189 و 369؛ الهاشميّات العلويّات: 154؛ مسند زيد: 335.
4- كنز العمّال 12: 492 رقم 35626.

و كان أبو بكر يقول: ليتني كنت شعرة في صدر مؤمن (1).

و العجب منه أنّه سرعان ما ارتفع نجمه و رجحت كفّة ميزانه إلى هذه الدرجة.

ثمّ إنّ الأعمال هي أعراض فكيف بالإمكان وزن العرض و الخصم لا يستطيع أن يثبت له عملا ليس مثله لأدنى الصحابة؟! و إن كان غرضهم من الوزن هيكل عمر و حجمه المسبطر فإنّ من اليقين أنّ عمر لم يكن بهذا الثقل بحيث يرجح على العالمين بالوزن ثلاث مرّات، و قيمة الجسم عائدة إلى قيمة الروح.

الحديث الرابع عشر: و رووا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نزل عليه جبرئيل و قال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤك السلام و يقول لك: اقرأ منّي على أبي بكر السلام و قل له: إنّي عنك راض فهل أنت عنّي راض؟!

الجواب: ألا يعلم المفتري أنّ اللّه تعالى عالم بالجزئيّات، فإذا كان أبو بكر راضيا عن اللّه تعالى فإنّ اللّه يعلم ذلك حتما و لو أنّه قدّر رضاه لوقع حتما و إلّا فوقوعه ممتنع و لا يسأل اللّه تعالى عن المحال.

ثمّ إنّ هذا القول لا يقع موقعا حسنا من مذهب القوم إذ ليس من المستحيل أن يسلبه اللّه الرضا عند الموت، و يحلّ محلّه الغضب و البغض و هو من اللّه حسن كما سبق تقريره، لأنّ الخصم لا يقول بالحسن و القبح العقليين.

ثمّ إنّ اللّه تعالى يقول لنبيّه: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (2) و عبّر عن ذلك بلفظ «عسى»، و لو صحّ هذا الحديث فإنّ أبا بكر لا يكون مؤمنا لأنّ اللّه تعالى يقول عن عباده المؤمنين في مواضع عدّة: رَضِيَ اللَّهُ

ص: 202


1- فيض القدير 4: 418.
2- الإسراء: 79.

عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (1).

و يحضرني الآن أنّ هذه الافتراءات إنّما يفتريها الدهريّون، كما قال تعالى: وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ (2) و عاش أبو بكر في الشرك إلى شيخوخته و قد أسمن ترائبه و نحره و عروقه و أمعائه بشرب الخمر و أكل ما ذبح على النصب، و في إسلامه أدخل الظلم على أهل البيت و كان البادئ بذلك و فتح باب الشرّ عليهم، كما يعلم ذلك كلّ الناس، فكيف يعطى هذه المكافئة على تلكم الأعمال.

و بلغ كذبهم إلى درجة أن رووا أنّه كان النبيّ ذات يوم راكبا و أبو بكر إلى جانبه يسير على رجليه فهبط عليه الأمين جبرئيل و قال: ألا تستحي أنت راكب و أبو بكر راجل، و عليك أن تمشي ليركب أبو بكر ... و قد قال اللّه تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (3) و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى (4) و قال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً (5) و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (6).

و بناءا على هذا فإنّ اللّه تعالى أمر بالتواضع بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أمر بالتمرّغ في تراب نعليه، و أمر بالخضوع و الخشوع عند مخاطبته فكيف يؤنّب رسوله على ركوبه بين يدي أبي بكر و لقد أجمعت الفرق الثلاث و السبعون عن عليّ عليه السّلام على أنّ

ص: 203


1- البيّنة: 8.
2- الجاثية: 24.
3- الحجرات: 2.
4- الحجرات: 3.
5- النور: 63.
6- الأنفال: 24.

مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان مجلس حلم و حياء، فكيف ينسب إليه المزاح و مع هذا فقد خاطبه اللّه بقوله: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (1) فلو صحّ ما قاله الخصم فإنّا نقول له: أليس أبو بكر من المؤمنين؟ أو أنّه لم يكن تابعا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله؟ ثمّ إنّ اللّه تعالى يحكي للمسلمين حاله معهم فيقول: وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ (2) فوصفه اللّه بالحياء و وصفه الخصم بقلّة الحياء، و اللّه أولى بالصدق من العدوّ المخالف.

الحديث الخامس عشر: و رووا عن بريدة أنّه قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض مغازيه فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول اللّه، إنّي كنت نذرت إن ردّك اللّه سالما أن أضرب بين يديك بالدفّ. قال: إن كنت نذرت فاضربي و إلّا فلا، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر و هي تضرب، ثمّ دخل عليّ و هي تضرب، ثمّ دخل عثمان و هي تضرب، ثمّ دخل عمر فألقت الدفّ تحت أستها (ثمّ) قعدت عليه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر، إنّي كنت جالسا و هي تضرب فدخل أبو بكر و هي تضرب، ثمّ دخل عليّ و هي تضرب، ثمّ دخل عثمان و هي تضرب، (فلمّا دخلت أنت ألقت الدف- المؤلّف) ثمّ دخلت أنت يا عمر فألقت الدف (3).

الجواب: هل كان ضرب المرأة بالدفّ طاعة أو معصية؟ فإن كان طاعة فلا سبيل إلى تركه لحضور أحد، و إن كان معصية فلا سبيل إلى فعله بين يدي النبي

ص: 204


1- الشعراء: 215.
2- الأحزاب: 53.
3- أسد الغابة 4: 64؛ فتح الباري 11: 510 و قال: أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، و أخرجه أحمد و الترمذي من حديث بريدة، الخ.

و أصحابه و هم قادرون على دفعها و منعها.

و أمّا خوف الشيطان من عمر فإنّه لم يخف من اللّه تعالى و لا من أنبيائه، و كما يزعم شيعة عمر لم يبق نبيّ لم يوسوس له الشيطان كرّة بعد كرّة لأنّه يجيزون على الأنبياء فعل المعصية فمن أين جاءت لعمر هذه الدرجة الرفيعة و الرتبه القصوى؟

ثمّ كيف ينشغل النبيّ و أصحابه باللهو و اللعب و اللّه تعالى يقول: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً (1)، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً الآية (2) و هم بمدحهم عمر ينتقصون جانب أخويه أبي بكر و عثمان.

الحديث السادس عشر: عن سعد بن أبي وقّاص: استأذن عمر بن الخطّاب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عنده نسوة من قريش عالية أصواتهنّ، فلمّا استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب، فدخل عمر و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يضحك، فقال عمر: أضحك اللّه سنّك يا رسول اللّه. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.

فقال عمر: يا عدوّات أنفسهنّ، أتهبنني و لا تهبن رسول اللّه؟ فقلن: نعم، أنت أفظّ و أغلظ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و الذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجّا قطّ إلّا سلك فجّا غير فجّك (3).

الجواب: إنّ هذا الحديث ينسب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المعصية بالعمل على خلاف

ص: 205


1- المؤمنون: 115.
2- الأعراف: 51.
3- مسند أحمد 1: 171 و 182 و 187؛ صحيح البخاري 4: 96 و 199؛ صحيح مسلم 7: 115؛ تحفة الأحوذي 10: 122 و 123؛ سنن النسائي 6: 60؛ مسند أبي يعلى 2: 133؛ صحيح ابن حبّان 15: 316؛ ابن أبي الحديد 2: 178؛ الطبقات 8: 181 و كتب أخرى.

أوامر اللّه، لأنّ اللّه تعالى يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ (1) و هل قصّر رسول اللّه على مذهب الخصوم في التبليغ فلم يتل هذه الآية على النساء لكي لا يرفعن أصواتهنّ على صوت النبيّ؟ حاشا من ذلك.

و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (2) و قال تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (3).

هذه الآيات و أمثالها أنزلن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى حمل الأصحاب على خفض الصوت في حضرته، فهل من المعقول أن لا يكون بلغها النساء ليعرفن أنّ رفع الصور محضور بين يديه.

ثمّ لو تغاضينا عن هذا كلّه فأنّى لنا بالسكوت عن اتهام النبيّ بالانشغال مع النساء بالحديث خلافا لمقتضى آيات القرآن، و بناءا على ما افتروه ينبغي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يكل الأمر في الشريعة إلى عمر ليسوّي ميلها و يقيم معوجّها لأنّ رسول اللّه كما يزعمه الخصم لا يبلغ الشريعة كما ينبغي له، و اللّه تعالى يقول: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (4).

أضف إلى ذلك أنّ رفع الصوت إن كان طاعة فقد تسبّب عمر في رفعها، و إن كان معصية فالرسول أولى منه بمنعها.

و أمّا قول عمر: «أتهبنني» فإنّ اللّه تعالى لم يقل: خافوا من عمر و لا خافوا من رسول اللّه بل قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (5)، و قال أيضا: فَاتَّقُوا اللَّهَ

ص: 206


1- النور: 31.
2- الحجرات: 3.
3- الحجرات: 2.
4- الشعراء: 3.
5- التغابن: 16.

وَ أَطِيعُونِ (1) و وقع هذا القول موقعه.

و أمّا قولهنّ لعمر: «أنت أفظّ و أغلظ» فهذا يدلّ على نقصان حال عمر لأنّ الغلظة و الفظاظة صفة المنافقين و الكافرين لا المؤمنين، و هذا يدلّ على سلب الإيمان من عمر، لأنّ النبيّ قال: «المؤمن إلف مألوف» (2).

و قال اللّه تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ (3) و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: المؤمنون هيّنون ليّنون (4)، كما قال تعالى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (5)، و قال: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (6).

الحديث السابع عشر: عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالسا فسمعنا لغطا و صوت صبيان، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإذا حبشيّة ترقص و الصبيان حولها، فقال: يا عائشة، تعالي و انظري، فجئت فوضعت يدي على منكب رسول اللّه فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعت أما شبعت، فجعلت أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع عمر فارفض الناس عنها، فقال رسول اللّه: إنّي لأنظر إلى

ص: 207


1- آل عمران: 50.
2- فقه السنّة 2: 599 و تمامه: و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف؛ مسند الشهاب لابن سلامة 1/ 108؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10/ 39؛ فيض القدير 6/ 329؛ كشف الخفاء 2/ 295؛ كتاب المجروحين لابن حبّان 2/ 79؛ تاريخ مدينة دمشق 8/ 404؛ ميزان الاعتدال 3/ 248. و رواه الشيعة أيضا راجع: مستدرك الوسائل 8/ 450؛ بحار الأنوار 64/ 64.
3- آل عمران: 159.
4- مسند الشهاب 1/ 114؛ الفائق 1/ 56؛ الجامع الصغير 2/ 663؛ كنز العمّال 1/ 143؛ فيض القدير 6/ 335؛ كشف الخفاء 2/ 291؛ نهاية ابن الأثير 1/ 76 و له تتمّة.
5- الفتح: 29.
6- المائدة: 54.

شياطين الجنّ و الإنس قد فرّوا من عمر (1).

الجواب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يحبّ السهل الطلق، و قال أيضا: و أوّل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن. و امتنّ اللّه على نبيّه بالخلق الحسن حيث قال:

وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (2)، و قال رسول اللّه: إنّ اللّه يبغض العفريتة النفريتة.

فتبيّن من هذا أنّ عباد اللّه هم ذووا الخلق الحسن، أمّا الفظاظة و الغلظة فهي من الصفات الذميمة لأهل النار.

و الدليل على كذب هذا الحديث قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (3)، و عمر لم يكن من الملائكة بالضرورة، و لم يكن من الجنّ أو الشياطين، فعلى هذا ليس للشياطين أن يفرّ منه لا سيّما على مذهب أهل السنّة و الجماعة الذي يجوّزون على الأنبياء وسوسة الشياطين، و حاشا للّه أن يقدّر هذا على أنبيائه الكرام و رسله العظام.

و يقول المخالف عن النبيّ أنّه قال: إنّ اللّه يغار للمؤمن فليغر (4).

ص: 208


1- سنن الترمذي 5: 284 و مكان ترقص، تزفن؛ فتح الباري 2: 370؛ سنن النسائي 5: 309؛ فيض القدير للمناوي شرح الجامع الصغير 3: 17؛ تاريخ مدينة دمشق 44: 82؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 174 بسياق مختلف.
2- القلم: 4.
3- محيي الدين النووي في المجموع 6: 529؛ مواهب الجليل للخطاب الرعيني 7: 499 تحقيق زكريّا عميرات، ط دار الكتب العلميّة- لبنان، أولى 1416؛ المبسوط 11: 37؛ كشف القناع للبهوتي 1: 572، دار الكتب العلميّة- بيروت، أولى 1418؛ نيل الأوطار 6: 368؛ فقه السنّة لسيّد سابق 1: 464، ط دار الكتاب العربي- بيروت؛ شرح نهج البلاغة 2: 139؛ مسند أحمد 3: 156 و 285 و 309؛ صحيح البخاري 2: 258؛ صحيح مسلم 7: 8، و كتب أخرى.
4- عثرت عليه في وسائل الشيعة (الإسلاميّة) 14: 176 و (آل البيت) 20: 238. و تمامه: و من لا يغار فإنّه منكوس القلب.

و قال أيضا: الربّ غيور.

و قال صلّى اللّه عليه و آله أيضا: إنّ سعدا لغيور، أنا أغير منه (1)، و اللّه أغير منّا، و من غيرته حرّم الفواحش.

فأيّ عاقل يدعو زوجته لمشاهدة الرجال الأجانب كيف يرقصون و يلعبون و لمعصية اللّه، و أقسم باللّه العظيم لو أنّ هذه الحكاية نسبت إلى فاسق فاجر جلف جاف مستهتر لشانته فما بالك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله!

الحديث الثامن عشر: عن ابن عمر: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج ذات يوم و دخل المسجد و أبو بكر و عمر أحدهما عن يمينه و الآخر عن شماله، و هو آخذ بأيديهما، فقال: هكذا نبعث يوم القيامة (2).

ص: 209


1- هذا شعر جاء في طرائف السيّد ابن طاووس: 223 و أوّله: إنّ سعدا لغيورو أنا أغير منه و إله العرش أوفى غيرة بالنقل عنه فإذا ما بانت الغيرةمن رأس فبنه مستحل ... تحصى الخوف عنه إن تخنه خلق السيف لرأس خلت النخوة منه و أخرجها في مجمع الزوائد هكذا: عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: عمر غيور و أنا أغير منه (4: 328) و قال: رواه الطبراني في الأوسط و فيه المقدام بن داود و هو ضعيف، و في حديث آخر في نفس الصفحة: و اللّه أغير منّي و من غيرته حرّم الفواحش، و 9: 74 مثله. المصنّف للصنعاني 10: 409؛ المعجم الأوسط 9: 20 و أسد الغابة 2: 284، و فيه: إنّ سعدا لغيور و أنا أغير منه، الحديث. و ما تقدّم كلّه لعمر.
2- و إليك الكتب التي أخرجته: سنن الترمذي 5: 274؛ مستدرك الحاكم 3: 68 و 4: 280؛ مجمع الزوائد 9: 53؛ كتاب السنّة لعمرو بن أبي عاصم: 602؛ المعجم الأوسط 8: 157؛ ابن مندة الاصفهاني: 41، تحقيق مسعد عبد الحميد، دار الصحابة للتراث- طنطا، أولى 1412؛ كنز العمّال 13: 17 رقم 36130؛ ضعيف سنن الترمذي للألباني: 491، تحقيق زهير الشاويش، ط مكتبة الإسلامي- الرياض، أولى 1411؛ المجروحين لابن حبّان 1: 321، تحقيق محمود إبراهيم زايد؛ الكامل لابن عدي 3: 279؛ طبقات المحدّثين باصبهان لعبد اللّه بن حبّان 4: 239؛ تاريخ بغداد 5: 128 و 12: 136؛ تاريخ دمشق 21: 296 و 297 و 44: 187 و 188؛ ميزان الاعتدال 2: 158؛ لسان الميزان 2: 154.

الجواب: هذا الحديث مخالف لكتاب اللّه القائل: وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (1) و قال: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ (2)، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا ورد منّي عليكم حديث فأعرضوه على كتاب اللّه؛ إن وافق فاقبلوه و إلّا فردّوه على الحائط (3).

فلمّا خالف كتاب اللّه وجب ردّه، و عندي أنّ هذا النشور لا يلائم مقام النبوّة لأنّه سوف تحيا بناته معه و هنّ بالقرب من رسول اللّه و على هذا فينبغي أن يستبعد عن مقامه الشريف الأجنبي البعيد من قبل هذين الاثنين و بناءا على هذا ينبغي أن نقول بثقة و اطمئنان أنّ هذا الحديث كذب صراح (4).

و روى الخاصّ و العام عن أبي ذر الغفاري بأنّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعليّ: أنت أوّل من يصافحني يوم القيامة و أنت الصدّيق الأكبر، و أنت الفاروق

ص: 210


1- مريم: 95.
2- الأنعام: 94.
3- عون المعبود 12: 232؛ أبو رية في أضواء على السنّة المحمّديّة: 99، ط دار الكتاب الإسلامي؛ أحكام القرآن للجصّاص 1: 629 و 3: 380؛ تفسير القرطبي 1: 38؛ أصول السرخسي 1: 365 و 2: 68 و 76؛ تاريخ ابن معين 1: 326؛ الأحكام للترمذي 2: 323.
4- أقول لشيخنا المؤلّف مع احترامي غير المحدود لسيادتك: فإنّ هذا دليل يتماشى مع ما عليه الأوضاع في الدنيا أمّا في عالم الآخرة لا سيّما يوم المحشر فإنّ له وضعا آخر لا يقاس به وضع الدنيا على أنّ قوله هذا رشيق جدّا و يأخذ بمجامع القلوب إلّا أنّ عليه أخذ ذلك الاعتبار بنظره.

الأعظم تفرق بين الحق و الباطل، و أنت يعسوب المؤمنين، و المال يعسوب الكفّار (1).

الحديث التاسع عشر: و قالوا: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما من نبيّ إلّا و له وزيران من أهل السماء، و وزيران من أهل الأرض، فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبرئيل و ميكائيل، و أمّا وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر و عمر (2).

الجواب: و هذا يصادم الحديث الذي رووه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ أخي و وزيري و خير من أترك من بعدي، يقضي ديني و ينجز وعدي عليّ بن أبي طالب.

قال أبو بكر الشيرازي: قال ابن عبّاس: عن أسماء بنت عميس، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: اللهمّ إنّي أقول كما قال موسى بن عمران: اللهمّ اجعل لي وزيرا من أهلي عليّ بن أبي طالب.

و أمّا من طريقنا أيّها الشيعة فقد وردت روايات جمّة في هذا المعنى و لكن الحديثين المذكورين ثبتا برواية رواتهم.

الحديث العشرون: قال المخالف: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللهمّ أعزّ الإسلام بأبي جهل ابن هشام أو بعمر بن الخطّاب (3).

ص: 211


1- كنز الفوائد للكراجكي: 121؛ الروضة في المعجزات و الفضائل: 142؛ طريق الأئمّة لآل نوح: 32؛ جامع الرواة 2: 387.
2- سنن الترمذي 5: 278؛ تحفة الأحوذي 10: 114؛ قصيدة عبد اللّه بن الأشعث: 43؛ كنز العمّال 11: 560 رقم 32647، و ص 566 رقم 32648، و 13: 15 رقم 36121؛ الكامل لابن عدي 2: 87 و 3: 454؛ تاريخ دمشق 30: 119 و 120، و كتب أخرى كثيرة.
3- مسند أحمد 2: 95؛ سنن الترمذي 5: 279 و 280؛ فتح الباري 7: 39؛ تحفة الأحوذي 10: 115؛ كنز العمّال 11: 582 و 583 و 12: 595؛ فيض القدير 5: 381؛ كشف الخفاء 1: 183 و 184؛ ضعيف سنن الترمذي للألباني: 493؛ تفسير القرطبي 11: 164؛ الدرّ المنثور 3: 43؛ فتح القدير 2: 160؛ تهذيب الكمال 1: 241؛ الإصابة 2: 398؛ البداية و النهاية 3: 101.

الجواب: لا فخر لعمر في مقارنته بأبي جهل، و أورد أبو بكر الشيرازي في تفسير سورة الحجّ، أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر أبا بكر قائلا: خذ السيف و اقتل فلانا داخل المسجد الآن لأنّه صاحب فتنة و بدعة، فلمّا جائه وجده راكعا، فرجع و قال: يا رسول اللّه رأيته ساجدا، فأمر عمر بقتله، فرجع كما رجع صاحبه، و قال: يا رسول اللّه، رأيته ساجدا، ثمّ أعطى السيف في الثالثة إلى عليّ عليه السّلام و قال: أنت صاحبه فإن وجدته فاقتله و إلّا فعد إلينا، فلمّا دخل عليّ المسجد وجد الرجل قد لاذ بالفرار.

قال أبو بكر الشيرازي: و هذا قتله عليّ عليه السّلام في صفّين (1).

أيّها القارئ الكريم، هذا هو إعزاز الدين عندهم، يقول لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اقتلا صاحب البدعة مفجر الفتنة في العالم، فلم يقتلاه و تركا أمر رسول اللّه ورائهما ظهريّا.

قال الكسائيّ في قصّة: مكتوب على العرش: «لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه،

ص: 212


1- الرواية مذكورة في كتبهم بسياقات مختلفة و أخرجها الكثير من الحفّاظ و أذكر الآن ما جاء في نيل الأوطار 7: 350 للشوكاني، فقد قال: أخرج أحمد بسند جيّد عن أبي سعيد قال: جاء أبو بكر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّي مررت بواد كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشّع يصلّي فيه، فقال: اذهب إليه فاقتله. قال: فذهب أبو بكر فلمّا رآه يصلّي كره أن يقتله، فرجع، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعمر: اذهب فاقتله، فرآه يصلّى على تلك الحالة فرجع، فقال: يا علي، اذهب إليه فاقتله، فذهب عليّ عليه السّلام فلم يره، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ هذا و أصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (فلا) يعودون فيه قاقتلوهم هم شرّ البريّة. قال الحافظ بعد أن قال: إنّ إسناده جيّد: له شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى و رجاله ثقات.

أيّدته بعليّ و نصرته به» (1).

قال أبو بكر الشيرازي: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (2) يعني بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و قال أيضا: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ (3) في سيف عليّ ذي الفقار الذي أهداه اللّه تعالى إلى آدم من الجنّة و كان قد صنعه من ورقة من آس الجنّة، و كتب عليه: لا يزال الأنبياء يحاربون به، نبيّ بعد نبيّ، و صدّيق بعد صدّيق، حتّى يرثه أمير المؤمنين.

ثمّ قال: وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ هذه هي النصرة، و الناصر عليّ، و كانت عزّة الإسلام بذي الفقار و بنصر عليّ عليه السّلام و جهاده، و ليس لعمر في النصرة و الجهاد اسم يذكر و لا خبر يؤثر، من أنّه فعل شيئا قبل الهجرة أو بعدها.

ثمّ إنّنا قد نصدّق بما قاله النبيّ عن عمر ليس للخوف منه لأنّه ليس ملكا و لا رئيسا و لا شجاعا لكي يحذروه أو يفرقوا منه و لكنّه كان ذا فتنة حتّى و هو مشرك و من أهل المكر و الحيلة و الاستبداد و الشطارة، فما كان المسلمون يأمنون شرّه و لا كيده فيهم من ثمّ دعا النبيّ عليه لكي يحمي اللّه المسلمين من شرّه، و يدفع عنهم ضرره بإظهاره الإسلام.

ص: 213


1- ذخائر العقبى: 69؛ مجمع الزوائد 9: 121؛ المعجم الكبير 22: 200؛ نظم درر السمطين: 120؛ كنز العمّال 11: 624 رقم 33040؛ شواهد التنزيل 1: 293؛ الدرّ المنثور 3: 199 و 4: 153؛ تاريخ بغداد 11: 173؛ تاريخ مدينة دمشق 6: 456 و 42: 336 و 47: 344؛ تهذيب الكمال للمزّي 33: 260؛ ميزان الاعتدال 1: 269 و 530 و 2: 76 و 382 و 3: 549؛ سبط العجمي في الكشف الحثيث: 96 و 148؛ لسان الميزان 1: 457 و 2: 268 و 484 و 3: 238 و 5: 167؛ الشفا للقاضي عياض 1: 174؛ ينابيع المودّة 1: 69 و 70 و 282 و 413 و 2: 160 و 247 و 309، هذا و لم نستند إلى كتاب واحد من كتب الشيعة على كثرتها لتكون حجّتنا على الخصوم أبلغ.
2- الأنفال: 62.
3- الحديد: 25.

الحديث الواحد و العشرون: و قالوا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر (1).

الجواب: عنوان الخيريّة يتحقّق إمّا بالحسب أو النسب، و هاتان الخصلتان موجودتان في عليّ لا في عمر.

و إمّا بالعبادة، و زعم الخصم أنّ قوله تعالى: وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (2) نزلت في عليّ عليه السّلام الذي عبد اللّه قبل عمر و عبده بعده، و كان عليه السّلام متقدّما عليهم جميعا بالسخاء و العطاء و الجهاد، و كلّما تفرضه من فعل الخير.

و إمّا بالعلم، و هو باب مدينة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يقول المخالف كما جاء في نكت فصول أبي الفتوح الاصفهاني نقلا عن الصحيح، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أوحى اللّه تعالى في عليّ ثلاثا: سيّد المسلمين، و إماما المتقين، و قائد الغرّ المحجّلين، و الذي يكون بهذه الصفة لا يمكن أن يكون إلّا حاكما على عمر، و خيرا منه (3).

لا يختلف المخالفون عن أبي بريرة بأنّ فاطمة عليها السّلام قالت: يا رسول اللّه، تزوّجني من عليّ بن أبي طالب و هو فقير و لا مال له، فقال: أما ترضين أنّ اللّه تعالى اطّلع على أهل الدنيا فاختار رجلين: أحدهما أبوك و الآخر بعلك.

ص: 214


1- سنن الترمذي 5: 281؛ المستدرك 3: 90؛ تحفة الأحوذي 10: 118؛ كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 573؛ الجامع الصغير 2: 499؛ كنز العمّال 11: 577 و 13: 5 رقم 36089؛ فيض القدير 5: 579 رقم 7937؛ ضعيف سنن الترمذي: 493؛ ضعفاء العقيلي 3: 4؛ تاريخ دمشق 44: 193 و 194؛ ميزان الاعتدال 2: 603؛ لسان الميزان 3: 448.
2- آل عمران: 17.
3- روضة الواعظين: 108؛ مناقب آل أبي طالب 2: 63 و 263؛ العمدة: 269؛ كتاب الأربعين لمحمّد طاهر القمي الشيرازي: 41؛ الجواهر السنيّة للحرّ العاملي: 227 و 231؛ كشف اليقين للعلّامة الحلّي: 303؛ تنبيه الغافلين لابن كرامة: 49، تحقيق آل شبيب، طب أولى 1420، ط مركز الغدير للدراسات.

و روي: إنّ اللّه تعالى قد اطّلع على أهل الدنيا فاختار منهم أباك، فاتخذه نبيّا ثمّ اطّلع ثانيا فاختار منهم بعلك (1).

و لو كان الحديث صحيحا فهل بمستطاع الخصم أن يفضل عمر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هذا محال، و الذي يؤدّي إلى المحال محال أيضا.

الحديث الثاني و العشرون: و قالوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: وضع الحقّ على لسان عمر و قلبه (2).

الجواب: يقول جار اللّه: شاور رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر و عمر في شأن العبّاس و عقيل، فقال أبو بكر: يطلق سراحه، و قال عمر: يقتل، فقبل رسول اللّه قول أبي بكر و ردّ قول عمر، فلو وضع الحقّ على قلبه و لسانه لما ردّ رسول اللّه قوله.

ثمّ إنّ اللّه تعالى أوجب طاعة رسوله و الأخذ بقوله بحكم: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ (3)، وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (4) فقال لأبي بكر و عمر اقتلا ذلك المبتدع في المسجد و أعطاهما السيف، فلم يطيعا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لو وضع الحقّ على لسان عمر و قلبه لما سأل حذيفة: هل أنا منافق أو لا؟ و لم يشكّ في الإسلام طرفة عين.

[حديث آخر] و بهذا يبطل قول المخالفين من أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: بينا أنا نائم رأيت الناس

ص: 215


1- مناقب ابن شهر آشوب 1: 220؛ المراجعات: 304 و قال: أخرجه الخطيب في المتفق بسنده المعتبر؛ المستدرك للحاكم 3: 129.
2- منتخب مسند عبد الحميد: 245 تحقيق صبحي السامراء و محمود الصعيدي، ط النهضة العربيّة، أولى 1408؛ علل الدارقطني 6: 258؛ تاريخ مدينة دمشق 44: 97 و 103 و 48: 73.
3- الأنفال: 24.
4- الحشر: 7.

يعرضون عليّ و عليهم قمص منها ما يبلغ الثدي و منها دون ذلك، و عرض عليّ عمر ابن الخطّاب، و عليه قميص يجرّه، قالوا: فما أوّلت يا رسول اللّه؟ قال: الدين (1).

الجواب: و هذا باطل أيضا لأنّه لو كان من أهل الدين لما شكّ في الإسلام و لم يشكّ في آية لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ (2) و لم يشكّ بقول الرسول و قد اعترف بذلك حين قال: ما شككت منذ أسلمت إلّا يوم قاضى فيه رسول اللّه أهل مكّة (3)، و مرّ بيان هذا الحديث في الحادي عشر.

الحديث الثالث و العشرون: و قالوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن حتّى لأرى الري يخرج من أظافري، ثمّ أعطيت فضلي عمر بن الخطّاب. قالوا: فما أوّلته يا رسول اللّه؟ قال: العلم (4).

الجواب: اتفق المخالفون على أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قال في أوّل خطبة على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد مقتل عثمان: سلوني عمّا دون العرش، سلوني عن طرق السماء فإنّي أعلم بها من طرق الأرض (5).

ص: 216


1- صحيح البخاري 4: 201 و 8: 75؛ صحيح مسلم 7: 112؛ سنن النسائي 8: 113؛ أسد الغابة 4: 62.
2- الفتح: 27.
3- المسترشد للطبري الشيعي: 535؛ الفصول المختارة: 27؛ بحار الأنوار 29: 21؛ عين العبرة لابن طاووس: 22؛ الدرّ المنثور للسيوطي 6: 77؛ سبل الهدى و الرشاد 5: 53 و سمّاه البخاري أمرا عظيما، 4: 26 و 125؛ و أخرجه مسلم 3: 1412؛ و الطبراني في الكبير 6: 109؛ و ابن سعد 1: 20؛ و انظر المجمع 3: 312 و 5: 67 عن هامش سبل الهدى و الرشاد 5: 53 تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، ط أولى 1414 دار الكتب العلميّة- بيروت.
4- صحيح البخاري 1: 29 و 8: 74 و 79 و 81.
5- نهج البلاغة 2: 130 خطب الإمام بتغيير يسير؛ كامل الزيارات: 155.

ثمّ قال: لو وضعت لي الوسادة و جلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الزبور بزبورهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم (1)، و اللّه ما من آية نزلت في بحر و لا برّ و لا سهل و لا جبل و لا سماء و لا أرض إلّا و أنا أعلم فيمن نزلت و في أيّ شي ء نزلت.

و قال أبو بكر الشيرازي: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (2) و أهل الذكر عليّ عليه السّلام، و كان عنده علم الصحابة.

و يقرّ المخالف بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها، و قال: أقضاكم عليّ، و القضاء محتاج إلى علوم عدّة تتقدّمه، و من لا يدري هل هو مسلم أو لا، أين يقع من العلم، و لو كان يعلم لعلم معنى وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (3).

الحديث الرابع و العشرون: و قالوا: دعا رسول اللّه في مرض موته عائشة و قال: ادعي لي أبا بكر، و أخاك حتّى أكتب كتابا فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنّ و يقول قائل: أنا و لا غيري، و يأبى اللّه و المؤمنون إلّا أبا بكر (4).

و كذلك قالوا: أتت امرأة النبيّ فكلّمته في شي ء فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا

ص: 217


1- عوالي اللئالي 4: 128؛ نهج السعادة 7: 147؛ غوالي اللئالي 4: 128.
2- النحل: 43.
3- عبس: 31.
4- صحيح مسلم 7: 110؛ السنن الكبرى للبيهقي 8: 153؛ فتح الباري 1: 186 و 13: 177؛ كتاب الوفاة للنسائي: 26؛ السنن الكبرى 4: 253؛ الطبراني في الأوسط 5: 23 و 6: 340؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 13 و قال: غير صحيح؛ كنز العمّال 11: 546 رقم 32562؛ الطبقات الكبرى 3: 180؛ تاريخ دمشق 30: 267؛ سبل الهدى و الرشاد 12: 247.

رسول اللّه، إن جئت و لم أجدك، كأنّها تريد الموت، قال: فإن لم تجديني فأتي أبا بكر (1).

الجواب: أجمع المخالفون على أنّ النبيّ رحل عن الدنيا و لم يوص في أمر الخلافة بشي ء، فإن كان الإجماع صحيحا كان حديث عائشة باطلا و كذبا.

و أمّا قوله: «و يأبى اللّه و المؤمنون إلّا أبا بكر» فهذا نصّ على خلافته و الخصم يدّعي الاختيار، فإن صحّ هذا فالاختيار باطل.

ثمّ إنّ قوله «و المؤمنون» يشمل بني هاشم و مواليهم و شيعتهم و أكابر الصحابة مثل أبي ذر و سلمان و المقداد و عمّار و محمّدا بن أبي بكر (2) و عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن مسعود (3) و سعد بن عبادة الخزرجي و جماعته و بني حنيفة أجمع هؤلاء كلّهم «المؤمنون» و قد أنكر و خلافة الأوّل و أبوها و منهم من حاربه، و أضف إليهم أتباعهم أيضا.

و لقد أجمع علماء الخلاف على صحّة حديث: «إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، حديث مجمع عليه و لا يمكن تسويته بما هو مفتعل موضوع، و أمّا ما لفّقوه عن المرأة و أمر النبيّ إيّاها بإتيان أبي بكر هو باطل و معارض بحديث المصابيح حيث ورد عن ابن عبّاس: قال سألت رسول اللّه: إذا كان ما نعوذ باللّه منه، فإلى من؟ فأشار إلى عليّ عليه السّلام فقال:

هذا، فإنّه مع الحقّ و الحقّ معه، ثمّ يكون من بعده أحد عشر إماما مفترضة طاعتهم كطاعته (4).

ص: 218


1- صحيح البخاري 4: 191 و 8: 127؛ فتح الباري 7: 16.
2- محمّد رضي اللّه عنه لم يولد بعد.
3- هذا الرجل من أخبث القوم و أنصبهم لعليّ عليه السّلام.
4- الصراط المستقيم 2: 121؛ بحار الأنوار 36: 300؛ إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسيّ 2: 164 تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث- قم، ط أولى، ربيع الأوّل 1417 ه- مطبعة ستارة؛ كشف الغمّة 3: 309 ط دار الأضواء- الثانية 1405- بيروت لبنان.

و كذلك رووا عن عمرو بن العاص بأنّه قال: إنّ النبيّ بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته، فقلت: أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها (1).

رددنا على هذه الفرية فيما تقدّم و هنا نقول: إنّه معارض بحديث عائشة و هو مشهور في كتب المخالفين، فقد سألوها: أيّ الناس أحبّ إلى رسول اللّه؟ قالت:

فاطمة، فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها (2).

و رووا كذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أوّل من ينشقّ عنه الأرض أنا ثمّ أبو بكر ثمّ عمر.

رددنا عليه بحديث أبي بكر القائل: إنّ الرسول قال: عليّ أوّل من آمن بي، و أوّل من يصافحني يوم القيامة (3).

هذا هو عليّ عليه السّلام الذي أمر النبيّ بسدّ الأبواب من المسجد إلّا بابه، و منع

ص: 219


1- صحيح البخاري 5: 113؛ صحيح مسلم 7: 109؛ مستدرك الحاكم 4: 12؛ مسند ابن راهعويه 2: 15 ط مكتبة الإيمان- المدينة المنوّرة، أولى 1412 تحقيق برد البلوسي.
2- ذخائر العقبى: 35 و 62؛ المستدرك للحاكم 3: 157.
3- مسند زيد: 452؛ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 65؛ الأمالي للصدوق: 274؛ معاني الأخبار: 402؛ مجمع الزوائد 9: 102؛ معجم الكبير للطبراني 6: 269؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 228؛ نظم درر السمطين: 82؛ كنز العمّال 11: 616 رقم 32990؛ فيض القدير 4: 472؛ ضعفاء العقيلي 2: 47؛ الكامل لابن عدي 4: 229؛ تاريخ بغداد 9: 460؛ تاريخ دمشق 42: 41 و 42 و 43 و 450؛ أسد الغابة 5: 287؛ ميزان الاعتدال 1: 188 و 2: 3 و 417؛ سير أعلام النبلاء 23: 79؛ لسان الميزان 1: 457 و 2: 414 و 3: 283؛ الإصابة 7: 294؛ البلاذري في أنساب الأشراف: 118؛ المقريزي في النزاع و التخاصم: 129؛ ينابيع المودّة 1: 195 و 244 و 387.

الصحابة من سلوك المسجد إلّا عليّا، فقد كان كرسول اللّه يخرج و يدخل من الباب الذي ظلّ مفتوحا.

جاء في المصابيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: لا يحلّ لأحد يجنب في المسجد غيري و غيرك (1).

قال حمّاد بن صرد: معناه: لا يحلّ لأحد يستطرقه جنبا غيري و غيرك.

و في رواية: في هذا المسجد غيري و غيرك، فإذا كان النبيّ في حياته سدّ في وجههم الباب و فتحه لعليّ فكيف يجوز فتحه في وجوههم يوم القيامة و قد حرّم عليهم في الدنيا مع أنّهم لم يشهدوا جنازة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رقدوا في بيت رسول اللّه بدون إذن فاطمة عليها السلام هذه السنين.

و جاء جواب آخر في نكت الفصول للعجلي: بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بشّر فاطمة بأنّها أوّل أهله لحوقا به، فتوفّيت بعد رسول اللّه، فإذا كانت فاطمة عنده كما يقول بذلك الخصم أيضا فكيف يحضرهما رجل أجنبيّ، قال اللّه تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (2)، فإذا كانت فاطمة مع أبيها، فما من أحد يستطيع

ص: 220


1- روضة الطالبين 5: 352. قال الترمذي: حديث حسن لا نعرفه إلّا من هذا الوجه؛ حواشي الشرواني 1: 271 ط دار إحياء التراث العربي- بيروت؛ البحر الرائق لابن نجيم المصري 1: 340؛ فتح الباري 7: 13؛ تحفة الأحوذي 9: 140 و 10: 113؛ الأسعودي في فضائل سنن الترمذي: 40؛ القول المسدّد لابن حجر: 19 ط مكتبة ابن تيميّة- القاهرة، أولى 1401؛ كنز العمّال 11: 626 رقم 33051 و 33052؛ تذكرة الموضوعات للفتني: 95؛ كشف الخفاء 2: 383؛ فتح الملك العلي: 46؛ تفسير ابن كثير 1: 513؛ تاريخ دمشق 42: 140؛ تهذيب الكمال 26: 252؛ ذيل تذكرة الحفّاظ: 214؛ سير أعلام النبلاء 13: 273؛ من له رواية في الكتب الستّة 1: 107؛ تهذيب التهذيب 9: 344؛ البداية و النهاية 7: 379 و 11: 77؛ نهج الإيمان لابن جبر: 444؛ سبل الهدى و الرشاد 10: 423؛ ينابيع المودّة 2: 170 و 394.
2- الطور: 21.

خرق حجاب النور المضروب عليها، و اجتمعت كلمة المنافقين أنّ فاطمة إذا دخلت عرصة القيامة نادى مناد: يا أهل الموقف، غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله (1).

و إذا ما قال المخالف: يفرق في القيامة بينها و بين أبيها، فإنّنا نقول: نعوذ باللّه ممّن يفرق بينها و بين أبيها لأنّه حينئذ يسلك به إلى جهنّم في طريق مستقيم.

و لو قال مخالفنا بأنّ نشر الزهراء بعيد عن نشر أبيها يوم القيامة، فإنّنا نقول:

و هذا القول يضرّ مخالفنا و لا ينفعه و ينقض عليه قوله.

الحديث الخامس و العشرون: و قالوا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتاني جبرئيل فأخذ بيدي، فأتى باب الجنّة الذي يدخل أمّتي، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، وددت أنّي كنت معك حتّى أنظر إليك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أما إنّك يا أبا بكر، أوّل من يدخل الجنّة من أمّتي (2).

الجواب: الحديث منقوض بما رواه السلماني و الزمخشري من علماء أهل السنّة في تفاسيرهم، عن عليّ عليه السّلام قال: شكوت إلى رسول اللّه حسد الناس لي، فقال: أما ترضى أن تكون رابع أربعة، أوّل من يدخل الجنّة أنا و أنت و الحسن و الحسين، و أزواجنا عن أيماننا و شمائلنا، و ذرّيّتنا خلف أزواجنا، و شيعتنا من ورائنا (3).

هذا الحديث يكذّب الحديث الأوّل و يصدّق الشيعة، و الحديث الأوّل رواية

ص: 221


1- مستدرك الحاكم 3: 153: صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه، و ص 161؛ لسان الميزان 2: 415 و 3: 237 و 395.
2- سنن أبي داود 2: 402؛ عون المعبود 12: 265؛ المعجم الأوسط 2: 93؛ كنز العمّال 11: 544 رقم 32551، و ص 575 رقم 32624؛ تاريخ دمشق 30: 105 و 106؛ تهذيب الكمال 33: 278؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 256.
3- سبق تخريج هذا الحديث.

سفيان و تكذيب الشيعة لهذا الحديث يستند إلى القرآن، قال اللّه تعالى: أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (1) و ليس دخول الجنّة بالطمع وحده بل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (2).

الحديث السادس و العشرون: و قالوا أيضا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمّهم غيره.

الجواب: هذا الحديث باطل برواية الخصم الذي قال: صلّوا خلف كلّ برّ و فاجر (3). فإذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أذن بالصلاة وراء كلّ برّ و فاجر فلا بدع أن يكون أبو بكر فاجرا.

و قال رسول اللّه أيضا- كما يزعمون-: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، و لم يفضل أحدا على أحد و إنّما ساوى بالاقتداء بينهم جميعا، فيكون التخصيص بأبي بكر من ضمن المفتريات على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و هذا الحديث مطلق ينسحب على زمن النبي في حياته و بعد وفاته فينبغي أن يكون رسول اللّه ائتمّ بأبي بكر لئلّا يكون من مصاديق الآية: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (4) و ليس من اللائق بجنابه أن يأمر أمّته بأمر ثمّ لا يجريه مع الإمكان، و لا يقول بائتمامه بأبي بكر مسلم.

ص: 222


1- المعارج: 38.
2- التوبة: 111.
3- شرح الأزهار لأحمد المرتضى 1: 282؛ فتح العزيز لعبد الكريم الرافعي 4: 331، ط دار الفكر؛ شرح النووي 5: 268 ط دار الفكر؛ تلخيص الحبير لابن حجر 4: 331؛ مغني المحتاج 3: 75، ط دار إحياء التراث العربي، 1377؛ المبسوط للسرخسي 1: 40؛ تحفة الفقهاء للسمرقندي 1: 229؛ بدايع الصنايع للكاشاني 1: 156؛ الجوهر النقي للمارديني 4: 19؛ البحر الرائق 1: 610 و 8: 334؛ نيل الأوطار 1: 429؛ سنن البيهقي 4: 19.
4- البقرة: 44.

الحديث السابع و العشرون: و رووا أيضا عن الصحابة بأنّهم قالوا: كنّا في زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحدا ثمّ عمر ثمّ عثمان، ثمّ نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم.

و روي: كنّا نقول و رسول اللّه حيّ: أفضل أمّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعده أبو بكر، ثمّ عمر ثمّ عثمان (1).

الجواب: هذا الحديث باطل بناءا على ما رواه المخالف الذي روى حديث النبيّ في فضل عليّ عليه السّلام أنّه قال: أعلمكم و أفضلكم عليّ.

و جاء في كتاب النكت عن عائشة أنّها قالت: كنت عند النبيّ إذ أقبل عليّ، فقال: هذا سيّد العرب. فقلت: بأبي أنت و أمّي، ألست سيّد العرب؟ فقال: أنا سيّد العالمين و هو سيّد العرب (2).

و ذكر السلماني و الزمخشري في تفسيريهما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: سبّاق الأمم

ص: 223


1- صحيح البخاري 4: 203؛ سنن أبي داود 2: 397؛ فتح الباري 7: 14؛ كتاب السنّة لعمرو بن عاصم: 553؛ سير أعلام النبلاء 10: 463؛ الإصابة 1: 24؛ البداية و النهاية 7: 230.
2- ابن عابدين، حاشية ردّ المختار 3: 690؛ ذخائر العقبى: 70؛ المستدرك 3: 124؛ مجمع الزوائد 9: 116 و 131؛ المعجم الأوسط 2: 127؛ المعجم الكبير 3: 88؛ شرح ابن أبي الحديد 9: 170 و 11: 66؛ كنز العمّال 11: 618 رقم 33007 و رقم 33008، و 13: 143 رقم 36448، و ص 145 رقم 336456؛ فيض القدير 3: 60؛ كشف الخفاء 1: 462 و 2: 71؛ إرغام المبتدع الغبي للسقاف: 58؛ الردّ على الألباني المبتدع، لعبد اللّه بن الصدّيق: 5 و 6؛ تاريخ بغداد 11: 90 و 91؛ تاريخ دمشق 42: 304 و 305 و 306؛ ذيل تاريخ بغداد 5: 60؛ ميزان الاعتدال 3: 185 و هو و إن زعم أنّ متنه باطل إلّا أنّه متّهم على ما يحكم به على الأحاديث في أهل البيت، و 4: 115؛ الكشف الحثيث: 194، و فيه يقول الذهبي: و يعمل بالظنّ؛ لسان الميزان 4: 290 و 6: 39؛ ذكر أخبار اصفهان 1: 308؛ جواهر المطالب 1: 105؛ ينابيع المودّة 1: 265 و 266 و 277، و 2: 74 و 161 و 281.

ثلاثة، لم يكفروا باللّه طرفة عين: عليّ بن أبي طالب، و صاحب يس، و مؤمن آل فرعون، و هم الصدّيقون و عليّ أفضلهم.

و ما قاله قائلهم: ثمّ نترك أصحاب رسول اللّه لا نفاضل بينهم، فهذا خلاف لقول اللّه تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (1)، و من الطبيعي أن لا يكونوا جميعا سواء في التقوى و إلّا لكان هذا الكلام لغوا و كان وجود المنافقين كالعدم.

و قال تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (2) و هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ (3)، و قال: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (4)، و: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً (5)، وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا (6)، و قال: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ (7).

و هذه الدرجة الأوليّة في القرآن الكريم، و أجمع أهل القبلة على أنّ النبيّ كان يقرّب أهل بدر أكثر من غيرهم، و يدني مجلسهم من مجلسه في المسجد.

و أمّا باقي الصحابة فقد قال في حقّ سلمان: «سلمان منّا أهل البيت».

و قال لعمّار: خالط الإيمان لحمه و دمه، يدور مع الحقّ حيث ما دار، و كذلك أبو ذر.

و أمّا عليّ فقد كان تقديمه أظهر من الشمس كما كشفنا مضمره فيما سلف.

ص: 224


1- الحجرات: 13.
2- الزمر: 9.
3- الأنعام: 50، الرعد: 16.
4- المجادلة: 11.
5- الحديد: 10.
6- الأنفال: 72.
7- التوبة: 100.

فتبيّن من هذا أنّ القرآن و الإجماع يدلّان على كذب هذا الحديث و الإجماع حاصل على أنّ عثمان لم يكن بدريّا. كامل البهائي ج 1 225 الباب الثامن في المناقب و الأخبار التي افتروها زخرفة لأباطيلهم ..... ص : 176

الحديث الثامن و العشرون: و قالوا عن النبيّ بأنّه قال لأبي بكر: أنت صاحبي في الغار، و صاحبي في الحوض (1).

الجواب: لمّا كان أبو بكر صاحبه في الغار فينبغي أن يكون صاحبه في موضع آخر بناء على قائل هذا الدليل، بينما أمر النبي عليّا أن ينام في فراشه حتّى نزلت بحقّه الآية: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ (2) و بالطبع رتبة صاحب الفراش أرفع من رتبة صاحب الغار، لأنّ هذه الخدمة ممكنة لكلّ أحد، أمّا تلك الخدمة فليست إلّا لنبيّ أو وصيّ نبيّ.

و الدليل على ذلك أنّ عبد اللّه الأرقط كان من الصحابة الذين حضروا في الغار مع النبي (3) و ليست الصحبة في الغار ذات مستوى رفيع ليتباهوا بها فقد كانت السباع و الوحوش و الأبالسة مع نوح في السفينة شهورا متعدّدة، و مثله يقال في أهل الكهف و صاحبهم الكلب. و سيأتي مزيد كلام حول هذا المعنى إن شاء اللّه.

ص: 225


1- مجمع الزوائد 9: 50؛ فتح الباري 8: 239؛ حديث خيثمة: 137، تحقيق التدمري، ط دار الكتاب العربي- بيروت 1400؛ صحيح ابن حبان 15: 17؛ المعجم الكبير 11: 316؛ ابن عمرو النقّاش في فوائد العراقيين: 23، تحقيق مجدي السيّد إبراهيم، ط مكتبة القرآن- القاهرة؛ تفسير الطبري 10: 84؛ شواهد التنزيل 1: 315 و 316؛ زاد المسير 3: 266؛ الدرّ المنثور 3: 241؛ الكامل لابن عدي 3: 256؛ تاريخ دمشق 3: 89 الخ.
2- البقرة: 207.
3- لم يشر المؤلّف إلى المصدر الذي استقى منه هذه المعلومة لنتابعه، و الآية تردّ ذلك لأنّ اللّه تعالى يقول: «ثاني اثنينى» فلو كان معهما ثالث لقال: ثالث ثلاثة أو أكثر.

ثمّ إنّ بني هاشم بصفة عامّة و عليّ بصفة خاصّة هاشميّ و قرشيّ و ابن عمّ و صهر و ناصر و ابن ناصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أخ كما قال: أنت أخي في الدنيا و الآخرة (1)، كما جاء في مصابيحهم.

و كان نجيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، جاء في المصابيح: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعا عليّا يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما انتجيته و لكنّ اللّه انتجاه (2). و للحديث دلالة واضحة تشبّه عليّا بموسى بن عمران، فكلاهما ناجاه اللّه تعالى.

و قال سلمان: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أوّلكم ورودا عليّ الحوض، و أوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب (3).

ص: 226


1- ذخائر العقبى: 66؛ سنن الترمذي 5: 300؛ المستدرك 3: 14؛ شرح ابن أبي الحديد 13: 227؛ نظم درر السمطين: 94 و 119؛ الجامع الصغير 2: 176؛ كنز العمّال 11: 598 رقم 32879؛ تذكرة الموضوعات: 97؛ فيض القدير 4: 468؛ ردّ اعتبار الجامع الصغير: 16؛ الكامل ابن عدي 2: 166 و 219؛ تاريخ دمشق 42: 51 و 52 و 96؛ أسد الغابة 4: 16 و 29؛ تهذيب الكمال 5: 126 و 20: 484؛ ميزان الاعتدال 1: 421؛ البداية و النهاية 7: 371؛ عيون الأثر لابن سيّد الناس 1: 264؛ سبل الهدى و الرشاد 3: 363 و 364، و 11: 297؛ ينابيع المودّة 1: 159 و 178 و 242، و 2: 77 و 96 و 289 و 392.
2- ذخائر العقبى: 85؛ سنن الترمذي 5: 303؛ كتاب السنّة: 584؛ مسند أبي يعلى 4: 119؛ المعجم الكبير 2: 186؛ شرح ابن أبي الحديد 7: 24 و 9: 173؛ كنز العمّال 11: 625 رقم 33049 و 12: 139؛ ضعيف سنن الترمذي: 502؛ شواهد التنزيل 2: 325 و 326 و 327 و 328 و 424؛ الكامل لابن عدي 1: 428 و 6: 247؛ تاريخ بغداد 7: 414؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 315 و 316 و 317؛ أسد الغابة 4: 27؛ ذكر أخبار اصبهان 1: 141؛ البداية و النهاية 7: 393؛ ينابيع المودّة 1: 183 و 184 و 2: 494.
3- شرح ابن أبي الحديد 13: 299؛ مسند زيد: 455؛ المستدرك 2: 136؛ تاريخ بغداد 2: 79؛ النصائح الكافية: 237.

عن أبي سعيد، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، معك يوم القيامة عصى من عصى الجنّة تطرد بها المنافقين عن حوضي (1).

و يقول أمير المؤمنين للحارث الهمداني:

أسقيك من بارد على ظمإتخاله في الحلاوة العسلا أمّا الأحاديث الواردة عن طريق الشيعة، فعن الصادق عليه السّلام أنّه قال: يا علي، أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم، و تمنعون من كرهتم، و أنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظلّ العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و تحزن الناس و لا تحزنون، فيكم نزلت الآية: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (2). (3)

و سئل رسول اللّه عن الحوض، فقال: إنّ الحوض عرضه ما بين صنعاء إلى إيله، و إنّ فيه من الأباريق عدد نجوم السماء، عليه أمير المؤمنين، يسقي منه أوليائه، و يبعد عنه أعدائه بالعصى التي معه، و هي عصى من عوسج يسمّى نفعه.

قال عليّ بن الحسين عليه السّلام:

لنحن على الحوض روّاده نذود و نسقي ورّاده

و ما فاز من فاز إلّا بناو ما خاب من حبّنا زاده

ص: 227


1- مجمع الزوائد 9: 135؛ المعجم الصغير 2: 89؛ ميزان الاعتدال 2: 178؛ تهذيب التهذيب 4: 249؛ جواهر المطالب لابن الدمشقي 1: 233؛ ينابيع المودّة 1: 396 و 2: 375 و 462.
2- الأنبياء: 101.
3- الأمالي للصدوق: 657؛ شرح الأخبار 2: 397 و 3: 444؛ فضائل الشيعة للصدوق: 16؛ بحار الأنوار 7: 179 و 8: 28 و 39: 307 و 65: 46؛ تفسير فرات الكوفي: 268؛ تفسير الصافي 3: 356؛ الأصفى 2: 792؛ تفسير نور الثقلين للحويزي 3: 460؛ تفسير الميزان 14: 336؛ بشارة المصطفى: 278؛ تأويل الآيات لشرف الدين الحسيني: 331؛ الشيعة في أحاديث الفريقين لمرتضى الأبطحي: 66.

و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده و من كان غاصبنا حقّنافيوم القيامة ميعاده (1) الحديث التاسع و العشرون: عن حفصة بنت عمر، قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم جالسا و قد وضع ثوبه على ركبته، فجاء أبو بكر فاستأذن له و الرسول على هيئته، ثمّ جاء عمر و كان على هيئته، ثمّ جاء عليّ و كان على هيئته، ثمّ ناس من أصحابه و كان على هيئته، ثمّ جاء عثمان يستأذنه فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثوبه فتحلّله، قالت: فتحدّثوا فخرجوا، فقلت: يا رسول اللّه، جاء أبو بكر و عمر و عليّ و الناس من أصحابك و أنت على هيئتك، فلمّا جاء عثمان تحلّلت بثوبك! فقال صلّى اللّه عليه و آله: أما نستحي ممّن يستحي الملائكة (كذا) .. (2).

و في رواية أخرى للمصابيح أنّه قال: إنّ عثمان رجل حيي و خفت أن أئذن له و أنا على هذه الهيئة فلا يفضي بحاجته حياءا.

الجواب: أين كان حياءه يوم ولّى منهزما في حرب أحد (3) و لمّا قتل حمزة دخل

ص: 228


1- مناقب ابن شهر آشوب 3: 295؛ بحار الأنوار 6: 181؛ ذكر الأبيات و فيها تغيير يسير و لم ينسبها للإمام السجّاد عليه السّلام، و 46: 91 ذكر نسبتها، و ص 271 نسبها للباقر عليه السّلام؛ مستدرك سفينة البحار 5: 472؛ نهج السعادة للمحمودي، نسبها في الهامش إلى الباقر عليه السّلام؛ بشارة المصطفى: 179؛ كشف الغمّة 2: 354 نسبها للباقر عليه السّلام؛ ينابيع المودّة 1: 80 نسبها للباقر عليه السّلام، و 3: 136.
2- الغدير 9: 290 و قال مولانا الأميني: ذكره ابن كثير في تاريخه 7: 203، فقال: هذا حديث غريب، و في سنده ضعف؛ المعجم الكبير 12: 252؛ كتاب المجروحين 1: 110؛ البداية و النهاية 7: 228 تحقيق علي شيري، ط دار إحياء التراث العربي- بيروت، أولى.
3- لا ملازمة بين الحياء و الشجاعة، و قد قيل إنّ الحيي لا يكون شجاعا، و لذا تمدح فيمن جمع الخصلتين: يغضي حياء و يفضى من مهابته فلا يكلّم إلّا حين يبتسم و لكن عثمان لا يدلّ هربه على صلفه بل كان من الشجرة الملعونة التي ذكرها السيّد حيدر فقال: صلابة أعلاك الذي بلل الحيابه جفّ أم من لين أسفلك الندي

الوهن على مقاتلة المسلمين و كان عثمان أوّل من هرب منهم و هو سبب هذا الوهن، و لم يعد إلّا بعد مضيّ ثلاثة أيّام، و اختبأ في غار هناك.

و أين كان حيائه يوم حنين لمّا هرب كالغزال في الهزيمة.

و لمّا تلاحيا هو و يهودي، قاضاه إلى حكم يهوديّ و قاضاه اليهودي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يرض ذلك عثمان لعنه اللّه حتّى نزلت هذه الآية: لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ (1)، فأين طار حيائه يومئذ؟!

و لمّا آوى طريد رسول اللّه مروان و صيّره وزيرا مقرّبا، و نفى أبا ذر إلى الربذة أين كان حيائه؟ و أين كان حيائه و هو يقصف بيت المال قصفا؟

و لست أدري في أيّ بقعة من بدنه كان حيائه يوم ولّى على بلاد المسلمين حمارا يعاقرها صرفا غير مشمولة و يصلّي بالمسلمين صلاة الصبح أربع ركعات، و كان عثمان يعلم به و لا يمنعه؟

و أين كان حيائه أيضا حين سلّط بني أميّة على أشعار المسلمين و أبشارهم؟

في كتاب الفتوح لابن الأعثم الكوفي: إنّ عثمان كان يأمر للرجل الواحد بمائة ألف درهم. قال: ثمّ قدم عليه عبد اللّه بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أميّة فوصله بثلاثمائة ألف .. (2).

ثمّ بعث إلى الحكم بن أبي العاص فردّه إلى المدينة و هو طريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ

ص: 229


1- النساء: 65.
2- ذكر المؤلّف أنّها ثلاثمائة ألف من بيت المال.

وصله بمأة ألف درهم من بيت مال المسلمين (و جعل له خمس أفريقيا) (1).

و بينما كان عثمان يبدّد بيت المال هنا و هناك، كان أبناء المهاجرين و الأنصار و معهم بنو هاشم و هم آل رسول اللّه و أقربائه، يتضوّرون جوعا، فأين كان حيائه و هو يخالف سنّة المصطفى؟

قال: فكبر ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كرهوا ذلك من فعله- لمّا رأوا من جوره و إتلافه أموال المسلمين، و ما عليه أبناء المهاجرين و الأنصار من الضعة و الهوان، و ما يرفل فيه بنو أميّة من الملك و الرفاهيّة ... المؤلّف- ثمّ إنّهم كتبوا كتابا و ذكروا كلّ حدث أحدثه عثمان منذ يوم ولي الخلافة إلى ذلك اليوم، ثمّ إنّهم خوّفوه في الكتاب و أعلموه أنّه إن لم ينزع عمّا هو عليه خلعوه و استبدلوا به غيره.

قال: فكتبوا هذا الكتاب، ثمّ قالوا: ننطلق به جميعا حتّى نضعه في يده فإنّنا إن ذهبنا نكلّمه و ليس معنا كتاب لم يحضرنا من الكلام ما نريد، ثمّ أقبلوا على عمّار بن ياسر و قالوا له: يا أبا اليقظان، هل لك أن تكفينا هذا الأمر و تنطلق بالكتاب إلى عثمان؟ فقال عمّار: أفعله، ثمّ أخذ الكتاب و انطلق إلى عثمان ... فأمر عثمان غلمانه فضربوه ضربا شديدا حتّى وقع لجنبه ثمّ تقدّم إليه عثمان فوطئ بطنه و مذاكيره حتّى غشي عليه و أصابه الفتق، فسقط لما به لا يعقل من أمره شيئا ...

ثمّ انطلقوا- بنو مخزوم- بعمّار إلى منزله مغشيّا عليه، فلم يصلّ ظهرا و لا عصرا و لا مغربا و لا عشاءا حتّى ذهب بعض الليل، ثمّ أفاق بعد ذلك من غشيته فقام فقضى ما فاته من صلاته كلّها (2).

فقام أصحاب رسول اللّه من أجل هذا التصرّف الأهوج و قتلوه، و صاحب

ص: 230


1- الفتوح 2: 369 و 370 ط دار الكتب العلميّة، 1406- أولى.
2- الفتوح 2: 370 و 372، و المؤلّف حذف فقرات من الرواية و ذكر ما يتمّ به الشاهد فحسب.

الفتوح لا يتّهم على ما ينقل عن نعثل لأنّه من كبار أهل السنّة و الجماعة.

و نتسائل الآن بعد ما ذكر عن حيائه و هو يضرب صحابيّا كبيرا من طراز عمّار ابن ياسر مع أنّ النبيّ قال- على ما يزعم الخصم-: اشتاقت الجنّة إلى ثلاث: عليّ و عثمان و عمّار، و هذا الحديث مذكور في كتاب «النكت العجلى».

قال صاحب الفتوح: فبلغ ذلك أبا ذر و كان مقيما بالشام، فجعل يظهر عيب عثمان هناك و يذكر منه خصالا قبيحة، فكتب معاوية بن أبي سفيان بذلك إلى عثمان ...

فكتب إليه عثمان لعنه اللّه: فابعث به إليّ و احمله على أغلظ المراكب و أوعرها، و ابعث معه دليلا يسير به الليل مع النهار حتّى يغلبه النوم فينسيه ذكري و ذكرك.

قال: فقدم بأبي ذر المدينة و قد سقط لحم فخذيه ... قال: ثمّ أمر مروان بن الحكم أن يخرج أبا ذر من المدينة على بعير بغير وطاء (1)- إلى الربذة- و تبعه جماعة من الناس يشيّعونه و يحزنون لحزنه، منهم عليّ و الحسن و الحسين رضي اللّه عنهم و عمّار بن ياسر و المقداد بن الأسود و عيينة بن عبّاس (كذا) (2) و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يعزّي أبا ذر عمّا نزل به و ينصحه و يوصيه بالصبر و الشكر، و المؤمنون يبكون لأبي ذر، و ودّعه أمير المؤمنين عليه السّلام و الحزن غالب عليه، و لمّا رجع من وداعه، استقبله مروان فقال: أليس قد أمر أمير المؤمنين أن لا يخرج أحد مع هذا الشيخ و لا يشيّعه أحد من الصحابة؟ قال: فرفع عليّ عليه السّلام (رضي اللّه عنه) قضيبا كان في يده فضرب به بين أذني بعير مروان ثمّ قال: إليك عنّا يابن الزرقاء، أمثلك يعترض علينا في الذي نصنع؟

قال: فرجع مروان إلى عثمان فأخبره بذلك، (فاستدعى عثمان أمير المؤمنين

ص: 231


1- الفتوح 2: 373 و 375 مع حذف بعض الفقرات من المؤلّف.
2- نفسه 2: 375 و ذكر المؤلّف أنّه عبد اللّه بن عبّاس و هو الصواب.

و عاتبه بكلام شديد .. المؤلّف) فقال عليّ عليه السّلام: ليس كلّ ما تأمر به يجب أن نقبل، و إن كان غير صواب.

فقال عثمان: هذا مروان يذكر أنّك ضربت بين أذني بعيره و شتمته، فأرضه من حقّه!

فقال عليّ عليه السّلام: هذا بعيري فليضرب بين أذنيه كما ضربت بين أذني بعيره و أمّا الشتيمة (1) فو اللّه لئن شتمني مروان لأشتمنّك لأنّ مروان ليس لي بكفؤ فأشاتمه (2).

قال: و لم يزل أبو ذر مقيما بالربذة يغشاه الصادر و الوارد من الحاج و غيرهم، فيعرضون عليه الحوائج فلا يقبل من أحد شيئا إلى أن حضرته الوفاة (3) ...

قال: و بلغ ذلك عثمان فقال: رحم اللّه أبا ذر، فقال عمّار بن ياسر: رحم اللّه أبا ذر من كلّ قلوبنا.

قال: فغضب عثمان ثمّ قال: يا كذا و كذا، أتظنّ أنّي ندمت على تسييره إلى الربذة؟ فقال عمّار: لا و اللّه ما أرى ذلك، فقال عثمان: ادفعوا في قفاه و أنت فالحق بالمكان الذي كان فيه أبو ذر و لا تبرحه أبدا ما بقيت و أنا حيّ. فقال عمّار: و اللّه إنّ جوار السباع لأحبّ من جوارك.

ثمّ قام عمّار فخرج من عنده، قال: و عزم عثمان على نفي عمّار. و أقبلت بنو مخزوم إلى عليّ بن أبي طالب رضى اللّه عنه فقالوا: إنّه يا أبا الحسن، قد علمت بأنّا أخوال أبيك أبي طالب و هذا عثمان بن عفّان قد أمر بتسيير عمّار بن ياسر و قد أحببنا أن نلقاه فنكلّمه في ذلك و نسأله أن يكفّ عنه و لا يؤذينا فيه ...

ص: 232


1- عند المؤلّف: و أمّا الشتيمة فما شاتمته لأنّه ليس لي بكفؤ فأشاتمه.
2- الفتوح 2: 375.
3- هذه هي عبارة صاحب الفتوح، و المؤلّف أخذ منه و لكنّه غيّر العبارة إلى قوله: يغشاه الصادر و الوارد و يعطونه القوت إلى أن وافته المنيّة. (راجع الفتوح نفس الجزء و الصفحة).

إلى أن يقول صاحب الفتوح: فقال عثمان: لأنت أحقّ بالمسير منه، فو اللّه ما أفسد عليّ عمّارا و غيره سواك! فقال عليّ رضى اللّه عنه: و اللّه يا عثمان! ما أنت بقادر على ذلك و لا إليه بواصل، فرم ذلك إن شئت .. ثمّ قول صاحب الفتوح (1).

أيّها العزيز! انظر الواقع بعين العبرة تعرف معنى حياء عثمان، نعم هذا هو الحياء الذي حمله على السلوك الخشن مع الأبرار من الصحابة مثل أبي ذر و عمّار، و على الكلام غير اللائق مع عليّ عليه السّلام الذي سمعته، سبحان اللّه من هذا الكذب الذي ينسب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، سبحانك هذا بهتان عظيم.

و أمّا قوله عن النبيّ من أنّه أبرز ركبتيه فإنّهما في مذهب أهل السنّة و الجماعة من العورة و يجب سترهما فكيف يجوز نسبة إبدائهما مع كونهما كما ذكرنا بين الحاضرين و لقد أجمع المسلمون على أنّ مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجلس حلم و حياء، و هذا يرشدنا إلى كذب الحديث، أنّ نسبة هذا إلى النبيّ يحتاج إلى وقاحة زائدة لكي يقولوا عثمان أكثر تمسّكا بالأخلاق منه، و أجدر بالحياة الفاضلة، و ليس في الناس أشدّ حياءا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث وصفه اللّه تعالى بقوله: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ (2) و لم ينزل في حياء عثمان شي ء من كتاب اللّه تعالى، و صدق اللّه حيث قال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (3).

الحديث الثلاثون: و تحدّثوا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لمّا عرج بي إلى السماء ما مررت بسماء إلّا وجدت مكتوبا: محمّد رسول اللّه، و أبو بكر زوجه ابنته و حمله إلى دار الهجرة، و أعتق بلالا

ص: 233


1- فيه زيادة على ما نقله المؤلّف يسيرة (انظر ج 2 منه ص 276 و 277).
2- الأحزاب: 53.
3- التوبة: 31.

من ماله، و ما نفعني في الإسلام مال كمال أبي بكر، و رحم اللّه عثمان؛ تسبيحه كتسبيح الملائكة، و جهّز جيش العسرة، و زاد في مسجدنا حتّى وسعنا (1).

الجواب: أجمع المحقّقون و علماء الإسلام أنّه مكتوب على ساق العرش:

«لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه، أيّدته بعليّ و نصرته ...» (2).

و اشتهر عند علماء الإماميّة أنّ النبيّ لمّا عاد من المعراج قال: جائتني الملائكة و أنا في المعراج أفواجا أفواجا يسلّمون عليّ و يسألوني عن عليّ عليه السّلام بهذه العبارة:

كيف ابن عمّك عليّ بن أبي طالب.

و لمّا نزلت من المعراج قالوا بأجمعهم: اقرأ على ابن عمّك منّا السلام، فقال أمير المؤمنين: أو كنت معروفا هناك؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنت معروف في السماء و مشهور في الأرض.

و قال أبو بكر الشيرازي: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا بلغت العرش رأيت عليّا يسبّح اللّه و يقدّسه تحت العرش، فقلت لجبرئيل عليه السّلام: سبقني عليّ بن أبي طالب؟! فقال جبرئيل: لا يا محمّد و لكنّي أخبرك، اعلم يا محمّد أنّ اللّه عزّ و جلّ يكثر من الصلاة و الثناء على عليّ بن أبي طالب فوق عرشه فاشتاق العرش إلى علّي بن أبي طالب عليه السّلام فخلق اللّه عزّ و جلّ هذا الملك على صورة عليّ بن أبي طالب تحت عرشه

ص: 234


1- الظاهر أنّ هذا ليس حديثا واحدة بل هي جملة أحاديث جمعها المؤلّف في سياق واحد و ليس بنا من حاجة إلى تخريج هذه الموضوعات!!
2- نظم درر السمطين: 120؛ تاريخ بغداد 11: 173؛ تاريخ مدينة دمشق 47: 344؛ سبط ابن العجمي في الكشف الحثيث: 96؛ لسان الميزان 3: 238 و 5: 167، و هذا غير الكتب الشيعيّة التي أخرجت الحديث و هي كثيرة مثل كفاية الأثر، روضة الواعظين، مناقب أمير المؤمنين، الروضة في المعجزات، المحتضر، الجواهر السنيّة، مدينة المعاجز و غيرها إلّا أنّ السياق ليس واحدا فقد يتفق مع سياق المؤلّف و قد يزيد عليه، و لكن المؤدّى واحد.

لينظر إليه العرش فيسكن شوقه، و جعل تسبيح هذا الملك و تحميده ثوابا لشيعته و شيعة أهل بيتك يا محمّد.

ثمّ قال: يا محمّد، أحبّ عليّ بن أبي طالب فإنّ اللّه يحبّه و يحبّ من يحبّه، إنّه لا يحبّه إلّا مؤمن تقي، و لا يبغه إلّا منافق ردي، يا محمّد، إنّ حملة العرش و الكرسي و الصافّين حول العرش و الكرّوبيّين و الروحانيّين أشدّ معرفة لعليّ بن أبي طالب من أهل الأرض له.

يا محمّد، من أحبّ أن ينظر إلى يحيى بن زكريّا في زهده، و إلى المسيح في صومه، و إلى سليمان في سخائه، و إلى موسى الكليم في غلظته، و إلى داود في خلقه و بكائه، فلينظر إلى وجه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و يقول المخالف: إنّ عمر وضع في الميزان فرجح على النبيّ و أبي بكر و العلم كلّه ثلاث مرّات، فكتب اسمه في السماوات أولى من أبي بكر، و أحسب أنّ واضع هذا الكذب و الافتراء فاته أنّ عمر أيضا زوّجه ابنته فيكون عمر بناءا على ما يدّعيه الخصم أفضل من أبي بكر لرجحانه في الميزان.

و كان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمانية عشر امرأة أكبرهنّ خديجة، ثمّ أمّ سلمة، و عائشة هي تلك المرأة التي اعتلت غارب الجمل و قادت العسكر، و برزت امام الناس، و كتّبت الكتائب من الميمنة إلى الميسرة كما ذكر المؤرّخون، و أهل الجمل ملعونون عند اللّه تعالى و هم عند الشيعة مرتدّون و كفّار، فإذا ما فخر الخصم بعائشة و أضافوها إلى حسنات أبيها المزعومة فإنّ فاطمة هي الأولى بإجماع المفسّرين: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1) و هم عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام. و حكاية هذا الحديث كما أجمع عليه المفسّرون ما روته أمّ سلمة

ص: 235


1- الأحزاب: 33.

رضي اللّه عنها و الاتفاق حاصل على معناه و لكن الاختلاف في ألفاظه .. قالت:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عندي و طبخت له طعاما و هو قائل في البيت إذ أقبل الحسنان و جلسا عند جدّهما، و جائت فاطمة عليها السّلام و جلست إلى جانب أبيها ثمّ جاء عليّ بعدها، فلمّا استيقظ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأيته و البشر طافح على وجهه الشريف، فرأى بردا خيبريّا موضوعا هناك فأخذه و جلّلهم به، و قال: اللّهمّ إنّ لكلّ نبيّ أهل بيت و هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، فهبط جبرئيل بهذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ، الآية، فقالت أمّ سلمة: يا رسول اللّه، ألست من أهل بيتك؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك إلى خير و إنّما أهل بيتي هؤلاء (1).

و ذكر الأبيات التالية أبو عبد اللّه الدامغاني و هو من أهل الحديث، في كتابه سوق العروس، في شرح هذه الآية:

إنّ يوم الطهور يوم عظيم فاز بالفضل فيه أهل الكساء

قام فيه النبيّ مبتهلا ضارعا إلى ربّه بحسن الرجاء

قال يا ربّ إنّهم أهل بيتي فاستجب فيهم إلهي دعائي

أذهب الرجس عنهم و عن الأبناء منهم و عن بني الأبناء

رحمة اللّه و السلام عليكم و صلاة الأبرار و الأتقياء (2)

ص: 236


1- تذكرة الفقهاء للحلّي 2: 477؛ كشف الغطاء لجعفر كاشف الغطاء 1: 8؛ الشرح الكبير لابن قدامة 6: 230؛ ذخائر العقبى: 23؛ الجمل لضامر بن شدقم: 150، تحقيق تحسين الموسوي، ط أولى، مطبعة (محمّد)؛ الأربعين للماحوزي: 41؛ خصائص النسائي: 49 و 81؛ المعجم الأوسط 4: 236؛ نظم درر السمطين: 133؛ التبيان 8: 339؛ تنبيه الغافلين لابن كرامة: 42 و 136 و 138؛ صحيفة الإمام الحسن للقيّومي: 178، ط دفتر انتشارات اسلامي؛ السيّدة فاطمة الزهراء للبيومي: 24 و 25.
2- ذكرها في ذيل كشف الظنون و نسبها إلى الدامغاني: 55، و في البيت الثاني زحاف. و ذكرها في الذريعة منسوبة إليه من كتابه سوق العروس 12: 256 الذريعة و ص 257، و في الذريعة: يوم التطهير، و هو أنسب.

و كان زواج الزهراء في السماء أو في الجنّة باختلاف الروايات التي رواها المخالف و المؤالف، و قد شرحت هذا المجلس في كتاب مناقب الطاهرين و إنّما ذكرناه هنا بأخصر عبارة لتعمّ به الفائدة.

قال أبو بكر الشيرازي: قال جابر بن عبد اللّه الأنصاري: كنت يوما بين يدي النبي في المسجد، فأقبل أبو بكر على النبي و قال: يا رسول اللّه، إنّك تعرف صحبتي لك و تركي قومي في الهجرة لأجلك و إنفاقي ما لي عليك، و أعتقت بلالا من أجلك و جئتك اليوم لتزوّجني ابنتك فاطمة. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: حتّى ينزل الوحي بهذا، فخرج من عنده فاستقبله عمر بن الخطّاب فسأله عن أمره، فقال: كنت عند رسول اللّه، و قصّ عليه القصّة، فأقبل عمر حتّى دخل على النبيّ المسجد و حكى له ما كانت عليه حاله من الإسلام و الهجرة و المحبّة و الجهاد في الإسلام، و طلب منه يد سيّدتنا فاطمة، فقال النبي: إنّما أمري و أمرها إلى اللّه فما لم يأذن بذلك لا أفعله.

فقال عمر: فخرجت من عنده فتلاقيت و عليّا في الطريق، فقال لي: من أين أقبلت يا أبا حفص؟ فقلت: حضرت عند النبيّ و خطبت فاطمة فأوكل أمرها إلى الوحي.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: فذهبت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جلست إلى جانبه و قلت:

يا رسول اللّه، إنّك تعرف حقّي و حقّ أبي طالب عليك و تعرف قرابتي منك و جهادي الكفّار، فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وجهي و قال: يا علي، هل من حاجة؟ فأجبته:

جئتك خاطبا ابنتك فاطمة، فقال النبيّ: و هل معك شي ء من المال؟ فقلت: يا رسول اللّه، ناضحي و درعي. فقال: لا غنى لك عن ناضحك، فبع الدرع و جئني

ص: 237

بثمنه، فقال عليه السّلام: فبعته في السوق بأربعمائة و ثمانين درهما و أقبلت بها فصببتها في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان جماعة من أصحابه عنده.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: فأمرني رسول اللّه أن أخطب لنفسي ففعلت، و أشهد النبيّ على نفسه أصحابه و قال في الختام: معاشر أصحابي، اعلموا أنّي أنكحت فاطمة من عليّ عليه السّلام بأمر من اللّه تعالى و لقد هبط عليّ جبرئيل و قال: إنّ اللّه يقرئك السلام و يأمرك أن تزوّج عليّا من فاطمة و إنّي زوّجتها منه قبل خلق السماوات بألفي عام، و كان الخطيب جبرئيل و الملائكة حملة العرش شهود، و أوحى إلى شجرة طوبى أنّي إنّما خلقتك لهذا اليوم فاحملي ما قدرت عليه من الجواهر و الدرر و انثريه كرامة لفاطمة، و زيّن الحور العين باليواقيت و الحلل و أنواع الزينة و أمرهنّ بالحضور تحت شجرة طوبى، قفلمّا حضر الجمع أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما حملتيه على الحور العين و أمرهنّ بالتقاطه و رحن يتهادينه و يقلن: «هذا نثار فاطمة بنت محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله».

فقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبضة من ثمن الدرع و دفعها إلى سلمان و قال: اذهب إلى السوق و اشتر ما تحتاجه من الثياب و أثاث البيت، و أعطى قبضة ثانية إلى المقداد ليشتري لها طيبا، و قال أبو ذر: أعط ذلك إلى أمّ هانئ أخت الإمام لتضعها بمفرق فاطمة عليها السّلام، و لمّا فرغ من الجهاز قال لعليّ عليه السّلام: اذهب إلى بيت فاطمة عليها السّلام «و إيّاك أن تمسّها حتّى آتيكم».

فما مضت ساعة من الوقت حتّى وقف رسول اللّه على بابها و طرق الباب، فقالت أمّ هاني: من؟ فقال النبيّ: أخي عليّ هنا؟ فقالت: يا رسول اللّه، أخوك و تزوّجه ابنتك؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه أوقع الأخوّة بيني و بينه كما أوقع الأخوة بين موسى و هارون، عند ذلك أقبل النبيّ على الفراش، فقال النبيّ: يا علي، هذا جبرئيل قد حضر و معه سبعون ألفا من الملائكة و هم يزفّون فاطمة إليك.

ص: 238

ثمّ قال النبيّ لأمّ هاني: ناوليني قدحا فيه ماء، فتناوله من يدها و رشّ منه على صدر فاطمة صلّى اللّه عليها و قال: اللهمّ إنّي أعيذها و ذرّيّتها من الشيطان الرجيم، ثمّ تناول كفّا أخرى من الماء و رشّها بين كتفي الإمام عليه السّلام و قال: اللهمّ إنّي أعيذ أخي عليّا بن أبي طالب و ذرّيّته من الشيطان الرجيم، ثمّ قال: بارك اللّه فيكما و بارك لكما و بارك عليكما.

و أمّا ما قالوه من أنّ أبا بكر حمله إلى دار الهجرة، فإنّ أبا بكر لم يكن له مأوى في المدينة إنّما حلّ ضيفا على الأنصار، و الذي نذهب إليه أنّ النبيّ لم يصطحبه معه و الذي يدلّ على كذب الحديث قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ (1) و لم يقل «لحامله»، و عبد اللّه بن الأرقط أولى بهذه الصفة من أبي بكر، لأنّه كان دليل النبيّ في هجرته، و قال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (2) بضمير الواحد و لم يأت بالتثنية «هما» فينبغي أن يكون الكفّار أخرجوا النبي، و كان أبو بكر من نافلة القول.

و إذا لزم الخصم جانب العناد فلنا أن نخصمه بقول اللّه تعالى: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (3)، فلو كان مع النبيّ أو كان لهجرته فضل لمدحه اللّه عليه و كما مدح الناصرين مدح الحاملين أيضا، فلمّا سكت اللّه عن ذلك فإنّنا نسكت عنه أيضا بحكم الأثر: «فاسكتوا عمّا سكت اللّه عنه».

و أمّا ما قالوه من أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: احفظوني في أصحابي، آووا و نصروا فإنّهم خيار أمّتي، و قال: من أحبّ جميع أصحابي و تولّاهم و استغفر لهم جعله اللّه يوم القيامة معهم في الجنّة، و قال: مثل أصحابي مثل النجوم من اقتدى بشي ء منها

ص: 239


1- التوبة: 40.
2- التوبة: 40.
3- الأنفال: 30.

اهتدى، و قال تعالى: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ (1)، و قال اللّه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ (2) و أمثال هذه الآيات و الأخبار المذكورة في مناقب المهاجرين و الأنصار، و كلّها تدلّ على أنّ المسلم لا ينبغي له أن يقول فيهم إلّا الخير، آمنّا و صدّقنا، أنّ الاستغفار لنفر خاصّ من الصحابة واجب كوجوب الصلاة و الصيام، و أمّا الذين برء منهم طائفة الشيعة فهم جماعة من الصحابة عرّفوهم بأسمائهم و أنسابهم و هم الذين ظلموا أهل بيت العصمة و الطهارة ظلما صريحا و جورا قبيحا، و اللّه تعالى يقول: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (3).

و الشيعة قول واحد أنّه لا يجوز سبّ أحد منهم إلّا إذا ثبت بالبرهان القاطع حاله، و أنّ سبّه ما لم يقم الدليل عليه، و عداوته من أعظم الخطيئات و المعاصي، و قد نزل ربع القرآن في المنافقين و هم الذين خانوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أراد النبيّ بيان حالهم و كشف أمرهم و لكنّ اللّه لم يأذن له، و قال له: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ (4)، و قال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ (5) و قال: فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ* عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ* أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (6).

إذا: الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، و في الآية الثانية أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ

ص: 240


1- التوبة: 100.
2- الفتح: 18.
3- هود: 18.
4- الأحزاب: 48.
5- الأحزاب: 60.
6- المعارج: 36- 38.

لا يعني به الكفّار لأنّ الكافر لا طمع له بدخول الجنّة، و لم يكن الكافرون حول النبيّ ليصدق بحقّهم عن اليمين و عن الشمال عزين؛ فتبيّن من هذا بأنّهم قوم لزموا رسول اللّه و لكنّهم لم يعملوا عملا حسنا يستحقّون به دخول الجنّة و إن طمعوا في دخولها.

و جاء في مصابيحهم أنّ النبيّ قال في حجّة الوداع: لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض (1).

و قال فيه: أنا فرطكم على الحوض من مرّ بي شرب و من شرب لم يظمأ أبدا، و ليرون (كذا) قوم أعرفهم و يعرفونني ثمّ يحال بيني و بينهم، فأقول: إنّهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثو بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن غيّر بعدي (2) و قال

ص: 241


1- سبل السلام لابن حجر 2: 214؛ نيل الأوطار للشوكاني 1: 377 و 3: 379 و 381 و 5: 156؛ مسند أحمد 5: 39 و 44 و 45 و 49 و 68 و 73؛ سنن الدارمي 2: 69؛ صحيح البخاري 2: 191 و 192 و 7: 112 و 8: 16 و 36 و 91؛ مجمع الزوائد 1: 156؛ الديباج على مسلم 1: 86؛ شرح سنن النسائي 7: 126؛ تحفة الأحوذي 6: 361؛ عون المعبود 12: 288 و 13: 167؛ مسند الطيالسي: 92؛ المصنّف لابن أبي شيبة 8: 602 و 603 و 8: 616؛ خلق أفعال العباد للبخاري: 79؛ تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 13؛ بغية الباحث لابن أبي أسامة: 128 و 245؛ الآحاد و المثاني للضحّاك 3: 209 و 210 و 302؛ سنن النسائي الكبرى 2: 316 و 443 و 3: 446؛ مسند أبي يعلى الموصلي 3: 39 و 7: 37 و 9: 223 و 435 و 442 و 12: 217؛ المنتقى من السنن المسندة لابن جارود النيسابوري: 212، تحقيق عبد اللّه البارودي، ط مؤسسة الكتاب الثقافيّة- بيروت، أولى 1408؛ صحيح ابن حبّان 1: 416 و 13 268 و 289، و كتب أخرى يصعب استقصائها لا سيّما كتب الشيعة منها.
2- المسند 1: 257 و 384 و 402 و 406 و 407 و 425 و 439 و 453 و 455 و 2: 408 و 5: 333 و سياقه أقرب إلى المؤلّف، و ص 339 مثله؛ صحيح البخاري 7: 206 و 207 و 8: 87؛ صحيح مسلم 7: 66 و 68؛ سنن ابن ماجة 2: 1439 و 1440؛ المستدرك 4: 74؛ مجمع الزوائد 2: 85 و 6: 254 و 10: 364؛ مصنّف عبد الرزّاق 11: 60؛ مسند الحميدي 2: 342 و 343؛ مصنّف ابن أبي شيبة 7: 412 و 8: 602 و 603؛ كتاب السنّة لعمرو بن أبي عاصم: 331 و 341 و 345؛ المعجم الأوسط 3: 186؛ المعجم الكبير 6: 137 و 143 و 156 و 171 و 6: 200 و 11: 28 و غير هذه الكتاب كتب أخرى، أمّا حديث أنا فرطكم على الحوض فهو من المتواترات و لم يبق حافظ لم يخرجه.

تعالى: وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ (1).

و أمثال هذا كثير في القرآن و هي مبنيّ على ارتداد أمّة النبيّ من بعده و إن كان بزعم الخصم أنّة مدح جماعة من الصحابة فهذا صحيح إلّا أنّ صيغته للعموم و لا يصحّ حملها على قوم بخصوصهم بل لا تتناول إلّا من توفّرت فيه شروط خاصّة و هو من يتيقّن صلاحه أو مجهول الحال مع أنّ الرواية وردت عن طريق الخصم هكذا: احفظوني في عترتي فإنّهم خيار عشيرتي (2).

[حديث آخر:] و قولهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ لكلّ نبيّ رفيقا و إنّ رفيقي في الجنّة عثمان (3).

الجواب: هذا الحديث مخالف للقرآن بالتخصيص لأنّ اللّه تعالى يقول: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ

ص: 242


1- آل عمران: 144.
2- ورد الحديث من طريق الشيعة هكذا: احفظوني في عترتي و ذرّيّتي، فمن حفظني فيهم حفظه اللّه، الحديث. الأما لي للطوسي: 703؛ بحار الأنوار 30: 51؛ كلمات الإمام الحسين للشيخ الشريفي: 118؛ كشف الغمّة 2: 42. و جائت تتمّته في المصادر الشيعيّة: ألا لعنة اللّه على من آذاني فيهم، ألا لعنة اللّه على من آذاني فيهم- ثلاثا-. و جاء من طريق الخصم على النحو التالي: احفظوني في أصحابي فإنّهم خيار أمّتي، و احفظوني في أهل بيتي ... مسند الشهاب لابن سلامة 1: 419، تحقيق حمدي السلفي، ط مؤسسة الرسالة- بيروت، أولى 1405.
3- تهذيب الكمال 2: 457؛ تهذيب التهذيب 4: 292؛ الإصابة 4: 387؛ البدآية و النهاية 7: 237. قال الترمذي: هذا حديث غريب و ليس إسناده بالقوي و إسناده منقطع.

وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (1) و المعنى- و اللّه العالم- أنّ أهل الطاعة مع الأنبياء في الجنّة، و رفقاء الأنبياء فيها هم الصدّيقون و الشهداء و الصلحاء، و سوف يضرب بين الرجال و النساء بحجاب، و دليلنا على ذلك وجوه:

الأوّل: حديث فاطمة عليها السّلام حيث أجمعت كلمة علماء أهل القبلة بأنّ فاطمة حين تجتاز يوم المحشر إلى موقفها ينادي مناد من بطنان العرش: غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ثانيا: قال اللّه تعالى: وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (2) فإذا كان الأمر كذلك فلا يكون رفيق رسول اللّه إلّا ذرّيّته لوجود بنات رسول اللّه و نسائه، كما قال تعالى:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (3) مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أنا و كافل اليتيم في الجنّة، و أشار بالسبّابة و الوسطى، و بالضرورة لا ينال شرف رتبة الرفاقة إلّا كافل اليتيم و لا تخلو محلّة من محالّ المسلمين من وجود واحد و اثنين أو أكثر من كفلاء الأيتام و كلّ واحد درجته تربو على درجة عثمان.

فإذا ثبت حديث عثمان فهذا ثابت لا مرية فيه مع أنّ جماعة من المفسّرين قالوا عن قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ (4) أنّ هذا العدوّ هو أبو بكر و عمر و عثمان لأنّهم يكيدون النبيّ دائما و أبدا، و يعيقون بكذبهم و افترائهم أعمال النبيّ و يؤخّرون تقدّم المسيرة الجهاديّة له. و كان ممّا كادوا فيه النبيّ استمرار الكذب عليه و الافتراء ليختلط الحقّ بالباطل و الخير بالشرّ، فتتقدّم مكائدهم.

ص: 243


1- النساء: 69.
2- الصافّات: 48.
3- الطور: 21.
4- الأنعام: 112.

ثمّ إنّ ما رواه المخالف من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل من يدخل الجنّة أنا و الحسن و الحسين» (1) يكذّب هذا الحديث.

و في كتاب «المنتهى» لعبد اللّه بن عبد الأعلى القطّان الاصفهاني و مناقب أبي بكر مردويه الاصفهاني و تفسير أبي بكر الشيرازي عن رسول اللّه أنّه قال لعمر يوما:

إنّ في الجنّة شجرة تغطّيها و أصلها نابت في جنّتي، و وصف الشجرة في اليوم الثالث و قال: أصلها في بيت عليّ عليه السّلام. فقال له عمر: يا رسول اللّه، ألست قلت ذلك اليوم أنّ أصل الشجرة في جنّتك و اليوم تقول في بيت عليّ؟! فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عمر، ألا تعلم أنّ بيتي و بيت عليّ واحد، و قصري و قصره واحد، و داري و داره واحدة.

[حديث آخر] و أمّا الذي رووه عن محمّد بن الحنفيّة أنّه قال: قلت لأبي: أيّ الناس خير بعد النبي؟ قال: أبو بكر. قلت: ثمّ من؟ قال: عمر، و خشيت أن يقول عثمان، قلت: ثمّ أنت؟ قال: ما أنا إلّا رجل من المسلمين (2).

الجواب: لو صحّ هذا الزعم، لما جرّ الحسن أبا بكر من على المنبر إلى الأرض، و لو صحّ هذا لما تقاعد أمير المؤمنين عن بيعة أبي بكر ستّة أشهر حتّى ماتت فاطمة ثمّ بايع، و هذا ما يزعمه الخصم، أمّا نحن أيّها الشيعة فنقول: إنّ عليّا لم يبايع أبا بكر

ص: 244


1- المستدرك 3: 151: أوّل من يدخل الجنّة أنا و فاطمة و الحسن و الحسين. قلت: يا رسول اللّه، فمحبّونا؟ قال: من ورائكم، صحيح الإسناد و لم يخرجاه؛ كنز العمّال 12: 98 رقم 34166 و 13: 639 رقم 37614؛ شواهد التنزيل 1: 185؛ تفسير القرطبي 16: 22؛ تاريخ مدينة دمشق 14: 169؛ ميزان الاعتدال 3: 635؛ مناقب الخوارزمي: 62 و 317 و فيه: أوّل من يدخل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؛ ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر: 181 و 182؛ جواهر المطالب لابن الدمشقي: 229؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 7؛ ينابيع المودّة 2: 202 و 355 و 445 و 451 و 3: 140، و استثنينا كتب الشيعة لأنّها ليست حجّة على الخصوم، و إن كانت أوثق من مصادرهم.
2- صحيح البخاري 4: 195؛ فتح الباري 7: 26 و 27؛ الإصابة 1: 24.

قطّ ... و جائت الأخبار متواترة من طريق المخالف بأنّ عليّا خير الخلق و الدليل على هذا الحديث ما جاء في كتاب «الفصول العجلى» أنّ النبيّ لمّا أخبر عن ذي الثدية، قال: يقتله خير الخلق، و روي خير هذه الأمّة (1)، و ذو الثدية قتله عليّ عليه السّلام.

و كنت قد حرّرت هذه المسألة في جوامع الدلائل و الأصول في إمامة آل الرسول ببسط تامّ.

و ذكر إسماعيل الاصفهاني في الأربعين: عليّ خير البشر من أبى فقد كفر.

و إنّ كتب الفرق البالغة ثلاثا و سبعين فرقة ناطقة كلّها بمناقب عليّ عليه السّلام، و نزلت في حقّه وحده سورة هل أتى، و سبق في الهجرة، فنزلت آيات عدّة تشيّد بمواقف السابقين و مع هذه المناقب كيف يجوز على عليّ أن يقول: أمّا أنا فرجل من المسلمين؟!

و إذا كان هذا الحديث صحيحا فكيف اعتبره المخالفون الإمام الرابع؟ و لماذا أعلن مرارا على المنبر عن ذمّ من تقدّمه منهم؟ و إنّي لأحسب أنّ كلّ من وقف على هذه الأحاديث المفتراة و وقف على ردّها و نقضها فإنّه يصير صاحب ملكة فلا يسمع حديثا مفترى و إن لم نتعرض لإبطاله فإنّه قادر على ردّه و دفع الشبهة المودعة فيه.

و لمّا فرغ أبو الفتوح الحسين بن عليّ بن محمّد الخزاعي من مناقب أبي بكر و عمر و عثمان التي استمعت إلى ردّها و نسفها بعون اللّه، فقد جعل خاتمة كلامه حديثا في مناقب عليّ عليه السّلام و هو كما يلي: روي عن ابن عبّاس أنّه قال: كنت في الموسم أحدّث الناس فأقبل رجل يعتمّ عمامة سوداء و وقف يعظ الناس، فقال في ختام كلامه: من

ص: 245


1- اختيار معرفة الرجال 1: 239، و قال محقّق الكتاب: رواه القاضي عضد الدين الإيجي في المواقف 2: 615.

عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا صاحب رسول اللّه جندب بن جنادة البدري الغفاري، أبو ذر، و لقد رأيت رسول اللّه في هذا المكان بعيني و إلّا عميتا، و سمعته بأذنيّ و إلّا صمّتا، يقول: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) أمّا الذرّيّة فمن نوح، و الآل من إبراهيم، و السلالة من إسماعيل، و العترة الهادية و ذرّيّة الطاهرة من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الصدّيق الأكبر عليّ بن أبي طالب، فأيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها لو قدّمتم من قدّمه اللّه، و أخّرتم من أخّره اللّه و رسوله لما عال وليّ اللّه و طاش سهم في سبيل اللّه، و لا اختلفت الأمّة بعد نبيّها في شي ء إلّا كان تأويله عند أهل البيت، فذوقوا بما كسبتم وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (2). (3)

عن ابن عبّاس قال: كنت في سنة من السنين في موسم الحجّ (4) فرأيت رجلا على هيئة الأعراب، عليه عمامة سوداء، فكلّما حدّثت بحديث حدّث به، ثمّ قال:

معاشر الناس، من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا أنبئه باسمي، أنا جندب بن جنادة البدري الغفاري، أنا صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، سمعته يقول في هذا المكان و إلّا صمّت أذناي: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (5) فأمّا الذرّيّة فمن نوح، و الآل من إبراهيم،

ص: 246


1- آل عمران: 33 و 34.
2- الشعراء: 227.
3- يوجد شطر من هذا الحديث ضمن حديث طويل في كتاب سليم بن قيس: 156، و الاحتجاج 1: 231، و بحار الأنوار 27: 319 و 28: 247 و 275.
4- نقلت هذا السياق من الماحوزي، كتاب الأربعين، ص 337 و جعلته ضمن المتن لعدم اختلافه مع سياق المؤلّف إلّا في مواضع يسيرة، و لأنّ سياق المؤلّف مترجم إلّا قول أبي ذر.
5- آل عمران: 33 و 34.

و السلالة من إسماعيل، و العترة الهادية و ذرّيّة الطاهرة من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الصدّيق الأكبر عليّ بن أبي طالب، فأيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها لو قدّمتم من قدّمه اللّه، و أخّرتم من أخّره اللّه و رسوله لما عال وليّ اللّه و طاش سهم في سبيل اللّه، و لا اختلفت الأمّة بعد نبيّها إلّا كان تأويله عند أهل البيت، فذوقوا بما كسبتم وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.

[حديث آخر] قال الأحنف بن قيس: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار، قلت: يا رسول اللّه، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنّه كان حريصا على قتل صاحبه (1).

الجواب: و هذا الراوي ظاهر الحال هو عدوّ أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان غرضه منع الناس من نصرة عليّ عليه السّلام مع أنّ عمّار استشهد في حرب صفّين.

و جاء في صحيح البخاري محمّد بن إسماعيل عن أبي سعيد أنّه قال: كنّا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة و كان عمّار لبنتين لبنتين، فمرّ به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مسح عن رأسه الغبار، فقال: ويح عمّار يدعوهم إلى الجنّة و يدعونه إلى الجنّة و يدعونه إلى النار (2). ويح عمّار تقتله الفئة

ص: 247


1- تجده مرويا عن أبي بكرة من دون ذكر الأحنف في نيل الأوطار 6: 77 و 7: 198 و قال: متفق عليه. و رواه الصدوق في العلل 2: 462 و فيه: إذا التقى المسلمان بسيفيهما على غير سنّة ... الحديث. و تهذيب الأحكام 6: 174 و الحديث مستفيض مشهور رواه جلّ الفريقين. و الرجل المبهم في سياق المؤلّف هو الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد أجاب عنه المؤلّف بما يشفي الصدور.
2- البخاري 1: 115.

الباغية، عمّار يدعوهم إلى اللّه و يدعونه إلى النار (1).

و هذا الحديث الثاني يناقض الحديث الأوّل مع أنّ الحديث الثاني مجمع عليه و متلقّى بالقبول، و في صفّين استشهد عمّار و خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و أبو الهيثم ابن التيّهان و عبد اللّه بن بديل الخزاعي و هاشم بن عتبة ابن أخي سعد بن أبي وقّاص، و صعصعة بن صوحان، و أويس القرني مع سبعين رجلا قتلوا جميعا في يوم واحد مع عليّ بسيف معاوية، و هذه الجماعة كلّها كما قال النبيّ من أهل الجنّة.

جواب آخر: بنصّ سورة هل أتى و آية التطهير و آية المباهلة إنّ الحسين عليه السّلام من أهل الجنّة، و شهد النبيّ بحقّه من أنّه سيّد شباب أهل الجنّة، و قد رويت أحاديث في هذا المعنى من طرق المؤالف و المخالف، من غير تحديد، و كذلك عترته بدلالة حديث مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ... الحديث.

و أجمعت الأمّة على أنّ شهداء كربلاء من المؤمنين و من أهل الجنّة مع الملائكة الذين يزورون الحسين و أصحابه و عترته، و مشهد قبلة الحاجات للعالمين، و لا تمرّ سنة على هذا الضريح إلّا و تظهر منه معاجز و كرامات مع أنّهم قتلوا بأيدي (من يسمّون) (2) مسلمين.

جواب آخر: اجتمع المهاجرون و الأنصار على قتل عثمان، و إذا ما صحّ الحديث كان القاتل و المقتول من الصحابة جميعا في النار و ينصّ القرآن شاهدا على كونهم من أهل الجنّة لا سيّما على مذهب الشيعة.

جواب آخر: و هذا طلحة و الزبير و هما من العشرة المبشّرة بالجنّة بلا خلاف

ص: 248


1- البخاري 3: 207 و راجع المستدرك ج 2 و ج 3، و مجمع الزوائد ج 7 و ج 9، و تحفة الأحوذي ج 10، و مسند أبي داود الطيالسي، و صحيح ابن حبّان ج 15، و المعجم الأوسط ج 8، و الطبقات لابن سعد، و الكامل لابن عدي، و تاريخ دمشق لابن عساكر و هكذا.
2- العبارة بين القوسين من المترجم.

عندهم و هما قتلا بأيد مسلمة، و كذلك عليّ عليه السّلام من العشرة و قتل بسيف المسلمين.

جواب آخر: و الحديث مخالف لكتاب اللّه تعالى حيث قال: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ (1)، أجمع المفسّرون على سبب نزول هذه الآية عن عبد اللّه بن عبّاس (2) أنّ النبيّ ركب حمارا و أتى محفلا من محافل الأنصار، فبال الحمار، فخمر عبد اللّه بن أبي سلول أنفه و قال: أبعد عنّا حمارك فقد آذتنا رائحة بوله، فقال عبد اللّه بن رواحة: حمار رسول اللّه أفضل منك و بوله أطيب ريحا من طيبك، فغادر النبيّ المكان و اشتبك الأوس و الخزرج بالأيدي و النعال و جريد النخل، فكانت فتنة عظيمة حتّى جاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصلح بينهم (3).

[حديث آخر] روى البخاري عن عائشة أنّ فاطمة عليها السّلام بنت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة و فدك و ما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لا نورث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمّد

ص: 249


1- الحجرات: 9.
2- لم أعثر على من أخرجها عن ابن عبّاس، إنّما هي مرويّة عند العامّة عن أنس بن مالك، راجع البخاري 3: 166؛ مسند أحمد 2: 157 و 3: 219؛ صحيح مسلم 5: 183؛ السنن الكبرى للبيهقي 8: 173 و كلّ هؤلاء حذو حذو البخاري في السياق إلّا من صرّح باسم عبد اللّه بن رواحة.
3- نقل القضيّة في صحيح البخاري هكذا: حدّثنا المعتمر قال: سمعت أبي أنّ أنسا رضي اللّه عنه قال: قيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لو أتيت عبد اللّه بن أبي، فانطلق إليه النبيّ و ركب حمارا، فانطلق المسلمون يمشون معه و هي أرض سبخة، فلمّا أتاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: إليك عنّي، و اللّه لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: و اللّه لحمار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أطيب ريحا منك، فغضب لعبد اللّه رجل من قومه فشتما فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد و النعال و الأيدي، فبلغنا أنّها أنزلت «و إن طائفتان ...» الآية.

في هذا المال و إنّي و اللّه لا أغيّر شيئا من صدقة رسول اللّه.

إلى أن قالت: فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت، و عاشت بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ستّة أشهر، فلمّا توفيّت دفنها زوجها عليّ ليلا و لم يؤذن بها أبا بكر، و صلّى عليها، و كان لعليّ من الناس وجه حياة فاطمة فلمّا توفّيت استنكر عليّ وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر و مبايعته و لم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا لا يأتنا أحد معك كراهيّة أن يحضر عمر، فقال عمر: لا و اللّه لا تدخل عليهم وحدك (1).

الجواب: لا تخفى عصمة الزهراء و صدق لهجتها و طهرها على أحد في العالم، بحيث روى عماد الدين «شفروه» (2) و هو حنفيّ المذهب عن عائشة أنّها إذا ذكرت فاطمة بنت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قالت: ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منها إلّا أن يكون هو الذي ولدها.

ثمّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة و يرضى لرضاها.

و قال: فاطمة بضعة منّي، يسّرني ما سرّها و يؤذيني ما آذاها.

و بناءا على هذا لا يجوز الكذب على فاطمة و ردّها مع طهارتها و عصمتها، و غضبها عليه إلى أن ماتت دليل على أنّه كان ظالما لها و كانت هي مظلومة.

و قول أبي بكر: يابنة رسول اللّه، لبس الحقّ عليك و تصديقه على هذا القول إيذاء لفاطمة مع كونها مظلومة، نعوذ باللّه من إيذائها.

ص: 250


1- البخاري 5: 82.
2- كثير من الأعلام التي توجد في الكتاب مصحّفة و إنّي أعتذر إلى القارئ من عدم التتبّع لتصحيحها لعدم وجود الظرف المناسب و الوقت الكافي، و ترجم لشفروه أحمد الحسيني في تراجم الرجال 1: 234 و غيره من أصحاب الفهارس.

و كذلك ذكر عماد الدين أنّ عائشة أقبلت تعود فاطمة في مرض موتها فلم تأذن لها، و أرسلت إلى أسماء بنت عميس أن لا تدعها تدخل.

و أورد مخلص الدين محمّد بن معمر في صدر مسند فاطمة عليها السّلام أنّها من شدّة غضبها على عائشة أوصت بإخفاء قبرها لئلّا تقول عائشة أنّه بيتي و تدفن معها، و نهت ان يصلّي عليها أبو بكر، و العقلاء يعقلمون شدّة غضب الزهراء عليهم من فعلها هذا و عمق ما كانت تعانيه من الألم جرّاء ظلمهم لها من خلال وصيّتها.

و كلام البخاري يدلّ على أنّ فاطمة عليها السّلام دفنت إلى جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و الدليل على صحّة هذا الحديث ما كان يقوله أمير المؤمنين عليه السّلام لرسول اللّه في حال دفن فاطمة من حديث السرار، يقول في كلام طويل: ستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها، فاحفها السؤال و استخبرها الحال، هذا و لم يطل العهد و لم يخل منك الذكر (1).

الجواب الآخر: كان عليّ عليه السّلام من الخلفاء الراشدين فتخلّفه عن بيعة أبي بكر و تقاعسه عنها دليل على علمه بعدم أهليّته لها، لا سيّما و الزهراء على قيد الحياة حيث كان يتقوّى بوجاهتها (2) و لمّا توفيت فاطمة خاف من الناس فبادر إلى البيعة. و يظهر من لفظ البخاري أنّ بين عليّ و بين عمر عداوة، و هو من ألدّ أعداء الإمام عليه السّلام، و لو كانت خلافة الأوّل بالنصّ لما قعد عنها الإمام هذه المدّة، لأنّه جاء

ص: 251


1- الأمالي للشيخ المفيد: 282؛ كتاب الأربعين لمحمّد طاهر القمّي الشيرازي: 189؛ حياة الإمام الحسن للقرشي 1: 274؛ صحيفة الزهراء عليها السّلام للقيّومي: 30.
2- هذا كلام بالهراء أشبه، و كان على المؤلّف أن ينظر فيه هل يصدق بحقّ عليّ عليه السّلام صاحب الحقّ المنصوص عليه و الذي تواليه الأمّة الإسلاميّة يومذاك كلّها إلّا خفتة من الناس يقودهم حزب المهاجرين فما حاجته إلى أن يتقوّى بأحد و إن كانوا ملائكة السماء و هو صاحب النصّ و الإمام المنصوب على المسلمين.

في كتب أهل القبلة و علماء الإسلام عن عليّ عليه السّلام أنّه لم يتقاعس عن نصّ نصّه رسول اللّه بحال من الأحوال في يوم من الأيّام بل كان السابق على كلّ أحد في قبوله و تنفيذه، و هذه الرواية التي رواها المخالف تدلّ على ذلك: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ. فينبغي أخذ النتيجة من هذه المقدّمات و هي أنّ ما فعله عليّ هو الحقّ و خلافة أبي بكر باطلة.

و لو كانت الخلافة بالإجماع فإنّ بني هاشم- و الحمد للّه و المنّة له- لم يكونوا مجهولين و لا مغمورين إلى الدرجة التي يجوز تجاهلهم بل كانت لهم الشهرة و التقدّم بحسبهم و نسبهم و قرابتهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علوّ مناصبهم، و كانوا بجملتهم علماء عبادا، و لم يكونوا بمعزل عن الأحداث لكي يجوز نبذهم و تنحيتهم بل كانوا يطمعون بإسناد الحلّ و العقد إليهم و أنّهم كانوا من أكابر المهاجرين، و لمّا لم يحضروا الاجتماع فذاك دليل على عدم الإجماع، على أنّه لم يحضر الخزرجيّون بأجمعهم ذلك الاجتماع و لم يبايعوا الأوّل و هم عمدة الأنصار.

يقول البخاري في حديثه عن أبي هريرة: أما إنّي سمعت رسول اللّه يقول: ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، و إذا أردتم أن تنظروا إلى أشبه الناس بعيسى بن مريم نسكا و زهدا و برّا فعليكم به.

و في رواية أخرى: من سرّه أن ينظر إلى شبيه عيسى بن مريم خلقا و خلقا فلينظر إلى أبي ذر (1).

و إذا كان أبو ذر بهذه الصفة فإنّ عثمان أخرجه من حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أنّه لم يوجّه إليه تهمة في حضور المهاجرين و الأنصار، و كانوا جميعا على علم بدرجة

ص: 252


1- كنى البخاري عن عبد اللّه بن عمر: ص 23؛ المستدرك عن أبي الدرداء 3: 342؛ المعجم الأوسط 5: 223؛ تفسير القرطبي 1: 36.

زهده و الاحترام الذي كان يحضى به من شخص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و في حقّه نزل قوله تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ (1). (2)

روى البخاري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلئون عنه (3) فأقول: يا ربّ (إنّهم) أصحابي، فيقول- إنّك ... البخاري- لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقري .. (4).

فلم يكذب- و حاشاه- رسول اللّه، فلا بدّ من قتلهم عليّا يوما و إيذائهم سلمان، و نفيهم أبا ذر.

و كذلك يروون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّه قال: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم (5).

و لمّا كان الصحابة قد ظلموا أهل البيت و آذوا صلحاء الأصحاب، اختصّ حديث «أصحابي النجوم» بهؤلاء (6) كما اختصّ الحديث الأوّل بالمؤذين و الظالمين من هذه الطائفة.

ص: 253


1- الأنعام: 52.
2- لم أجد من قصّر نزولها على أبي ذر بل لم يسمّه أحد من المفسّرين في الضعفاء الذين نزلت الآية فيهم.
3- فينهون عنّي- المؤلّف.
4- صحيح البخاري 7: 208.
5- شرح ابن أبي الحديد 20: 28؛ لسان الميزان 2: 118 و 137: من اقتدى بشي ء منها اهتدى، و قال: أخرجه الدارقطني من غرائب مالك و الخطيب في الرواة عن مالك- إلى أن قال:- و رواته مجهولون.
6- على تقدير صحّته و لكنّه موضوع، و هذه من مصائبنا حيث نأتي إلى كذب القوم فنوجد له الوجوه و التأويلات.

حدّث أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل (1) قال: عن ابن عبّاس: لمّا اشتدّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله الوجع، قال: ايتوني بدواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده. قال عمر: إنّ النبيّ غلبه الوجه و عندنا كتاب اللّه حسبنا، فاختلفوا و كثر اللغط، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قوموا عنّي و لا ينبغي عندي تنازع، فخرج ابن عبّاس يقول: إنّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه و بين كتابه. و في رواية أخرى، فقالوا: ما شأنه أهجر و استفهموه (2).

و قالوا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ في الأمم لمحدّثين لمروّعين كملهمين، و إنّ عمر منهم (3).

و روي أنّ الحقّ لينطق على لسان عمر (4).

و الجواب مشهور و هو أنّ عمر قال: إنّ الرجل ليهجر، و روي: يهذي، و العقلاء يدركون أنّ طلب النبيّ الدواة و الكتف ليكتب كتابا لن يضلّوا بعده ليس هذيانا

ص: 254


1- لا ينبغي أن يذكر هذا الخبيث بكلمة إطراء و إن كانت بالكنية و اللقب.
2- هذا الحديث يثبت كفر عمر لعنه اللّه، و قد تواتر وروده عن النبيّ فلا سبيل إلى إنكاره أو تضعيفه، من ثمّ ترى القوم وقعوا على باقعة منه لذلك راحوا يرقصون الكلمة التي قالها عمر: النبيّ يهجر، و يحوّلونها إلى مختلف الصيغ فما تأتى لهم، و ثبت كفر ابن الزانية لعنه اللّه الذي صار السبب الأكبر في تفرّق المسلمين أمس و اليوم. و راجع للحديث الكتب التالية: البخاري 1: 37 و 5: 138 و 8: 161؛ مسند أحمد 1: 325؛ مقدّمة فتح الباري: 307 و قال: القائل عمر (لعنه اللّه)؛ الطبقات 2: 344؛ البداية و النهاية 5: 247؛ الشفاء لعياض 2: 192؛ السيرة النبويّة لابن كثير 4: 451؛ و أخرجه مسلم صاحب الصحيح أيضا.
3- المستصطفى للغزالي: 170، و راجع خلاصة عقبات الأنوار 3: 118 فلقد أفاد و أجاد و بلغ أقصى المراد.
4- نيل الأوطار 8: 233؛ مسند أحمد 1: 106: السكينة تنطق، و 2: 53 و 5: 145 و 165 و 177؛ سنن ابن ماجة 1: 40؛ سنن أبي داود 2: 20؛ المستدرك 3: 87؛ السنن الكبرى للبيهقي 6: 295؛ مجمع الزوائد 9: 66 و 67؛ فتح الباري 7: 41؛ تحفة الأحوذي 10: 116؛ عون المعبود 8: 126 و كتب أخرى كثيرة.

و لو كان الحقّ ينطق على لسان عمر لما تفوّه بهذه الكلمة، هذا أوّلا.

و أمّا ثانيا: فإنّه خالف النبيّ و ردّ عليه بقوله: حسبنا كتاب ربّنا، و هذا من طراز قول الخوارج: لا حكم إلّا للّه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: كلمة حقّ يراد بها باطل.

و قال اللّه تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (1) و يقولون: إنّه يهجر و يهذي.

و قال تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (2) و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (3).

إنّ الاستماع لهذه الآيات و العمل بهنّ واجب، و لو كان عمر ينطق بالحقّ فكيف ردّ على رسول اللّه حتّى أغضبه و كثر اللغط عنده و هو مسجّى، و أخرجهم من عنده بقوله: قوموا عنّي؟!

و قال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (4) و قال: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (5) فلو كان عمر و أصحابه مؤمنين لما طردهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و عمل عمر و أصحابه بخلاف قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ (6) فقد تجرّؤوا على مقام النبوّة، و استعملوا قلّة الأدب، و منافاة اللياقة، و شغلوا النبيّ و هو في ساعة حرجة حتّى طردهم عنه بقوله: قوموا عنّي، و كثر الكلام و اللغط في مجلس النبيّ.

ص: 255


1- الحشر: 7.
2- الأحزاب: 36.
3- الأنفال: 24.
4- الشعراء: 215.
5- الأنعام: 52.
6- الحجرات: 2.

و ذكر مخلص الدين محمّد بن معمر الاصفهاني و الترمذي و القزويني و أمثالهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: لا ألقينّ أحدكم متّكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري (1) ممّا أمرت به أو ممّا نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدناه في كتاب اللّه اتبعناه ... (2).

و هذا الحديث مكذّب قول عمر، فتبيّن أنّ الحقّ لم ينطق على لسانه. ثمّ إنّ كتاب اللّه ليس غنيّا عن البيان ففيه الناسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه، و المجمل، و العام و الخاص و أمثال ذلك، فكان على النبيّ بيانه، فكيف يقولون: لا نريد قول رسول اللّه و يردّونه و ينكرونه؟!

جواب آخر: وقع نزاع بين القوم، و كان حكم اللّه غالبا عليهم و حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن عمر لمّا رمى رسول اللّه بالهجر فكيف يتّفق مع حكم اللّه القائل: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (3).

ص: 256


1- ممّا أمرت به- المؤلّف.
2- الشافعي في الأم 7: 16 ط دار الفكر- بيروت، أولى 1400، و ص 303؛ الرسالة، له: ص 89 و 226 و 403؛ المسند له أيضا: ص 151 و 234؛ مسند أحمد 2: 367 و سياقه مختلف، و ص 483 و 4: 131 و 132 و 6: 8؛ سنن الدارمي 1: 144؛ سنن ابن ماجة 1: 6 و 7 و 10؛ سنن أبي داود 2: 45 و 392؛ سنن الترمذي 4: 144؛ المستدرك 1: 108 و 109؛ سنن البيهقي 7: 76 و 9: 304 و 331 و 332؛ مجمع الزوائد 1: 154 و 155؛ تحفة الأحوذي 7: 354 و 355؛ عون المعبود 12: 332 و 333؛ جزء الأشيب للأشيب البغدادي: 73، ط دار علوم الحديث- الأمارات- دبي، أولى 1410 ه؛ مسند الحميدي 1: 252؛ الآحاد و المثاني 3: 45. مسند أبي يعلى 3: 347؛ شرح معاني الآثار لابن سلمة 4: 209؛ صحيح ابن حبّان 1: 189؛ المعجم الأوسط 7: 185 و 8: 292 و 351؛ المعجم الكبير 1: 316 و 327 و 4: 111 و 18: 258 و 20: 275 و 283؛ مسند الشاميين 1: 401 و 2: 137 و 3: 103 و 138، ط مؤسسة الرسالة- بيروت، تحقيق السلفي، الثانية 1417؛ سؤالات حمزة الدارقطني: 5؛ سنن الدارقطني 4: 190 و 191؛ كفاية الخطيب: 23، و ما أعرضنا عنه من الكتب أكثر.
3- النساء: 65.

[حديث آخر] حدّث البخاري فقال: جاء رجل من أهل مصر حجّ البيت فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم؟

قالوا: عبد اللّه بن عمر. قال: يا بن عمر، إنّي سائلك عن شي ء فحدّثني عنه، هل تعلم أنّ عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم. قال: تعلم إنّه تغيّب عن بدر و لم يشهد؟

قال: نعم. قال: هل تعلم أنّه تغيّب عن بيعة الرضوان و لم يشهدها؟ قال: نعم. قال:

اللّه أكبر.

قال ابن عمر: تعال أبيّن لك؛ أمّا فراره يوم أحد فأشهد أنّ اللّه عفى عنه و غفر له، و أمّا تغيّبه عن بدر فإنّه كان تحته بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانت مريضة، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لك أجر رجل ممّن شهد بدرا و سهمه، و أمّا تغيّبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعزّ ببطن مكّة من عثمان لبعثه مكانه فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عثمان و كانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكّة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده اليمنى هذه يد عثمان فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان، فقال له ابن عمر: اذهب (به) الآن (معك) (1).

الجواب: أورد عماد الدين شفروه الاصفهاني اعتراضا على هذا القول:

الأوّل: إنّ ابن عمر لم يؤيّد قوله في جوابه للمصري بحجّة من القرآن أو الأخبار و لم يشهد له شاهد عدل و لا غير عدل، فكلامه المجرّد من ذلك لا حجّة فيه على أمر من أمور الدين.

و الثاني: إنّ عثمان مختار أبيه و مرضيه لسرير الخلافة فكان عليه تعديله في كلّ حين أمام المهاجرين و الأنصار لتصويب رأي أبيه فيه و هذا الأمر من جملة لوازم

ص: 257


1- البخاري 4: 203 و 5: 34.

النبوّة حيث لا يمكنه الرضا بتلويث ساحة أبيه باختيار رجل له هذه المساوي و هذه جبلّة بشريّة و طبيعة إنسانيّة، و لمّا وقع أبوه موقع التهمة فما عليه إلّا ردّها بتزكية عثمان.

يقول عماد: سألت الشيخ رشيد الدين عبد اللّه بن محمّد بن عبد الواحد بن أبي سعد المدني: كيف جرى على عثمان ما جرى مع حضور المهاجرين و الأنصار فلم ينكروا ذلك لا باللسان و لا باليد، و لم يمدّه منهم أحد إلى الحدّ الذي سمعتك ذات يوم أنت الخواجه رشيد الدين عبد اللّه تقول: كان عليّ حاضرا في المسجد يفتي الناس فسمع ضجّة مرتفعة فسأل: ما الذي جرى؟ قالوا: قتل عثمان، فقال عليّ:

قتل، و مضى في كلامه من غير اكتراث منه و لا اعتراض له عليه، و لم يلتفت إليه.

فقال الشيخ عبد اللّه: لقد غالطت كثيرا يا عماد، لكن ألا تعلم بأنّ أهل الكوفة كتبوا كتابا يوم خروج عائشة إلى عليّ عليه السّلام و أرادوا منه ايضاح السبب عمّا ألمّ بعثمان و سألوا عن حال قتلته.

فقال عماد: قلت له: بلى أعرف ذلك و قد كتب إليهم أمير المؤمنين كتابا كما يلي:

أمّا بعد، فإنّي أخبركم عن أمر عثمان حتّى يكون سمعه كعيانه، إنّ الناس طعنوا عليه و كنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه و أقلّ عتابه، و كان طلحة و الزبير أهون سيرهما فيه الوجيف، و أرفق حدائهما العنيف، و كان من عائشة فلتة غضب فأتيح له قوم قتلوه، و بايعني الناس غير مستكرهين و لا مجبرين بل طائعين مخيّرين، و اعلموا أنّ دار الهجرة قد قلعت بأهلها و قلعوا بها، و جاشت جيش المرجل و قامت الفتنة على القطب فأسرعوا إلى أميركم و بادروا جهاد عدوّكم (1).

فقال الشيخ رشيد الدين المدني: يجب عليّ رعاية لحقّ الصحبة و أداء لحقّ

ص: 258


1- بحار الأنوار 32: 84.

الخدمة أن أزيل هذه الشبهة عن ذهنك، اعلم أنّ الشيخ مخلص الدين محمّد بن معمر ذكر في جامع العلوم أنّ عثمان صدرت منه أمور وجبت قتله، بهذه العبارة:

نعم كانت لها أسباب و إنّ ممّا نقموا على عثمان حركات عشرا منكرات:

الأولى: ضرب عبد اللّه بن مسعود.

الثانية: ضرب عمّار ضربا مبرحا حتّى أغمي عليه.

الثالثة: إعطائه مروان خمسمائة ألف درهم.

الرابعة: نفى أبي ذر إلى الربذة.

الخامسة: إقطاع السنّة.

السادسة: إعطاء الحكم بن العاص مأة ألف درهم مرّة واحدة.

السابعة: تولية الوليد أخيه من أمّه على الكوفة.

الثامنة: جمعه المصاحف من أطراف المدينة و أكنافها و حرقها.

التاسعة: كان الوليد مدمنا على الشراب إلى الحدّ الذي صلّى بهم صلاة الصبح أربع ركعات، و لمّا سلّم أقبل على المصلّين و قال: أريدكم؟ و قالوا: لمّا افتتح الصلاة و شرع بقرائة الحمد لم يدر ما يقول ثملا، فقال:

عشق القلب الربابابعد ما شابت و شابا فلمّا سلّم قال: لأزيدنّكم فإنّي طرب، و هذا الوليد هو الذي نزل في حقّه: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ (1) و الآية: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (2).

العاشرة: و كان من ذنوب عثمان إرجاعه مروان و أباه الحكم طريدي رسول اللّه و أبي بكر و عمر، و قد أبعدهما الرجلان عشرين فرسخا أخرى إضافة على مكان

ص: 259


1- الحجرات: 6.
2- السجدة: 18.

نفيهما اقتداءا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مروان ابن عمّ عثمان فردّهما و فوّض إليهما شئون الإسلام و المسلمين ولّاهما على المهاجرين و الأنصار، و أعطى وزارته إلى مروان، و كان يستصوب رأيه و يعمل به، فكان مروان يقدّم من أخّره رسول اللّه و يؤخّر من قدّمه، و يهين صلحاء الصحابة و يذلّهم، و يعظّم الفسّاق و يوقّرهم، و يستهزئ بالدين و الشريعة.

و كان السبب في ضرب عمّار أنّ عثمان قال ذات يوم: إنّ الرسول كان يؤثر قريشا على سائر الناس إشعارا بأنّ بني أميّة منهم، فردّ عليه عمّار و قال: ليس الأمر كما تقول، فضربه على هذا ضربا مبرحا و ركله برجله حتّى ظنّوه قد مات.

و أمّا كيفيّة قتله فقد كان ابن أبي سرح واليا من قبل عثمان على مصر و كان أخا عثمان من الرضاعة، فأظهر الظلم بين الناس و عمل بالجور فيهم، فجاء رجل إلى عثمان يتظلّم، فأرسل إليه عثمان توبيخا شديد اللهجة، فلم يحدّ من سلوكه السيّئ حتّى قتل أحد المتظلّمين، و ضرب آخرين تأديبا لهم.

فخرج من مصر سبعمائة شخص و قصدوا المدينة و عليهم عبد الرحمان بن عديس البلوي و عمرو بن الحمق الخزاعي و كنانة بن بشر الكندي و سوار بن حمران المرادي، فبلغوا المدينة و الصلاة قائمة، و تظلّموا كثيرا و شنّعوا على واليهم ابن أبي سرح و توسّلوا بأمير المؤمنين عليه السّلام و عائشة، فقبل عثمان شفاعتهم و قال لعليّ عليه السّلام: قل لهم يختاروا لولايتهم من أحبّوا لكي أولّيه، فاختار المصريّون محمّدا ابن أبي بكر، فولّاه عثمان على مصر و توابعها، و أمر جماعة من المهاجرين و الأنصار بالذهاب مع محمّد إلى مصر ليقفوا على جلية الحال و صحّة ما يقال، من شكواهم من ابن أبي سرح، فخرج المصريّون من المدينة مع محمّد بن أبي بكر، فلمّا ساروا ثلاثة أيّام بلياليها شاهدوا راكبا مضطربا على هيئة الهارب و كأنّه يطلب شيئا ضيّعه، فسألوه عمّن أرسله، فكان يقول: أرسلني عثمان، و أحيانا يقول مروان،

ص: 260

فعرفوا أنّ في الأمر سرّا، فقالوا له: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال: أذهب إلى والي مصر. فقالوا: تركت الوالي بالمدينة؟ قال: أنا ذاهب إلى الوالي القاطع لا إلى الوالي الجديد. فقالوا: هل معك كتاب؟ قال: كلّا، ففتّشوه فعثروا معه على رسالة قد خبأها في شنّ بالية، و الرسالة على النحو التالي:

من عثمان إلى ابن أبي سرح، إذا أتاك محمّد بن أبي بكر فاحتل بقتله و أبطل كتابه و قرّ على عملك و احبس المتظلّمين حتّى يأتيك.

و لمّا قرأ المصريّون الكتاب عادوا إلى المدينة فورا و دفعوا الكتاب إلى أمير المؤمنين، فبعث بالكتاب إلى عثمان، فقال: الختم ختمي، و اللّه ما كتبت و لا أمليت و لا أمرت و لا ختمت.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ الناس أرسلوني إليك، و قد استفسروني بينك و بينهم، فو اللّه ما أدري ما أقول لك؟ ما أعرف شيئا تجهله و لا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنّك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شي ء فنخبرك عنه، و لا خلونا بشي ء فنبلغكه، و قد رأيت كما رأينا، و سمعت كما سمعنا، و صحبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما صحبنا، و ما ابن أبي قحافة و لا ابن الخطّاب أولى بعمل الحقّ منك، و أنت أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شيجة رحم منهما و قد نلت من صهره ما لم ينالا، فاللّه (اللّه) في نفسك، فإنّك و اللّه ما تبصر من عمّى و لا تعلم من جهل، و إنّ الطرق لواضحة، و إنّ أعلام الدين لقائمة، فاعلم أنّ أفضل الناس عند اللّه إمام عادل هدي و هدى، فأقام سنّة معلومة و أمات بدعة مجهولة، و إنّ السنن لنيّرة لها أعلام، و إنّ البدع لظاهرة لها أعلام، و إنّ شرّ الناس عند اللّه إمام جائر ضلّ و ضلّ به، فأمات سنّة مأخوذة، و أحيا بدعة متروكة، و إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر فيلقى في جهنّم (ف) يدور فيها كما يدور الرحى،

ص: 261

ثمّ يهبط (1) في قعرها، و إنّي أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأمّة المقتول، فإنّه كان يقال: يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة، و يلبس أمورها عليها، و يبثّ الفتن عليها (2) فلا يبصرون الحقّ من الباطل، يموجون فيها موجا، و يمرجون فيها مرجا فلا تكوننّ لمروان سيقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ و تقضّي العمر (3).

و لمّا فشا أمر الكتاب بين الناس أقبل مالك الأشتر و معه مئتان من أهل الكوفة و مثله فعل حكيم بن جبلة، و حاصروا منزل عثمان و منعوه من حضور الصلاة، فاستناب عنه في الصلاة أبا هريرة، و تارة يخلفه ابن عبّاس، و أخرى أبو أيّوب، و منعوه من الماء العذب (4) فإذا أرسلت إليه قربة ماء تدافع الناس لمنعها، من ثمّ يصاب بالجروح جماعة ممّن هم على الباب لا سيّما الأمويّون و الهاشميّون.

و لمّا اشتدّ عليه الحصار استدعى الإمام أمير المؤمنين الحسنين عليهما السّلام و قال: اذهبا بسيفكما حتّى تقوما على باب عثمان لا معان (كذا) الناس عنه (5)، و أرسل طلحة

ص: 262


1- يرتبط- النهج.
2- فيها- المؤلّف.
3- نهج البلاغة، باب الخطب، ص 68.
4- أقول: هذه كذبة أمويّة إذ أنّ وضع المدينة ليس كوضع المدن المبنيّة على الأنهار، إنّما تشرب المدينة من مياه الآبار، و كان يومئذ أكثر بيوتها تحتوي على آبار داخلها تشرب منها و تقضي بها حاجاتها الأخرى، و بيت عثمان و هو بيت الخليفة و فيه من السكّان ما لا يوجد في البيوت الأخرى و هو من البيوت الكبرى يومئذ فلو خلت البيوت جميعها من الآبار فليس من المعقول أن يخلو بيت عثمان منها، و أيضا لو صحّت هذه الفرية لعطش معه كلّ من يضمّه الحصار و لكنّنا لا نسمع إلّا بعطش عثمان ممّا يدلّ على أنّها فرية يراد منها جلب عطف الناس عليه، و أكثر الناس و منهم المؤلّف غابت عنهم هذه الحقيقة.
5- جرى للكلمة تصحيف و أحسبها «لمنع الناس» و جاءت الجملة هكذا: فلا تدعا أحدا يصل إليه ... أحاديث أمّ المؤمنين عائشة 1: 117 مرتضى العسكري، و هذه كذبة أخرى فليس من المعقول أن يحول سيفان بين عثمان و بين مئات السيوف المسلولة عليه.

و الزبير جماعة من الأصحاب مددا لعثمان (1) و لكن أصحاب الحصار منعوهم من الوصول إليه، و أحدثوا ثقبا في جدار بيته و كسروا بابه و قتلوه، و قتلوا عبد اللّه بن عامر بن كريز خال عثمان و الي البصرة الأهواز و خوزستان، و كان من أشدّ الظالمين عتوّا، و أوشك على تدمير البلاد.

و أمّا شأن أبي ذر فقد كان في الشام في خلافة عثمان، فبنى معاوية الخضراء في دمشق، و جاء بأبي ذر إليها، فلمّا دخلها قال له معاوية: يا أبا ذر، كيف ترى ما هاهنا؟ فقال أبو ذر: إن بنيتها من مال اللّه فأنت من الخائنين، و إن كنت بنيتها من مال نفسك فأنت من المسرفين، فلم يرض قوله معاوية فشكاه إلى عثمان، فبعث إليه عثمان أن أرسله إليّ، و لمّا قدم المدينة و رأى ما عليه مروان من الجرأة و التحكّم و الاستبداد في أمور الدين و الشريعة، شرع بنصيحته و ملامته و أكثر من ذلك، فشكاه إلى عثمان، فأمر عثمان بنفيه إلى الربذة، و لمّا أخرجوه خرج عليّ لوداعه و قال:

يا أبا ذر، إنّك غضبت للّه فارج من غضبت له، إنّ القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه و اهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، و ما أغناك عمّا منعوك، و ستعلم من الرابح غدا و الأكثر حسدا، فلو أنّ السماوات و الأرض كانتا رتقا على عبد ثمّ اتقى اللّه سبحانه لجعل اللّه له منهما مخرجا، لا يؤنسنّك إلّا الحقّ، و لا يوحشنّك إلّا الباطل، فلو

ص: 263


1- كيف يعقل هذا و هما اللذان أجلبا عليه و هيّجا هذه الفتنة و منعا من دفنه، و المعروف تاريخيّا أنّ مروان قتل طلحة ثارا بعثمان.

قبلت دنياهم لأحبّوك، و لو قرضت منها لأمنوك (1). (2)

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في أبي ذر أقوالا كثيرة، منها قوله: أبو ذر وعاء علم أوكأ فلم يخرج منه شي ء حتّى قبض.

روى عماد الدين شفروه بأسانيد صحيحة عن ابن عبّاس أنّه كان حاضرا في مجلس معاوية فأقبل مروان و قال: اقض حوائجي يا أمير المؤمنين، فو اللّه إنّ مؤونتي لعظيمة، إنّي أصبحت أبا عشرة و أخا عشرة و عمّ عشرة، فلمّا خرج مروان من عنده قال معاوية: يا بن عبّاس، أما تعلم أنّ رسول اللّه قال: فإذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا أموال اللّه بينهم دولا و عباده خولا و كتابه دغلا، فإذا بلغوا تسعة و تسعين و أربعمائة كان هلاكهم أسرع من الثمرة؟ قال ابن عبّاس: اللهمّ نعم (3).

ثمّ قال معاوية: أنشدك اللّه يابن عبّاس، إنّ رسول اللّه ذكر هذا- يعني مروان-

ص: 264


1- لقتلوك- المؤلّف.
2- نهج البلاغة، الخطب، ص 13، و الخطأ من الناسخ إذ لا معنى لقوله: قتلوك، و لكن المؤلّف ترجمها إلى هذا المعنى.
3- الحديث أخرجه أكثر الحفّاظ من الفريقين و لكنّ صيغه مختلفة، ففي الاحتجاج: إذا بلغوا ثلاثمائة و عشرا حقّت اللعنة عليهم و لهم، فإذا بلغوا أربعمائة و خمسة و خمسين كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة (1: 410)؛ العمدة لابن البطريق: 472؛ البحار 18: 126 و هو أقرب إلى سياق المؤلّف؛ مجمع الزوائد 5: 243؛ المعجم الكبير 12: 183؛ أسرع من الثمرة ... الخ؛ المعجم الكبير 19: 382؛ كنز العمّال 11: 165 رقم 31056: لوك تمرة ... 11: 361: أسرع من لوك التمرة، و في لفظ: لوك تمرة؛ تفسير نور الثقلين 5: 623؛ تاريخ مدينة دمشق 37: 126: كان هلاكهم أسرع من التمرة، 57: 252؛ كتاب الفتن للمروزي: 73؛ البداية و النهاية 6: 272: لوك ثمرة، 8: 284: لوك تمرة، 10: 52: لوك تمرة؛ الطبرسي في إعلام الورى 1: 98؛ سبل الهدى و الرشاد 10: 90؛ صحيفة الإمام الحسن: 256.

فقال: أبو الجبابرة الأربعة (1)؟ قال عبد اللّه بن عبّاس: اللهمّ نعم.

و أسر مروان يوم الجمل فتشفّع فيه الحسنان عليهما السلام فقبل شفاعتهما و أطلق سراحه، فقال الحسنان عليهما السلام: يا أمير المؤمنين، يريد أن يبايعك! فقال: أو لم يبايعني بعد قتل عثمان فإنّه كان بايعه مع طلحة و الزبير، لا حاجة لي في بيعته، إنّها يد يهوديّة، و لو بايع بيده لغدر، أما إنّه له إمرة كلعقة الكلب أنفه و هو أبو الأكبش الأربعة، و ستلقى الأمّة منه موتا أحمر، و لكنّي لا أحبّ أن تلي هذه الأمّة سفهائها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا، و الصالحين حربا (2).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأيت بني مروان يتعاورون على منبري فسائني ذلك (3).

و عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ينزون على منبري كما ينزو القردة و الخنازير. قال: فأصبح كالمتغيّض، فما رؤي رسول اللّه مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتّى مات. و هذا الحديث من رواية المخالفين (4).

ص: 265


1- مجمع الزوائد 5: 243؛ المعجم الكبير 12: 183 و 19: 383؛ كنز العمّال 11: 361 رقم 31745؛ النزاع و التخاصم: 84 مضافا إلى الكتب السالفة.
2- العجيب من المؤلّف أنّه ترجم قول الإمام عليه السّلام: «له إمرة» فقال: «آگاه باش كه مرا او را زنى است» فظنّه يقول امرأة، و لم يدرك أنّ ذكر المرأة هنا لا معنى له و إنّما يريد الإمام إمارته التي لم تتجاوز الستّة أشهر فهي كلعقة الكلب.
3- مجمع الزوائد 5: 244؛ فتح الباري 8: 302 بدون حرف جرّ؛ المعجم الكبير 2: 96 يتعاورون منبري و فيه تتمّة موضوعة لحساب بني العبّاس؛ تفسير الميزان 13: 149؛ الدرّ المنثور 4: 191؛ تاريخ مدينة دمشق 57: 340: يتعاورون على منبري؛ سبل الهدى و الرشاد 3: 68 و 10: 90 و فيه التتمّة الموضوعة، و معنى يتعاورون: أي يختلفون و يتناوبون، كلّما مضى واحد خلفه آخر، راجع نهاية ابن الأثير و لسان العرب.
4- مسند أبي يعلى 11: 348؛ كنز العمّال 11: 117 رقم 30845، و ص 165 و 167 و 358؛ تاريخ-

حكاية: روى البخاري عن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مات و أبو بكر بالسنح يعني بالعالية، قال عمر: يقولون مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال عمر: و اللّه ما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال عمر: ما كان يقع في نفسي إلّا ذاك، و ليبعثنّه اللّه فليقطّعنّ أيدي رجال و أرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقبّله فقال: بأبي أنت و أمّي طبت حيّا و ميّتا، و الذي نفسك بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبدا، ثمّ خرج و قال: أيّها الحالف، على رسلك، فلمّا تكلّم أبو بكر جلس عمر فحمد اللّه أبو بكر و أثنى عليه و قال: ألا من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد مات، و من كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لم يمت، و قال: إنّك ميّت و إنّهم ميّتون، و قال: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ (1). (2)

فنشج الناس يبكون، و اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منّا أمير و منكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر الصدّيق و عمر بن الخطّاب و عبيدة بن الجرّاح، فذهب عمر يتكلّم فأسكته أبو بكر، و كان عمر يقول: و اللّه ما أردت بذلك إلّا أنّي قد هيّأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، إلى أن قال أبو بكر: نحن الأمراء و أنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر:

ص: 266


1- آل عمران: 144.
2- صحيح البخاري 4: 193. و أسأل أصحاب الضمائر النقيّة: إذا كان أبو بكر بالسنح و هو يبعد عن المدينة بما يقرب من أربعة أميال أو أكثر فكيف صلّى في المسلمين في مرض النبيّ و زعم أبو بكر ابن مجاهد للرشيد أنّه صلّى ثمانية أيّام، هذا من جانب، و من جانب آخر: أترى أنّ عمر لم يصدق بموت النبيّ؟ كلّا و اللّه فكيف صدّق بموته يوم أحد و هرب لا يلوي على شي ء، بل أراد أن يوقع الناس في بلبلة حتّى يأتي صاحبه، و لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله، إنّها مؤامرة دنيئة على أهل بيت النبيّ، لعن اللّه أطرافها بلعنة الأبد.

لا و اللّه لا نفعل، منّا أمير و منكم أمير. فقال أبو بكر: لا و لكنّا الأمراء و أنتم الوزراء، هم المهاجرون و اللّه أوسط العرب دارا و أقربهم أحسابا، فبياعوا عمر أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيّدنا و أحبّنا إلى رسول اللّه، فأخذه عمر بيده فبايعه و بايعه الناس، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة (1).

الجواب: أقسم عمر أنّ رسول اللّه لم يمت مع علمه بموته، و لم يظهر على الناس اضطراب أو خلل و لا بد منهم مخاصم استحقّ اليمين من عمر لدرء الخطر فكان يمينه عبثا لأنّه من دون ذريعة و لا سبب، حتّى قال له صاحبه: على رسلك أيّها الحالف، ثمّ كان الأمر يقتضيهم تأجيل الخلافة حتّى يجهّزوا النبيّ و يدفنونه و يحضرون تلك المشاعد المروعة مع الناس فإنّه أدعى إلى الاحترام و أكثر صونا لشرف الإسلام و النبوّة.

و إذا كانت الخلافة هي حاجة الأمّة و يخشى من تأخيرها وقوع الأمّة في حيص بيض فكان النبيّ أولى منهم بذلك، و أحقّ بالقيام به رعاية للأمّة لأنّها إرادة اللّه و رسوله.

و الخصم يزعم أنّ النبيّ ما قام بنصب الإمام و بهذا يظهر أنّ الحاجة إليه مفقودة أو أنّ النبيّ أو كل الأمر إلى إجماع الصحابة. و إذا صحّ ذلك كان عليهم تأخير البتّ في أمر الخلافة حتى يحضر جماعة بني هاشم و باقي الخزرج إلى مسرح الاختيار و يتشاوروا فيما بينهم بحكم قوله تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (2) لأنّه عمل عظيم و حركة كبرى و ما كان اتصال أثره و نفعه بالناس جميعا و هو مؤسّس لصلاح العباد فينبغي أن تتكاتف الأيدي عليه و يجتمع الناس عليه خصوصا من ذكرناهم.

ص: 267


1- البخاري 4: 193.
2- آل عمران: 159.

و لمّا سارع القوم إلى اهتبال الفرصة و لم يستشيروا أحدا في أمر الحكم و لم يستعينوا بأحد من بني هاشم أو الأخيار من صحابة الرسول، علمنا أنّهم بادروا إلى الفرصة ليغتنموها لأنّهم لو تمهّلوا فإنّها سوف تذهب من أيديهم و تضيع الخلافة منهم، و هذا هو الرأي الصحيح الذي عليه مذهب أهل البيت.

و خاف القوم من بني هاشم بعد فراغهم من تجهيز الرسول أن يظهروا في الساحة فلا تنتج خطّتهم، من هنا اندلعت الفتنة فكانت منّا أمير و منكم أمير، و قال أبو بكر: بايعوا سعدا، و قيل: قتل اللّه سعدا، و قيل «بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها» (1)، و قال أبو بكر: «أقيلوني و ليست بخيركم».

إنّ هذا العمل المرتجل من غير أن يستشار فيه جماعة العقلاء أدّى إلى هذه الإفرازات السيّئة، و أنتج هذه الثمرة الخبيثة، و لمّا بلغ خبر السقيفة أمير المؤمنين و هو منشغل بتجهيز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بلغته مقالة الأنصار: منّا أمير و منكم أمير، فقال: هلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه وصّى بأن يحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم و «ماذا في هذه الحجّة عليهم» (2) قال: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم، أي لو كان يلون الخلافة و الإمارة و الوصاية ما أوصى بهم النبيّ لأنّ الشخص لا يكون وصيّا من جهة و يوصى به من جهة أخرى.

ثمّ قال عليه السّلام: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجّت بأنّها شجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله، فقال: عليه السّلام: احتجّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة.

ص: 268


1- القاضي المغربي، دعائم الإسلام 1: 85؛ الاقتصاد للطوسي: 208؛ صحيح البخاري 8: 26؛ المصنّف لابن أبي شيبة 7: 615؛ شرح ابن أبي الحديد 9: 31 و 13: 224 و 17: 164 و 20: 21؛ الثقات لابن حبّان 2: 156؛ اليعقوبي 2: 158؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 127 و 12: 311؛ العدد القويّة لعلي بن يوسف الحلّيّ: 286.
2- الظاهر أنّ هذه الجملة سؤال موجّه إلى أمير المؤمنين و لكن المؤلّف أدخله ضمن قوله ... و في خصائص الأئمّة للشريف الرضي: 86، قالوا: و ما في هذا من حجّة عليهم ..؟ الخ.

و مذ تمسّك القوم بالصحبة، قال عليه السّلام: أتكون الخلافة بالصحابة و لا تكون بالصحابة و القرابة؟!

و قال أيضا لمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول اللّه فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونهم، و إن يكن لغيره فالأنصار على دعواهم (1). و لأمير المؤمنين في هذا الباب:

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف بهذا و المشيرون غيّب

و إن كنت بالقربى حججت خصومهم فغيرك أولى بالنبيّ و أقرب (2) و لمّا بايع الناس أبا بكر انحاز العبّاس و أبو سفيان (3) و الزبير بن العوام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و قالوا: نبايعك و اللّه أنت أولى بهذا الأمر، فقال عليّ عليه السّلام: ما حال السقيفة؟ قال: بويع أبو بكر، فقال عليه السّلام:» اطّلع نجوم الفتى ...» أيّها الناس، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة «و عرّجوا عن طريق المنافرة» وضعوا تيجان المفاخرة- و نكّبوا عن طريق المنافرة .. اليقين- أفلح من نهج بجناح أو استسلم فأراح (هذا) ماء آجن و لقمة يغصّ بها آكلها، و مجتني الثمرة لغير وقت أيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقل يقولوا حرص على الملك، و إن أسكت يقولوا جزع من الموت! هيهات بعد اللتيا و اللتي و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه (لكن) بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة (4).

ص: 269


1- نهج البلاغة، الخطب، ص 33.
2- نفسه: 42.
3- لم يكن أبو بكر معهم و جاء بآخره يستنهض الإمام للمطالبة فردّه لعلمه بسوء دخيلته و إنّه يبغي الغائلة و ليس هدفه الحق.
4- اليقين للعلّامة الحلّي: 180.

و قال أبو سفيان: ما هذا إلّا خوفا، و اللّه لأملأنّها خيلا و رجلا، فقال عليّ عليه السّلام:

و اللّه لقد علمتم أنّي أحقّ بها من غيري و و اللّه لأسلمنّ أمور المسلمين ما لم يكن فيها جور إلّا عليّ خاصّة التماسا لأجر ذلك و فضله و زهدا فيما تنافستموه من زخرفة و زبرجة و لا يعاب المرء بتأخّر حقّه و إنّما يعاب من أخذ ما ليس له.

ثمّ استقبل قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: بأبي أنت و أمّي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة و الأنباء و أخبار السماء، خصصت حتّى صرت مسليا عمّن سواك، و عممت حتّى صار الناس فيك سواء، و لو لا أنّك أمرت بالصبر و نهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون، و لكان الداء مماطلا، و الكمد محالفا و قلالك، لكنّه ما لا يملك ردّه و لا يستطاع دفعه، بأبي أنت و أمّي اذكرنا عند ربّك و اجعلنا من بالك (1).

ثمّ بكى بكاءا شديدا و قال: إنّ الصبر لجميل إلّا عنك، و إنّه قبلك و بعدك لجلل، ثمّ خرج العبّاس من عنده، فأقبلت قريش عليه و راحوا يسألونه، فقال:

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن (2)

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم و أعلم الناس بالآداب و السنن

و أقرب الناس عهدا بالنبيّ و من جبريل عونا له بالغسل و الكفن

من فيه ما في جميع الناس كلّهم و ليس في الناس ما فيه من الحسن

ماذا الذي ردّه عنكم لنعرفه ها إنّ بيعتكم من أوّل الفتن

ص: 270


1- نهج البلاغة 2: 228.
2- نسبها في الإرشاد 1: 32 لخزيمة بن ثابت الأنصاري. و في النصّ و الاجتهاد لعتبة بن أبي لهب: 23، و في طرق حديث الأئمّة لربيعة بن الحرث: 44، و في أسد الغابة 4: 40 نسبها إلى الفضل بن العبّاس بن عتبة بن أبي لهب، و نسبها السيّد الجزائري رحمه اللّه في قصص الأنبياء إلى حسان.

حديث: عن البخاري، عن عائشة: لمّا مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة، فأذّن، فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فقيل له: إنّ أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلّي بالناس، و أعاد، فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: إنّكنّ صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فخرج أبو بكر فصلّى، فوجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من نفسه خفّة فخرج يهادي بين رجلين كأنّي أنظر رجليه يخطّان الأرض من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخّر فأومأ إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن مكانك، ثمّ أتى به حتّى جلس إلى جنبه.

فقيل للأعمش: و كان النبيّ يصلّي و أبو بكر يصلّي بصلاته و الناس يصلّون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم. (رواه أبو داود عن شعبة عن الأعمش بعضه و زاد ابو معاوية: جلس عن يسار أبي بكر فكان أبو بكر يصلّي قائما) (1).

و في رواية عبد اللّه عن عائشة: فخرج بين رجلين يخطّ رجلاه الأرض فكان بين العبّاس و رجل آخر، فسئل عن عبد اللّه: من الرجل؟ قال: عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و عن البخاري عن مصعب بن سعد عن أبيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج إلى تبوك و استخلف عليّا، فقال: أتخلفني في الصبيان و النساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس نبيّ بعدي (2). (3)

الجواب: اعلم بأنّ هذا باطل من عدّة وجوه:

الأوّل: إنّ لعائشة عداوة ظاهرة مع عليّ عليه السّلام و الدليل على ذلك بأنّها أخفت اسمه

ص: 271


1- البخاري 1: 162، نفسه 1: 57 و 162.
2- لا نبيّ بعدي- المؤلّف.
3- صحيح البخاري 5: 129.

فلم تصرّح به كما صرّحت باسم ابن عبّاس، لبعضها إيّاه (لعنة اللّه عليها و على أبيها- المترجم) و عبّرت عنه برجل.

الثاني: لو لم تعاده لما ارتحلت الجمل و تخطّت المسافات من بلد إلى بلد و من ولاية إلى أخرى لحربه.

الثالث: كان بينها و بين فاطمة عليها السّلام عداوة و الدليل عليها أنّها صدّت بواسطة أسماء لمّا جائت لعيادة فاطمة عليها السّلام، و لم تأذن لها بالدخول فعادت أدراجها من حيث أتت، كما روى ذلك البخاري (1).

الرابع: كانت عائشة تؤذي النبيّ دائما من أجل خديجة عليها السّلام كلّما ذكرها النبيّ بخير كما ذكر ذلك في مصابيحهم (2).

الخامس: ظلم أبو بكر فاطمة و غصب منها فدكا و قدّم نفسه على عليّ عليه السّلام

ص: 272


1- أنقل لك ما عثرت عليه عند مولانا الأميني في الغدير 7: 228: فجائت تدخل فمنعتها أسماء، فقالت: لا تدخلي، فشكت إلى أبي بكر و قالت: هذه الخثعميّة تحول بيننا و بين بنت رسول اللّه، فوقف أبو بكر على الباب و قال: يا أسماء، ما حملك على أن منعت أزواج النبيّ أن يدخلن على بنت رسول اللّه و قد صنعت لها هودج العروس- أنظر إلى هذا النذل يستكثر على ابنة رسول اللّه النعش و القصد منه صيانة جسمها الشريف أن لا يبدو للناظر، ألا لعنة اللّه عليه ... المترجم- قالت هي أمرتني أن لا يدخل عليها أحد و أمرتني أن أصنع لها ذلك. قال مولانا الأميني: راجع الاستيعاب 2: 772؛ ذخائر العقبى: 53؛ أسد الغابة 5: 524؛ تاريخ الخميس 1: 313؛ كنز العمّال 7: 114؛ شرح صحيح مسلم للسنوي 6: 281؛ شرح الآبي لمسلم 6: 1282؛ أعلام النساء 3: 1221.
2- عن عائشة: إنّ رسول اللّه ذكر خديجة، فقلت: لقد أعقبك اللّه عزّ و جلّ من امرأة، قال عفان: من عجوزة من عجائز قريش من نساء قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر. قالت: فتمعّر وجهه تمعّرا ما كنت أراه إلّا عند نزول الوحي، أو عند المخيلة حتّى ينظر أرحمة أم عذاب؟- مسند أحدم 6: 150؛ صحيح البخاري 4: 331؛ صحيح مسلم 7: 134؛ المستدرك 4: 286؛ سنن البيهقي 7: 307.

و عزله، و هذا بالضرورة يقضي على عائشة أن تجد لأبيها مخرجا من هذا المأزق بمثل هذه الأعذار، و ربّما كانت تجرّ النار إلى قرصها فيما ترويه لأبيها و عنه كما قال ابوها في حقّ عليّ حين ردّ شهادته للزهراء بأنّه يجرّ النار إلى قرصه، و في هذه الصورة تكون دعوى النفع ألصق بعائشة لأنّها تدور بين النبوّة و الأبوّة و هي ثابتة لا تتغيّر بخلاف ما عليه الحال بين الزوج و زوجته، فإنّ العلاقة بينهما غير ثابتة فليس من البعيد أن تؤول إلى الفراق و بسهولة و يسر أيضا (1).

ثمّ إنّ البخاري يقول: عن الزهري قال: قال الوليد بن عبد الملك أبلغك أنّ عليّا كان فيمن قذف عائشة؟ قلت: لا و لكن أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمان و أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث أنّ عائشة قالت لهما: كان عليّ مسيئا في شأنها و قولها في هذا الحديث (2).

و نرجع إلى مسألة الصلاة، فقولها عن أبيها جلس عن يسار النبي دليل على أنّه لم يكن إماما بل كان مأموما، و هذا المعنى مذكور ضمن الحديث.

ثمّ إنّ قيام رسول اللّه مع ضفعه المتناهي بحيث لم يقدر على المشي وحده حتّى اتّكأ على رجلين دليل آخر على أنّه غير راض بإمامته.

ص: 273


1- أقول: لا ينبغي أن يقال مثل هذا الكلام هنا لأنّه ينتظم العلاقة بين سيّدة النساء و الإمام بالعلاقة الزوجيّة العامّة و هذا و أجل المؤلّف منه غير سديد.
2- البخاري 5: 60. أقول: إنّ القوم يحكمون بكفر من قذف عائشة و إن تاب و رجع و أبوها كان فيمن قذفها فما باله لم يكفّر بل صار صدّيقا، و أنا أنقل لك موضع الشاهد من الرواية: فبينا نحن كذلك إذ جاء أبو بكر فدخل عليّ، فقال: يا رسول اللّه، ما تنتظر بهذه التي خانتك و فضحتني. (المعجم الكبير 23: 117؛ مجمع الزوائد 9: 229؛ المعجم الأوسط 6: 271؛ تاريخ المدينة لابن شبّة النميري 1: 324) و كلّها يروي العبارة نفسها «خانتك و فضحتني»، فهو يرمي عائشة بالخيانة الزوجيّة و لست أدري ما معنى القذف إن لم يكن هكذا، و اليوم لو قذف إنسان امرأة بالخيانة الزوجيّة عند القاضي ثمّ لم يأت بأربعة شهود ألا يستحقّ الحدّ يجري عليه!!!

أضف إلى هذا كلّه أنّ النبيّ مشرّع فكيف يأمر إنسانا بأمر ثمّ يعمد إلى نسخه قبل الشروع فيه، و ذلك الإنسان ممتثل للأمر مقبل عليه، و إن صحّ هذا فهناك أمر آخر و ذلك حين أمره النبي بقرائة تسع آيات من سورة البقرة ثمّ عزله و أرسل بها عليّا مكانه بعد أن طوى شطرا من الطريق ليعلم الناس بأنّه لا يليق للإمامة و لا تليق به، و لم يكن راوي هذا الحديث غير عائشة.

و أمّا رواة الحديث الدالّ على خلافته و هو حديث المنزلة و الذي تكشف الآية عن معناه و تفصح عمّا أراد النبيّ به فقد قال الحكيم في كتابه: وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي (1) فهم عن طريق ابن مردويه، سعد بن أبي وقاص، و مصعب بن سعد، و عائشة، و سعد بن أبي وقاص، و سعيد بن المسيّب، و سعيد بن زيد، و عقيل ابن أبي طالب، و أبو سعيد الخدري، و عبد اللّه بن عبّاس، و جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و أبو هريرة، و حبشي بن جنادة السكوني، و أنس بن مالك، و جابر بن سلمة، و مالك بن الحرب، و أبو أيّوب الأنصاري، و زيد بن أبي أوفى، و زيد بن أرقم، و البراء بن عازب، و عبد اللّه بن عمر، و بريدة بن الخطيب الأسلمي، و خالد ابن عرفط، و حذيفة بن أسيد الغفاري، و أبو الطفيل، و أمّ سلمة، و أسماء بنت عميس، و فاطمة بنت الحمزة بن عبد المطّلب عليه السّلام.

و روى عماد الدين شفروه عن الإمام برهان الدين المطرزي صاحب المغرب و الإيضاح في شرح المقامات، عن مشايخه عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه يوم دعا الناس إلى غدير خم، أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك، فقم به بذلك يوم الخميس ثمّ دعا الناس إلى عليّ، فأخذ بضبعه فرفعها حتّى نظر الناس إلى بياض إبطه ثمّ لم يتفرّقا حتّى نزلت هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

ص: 274


1- الأعراف: 142.

نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (1)، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الربّ برسالتي و الولاية لعليّ. ثمّ قال: اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله.

فقال حسان بن ثابت: يا رسول اللّه، ائذن لي أن أقول أبياتا؟ قال: قل ببركة اللّه. قال حسان: يا مشيخة قريش، اسمعوا شهادة رسول اللّه، و أنشأ يقول:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ و اسمع بالرسول مناديا

و قال: فمن مولاكم و وليّكم؟فقالوا و لم يبدو هناك التعاميا

إلهك مولانا و أنت وليّناو لا تجدن منّا لأمرك عاصيا

فقال له قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماما و هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهمّ وال وليّه و كن للذي عادى عليّا معاديا (2) و روى ابن مردويه في تفسير الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ عن أبي هريرة: من صام يوم ثمانيه عشر من ذي الحجّة كانت له صيام ستّين سنة و هو يوم غدير خم لمّا أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ، قال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: نعم يا رسول اللّه. قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، قال له عمر بن الخطاب: بخ بخ يا بن

ص: 275


1- المائدة: 3.
2- رسائل المرتضى 4: 131 و ذكر منها أربعة أبيات؛ الاقتصاد للطوسي: 321؛ الأمالي للصدوق، و زاد فيها بيتين: فقام عليّ أرمد العين يبتغي لعينيه ممّا يشتكيه مداويا فداواه خير الناس منه بريقه فبورك مرقيّا و بورك راقيا خصائص الأئمّة: 42؛ روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 103؛ شرح أصول الكافي 6: 130؛ نظم درر السطمين: 112؛ شواهد التنزيل 1: 202 و 257؛ نهج الإيمان لابن جبر: 116.

أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كلّ مسلم و مسلمة (1)، فأنزل اللّه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فقال: من صام سبعا و عشرين من رجب كانت له صيام سبعين سنة و هو اليوم الذي هبط فيه جبرئيل بالرسالة أوّل يوم هبط فيه.

و رواة حديث الغدير هم: البراء بن عازب، و سعد بن أبي وقّاص، و طلحة بن عبيد اللّه، و العبّاس، و ابنه عبد اللّه، و الحسن بن عليّ عليهما السلام، و ابن مسعود، و عمّار بن ياسر، و أبو ذر، و أبو أيّوب، و ابن عمر، و عمران بن حصين، و بريدة بن الخضيب، و أبو هريرة، و جابر بن عبد اللّه، و أبو سعيد الخدري، و أبو رافع مولى النبي و اسمه أسلم، و حبشي بن جنادة، و أبو بردة الأسلمي، و جرير بن عبد اللّه البجلي، و أنس، و حذيفة بن أسيد الغفاري، و زيد بن أرقم، و أبو الحمراء خادم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عبد الرحمان بن يعمر الديلمي، و عمرو بن الحمق الخزاعي، و يزيد بن شراحيل، و ناحية بن عمر، و جابر بن سمرة، و مالك بن الحارث، و أبو ذؤيب شاعر، و عبد اللّه بن ربيعة، و عبد اللّه بن أبي أوفى، و عامر بن عمير الفهري العامري، و عامر بن واثلة، و أبو الطفيل، و سعد بن عبادة (2).

و ذكر الحافظ أبو موسى في كتاب تتمّة المعرفة عن الأصبغ بن نباتة قال: نشد عليّ عليه السّلام في الرحبة من سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم غدير خمّ ما قال إلّا قام، و لا يقوم إلّا من سمعه من الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقام بضعة عشر رجلا. قال الأصبغ بن نباتة: كأنّي أنظر إلى أحدهم عليه إزار إلى أنصاف ساقيه فيهم، و أسماء هؤلاء مذكورة: أبو أيّوب الأنصاري، و أبو عمرة بن محصن، و سهل بن حنيف، و خزيمة بن ثابت،

ص: 276


1- المناقب للخوارزمي: 156؛ روضة الواعظين: 351.
2- أحصاهم مولانا الأميني في الجزء الأوّل من كتابه المبارك «الغدير» فبلغوا العشرات فارجع إلى هناك.

و عبد اللّه بن عازم الأنصاري و النعمان بن عجلان الأنصاري و عبد الرحمان بن عبد الربّ، و ثابت، و يزيد بن وديعة الأنصاري و أبو فضالة الأنصاري.

قالوا: نشهد أنّا سمعنا لرسول اللّه، و أخذ بيدك يوم غدير خم فرفعها حتّى رأى بياض أباطها، فقال: ألستم تشهدون أنّي بلّغت الرسالة و النصيحة؟ فقال: إنّ اللّه عزّ و جلّ وليّي و أنا وليّ المؤمنين، ألا من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و أحبّ من أحبّه و أبغض من أبغضه و أعن من أعانه، فشهدوا أنّهم سمعوا ذلك من رسول اللّه، و كتم قوم فما خرجوا من الدنيا حتّى عموا و أصابتهم آفة منهم من هؤلاء جماعة مذكورة أسمائهم كعبد اللّه بن فدلج (1) و يزيد بن وديعة، و في رواية ابن مردويه: و عمرو بن الحمق (2) و يزيد بن شراحيل و عامر بن أبي ليلى، و الذين أصابتهم آفة العمى عشرة أشخاص كما روى الرواة ذلك.

و ذكر عماد الدين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ عليّا مع الحقّ و الحقّ معه لن يزالا حتّى يردا عليّ الحوض ... و راوي الحديث عائشة و أمّ سلمة و ابو موسى و أبو سعيد الخدري و سهل بن شهيب (كذا) النهمي و أبي رافع و حذيفة و عمّار و زيد بن صوحان. و ذكر عماد الدين شفروه هذا الحديث و قال في آخره: و لذا لزم البيت و ترك البيعة و لم يكن لأحد أن يطالبه بها.

و يقول عماد الدين: لمّا امتنع بنو حنيفة عن أداء الزكاة خرج عليّ بنفسه إلى حربهم (3).

ص: 277


1- يكثر التصحيف في أسماء الأعلام عند المؤلّف و يصعب عليّ ضبطها لعدم ذكره المصادر و التي يذكرها مفقودة مع مزيد الأسف.
2- لا شكّ بأنّه غير خزاعي الذي قتل عثمان لعنه اللّه و قتله معاوية لعنه اللّه.
3- لعن اللّه الكاذب، فهذه كتب التاريخ التي ذكرت حروب الردّة لم تذكر مشهدا واحدا لعليّ يعين به القوم، اللهمّ إلّا كذبه افترتها عائشة و جهازها و هي أنّ أبا بكر لمّا همّ بالخروج للحرب احتضنه الإمام و قال: أمتعنا بنفسك يا خليفة رسول اللّه، و هي كذبة أوضح من الشمس الطالعة، فما كان علي ينسى جرأتهم على بيته بهذه السرعة و لم يمض على وفاة النبيّ عشرة أيّام فقد حدثت هذه الحروب بعد أيّام عشر من وفاته صلّى اللّه عليه و آله.

و لمّا فتحهم قال في أثناء حكاية بنوع من الشكاية: إنّ اللّه بعث محمّدا نذيرا للعالمين و مهيمنا على المرسلين، فلمّا مضى عليه السّلام تنازع المسلمون الأمر من بعده فو اللّه ما كان يلقى في روعي و لا يخطر ببالي (على بالي) أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلّى اللّه عليه و آله عن أهل بيته و أنّهم منعوه عنّي من بعده، فما راعني إلّا انثيال الناس علي فلان- نهج البلاغة- على أبي بكر .. المؤلّف- يبايعونه، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام (و أهله يدعون إلى محق دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله) (1) أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت و لا يتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل و زهق و اطمأنّ الدين و تنهنه (2).

الجواب: كان عليّ عليه السّلام دائما يطالب بحقّه، يقرّع تلك الفتنة، و إنّه في مذهب أهل البيت لم يشارك بأيّ حرب من حروبهم، سواءا ما شنّوها على العرب باسم الردّة

ص: 278


1- هذه الفقرة محذوفة من الكتاب.
2- نهج البلاغة 3: 119 و هو كتاب بعثه إلى أهل مصر مع مالك لمّا ولّاه إمارتها، فأين هو من حروب بني حنيفة، و لعلّ في قول الإمام عليه السّلام: «فنهضت في تلك الأحداث» ما يدخل اللبس على الأذهان من أنّه شارك في حروب ما يسمّى بالردّة، و هذا بعيد جدّا لأنّ الأحداث التي عناها الإمام هي أحداث الخلافة و ما يتبعها من الأمور التي جهل القيام بها أولئك و لم يدركوها فكانوا يفتون الناس من عند أنفسهم كيفما يحلو لهم، فاستدرك الإمام ذلك عليهم و شاركهم في الفتوى و إيضاح ما أبهم عليهم و بيان ما عجزوا عن بيانه.

أو ما شنّوها خارج الجزيرة للغزو و التوسّع (1) و الذي تولّى كبر قتال بني حنيفة هو خالد بن الوليد (الدموي الشهواني- المترجم) و ليس بين المؤرّخين خلاف حول المسألة.

أمّا حجّتنا على ذلك في مطالبته بحقّه و إبطال دعوى القوم فما رواه عماد الدين قال: قال عمر لعليّ في ملأ من المهاجرين و الأنصار: إنّك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقال: بل أنتم و اللّه أحرص و أبعد و أنا أخصّ و أقرب، و إنّما طلبت حقّا لي و أنتم تحولون بيني و بينه، و تضربون وجهي دونه، فو اللّه ما زلت مدفوعا عن أمري، مستأثرا عليّ منذ قبض اللّه نبيّة حتّى يومنا هذا (2).

روى البخاري عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمان أخبره أنّ المسوّر بن مخرمة أخبره أنّ الرهط الذين ولّاهم عمر (لعنه اللّه- المترجم) (3) اجتمعوا فتشاوروا، قال لهم عبد الرحمان: لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر و لكنّكم إن شئت اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمان، فلمّا ولّوا عبد الرحمان أمرهم فمال الناس على عبد الرحمان حتّى ما أرى أحدا من الناس يتبع أولئك الرهط و لا يطأ عقبه و مال الناس على عبد الرحمان يشاورونه تلك الليالي (حتّى إذا كانت تلك الليلة أصبحنا فبايعنا عثمان).

قال المسوّر: طرقني عبد الرحمان بعد هجع من الليل (ربع من الليل) فضرب

ص: 279


1- في هذه الفقرة زيادة معنى على ما ذكره المؤلّف رأى المترجم زيادتها لازمة.
2- ابن أبي الحديد 9: 35، و تمام الكلام: فلمّأ قرعته بالحجّة في الملأ الحاضرين هبّ كأنّه بهت لا يدر ما يجيبني به، الخ. و أنا أقول للإمام: بأبي أنت و أمّي «فبهت الذي كفر» لك اللّه يا مولاي على طول معاناتك من أولاد الزواني و العواهر.
3- إنّي أرى ضرورة إعادة لعنهم كما كان يفعل أسلافنا لأنّنا تركنا ذلك حتّى صارت لهم مكانة في النفوس.

الباب حتّى استيقظت، فقال: أراك نائما، فو اللّه ما اكتحلت هذه الليلة (الثلث) بكبير نوم، انطلق فادعوا الزبير و سعدا، فدعوتهما له فشاورهما ثمّ دعاني، فقال:

ادع لي عليّا، فدعوته فناجاه حتّى ابهارّ الليل ثمّ قام عليّ من عنده و هو على طمع و قد كان عبد الرحمان يخشى من عليّ شيئا (1)، ثمّ قال: ادع لي عثمان، فدعوته فناجاه حتّى فرّق المؤذّن بينهما بالصبح، فلمّا صلّى الناس الصبح و اجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين و الأنصار، و أرسل إلى أمراء الأجناد و كانوا وافوا تلك الحجّة مع عمر، فلمّا اجتمعوا تشهّد عبد الرحمان ثمّ قال: أمّا بعد، يا علي، إنّي قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان أحدا فلا تجعلنّ على نفسك سبيلا، فقال: أبايعك على سنّة اللّه و رسوله و الخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمان و بايعه الناس المهاجرون و الأنصار و أمراء الأجناد و المسلمون (2).

و يروى أنّه لمّا اجتمع أهل الشورى قبل أن ينعقد أمر عثمان و يتكلّم عبد الرحمان، قال طلحة و الزبير: نبايعك على أنّا شريكان في هذا الأمر، فقال: لا و لكنّكما شريكان في القوّة و الاستعانة و عونان على العجز و الأود (3).

و تكلّم عبد الرحمان و مال إلى عثمان لمصاهرته، و أبى عليّ عليه السّلام و تكلّم كما روى أبو عبد اللّه المدني عن مشايخه عن عامر بن واثلة قال: كنت على الباب يوم الشورى و عليّ عليه السّلام في البيت، فسمعته يقول: استخلف ابو بكر و أنا في نفسي أحقّ

ص: 280


1- و هذا الذي يخشاه هو هجومه لعنه اللّه و أخزاه على بيت فاطمة بعد وفاة أبيها مع عمر و خالد بن الوليد لعنهما اللّه.
2- راجع قول الرجلين و جواب الإمام لهما في نهج البلاغة 4: 46.
3- صحيح البخاري 8: 123 و هنا يتجلّى لي أنّ سنّة الخليفتين صارت تعدل سنّة اللّه و رسوله فهما ركن من أركان الإسلام و عدم اتّباعهما يساوي عدم اتّباع القرآن و النبيّ، و هذا من مصائب الدهر.

بها منه، فسمعت و أطعت، و استخلف عمر و أنا في نفسي أحقّ بها منه، فسمعت و أطعت، و أنتم تريدون أن تستخلفوا عثمان إذن لا أسمع و لا أطيع، و إنّ عمر جعلني في خمسة أنا سادسهم لا يعرف لي عليهم فضل، نحن سواء، أما و اللّه لأحاجّهم بما لا تستطيع عربهم و لا عجمهم و لا المعاهد منهم و لا المشرك أن ينكر منها فضيلة.

قال: أنشدكم باللّه أيّها الخمسة، أفيكم أحد أخو رسول اللّه غيري؟ قالوا:

اللهمّ لا.

قال: أمنكم واحد له عمّ مثل عمّي الحمزة بن عبد المطّلب أسد اللّه و رسوله غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أمنكم أحد له ابن عمّ مثل ابن عمّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قالوا: لا.

قال: أمنكم أحد له أخ مثل أخي المزيّن بجناحين يطير مع الملائكة في الجنّة؟

قالوا: لا.

قال: أمنكم أحد له زوجة مثل زوجي فاطمة بنت رسول اللّه سيّدة نساء هذه الأمّة غيري؟ قالوا: لا.

قال: أمنكم أحد ردّت عليه الشمس بعد غروبها حتّى صلّى العصر غيري؟

قالوا: لا.

قال: أمنكم أحد سكن المسجد يمرّ فيه جنبا غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أمنكم أحد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين قرّب إليه الطير فأعجبه و قال: اللهمّ آتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجئت أنا لا أعلم ما كان و ممّن قوله فدخلت، فقال: و إليّ يا ربّ، و إلىّ يا ربّ؟ قالوا: لا.

و كذا روى المدني عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت عليّا يقول: بايع الناس أبا بكر و أنا و اللّه أولى بهذا الأمر منه، فسمعت و أطعت مخافة أن يرجع الناس كفّارا، ثمّ أنتم

ص: 281

تريدون أن تبايعوا عثمان، إذن لا أسمع و لا أطيع، إنّ عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضل عليهم في الصلاح و لا يعرفونه لي كما نحن فيه سواء، و أيم اللّه لو شئت أن أتكلّم بما لا يستطيع عربهم و لا عجمهم و لا المعاهد و لا المشرك ردّ خصلة منها.

ثمّ قال: أنشدكم باللّه أيّها النافر جميعا أفيكم أحد أخو رسول اللّه غيري؟ قالوا:

اللهمّ لا.

قال: أنشدكم باللّه أيّها النفر أفيكم أحد صلّى القبلتين قبلي؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أنشدكم باللّه أيّها النفر أفيكم أحد من له عمّ مثل حمزة أسد اللّه و رسوله و سيّد الشهداء غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أخ مثل أخي جعفر ذي الجناحين المزيّنتين بالجواهر يطير بهما في الجنّة حيث شاء؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت رسول اللّه؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد له ابنان مثل الحسن و الحسين سيّدي شباب أهل الجنّة؟

قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد كان أقتل للمشركين عند كلّ شدّة تنزل على رسول اللّه غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد كان أعظم غناءا عن رسول اللّه اضطجع على فراشه فوقاه بنفسه و بذل مهجته و دمه غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد كان يأخذ الخمس غيري و غير فاطمة؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد يظهر كتاب اللّه و يعرف تنزيله و تفسيره و تأويله غيري؟

قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد فتح النبيّ بابه في المسجد حين سدّ أبواب المهاجرين

ص: 282

و الأنصار، حتّى قام إليه عمّاه حمزة و العبّاس فقالا: يا رسول اللّه، سددت أبوابنا و فتحت باب عليّ، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما أنا فتحت بابه و لا سددت أبوابكم بل اللّه فتح بابه و سدّ أبوابكم؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد تمّم اللّه نوره حين قال: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1) قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد ناجى رسول اللّه ستّة عشر مرّة غيري حين نزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (2)؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد تولّى غمض رسول اللّه غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: أفيكم أحد عهد رسول اللّه حتّى وضعه في حفرته غيري؟ قالوا: اللهمّ لا (3).

الجواب: اختار عمر للشورى هؤلاء الستّة و هم عليّ و طلحة و الزبير و عبد الرحمان بن عوف و سعد بن أبي وقّاص و عثمان بن عفّان و أوصى إليهم عمر و قال: هؤلاء النفر الستّة يليقون للخلافة فاختاروا أحدهم و الاختيار باطل.

جواب آخر: لمّا أدركت أبا بكر الوفاة و عرف في مرضه أنّه مفارق الحياة استخلف عمر بن الخطّاب و بايعه فكان عمر خليفة الخليفة، فلماذا صيّر الأمر شورى و خالف ابا بكر و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (لأنّ رسول اللّه مضى و لم يستخلف و أبو بكر مضى و استخلف و عمر مضى و أولى أمره في الشورى، فظهر من خلافه للنبيّ و أبي بكر الدليل على بطلان عمله.

جواب آخر: بناءا على مذهب أهل السنّة أنّ عمر رجح ميزانه على النبيّ و العالم

ص: 283


1- الروم: 38.
2- المجادلة: 12.
3- لا شكّ أنّ هذه المناشدة لم تأت على وجهها الصحيح فقد ذكر فيها ما لا فضل فيه كالعمّ و الأخ و غيرهما و إذا كان طيب العمّ يزين فإنّ سوء العمّ يشين أيضا، و رسول اللّه و عليّ عمّهما أبو لهب. ثمّ ما بال المناشدة خلت من ذكر الغدير فهل حذف ذلك منها؟ أنا لا أشكّ في ذلك.

مرّتين، و كان في مذهبهم أعلم العلماء، فهو حينئذ أعلم بأحوال الناس من أنفسهم و من غيرهم، فلماذا لم يختر من يخلفه مع علمه هذا و أوكل الأمر إلى الشورى؟

جواب آخر: الأفضليّة شرط في الخلافة و ينبغي أن يكون هؤلاء الستّة متساوين في الفضل فلا سبق لأحد على أحد منهم و كان يذهب إذا اختير اثنين معا إلى قتلهما و على هذا لا يجوز اختيار أحدهم أصلا.

جواب آخر: و لمّا دخلوا على عمر و هو مطعون أخذ يصف لهم أنفسهم، فقال لعثمان: أمّا عثمان فكلف بأقاربه، و أمّا عليّ فرجل فيه دعابة، أمّا الزبير فوعق لقس، أي إنّ أخلاقه سيّئة، و أمّا طلحة فرجل فيه بأو، أي يجبّ الجماع (1)، و أمّا سعد فذو مقنب من مقانبكم (2). أمّا عبد الرحمان فرجل صالح لا يخلو من نوع قصور في الاستبداد بهذا الأمر، فإذا كانت هذه صفات القوم و كلّها مذمومة، و ليس فيهم من صفة رافعة إلّا كونهم من أهل بدر فلماذا اختارهم إذن؟ أليس هذا الفعل عين الخيانة للرعيّة و الأمّة؟

روى رشيد الدين بأسانيده عن الحسن أنّه قال: نابت أصحاب محمّد نائبة، فجمعهم عمر، فقال لعليّ: تكلّم فأنت خيرهم (3).

جواب آخر: كان عمر على علم تامّ بأنّ عليّا يستحقّ الخلافة و التصدّي لشؤونها كما روى أبو عبد اللّه المدني: أنّ عمر بن الخطّاب قال: من يستخلفون بعدي؟ فقال رجل من القوم نستخلف عليّا. قال: إنّكم لعمري لا تستخلفونه

ص: 284


1- الظاهر أنّ المؤلّف لم يحسن قرائة الكلمة من ثمّ أخطأ في معناها لأنّ البأو العجب و التكبّر، انظر الفائق للزمخشري 3: 168.
2- المقنب: جماعة الخيل، ليست بالقليلة و لا الكثيرة؛ رسائل المرتضى 4: 113.
3- الطرائف: 255؛ نهج الإيمان لابن جبر: 558 و تمامه: و أعلمهم، راجع كنز العمّال 5: 736 رقم 14258.

و الذي نفسي بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحقّ و إن كرهتم.

و بناءا على هذا لئن كان يعلم من عليّ هذه الصفة و أنّة يقيم الناس على الحقّ فلماذا قرنه مع من هو دونه، و صار سببا في إضلال الناس و الحقيقة الناصعة بأنّه لو اختار عليّا لما تردّد عن بيعته أحد لاستحقاقه الخلافة و ثقة الناس به، و على هذا فإنّه عجز- أو تعمّد- عن اختيار الخليفة اللائق المستحقّ و هو خليفة فكيف يطمع بالرعيّة أن تختاره، و هذا مثل قوله تعالى: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (1).

جواب آخر: روى المدني عن ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: دخلت على عمر فتنفّس نفسا شديدا، فقلت: ما أخرج هذا إلّا همّ شديد. قال: لهذا الأمر الذي لا أدري من له بعدي. قال: ثمّ أقبل عليّ فقال: لعلّك ترضى صاحبك لهذا- يعني عليّا-. فقلت: و ما يمنعه من ذلك، أليس بمكان ذلك في قرابته من رسول اللّه و سوابقه في الخير و مناقبه في الإسلام؟! فقال: إنّه كذلك، فذكرت له جماعة، ثمّ أقبل عليّ، فقال: إنّ أحرى من وليها و حملهم على كتاب اللّه و سنّة نبيّه صاحبك.

و في رواية: إنّ الأجلح من أحقّ القوم أن يحملهم على المحجّة البيضاء- يعني بالأجلح عليّا-.

و بهذا الطريق أيضا عن عبد اللّه بن عبّاس قال: أقبلت يوما إلى عمر بن الخطّاب فألفيته في جماعة من بطانته و خالص جلسائه و حواشيه، فإذا هو و هم في ذكر شعراء أهل الجاهليّة، و ساق الحديث إلى أن قال: قال عمر: و ما أحد أحقّ بهذا الفخر من بني هاشم لقيام رسول اللّه منهم. فقلت: وفّقك اللّه و سدّد منطقك. قال:

فكأنّه استقلّه، فقال: أتدري ما منع قومكم (منكم) [أن تعروا] (كذا) يعني الخلافة

ص: 285


1- البقرة: 44.

مع سلطان محمّد فيكم؟ قال ابن عبّاس: فكرهت أن استخرج عقوقه (1)، فقلت:

إن كنت لا أدري فأمير المؤمنين يدري. فقال: إنّهم كرهوا أن يجمعوا لكم مع النبوّة الملك و الخلافة، فبتحجوا بذلك على قومكم بحجا بحجا فاختارت قريش لأنفسها فأصابت في اختيارها، و مع ذلك فمالنا أن نتقدّمكم و نحن بخدمتكم لها كافيا (كذا).

قلت: سبحان اللّه! للعجب العجاب، أليس من بني هاشم المختصّ بعد النبيّ في الدين بمعظمه، و من السبق بأقدمه، و من العلم بغايته، و من الحكم بأرجحه، و من الرأي بأسدّه، و من الجهاد بأشدّه؟ قال: عليّ؟! قال: للّه إنّه عليّ أخو النبيّ في المشاكلة، و نفسه في المباهلة، و وزيره الخاصّ من أهله، و شريكه في أمره إلّا النبوّة، فإنّ اللّه ختمها بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، أ و لم يخبرنا بأمير المؤمنين عليّا بعد ما بدا أنّ رسول اللّه خلفه عام تبوك في أهله، و قال: ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون

ص: 286


1- وقع في هذا الخبر حذف و تصحيف و أنا أنقل لك ما في الإيضاح و أذكر لك المصادر لتكون على بصيرة منه: عن سعيد بن المسيّب قال: كان عمر جالسا مع قوم يتذاكرون أشعار العرب إذ أقبل ابن عبّاس (فساق القصّة إلى غير ذلك من الموارد التي تفضي الإشارة إليها إلى طول: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا قوم أبوهم سنان حين تنسبهم طابوا و طاب من الأولاد ما ولدوا إنس إذا أمتوا، جنّ إذا فزعواموزّعون بها ليل إذا جهدوا محسّدون على ما كان من نعم لا ينزل اللّه منهم ماله حسدوا فقال عمر: أحسن و ما أحد أولى بهذا الشعر من هذا الحيّ من بني هاشم، لفضل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قرابتهم منه، فقال له ابن عبّاس: وفّقت يا أمير المؤمنين، و لم تزل موفّقا. فقال ابن عبّاس: أتدري ما منع قومكم منكم ... الخ. الإيضاح لفضل بن شاذان: 169؛ المسترشد لمحمّد بن جرير الطبري الشيعي: 686؛ الطرائف: 433؛ بحار الأنوار 28: 408؛ المراجعات: 394؛ سبيل النجاة لشيخ حسين الراضي: 381؛ السقيفة للمظفّر: 89؛ فدك في التاريخ للصدر: 66؛ ابن سبأ للعسكري 1: 112 و 141؛ الدرجات الرفيعة لابن معصوم: 105؛ تاريخ الطبري 3: 289؛ عمر بن الخطّاب للبكري: 211.

من موسى و لا نبيّ بعدي؟ قال: بلى. قال: أو لم تخبرني أنّ رسول اللّه قلّده الراية يوم خيبر و قد يولي الناس بها ثانية بعد أولى ففتح اللّه تعالى على يده؟ قال: نعم.

قال: فما أحببت الإمارة بعد اليوم (إلّا يومئذ).

قال ابن عبّاس: أخذ عمر بيدي و أنا أريد أن أقصّ مناقب أبي الحسن، قال:

خفّض عليك يابن عبّاس، فإنّ عليّا شرك أصحاب محمّد في فضائلهم و بان عنهم بفضائل و مناقب كريمة لا يعدله بها أو بمثلها أحد (1).

جواب آخر: و إذا كان عمر عالما بعدم اجتماع النبوّة و الخلافة في بيت واحد فلماذا صيّر عليّا واحدا من رجال الشورى؟

جواب آخر: و إن صحّ ما قاله عمر من أنّ الخلافة و النبوّة لا يجتمعان في بيت واحد فكيف بايع المهاجرون و الأنصار طوعا و رغبة و إيثارا منهم عليّا و اعترفوا بإمامته و بمقتضى الحديث «لا تجتمع أمّتي على ضلالة» لا يمكن أن تجتمع خلافا للرواية على الضلالة، و يكون عمر وحده المهتدي و المحقّ و الصادق.

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ خلافة عليّ حقّ و لعلّ عمر لم يكن جادّا بما قال، فقد اجتمعت الخلافة و الإمامة و كان الحقّ في إجماع المهاجرين و الأنصار و لكن بين عمر و عليّ عداوة كانت ظاهرة و قد أخبر اللّه تعالى في كتابه المجيد عن اجتماع الخلافة و النبوّة بقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (2).

جواب آخر: و حين جعلها شورى بين الستّة و ساوى بين الجميع في كامل البهائي ج 1 287 الباب الثامن في المناقب و الأخبار التي افتروها زخرفة لأباطيلهم ..... ص : 176

ص: 287


1- ستجد في هذه الرواية تصحيفا كثيرا أحال المعنى و غيّره و لم يشر المصنّف إلى النصّ الذي رجع إليها و لم أعثر أنا على المصدر بعد طول التتبّع.
2- النساء: 54.

الاستحقاق، عاد و خصّ عبد الرحمان بمزيد عناية و جعل القبول و الردّ بيديه، و قال: هؤلاء الخمسة تبع له فمن اختاره وجب عليهم اختياره، و هذه الحال مهزلة تدعو إلى الهزء و السخرية، و كأنّه هزأ بهؤلاء الخمسة، و يبقى الأمر على ما قاله الشيعة من أنّ عمر كان يعلم بشديد عداوة عبد الرحمان لعليّ عليه السّلام (1)، و مثله الشديد لعثمان لمصاهرتهما، و هذا الملحق إنّما ألحقه عمر لئلّا يلام أمام الرأي العام أو العامّة و هو قد شفى غيظه من عليّ بإبعاده عن الخلافة فقد أسّس هذا الخبث الغريب على هذه الحبكة العجيبة، و كما قال العقلاء عن المفسدين أنّهم أربعة أحدهم عمر بن الخطّاب لعنه اللّه، و كان عبد الرحمان لا يجهل مناقب عليّ عليه السّلام و لكنّه باع الدين بالدنيا (لعنه اللّه من ذي صفقة خاسرة).

فقد روى ابن مردويه عن مصعب بن عبد اللّه بن عبد الرحمان بن عوف، قال: لمّا فتح رسول اللّه مكّة، انصرف على الطائف يحاصرهم سبع عشرة أو ثمان عشرة يوما، فلم يفتحها، ثمّ أوغل غدوة أو روحة ثمّ يهجّر، فقال: أيّها الناس، إنّي لكم فرط و أوصيكم بعترتي خيرا، و إنّ موعدكم الحوض، و الذي نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة و لتأتنّ الزكاة أو لأبعثنّ عليكم رجلا منّي أو كنفسي ليضربنّ أعناق مقاتليكم أو ليسبينّ ذراريكم.

قال: فرأى الناس أنّه أبو بكر و عمر، قال: فأخذ بيد عليّ، فقال: هو هذا.

قال: فقلت: ما حمل عبد الرحمان على ما فعل؟ قال: من ذاك أعجب (2)، أنّهم

ص: 288


1- كان أحد الذين هجموا على دار فاطمة عليهما السّلام و أحرقوها و هو الذي هدّد عليّا عليه السّلام بالقتل، و كان فوق هذا و ذاك صهرا لعثمان لعنهما اللّه.
2- أمالي الطوسي: 504؛ بحار الأنوار 21: 152 و 40: 30؛ المستدرك 2: 120؛ مصنّف ابن أبي شيبة 7: 498 و 8: 543؛ تفسير الميزان 9: 181؛ الدرّ المنثور 3: 213. و لا عجيب في الأمر و قد كشف الإمام عليه السّلام زيفهم حين قال لعبد الرحمان بن عوف لعنه اللّه: و اللّه ما رجوت منه إلّا ما رجى صاحبك من صاحبه، دقّ اللّه بينكما عطر منشم ... و منشم امرأه كانت تبيع العطر في الجاهليّة فإذا أراد العرب الحرب تطيّبوا من طيبها فصارت مثالا على الشؤم، و استجيب لأمير المؤمنين في اللعينين فمات عبد الرحمان مقاطعا لعثمان.

علموا و لكنّهم عملوا عمل السامري و قومه حين عرفوا منزلة هارون و تجاهلوها، و فعل إخوان يوسف بعد أن عرفوه و كان منهم ما كان، و مثل قوم موسى الذين قصّ اللّه سبحانه قصّتهم، فقال: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (1) و صار ترك العمل بعد العلم علّة لوقوع العذاب فيهم.

و كان عمر يعرف فضيلة عليّ كما ينبغي أن تعرف، فقد قال يوما: «لولاك لافتضحنا» و قال في أكثر من سبعين واقعة: لو لا عليّ لهلك عمر، و هو القائل: العلم ستّة أسداس، فلعليّ خمسة أسداس و للناس سدس واحد و لقد شاركنا في سدسنا حتّى هو أعلم به منّا.

جواب آخر: و لمّا كان عبد الرحمان أمين الخليفة فقد كان عليه أن يرعى الأمانة حقّ رعايتها و لا يخون أو يداهن، و كان عليه أن يعرف فضل عليّ بالحديث المذكور، و يختاره بناءا عليه، و يراعي جانب الصدق، و لا يخطب مستحقّ الخلافة بقوله: يا علي، نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان أحدا فلا تجعل على نفسك سبيلا. و كان عليه أن يتخلّص من هذا الطوق الثقيل و يرميه عن عنقه و يقول للناس: أيّها الناس، الخلافة حقّ عليّ و إنّي انتزعتها من عنقي و وضعتها في يده. فويل لهم من يوم تجتمع فيه الخصوم يوم القيامة فماذا يجيبون رسول اللّه عمّا جنوه على آله الكرام؟!

جواب آخر: أمّا ما قاله عمر عن عليّ عليه السّلام بأنّه رجل فيه دعابة «أمّا عليّ فرجل

ص: 289


1- الصفّ: 5.

فيه دعابة» أي إنّه مزّاح، و هذا لا يقدح في خلافته فقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمزح كثيرا، و لقد قال: «إنّي لأمزح و لا أقول إلّا حقّا».

قال يوما لأنس: يا ذا الأذنين.

و قال آخر: سألت رسول اللّه و نحن في الطريق: احملني على جمل يا رسول اللّه، فقال: أحملك على ابن الناقة.

و قوله لغلام: (عصفور) (كذا) (له عصفور) يا أبا عمير ما فعل النغير (1).

و قوله كثيرا للحسن و الحسين عليهما السّلام: ترق عين بقّة.

و قوله لسلمان عند وجع بطنه: «الغيب دودا» (2).

و هذا مثل قول عمرو بن العاص فقد قيل إنّه قال: إنّ عليّا فيه دعابة (3)، فبلغ ذلك عليّا فكأنّه قد تأذّى من قوله و قال: عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أنّ فيّ دعابة و إنّي امرء تلعابة، أعافس و أمارس، لقد قال باطلا و نطق كاذبا، و شرّ القول الكذب، إنّه ليقول فيكذب، و يعد فيخلف، و يسأل فيلحف، و يسأل فيبخل، و يخون العهد و قطع الإلّ، فإذا كان عند الحرب فأيّ زاجر و آمر هو، ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته، أما و اللّه إنّي ليمنعني من اللعب ذكر الموت، و إنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة (4).

فبطل حديث عمر بقول عليّ عليه السّلام.

ص: 290


1- تذكرة الفقهاء 1: 343؛ جامع المقاصد 3: 277: كان يقول لصبيّ أفلت طائره: يا أبا عمير ... الخ؛ البحر الرائق 3: 72؛ مسند أحمد 3: 115؛ صحيح البخاري 7: 102 و النغير تصغير نغر و هي طير كالعصافير حمر المناقير، الصحاح 2: 833.
2- لم يتّضح لي معناها و لم أجدها في كتاب فرجائي من القاري تصحيحها إن وجدها.
3- تلقّاها من أستاذه الأكبر في النصب عمر بن الخطّاب لعنة اللّه عليهما.
4- نهج البلاغة، الخطب، ص 147.

جواب آخر: تواتر عن عليّ عليه السّلام أو هو شبيه بالمتواتر أنّه كان يتظلّم منهم و يطالب بحقّه و يعارض بلسان فصيح، و يردّ على أبي بكر، و لقد قعد عن بيعته ستّة أشهر كما زعم الخصم، و كذلك في عهد عثمان كان يطالب بحقّه و يشكو منه، فإمّا أن يكون ذلك بحقّ أو بباطل؛ فإن كان الثاني فلماذا سكت الصحابة و لم يبدوا احتجاجا عليه، و لم يقارعوه بالبراهين و الأدلّة حتّى يسكتوه و يظهر أنّه لا حقّ له، و ينعقد الإجماع، لأنّ مثل عليّ عليه السّلام في عصمته و طهارته لا يطلب شيئا ليس له.

و إذا كان بحقّ فلماذا قعد الصحابة أهل الانساع و أصحاب الشرع عن حقّه و لم يعينوه عليه ليستحقّوا المدح في الآخرة و الثواب في الدنيا؟!

في جامع العلوم و هو من تصانيف قدوة الحفّاظ أبي عبد اللّه محمّد بن معمر بن الفاخر القرشي، في الحديث الخامس و الثلاثين من مسند البراء، عن البخاري، عن زهير، عن علاء بن المسيّب، عن أبيه قال: قلت للبراء بن عازب: طوبى لك أنت ممّن رضي اللّه عنه و بايع تحت الشجرة. قال: يابن أخي، إنّك لا تدري ما أحدثناه بعده، و لا تكون شهادة أعدل من هذه الشهادة، و لن تكون أبدا.

و في ولاية دامغان سنة ستّ و خمسين و ستّمائة انبرى أحد علمائها المعاصرين فقال على سبيل العتب و التقريع بعد أن عرف مؤلّف هذا الكتاب الحسن بن علي المازندراني و عرف اعتقاده: ما بال قوم ذهبوا منذ مئات السنين و لم يؤذوا أحدا منكم لا في نفسه و لا في أهله لماذا تظهروا الغيظ منهم و الحقد عليهم؟

فأجابه الداعي قائلا: ما بال الشيوخ أبناء السبعين يفعلون أفعالا تبقى عالقة في الأمّة حيث يتألّم منها الشباب أبناء الثلاثين بعد خمس و خمسين و ستّمائة من السنين؟! فألقم المقرع حجرا بعد أن سمع ما أوردناه عليه، و الدليل على هذا الكلام حديث البراء بن عازب السالف من رواية البخاري و ابن معمر القرشي.

ص: 291

حديث: عن البخاري كما ورد في جامع العلوم عن عبد اللّه بن عمر قال: كنّا نتحدّث على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ خير هذه الأمّة بعد نبيّة أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان .. (1).

الجواب: روى الحافظ أبو عبد اللّه محمّد بن معمر القرشي من علماء اصفهان صاحب جامع العلوم عن ابن مردويه عن مشايخه عن ابن وائلة عن حذيفة قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليّ خير البشر فمن أبي فقد كفر (2).

و عن ابن مردويه و ساق السند إلى سلمان قال: رآني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فناداني، فقلت: لبيّك، فقال: أشهدك اليوم أنّ عليّا بن أبي طالب خيرهم و أفضلهم.

و بهذا الإسناد عن عقبة بن عامر قال: أتيت النبيّ ظهيرة، فقال لي: ما جاء بك يا جهنّي في هذا الوقت؟ قال: قلت: أمر عرض لي. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و ما ذاك يا جهني؟ قال: قلت: يا رسول اللّه، ما تقول في هؤلاء القوم الذين يقاتلون معك منهم من يقول: أبو بكر خير هذه الأمّة من بعدك، و منهم من يقول: عمر خير هذه الأمّة من بعدك فإن حدث بك اتّبعناه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: اتّبعوا من اختاره اللّه من بعدي، و من اشتقّ له اسما من أسمائه، و من زوّجه اللّه ابنتي من عنده، و من و كلّ به ملائكة يقاتلون مع عدوّه.

قلت: و من هو يا رسول اللّه؟ قال: عليّ بن أبي طالب (3).

ص: 292


1- مسند أحمد 1: 125 و 127 و لم يذكر عثمان؛ عمرو بن عاصم في كتاب السنّة: 554 و 555؛ المعجم الأوسط 7: 239؛ المعجم الكبير للطبراني 1: 107؛ صحيح البخاري 4: 203.
2- ألقاب الرسول و عترته من قدماء المحدّثين: 36؛ الشهيد نور اللّه التستري في الصوارم المهرقة: 337؛ مقام الإمام عليّ لنجم الدين العسكري: 48.
3- العاملي، الصراط المستقيم 2: 69 بسياق مختلف و المعنى واحد؛ محمّد طاهر القمّي الشيرازي في كتاب الأربعين: 74 سياق المؤلّف نفسه عن ابن مردويه، و ص 457.

عن أبي بكر بن مردويه إلى إسحاق عن الحارث قال: قال عليّ: نحن أهل البيت لا نقاس بالناس. فقام رجل فأتى عبد اللّه بن عبّاس فأخبره بذلك، فقال: صدق عليّ، أو ليس كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا يقاس بالناس؟! ثمّ قال ابن عبّاس: نزلت هذه الآية في عليّ عليه السّلام: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (1).

ذكر عماد الدين شفرويه في بعض تصانيفه عن الشيخ المدني القرشي صاحب جامع العلوم، عن ابن مردويه، عن الباقر عليه السّلام عن آبائه عن عليّ عليه السّلام عن رسول اللّه قال: كنت أنا و عليّ نورا بين يدي اللّه من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق اللّه آدم سلك ذلك النور في الأصلاب، فلم يزل ينقله من صلب إلى صلب آخر حتّى أقرّه صلب عبد المطّلب ثمّ أخرجه من صلب عبد المطّلب و يقسمه قسمين، فصيّر قسما في صلب عبد اللّه و قسما في صلب أبي طالب؛ فعليّ منّي و أنا منه، لحمه لحمي، و دمه دمي، فمن أحبّه أحبّني، و من يبغضه يبغضني و أبغضه (2).

و مثله مذكور في البخاري و قد تكرّر لمزيد الفائدة.

ذكر عماد الدين في كتاب «تناقضات أخبار البخاري» في الحديث الثاني عشر، و مثله في المصابيح، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة. فقال كلمة، فقلت لأبي: ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قال: قال: كلّهم من قريش.

ص: 293


1- البيّنة: 7.
2- كشف الغطاء 1: 10 طبعة حجريّة- مهدوي اصفهان؛ الخصال للصدوق: 640: فمن أحبّه فبحبّي أحبّه، و من أبغضه فببغضي أبغضه، و عبارة الكتاب مصحّفة عن هذه العبارة؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلّي: 97؛ مقام الإمام علي لنجم الدين العسكري: 59 و قال: أخرجه ابن مردويه في المناقب، و الخوارزمي، و شهاب الدين أحمد، و المطرزي، و العاصمي، و الأحاديث كثيرة جدّا في هذا الباب.

و كان عماد الدين من المخالفين لأنّه ذكر معاوية بن أبي سفيان و عمر بن عبد العزيز من الاثني عشر و لم يذكر الحسن و الحسين منهم، و قال: ليسا من الخلفاء. و لمّا تعرّض لذكر أئمّة الشيعة في الحديث، قال: و أمّا تعيين الشيعة للأئمّة الاثني عشر فإنّه تحكّم محض لم يخرج من آل و لم ينفض من غبار غلّ لإخراجهم من الخلافة الخلفاء الثلاثة .. و إنّما ذكرنا قوله ليعلم أنّه حنفيّ المذهب كسائر معتزلة خوارزم فيكون كلامه حجّة.

و إنّه روى في هذا الحديث عن أبي سلمى الراعي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

سمعت رسول اللّه يقول: ليلة أسري بي إلى السماء قال الجليل جلّ جلاله: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ (1)، فقلت: و المؤمنون؟ قال: صدقت يا محمّد، من خلّفت في أمّتك؟ قلت: خيرها. قال: عليّ بن أبي طالب؟ قلت: نعم يا ربّ.

قال: يا محمّد، إنّي اطّلعت على الأرض اطّلاعة فاخترتك منها فشققت لك اسما من أسمائي، فلا أذكر في موقع إلّا ذكرت معي، فإنّي المحمود و أنت محمّد، ثمّ اطّلعت الثانية فاخترت منها عليّا، و شققت له اسما من أسمائي، فأنا الأعلى و هو عليّ.

يا محمّد، إنّي خلقتك و خلقت عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ولده من سنخ نوري (2)، و عرضت ولايتكم على أهل السماوات و أهل الأرض؛ فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، و من جهلها كان عندي من الكافرين.

يا محمّد، لو أنّ عبدا من عبيدي عبدني ثمّ ينقطع حتّى يصير كالشنّ البالي، أتاني جاحدا لولايتكم ما غفرت له حتّى يقرّ بولايتكم.

يا محمّد، أتحبّ أن تراهم؟ قلت: نعم يا ربّ، فقال: التفت عن يمين العرش،

ص: 294


1- البقرة: 285.
2- من سنخ نور من نوري- المؤلّف.

فالتفتّ فإذا بعليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ و جعفر بن محمّد و موسى بن جعفر و عليّ بن موسى و محمّد بن عليّ و عليّ بن محمّد و الحسن بن عليّ و محمّد بن الحسن المهدي في ضحضاح من نور قائمون يصلّون و هو في وسطهم- يعني المهدي- كأنّه كوكب درّيّ، فقال: يا محمّد، هؤلاء الحجج و هو الباهر من عترتك و المنتقم من أعدائي (1).

و روى عقب هذا الحديث رواية عن سليم بن قيس الهلالي عن سلمان المحمّدي قال: دخلت على النبيّ و إذا الحسين بن عليّ على فخذه و هو يقبّل عينيه و يلثم فاه و يقول: أنت السيّد ابن السيّد أبو السادة، أنت إمام ابن إمام أبو الأئمّة، أنت حجّة ابن حجّة أبو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم (2).

و روى أيضا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا، كذبوا علينا، أن رفعنا اللّه و وضعهم، و أعطانا و حرمهم، و أدخلنا و أخرجهم، بنا يستبغى الهدي، و يستجلى العمى، إنّ الأئمّة من قريش غرسوا في

ص: 295


1- الأربعون لمنتجب الدين بن بابويه: 4، و يوجد هذا الحديث في كشف الغطاء 1: 7؛ كتاب الأربعين لمحمّد طاهر: 353؛ الجواهر القدسيّة للحرّ العاملي: 312؛ مدينة المعاجز 2: 312؛ بحار الأنوار 27: 200؛ كتاب الأربعين للماحوزي: 212.
2- الإمامة و التبصرة لابن بابويه: 110؛ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1: 56؛ الخصال: 475؛ كمال الدين و تمام النعمة للصدوق: 262؛ كفاية الأثر للخزّاز القمّي: 46؛ كتاب سليم بن قيس: 460؛ مقتضب الأثر للجوهريّ: 11؛ مناقب ابن شهر آشوب 3: 226؛ الطرائف لابن طاووس: 174؛ كتاب الأربعين لمحمّد طاهر القمّي الشيرازي: 355؛ بحار الأنوار 36: 241 و 43: 295؛ كتاب الأربعين للماحوزي: 214؛ العوالم للبحراني: 38 و 73؛ المراجعات: 278؛ رسالة في إمامة الأئمّة الاثني عشر للتبريزي: 4؛ معجم رجال الحديث للخوئي 9: 243؛ إعلام الورى بأعلام الهدى 2: 180؛ حياة الإمام الحسين للقرشي 1: 95.

هذا البطن من هاشم، لا تصلح الإمامة على سواهم، و لا تصلح الولاة من غيرهم (1).

و هذه الأخبار تدلّ على أنّ خير الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

روى أبو العلماء الحافظ الهمداني عن ابن عبّاس، قال رجل: يا بن عبّاس، ما أكثر مناقب عليّ و فضائله، إنّي لأحسبها ثلاثة آلاف. فقال ابن عبّاس: أو لا تقول إنّها إلى ثلاثين ألفا أقرب (2).

و روى الحافظ المدني عن أحمد بن حنبل أنّه قال: ما جاء لأحد من أصحاب رسول اللّه من الفضائل ما جاء لعليّ عليه السّلام (3).

و نقل في الصحاح عن ابن مسعود: كنّا جلوسا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة فدخل عليّ فسلّم و صعد (4).

ص: 296


1- نهج البلاغة، الخطب، ص 27.
2- حلية الأبرار للبحراني 2: 131؛ بحار الأنوار 40: 49؛ المناظرات في الإمامة: 123؛ شواهد التنزيل للحسكاني 1: 31؛ ميزان الاعتدال 1: 484؛ لسان الميزان 2: 200؛ نهج الإيمان: 667.
3- الصراط المستقيم 1: 153؛ بحار الأنوار 4: 124؛ المراجعات: 254؛ الشيخ حسين الراضي في سبيل النجاة في تتمّة المراجعات: 165؛ نجم الدين العسكري في مقام الإمام علي: 25؛ الغدير للأميني 1: 301؛ الإمام علي للرحماني: 134؛ عبد اللّه حسن في المناظرات في الإمامة: 123؛ نظم درر السمطين: 80؛ قاموس شتائم للسقاف: 198؛ خصائص الوحي المبين: 80 عن محمّد ابن هارون الحضرمي؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 418؛ المناقب للخوارزمي: 11 و 34؛ نهج الإيمان لابن جبر: 668؛ ينابيع المودّة 1: 9.
4- شرح الأخبار للمغربي 2: 595؛ أحاديث أمّ المؤمنين عائشة، و لكنّها جعلت عليّا عليه السّلام الثالث بعد التوأم أي أبو بكر و عمر لعنهما اللّه؛ مسند أحمد 3: 380؛ مجمع الزوائد 9: 117؛ طبقات المحدّثين باصبهان 4: 132 بعد طلوع الثنائي أو التوأم؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 322؛ موسوعة التاريخ الإسلامي 2: 370.

و في الصحاح عن مسند عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليّ أخي في الدنيا و الآخرة ... (1).

جواب: روى المخالف عن أبي هريرة قال: ابنا العاص مؤمنان: عمرو و هشام (2).

و في رواية أخرى: أسلم الناس (صيغة أفعل التفضيل- المترجم) و آمن الناس ابنا العاص.

و هذا الحديث مناقض لحديث آخر لأبي هريرة مروي من طريق المخالف، قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأيت في النوم بني الحكم و بني العاص (3) ينزون على منبري نزو القردة و الخنازير. قال: فأصبح كالمغيظ، فما رؤي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مستجمعا متبسّما حتّى مات.

و لو كانوا مؤمنين لأمن المسلمون من شرّهم لا سيمّا أهل البيت و هم أهل العصمة و الطهارة، فقد أشاعوا سبّهم ثمانين عاما في الشرق و الغرب.

حديث: جاء في جامع العلوم عن مسند عائشة، قالت: قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إنّه بين حاقنتي و ذاقنتي- و في رواية: بين سحري و نحري- و لا أكره شدّة الموت لأحد بعد الذي رأيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 297


1- الخلاف للطوسي 1: 28؛ هامش المسترشد للطبري الشيعي: 332 عن كنز العمّال 11: 602 الرقم 32907؛ الأمالي للطوسي: 137.
2- مسند أحمد 2: 304 و 327 و 353 و 354؛ المستدرك 3: 240؛ مجمع الزوائد 9: 352؛ الآحاد و المثاني 2: 99 و كتب أخرى.
3- لست أدري كيف يخطأ المؤلّف على فضله و سعة اطّلاعه بأبسط الأشياء فهو هنا يعتبر بني العاص هم السهميّون و إنّما عنى النبيّ الأمويّين فالعاص في الحديث ابن أميّة و والد عمر و هو العاص بن وائل السهمي، و يا بعد ما بين الاثنين، و لكنّ المؤلّف رحمه اللّه يفتقر إلى الدقّه في كتابه و كان عليه أن يتريّث فيما لا يعلم حتّى تثبت صحّته عنده.

و في رواية إنّها قالت: ما أغبط أحدا يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من شدّة موت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (1).

الجواب: و جاء في جامع العلوم أيضا عن أمّ سلمة قالت: و الذي تحلف به أمّ سلمة إنّ أقرب الناس عهدا برسول اللّه عليّ. و لمّا كان غداة قبض رسول اللّه و كان في حاجة فجعل يقول: جاء عليّ- ثلاث مرّات- فجاء قبل طلوع الشمس، فلمّا أن عرفنا أنّ له إليه حاجة خرجنا من البيت و كنت في آخر من خرج من البيت، ثمّ جلست أدناهنّ من الباب، قالت: فأجلسه عليّ و كان آخر الناس به عهدا، جعل يسارّه و يناجيه (2).

عن ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو في بيتي لمّا حضره الموت: ادعوا لي حبيبي، فدعوت أبا بكر فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ وضع رأسه، ثمّ قال: ادعوا لي حبيبي ويلكم، فقلت: ويلكم ادعوا له عليّ بن أبي طالب فو اللّه ما يريد غيره، فلمّا رآه فرج الثوب الذي كان عليه ثمّ أدخله فيه فلم يزل يناجيه حتّى قبض و يده عليه (3).

و روى ابن مردويه أيضا قال: لمّا كان اليوم الذي توفّي فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان جالسا و ظهره إلى صدر عائشة فهي مسندة و الناس مجتمعون في المسجد، فقال النبيّ: ادعي إلى أخي و صاحبي، فدعت عليّا، فلمّا دخل عليّ ورآه عمر، قام

ص: 298


1- رواه البخاري في صحيحه رقم 4266 بما هو أكثر اختصارا، و في رقم 4259 اقتصر على قولها: و رأسه بين حاقنتي و ذاقنتي، و الحاقنة ما سفل من البطن، و الذاقنة ما علا منها؛ فتح الباري 11: 312؛ كتاب الوفاة للنسائي: 50؛ سنن النسائي 1: 602؛ المعجم الأوسط 8: 333، هذا ما كانت تردّده عائشة كثيرا تتباهى به.
2- السنن الكبرى للنسائي 4: 261 و 5: 154.
3- الطرائف لابن طاووس: 154؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 42: 393.

ليخرج أو يخرج من البيت فسلّمته عائشة حتّى وضعت رأسه على المرفقة و قامت، فأخبر نبيّ اللّه عليّا بألف باب يكون قبل يوم القيامة يفتح من كلّ باب ألف باب ... (1).

عن ابن مردويه و ساق السند إلى الأرقم بن سرحيل (كذا)- الصحيح شرحبيل ... المترجم- عن ابن عبّاس قال: لمّا مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة، فقال: ادعو لي عليّا. قالت عائشة: ندعوا لك أبا بكر؟ قال: ادعوه، قالت حفصة: يا رسول اللّه، ندعو لك عمر؟ قال: ادعوه، قالت أمّ الفضل: يا رسول اللّه، ندعوا لك العبّاس، قال: أدعوه، فلمّا اجتمعوا رفع رأسه فلم ير عليّا، فسكت، فقال عمر: قوموا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (2) فلو كانت له إلينا حاجة ذكرها، ففعل ذلك ثلاث مرّات.

و كذلك روي عن جابر أنّ عليّا عليه السّلام كان عند النبيّ حين حضرته الوفاة، فأمره و عهد إليه بما شاء، فلمّا كان زمان عمر جاء كعب الأحبار و نحن جلوس عند عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كان آخر ما تكلّم به نبيّكم؟ قال: سل عليّا. قال: أين هو؟ قال: ها هو ذا، فسأله، فقال: أسندته إليّ فوضع رأسه على منكبي فقال:

الصلاة الصلاة. قال كعب: ذلك آخر عهد الأنبياء و به أمروا و عليه بعثوا. قال: فمن غسّله؟ قال: سل عليّا، فلمّا سأله قال: كنت غسّلته و كان عبّاس جالسا و كان

ص: 299


1- حذف الناسخ جزءا من الحديث و هو دعوة حفصة لأبيها عمر، و لم أعثر عليه في المصادر الموجودة في حيازتي و قد بحثت عنه جهد الطاقة فلم أوفّق للحصول عليه و أحيط القارئ علما بذلك.
2- الطبري الشيعي في المسترشد: 122، مناقب ابن شهر آشوب 1: 203؛ البحار 22: 521؛ مسند أحمد 1: 356.

أسامة بن زيد و شقرى مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يختلفان بالماء (1).

و بهذا افتخر عليّ عليه السّلام: و لقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنّي لم أردّ على اللّه و لا على رسوله ساعة قطّ، و لقد واسيته في المواطن التي ينكص فيها الأبطال، و يتأخّر فيها الأقدام، نجدة أكرمني اللّه بها، و لقد قبض رسول اللّه و إنّ رأسه على صدري، و لقد اسلت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي، و لقد ولّيت غسله و الملائكة أعواني، فضجّت الدار و الأفنية؛ ملأ يهبط و ملأ يعرج، و ما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه حتّى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحقّ به منّي حيّا و ميّتا (2).

و يتعارض حديث عائشة مع حديث أمّ سلمة، مع أنّ حديث أمّ سلمة يفضل حديث عائشة لأنّ أمّ سلمة من جملة المخدّرات وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى (3):

أوّلا: لم تعمل عائشة بهذه الآية.

ثانيا: يعترف الخصم بأنّ عائشة بغت على الإمام و لم تكن أمّ سلمة مثلها، و جرت العادة على أنّ الرجل إذا بلغ السياق و بلغت روحه التراق يتولّى أمره الرجال لا سيّما و أنّ الزوجيّة مسلوبة عن عائشة بسبب عدم استحقاقها للإرث من النبيّ و إنّما تستحقّه بالزوجيّة، فلمّا انتفت انتفى الإرث بها فهي ليست زوجة في تلك الساعة.

ص: 300


1- المراجعات: 329؛ سبيل النجاة للشيخ راضي: 247؛ معالم المدرستين للعسكري 1: 224؛ أحاديث عائشة 2: 203؛ كنز العمّال 7: 253 رقم 18789؛ الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 262؛ سبل الهدى و الرشاد للصالحي الشامي 12: 258.
2- نهج البلاغة 2: 172 باب الخطب.
3- الأحزاب: 33.

الجواب: قال البخاري: أبو إدريس سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول اللّه عن الخير، و كنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول اللّه، إنّا كنّا في الجاهليّة و شرّ فنجّانا اللّه بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم و فيه دخن. قلت: و ما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هدي، تعرف منهم و تنكر. قلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة إلى أبواب جهنّم من أجابهم إليها فذاق فيها. قلت: يا رسول اللّه، صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا و يتكلّمون بألسنتنا. قلت: ما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: الزم جماعة المسلمين و إمامهم. قلت: فإن لم يكن جماعة و إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلّها و لو أن تعضّ بأصل شجرة حتّى يدركك الموت و أنت على ذلك (1).

و في رواية عبد اللّه بن عمر قال: كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فذكر الفتن حتّى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: يا رسول اللّه، و ما فتنة الأحلاس؟ قال: هي فتنة هرب و حرب، ثمّ فتنة السرّاء دخلها أو دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنّه منّي و ليس منّي، إنّما وليّي المتقون (2) ثمّ يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع ثمّ فتنة الدهيا (3) لا تدع أحدا من هذه الأمّة إلّا لطمته لطمة ... الحديث (4).

و ذكر محمّد بن معمر في جامع العلوم عن قوله: «فتنة الاخلاص شبها بالخليص لظلمتها أو ركودها و دوامها، و الورك و لا يستقرّ على ضلع فكأنّه جعله مثلا فيمن ليس له الملك و لا استقلال به ...

ص: 301


1- صحيح البخاري 4: 178 و 8: 92.
2- جائت العبارة عند المؤلّف هكذا: «إنّما أوليائي المتقول) و هي تصحيف ما في ذلك ريب.
3- الدهماء- المؤلّف.
4- مسند أحمد 2: 133؛ سنن أبي داود 2: 299؛ المستدرك 4/ 467؛ الفايق 1: 265؛ كنز العمّال 11: 130 رقم 30911؛ الدرّ المنثور 6: 56؛ تهذيب الكمال 22: 527 و معنى الورك على ضلع، أي يصطلحون على أمر واه لا نظام له و لا استقامة.

و يقول مؤلّف هذا الكتاب الحسن بن عليّ بن محمّد بن الحسن الطبري: فهل بعد هذا الخير، إشارة إلى زمان نزول الوحي و وجود النبي بينهم.

قوله: من شر، إشارة إلى زمان الخلفاء الثلاثة الذين كانوا شرّا على العترة، و إيذاءا للمؤمنين، و فتنة عامّة.

و قوله: و هل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: نعم، إشارة إلى عهد الإمام عليّ عليه السّلام.

و قوله: فيه دخن، إشارة إلى معاوية لعنه اللّه و حربه لأمير المؤمنين عليه السّلام، و بغيه على إمام زمانه أمير المؤمنين عليه السّلام.

«و هل بعد ذلك الخير من شر» قال: نعم دعاة إلى أبواب جهنّم من أجابهم إليها فذاق فيها»، إشارة إلى ملوك بني أميّة و إلى العبّاسيّين.

و قوله: هم من أهل جلدتنا، يعني من قريش.

و يتكلّمون بألسنتنا، يعني يتمسّكون بظاهر شرعنا نظاما للملك.

و قوله: جماعة المسلمين و إمامهم، يعني التابعين لأهل البيت عليهم السّلام، إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي.

و قوله: تلك الفرق كلّها، إشارة إلى زمن غيبة الإمام عليه السّلام.

و شرح عماد الدين شفروه هذا الحديث شرحا فاحشا بعيدا عن العقل و النقل في باب الحديث السابع عشر من كتاب «التناقض»، و لشدّة وهنه و ركاكة معناها ارتكب حماقات نسبها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ثمّ أعرضنا عنه؛ فإن كان قالها معتقدا بها فويل له يوم القيامة، و إن قالها صيانة للجاه و المال يفوّض أمره إلى اللّه تعالى و لكن: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (1).

ص: 302


1- الأنعام: 21.

و لقد كشف الإمام عن هذه الحال ببيان معجب لطيف في بعض خطبه، فقال: ثمّ إنّكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات النعمة، و احذروا بوائق النقمة، و ثبتوا في قتام العشوة و اعوجاج الفتنة عند طلوع جنينها، و ظهور كمينها، و انتصار قطبها، و مداد رحاها، تبدو في مدارج خفية و تؤول إلى فضاعة جليّة، شبابها كشباب الغلام، و آثارها كآثار السلام، يتنافسون في دنيا دنيّة، و يتكالبون على جيفة مريحة، و عن قليل يتبرّأ التابع من المتبوع، و القائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، و يتلاعنون عند اللقاء.

ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الحقيقة الرجوف، القاصمة الزحوف، فتزيغ قلوب بعد استقامة، و تضلّ رجال بعد سلامة، و تختلف الأهواء عند هجومها، و تلتبس الآراء عند نجومها، من أشرف لها قصمته، و من سعى فيها حطمته، يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة، قد اضطرب معقود الحبل، و عمي وجه الأمر، تفيض فيها الحكمة، و تنطق فيها الظلمة، و تدقّ أهل البدو تسجّلها، و ترضهم بكلكلها، يضيع في غبارها الوجدان، و يهلك في طريقها الركبان، ترد بمرّ القضاء، و تحلب عبيط الدماء، و تثلم منار الدين، و تنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، و تدبّرها الأرجاس، مرعاد مبراق، كاشفة عن ساق، تقطع فيها الأرحام، و يفارق عليها الإسلام، بريّها سقيم، و ظاعنها مقيم (1).

و أوضح هذا كلّه بقوله: ألا و إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة فإنّها فتنة عمياء مظلمة عمّت خطّتها، و خصّت بليّتها، و أصاب البلاء من أبصر فيها، و أخطأ البلاء من عمي عنها، و أيم اللّه لتجدنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي كالناب الضروس، تقدم بفيها و تخبط بيدها، و تزين برجلها و تمنع درّها، لا يزالون

ص: 303


1- نهج البلاغة 2: 37 و 38 باب الخطب.

بكم حتّى لا يتركوا منكم إلّا نافعا لهم أو غير ضائر بهم، و لا يزال البلاء حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا كانتصار العبد من ربّه، و الصاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية، و قطعا جاهليّة، ليس فيها منار هدى، و لا علم يرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة، و لسنا فيها بدعاة، ثمّ يفرّجها اللّه عنكم كتفريج الأديم بمن يسومهم خسفا، و يسوقهم عنفا، و يسقيهم بكأس مصبّرة، لا يعطيهم إلّا السيف، و لا يجلسهم إلّا الخوف، فعند ذلك تودّ قريش بالدنيا و ما فيها لو يرونني مقاما واحدا، و لو قدر جزر جزور لأقبل منهم، ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونني ... (1).

جواب: سنّة اللّه و رسوله و أمير المؤمنين فيما يقولون هو بيان الرموز و الإشارات عن البيّنة و إظهار الحجّة و الدعوة العامّة و إفاضة الخير، كما قال تعالى: فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ* عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ* أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (2) و قد بيّنّا جانبا من هذا الباب.

حديث: و رووا أنّ امرأة أتت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكلّمته بشي ء فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول اللّه، إن جئت و لم أجدك، كأنّها تقول: الموت، قال صلّى اللّه عليه و آله: إن (فإن) لم تجديني فأتي أبا بكر (3).

الجواب: أجبنا فيما سلف عن هذا الباب إلّا أنّنا نضيف هنا أشياء لم تكن هناك نقلا عن كتاب «المناقضات» من المخالف، عن الأصبغ بن سلمان أنّه سئل رسول

ص: 304


1- نهج البلاغة 1: 183 باب الخطب.
2- المعارج: 36- 38.
3- صحيح البخاري 4: 191 و 8: 128؛ تحفة الأحوذي 10: 112؛ المعجم الكبير 2: 132؛ البداية و النهاية 5: 248؛ السيرة النبويّة لابن كثير 4: 452.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن عليّ و فاطمة عليهما السّلام، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: عليكم بعليّ بن أبي طالب فإنّه مولاكم فأحبّوه، و كبيركم فاتّبعوه، و عالمكم فأكرموه، و قائدكم إلى الجنّة فعزّزوه، و إذا دعاكم فأجيبوه، و إذا أمركم فأطيعوه، فأحبّوه بحبّي، و أكرموه بكرامتي، ما قلت لكم في عليّ إلّا ما أمرني ربّي جلّت عظمته (1).

فتبيّن من هذا أنّ الحديث الأوّل حكم خاصّ مع شخص خاصّ في أمر خاصّ، و الحديث الثاني حكم عام بملأ عام في أمور عامّة، و في مثل هذه الأمور تغليب الأمر العام على الأمر الخاص أولى و أحقّ من تغليب الخاصّ على العام، و الإمامة عامّة للمكلّفين و ليست خاصّة لشخص معيّن.

حديث: قال أبو سعيد الخدري: قال أبو بكر: ألست أحقّ الناس بها، ألست أوّل من أسلم (2).

الجواب: روى صدر الأئمّة و ساق الحديث إلى الزمخشري عن أبي ذر قال: لمّا كان أوّل يوم في البيعة لعثمان، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ (3) قال أبو ذر: فاجتمع المهاجرون و الأنصار في المسجد و نظرت إلى أبي محمّد عبد الرحمان بن عوف، و قد اعتجر بريطة، و قد اختلفوا و كثرت المناجزة إذ جاء أبو الحسن- بأبي هو و أمّي- قال: فلمّا بصروا بأبي الحسن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام سرّ القوم طرّا، فأنشأ عليّ عليه السّلام يقول:

إنّ أحسن ما ابتدأ به المبتدئون و تنطّق به الناطقون و تفوّه به القائلون حمد اللّه

ص: 305


1- محمّد بن أحمد القمّي، مائة منقبة: 62؛ الكراجكي، كنز الفوائد: 209؛ محمّد طاهر القمّي الشيرازي، كتاب الأربعين: 80؛ بحار الأنوار 27: 112 و 28: 152.
2- ابن عقيل، النصائح الكافية: 228، و قال: أخرجه الترمذي و ابن حبّان في صحيحه.
3- الأنفال: 42.

و الثناء عليه بما هو أهله، و الصلاة على النبيّ محمّد و آله؛ الحمد للّه المتفرّد بدوام البقاء، المتوحّد بالملك و المجد و الثناء- إلى أن قال:- فأنشدكم اللّه يا معاشر المهاجرين و الأنصار، هل تعلمون أنّ جبرئيل عليه السّلام (أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا محمّد، لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا علي، هل تعلمون كان هذا؟ قالوا: اللهمّ نعم) (1).

قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ جبرئيل عليه السّلام نزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا محمّد، إنّ اللّه يأمرك أن تحبّ عليّا و تحبّ من يحبّه فإنّ اللّه تعالى يحبّ عليّا و يحبّ من يحبّ عليّا؟ قالوا: اللهمّ نعم.

قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لمّا أسري بي إلى السماء السابعة رفعت إلى رفارف من نور ثمّ رفعت إلى حجب من نور فوعد النبيّ الجبّار لا إله إلّا هو أشياء، فلمّا رجع من عنده نادى مناد من وراء الحجب: نعم الأب أبوك إبراهيم و نعم الأخ أخوك عليّ بن أبي طالب فاستوص به؟ قال: أتعلمون معاشر المهاجرين و الأنصار كان هذا؟ فقال أبو محمّد من بينهم- يعني عبد الرحمان ابن عوف-: سمعتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إلّا فصمّتا.

ثمّ قال: أتعلمون أنّ أحدا كان يدخل المسجد جنبا غيري؟ قالوا: اللهمّ لا.

قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ أبواب المسجد سدّها [رسول اللّه] و ترك بابي بأمر اللّه؟ قالوا: اللهمّ نعم.

قال: هل تعلمون أنّي كنت قاتلت عن يمين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قاتلت الملائكة عن يساره؟ قالوا: اللهمّ نعم.

قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ رسول اللّه قال لي: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟ قالوا: اللهمّ نعم.

ص: 306


1- هذه الفقرة لم يذكرها المؤلّف.

قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ الحسن و الحسين فجعل يقول: هي يا حسن، فقالت فاطمة: يا رسول اللّه، إنّ الحسين أصغر و أضعف ركنا منه، فقال لها رسول اللّه: ألا ترضين أن أقول أنا هي يا حسين، و يقول جبرئيل:

هي يا حسين؟ فقالوا: اللهمّ نعم.

قال: فهل لخلق منكم مثل هذه المنزلة ... نحن الصابرون ليقضي اللّه في هذه البيعة أمرا كان مفعولا (1).

جواب: نعود إلى كلام أبي بكر القائل: من أولى بها منّي و أنا أوّل من أسلم. فعدّ السبق إلى الإسلام دلالة على استحقاق الإمامة، و هذا باطل، لأنّ الإمامة لا تصحّ حتّى يحصل الإجماع (عندهم طبعا) و في السابق إلى الإسلام اختلاف بين المسلمين، فمن قائل أنّه عليّ، و منهم من قال زيد بن حارثة، و قيل بلال بن رباح، و قيل أمّ المؤمنين خديجة عليها السّلام و هلمّ جرّا (2).

روي عن عبد اللّه المدني عن ابن مردويه عن معاذة العدويّة قالت: سمعت عليّا و هو على منبر البصرة يقول: أنا الصدّيق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر (3).

ص: 307


1- نهج السعادة 1: 116؛ تاريخ مدينة دمشق 29: 198؛ مناقب الخوارزمي: 299؛ ينابيع المودّة 1: 433. و أنا بدوري أتسائل: لم لم يحتجّ أمير المؤمنين بيوم الغدير عليهم و هو لا بديل عنه في مثل هذا اليوم؟ أنا على يقين من أنّ الأيدي الخائنة لعبت في النصّ فحذفت كثيرا منه و ما زال هذا دأبها و ديدنها إلى اليوم فإلى اللّه المشتكى، كلّ هذا من أجل أن لا نخسر بيدقا اسمه عمر و بيدقا آخر اسمه أبو بكر في رقعة التاريخ المبسوطة للعب الأمزجة و الخواطر و الغايات.
2- لا اختلاف بين المسلمين في أوّل من أسلم، فقد أجمعوا على أنّ سيّدتنا خديجة عليها الصلاة و السلام أوّل من أسلم، ثمّ تلاها أمير المؤمنين، و لكن الاختلاف الذي حدث هو من صنع عائشة حين ادّعت لأبيها هذا السبق و نابعها على ذلك بطانتها.
3- المسترشد: 264؛ الفصول المختارة: 261؛ الإرشاد 1: 31؛ كنز الفوائد: 121؛ الاحتجاج 2: 149؛ مناقب آل أبي طالب 1: 289؛ المستجاد من الإرشاد للعلّامة الحلّي: 34؛ الصراط المستقيم 1: 235؛ بحار الأنوار 38: 226 و 268.

و روى ابن مردويه عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّه قال: أوّل من آمن خديجة ثمّ عليّ بن أبي طالب، ثمّ زيد بن حارثة، ثمّ أبو بكر.

جواب آخر: إن كان مجرّد السبق إلى الإسلام يثبت التقدّم و الاستحقاق في الخلافة فينبغي أن يكون عثمان أولى بالخلافة من عمر، و مقدّما عليه، لأنّه أسلم قبله كما ينبغي أن يلي الخلافة عليّ بعد أبي بكر، لأنّ عليّا سبق عثمان و عمر إلى الإسلام بإجماع الخصوم (1) و ليس الأمر كذلك فتبيّن من هذا أنّ السبق لا يثبت الأولويّة في الحكم.

حديث: يقول المخالفون عن عليّ عليه السّلام قال: ذكرت الأمراء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إن تبايعوا أبا بكر، تجدوه ضعيفا في نفسه و قويّا في أمر اللّه، و إن تبايعوا عليّا و لن تفعلوه تجدوه هاديا يسلك بكم الطريق المستقيم (2).

الجواب: هذه الرواية ذكرها صاحب كتاب المناقضات «مناقضات البخاري»

ص: 308


1- أقول: إنّ الذي فهمته من قول أبي بكر أو قولهم على لسانه أنّ الأولويّة في السبق شرط في التقدّم و لا يترتّب على ذلك تسلسل العدد بأن يكون الثاني بعد الأوّل و الثالث بعد الثاني في الأوّليّة و هكذا و حينئذ لا محلّ لقول المؤلّف، فينبغي عليه أن يورد عليهم من وجه آخر.
2- الإيضاح لابن شاذان: 237؛ الغارات 2: 518؛ مناقب أمير المؤمنين للكوفي: 448 و ليس ذكر لأبي بكر؛ السقيفة و فدك للجوهري: 76؛ مسند أحمد 1: 109 و فيه زيادة؛ المستدرك 3: 70؛ مجمع الزوائد 5: 176؛ شرح ابن أبي الحديد 6: 52 و 11: 11؛ كنز العمّال 5: 799 و 11: 612؛ شواهد التنزيل 1: 82 و 83 و 84؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 420 و 421 و 44: 236؛ أسد الغابة 4: 31؛ ميزان الاعتدال 3: 363؛ الإصابة 4: 468؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 250 و في أكثرها يذكر عمر أيضا.

و يروي كذلك عن الطبراني عن اسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزّاق عن أبيه عن ميثاق عن عبد اللّه بن مسعود قال: كنت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليلة قد بايع الجنّ، فتنفّس، فقلت: مالك يا رسول اللّه؟ قال: نعيت إليّ نفسي يابن مسعود. قلت: استخلف يا رسول اللّه، قال: من يابن مسعود؟ قلت: أبو بكر، فسكت ثمّ مضى ساعة ثمّ تنفّس، فقلت: ما شأنك يا رسول اللّه؟ قال: نعيت إليّ نفسي يابن مسعود. قلت:

فاستخلف. قال: من؟ قلت: عليّ بن أبي طالب. قال: أما و الذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلنّ الجنّة (1).

الجواب: اعلم أنّ عبد اللّه المدني روى عن سلمان الفارسي أنّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ وصيّي و خليفتي و خير من أترك من بعدي ينجز موعدي و يقضي ديني عليّ بن أبي طالب.

و يقول: من كنت مولاه فعليّ مولاه.

و يقول: إنّي تارك فيكم الثقلين .. الخ.

و يقول: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

و يقول: اللهمّ أدر الحقّ مع عليّ حيث ما دار (2).

قال المصنّف: إنّ قوله: إن تبايعوا أبا كر تجدوه ضعيفا على نفسه دليل على بطلان هذا الحديث و وضعه لأنّه يخالف القرآن، فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا ورد عليكم

ص: 309


1- الفضل بن شاذان: 93؛ الروضة في المعجزات و الفضائل: 119.
2- هذه جملة أحاديث و قد سبق تخريجها إلّا الحديث الأوّل عن سلمان و قد أخرجه ابن شهر آشوب في المناقب 2: 246 و 2: 256 أخرجه عن أنس؛ معالم المدرستين 1: 216 عن أبي سعيد؛ و ابن أبي الحديد 13: 228؛ تهذيب التهذيب 3: 91؛ كشف اليقين للحلّي: 270؛ مجموعة الرسائل للطف اللّه الصافي 2: 40.

منّي حديث فأعرضوه على كتاب اللّه فإنّ وافق فاقبلوه (1)، و يقول تعالى في حقّ طالوت لمّا ردّه بنو إسرائيل و أبوا ملكه و إمارته: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ (2) و القوّة من الصفات الممدوحة كما قال اللّه تعالى في حقّ نفسه:

إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (3) و قال في حقّ جبرائيل: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (4).

و «قويّا في أمر اللّه تعالى» باطل أيضا، و لو كان صحيحا لما آذى فاطمة المعصومة البضعة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمّ السادات و الأئمّة و سيّدة نساء العالمين حتّى ماتت غاضبة عليه بغصّتها، و أوصت أن تدفن سرّا، و لا يشهد جنازتها كما جاء في صحيح البخاري.

و ما روي في حقّ عمر «قويّا في نفسه» إن كان القصد بها الفظاظة و الغلظة و شراسة الخلق فإنّها صفات ذمّ و نقصان: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (5) و هي علامة على شقاء تلك الدار و قساوة القلب في هذه الدار، و إن كان المقصود منها الشجاعة فليس من المعروف عن عمر أنّه شارك في قتال أو قتل

ص: 310


1- عون المعبود 12: 232، قال الخطابي: فإنّه حديث باطل لا أصل له، و قد حكى زكريّا الساجي عن يحيى بن معنى أنّه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة؛ تذكرة الموضوعات: 28؛ كشف الخفاء 1: 86 و 2: 423؛ أضواء على السنّة المحمّديّة لأبو رية: 99؛ التبيان للطوسي 1: 5؛ تفسير مجمع البيان 1: 36 و 39؛ أحكام القرآن لجصّاص: 1: 629 و 3: 38؛ تفسير القرطبي 1: 38؛ أصول السرخسي 1: 365 و 2: 68 و 76؛ المحصول 3: 91 و 4: 338؛ الأحكام للآمدي 2: 323؛ شيخ المضيرة: 238؛ تاريخ ابن معين 1: 326.
2- البقرة: 247.
3- الذاريات: 58.
4- النجم: 5 و 6.
5- آل عمران: 159.

خصما للّه و رسوله، و كان ينهزم في كلّ حرب تشنّ على الإسلام لا سيّما في أحد و حنين و بدر و ما قاله في حقّ عليّ «و لن تفعلوه» دليل واضح على أنّ الصحابة يميلون عنه إلى غيره و هو مهدي و هاد و ليس كغيره ضالّا مضلّا و هو الصراط المستقيم في فاتحة الكتاب و اتّباعه طريق الإسلام.

جواب آخر: كلا الحديثين مرويّ من طريق علماء القوم و الحديث الأوّل لا يدلّ على خلافة الثلاثة و لا برهان لهم فيه عليها، و الحديث الثاني دالّ على خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

جواب آخر: إنّ مذهب المخالفين أنّ عليّا عليه السّلام أقلّ مرتبة منهم و أدنى، و هذه العقيدة استحكمت فيهم جدّا حتّى أنّني جرى لي بحث ذات يوم في مدينة يزدجرد و كنت قد استولى عليّ كرب مع عالم منهم في تلك البقعة من الأرض حول المذهب، فقال لي ذات يوم في طوايا البحث: إنّ النبيّ عندنا بمنزلة الإبهام، و أبو بكر السبّابة و عمر الوسطى و عثمان الخنصر و عليّ البنصر، و عليّ أدنى منهم بكلّ اعتبار، و العجب هنا أنّ هذا القول إن كان حقّا فالحديث كذب و باطل لأنّ فيه أبا بكر ضعيف و عمر له مرتبتان و عليّ حائز على عدد من المراتب أعلى مستوى منهم، و هذا الحديث عين نقصانهم و به بانت فضيحتهم، و إذا جاز تقديم المفضول على الفاضل فلا بدع أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدنى آحاد الأمّة و الإجماع منعقد على أنّه أفضل أفراد الأمّة و أفضل بمفرده من جميع الأنبياء، و عمر هو القائل: عجزت النساء أن يلدن مثل عليّ بن أبي طالب (1).

ص: 311


1- قول عمر: عجز النساء، رواه الرواة في معاذ، راجع: المغني 10: 139؛ الشرح الكبير 10: 133؛ المحلّى 10: 316 و 7: 355؛ البداية و النهاية 7: 75.

و قال: لا أبقاني اللّه لمعضلة (لم يكن فيها عليّ بن أبي طالب) (1) بعدك يا علي (2).

و قال: اللهمّ لا تبقني لمعضلة لم يكن فيها عليّ بن أبي طالب حيّا (3).

حديث: روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يبقينّ في المسجد باب إلّا سدّ إلّا باب أبي بكر (4).

الجواب: روى أبو بكر ابن مردويه عن مشايخه عن الملائي أنّه قال: أتيت المدينة فدخلت على عليّ بن الحسين زين العابدين، فقلت: جعلني اللّه فداك، رجل من مواليك أريد أن أسألك فحدّثني به، قال: و ما ذاك؟ قلت: حدّثني في شأن الأبواب، سمعت فيها شيئا من أبيك.

قال: حدّثني أبي الحسين بن عليّ، عن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام قال: أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيدي فقال: إنّ موسى بن عمران سأله ربّة أن يطهّر المسجد لهارون و ذرّيّته من بعده، و إنّي سألت ربّي أن يطهّر مسجدي لك و لذرّيّتك من بعدي، ثمّ لم يكن إلّا قليلا حتّى أرسل إلى أبي بكر أن سدّ بابك، فاسترجع أبو بكر، ثمّ قال:

هل فعل هذا بأحد قبلي؟ قال: لا، فقال: سمعا و طاعة، ثمّ فعل، ثمّ أرسل إلى عمر أن سدّ بابك، فاسترجع و قال: هل فعل بآخر قبلي؟ قالوا: بأبي بكر، قال: لي

ص: 312


1- هذه العبارة من المترجم.
2- المسترشد: 653: مناقب ابن شهر آشوب 2: 182؛ البحار 3: 678.
3- أحمد المرتضى في شرح الأزهار 4: 346.
4- صحيح البخاري 1: 120 و 4: 191؛ تحفة الأحوذي 10: 112؛ المصنّف لابن أبي شيبة 7: 471؛ مسند أبي يعلى 2: 63؛ كنز العمّال 11: 551 رقم 39590؛ نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني: 194؛ الطبقات 2: 227؛ تاريخ مدينة دمشق 24: 8 و 40: 226؛ مقام عليّ للعسكري: 27؛ الغدير للأميني 2: 97؛ فيض القدير للمناوي 4: 470؛ المناقب للخوارزمي: 101؛ جواهر المطالب: 200؛ الأنوار العلويّة للنقدي: 89؛ عمر بن الخطّاب: 371.

بأبي بكر أسوة يفعل، ثمّ أرسل إلى العبّاس أن سدّ بابك فغضب غضبا شديدا ثمّ قال: ارجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقل: أليس عمّ الرجل صنو أبيه؟ فقال: بلى و لكن سدّ بابك، فلمّا سمعت فاطمة سدّ الأبواب خرجت فجلست على بابها تنتظر من يرسل إليها بسدّ الأبواب، فخرج العبّاس ينتظر هل يسدّ باب عليّ عليه السّلام، فرأى فاطمة جالسة و الحسن و الحسين عليهما السّلام معها، فلمّا رأى العبّاس قال: خرجت و بسطت ذراعي مثل الأسد أخرجت شبليها و قال: خاض الناس في سدّ أبوابهم و ترك باب عليّ، فلمّا سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك صعد المنبر فقال: ما الذي خضتم فيه و ما أنا الذي سددت أبوابكم و لا فتحت باب عليّ و لكنّ اللّه سدّ أبوابكم و فتح باب عليّ عليه السّلام (1).

فصل

في كتاب شرف النبي من تصانيف الأستاذ أبي سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ عن رؤيا أبي بكر في جاهليّه في المنام أنّ القمر نزل على الأرض في مكّة و تقطّع إربا إربا على سطح الكعبة و وقعت كلّ قطعة منه في حجرات مكّة و منه قطعة وقعت في داره ثمّ عادت القطع فتجمّعت حتّى صارت قمرا و استدار كما كان فلم يقصص أبو بكر رؤياه على أحد إلى أن كان العام الذي خرج فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بتجارة خديجة و كان أبو بكر في ذلك الركب، فلمّا نزلوا بقرب دير الراهب بحيرا رأى الراهب الغمامة التي أظلّت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأضافهم بحيرا و عهد بالنبيّ إلى أبي طالب عليه السّلام و قال: خذ حذرك من اليهود على هذا الغلام.

فلمّا سمع أبو بكر ما قاله بحيرا قصّ رؤياه عليه، فقال بحيرا: إنّ هذا الغلام سوف يرسله اللّه إلى الخلق و تكون أنت الخليفة بعده، فابتهج أبو بكر بهذه البشرى و كتم

ص: 313


1- محمّد بن سليمان الكوفي، مناقب أمير المؤمنين 2: 461.

ذلك في قلبه، طمعا في الخلافة، فلمّا بعث رسول اللّه دعا أبا بكر إلى الإسلام، فقال له أبو بكر: ما هو الدليل الذي أصدّقك به؟ فقال: بآية الرؤيا التي رأيتها و عبّرها لك بحيرا الراهب.

و كان أبو سعيد الواعظ من النواصب و هو من كبار أهل السنّة.

الجواب: هذا ما يقوله علماء الشيعة بأنّ إسلام أبي بكر كان طمعا في الخلافة، و من أجل هذا زوّج ابنته عائشة رسول اللّه، و كان النبيّ معرضا عنها، و لكن شفع لأبي بكر جماعة من رؤساء العرب فاستحيي النبيّ منهم و رضي بها، و طالما كاد النبيّ و تآمر عليه لقتله كي ينال الخلافة من بعده.

و لكنّي أنا المؤلّف لا أقطع بهذا حتّى اطّلعت على كلام النواصب هذا فقطعت الشكّ باليقين و ثبت لديّ ما اتفق عليه علماء الشيعة من أنّ إسلام أبي بكر ما كان إلّا لنيل الملك و ليس مخلصا للّه فيه، و لا محبّا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان القمر الذي رآه في النوم رسول اللّه، و ما رآه من تفرّقه في حجرات مكّة فتأويله سلطان محمّد صلّى اللّه عليه و آله الذي ظهر في قريش، و نال به جماعة حظّا من الدنيا و جماعة حظّا من الدين، و خسر قوم الدنيا و الآخرة، و فتن أناس فيما جرى بحجرته قبل وفاته و طرده لهم إشارة و تنبيه على أنّ صاحب الفتنة ليس بعيدا عن مشركي قريش و لا فضل له عليهم، و هو مثل سائرهم، و آخر الأمر عاد إلى الصواب و هو أن كان القوم قد نالوا حظّا من الدولة و لكنّهم تعرّضوا للهلاك بجملتهم إلى أن هلكوا في ختام الأمر و بقيت ظلمات الكفر معهم فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (1) و تكون الخلافة في نهاية الأمر لأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يعني ينالها المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه آخر الزمان و هو حجّة اللّه و وارث الأنبياء

ص: 314


1- البقرة: 17.

و الأوصياء، و الكتاب السماء، و يستقيم العالم بعدله، و يستضي ء الدهر و الأرض بنوره، و يؤمن النواصب إيمان الحقّ، و ينتزع اللّه محبّة الفاسقين من قلوبهم، و يحلّ محلّها حبّ أهل البيت.

و ينبغي أن يجري التحقيق على ما تقرّر من إيمانهم فإنّه لم يكن على الحقيقة و إنّما أساسه الطمع و حبّ الجاه و السطوة، خلا أنّهم أفلسوا من هذا و ذاك، كما قال تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها (1)، و السلام على من اتّبع الهدى.

ص: 315


1- الأحقاف: 20.

الباب التاسع في البدع التي ابتدعها أبو بكر و رسيلاه

اشارة

الباب التاسع في البدع التي ابتدعها أبو بكر و رسيلاه (1)

البدعة الأولى: تسميته نفسه أمير المؤمنين و حكمه على أهل الإسلام، و الحال أنّه منصوب بدون إذن اللّه و رسوله و تنصيبهما.

البدعة الثانية: أخذه البيعة لنفسه من الصحابة على أنّه وصيّ رسول اللّه و خليفته، و السبب في ذلك أنّ المنافقين أظهروا الإسلام و أبطنوا الكفر و اتفقوا معه على أن يكونوا يدا واحدة لهدم الدين و إبطال الإسلام، كما قال اللّه تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (2) فاتّحدت هذه الجماعة قلبا

ص: 316


1- أحربها أن تكون صاحباه، لأنّي لم أقف على معنى الرسيل بما يقصده المؤلّف هنا، لأنّ الرسيل في اللغة الرسول، و الرسيل- كأمير- الواسع الطفيف، و الرسيل الفحل، و الرسيل المراسل في نضال و غيره، و الرسيل الماء العذب، راجع تاج العروس، و لا أجد من هذه المعاني معنى ينطبق على عمر و عثمان.
2- الحجرات: 14.

و قالبا لاتفاق المصالح و ليقوم أحدهم بالآخر، و يتعاونون و يتناصحون فيما بينهم، و سلك مسلكهم آخرون لخوفهم من التلف على مالهم و أنفسهم و لحفظ عرضهم، و أيضا لقلّة عددهم و كثرة عدوّهم، و خدع بهم آخرون و لبسوا عليهم فاغترّوا بهم فرأوا باطلهم بعين الحقّ و لم يكن كذلك، و يكون العدّ كالتالي:

هلاك الجماعة الأولى بكفرها، و أنّها كافرة بربّها و نبيّه و كتابه، و أمّا الجماعة الثانية فلم تخرج من دائرة الإيمان و ظلّت محافظة على دينها و إسلامها، و أمّا الجماعة الثالثة فإن كانت ذات جهل مركّب أي أنّها تملك الذكاء و الكياسة و بإمكانها البحث عن الدليل و تحرّي الحقّ و التمييز بين القبيح و الحسن و الحقّ و الباطل، ثمّ لم تفعل ذلك فإنّها هالكة لا محالة، و إن لم تكن بتلك القوّة و ذلك الاستعداد و لم تستطع دفع الشبهات فإنّها في حكم المجانين و السفهاء.

و قال بعضهم: إنّ أمر هؤلاء إلى اللّه إن شاء عذّبهم و إن شاء رحمهم و عفى عنهم.

و نعود إلى الفرقة الأولى فإنّها لم تنسلخ عن صورة الإسلام و لم تتجرد من الشريعة ذلك لغاية في النفس تشتمل على ترويج أمور الدنيا، و حفظ الإمارة و السلطان، و علموا أنّ هذه الخطّه خير وسيلة للأخذ بثأر الجاهليّة في بدر و حنين، كما أنّهم فعلوا ذلك بهدوء و حذر و تأنّي فجدّدوا قوانين الجاهليّة و أضمروا الدخائل السوداء بتمنّيهم عودة أهل هذا الدين إلى منشأهم الجاهلي الأوّل، و علموا أنّ الناس عبّاد المظاهر و لا أرب لهم في المخابر، و ليسوا من أهل الأسرار، و كان الأوّل يكتب في رسائله معنونا لها بأنّه خليفة رسول اللّه، و هذا افتراء على النبيّ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (1) و كان مع ذلك يبيد المسلمين بالقتل و التمثيل، و يحتجّ على ذلك بالردّة المزعومة، و ينسبها إليهم.

ص: 317


1- طه: 61.

و حمل الجباة على الناس فراحوا يلزمونهم على الأخماس و الزكوات بأقبح الوجوه من القهر و الاستيلاء بالقوّة عليها، ولّى على كلّ قبيلة و حاضره حاكما، و صنع له جيشا عرمرما، و لم يحاول أحد مسألته عن مفارقته حيث يزعم بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مات و لم يستخلف، فكيف إذن تسمّى بخليفة رسول اللّه؟ و من سمّاه؟ و ما هي حجّته على ذلك؟ و إن كانت الخلافة بالنصّ و العصمة و العلم و الورع فأنت فاقد لها.

و بناءا على هذا فإنّ من سلخ من عمره ستّا و أربعين عاما في الكفر حتّى أسلم و ليس فيه خصلة واحدة من خصال الإمامة من المعجزات (1) و النصّ و العصمة و الورع ثمّ هو الآن يدّعي خلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلا يجوز تسميته خليفة رسول اللّه بحال من الأحوال، لأنّ النبيّ قال: من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار (2) و أوّل من كذب على رسول اللّه متعمّدا هذا الرجل، و هم يتبعونه و يروون أنّ النبيّ مضى و لم يستخلف، و هذا الحديث مشهور مستفيض عندهم.

و إنّهم يقولون بأنّ ما فعل المهاجرون و الأنصار من تنصيب أبي بكر و الاجتماع

ص: 318


1- الكرامات- المؤلّف.
2- السرائر لابن إدريس الحلّي 2: 154؛ مستند الشيعة للمحقّق النراقي 18: 133؛ مصباح الفقاهة للخوئي 1: 116 و 388؛ الرسالة للشافعي: 396؛ مغني المحتاج للشربيني 4: 420؛ حواشي الرشواني 10: 220؛ حشاية ردّ المحتار لابن عابدين 1: 138؛ كشف القناع للبهوتي 5: 36؛ المحلّى لابن حزم 9: 111 و 336؛ سبل السلام لابن حجر 3: 223؛ نيل الأوطار 8: 85؛ نهج البلاغة 2: 187؛ من لا يحضره الفقيه 3: 569 و 4: 364؛ ذخائر العقبى: 76؛ مسند أحمد 1: 65 و 78 و 130 و 165 و 166 و 293، و كذلك أخرجه في أجزائه الخمسة الأخرى، صحيح البخاري 1: 35 و 2: 81 و 4: 145 و 7: 118؛ صحيح مسلم 1: 7 و 8 و 8: 229؛ المستدرك 1: 103 و 111 و 112 و 113 و 3: 262 و كتب كثيرة أخرجت هذا الحديث و هو متواتر على قلّة الحديث المتواتر عندهم بخلاف الشيعة فإنّ أحاديثهم المتواترة كثيرة.

عليه إنّما كان لحفظ الدين و حماية بيضته و تثبيت أمر الأمّة و نظام الإسلام.

الجواب: إنّ ثبات الأمّة و اجتماع الكلمة بقول اللّه و رسوله أولى، و ليس بسبب اجتماع ثلّة من المسلمين، و إذا كان هذا الاجتماع لصلاح الدين فإنّ إجماع المسلمين على قتل عثمان يجب أن يكون حقّا بناء على قول الخصوم.

و قال اللّه تعالى: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (1)، و لم يرد حديث مقطوع به أنّهم مأذون لهم فيما صنعوا بل الحديث وارد بنهيهم عمّا فعلوا.

و إذا ادّعوا بأنّ الأمّة رأت فيهم الكفائة دون غيرهم و أنّهم المستحقّون لتقديم هذا العمل.

الجواب: و لكن اللّه و رسوله رأيا غيرهم أولى بهذا العمل منهما، مع أنّ أبا بكر لم يكن أهلا لهذا العمل بشهادته على نفسه حين قال: أقيلوني فلست بخيركم و إنّ لي شيطانا يعتريني (2).

مع أنّ أعلام الصحابة من المهاجرين و الأنصار لم يبايعوه، فمن المهاجرين: خالد ابن سعيد، و المقداد بن الأسود، و أبيّ بن كعب، و عبد اللّه بن عبّاس، و عبد اللّه بن مسعود، و عمّار بن ياسر، و أبو ذر الغفاري، و سلمان الفارسي، و بريدة الأسلمي، و محمّد بن أبي بكر (3). و من الأنصار خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و سهل بن

ص: 319


1- القصص: 68.
2- عيون أخبار الرضا عليه السّلام للصدوق 1: 256؛ كنز العمّال 5: 590؛ الطبقات الكبرى 2: 212؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 30: 303 و 304؛ البداية و النهاية لابن كثير 6: 334؛ الإمامة و السياسة 1: 22 و 34؛ سبل الهدى و الرشاد 12: 315؛ الاستغاثة لأبي القاسم الكوفي 2: 43؛ مجمع النورين للمرندي: 109؛ صحيفة الرضا عليه السّلام للقيّومي (فارسي): 310.
3- مات أبوه و عمره يومئذ سنتان فكيف يمتنع عن بيعته و هو بهذه السنّ، اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّه لمّا علم بطلان خلافة أبيه مال عنه إلى أمير المؤمنين بعد أن بلغ مبلغ الرجال فكان كمن أبى له بالبيعة.

حنيف و أبو أيوب و أبو الهيثم بن التيّهان.

هؤلاء أعلام الصحابة ألمعروفون بالعلم و الزهد و الورع لمّا عرفوا باطل القوم و أنّ البيعة لهم باطلة أبوها و لم ينساقوا ورائهم و لا شايعوهم على الباطل، اللهمّ إلّا عبد اللّه بن عبّاس و محمّد بن أبي بكر فإنّهما طلبا من الإمام الذهاب إلى القوم و الردّ عليهم (1) فلم يأذن لهما الإمام و حذّرهما من ذلك قائلا: إنّي أخاف عليكما هذا الجمع و حدوث الفتنة و تكأكأ الناس عليكما و قتلكما، اذهبا إليهم واحدا واحدا فإنّهم لا يستطيعون قتل الواحد إذا علموا أنّ الثاني ردء له، فكانا يفعلان ما أمرهما به أمير المؤمنين عليه السّلام و يتلوان حكاية الغدير و وصيّة رسول اللّه و النصوص الواردة في الإمامة و يلزمون القوم الحجّة بتأكيدها و تبيينها و لكن الرجل الذي هفى قلبه إلى الحكم و جنح إلى الدنيا وراقه الزبرج منها لا يصغي إلى عتب عاتب و لا إلى لوم اللائمين.

و أطاعهم جلّ قبائل العرب إمّا جهلا بواقع الحال أو رغبه في الحطام أو خوفا من شرّهم المستطير، إلّا تلك القبيلة التي أبت أن تعطيهم زكاة أموالها و قالت: إنّ رسول اللّه لم يأذن لنا بإعطاء الزكاة أو الخمس إلى ابن أبي قحافة و إنّما أمرنا بدفعها إلى وصيّه عليّ بن أبي طالب إمام المسلمين، و أمّا أنت يابن أبي قحافة فلا تستحقّ شيئا من هذا، جئنا برخصة من اللّه و رسوله و حجّة غالبة و إلّا فلن تنال منّا شيئا، فعجز عن إجابتهم و حكم بارتدادهم.

و أرسل خالدا بن الوليد على رأس عسكر مجرّ، و لمّا اشتغل خالد بالحرب، ارتفع صوت المؤذّن للصلاة، فترك أهل تلك القبيلة الحرب و أقبلوا على الصلاة، فأنكر الصحابة شنّ الحرب عليهم، فأبى خالد أن يستمع إلى أحد و قال: لا بدّ من

ص: 320


1- قد عرفت حال محمّد، و أمّا ابن عبّاس فكان يومئذ صبيّا صغيرا رضوان اللّه عليهما.

قتالهم، و أمهلهم حتّى شرعوا في الصلاة و مال عليهم بالجيش فأبادهم جميعا و قتل رئيسهم مالكا ابن نويرة، و وضع رأسه أثفية للقدر، باعتبار العداء المستحكم بينهما في الجاهليّة (1).

و دخل بزوجته في الليلة التي قتل بها زوجها فشاع الخبر في الجيش و بين الناس، فأنكروه على خالد و جماعته، و أغار خالد على النساء و البنات و الأموال فغنمها و اشتغل المهاجرون و الأنصار هناك بفعل القبيح مع بنات المسلمين إلّا جماعة قليلة أنكرت هذا الفعل و اعتزلت القوم، و لمّا عادوا إلى المدينة أبعدوا الحوامل منها إلى أقصى البلاد لئلّا يطّلع الناس على بشاعة الجريمة، و باعوهنّ، و كان عمر صديقا لمالك بن نويرة (2) في قديم الزمان.

فلمّا عادوا إلى المدينة و اقتسموا الأموال و النساء و الأولاد، فأصاب عمر نصيب من ذلك فقبله و لم يتصرّف فيه، و لم يقسمه بين قريش، و لمّا نال الخلافة عمد إلى ما تبقى من هذه الغنائم فجمعها و أرسلها إلى ذويها و من لم يكن حيّا منهم دفعها إلى ورثته.

ص: 321


1- أقول: اقتصر المؤلّف رحمه اللّه على وجه واحد من وجوه هذه الحرب البشعة و لعلّة اختاره لأنّه أشدّ بشاعة منها، أمّا حرب ما يسمّى بالردّة فهي طويلة و فصولها كثيرة تدمي القلب و تؤذي كلّ مسلم، و انتظر كتابنا حول هذا المعنى إن شاء اللّه. أمّا العداوة التي تحدّث عنها بين خالد و مالك فلم أسمع من مؤرّخ ذكرها و سبب قتل مالك هو زوجته الحسناء، هكذا قال المؤرّخون.
2- هذه الصداقة لم أطّلع عليها، و لعلّ المؤلّف استعظم أن يكون مثل عمر منكرا للمنكر فحاول إيجاد سبب إلى إنكاره فاستنبط لهما هذه الصداقة الموهومة و لو فكّر قليلا لعلم بأنّ عمر لم يثأر لمالك أو لزوجته و لا للحقّ و لكنّه خاف من خالد أن يتقوّى به أبو بكر فيستغني عن عمر و يهمله و عندئذ تذهب أحلام عمر أدراج الرياح من ثمّ راح يشنّع على خالد و يأمر أبا بكر بإجراء الحدّ عليه، و اللّه يعلم أنّه كاذب فيما يدّعي و لو صدق لأجراه على خالد حين وصل إلى سدّة الحكم، ألا لعن اللّه القوم الظالمين.

و كان عمر أبّان الحرب ينكر على خالد فعله الشنيع و شدّد النكير عليه عند أبي بكر و يلومه لوما شديدا على ما جنت يداه، و أشار على أبي بكر بالقصاص من خالد لأنّه زنى و قتل مسلما، و قال لأبي بكر: عمله هذا مخالف للّه و لرسوله لأنّ القوم المقتولين كانوا مسلمين و لقد سمعت أنا و سمعت أنت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: أمرت أقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه، فإذا قالوها منعوا بها دمائهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابها على اللّه.

و لم يملك أبو بكر ردّا لقوله إلّا أن قال: لو منعوني عقال بعير ممّا كانوا يعطونه إلى رسول اللّه لحاربتهم (1).

و ندم الجيش على ما اقترف في حقّ الأبرياء و لات حين مندم، و كان عمر يتحيّن الفرص للقضاء على خالد و كان خالد كثير الحذر منه، يحيى بعيدا عن متناول يده و لم تمكن الفرصة عمر لقتله، و كانت العصبيّة لمالك و الحبّ له يغلي في باطن عمر إلى أن آلت الخلافة إلى عمر فعنّ له خالد ذات يوم و هو في أحد حوائط

ص: 322


1- الظاهر أنّ شيخنا المؤلّف طاب ثراه كان يكتب من الذاكرة لأنّ قول أبي بكر لعمر كان قبل أن تنشب الحرب و قول عمر لأبي بكر عن خالد بعد وقوع الكارثة، و المؤلّف خلط بينهما. و إليك مصادر حديث: «أمرت أن أقاتل الناس ... الحديث»: الأمّ للشافعي 4: 181 و 182 و 252 و 255 و 6: 180 و 7: 86 و 319؛ كتاب الموطّأ 1: 11؛ حاشية الدسوقي 1: 131؛ المبسوط للسرخسي 10: 2 و 24: 84؛ بدايع الصنايع لأبي بكر الكاشاني 7: 100 و 105؛ الجوهر النقي 3: 92 و 366؛ المغني لابن قدامة 2: 34 و 299 و 434؛ مسند الشافعي: 208؛ مسند أحمد 1: 11 و 19 و 35 و 48، و أخرجه في باقي الأجزاء؛ صحيح البخاري 1: 11 و 2: 110 و 4: 6 و 8: 50 و 140 و 162؛ و صحيح مسلم 1: 38 و 39؛ سنن ابن ماجة 1: 27 و 28 و 2: 1295؛ سنن أبي داود 1: 347 و 594 و 2: 78؛ سنن الترمذي 4: 117 و 118 و 5: 110؛ سنن النسائي 5: 14. و أخرج الحديث كتب كثيرة لا حصر لها، و أحبّ أن لا يفوتك خبث البخاري لعنه اللّه فقد تعمّد أن يدسّ في الحديث جملة هي: «و يؤتوا الزكاة» على عادته في التصرّف بالمتون لتكون عاذرا لإمامه لعنه اللّه و لعن إمامه.

المدينة فناداه: أأنت قاتل مالك و الزاني بزوجته؟ فأجابه: أجل يا أمير المؤمنين، كانت بيني و بينه عداوة قديمة فقتلته تشفّيا لي و لأبي بكر، و لكنّي شفيت نفسك أيضا بقتلي سعدا بن عبادة.

و لمّا سمع عمر ذلك قصرت يده عن قتل مالك، و ربت على كتفه و قرّ و قرّبه إليه و قبّله ما بين عينيه و قال: أنت يا خالد سيف اللّه و سيف رسوله، فاشتهر خالد بين العوام بهذا اللقب و قال له: إن كنت جرحت قلبي بقتل مالك فلقد شفيت غيظي بقتل سعد.

و قال جماعة: إنّ عمر لمّا قال لأبي بكر: أجر الحدّ على خالد، لأنّه قاتل زاني، أجابه أبو بكر: خالد سيف من سيوف اللّه، فلزمه اللقب من ذلك اليوم، و على كلا الروايتين إنّ خالد نال هذا اللقب لقتله المسلمين المؤمنين.

قصّة سعد بن عبادة

كان سعد رئيس قبيلة الخزرج و كان من نقباء الأنصار، و للأنصار اثنا عشر نقيبا، و لمّا بايع الناس أبا بكر قال الأنصار: إذا جاز ترك النصّ من اللّه و رسوله على الخليفة الحقّ فليس أحد الرجلين أولى بها من الآخر، و نحن الأنصار أصحاب العدد و الشوكة و الحسب أكثر من غيرنا، و نختار سعدا بن عبادة رئيسا لنا و هو خليفة علينا. فقال سعد: لا أبيع الدين بالدنيا، و لا أكفر بعد أن أسلمت، و لا أجعل من اللّه و رسوله خصما لي، و لا أقبل هذا المنصب حتّى يحدث الفرق بيننا و بين غيرنا.

فلمّا نطق سعد بهذا قوي جانب أبي بكر و مال الناس نحوه و طلبوا من سعد البيعة له فأبى سعد ذلك أشدّ الإباء، و قال: أأبى هذا الادّعاء لنفسي فكيف أقبله

ص: 323

لغيري، و لا أدخل النار من أجل غيري، فلم يبايع هو و لا قومه أبا بكر، و لمّا آل الأمر إلى عمر ألحّ عليه و لكنّه أبى و لم يقدروا أن يكروهوه عليه لكثرة أتباعه، و كانوا يصانعونه لينالوا رضاه بالبيعة سرّا، إلى أن استقبل قيس بن سعد ذات يوم عمر و قال له: استمع إلى نصحي، إشفاقا عليكم، فإنّ سعدا أقسم أن لا يبايعكم و أنتم لا تقدرون على قسره عليها، كما أنّه ليس باستطاعتكم حمل قومه الخزرج على بيعتكم مادام سعد لم يبايع إلّا بقتله، و لا يقتل سعد حتّى تقتل الخزرج بأجمعها، و لا تقتل الخزرج حتّى يقتل الأوس كلّهم، و لا يقتل الأوس حتّى تستأصل بطون اليمن كلّها، و هذا خارج عن قدرتكم و لا يتّسع له حولكم.

و حدث أن خرج سعد إلى الشام في أيّام عمر لمهمّة تخصّه و كان خالد بن الوليد في الشام، فقصد سعد ذات ليلة حيّا من بني الأزد، فبلغ خالد نبأ خروجه في الليل، و كان خالد شديد الساعدين، راميا حاذقا، فأعطى بعض المرتزقة شيئا من الدنانير و استأجرهم تلك الليلة فقطعوا على سعد طريقه و رموه بسهم و أردوه قتيلا، و أشاعوا بين العامّة لدرء خطرهم عنهم بأنّ الجنّ هي التي قتلت سعدا، و أنشدوا على لسان الجنّ:

قد قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عباده و رميناه بسهمين فلم نخطأ فؤاده فانتقم خالد منه لأنّه لم يبايع أبا بكر و عمر (1).

و في كتاب المؤالف لمحمّد بن جرير الطبري عن ابن علقمة عن سعد بن عبادة

ص: 324


1- و لم تنطل الحيلة على الشعراء، فقال في ذلك أحدهم: يقولون سعد شكّت الجنّ قبله ألا ربّما صحّحت دينك بالغدر و ما ذنب سعد أنّه بال قائماو لكنّ سعدا لم يبايع أبا بكر و قد صبرت من لذّة العيش أنفس و ما صبرت عن لذّة النهي و الأمر شرح ابن أبي الحديد 10: 111.

قال ابن علقمة: قلت لابن عبادة: قد مال الناس إلى بيعة أبي بكر. قال: فقلت: ألا تدخل فيما قد دخل فيه المسلمون؟ قال: إليك عنّي فو اللّه لقد سمعت رسول اللّه يقول: إذا أنا متّ تضلّ الأهواء و يرجع الناس على أعقابهم، فالحقّ يومئذ مع عليّ و كتاب اللّه بيده لا نبايع لأحد غيره. فقلت له: هل سمع هذا الخبر غيرك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ فقال: سمع أناس في قلوبهم أحقاد و ضغائن. قلت: بل نازعتك نفسك أن يكون هذا الأمر لك دون الناس كلّهم، فحلف أنّه لم يهمّ بها، و لم يردها، و أنّهم لو بايعوا عليّا كان أوّل من بايع سعد (1).

و كان سعد رئيس الأنصار و شيخهم قتل في أيّام عمر و تولّى الرئاسة بعده ابنه قيس بن سعد و هو من شجعان العرب و سار على منوال أبيه فلم يبايعهم، و الذين بايعوهم إنّما صدروا عن روح الطمع أو عداوة لأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو خوفا من بطشهم لأنّ الوهن دخل على الصحابة بموت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأنّ الدين لم يدخل قلوبهم إلّا جماعة يسيرة منهم، و هم أهل الدين و البصيرة و اليقين، رسخت العقيدة فيهم و قامت بهم الشريعة، و يعزى بقاء القرآن اليوم السائر بين الناس و وجود الإسلام و سنّة الرسول إلى بركة وجود هذه الجماعة القليلة.

و على مذهبنا أيّها الشيعة إنّ الذي حفظ الشريعة و صانها من العبث و التبديل هو أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الأئمّة الاثني عشر، و الحافظ اليوم للشرع الشرف هو قائم آل محمّد عجّل اللّه تعالى فرجه.

نكتة: و لمّا بايع الناس ابا بكر، قال له عمر: إنّ هذا الأمر لم يتمّ بعد و لن يتمّ إلّا إذا أوصيت بالخلافة لي من بعدك حتّى أتمّ هذا الأمر بتدبيري، فعاهده أبو بكر على

ص: 325


1- نهج السعادة للمحمودي 5: 205، مطبعة النعمان- النجف الأشرف، أولى 1386.

ذلك و أشهد على نفسه بأنّ عمر الخليفة من بعده، فقال له عمر عندئذ: لم يبق في العرب من ينازعنا الأمر إلّا عليّ و أولاده، و لهم قول أصيل، و دعواهم لها أنصار بين الناس و سبل ردعهم عن التطلّع لهذا الأمر هو انتزاع نحلة فاطمة و بلغتها و توقع بهم، لكي يقول الناس أنّها العداوة المتأصّلة بينهما من زمان سحيق، و أنّ الغرض من هذا الجدال بين القوم هو الملك لا الدين، و حينئذ يقلّ الإقبال على كلامهم و يستخفي منهم و يستخف الناس بهم.

فعمل أبو بكر بنصيحته و انتزع فدكا من فاطمة عليها السّلام فأرسلت فاطمة عليها السّلام إلى أبي بكر فردّ كلامها و لم تذهب بنفسها الشريفة إليه و إنّما أرسلت وكيلها كما ذكر أصحاب الكتب و المؤرّخون، إلى أن غضبت عليهم و خرجت من هذه الدنيا غاضبة عليهم، و أوصت أن لا يحضروا جنازتها.

و بناءا على هذا المقتضي فإنّ الناس ردّوا عليهم و أطلقوا الألسن بذمّهم و لومهم، و قالوا: إنّ هذا الملك حقّ الزهراء فاطمة عليها السّلام و كانت تتصرّف فيه في حياة رسول اللّه تصرّف المالك بملكه بلا مانع أو منازع، و النبيّ ملّكه إيّاها في حياته.

فخاف أبو بكر من ألسنة الناس و من تشنيعهم عليه، فاستشار عمر، فقال له:

إنّي أرى أن ترسل إلى فاطمة رسولا و تطلب منها البيّنة، فشهد لها أمير المؤمنين و الحسنان و أمّ أيمن، فردّ أبو بكر شهادتهم، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: يا أبا بكر، إن جاءك شاك و ادّعى على أحد من الناس أنّه غصب ضيعته بغير حقّ، فماذا تصنع؟

أكنت تطلب البيّنة من المدّعي أو المدّعى عليه؟

فقال أبو بكر: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «البيّنة على من ادّعى، و اليمين على من أنكر»، كنت أأخذ المدّعي بالبيّنة من قبيل شاهدين عدلين لا يمتان إلى المدّعي بصلة، فإذا أخلّ بها، أخذت المدّعى عليه باليمين.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: فأنت المدّعي لفدك و أنت الراوي و أنت الشاهد،

ص: 326

و الذين صدّقوك هم قوم يمتون إليك بالصلاة (بكسر الصاد- المترجم) و ينبغي أن يكون الراوي و البيّنة خارج أهل هذا الحقّ، و هؤلاءهم بنو هاشم الذين حرّم اللّه عليهم الصدقة، بحديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «نحن أهل البيت لا تحلّ لنا الصدقة»، و لمّا لم تكن معك البيّنة و أنت المدّعي كان اليمين على الزهراء عليها السّلام، فلم تفعل شيئا من هذا، و كلّمه بنحو من هذا الكلام، ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لو شهد شاهدان على فاطمة بما يوجب الحدّ أكنت تقيمه عليها؟ قال: بلى أقيمه، فقال عند ذلك أمير المؤمنين: إذن تخرج من ربقة الإسلام و تكذّب كتاب اللّه. فقال أبو بكر: و كيف ذلك؟ فقال أمير المؤمنين: بآية التطهير الناصّة على عصمة فاطمة و التي نطق بها القرآن الكريم. فاستحيا أبو بكر و قام من بين أصحابه و دخل داره و لم يخرج طيلة النهار حياءا من الناس، و كان غرض الإمام من إيراد مثل هذا الكلام هو إلزامه بالحجّة القاطعة و المحجّة الناصعة، و فرض العقوبة عليه و إن علم عليه السّلام منذ أوّل وهلة أنّه لا يجيب.

و العجب ممّا قاله المخالف في قوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (1) و مثله من الآيات لا يوجب الإرث و لم يعلم أنّ الإرث لا يجب إلّا بعد الموت، و كان سليمان و أبوه على قيد الحياة نبيّا له علوم النبوّة و مزاياها، كما قال تعالى: وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (2)، و كان لآدم عدد من الأولاد و ليس فيهم هبة اللّه إلّا شيث و كان الباقون أتباعا، فلو كانت النبوّة ميراثا لكان أولاد آدم جميعا أنبياء، و اليهود بأجمعهم رسلا و أنبياء، و لا ينبغي أن يكون في الزمان حقبة تسمّى «الفترة» لأنّ أولاد الأنبياء لم يفارقوا الساحة قطّ

ص: 327


1- النمل: 16.
2- الأنبياء: 78.

و ربّ الكعبة، و كانوا يعيشون بين الناس، و هكذا لو كان للنبيّ أولاد فإنّهم يكونون جميعا أنبياء و كذلك الزهراء و أولادهم عليهم السّلام.

بدعة أخرى: أو عز إلى خالد في صلاة الصبح أنّه إذا بلغنا السلام أقتل عليّا، ثمّ ندم على ذلك و قال في نفسه: لعلّه يعجز عن قتله و ينكشف الأمر و تقع الفتنة التي لا يمكن تداركها، و كانوا قد اتّعدوا على قتله بعد السلام، فقال أبو بكر قبل أن يسلّم: لا تفعلنّ خالد ما أمرتك، و قال أتباعه: إنّه سلّم أوّلا سرّا، و هذا قدح في صلاة الجماعة أن تكون سلامين. و قال قوم منهم: لم يكن الأمر كذلك، و الحاصل أنّه لم يرد بهذه البدعة لا حديث موضوع و لا صحيح، و الإجماع حاصل بأنّه من فعل أبي بكر.

و نحن أيّها الشيعة نقول إنّها بدعة لا أصل لها في الشرع بل هي أكاذيب مفتراة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو بري ء منها.

بدعة أخرى: كان رزق أبي بكر كلّ يوم من بيت المال ثلاثة دراهم، فإن كانت من الخمس فهي لأهل البيت لا لأبي بكر و عمر، و إن كانت من الزكاة فإنّ أصناف المستحقّين لها ظاهرة بيّنة، و ليس أبو بكر واحدا منهم.

فلو قال الخصم: إنّه من العاملين عليها فقد كذب، إذ أنّ ذلك لو ثبت له فقط بطلت خلافته. ثمّ إنّ العامل نائب للخليفة و مأمون من جهته، و اتحاد النائب و المنوب عنه في شخص محال.

و إذا كان هذا المال مال المصالحة و يقال له الجزية التي تؤخذ من الكتابي كاليهودي و النصراني و المجوسي الذين يعيشون بين المسلمين، و يشكّلون جزءا من

ص: 328

مجموع السكّان المتمازج فإنّ أبا بكر لا يستحقّ هذا أيضا، لأنّ اللّه سبحانه أباح الجزية لأهل مكّة لأنّ لهم علاقات تجاريّة مع المشركين، فلمّا حرّم عليهم الدخول إلى المسجد الحرام حيث قال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (1).

و رأى الشيعة أنّ اللّه وهبهم هذا المال تفضّلا منه لأنّه حرّم على عملائهم دخول المسجد الحرام إلّا أنّ أهل الخلاف يقولون: حكم هذا المال حكم مال الصدقة و مستحقّه مستحقّه، و نحن أيّها الشيعة لا نطلق عليه لفظ الصدقة ليمتاز ما يؤخذ من المسلمين عمّا يؤخذ من غيرهم، و لكن أبا بكر لم يكن من مستحقّيه، و ميراث من لا وارث له و أمثاله هو حقّ للفقراء و المساكين في العالم فكيف يحلّ للخليفة قضمه و يظلّ الفقراء يعانون من مسّ الحاجة في شرق الأرض و غربها؟!

و إذا كان هذا المال جزءا من أموال الغنام فإنّ أبا بكر لم يكن من ضمن الغزاة ليستحقّ مال الغنيمة فكيف استحقّ الأجر من غير عمل؟!

و لئن قالوا: إنّه استحقّ المال لسعيه في أمور الدين و لأنّه خليفة الزمان من ثمّ أذن له في تناوله.

فإنّنا نقول: لم يأت نصّ من القرآن و لا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدلّان على أنّ للخليفة حقّا في هذا المال، بناءا على هذا يكون لأجير الإسلام لا للخليفة، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من سنّ سنّة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص العامل بها شيئا من ثوابه، و من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص العامل بها شيئا.

و بناءا على هذا فكلّ من سار على منوال أبي بكر و فرض لنفسه فرضا من بيت

ص: 329


1- التوبة: 28.

المال من الخلفاء و غيرهم فإنّ وزرهم على أبي بكر لأنّه المبتدع الأوّل لهذه السنّة إلى يوم القيامة. و كيف يحلّ له و لغيره أكل مال المسلمين و فقراء الدنيا بغير إذنهم، و قد قال اللّه تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ (1) و قال: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (2).

و لمّا استتب للقوم الأمر عقدوا اجتماعا بينهم شمل الأطراف التي اغتصبت الحقّ، و تشاوروا فيما بينهم، و قالوا: ما كنّا نظنّ بأنّ الأمر يتمّ لنا على هذه السرعة، و ينحى عليّ منه، و اليوم لم تبق معه إلّا حجّة القرآن الذي يحمله بيده و هو عالم بتأويله فينبغي علينا أن نختطّ لنا خطّة نحجبه عن العمل بالقرآن أو الاحتجاج به، فنادى مناديهم: من كان معه شي ء من القرآن فليأت به و معه شاهدان على عدم تحريفه أو إضافته و تغييره.

و العجب من هؤلاء الجاهلين كأنّهم لم يسمعوا قوله تعالى: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُ (3)، و بناءا على هذا فكيف يستطيعون محو الآية: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (4).

و الأعجب من هذا كلّه اثباتهم قرآنيّة القرآن بالشاهد و اليمين، فإذا كانوا على جهل بتنزيله فكيف يمكنهم العمل بتأويله؟

و أعجب من هذا كلّه القوم الذين يتّبعونهم و يقتدون بهم و يتّخذونهم أئمّة و هم الجاهلون و ينحّون أمير المؤمنين عليه السّلام عن منصبه و هو عالم بالتنزيل و التأويل.

ص: 330


1- البقرة: 188.
2- المائدة: 44.
3- الإسراء: 88.
4- الحجر: 9.

بدعة أخرى: لقد أمّر رسول اللّه عليهم أسامة بن زيد في مرضه الذي توفّي فيه و استبقى أمير المؤمنين معه؛ لأنّك الوصيّ من بعدي و يلزمك حضوري ساعة وفاتي، و خرج أسامة بن زيد من المدينة و عسكر بالجرف للذهاب إلى موقع في الشام من أرض فلسطين، و كان النبيّ في كلّ يوم مرارا و تكرارا يحثّ على تجهيز جيش أسامة، فامتنع أبو بكر و عمر عن الذهاب معه و يقولون: إن مات محمّد ذهبت الفرصة من أيدينا و أفلسنا من الخلافة إلى أن حملوا النبيّ على أن يقول: لعن اللّه من تخلّف عن جيش أسامة.

و لمّا قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بايعه الناس أرسل إلى أسامة: إنّ الناس بايعوني، و أنا بحاجة إلى معاضدة عمر، فأذن له أن يبقى إلى جانبي، فأجابه أسامة على يد رسوله: العجب أنّه من رعاياي بأمر اللّه و رسوله و تأمّر بغير إذني، ثمّ هاهو ذا يطلب غيري، و أرسل إليه: إن كنت مؤمنا برسول اللّه فقم أنت و عمر و ائتيا إليّ بحكم رسول اللّه، و بقي هذا الجذب و الشدّ بينهما حتّى استطاع إقناع أسامة بالمكر و الحيلة و دفع الرشاوى ... (1).

و إنّهما تأخّرا عن جيش أسامة خلافا لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال اللّه تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (2) و قال تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ

ص: 331


1- أقول: يحول بيني و بين أسامة قول الإمام الصادق عليه السّلام: لا تقولوا إلّا خيرا، فأنا ملجم بهذا اللجام الذي يصعب عليّ تخطّيه مع علمي بما فعل أسامة و ما قال، و علمي أيضا بانحرافه عن أمير المؤمنين، أسأل اللّه أن يجزاه على ما نوى، و ما ذكره المؤلّف من قول أسامة للعينين لم يروه غيره و لم أقع عليه أو على ما يثبته في كتاب آخر، و أنا أقسم باللّه إنّ أسامة أقلّ من أن يقول لهما ذلك لأنّهم خدعوه بتسميته أميرا و انطلت على المسكين الحيلة.
2- النساء: 80.

خالِدِينَ فِيها أَبَداً (1)، وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (2) و أمر الرسول واحد في حال حياته و موته، و يكفر من خالفه، و هذا دليل واضح على كونهما رعيّة و ليسا إمامين.

بدعة أخرى: لمّا دنى من أبي بكر أجله أراد أن يخفّف عنه ذنوبه فاستدعى عمر و عهد بالخلافة إليه و حمل الناس بالإكراه على البيعة له، و تخطّى نصيحة خيار الصحابة الذين قالوا له: تجنّب هذا الظلم لأنّك تحكّمت في المسلمين بدون حقّ فلا تجعل بعدك آخر تستخلفه، لأنّ ظرفك هذا الحرج هو ظرف توبة و استغفار، فلم يسمع نصيحة أحد منهم، قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ (3).

بدعة أخرى: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اختار له من بقاع العالم بقعة صيّرها بيتا له خاصّا فعمدوا إليه و جعلوه مقبرة لهم لأنّهم أرادوا أن لا ينقطع إيذائهم له حيّا و ميّتا، فيؤذون النبيّ ميّتا كما آذوه حيّا. فإن كانا استحقّا الدفن بإرث ابنتيهما فإنّ لهما التسع من الثمن و الباقي غصب و ظلم، و إن استحقّا بالصدقة فإنّ المسلمين سواء فيه إلى يوم القيامة، فإن أبى مسلم واحد فلا يحلّ لهما الدفن هناك إلّا بأن يسحبا من أقدامهما و يقذفا في العراء: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (4) فلا يحلّ لهما الدخول في حياة النبيّ إلّا بإذن فهل أذن لهما بعد موته لست أدري؟

ص: 332


1- الجنّ: 23.
2- النساء: 93.
3- الأعراف: 179.
4- الأحزاب: 53.

و عندنا حديث مشهور: من غصب بقعة من الأرض جعلت يوم القيامة من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا طوقا في عنقه إلى أن يفرغ اللّه من حساب الخلق ثمّ يجعلها معه في النار (1).

إلى غير ذلك من البدع التي أحدثاها في حياتهما و حسّنها الأتباع و الأشياع و ساروا في نهجها ليتحمّلا تبعة ذلك و يكون عليهما إثمها و إثم من عمل بها. و هم قد اتفقوا على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: كلّ محدثة بدعة (2)، و كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة في النار (3).

و لست أدري أين يتوجّه بالتابع و المتبوع غدا يوم القيامة احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (4).

بدعة أخرى: ابتدع أبو بكر في خلافته غسل الرجلين و مسح الأذنين و الرأس، و قال ذلك

ص: 333


1- سبل السلام 3: 70 و تختلف ألفاظ السياق بعض الاختلاف، و قال ابن حجر: متفق عليه؛ مسند أبي يعلى 2: 90؛ كتاب العين 5: 194؛ مسند أحمد 2: 432؛ صحيح مسلم 5: 58؛ المستدرك 4: 296؛ سنن البيهقي الكبرى 6: 98؛ مجمع الزوائد 4: 179؛ تاريخ مدينة دمشق 21: 85؛ تهذيب الكمال للمزي 10: 452؛ البداية و النهاية 1: 21؛ إعانة الطالبين للبكري الدمياطي 4: 321؛ نيل الأوطار 6: 63.
2- المبسوط للسرخسي 1: 138؛ بدايع الصنائع لأبي بكر الكاشاني 1: 150 و 5: 127؛ فقه السنّة للسيّد سابق 1: 564.
3- التغنّي بالقرآن للبيب سعد: 43، ط الهيئة العامّة للتأليف و النشر، 1970 م؛ أحكام الجنائز للألباني: 4، ط المكتب الإسلامي، الرابعة 1406، و ص 18 أيضا؛ مسند أحمد 1: 371 الاقتصار على الجزء الأوّل من الحديث، و 4: 126 الاقتصار على جزئين، و ص 127؛ سنن الدارمي 1: 45؛ سنن ابن ماجة 1: 18؛ سنن أبي داود 2: 393؛ المستدرك 1: 97؛ السنن الكبرى 3: 214، و كتب أخرى كثيرة يطول تعدادها.
4- الصافّات: 22 و 23.

أوّل ممّا عهد فبدّل حكم القرآن و السنّة، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا صلاة إلّا بوضوء» (1)، و قال صلّى اللّه عليه و آله: بين الكفر و الإيمان ترك الصلاة؛ فمن لا صلاة له فهو كافر (2)؛ و بما أنّ وضوء الشيخ مخالف لما يريده اللّه فلا بدّ من بطلان صلاته.

و هو الذي وضع بدعة المسح على الخفّين، و هو غدا يحشر مع البهائم لأنّ اللّه تعالى أمر بمسح الرجلين، و يوم يوقف الناس للعرض و يعطى ثواب الوضوء لفاعله يكون الحيوان المسكين شريكا للسنّي في ثوابه لأنّه شاركه في العبادة بما جرى على جلده من المسح للوضوء ...

و العجب من أمر هذه الطائفة التي تترك قول الخالق لقول المخلوق، و تقتدي به و هو بشر معرض للخطأ و الجهل، و قد سجد للصنم ستّا و أربعين عاما من عمره، و اليوم بعد إيمانه اشتغل بتكذيب اللّه و رسوله، و صدق اللّه حيث قال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (3).

بدعة أخرى: تذرّع أبو بكر و أتباعه بذريعة للتقليل من شأن الصلاة و ذلك بادّعائهم أنّ الناس تركوا الغزو و أقبلوا على الصلاة فينبغي صرفهم عن ذلك، و قالوا: الصلاة خير العمل، فإذا ارتفع صوت المؤذّن بذلك فإنّهم يعرضون عن كلّ شي ء إلّا عن الصلاة، فعمدوا إلى حذف هذا الفصل من الأذان و وضعوا مكانه في صلاة الفجر:

الصلاة خير من النوم، و قال النبيّ: الصلاة خير الأعمال، و هم قالوا: هي خير من

ص: 334


1- تلخيص الحبير 1: 390؛ بدايع الصنايع 1: 33؛ المحلى لابن حزم 2: 115 و 7: 356.
2- سنن الترمذي 4: 125؛ الحدائق الناضرة للبحراني 6: 15؛ منهاج الصالحين لمحمّد سعيد الحكيم: 155؛ ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: 231؛ وسائل الشيعة 3: 29؛ الفصول المهمّة في أصول الأئمّة 2: 65؛ بحار الأنوار 79: 217.
3- التوبة: 31.

النوم، و اليقين حاصل أنّ الكذب منهم و هم أولى به، و كان غرضهم من ذلك تخريب الدين و إحياء سنن الجاهليّة.

بدعة أخرى: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تبدأ الصلاة بالتكبير و تنتهي بالتسليم، فأبطلوا ذلك بالحيلة فقدّموا السلام على التشهّد، فيقولون هكذا: التحيّات و الصلاة و الطيّبات، السلام عليك أيّها النبيّ و رحمة اللّه و بركاته، السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، فإذا بطل السلام بطلت الصلاة فيكون قد صلّى بدون ذكر الشهادتين، و أجمعت الأمّة على أنّ الصلاة لا تتمّ إلّا بالتشهّد، من ثمّ تكون صلاتهم باطلة.

و كذلك زيادتهم آمين بعد الفاتحة لكي يتخلّل الصلاة كلام أجنبيّ مبطل لها، و لا بدّ من نطق الأتباع بها لأنّهم الضالّون الطالبون الهداية من اللّه بقول «آمين» لكن شيعة عليّ على الصراط المستقيم بمحبّته و تنزيه اللّه و توحيده و بالعدل و النبوّة و الإمامة بالأدلّة الناصعة و البراهين القاطعة فهم المهتدون و لا حاجة لهم بقول آمين، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: نحن أهل بيت لا يضلّ من تمسّك بنا.

بدعة أخرى: التكفير أي وضع اليد على اليد الأخرى، و استدلّوا بهذه الآية: وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (1) و لم يعلموا أنّه مأخوذ من القنوت و التواضع و هو يحصل بغير فعل التكفير، و هذا فعل اليهود الذين يضعون الأيدي على الأيدي على الأيدي ساعة الصلاة.

سأل عمر رسول اللّه ذات يوم فقال: يا رسول اللّه، إنّ لليهود أشياء جيّدة منها

ص: 335


1- البقرة: 238.

وضع اليد على الأخرى، فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خاطب عمر قائلا: ألا تعلم لو كان موسى و عيسى حيّين ما وسعهما إلّا اتّباعي (1).

و لمّا آلت الدولة إلى عمر أحيا سنن اليهود و منها التكفير.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تبركوا في الصلاة كبرك البعير، و لا تنقروا كنقر الديك، و لا تقعوا كإقعاء الكلب، و لا تلتفتوا كالتفات القرد (2). و معنى ذلك الابتداء بوضع اليد على الأرض دون التسرّع في الركوع و السجود، و لا تقعوا كإقعاء الكلب في التشهّد و لا تميلوا على الجانب الأيسر كالقرد، و لا يكن نظركم كنظر القرد يمينا و شمالا ساعة الصلاة.

و وضعوا أمثال هذه البدع لتضيع الحقيقة على طالبها، و لا يحصل العلم بها لمن يبتغيه، و بها يحيون سنن الجاهليّة، و لم يكن باستطاعة الصحابة اعتراضهم بل منهم من مال وراقه زبرج الدنيا، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من كتم علما من أهله، جاء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه قد ألجم بلجام من النار.

بدعة أخرى: الصلاة عند غياب القرص و الإفطار من الصوم كذلك، و اعلم بأنّ المغرب لا يحلّ إلّا إذا غابت الشمس في تلك العين الحمأة أي الحارّة و تظهر النجوم و تتلألأ في صفحة السماء و حينئذ على المكلّف أداء فرض الصلاة، ثمّ يتناول إفطاره، و من لم يفعل ذلك فقد أفسد صلاته و صومه، و السبب أولئك الذين وضعوا هذه البدعة فأفسدوا بذلك صلاة المسلمين و صيامهم، و حملوهم على ذلك قبل دخول الوقت ردّا على اللّه و رسوله و إظهارا للسنة الباطلة.

ص: 336


1- تفسير ابن كثير 3: 105، و لم يذكر عن عمر شيئا.
2- بحار الأنوار 30: 361.

بدعة أخرى: قسّم أبو بكر الصدقات في خلافته كما كان يقسّمها رسول اللّه على الأصناف الثمانية بالسواء، فلمّا استخلف عمر فضّل بعضا على بعض، و قال: أرى من الأحسن تفضيل المهاجرين من قريش على المهاجرين من غيرهم، و أفضّل المهاجرين على الأعراب، و الأعراب على العجم، و الناس رضوا بذلك تبعا للمصلحة، و لم يكن العجم يومذاك جميعا مسلمين، فلمّا أسلموا لم يستطيعوا دفع هذا الحيف عنهم، و استقرّت الحالة على ما فعله ابن الخطّاب، فكان العرب و العجم يأكلون المال الحرام بسبب ذلك.

بدعة أخرى: قال عمر: إنّ رأيي أن أسقط الصدقات و أضع مكانها الخراج على الأرض، ثمّ أمر بمسح العراق و وضع على كلّ جريب درهما، و على كلّ قفيز جملة مقدرة من نتاجه جريا على ما كان عليه ملوك الفرس في الجاهليّة. و وضع على كلّ جريب في مصر دينارا و أردبا من الحبوب كما كان في الجاهليّة زمن فرعون، و قد منع رسول اللّه من الاستنان بسنن الجاهليّة و برئ من الفاعل، و كان عمر يظهر اتّباع السنّة و تطبيق الإسلام و الشريعة حتّى قال: منفعة العراق دراهمها و قفيزها، و منفعة المصر دينارها و أردبها.

فتبيّن من هذا أنّ عمر ردّ صدقات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حديثه برأيه و أحيا سنن الجاهليّة، و صار العالم كلّة يقضم الحرام قضما، و ذنب هذا كلّه في عنق عمر إلى يوم القيامة، و بطلت سنّة الزكاة في الدنيا.

بدعة عثمان: و لمّا آلت الخلافة إليه و عطفت الدنيا عليه رأى بيت المال و كانت أموال الدنيا

ص: 337

تصبّ فيها ممّا يحوشه له أعوانه و أصحابه من غصب أموال المسلمين بالقهر و الغلبة، فجمعوها عنده و خوّلوها إلى ذهب من الدنانير الوفيرة و بائوا بإثم الظلم و التعدّي، و قد قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (1) و قال: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (2).

و لمّا خطفت بصره الدنانير الكثيرة في بيت المال أطلق فيها يده و أنفقها بجملتها على بني أميّة و بني الأعمام و بني الأخوال و الأقرباء، فمكّنهم و قوّاهم بما أعطاهم، و حرم السواد الأعظم من المسلمين من القوت، فانطلقت الألسن بذمّه و ثلبه، فلم يعبأ بذلك و استظهر ببني أميّة، و اتّخذ لنفسه و أسرته حياة الجبابرة من الأكاسرة و الفراعنة، و بذخ بذخهم، فاتّخذ الرقيق من الترك و الروم و الخطا، فاشتراهم من هذه الأموال، و اشترى الخيل و البغال و زينتها، و راح يعدّ العدّة لمديدة و تعدّيه و تغلّبه على الناس.

فأرسل مماليكه إلى نواحي العراق و الحجاز ليجوسوا خلال الديار لكي يحملوا له المراعي و الجبال و الأرض الزراعيّة و يرسموها لديوانه و يوقفوها عليه و على بطانته حتّى ضاقت الأرض على ساكنها، و نادى مناديه: من أراد أن يعلف دابّته في أرض فليأت و ليشتر المرعى منّي، فأقبل الناس لشدّة احتياجهم طوعا أو كرها إلى عثمان و يبتاعون الدغل الذي أنبته اللّه للناس و جعلهم فيه شرعا منه.

و مثله فعل عمر الذي أبطل الزكاة و كان يأخذ المال حيث لم يجب و يتركه حيث وجب، لأنّه كان يأخذه بناءا على طريقة مسح الأرض، و لا تؤدّى هذه الطريقة إلّا إلى ذلك.

ص: 338


1- الطلاق: 1.
2- المدّثّر: 38.

بدعة أخرى: استأجر عمر قوما للجهاد لأنّ الناس ضاقت بالحرب ذرعا فأخذت تهرب منها، و أقبلوا على الزراعة، و طلب المعاش ما عدا جماعة منهم آثروا الجهاد و هؤلاء أيضا يجاهدون بثمن، فحرموا من ثواب الجهاد، و كذلك استأجر قوما لتعليم حديث الإسلام و أمور الدين، و ينفق عليهم من أموال الزكاة، و هو لا يعلم أنّ الزكاة واجبة و تعليم الجاهل واجب على العلماء، فإذا أخذوا الأجر على ذلك بطل ثوابهم.

قال اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (1).

و قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (2).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من كتم علما من أهله جاء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه قد ألجم بلجام من نار (3).

ص: 339


1- البقرة: 159.
2- البقرة: 174.
3- تحرير الأحكام للعلّامة الحلّي 1: 3 و 24؛ الرسالة السعديّة للحلّي: 6؛ السراج الوهّاج للقطيفي: 21؛ زبدة البيان للمحقّق الأردبيلي: 206؛ التحفة السنيّة (مخطوط) للسيّد عبد اللّه الجزائري: 11 و 334؛ الحداق الناضرة 1: 161؛ كشف القناع 6: 282؛ بصائر الدرجات: 30؛ مستدرك الوسائل 17: 275؛ منية المريد للشهيد الثاني: 136؛ بحار الأنوار 2: 70 و 105: 15؛ مسند أحمد 2: 449 و 508؛ سنن ابن ماجة 1: 97؛ المستدرك 1: 102؛ النووي شرح مسلم 3: 111؛ مجمع الزوائد 1: 163؛ كتاب العلم لأبي خيثمة: 33؛ المصنّف 6: 232؛ صحيح ابن حبّان 1: 297 ز 298؛ المعجم الأوسط 5: 108.

و عند العلماء تعليم معالم الدين و فرائض العلماء من الواجبات، و يستحقّ الذمّ بتركه، و كيف يعطى الأجر على فعل الواجب؟!

بدعة أخرى: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحكم بن العاص و نفاه من المدينة، و كذلك أبو بكر و عمر، فلمّا جاءت النوبة إلى عثمان ردّه خلافا لرسول اللّه، و خوّله ديوان الخلافة، و بالغ في إعزازه و إكرامه، قال اللّه تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ (1) ولو آمن عثمان بهذه الآية لما ردّ طريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لما شرّفه و لم يجعله منشئ أهل الإسلام و أمينهم.

بدعة أخرى: و لمّا استتب له الأمر نادى مناديه يطلب المصحف الذي عند الناس و من أبى ألجئه على دفعه، و طلب مصحف عبد اللّه بن مسعود فلم يعطه إيّاه فأقبل بنفسه إلى بيته و عذّبه و كسر خاصرتيه و عانى ابن مسعود من هذا الضرب حتّى مات متأثّرا بجراحه، و أخذ المصحف منه قهرا، و وضع المصاحف التي جمعها في المغاسل و أجرى عليها الماء أو أحرق جلّها حتّى مصحف ابن مسعود، ثمّ أمر مروان بن الحكم و زياد بن نمرة كاتبه أن يستنسخوا له نسخة من القرآن، و اعتمد على هذين الفاسقين و كتب بخطّه مصحفا على ما كتباه و أمر زيد بن ثابت أن يقرأه، و أمر الناس بأخذ مصاحفهم من قرائة زيد و عبد اللّه بن مسعود و أصحابه لم يقبل حكمهم، و تصرّف بالمصحف كيفما شاء، و ما بأيدي الناس اليوم إنّما هو بقيّة من مصحف ابن مسعود، و عصى اللّه بما فعل من غسله باقي المصاحف و إحراقها، فما

ص: 340


1- المجادلة: 22.

حال من أحرق كتاب اللّه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (1) و منع الناس من معرفة ما في تلك المصاحف.

و كذلك فعل بعمّار حين خاطبه و هو على المنبر، فقال: لا يحقّ لك أن تفعل هذا، فنزل عن المنبر و أمر بضربه حتّى قيل: مات عمّار، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عمّار مع الحقّ و الحقّ معه يدور حيثما دار، فإذا افترق الناس يمينا و شمالا فانظروا الفرقة التي فيها عمّار فاتبعوه فإنّه يدور مع الحقّ (2).

و حينئذ لا يكون ضرب رجل كعمّار بصفاته التي تقدّمت إلّا الفسق و الفجور و الظلم و معصية اللّه و رسوله، و كذلك فعل بأبي ذر فقد نفاه من حرم اللّه لأنّه يقول الحقّ و ينطق بالصدق، و كان عثمان يكره ذلك، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (3).

و كذلك أخبر اللّه تعالى رسوله بأنّه يحبّ أربعة من أصحابه: علي و سلمان و المقداد و أبو ذر، و العجب من عثمان حيث يخرج من حرم الرسول حبيب اللّه.

و كبس العيد في عرفة و خطب خطبة العيد يوم عرفة، فأفسد على الناس حجّهم و أضحياتهم و صلاتهم في العيد، و انتهج المسلمون بعد ذلك نهج عثمان و تولّى كبر هذه البدعة و بقيت عالقة به إلى يوم القيامة.

ص: 341


1- محمّد صلّى اللّه عليه و آله: 9.
2- علل الشرائع 1: 223؛ وسائل الشيعة 20: 276؛ بحار الأنوار 44: 35؛ خلاصة عبقات الأنوار 3: 61؛ الغدير 1: 331 و 8: 343 و 9: 25 و 259 و 10: 312؛ نهج السعادة 2: 239؛ كنز العمّال 13: 539 رقم 37411؛ الطبقات 3: 262؛ تاريخ مدينة دمشق 43: 476؛ موسوعة التاريخ الإسلامي لليوسفي 1: 623، و المصادر هذه خالفت سياق المؤلّف و كأنّه أدرج حديثيني في واحد.
3- مسند أحمد بن حنبل 5: 197؛ المستدرك 3: 342 و 4: 344 و 480؛ فتح الملك العلي لأحمد بن الصدّيق المغربي: 157؛ تفسير القرطبي 1: 36؛ التاريخ الكبير للبخاري 9: 23؛ تذكرة الحفّاظ للذهبي 1: 18؛ المناقب للخوارزمي: 84.

و أمر عليّا عليه السّلام أن يحجّ في الناس في العام التالي، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: الخير أن ترسلني لأن أحجّ بحجّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا أحجّ بحجّك، لذلك عزب عن بعث أمير المؤمنين عليه السّلام في الحجّ و بعث غيره.

و من جملة هذه البدع ما جرى على عمر بعد طعنه و انتشر الخبر في المدينة أنّ علجا قتل عمر فبلغت أبنائه (عبد اللّه بن عمر- المؤلّف) عبيد اللّه بن عمر و قال: لا يعدو هذا العلج الهرمزان، و صال عليه فقتله بريئا لا ذنب له في قتل عمر، و لم يرض عمر بقتله، و قال: لا يرضى عليّ منّا إلّا بالقصاص للهرمزان لأنّه مولاه، فإذا أنا عوفيت فإنّي أدفع ابني عبيد اللّه إليه ليفعل فيه ما شاء، و لكنّه مات، فأرسل عليّ إلى عثمان بالقصاص للهرمزان من عبيد اللّه، فأبى عثمان و قال: قتل عمر أمس و أقتل ابنه اليوم لتستأصل شأفه آل الخطّاب، فأجابه أمير المؤمنين: الحكم حكم القرآن و الأمر للّه و لرسوله، فلم يعبأ عثمان بذلك و أصرّ على مخالفة القرآن و ردّ أحكامه، فلجأ عبيد اللّه إلى عثمان، و لمّا قتل عثمان فرّ إلى معاوية، و حضر معه حرب صفّين إلى أن قتل هناك.

بدعة أخرى: و لمّا آلت الخلافة إلى عمر أدخل الظلم على أهل البيت، و نهب بيت المال و غيّر مجرى الصدقات و الأخماس، فضجر الناس منه و ارتفعت أصواتهم بالتظلّم منه، حتّى خاف على نفسه، فكان لا يخرج ليلا من بيته مطلقا، و عجز عن بلوغ المسجد حتّى أحدث نفقا في الأرض يفضي به إلى المسجد، فكمن له أبو لؤلؤة في ذلك النفق حتّى طعنه في بطنه و قتله.

و لمّا ظهرت المظالم من عثمان خاف على نفسه فافترى على النبيّ حديثا و هو قوله: نوّروا في الفجر فإنّه أعظم الأجر، و حرف صلاة الصبح عن موضعها من

ص: 342

الوقت حتّى يذهب إلى المسجد و الضوء قد انتشر، و قد ذهب الخوف عنه.

و أمّا سبب قتل عثمان فإنّه استعمل على مصر عاملا شديد الوطأة كثير الظلم و التعدّي، فتظلّم الناس منه إلى عثمان كثيرا فأعطى عثمان محمّدا بن أبي بكر كتابا و أمره أن يمشي بالصلح بين الناس و عامله، فذهب محمّد حتّى إذا دنى من مصر رأى راكبا يسرع به قلوصه و غادرهم مسرعا، فقال لمحمّد رفيقه: إنّ الراكب قادم من العراق و ذاهب إلى مصر بسرعة، فارتاب فيه محمّد و أرسل ورائه فلمّا مثل بين يديه و فتّشوه و إذا هو مولى لعثمان يحمل كتابا إلى الوالي، فأنكر أوّلا ثمّ فتّشوه و أخرجوا منه الكتاب فإذا فيه الأمر بقتل محمّد بن أبي بكر، فأخذوه و عادوا إلى المدينة، و حدّثوا الناس بحديث الغلام و الكتاب، فاستنكروا هذا الفعل و أقبلوا على عثمان و قالوا: ما تقول في هذا؟ فقال: الغلام غلامي، و الجمل جملي، و المهر مهري، و الخطّ ليس خطّي بل خطّ مروان، فقال المهاجرون و الأنصار: ادفع إلينا مروان حتّى نقتله، فقال: هيهات لن أفعل ذلك، فأجمع الأصحاب على قتل عثمان فقتلوه و فيهم أهل الحلّ و العقد.

بدعة أخرى: كانت رقيّة و زينب زوجتي عثمان ليستا ابنتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من خديجة بل ابنتي أبي هند و هو رجل من بني تميم تزوّج هالة أخت خديجة فأولدها هندا، و ولدت منه أيضا رقيّة و زينب، ثمّ مات عنها و كانت حاملا بهند فولدته بعد موت أبيه، و كانت هالة معدمة و لها هؤلاء الأيتام الثلاثة، فعمدت خديجة فصيّرتهم إليها لإعاشتهم، و لم تكن قد تزوّجت من قبل بل كانت بكرا، فلمّا رغب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالزواج منها فكانت هالة الواسطة بينها و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى رضيت خديجة بزواجها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 343

فلمّا تمّ عقد رسول اللّه عليها توفّيت هالة و عهدت بأيتامها إلى خديجة، فبالغت خديجة في برّهم و إيوائهم، و فعل رسول مثل فعلها و أوصى بهم خديجة و أمرها أن تلطف بهم غاية اللطف ليتمهم، كما كان يفعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكانوا في بيت خديجة بالمنزلة الخصّيصة و المقام الرفيع حتّى قالت قريش: هؤلاء أبناء خديجة، و نسبهم البعض إلى رسول اللّه بناءا على سنّة قريش و هي سنة جاهليّة من إلحاق اليتيم بمتبنّيه، كما كانوا يقولون للعبيد موالي جمع مولى، لأنّ المولى يطلق على الولد و الأب و السيّد و العبد و ابن العمّ و هكذا دواليك.

فزوّج رسول اللّه زينب من أبي العاص بن الربيع، و رقيّة من عتبة بن أبي لهب (1)، فلمّا بعث بالنبوّة استدعت صناديد قريش عتبة بن أبي لهب و أمروه

ص: 344


1- انساق المؤلّف وراء صاحب الاستغاثة الذي ابتدع القول بنفي السيّدتين من بنوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يسبقه أحد من أهل الإسلام من قبله و لا من بعده، و صاحب الاستغاثة لا يوثق به مطلقا لارتفاعه أوّلا، و لدعوته- بكسر الدال- أي ادّعائه النسب العلوي و هو ادّعاء مردود صرّح بذلك كبار علماء الرجال و منهم النجاشي و هو مخمس، قال ذلك في ترجمته المقدّس الأردبيلي رحمه اللّه ثمّ لعن المخمّسة بعد أن نصّ على نسبته إليهم فتناولته اللعنة معهم، و كان جعفر مرتضى العاملي قد طبع كتيّبا لتأييد هذه الفرية فرددت عليه في فصل مسهب من كتابي «فاطمة عليها السّلام» و لا أريد هنا أن أعيد ذلك الجدال الذي يؤذي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث يصعب عليه أن ينفى عنه فلذات كبده و يصنع لهما أب من بني تميم. و من الحجج التي تنفي قول هؤلاء أنّه لو صحّ ما ادّعوه لكان رسول اللّه قد زوّج زينب من أخيها العاص لأنّه ابن هالة أيضا بإجماع المؤرّخين و منهم صاحب الاستغاثة، فكيف يسوغ هذا القول لمسلم؟! ثمّ إنّي رأيت المؤلّف يخبط خبط عشواء في التاريخ و كأنّه يكتب من الذاكرة و هي قد تخون صاحبها حيث زعم هنا أنّ هالة توسّطت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند خديجة حتّى رضيت به، و الإجماع حاصل من الأمّة كلّها أنّ خديجة عليها السّلام هي التي تقدّمت للنبيّ بطلب الزواج لا العكس، إنّما الأمويّون كانوا يشيعون بين الناس أنّ النبيّ لم ترض قريش بمصاهرته ليتمه و قلّة ذات يده، و هناك أمور أخرى يبطنونها لعنهم اللّه فجاء المؤلّف بحسن نيّته أو بجهله فاتّبع هذا القول المنافي للواقع.

بفراق رقيّة و كان لم يدخل بها بعد، و أطمعوه بمن يختاره من بنات قريش، فأطاعهم و طلّقها، و طلبوا ذلك من أبي العاص فأباه و قال: لا أفعل، لم أر من صاحبتي إلّا الخير، و دعا رسول اللّه على عتبة بقوله: اللهمّ سلّط على عتبة كلبا من كلابك و العنه، فخاف أبو لهب على ولده لمّا بلغه الدعاء، و قال: أخاف أن تلحقه اللعنة.

و كانت عادة قريش إذا أخرجت عيرها إلى الشام أن تقرع بين رجال القافلة فمن خرجت القرعة باسمه يولّى عليها و يجعل أمير الركب، فخرجت القرعة ذلك العام باسم عتبة، فقال أبو لهب: أخشى عليه الأسد لكثرتها في طريق الشام من دعاء محمّد عليه، فجاء إليه أهل القافلة و ضمنوا له عتبة، فامتنع أبو لهب من قبول ذلك حتّى قالوا له: لا نفارقه في نوم و لا يقظة بل نجعله بيننا حللنا أو ارتحلنا، فإذا نمنا وضعناه بيننا و أحطناه بالرحال و الحمال، و نقوم على حراسته واحدا إثر الآخر، فرضي أبو لهب بهذا الشرط، فلمّا بلغوا أحد المواضع جاء أسد و تخطّى الجمال، و حمل على عتبة فلو عنقه و كسرها ثمّ أكله، فلمّا بلغت أنباء الواقعة أبا لهب تألّم ألما شديدا و بالغ في إدخال الأذى على النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا زوج أبي العاص زينب، فقد أسر زوجها أبو العاص في بدر و كان المكّيّون يرسلونا إلى أسراهم ألف درهم لكلّ أسير من الذهب و غيره من المتاع، و افتدوا أسراهم و كانت زينب قد أسلمت و أخفت إسلامها، فأخذت تجيل الفكر في مكّة و خافت أن ترسل في فدائه فتتّهم بالردّة عن الإسلام (1) أو لا ترسل الفداء فتتّهمها

ص: 345


1- لم تكن عبارة المصنّف هكذا بل العبارة كما يلي: فتراجعت عن إرسال الفداء خشية أن يقول محمّد (هكذا باسمه صلّى اللّه عليه و آله) ارتدّت عن ديني، و هي عبارة قاسية وحشيّة و غير مؤدّبة.

قريش بالإسلام، و أخيرا قالت: يسهل القدر مع محمّد (هكذا يصرّح باسم النبيّ و لم ينعته بالرسالة و لا وصفه بأنّه أبوها لما صدر عنه من تكذيب ذلك اتّباعا لصاحب الاستغاثة، و هذا لعمري جفاء غير مقبول من مؤمن مثله- المترجم) فأرسلت بقلادتها التي أدخلتها بها خديجة عليها السّلام على زوجها، فعرف النبيّ العقد و قال لأبي العاص: هذا عقد خديجة أعطتك زينب إيّاه فقد أطلقتك إكراما لزينب، و أعطيتك العقد لتردّه عليها و لكن عاهدني أن تردّ زينب عليّ مع أمامة ابنتها إذا عدت إلى مكّة، فعاهده أبو العاص على ذلك (1).

و عجب الناس من وفاء أبي العاص، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: علمت بأنّه سيفي لي، و هو الذي كان يأتينا بالطعام سرّا و نحن في الشعب.

و عاد أبو العاص إلى مكّة و لمّا عاد عير قريش إلى مكّة وقعت القرعة على أبي العاص، فسار في القافلة، و لكنّه قابل قوما من أهل الإسلام فأسروه في طائفة من رفاقه و ساقوهم أسرى إلى المدينة فاحتال حتّى أبلغ زينب عن أسره و طلب منها أن تشفع له عند أبيها، فحارت في أمرها، فلم تجد وسيلة إلى الشفاعة إلّا بأن

ص: 346


1- بين ما نقله المؤلّف عن فداء أبي العاص و ما نقله المؤرّخون بون شاسع جدّا، و إنّي هنا أنقل الحكاية و أترك للقاري الحكم عليه .. إنّ أبا العاص بن الربيع كان ممّن شهدا بدرا مع المشركين، فأسره عبد اللّه بن جبير بن النعمان الأنصاري، فلمّا بعث أهل مكّة في فداء أساراهم قدم في فداء أبي العاص أخو عمرو بن الربيع و بعثت معه زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله- و هي يومئذ بمكّة- بقلادة لها كانت لخديجة بنت خويلد من جزع ظفار- و ظفار جبل باليمن- و كانت خديجة بنت خويلد أدخلتها بتلك القلادة على أبي العاص ابن الربيع حين بنى بها، فبعثت بها في فداء زوجها أبي العاص، فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القلادة عرفها و رقّ لها و ذكر خديجة و ترحّم عليها، و قال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها و تردّوا إليها متاعها فعلتم، قالوا: نعم يا رسول اللّه، فأطلقوا أبا العاص بن الربيع و ردّوا على زينب قلادتها، و أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أبي العاص أن يخلّي سبيلها إليه فوعده ذلك ففعل ... الطبقات الكبرى 8: 32؛ نصب الراية للزيلعي 4: 261؛ الاستغاثة 1: 66.

أخرجت رأسها من النافذة المطلّة على المسجد بعد فراغ النبي من صلاة الصبح و استقبلته بوجهها و قالت: يا رسول اللّه، و يا معاشر المهاجرين و الأنصار، إنّي زينب ابنة رسول اللّه، قد أجرت أبا العاص و رفاقه، فأجاز النبيّ أمانها، و قال: لا أجيز بعد اليوم جوار النساء.

فلمّا أقبل أبو العاص على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له النبيّ: يا أبا العاص، أما آن الأوان أن تقرّ بوحدانيّة اللّه و بنبوّتي، فأسلم أبو العاص و ردّ النبيّ عليه زينب بالعقد الأوّل، و لم يكن في الإسلام، و مات ولد زينب قبل البلوغ، و أدركت ابنتها أمامة البلوغ (1).

و قال أبو العاص: يا محمّد، إنّ قريشا إذا علمت بإسلامي قالت إنّما أسلمت طمعا في مالهم عندي، أفتأذن لي بالرجوع إلى مكّة فأردّ عليهم و دائعهم و بضائعهم التي معي و أنصرف إليك؟ فأذن له في ذلك، فمضى أبو العاص إلى مكّة فردّ عليهم ما كان معه، ثمّ قال: هل بقي لأحد منكم عندي شي ء؟ قالوا: لا، قال: إنّي أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رجع إلى المدينة و بقي فيها زمنا ثمّ مات، و أعطى النبيّ رقيّة إلى عثمان، فلمّا توفّيت زوّجه من زينب (2)، و كانت المرأتان تميميّتين و عثمان تميميّ أيضا (3).

و كان هند بن هالة مع أختيه، فلمّا بلغ مبلغ الرجال نشأ صالحا متديّنا و استشهد في كربلاء مع الحسين بن عليّ عليهما السّلام.

ص: 347


1- زعم صاحب الاستغاثة بأنّ لزينب ولدا و اسمه الربيع، و ابنتا و اسمها أمامة من أبي العاص. الاستغاثة 1: 66.
2- و هذا قول شاذّ لم يقل به أحد من المؤرّخين بل زوّجه النبيّ أختها أمّ كلثوم و لكن المؤلّف اتّبع أبا القاسم الكوفي الذي لا يقرّ بوجودها أصلا، راجع الاستغاثة 1: 66.
3- عثمان أمويّ و لست أدري ما يقصد بتميميّته.

و من المعلوم المحقّق أنّ أبا العاص كان مشركا فكيف يزوّج النبيّ ابنته إلى مشرك بدون عقد أو بعقد الشرك و النبيّ لم يشرك باللّه طرفة عين و لم يعبد صنما، و المسألة إجماعيّة، لأنّ من كان مشركا ثمّ أسلم لا يبعد في حقّه أن يعود إلى الشرك مرّة أخرى، فيرتدّ عن الإسلام كما قال اللّه تعالى: ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً (1)، و العصمة تحمي من الشرك و الارتداد، و من هذه الجهة نحن نثبت العصمة للنبيّ و الإمام.

و قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (2)، و قال حكاية عن إبراهيم: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (3)، و من هنا ثبت القول القائل بأنّ الإمام لا يمكن أن يكون مشركا.

فرحة لم يتعبّد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأيّة شريعة من شرايع الأنبياء، لأنّ دين اللّه و شريعته واحدة لا تبديل لكلماته، و لن يكون هذا التبديل لا سيّما و إنّ الأنبياء جميعا من آدم إلى عيسى كانوا يدعون أممهم إلى التديّن بدين محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ (4) على ملّة إبراهيم، فإنّه من باب إظهار مزيد العناية بإبراهيم عليه السّلام و تخصيصه بالفضل على من عداه و تمييزه و تفضيله، نظير قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (5)،

ص: 348


1- النساء: 137.
2- لقمان: 13.
3- البقرة: 124.
4- الأنعام: 79.
5- البقرة: 98.

و قال: لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (1).

و غرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث يقول: على ملّة إبراهيم، من أنّه من سلالته، و إنّي على الدين و الملّة التي كان جدّي عليها ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ (2)، و كما كان على ملّة إبراهيم فهو على ملّة عيسى أيضا، لأنّ دين الأنبياء و ملّتهم واحدة، لكن إبراهيم خاصّة له منزلة عند جميع الطوائف و محبّة متمكّنة من القلوب، من هذه الجهة ميّزه اللّه عن الأنبياء و أفرده بالذكر.

ثمّ إنّ النبيّ و الإمام لا يجوز لهما الاختلاط بالمشرك أو تزويجه إلّا في حالة الاضطرار، فإنّ ذلك ربّما جاز.

و يقول محمّد بن عبد الرحمان بن محمّد الاصفهاني في كتابه: «التواريخ»: كانت خديجة عليها السّلام عذراء حين تزوّجها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكيف يكون لها أولاد و هي لم يمسّها بشر، و لم يحدث ذلك لبنات حوّاء إلّا لمريم عليها السّلام، فقد ولدت ولدا بإذن اللّه من دون أب.

و يقول أيضا (3): و لمّا وقع بيني و بين من نسب إلى هند من ولده مجادلات و مناظرات، فيما ينسبون إليه من خديجة و ما يجهلون من جدّتهم هالة» (4) فإنّهم

ص: 349


1- الإسراء: 55.
2- الأحقاف: 9.
3- نسب المؤلّف هذا القول إلى محمّد بن عبد الرحمان الاصفهاني بينما هو لأبي القاسم الكوفي صاحب الاستغاثة، و نحن نقلنا عبارته.
4- راجع الاستغاثة 1: 70 و ليس فيه الكلام الذي أعقب قوله هذا عند المؤلّف، و المؤلّف يضرب على وتر حسّاس من إنكار بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الثلاث فيحاول جهد الطاقة أن يرد نسبهنّ إلى النبيّ بما يستطيعه من اللفّ و الدوران، الاصفهاني هذا لم أعرفه و لم أعرف كتابه التواريخ، و لم أعرف السبب الذي جعل شيخنا المؤلّف ينسب هذا القول إليه و هو لأبي القاسم الكوفي، بل لم يجر ذكر للكوفي هنا و هو أوّل من أطلق هذا الفرية، و لم تكن عند أحد من المؤلّفين و المؤرّخين غيره.

قالوا: إنّ الحسن و الحسين أولاد أختنا، و إنّ هندا بن أبي هند المقتول بكربلاء خال الحسين بن عليّ عليهما السّلام من قبل الأمّ، فأخرجت لهم ديوان الأنساب و فيه: إنّ خديجة لم تكن قد تزوّجت قبل رسول اللّه فكانت عذراء حين بنى عليها.

و لكن العجب ممّن رضي بما يقال عن خديجة من أنّها أعرضت عمّن تقدّم لخطبتها من أشراف قريش و العرب فكيف ترضى برجل لئيم من بني تميم (1).

بيان في أنّ عثمان و بني أميّة لم يكونوا من قريش و أنّ أميّة غلام روميّ

ذكر محمّد بن عبد الرحمان بن محمّد الاصفهاني في كتاب «البديع»، قال: كان أميّة غلاما روميّا لعبد شمس شقيق هاشم عليه السّلام بن عبد مناف، فتبنّاه عبد شمس و عاش تحت رعايته، و كان أصله من الروم، كما جاء في القرآن الكريم و نصّ على ذلك:

الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ (2) أي أنّهم سوف يغلبون على سرير الملك و الخلافة ثمّ يطوح بهم الدهر و يلفظهم الزمان إلى الذلّ و النسيان، و يقهرهم و يغلبهم، و المقصود من الروم هم بنو مروان.

و كان هذا القانون سائدا في جزيرة العرب فقد جرى على زيد ما جرى على أميّة حين تبنّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كذلك الزبير بن العوام، مملوك أسد بن خويلد.

ص: 350


1- أقول: فرغت من الردّ على أصحاب هذا القول أعني المنكرين لبنوّة السيّدات الثلاث زينب و رقيّة و أمّ كلثوم في كتابي «فاطمة الزهراء دراسة و محاضرات» ببحث مسهب فارجع إليه إن شئت.
2- الروم: 1- 4.

و قصّة زيد كما يلي: فقد اشتراه رسول اللّه على غرار ما كان يفعله العرب من سوق عكاظ من مال خديجة (1) و هو حارثة الكلبي و هو من قبيلة كلب، و كان رجلا كبيرا في المقام، و لمّا اشتراه النبيّ بعث بالنبوّة فأسلم زيد فأعتقه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد أن استوهبه من خديجة عليها السّلام.

و لمّا بلغت أنباء زيد أباه أقبل مع جماعة من رجاله إلى مكّة و نزل على أبي طالب عليه السّلام و تشفّع به عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على ردّ ولده أو بيعه عليه و أخذ ثمنه، فقام أبو طالب و معه حارثة الكلبي و جماعة من أعلام قومه، الذين صحبوه إلى مكّة، و أقبلوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فتحدّث أبو طالب بحديث حارثة و زيد ابنه و عرضه على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّي حرّرت زيدا و الأمر إليه إن اختارني أو اختار أباه، فقال زيد: إنّي اخترت صحبة الرسول و خدمته و لا أفارقه ما دمت حيّا، فآلم قوله حارثة أباه، فقال: معاشر قريش، إنّي تألّمت من زيد فاشهدوا بأنّي قد خلعته فلا هو ابني و لا أنا أبوه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: معاشر قريش، اعلموا بأنّي قد تبنّيت زيدا فهو ابني، و عرف بعد ذلك اليوم بزيد بن محمّد، إلى أن طلّق زوجه و تزوّجها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليعلم الناس بأنّ زيدا ما هو بابنه على الحقيقة، و جاء في القرآن نفيه من بنوّة النبيّ، قال تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ (2)، و قال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ (3) و لمّا لم يكن سبق زيد إلى الإسلام موجبا لتعلّق حقّة بالخلافة

ص: 351


1- هذا كلام من لا يدري، فإنّ زيدا اشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بأربعمائة درهم. الإصابة 1: 563.
2- الأحزاب: 37.
3- الأحزاب: 40.

كذلك القول في سبق غيره إلى الإسلام ما عدا أمير المؤمنين و الحسن و الحسين و أولادهما.

بيّنة و أمّا زواج عمر من أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين فقد كان زواجا بالقهر، و لمّا كان باستطاعتهم أخذ الخلافة منه و هي عطيّة مالك الملك سبحانه فلا عجب من قهره على الزواج بابنته و إن كان كارها لذلك، و شأن أمير المؤمنين شأن لوط النبيّ صلّى اللّه عليه حيث قال: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ (1) و قال الصادق عليه السّلام:

ذلك أوّل فرج غصبناه (2) [غصبنا عليه- المؤلّف].

و قيل عن هذه الحكاية كما يلي: إنّ عمر أرسل العبّاس إلى أمير المؤمنين يخطب عليه ابنته أمّ كلثوم فأبى الإمام ذلك، فقال عمر: إنّ عليّا يأنف منّي، أقسم باللّه لأقتلنّه، فأخبر العبّاس أمير المؤمنين عن نيّة عمر، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ قتلي في جانب و الخطبة في جانب آخر، و إنّي لا أزوّجه ابنتي. فقال عمر للعبّاس: تعال للمسجد يوم الجمعة لتسمع ما يجب أن تسمعه، فقال يوم الجمعة في آخر الخطبة:

ص: 352


1- هود: 78.
2- المسائل السرويّة للشيخ المفيد: 87؛ جواهر الكلام 37: 9؛ الكافي 5: 346؛ وسائل الشيعة 20: 561؛ بحار الأنوار 42: 106 اللمعة البيضاء: 281 و مهما نفى النافون أو أثبت المثبتون من هذا الزواج فإنّه لا يرفع من قدر عمر إلّا بما يرتفع به قدر فرعون من زواجه بابنة مزاحم و لا ينخفض قدر سيّدتنا أمّ كلثوم إلّا بقدر ما ينخفض قدر نظيرتها من زواجها بفرعون، و ليس هذا غريبا على الأولياء من زواج الخبيثين بالطيّبات أو الطيّبات بالخبيثين، و الحمد للّه الذي لم يجعل لعمر ما يزكّيه إلّا هذه الأمور قليلة الشأن التي لا يكترث بها عاقل من زواج بسيّدة من البيت النبوي أو تسمية ولد من أولادهم باسمه، و لو صحّ هذا و ذاك فإنّ القطرة العذبة تلقى في الملح الأجاج لا تصيّره عذبا.

يا أيّها الناس، هاهنا رجل من أصحاب رسول اللّه قد زنا و هو محصن و قد اطّلع أميركم وحده فما أنتم قائلون؟ فقال الناس من كلّ جانب: إذا كان أمير المؤمنين اطّلع عليه فما حاجته أن يطّلع عليه غيره [أمير المؤمنين لا يحتاج إلى شاهد و القول قوله، و إذا أمرنا قتلنا ذلك الزاني].

فلمّا انصرف عمر قال للعبّاس: امض إليه فأعلمه ما قد سمعت، فو اللّه لئن لم يفعل لأفعلنّ، فصار العبّاس إلى عليّ عليه السّلام فعرّفه ذلك، فقال عليّ صلوات اللّه عليه:

أنا أعلم أنّ ذلك ممّا يهون عليه و ما كنت بالذي أفعل ما تلتمسه أبدا، [فقال العبّاس: يقتلك و اللّه ليس في الأمر مزاح و هو مجرم و وقح، و خشن الطبع] إن لم تفعل أنت فأنا أهله، و أقسمنت عليك أن خالفت قولي و فعلي [لتمحى السخيمة من صدره و لا يتضرر الإسلام من هذا الوضع، فاحتمل أنّ هذه البنت قد ماتت فامتنع أمير المؤمنين أشدّ الامتناع].

فمضى العبّاس إلى عمر و أعلمه أن يفعل ما يريد من ذلك [فمضى العبّاس إلى عمر و قال: هل تريد شيئا غير الخطبة، إنّ عليّا لا يفعل ذلك و لكنّي أفعله ...]

فجمع عمر الناس، فقال: إنّ هذا العبّاس عمّ عليّ و قد جعل إليه أمر ابنته أمّ كلثوم و قد أمره أن يزوّجني منها، فزوّجه العبّاس و بعث بعد مدّة يسيرة فحوّلها إليه (1)، و سكت أمير المؤمنين بوصيّة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هذا العقد بعينه مشابه لعقد فرعون على آسية بنت مزاحم.

مسألة قال المخالفون: إنّ رسول اللّه أمر أبا بكر بإقامة صلاة العصر و صلّى خلفه

ص: 353


1- مستدرك الوسائل 14: 443 و ما بين الحاصرتين من إضافات المؤلّف؛ الصراط المستقيم 3: 130.

أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هذا نصّ على إمامته، لأنّ ما يجب في إمامة الصلاة يجب في الإمامة العامّة.

و يقولون أيضا: لمّا سمع النبيّ صوت أبي بكر يكبّر للصلاة خرج يتهادى بين عليّ عليه السّلام و بين الفضل بن العبّاس و قد وضع يديه على منكبيهما و رجلاه يخطّان في الأرض حتّى بلغ المسجد فاستقبل القبلة فصلّى بالناس و صلّى أبو بكر بصلاته، و صلّى الناس بصلاة أبي بكر.

فإذا كانت صلاته بإذن رسول اللّه و رأيه فإنّ عزله بأمر اللّه و وحيه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (1)، و مثله ما فعل في سورة برائة فقد أثبت للأمّة فإنّ اللّه أمر رسوله بعزله عن أدائها ليعلم الناس أنّه غير أهل لأداء الشريعة كما هو غير أهل لإمامة الصلاة.

و لمّا فتح رسول اللّه مكّة، و بان له النصر الأكيد، فأراد الصلاة في العصرين في المسجد الحرام فاستناب عتاب بن أسيد في إمامة الصلاة فأمره أن يقيمها و يصلّيها بالنيابة عنه، فإذا كانت إمامة الصلاة موجبة لاستحقاق الخلافة فإنّ عتاب بن أسيد أولى بها من أبي بكر، حيث يقيمها في المسجد الحرام و النبيّ صحيح معافى، و في صلاة أبي بكر كانت الصورة قائمة فالنبيّ في أشدّ حالات المرض، فإذا ائتمّ بأبي بكر في صلاته فيعتبر حينئذ معزولا من نبوّته لأنّه آخر عمل أقامه ثمّ توفّي من بعده، و قال تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ (2) و قال: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (3) و أمثالها الدالّة على حرمة التقدّم على رسول اللّه بكلّ وجه من

ص: 354


1- النجم: 3 و 4.
2- الحجرات: 2.
3- الحجرات: 1.

الوجوه، و حينئذ يعتبر أبو بكر عاصيا لرسول اللّه بهذا الفعل.

و في مذهب أهل البيت عليهم السّلام إنّ النبيّ لم يأمر أبا بكر بالصلاة و إنّما صدر الأمر من عائشة إلى بلال بالأذان لكي يصلّي أبوها بالناس، و لمّا رفع أبو بكر صوته بالأذان و بلغت مسامع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: من الذي قدّم هذا؟ فقالت عائشة: بلال يا رسول اللّه. فقال: أسندوني، أمّا إنّكنّ لصويحبات يوسف.

و كنّ في عهد يوسف كاذبات و حريصات على الحبّ و الغزل و الدلال و الفتنة، و حريصات على تحصيل الأماني و الشهوات و اللذّات الدنيويّة.

و قام النبيّ عجلا بعد سماعه صوت أبي بكر مكبّرا واضعا يده على منكب ميمونة و يده الأعرى على منكب عليّ عليه السّلام ينحو المسجد، و لمّا خرج من البيت وافاه الفضل بن العبّاس فصرف ميمونة و وضع يده على منكب الفضل و عادت ميمونة من حيث أتت، و أبعد ابا بكر من المحراب و استأنف الصلاة (1).

مسألة: قال المخالفون إنّهما وزيرا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الجواب: إن كانت وزارتهما مشاركة للنبوّة فهو الكفر المحض، أم أنّ وزارتهما معناها النيابة عن النبيّ في إدارة الأمور و كفاية الحروب، فإنّ أبا بكر حمل الراية مرّة واحدة في خيبر فرجع منهزما، و مثله فعل عمر عاد بالهزيمة الفاضحة إلى أن أخذ الراية أمير المؤمنين عليه السّلام و تمّ فتح خيبر على يديه، و في كلّ آية يذكر اللّه فيها الحرب و الفرار من الزحف و النفاق فإنّهما المعنيّان بها، و كانا أكثر الناس فرارا من الزحف

ص: 355


1- كان المؤلّف قد عقد هذا الفصل لنفي الأمويّين من قريش و لكنّه لم يأت بحجّة واحدة تنفيهم و إنّما أخذ يتنقّل في الأحاديث من فصل إلى آخر دونما مناسبة.

ليدخلا الوهن على الإسلام، و إذا ذكر النفاق في موضع فهما الشريك الأكبر فيه.

و يقول اللّه تعالى مخاطبا لنبيّه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (1) و تاب بعض المنافقين من نفاقهم أمّا هم فقد ماتوا على النفاق، إنّ اللّه أمره بمشورتهم لئلّا يقولوا بأنّ محمّدا لا يشركنا في قضاياه كسائر أصحابه، و عندئذ يكيدون للإسلام ما شاء لهم خبثهم، و يغدرون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ساعة الشدّة، و إلّا فالنبيّ غنيّ بالوحي عن المشورة، و لقد أعطاه اللّه من المكارم ما لا يحتاج معها إلى استشارة أحد من الناس، قال اللّه تعالى: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (2).

مسألة: ما يقال من أنّ أبا بكر أنفق أربعين ألف درهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الجواب: مرّ شرح هذه المسألة بإسهاب مضافا إلى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلّ بعد الهجرة ضيفا على الأنصار و كان أبو بكر فقيرا معدما يحتاج إلى برّ الأنصار و هو طفيليّ بركاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بعد الهجرة، يسّر اللّه لرسوله فتح البلاد و أغناه بالغنائم المحرّرة، هذا ما يخصّ حال النبّي بعد الهجرة، و أمّا قبل الهجرة فقد أغناه اللّه بمال خديجة عن مال أبي بكر، على أنّ الصدقة على رسول اللّه حرام، و اكترى أبو بكر جملا فهاجر عليه فأين كانت ثروته و هو لا يملك حتّى راحلة يهاجر عليها؟!

و الدليل على أنّه لا يملك أربعين ألف درهم لينفقها على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ بعض الناس كانوا يختلون بالنبيّ و يساررونه أو يسألونه عن بعض المسائل فاقتدى بهم

ص: 356


1- آل عمران: 159.
2- آل عمران: 159.

البقيّة و مالوا إلى حبّ الخلوة مع النبيّ حتّى أضجروه، فأنزل اللّه هذه الآية عليه:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (1)، فلمّا نزلت الآيه باع أمير المؤمنين عليه السّلام دينارا عندهم بدرهم، و قيل استدان عشرة دراهم، و سأل عشرة أسئلة و لم يعمل بهذه الآية غيره حتّى نسخ حكمها بآية: أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ (2)، فلو كان لأبي بكر مال لأنفق بعضه و حظى بمناجاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لو كان بحوزته أربعون ألف درهم ثمّ لم يتصدّق فإنّه أبخل الناس.

و لو صحّ حديث: اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر و عمر (3) لم يحتج إلى البيعة و لم يجادله الأنصار على الخلافة، و لا حتجّ بهذا الحديث لا بحديث «الأئمّة من قريش».

و قالوا: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أبو بكر أفضلكم، و أعلمكم، و لم يقولوا إنّ أبا بكر جهل معنى الكلالة و مثله عمر، و كلاهما لم يعرف معنى لفظ «الأبّ» كما قال الثعلبي، و طالما قال عمر: لو لا علي لهلك عمر، لو لا معاذ لهلك عمر (4).

ص: 357


1- المجادلة: 12.
2- المجادلة: 13.
3- هذا الحديث الموضوع تكذيبه سهل جدّا لأنّ الرجلين لم يتفقا عمرهما كلّه بل كانا في خلاف دائم كخلافهما في حروب ما يسمّى بالردّة، و خلافهما حول خالد و فعلته النكراء مع مالك و زوجته، فبمن نقتدي إذن؟! و الاقتداء بأحدهما مخالفة للآخر و ردّ لحديث النبيّ- إن صحّ- و هو موجب للكفر، و حينئذ كيف يصحّ حديث يوجب الكفر على المسلم!!
4- سنن البيهقي 7: 443؛ تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 152؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 18 و 141 و 12: 179؛ كنز العمّال 13: 584 رقم 37499؛ تفسير القرطبي 9: 288؛ تاريخ مدينة دمشق 58: 422؛ سير أعلام النبلاء 1: 452؛ الإصابة 6: 108؛ ينابيع المودّة 1: 216 و 227؛ عمر بن الخطّاب للبكري: 151 و 189 و 369 و 371؛ و في تاج العروس 10: 445: لو لا زيد لهلك عمر؛ شرح الرضي على الكافية 1: 275؛ مختصر المعاني للتفتازاني: 95.

و ما يقال: من أنّ النبيّ قال: مكتوب على ساق العرش: أبو بكر و عمر، يردّه حديث صحيح عن النبيّ أنّه قال: مكتوب على ساق العرش: «لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه عليّ وليّ اللّه»، و كيف يصحّ كتابة اسم من عبد الصنم خمسين أو أربعين عاما و بعد ذلك التحف الإسلام، إلّا أنّ ذلك يصحّ في عليّ عليه السّلام لأنّه معصوم و مطهّر من الصغائر و الكبائر من يوم ولادته إلى أن نال درجة الشهادة، فلا مانع من كتابة اسمه في ساق العرش، و كلّ حديث قاله النبيّ في عليّ نسبوه إلى أنفسهم (1).

و قالوا: إنّ الشيطان يفرّ من ظلّ عمر، و لم يذكروا قول عمر عن نفسه في حرب أحد: كنت كالماعز الجبلبة أفرّ من جبل إلى جبل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا (2). و لو صحّ ما قالوا لما فرّ و لما استزلّه الشيطان.

و قالوا: إنّ النبيّ دعى اللّه سائلا: اللهمّ أعزّ هذا الدين بأبي جهل أو بعمر، فاستجاب اللّه لنبيّه في عمر فنصر به الرسول و قوي دينه به و عزّ.

[الجواب] قال اللّه في مواضع من كتابه أنّه هو الذي أعزّ الدين و نصره و هو الذي نصر رسله حيث قال: لَنَنْصُرُ رُسُلَنا (3) و قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ

ص: 358


1- ليس هم الذين نسبوه بل هم الذين حاولوا طمسه و لكن دار ضرب الحديث التي أسّسها معاوية و اشترى لها ذمما رخيصة كذمّة عائشة و أبي هريرة و سمرة بن جندب و أمثالهم، هم الذين فعلوا هذا الفعل الشائن، و لا أقول ذلك دفاعا عنهما لعنهما اللّه و لكنّهما أقلّ و أذلّ من ارتكاب هذه الحماقة .. و عليّ عليه السّلام على قيد الحياة.
2- آل عمران: 155.
3- غافر: 51.

كُلِّهِ (1)، و قال: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ (2) و نحوها، فكيف يحتاج النبيّ إلى المشرك في نصر دينه.

و ما يقال: من أنّ عثمان جهزّ جيش العسرة فإنّ ذلك في غزوة تبوك باتفاق الأمّة و كانوا خمسا و عشرين ألف مقاتل، و قالوا: إنّ النبيّ أمر المسلمين جميعا أن يأتوا بما عندهم لتمويل الجيش و كان لعثمان مأتا بعير أعطاهم لتحمل أربعمائة من المقاتلين، فماذا فعل للباقين؟! و تخلّف الفقراء المعدمون عن اللحاق بهم، فلو كان عثمان جهّزهم لما تخلّفوا، لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (3)؛ و هذه الآية تكذّب ما افتروه عن عثمان.

و قالوا عن النبيّ أنّه قال ذات يوم: من يصلح بئر رومة و أعطيه بيتا في الجنّة، فقال عثمان: أنا يا رسول اللّه، و لكن أضمنها و أنت رسول اللّه لي.

فلو كان مصدّقا رسول اللّه و معتقدا برسالته حقّا و مؤمنا بالجنّة لما طلب ضامنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و طلب الضامن دليل على شكّه في صدق قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و في المعاد و لو كان مؤمنا حقّا لما كان بحاجة إلى ضمان، و لو لم يكن مؤمنا فإنّ دخوله إلى الجنّة محال، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا يضمن المحال.

و لمّا تمّ تحرير هذه المقدّمات من كلّ نوع و كلّ باب من كتب المؤالف و المخالف صار لزوما علينا الإتيان بموجز هذا الباب، و كيف تمّت الغلبة على بني هاشم، و تمّ النصر لبني تميم و عدي و بني أميّة و أضرابهم عليهم.

ص: 359


1- التوبة: 33، الفتح: 28، الصفّ: 9.
2- آل عمران: 160. كامل البهائي ج 1 359 بيان في أن عثمان و بني أمية لم يكونوا من قريش و أن أمية غلام رومي ..... ص : 350
3- التوبة: 91 و 92.

الباب العاشر في حجّة الوداع و ذكر الغدير و وصيّة الرسول و وفاته و فيه ما يتبع ذلك

الفصل الأوّل: في حجّة الوداع

روى البراء بن عازب و جابر بن عبد اللّه الأنصاري و أبو ذر الغفاري و سلمان الفارسي و عمّار بن ياسر و حذيفة بن اليمان و غيرهم، قالوا: لمّا صالح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نصارى نجران، هبط عليه الأمين جبرئيل و قال: إنّ اللّه يأمرك أن تحجّ هذا العام، لأنّ أجلك قد دنى.

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد أرسل عليّا إلى اليمن لقبض ما أقرّه من الجزية على أهل نجران، و أمر النبيّ بالاستعداد للحجّ، و لمّا أعدّ العدّة للسفر خرج من المدينة بجمع عظيم، و من هناك كتب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قائلا: إنّنا ذهبنا إلى حجّ بيت اللّه فإذا فرغت من عملك فوافنا هناك من طريق اليمن، لنلتقي إن شاء اللّه.

فلمّا بلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذي الحليفة كانت أسماء بنت عميس حاملا بمحمّد بن أبي بكر فولدته هناك، فأوقف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الركب يوما بكامله من أجلها.

فلمّا وصل كتاب النبيّ إلى عليّ عليهما السّلام أخذ يتأهّب للسفر و معه ما كان قد حازه من

ص: 360

الغنائم، و أقبل و من معه متوجّهين نحو مكّة، و لمّا بلغ ميقات أهل اليمن أحرم منه، و كان معه من الهدي أربع و أربعون، و كان حجّة حجّ القرآن المفرد، و لم يشرع حجّ التمتّع بعد، فلمّا وصل مكّة نزلت آية التمتّع و هي قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ (1) و كان النبيّ قد أحرم قبل نزول الآية، فخطب الناس و قال: من لم يحرم فإحرامه إلى العمرة، و لو كنت أعلم قبل علمي لما سقت الهدي حتّى أحلّ من الحرام و لكنّي لا أستطيع أن أحلّ حتّى يبلغ الهدي محلّه، و على من لم يسبق الهدي الإحلال الآن و يحجّ حجّ التمتّع ثمّ يحرم بعد ذلك، فاستجاب بعضهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أبى بعضهم الآخر، فعاتبهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: لا نحلّ و أنت محرم، فقال: أنا عذري معي فقد سقت الهدي معي، أمّا أنتم فلا عذر لكم، فلم يقبلوا قوله و أصرّوا على فعلهم، و قالوا: لا نحلّ حتّى تحلّ، فقال النبيّ: إنّكم لتقولون منكرا من القول وزورا، و ها أنا قد سقت معي الهدي ستّا و ستّين بدنة و نويت القران فكيف أحلّ إذن، فقال المنكرون: كيف نحلّ و نخلو بالنساء و نخرج و رؤوسنا تقطر ماءا و رسول اللّه أشعث أغبر (2).

و لمّا دنى أمير المؤمنين من مكّة أقام أحد أصحابه مقامه و أسرع باللحوق برسول اللّه، فلقي رسول اللّه على أبواب مكّة فسأله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ماذا صنعت؟ قال:

صنعت ما أمرتني به، و استوفيت من القوم ما عليهم، و خلّفتها عند أصحابي في الوادي، و ألحح بي الشوق على لقائك عاجلا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و بماذا نويت يا علي في إحرامك؟ فقال عليّ عليه السّلام: إنّك أبلغتني بالحجّ في كتابك و لكنّي نويت على

ص: 361


1- البقرة: 196.
2- رأس المنكرين عمر بن الخطّاب لعنه اللّه و هو صاحب الكلمة و ليس فيها رؤوسنا تقطر ماءا، بل كذا: تقطر منيّا، و ما هو بعابئ برسول اللّه بل بشعارات الجاهليّة يخشى عليها أن تتحلّل.

ما نويت عليه، و قلت: اللهمّ اجعل إهلالي كإهلال نبيّك، فقال: أو سقت الهدي؟

قال: نعم أربعا و أربعين بدنة، فقال النبيّ: اللّه أكبر، شاركتني في حجّي و هديي، فقد سقت أنا ستّا و ستّين بدنة فاذهب الآن و ائتني بأصحابك.

فذهب أمير المؤمنين عليه السّلام إليهم فوجدهم قد عبثوا بالمال و فتحوا الرحال و استخرجوا الحلل فلبسوها، فعاتب الذي ائتمنه على القوم، فقال: إنّهم طلبوا منّي أن يلبسوا الحلل و يحرموا بها، فقال أمير المؤمنين: سبحان اللّه! كيف ساغ لك لبسها قبل أن يراها النبيّ؟! فاستدعاهم جميعا و أمرهم بنزعها و أن يجعلوها في الأثقال، و أقبلوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فشكوه إلى النبيّ، و قالوا: إنّه انتزع الحلل منّا، فقال النبيّ: لقد فعل عليّ الصواب، فكانوا يطعنون على عليّ لما في صدورهم من حقد عليه، و أطلقوا ألسنتهم في أمره، فرقى النبيّ المنبر و خطبهم قائلا: ارفعوا ألسنتكم عن عليّ بن أبي اطلب فإنّه خشن في ذات اللّه تعالى، غير مداهن في دينه.

و لمّا رأى الناس غضب النبيّ أمسكوا عن الطعن على عليّ عليه السّلام، و أتمّ النبيّ حجّة ثمّ قفل راجعا إلى المدينة.

الفصل الثاني: في ذكر الغدير

و أقبل النبيّ عائدا من منزل إلى منزل حتّى بلغ موضعا يدعى «غدير خم» و هو واقع على مفترق الطرق، و منه تتفرّق القبائل إلى مساكنها، و لكن ليس فيه مكان يصلح للنزول، فهبط جبرئيل على النبيّ آخذا بزمام ناقته، و قال: إنّ اللّه تعالى يقرئك السلام و يأمرك بالنزول على غير ماء أوكلأ لكي تبلغ رسالته المهمّة إلى الناس قبل أن يتفرّقوا، و معه الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ (1)، فنزل رسول اللّه

ص: 362


1- المائدة: 67.

و نادى مناديه بالنزول، و دعى الذاهبين منهم إلى الرجوع، و تأنّى قليلا حتّى لحق به من تخلّف منهم.

و كانت هناك دوحات نابتة على ضفاف الغدير، فأمر أن يقممن و نزل النبيّ تحتها و أمر أن تجمع له حدوج الإبل، و وضعت على شكل منبر، ثمّ صعد النبيّ عليه، و كان المهاجرون و الأنصار حضورا بين يديه، فخطب تلك الخطبة المعروفة، و قال في ختامها:

يا قوم، نعيت إليّ نفسي، و حان منّي حقوق من بين أظهركم، و قد دعيت و يوشك أن أجيب، و إنّي مخلّف فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، فإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. ثمّ قال: اللهمّ هل بلّغت. ثمّ قال كلاما بعده، و قال أخيرا: عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى. و ذكر في هذه الخطبة مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام و أعلن على الملأ نصّ إمامته ثمّ دعاه و أخذ بضبعه و رفعه أمام الناس.

حكاية: كان الشبليّ في مطلع أمره رئيسا من رؤساء دماوند و كان رجلا عاقلا، فبعثه ملك مازندران بكتاب إلى الخليفة، فلمّا بلغ بغداد، و شاهد معالمها الحضاريّة و اجتمع بعلمائها، أعلن عن توبته هناك و إعراضه عن الدنيا (القصّة) (1) زار الشبلي يوما نقيب بغداد و قال له: هل تعلم يا سيّدي ما هو غرض المصطفى من هذا الحديث حيث أمسك بضبع أبيك و رفعه أمام أعين الناس؟

فقال: لا يا أيّها الشيخ.

ص: 363


1- تأتي هذه الكلمة أحيانا في النثر الفارسي القديم حكايه عن نهج الاختصار أو الحذف الذي مارسه الكاتب و هي عربيّة و كان يستعملها أيضا القدماء بهذا المعنى.

فقال الشبلي: فتنت زليخا بيوسف و كان يوسف معرضا عنها، فعمدت إلى صنع مأدبة للمصريّات اللواتي لمنها و قرعنها على ما بدر منها تجاه يوسف، و قالت:

أريد أن أريكم وضع حالي معه، و آتت كلّ واحدة منها سكيّنا و اعتدت لهنّ متّكئا و وضعت بين أيديهنّ الفاكهة و هي عبارة عن «الأترنج» و قالت لهنّ: اقطعن لي منها قطعة و ناولنني إيّاها، و رجت يوسف و أقسمت عليه بسابق عهدها من الخدمة و الرعاية أن يخرج عليهنّ، فخرج يوسف من مكانه إلى حيث يجلس النساء، فلمّا رأينه طمثن جميعهنّ حتّى تخضّبت الزرابيّ منهنّ، و قطّعن أيديهنّ مكان الأترنج، و قلن: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (1)، فلم يرمق يوسف إحداهنّ بنظرة واحدة، فقلن: لو كان بشرا لطالعنا و نظر إلينا، فقالت زليخا: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ.

و هكذا كان رسول اللّه يثنى على عليّ أمام الناس و يبين عن فضله و يكشف مناقبه، فلا يجد عند الحسّاد و المنافقين إلّا البعد عنه و الطعن عليه، حتّى جلاه لهم يوم غدير خمّ فعرفوه (2) (القصّة).

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا سريعا: بلى.

فقال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، و العن من ظلمه، اللهمّ هل بلّغت (3).

ص: 364


1- يوسف: 31.
2- لو رزق اللّه الشبلي السلامة من هذا التنظير الركيك لكان خيرا له، و لا أعرف الحسن فيه الذي حمل المؤلّف على كتابته، و لعلّ الشبلي يرى في حادثة الغدير ما يراه غيره من اتّباع قوم من الصحابة ليس فيه إلّا بيان الفضل و ذكر المناقب و ما هو بنصّ على إمامته، و ليس ذلك بعيدا، فالشبلي ليس من أهل الولاء.
3- الهداية للصدوق: 150 و ليس فيه «العن من ظلمه»؛ دعائم الإسلام 1: 16؛ معاني الأخبار: 67؛ ذخائر العقبى: 67؛ مسند أحمد 1: 118 و 119؛ مجمع الزوائد 9: 104 و 105 و 106؛ سنن النسائي 5: 136 و 5: 155؛ خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 103 و 104 و 132؛ المعجم الكبير للطبراني 4: 17 و 5: 192؛ شرح ابن أبي الحديد 3: 208 و 13: 193 و 18: 72؛ كنز العمّال 11: 609 رقم 32946، و ص 610 رقم 32951؛ كنز العمّال 13: 131؛ فيض القدير للمناوي 6: 282؛ الكامل في الرجال 3: 256؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 207 و 208 و 210 و 211؛ ذكر أخبار اصفهان 2: 359؛ البداية و النهاية 5: 229 و 230 و 7: 370 و 384؛ السيرة النبويّة لابن كثير 4: 418 و 419 و 420؛ سبل الهدى و الرشاد 11: 294؛ ينابيع المودّة 2: 282 و 283 و 284 و 369؛ لسان العرب لابن منظور 15: 409، أمّا كتب الشيعة فهي كثيرة جدّا و لا حاجة بنا إلى ذكرها لأنّها لا تكون حجّة لنا على الخصم.

ثمّ نزل عن المنبر و أقاموا للصلاة و صلّى بهم جماعة و دخل الخيمة، و أمر أن تضرب لعليّ عليه السّلام خيمة أخرى مواجهة لخيمته، و أمره بالجلوس فيها، ثمّ نادى مناد في المهاجرين و الأنصار أن يدخلوا عليه يهنّئونه بالإمامة و البيعة، فلمّا بلغت النوبة إلى عمر، دخل عليه و بالغ في الثناء عليه و قال في تهنئته: بخ بخ يا علي، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، فلمّا هنّأه الرجال دخل عليه النساء لتهنئته، بالطريقة التي مرّ ذكرها، فاستأذن حسان بن ثابت من رسول اللّه أن ينشد أبياتا في ذلك، فأذن له و قال: باسم اللّه سبحانه و تعالى، فقال حسان:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ و اسمع بالرسول مناديا

فقال: فمن مولاكم و وليّكم فقالوا: و لم يبدو هناك التعاميا

أنت (إلهك) مولانا و أنت وليّناو لن تجدن منّا لك اليوم عاصيا

فقال له: قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماما و هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعى اللهمّ وال وليّه و كن للذي عادى عليّا معاديا فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا تزال يا حسان مؤيّدا بروح القدس بما نصرتنا.

ص: 365

إنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله يرفع عليّا يوما و يعليه و يجلّيه أمام الأعداء كما حدث في المباهلة، و يوما أمام الأولياء كما حدث في غدير خمّ.

يقول أبو سعيد الخدري: و اللّه ما تفرّقنا حتّى نزل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (1)، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند نزول هذه الآية: اللّه أكبر على إكمال الدين و تمام النعمة و رضا الربّ برسالتي و بولاية عليّ من بعدي.

ثمّ التفت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الإمام و قال: يوم بيوم، إنّ اللّه لا يضيع أجر من أحسن عملا.

و إنّما قال النبيّ لعليّ هذا لأنّ عليّا بارز مرحبا اليهودي و هو من شجعان العرب و أبطالهم (2) فأورده حمام الردى و ساقه إلى نار الغضى، فقال جبرئيل عليه السّلام: يا رسول اللّه، إنّ له يوما عندك، يوما بيومه هذا.

كنت في اصفهان سنة ستّمائة و ثلاث و سبعين حاضرا في مجلس شخص ما و كان في المجلس أحد مفتي الفرق و يدعى يزيد التقي، و كان معروفا بالنصب و العداوة لأهل البيت، و كان يردّد قول النبيّ: إنّ له يوما عندك يوما بيومه، و لكن هذا التقي الشقي روى رواية عن أبيه عن ابن مسعود أنّ عليّا في يوم أحد كان يصول على الكتائب و يردي الأبطال قتلى عن اليمين و عن الشمال و من وراء و من أمام، فلمّا رأى النبيّ ذلك قال: لا تقيّة في الإسلام بعدك، ما عذر من كتم الحقّ و أنت ناصره. و لمّا نزلت الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (3) فكان الرسول صلّى اللّه عليه و آله على حيرة من

ص: 366


1- المائدة: 3.
2- بل هو يهوديّ يا سيّدي كما قلت أوّلا.
3- المائدة: 67.

أمره، يجيل الفكر في هذه المهمّة الصعبة، فدعا عليّا إليه شرح له واقع الأمر، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: يا رسول اللّه، أما إنّك قد قلت لي يوم أحد: ما عذر من كتم الحقّ و أنت ناصره، فاليوم ما عذر من كتم الحقّ و اللّه عاصمه.

قال أبو إسحاق الثعلبي إمام أصحاب الحديث في تفسيره الكشف (و البيان):

سئل سفيان بن عيينة عن قول اللّه سبحانه: سَأَلَ سائِلٌ (1) فيمن نزلت؟ فقال:

لقد سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك، حدّثني أبي عن جعفر بن محمّد عن آبائه، فقال:

لمّا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بغدير خم نادى بالناس فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّ رضى اللّه عنه، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه (2) فشاع ذلك و طار في البلاد، فبلغ الحرث بن النعمان الفهري، فأتى رسول اللّه على ناقة له حتّى أتى الأبطح فنزل عن ناقته و أناخها و عقلها، ثمّ أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو في ملأ من أصحابه، فقال: يا محمّد، أمرتنا عن اللّه أن نشهد لا إله إلّا اللّه و أنّك رسول اللّه فقبلناه منك، و أمرتنا أن نصلّي خمسا فقبلناه منك، و أمرتنا بالزكاة فقبلنا، و أمرتنا بالحجّ فقبلنا، و أمرتنا أن نصوم شهرا فقبلنا، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضّلته علينا و قلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي ء منك أم من اللّه تعالى؟

فقال: و الذي لا إله إلّا هو هذا من اللّه.

فولّى الحرث بن النعمان يريد راحلته و هو يقول: اللهمّ إن كان ما يقوله حقّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتّى رماه اللّه

ص: 367


1- المعارج: 1.
2- مسند أحمد 1: 84 و 5: 347؛ و المستدرك 3: 110؛ و مصنّف ابن أبي شيبة 7: 495، عن محقّق الكتاب.

بحجر، فسقط على هامته و خرج من دبره، و أنزل اللّه سبحانه: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (1).

و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام أنّ «ما» في قوله: ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ هي «ما» في قوله:

فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (2) و ذلك أنّ النبيّ أبلغ في تلك الحال بأنّ عليه إقامة عليّ مقامه خليفة و وصيّا عند ما يبلغ الكتاب أجله، فلمّا كان يوم الغدير قال له: بلّغ ما أنزل إليك ليلة المعراج.

الفصل الثالث: في ذكر وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

بدأ المرض يعاود رسول اللّه في يوم الثلاثاء، و قيل في يوم الأحد فقبض على يد عليّ و قصد به البقيع، و اجتمع الصحابة من ورائهم، فلمّا وصل إلى البقيع، قال:

السلام عليكم يا أهل القبور، إنّ الدين سيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، و قال: يوشك أن أدعى فأجيب، لأنّ جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن في العام مرّة و في هذا العام عرضه عليّ مرّتين، و هذا يدلّ على قرب أجلي، و لقد خيّرني ربّي بين جواره و بين خزائن العالم و البقاء إلى يوم المحشر فاخترت جواره و الجنّة، و ترتكت الدنيا الفائتة «الدنيا بالنسبة إلى الآخرة أن يجعل أحدكم اصبعه السبّابة في اليمّ فلينظر بم يرجع» (3).

ثمّ أوصى عليّا بوصاياه، فقال: يا علي، إذا أنا متّ فغسّلني و جهّزني بيدك (4)

ص: 368


1- المعارج: 1 و 2.
2- النجم: 10.
3- هذا حديث شريف رواه ابن حبّان في صحيحه 14: 29، و ابن سلامة في مسند الشهاب 2: 291 و 292.
4- و فيه: و لقّنّي قبل و جهّزني، و لكنّي رأيتها لا تنسجم مع النبوّة فحذفتها.

و ليعينك الفضل بن العبّاس و عمّي العبّاس بحمل الماء إليك، و إنّما أعوانك الملائكة، و لا يجوز لأحد النظر إلى عورتي، فإنّه يفقد بصره سواك يا علي، عند ذلك أمر أمير المؤمنين الفضل و أباه العبّاس أن يعصّبا عينينهما، فوقعت عين العبّاس على عورة رسول اللّه فأضرّ في الحال (1).

و اشتدّ برسول اللّه المرض يوم الأربعاء فاتّكأ على عليّ و العبّاس عليهما السّلام و دخل المسجد على هذه الحال ثمّ رقى المنبر و قال: من كانت له عليّ بيعة أو يأخذني بقصاص فليأت إليّ، فإنّ فضوح الدنيا خير من فضوح الآخرة.

فقام رجل فقال: إنّك يا رسول اللّه وعدتني أن تزوّجني، فأقبل على الفضل بن العبّاس و قال له: ادفع له ثلاث أواق من الفضّة.

فقام عكاشة فقال: يا رسول اللّه، كنت ألعب مع أقراني فضربتني بسوطك و أطلبك اليوم بقصاص، فقال رسول اللّه: يا بلال، اذهب إلى بيت فاطمة و ائتني بالقضيب ليقتصّ عكاشة منّي، فلمّا سمعت فاطمة عليها السّلام بكت و قالت: ما يصنع أبي بالقضيب و هو في حالة المرض؟ و كيف يطيق تحمّل الضرب و هو و قيد؟ فقال العبّاس: يا عكاشة، اضربني عشرا و اعف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإنّه لا يطيق ذلك.

فقال عكاشة: لا أقتصّ إلّا منه، ثمّ أخذ عكاشة القضيب و ارتقى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو على المنبر و قال: يا نبيّ اللّه، كنت مكشوفا يوم ضربتني، فرفع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ردائه عن كتفيه، فبان بياضهما، فلمّا رأى عكاشة ذلك ألقى السوط من يده و احتضن النبيّ و قبّل في جبينه و قال: فدتك روحي ألف مرّة، سمعتك تقول: لا تمسّ النار أحدا قبّل وجه النبيّ، و لقد رميت إلى هذا في طلب القصاص، فليس عليك قصاص بأبي أنت و أمّي.

ص: 369


1- لم يحدّثنا التاريخ عن ذلك، و لم يفقد العبّاس بصره حتّى مات، و المؤلّف أهمل المصدر الذي اعتمد عليه.

و قام آخر و طلب ذلك من رسول اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: سبقك بها عكاشة فلم يصل أحد إلى ما وصل إليه عكاشة، فلمّا كانت الجمعة خرج إلى المسجد و صلّى صلاة الجمعة و وعظ الناس وعظا شديدا.

الفصل الرابع: في ذكر الوصيّة

يقول أمير المؤمنين: لمّا نزلت سورة «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» بدأ المرض برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يمكث في بيته بل خرج يوم الخميس معصوب الرأس، فصعد على المنبر و قد امتقع لونه الشريف، فجرت دموعه و نادى بلال أن يجمع له الناس، فصاح فيهم: الصلاة جامعة، هلمّوا إلى رسول اللّه ليوصيكم فإنّها آخر وصاياه، فأمّ الناس المسجد من رجل و امرأة و صغير و كبير، حتّى غصّ بهم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: وسّعوا لمن وراءكم، وسّعوا لمن وراءكم، ثمّ قام قائما على قدميه و الدموع جارية على وجنتيه، و قال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، و حمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على إخوانه الأنبياء.

ثمّ قال: أنا محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، لا نبيّ بعدي، أيّها الناس اعلموا أنّ نفسي نعيت، و حان فراقي من الدنيا، و اشتقت لقاء ربّي، فواحزناه على فراق أمّتي، ماذا يقولون من بعدي، اللهمّ سلّم سلّم، أيّها الناس اسمعوا وصيّتي لكم، أيّها الناس قد بيّن اللّه لكم في محكم كتابه ما أحلّ لكم و ما حرّم عليكم، فأحلّوا حلاله و حرّموا حرامه، و آمنوا بمتشابهه و اعملوا بمحكمه و اعتبروا بأمثاله، ثمّ رفع طرفه إلى السماء و قال: اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، إيّاكم و هذه الأهواء الضالّة البعيدة من اللّه، و البعيدة من الجنّة، و القريبة من النار، اللهمّ هل بلّغت.

ص: 370

اللّه اللّه في دينكم و ما آتاكم اللّه.

اللّه اللّه فيما ملكت أيمانكم؛ أطعموهم ممّا تأكلون، و اكسوهم ممّا تكسون، و لا تكلّفوهم ممّا لا يطيقون فإنّها لحم و دم، و خلق أمثالكم، ألا و من ظلمهم فأنا خصمه يوم القيامة، و اللّه حاكمهم.

اللّه اللّه في النساء أوفوا لهنّ مهورهنّ و لا تظلموهنّ فتخرّ بكم حسناتكم، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، أطيعوا ولاة أموركم و لا تعصوهم، و إن كان عبدا حبشيّا مجدعا؛ فمن أطاعهم فقد أطاعني، و من أطاعني فقد أطاع اللّه، و من عصاهم فقد عصاني، و من عصاني فقد عصى اللّه، ألا لا تخرجوا عليهم و لا تنقضوا عهودهم، اللهمّ هل بلّغت (1).

أيّها الناس، عليكم بحبّ أهل بيتي، عليكم بحبّ حملة القرآن، عليكم بحبّ أهل العلم و لا تنقضوهم و لا تحسدوهم و لا تطعنوا فيهم، ألا و من أحبّهم فقد أحبّني، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، أدّوا زكاة أموالكم، الا و من لم يزكّ فلا صلاة له، و لا دين له، و لا صوم له، و لا حجّ له، و لا جهاد له، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، إنّ اللّه قد فرض الحجّ على من استطاع إليه سبيلا، و من لم يفعل فليمت على أيّ حال شاء؛ يهوديّا أو نصرانيّا أو مجوسيّا، إلّا أن يكون به مرض

ص: 371


1- لا يشكّ عاقل بأنّ الغرض من ولاة الأمرهم المعصومون لأنّ النبيّ لا يأمر بطاعة غير المعصوم لما يلزم ذلك من فعله المعصية و اتّباعه عليها لأنّه غير مأمون من ذلك فكيف يأمر النبيّ بطاعة من شأنه المعاصي و طبيعته اقتراف السيّئات و حينئذ يكون النبيّ قد أعان على فعل الذنب و حاشاه، أمّا العبد المجدع فالذي يظهر لي أنّ الغرض منه هو الوالي الذي يستنيبه المعصوم على المدن و الأقاليم.

جالس، أو منع سلطان جائر، ألا لا نصيب له في شفاعتي و لا يرد حوضي، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، إنّ اللّه جامعكم يوم القيامة في صعيد واحد في مقام عظيم و هول شديد، يوم لا ينفع مال و لا بنون إلّا من أتى اللّه بقلب سليم، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، احفظوا ألسنتكم، و أبكوا أعينكم، و أتعبوا أبدانكم، و جاهدوا عدوّكم، و اعمروا مساجدكم، و أخلصوا إيمانكم، و انصحوا إخوانكم، و قدّموا لأنفسكم، و احفظوا فروجكم، و تصدّقوا من أموالكم، و لا تحاسدوا فيذهب حياءكم، و لا يغتب بعضكم بعضا فتهلكوا أنفسكم، اللهمّ هل بلّغت.

أيّها الناس، اسعوا في فكاك رقابكم و اعملوا الخير ليوم وقوفكم وفاقتكم.

أيّها الناس، لا تظلموا فإنّ اللّه الطالب لمن خان، و عليه حسابكم، و إليه إيابكم، فإنّ اللّه لا يرضى منكم بالمعصية.

أيّها الناس، مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (1)، وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (2).

أيّها الناس، إنّي قادم على ربّي، و قد نعيت إليّ نفسي، فأستودع اللّه دينكم و أمانتكم، و السلام عليكم يا معشر أصحابي و على جميع أمّتي و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.

الفصل الخامس: في تمام قصّة موته صلّى اللّه عليه و آله

و دخل البيت و لم يخرج منه، و بقي في بيت أمّ سلمة و زاد عليه الوجع، و ظلّ

ص: 372


1- فصّلت: 46.
2- البقرة: 281.

هناك يومين حتّى قدمت عائشة في اليوم الثالث و دعته إلى بيتها، فنهض رسول اللّه إلى بيتها، و لمّا بلغ البيت أذّن المؤذّن، فأمرت عائشة أباها بالصلاة، و لمّا سمع رسول اللّه صوت أبي بكر بالتكبير، نادى: من قال لهذا يصلّي بالناس؟ فقالت عائشة: أنا أمرته يا رسول اللّه. قال: إنّكنّ لصويحبات يوسف، أي تأمرن بالشي ء و تفعلنه لا لصواب، ثمّ وضع يده على عاتق عليّ و اليد الأخرى على عاتق ميمونة و خرج من البيت، و إذا بالفضل بن العبّاس قادم، فصرف ميمونة و وضع يده على عاتقه، و إنّ رجليه ليخطّان الأرض حتّى بلغ المسجد، و أشار إلى أبي بكر بيده فتنحّى له عن المحراب، و لم يعبأ بصلاته بل استأنف الصلاة و عاد إلى منزله.

و حضر عنده أبو بكر و عمر، فقال لهما رسول اللّه: ألم آمركما بالخروج مع أسامة؟ فقال أبو بكر: لم أشأ أن أسأل عنك الركبان؟! فاستدعى أسامة و أمره بتعجيل الخروج بأصحابه، و قال: إنّي اخترتك لهذا الأمر، و أغمي عليه، فارتفعت الضجّة في البيت، فلمّا أفاق قال: آتوني بدواة و كتف أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا، ثمّ أغمي عليه، فقاموا ليأتوه بما طلب، فاعترضهم عمر و قال: الرجل يهدي، فلمّا أفاق من غشوته قالوا: يا رسول اللّه، أنأتيك بما طلبته؟ فقال: أبعد الذي قلتم ما أردتم و سمعته، يعني قول عمر لعنه اللّه.

و أمر المسلمين بمتابعة أهل بيته و أوصاهم بهم، و قال أخيرا: الصلاة، و ما ملكت أيمانكم، و كرّر هذا القول مرارا، و يقول في كلّ ساعة: أنفذوا جيش أسامة، و قال بعد ذلك: لعن اللّه من تخلّف عن جيش أسامة، و حوّل وجهه عمّن في المجلس، فلمّا رأوه فعل ذلك قاموا و لم يبق إلّا أمير المؤمنين و العبّاس و الفضل بن العبّاس، فقال العبّاس: يا رسول اللّه، و كيف نكون بعدك؟ قال: تظلمون و تغلبون، فصاح أهل البيت، فأقبل على عمّه العبّاس و قال: تقبل وصيّتي؟ فقال العبّاس:

عمّك شيخ و ما به على هذا الأمر طاقة، ثمّ قال لأمير المؤمنين: أتقبل وصيّتي؟

ص: 373

فقال: نعم، فأعطاه خاتمه و قال: ضعه في يدك، و أعطاه سلاحه و ما يرجع إليه من الثياب و الدراعة و السوط و نظير ذلك، و قال: خذها و أنا حيّ و تصرّف بها.

و لم يفارقه أمير المؤمنين عليه السّلام إلّا لضرورة، فلمّا أفاق لم يجده عنده، فقال: ادعوا لي أخي، فأسرعت عائشة و صاحبتها حفصة إلى دعوة أبيهما، فلمّا فتح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عينه رآهما عندها، فقال: إنّي لم أرد هذين، و قال لأمّ سلمة: ادعي لي عليّا، فلمّا جاءه ناجاه طويلا ثمّ وضع لسانه في فمه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم فتح اللّه لي من كلّ باب ألف باب، و أوصاه بوصاياه، فقال:

سوف أقوم بها جميعا طاعة للّه و رسوله، فقال رسول اللّه: يا عليّ، وقعت في النزع، فضمّ رأسي إليك، فإذا ما فارقت روحي بدني فأمرر بها على وجهك فسينفتح لك علم الأوّلين و الآخرين.

فبينما هم كذلك و إذا بأعرابيّ يطرق الباب، فقالت فاطمة: انصرف فإنّ رسول اللّه مريض، فعاد ثانية و طرق الباب، ثمّ الثالثة، و في كلّ مرّة لا يتوقّف عن قرع الباب، فخافت فاطمة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا فاطمة، افتحي له، فإنّه ملك الموت، هادم اللذّات، الذي فصل الأنبياء عن النبوّة، و أيتم الأطفال، و أخرب الديار، و أقسم باللّه أنّه لم يستأذن على أحد إلّا عليّ من لدن آدم إلى يومنا هذا، ففتحت الباب فاطمة عليها السّلام، فدخل ملك الموت و سلّم، و قال: إنّ اللّه يقرئك السلام و يقول لك: إن شئت البقاء خلّدناك، و إن شئت رضاي فاستسلم لأمر اللّه، و أمرني أن أفعل ما يرضيك، فقال رسول اللّه: و ما بعد ذلك يا ملك الموت؟ فقال:

آخره الموت و الفناء، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سلّمت لأمر اللّه.

و شرع ملك الموت يتولّى أمره، فبدأ بقدميه حتّى بلغت روحه ركبتيه، فعجز النبيّ عن التحمّل، فقال: إنّ أمّتي ضعيفة فهل تصنع بها هذا الصنيع؟ فقال ملك الموت: أقسم باللّه أنّي حملتك جزءا من ألف جزء من ألم الموت، فشفّع النبيّ

ص: 374

إلى اللّه أن يسهّل الموت على أمّته، فقبل اللّه تعالى شفاعته، و لمّا بلغت روحه التراق، شفع مرّة أخرى، فقال اللّه تعالى: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (1)، و لمّا فارقت رسول اللّه الروح مسح أمير المؤمنين بها وجهه و وجّهه إلى القبلة و أسبل يديه و أغمض عينيه، و ساعده الفضل بن العبّاس و أبوه، فكان الإمام يسكب عليه الماء و يناوله العبّاس الماء، و يقلّبه جبرئيل، فلمّا فرغ من جانبه الأيمن، قال:

يا رسول اللّه، بماذا تأمرني بعد ذلك؟ فانقلب على جهته الأخرى بإذن اللّه تعالى حتّى فرغ من تغسيلها.

و كان هذا المشهد ردّا على ما فعله أمير المؤمنين لرسول اللّه عندما وضعته فاطمة بنت أسد عليهما السّلام في المخضب بعد ولادته و غسله النبيّ غسل الولادة، فكان أمير المؤمنين يتقلّب على جنبيه من دون أن يقلّبه رسول اللّه، و هنا بكى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقالت أمّ أمير المؤمنين عليهما السّلام: لماذا بكيت يا ولدي؟ فقال رسول اللّه: كأنّي به هو الذي يغسّلني و أنا أتقلّب على اليمين و الشمال، و لمّا ثقل عليه الموت أمر بطست ملي ء ماءا فكان يضع فيه يده و يرشّه على صدره ليخفّف عنه ثقل وطأة الموت، و قال:

مر أمّتي أن تفعل ذلك.

قيل: جاء إبليس و الإمام مشغول بتغسيل النبيّ، و وقف بجانب البيت، و قال: يا عليّ، لا تغسل النبيّ فإنّه طاهر، و أراد اللعين أن يقدم النبيّ على ربّه من دون تغسيل، فقال أمير المؤمنين: أيّها اللعين، إنّ رسول اللّه و إن كان طاهرا إلّا أنّه أمرنا بتغسيله، ثمّ وضع عليه الكافور الذي جاء به جبرئيل عليه السّلام، و كان بمقدار أربعين درهما و قد قسمه رسول اللّه قبل موته إلى ثلاثة أقسام له و لفاطمة و الثلث الآخر لعليّ عليهم السّلام، فوضعه الإمام عليه السّلام على مساجده السبعة و مسح بشي ء منه الكفن و هو

ص: 375


1- الضحى: 5.

حلّة من الجنّة جاء بها جبرئيل، و صلّى عليه أمير المؤمنين، و قال: رسول اللّه إمامنا حيّا و ميّتا، و ليس لأحد ان يكون إماما بحضرته، و بقي في البيت يوم الثلاثاء و الأربعاء و الخميس فلم يتغيّر ريحه بل يزداد طيبا كلّما مرّ عليه يوم بعد يوم، بينما يسرع التغيّر إلى الميّت في المدينة كما قيل، و كان الناس يدخلون عليه أفواجا صغارا و كبارا، و ذكورا و إناثا، عشرة عشرة، و اثنتين اثنتين، و واحدا واحدا، و الأصحّ أنّه دفن في الليلة التي توفّي بها.

و اختلفوا في موضع دفنه، فقال عليّ عليه السّلام: إنّ أشرف بقاع الأرض للبقعة التي قبض عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فدفنه يكون هناك، فقبل الجمع قوله، و قال جمع من الصحابة: نحمله إلى الشام في مقابر الأنبياء (1)، فمنع عليّ من ذلك.

و كان العبّاس و أبو عبيدة بن الجرّاح يحفران لأهل مكّة، و زيد بن سهل يحفر لأهل المدينة، فأحضروه و قالوا له: احفر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قيل: إنّ قبر النبيّ حفره أبو طلحة، و لمّا تمّ الحفر شرع عليّ و العبّاس و أسامة بن زيد بدفن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و وقف المدنيّون وراء الباب، و قالوا: يا علي، نسألك حقّنا من رسول اللّه، و خذ أحدنا ليكون معك لننال هذا الشرف إلى يوم القيامة، فقال عليّ عليه السّلام: أرسلوا لنا «أويس الخويلي» (2) و كان رجلا صالحا من أهل بدر، فأرسله الإمام في اللحد و حمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّمه إليه و إلى العبّاس و الفضل ولده، فوضعوه في تراب القبر، و لمّا وضعوه في القبر أمر أمير المؤمنين القوم أن

ص: 376


1- لا شكّ أنّ هذا رأي عدوّه اللدود عمر بن الخطّاب لأنّه لا يريد أن يبقى لرسول اللّه ذكر في جزيرة العرب، و كأنّها ملك صهّاك.
2- لم أتعرّف على هذا الاسم في كتب الرجال، و ذكر ابن ماكولا عددا بهذا الاسم و لم يذكر أحدا منهم حضر دفن النبيّ، و قال ابن حجر: و الذي شهد الدفن الكريم هو أوس بن خولي قلبه بعض الرواة. (الإصابة 2: 293).

يخرجوا من القبر و نزل هو إلى القبر و وضع وجه رسول اللّه على التراب من جهة خدّه الأيمن، و حلّ عقدة الكفن من جهة الرأس، و وضع لبنة تحت خدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كالوسادة و وجّهه إلى القبلة، و أشرج عليه اللبن، و خرج من القبر، ثمّ أهال عليه التراب، و كان أسامة و العبّاس و الفضل ولده يساعدونه في تسوية القبر و إقامته، و هم يرتّلون قوله تعالى: «إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» و أقبل الناس على القبر يزورونه، و لكن كره الناس بعد ذلك زيارته لوقوع قبر العمرين إلى جانب قبره الشريف (1). و كان بعضهم يجافي الأدب عند قبر النبيّ حين يركل قبريهما برجليه.

و في العصر العبّاسي ردم باب القبّة و حرم الناس من زيارة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يقال:

إنّهم قصدوا بذلك أن يزوره الشيعة من غير الجهة التي فيها قبرهما، و لو كان قبرهما في غير هذا الموضع لأمكن لشيعتهما الفقراء زيارتهما بأمن و راحة.

و أمّا عثمان فقد دفن في موضع يقال له: حشّ كوكب و هو مقبرة لليهود و الكفّار (2)، و باعتبار أنّ الإجماع من المسلمين حصل على قتله من المهاجرين و الأنصار فإنّهم أبوا أن يدفن في مقابر المسلمين، و طرح في قبور أهل الذمّة، و لمّا آلت الحكومة إلى معاوية أدخل ذلك الموضع في مقابر المسلمين، و بلغني أنّه لم يدفن شيعيّ في ذلك الموضع، و لن يدفن إلى يوم القيامة إلّا أن يشاء اللّه تعالى.

ص: 377


1- ما ينفع الرجس من قرب الزكيّ و لاعلى الزكيّ بقرب الرجس من ضرر
2- بل هو كنيف لرجل يهودي ألقي فيه عثمان لعنه اللّه.

الباب الحادي عشر في بناء السقيفة

اشارة

و لمّا انتشر خبر وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الأطراف و الأكناف من ديار العرب، أقبل الرؤساء و الأمراء و قبال العرب للعزاء بوفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صاروا يتقاطرون على المدينة يعزّون بني هاشم، و كانوا مشغولين بإقامة العزاء عليه، فاغتنم الصحابة انشغالهم بالعزاء فرصة و قالوا: إذا فرغوا من العزاء فإنّ الأمر لا يتمّ لنا حتما، و ينبغي أن نسارع إلى اهتبال الفرصة لئلّا تضيع من أيدينا.

روي أنّ أوّل خلاف ظهر في الإسلام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قول عمر عن رسول اللّه: لم يمت بل غاب كما غاب موسى في الطور ثمّ رجع، و سيرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و من قال مات فسوق أقيم عليه الحدّ، فلمّا سمعه أبو بكر قام من فوره و دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كشف الغطاء عن وجهه و قال: مات رسول اللّه، و أخبر الناس بموته، فصدّق به بعض و لم يصدّقه آخرون (1).

ص: 378


1- لا أدري عن مصادر المؤلّف شيئا لأنّه لم يذكرها إلّا ما اقتضت الضرورة ذكرها، و ما أقلّها، و هنا خالف المؤلّف مؤرّخي الشيعة فقد أجمعت كلمتهم على أنّ عمر ما كان يجهل موت النبيّ و لكنّه أراد أن يحدث بلبلة في الأذهان و حالة ترقّب بينهم حتّى يرجع صاحبه في المؤامرة أبو بكر فقد-

و لمّا بلغت عليّا عليه السّلام هذه الأنباء دعا الناس و قال: أيّها الناس، إنّ اللّه تعالى يقول للنبيّ في حياته: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (1)، فقبل الناس قوله، و ارتفعت الضجّة و الصراخ من كلّ مكان: مات رسول اللّه، و لمّا أيقنوا بموته اضطربوا، و اقبلوا يأمون سقيفة بني ساعدة، و كان قد حضرها ساعتئذ عبد الرحمان بن عوف و خالد ابن الوليد، و سعد بن أبي وقّاص، و سعيد بن العاص القرشي، و أبو عبيدة بن الجرّاح، و سالم مولى حذيفة بن اليمان مع أبي بكر و عمر، و تشاوروا بينهم بشأن الخلافة، و اجتمع الأنصار من جهتهم عند سعد بن عبادة الخزرجي و كان مريضا قد أشفى، و قالوا له: أنت رئيسنا و إمامنا فمن خالفك قاتلناه، و كان قيس بن سعد يبلّغ الناس كلامه و هو يتكلّم، و قال: إنّ قريشا رهط النبيّ آذوه و أخرجوه قهرا من داره، و نحن الأنصار آويناه و أوسعناه له أكنافنا و نصرناه بالمال و الأنفس، فإذا كان رسول اللّه قد قبض فنحن أولى بخلافته من قريش.

و قيل: أوّل من دعى الناس إلى خلافة سعد خزيمة و قال: إنّ عليّا أعرض عنها و سكن في بيته مشغولا بعزاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا يستحقّها من قريش سواه، فلمّا سمع الأنصار كلامه أقبلوا على سعد بأجمعهم.

و المحقّقون من العلماء مجمعون على أنّ عمر بايع أبا بكر يوم وفاة النبيّ ثمّ خالد بن الوليد ثمّ بايعه جماعة ممّن يناصب أهل البيت العداء، و أخذوا الناس بالبيعة لأبي بكر أخذا شديدا، و ذكرنا في هذا الفصل المبادرين إلى بيعته توّا، و هم أفراد معدودون، و ذهبوا في تلك الليلة إلى عكرمة بن أبي جهل و الحارث بن شهاب

ص: 379


1- الزمر: 30.

و غيرهما و دعوهما إلى البيعة و أهدوا إليهما و أغروهما بالولايات، و بعثوهما إلى النواحي لأخذ البيعة.

و لمّا علم أبو سفيان بواقع الحال أقبل مبادرا إلى بيت عليّ عليه السّلام و قال: يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، أرضيتم أن يكون هذا الأمر في أخسّ بيت و أذلّه من قريش، و قرأ عليهم شعره:

بني هاشم لا يطمع الناس فيكم و لا سيّما تيم بن مرّة أو عدي

و ما الأمر إلّا فيكم و إليكم و ليس لها إلّا أبو حسن علي

أبا حسن فاشدد لها كفّ حازم فإنّك بالأمر الذي يرتجي ملي فقال له أمير المؤمنين: اسكت فإنّك لا تبتغي إلّا الفتنة، و تريد إفساد الأمّة و ليس الإصلاح، و إنّي مشغول بعزاء رسول اللّه، فلا أتركه و أذهب أنازع على سلطانه.

و قال جماعة: لم يتمّ أمر البيعة في اليوم الأوّل، و لمّا أصبح الصباح قال عمر لأبي بكر: أردت أمس بيعتك و لكن حيل دون ذلك، فقال أبو بكر: أنت أحقّ بها منّي، و عليّ مبايعتك، فقال عمر: أنت شيخنا و أنت الأحقّ و الأولى.

فلمّا كان اليوم الثالث عقدوا له البيعة، و أرضوا أبا سفيان فقطعوا لسانه لعنه اللّه و ذلك بوعده بتولية ولده يزيد على جيش أسامة بعد عزله، فلمّا تمّ لأسامة أربعون يوما عاد من رحلته، فأرسلوا يزيد بن أبي سفيان مكانه إلى الشام و بقي هناك لهذا السبب، و بقي معه معاوية أخوه ينوب عنه و عن الخلفاء.

و لمّا بلغت عليّا أخبار السقيفة، قال: كيف وقع ذلك؟ قالوا: وقع الخلاف بين المهاجرين و الأنصار، فقالوا: منّا أمير و منكم أمير، فغلبهم أبو بكر بما رواه من أنّ الأئمّة من قريش، فسلّم له الأنصار ذلك، فقال عليّ عليه السّلام: فإنّ قريشا شجرة

ص: 380

بنو هاشم ثمرتها، فكيف أنّ الصحابة احتجّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة (1).

و روت عائشة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه تعالى أنّه قال: قلّبت مشارق الأرض و مغاربها فلم أجد بني أب خيرا من بني هاشم، و كان عليّ هاشميّا من الأبوين؛ فأبوه أبو طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، و أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم.

قيل لعليّ: إنّ الحقّ حقّك فما بالك قعدت عنه؟ فقال: ماذا أصنع، إنّ على المسلمين طلب إمامهم إلّا أنّهم ذهبوا إلى آخر غيره ليس بإمام خلافا لقول اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و اليوم و النبيّ على فراش الموت و قد جاء الناس من كلّ حدب و صوب إليه للعزاء و أنا المعزّى به، فلو أذهب أطلب السلطان لسخر الناس منّي و عابوني بأنّي لم أصبر على عزاء رجل مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمسة أيّام و خرجت مخلّفا إيّاه جنازة على الفراش مطالبا بالملك، إنّ هذا لا يكون أبدا، و لا بدّ من مقامي هنا لقبول العزاء طوعا أو كرها، و لو فعل الناس فعل سلمان الفارسي و المقداد و عمّار بن ياسر و حذيفة و جندب و هو الذي نفاه أبو بكر من المدينة و أبو ذر و هو الذي نفاه عثمان إلى الربذة (2) و جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و خزيمة بن ثابت

ص: 381


1- جاء في نهج البلاغة: لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنباء السقيفة بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال عليه السّلام: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منّا أمير و منكم أمير، قال عليه السّلام: فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وصّى بأن يحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم؟ قالوا: و ما في هذا من الحجّة عليهم؟ فقال عليه السّلام: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصاية بهم، ثمّ قال عليه السّلام: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجّت بأنّها شجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله. فقال عليه السّلام: احتجّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة ... نهج البلاغة 1: 116 باب الخطب.
2- لم يتيسّر لي معرفة جندب المنفي، و لكن أبا ذر يدعى جندبا و نفاه عثمان، و لعلّ الأمر التبس على المؤلّف و أخشى أن تكون يدا امتدّت إلى الكتاب بالتحريف لكثرة ما أرى من خلطه مع فضله العظيم و اطّلاعه الجمّ.

و عبد اللّه بن عبّاس رضي اللّه عنهم فإنّهم صاروا إليّ و تركوا بيعة أبي بكر.

و رابط أسامة في المدينة أيّاما لينضمّ إليه الرجلان فيكونان من رعيّته و كان هدف النبيّ إبعاد المشاغبين عن سماء المدينة ليصفوا الأمر إلى بني هاشم و عليّ عليه السّلام، فقال الناس لأبي بكر: ليتك لم تبعث بأسامة إلى الروم ليقوم بردع من تسوّل له نفسه الخروج عليك أو من يأبى أن يبايع.

فذهب أبو بكر و عمر إلى أسامة: أيّها الأمير، أنت ترى ما عليه الصحابة فمرنا بأمرك هنا و اذهب مع الجيش حيث أمرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان غرضهما عزله بعد أن يستتب لهما الأمر، فأمرهما بأمره و ذهب إلى الشام تنفيذا لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا مضى عليه أربعون يوما بعثوا يزيد بن أبي سفيان ورائه و نحّوه عن إمارة الجيش، فجاء أسامة إلى المدينة و وقف على باب المسجد و قال: يا سبحان اللّه! بالأمس كنت أميرا عليهم بنصّ رسول اللّه و اليوم عزلوني بالقوّة و تأمّروا عليّ مستبدّين، فلم يعبأ أحد منهم بقوله، و كان سبب عزله أنّ أبا بكر كتب إليه أنّ المسلمين بايعوني و لم يبق سواك فهلّم و بايع، فأجابه أسامة: أنا أحد المسلمين و لا أرضى بك.

الفصل الأوّل: في خلاف الصحابة

فقام أسيد بن حضير (1) الأنصاري و خطب خطبة، فقال: معاشر الأنصار، أنا رجل ممّن يهوون سعدا و أوسيّ، و قد أكرمكم اللّه تعالى بهجرة النبيّ إليكم و نصرتكم إيّاه، و إنّي أرى أن لا تلوّثوا أنفسكم بالخلافة، و دعوا هذا الأمر لقريش، فوقع هذا القول من الأنصار موقع القبول.

ص: 382


1- حصين- المؤلّف.

فقام أرثم بن ساعدة الأنصاري فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: إنّكم تتداولون هذا الأمر مكرا و حيلة و هو حقّ أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فليس من العدل إدخال الظلم عليهم و أخذ الحقّ منهم و نصحهم كثيرا، فما استجابوا له و لم يتأثّروا بقوله.

فقام معن بن عدي الأنصاري و شتم أرثم و قال: إنّ أهل البيت في شغل شاغل بمصيبتهم و لا يمكن تأجيل أمر هذا الدين إلى حين فراغهم، و يجب تقديم أبي بكر.

فائدة: قيل: أراد أبو بكر و عمر الذهاب إلى بيت رسول اللّه للعزاء ثمّ يخرجون من هناك لتدبير أمر الحكم، و اضطرب الأنصار في أمر خلافة سعد بن عبادة فظهر الأمر للمغيرة بن شعبة فقام من ساعته و أقبل على أبي بكر و عمر و عثمان و شرح لهم واقع الحال و أعلمهم بما ينوي فعله الأنصار، فقال عمر: دفع حجّة الأنصار تقع على عاتق عليّ لأنّنا لا نقوى على ردّها.

فقال المغيرة لما يضمره من البغض لعليّ عليه السّلام و العداء: ما هذا الخذلان؟ و أيّ حليم يرضى بهذا؟ لو أشركت عليّا في أمرك لسدّ عليك الذرائع، و حكم هو و بنو هاشم و سوف نبقى ما دمنا أحياءا و أولادنا أسرى أولاد ابن أبي طالب، و نظلّ لهم خولا و رعيّة ما عشنا و عاشوا، لأنّ الرجل ملي ء علما و حجّته قويّة جدّا، إيّاك ثمّ إيّاك أن تشاوره في الأمر أو تشركه به فإنّ ذلك بعيد عن الصواب جدّا.

فقال عمر: لقد أصدقتني القول، فما العمل إذن؟! ارجع لننتبذ ناحية و نتداول الأمر بيننا كيف ندفعهم و نهتبل الفرصة مادام عليّ و بنو هاشم خارج الساحة، فقبض على يده و قصدا قصد السقيفة، و أحكما الخطّة، و أهل البيت كلمة واحدة على أنّ القوم لم يشهدوا تجهيز النبيّ و لم يحضروا الصلاة عليه، و اعتذروا عن عدم ذلك بأنّه فرض كفاية لا فرض عين، و لمّا حضره بنو هاشم سقط الوجوب عنّا، و اعتزالنا كان للدين لأنّه لا بدّ من نصب الخليفة، و ما علما أنّ رعاية مصلحة الدين

ص: 383

ليست إليهم بل هي للّه تعالى و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله صاحب الشرع.

و لمّا تمّ لهم الأمر قالوا لأبي بكر: اخطب خطبة تجمع الناس لتشتهر بينهم خلافتك، و نادى مناديهم في الناس أن اجتمعوا في المسجد، فاجتمعوا و قام أبو بكر خطيبا فيهم، و هي أوّل خطبة خطبها، و ذكرها أبو زيد عمر بن شبّة و هو من أكابر علماء أهل السنّة و الجماعة، و موثوقا به عندهم، و مع كلّ هذا فالإجماع حاصل عليها: يا أيّها الناس، إنّكم تكلّفون سنّة نبيّكم محمّد، ألا و إنّ لي شيطانا يعتريني فإذا اعتراني فاجتنبوني، لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم، و تعاهدوني بأنفسكم، فإذا استقمت فاتّبعوني، و إذا زغت (1) فقوّموني (2).

و روي أنّه قال: أيّها الناس، إنّي ولّيتكم و ليست بخيركم، إنّما أنا رجل منكم، و لكنّي أطولكم شغلا و أثقلكم حملا، و طاعتي ما أطعت اللّه فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم، و إن عدلت فاتّبعوني، و إن ملت فاعتزلوني، ألا و إنّ لي شيطانا يعتريني عند غضبي فاتّقوني لا أؤثر بأشعاركم و أبشاركم، أو يفرط منّي إليكم ما أندم عليه.

و هذه رواية الحسن البصري و هو المغالي في ولاء أبي بكر و طالما أثنى عليه.

و يا عجبا من رجل له شيطان يعتريه بحيث يؤثر في أموال الناس و أعراضهم و لم يكن معصوما بإقراره على نفسه أنّ الشيطان يستولي عليه، فكيف يجوز للمسلمين الاقتداء به؟! و أيضا لا يؤمن شرّه في كلّ أوقاته لأنّه معرض لعروض الشيطان عليه، و أيّ عاقل يشهد على نفسه هذه الشهادة و يعترف عليها بما لا يقوله العدوّ في عدوّه؟!

ص: 384


1- رغبت- المؤلّف.
2- يوجد هذا النصّ في تاريخ مدينة دمشق 30: 303 مع اختلاف يسير.

و لا يبعد أنّ الشيطان حمله على افتراء هذا الحديث «الأئمّة من قريش» و حديث نحن معاشر الأنبياء لا نرث و لا نورث ما تركناه صدقة، أو أنّ الشيطان أقرّه على تولّي أمر الخلافة و طلب البيعة من الناس لنفسه و إبطال حقّ عليّ في الإمامة.

و قال أيضا: فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم، و إن عدلت فاتّبعوني، فأثبت على نفسه جواز المعصية و أمر الرعيّة أن تمتنع من طاعته ساعة عروض المعصية له، و بناءا على زعمه هذا أن يكون إماما في وقت دون وقت.

نعود إلى أصل المطلب: و لمّا تمّ له الخلافة قام في وجهه ناس من صلحاء الصحابة و احتجّوا عليه بما يأتي إن شاء اللّه. فندم أبو بكر على قبولها و قال: أقيلوني فلست بخيركم و عليّ فيكم، و نزل من المنبر و دخل بيته، فارتفع البكاء و الصيحة من المسجد فقبض عبيدة بن الجرّاح على يد أبي بكر و أدخله داره و بقيت الفتنة تضطرم ثلاثة أيّام، و وقع الناس في هرج و مرج، و طال الأخذ و الردّ بينهم.

فجاء عثمان في اليوم الثالث و معه مأة من الرجال و مثله فعل أبو عبيدة و سالم مولى حذيفة، و جاء خالد بن الوليد في جمع عظيم و مثله فعل المغيرة بن شعبة و قد لبسوا السلاح و سلّوا السيوف، و جاء عمر و أخذ بيد أبي بكر و قال له: قم إلى المسجد، فامتنع أبو بكر أشدّ الامتناع، فقال عمر: أفي هذا الساعة بعد أن خاضت فينا ألسنة الناس، إنّك لو أبيت هذا الأمر فإنّ الناس يطعنون بنا إلى يوم القيامة فكان أبو بكر يمتنع و عمر يصرّ عليه و يقول: بالأمس سخرت منّا و بدأت عمل الخلافة و اليوم تستقيلها، فإمّا أن تذهب إلى تولّي الأمر و أّت موفور الاحترام و إلّا قتلتك.

فقال أبو بكر: إنّ الناس يحتجّون عليّ و أنا يدركني الحياء، فقبض عمر على يده و أخرجه من البيت و أجلسه على المنبر و قال: أيّها الناس، من قام من مجلسه هذا و كلّم الشيخ بما كلّموه به أمس ضربت عنقه.

ص: 385

فقام خالد بن سعيد و قال: أتخوّفنا بالسيف يا عمر، و لو لا طاعة اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و أنّ إمامنا عليّا لا يأذن لنا لعلمت من منّا الغالب و من المغلوب، و لكنّ طاعة إمامنا واجبة على كلّ حال.

سؤال: فيا للعجب كيف يصحّ أن يقع مثل هذا المنكر العظيم مع حضور عليّ و بني هاشم في وسط المعمعة فلا يغيرون و لا يستطيعون دفعا لما حدث بعد علمهم بالأمر و اطّلاعهم على واقع الحال، فما بالهم أخلدوا إلى السكوت؟

الجواب: نقول: شأنهم شأن هارون أخي موسى على نبيّنا و آله و عليهما السلام، فقد كان صاحبه و خليفته و يحيطه الآلاف من المؤمنين و عبد قومه العجل فلم يصنع شيئا يدفع به هذا المنكر إلّا عدم الرضا به، و نهيهم عنه، و كان آدم و معه آلاف من الملائكة في الجنّة و كفر إبليس بحضرتهم، و مثله يقال في نوح و إبراهيم و شعيب و سائر الأنبياء الذين كان لهم حضور في قومهم و كفروا باللّه العظيم فلم يملكوا القوّة الرادعة لمنعهم من هذا الكفر.

سؤال:

و مع علم أمير المؤمنين بحقّه و شجاعته الخارقة للعادة و قوّته الإلهيّة الضاربة كيف التئم معهم و صانعهم على باطلهم؟

الجواب: ممّا لا شكّ فيه أنّ درجة النبوّة أعلى من درجة الإمامة، و لمّا ذهب موسى إلى الطور و عاد منه و رأى ما رأى من قومه، أبان هارون عن عذره، فقال: يابن

ص: 386

أمّي ... إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي (1) و قال: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (2) أي أنّ الحلّ الوحيد هو إعلان الحرب عليهم و بذلك أخاف عليهم الفرقة و الانقسام فتكثر الفتنة و تزداد اشتعالا، و حينئذ نقول: إنّ عذر عليّ من جنس عذر هارون إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ (3).

و هنا وجدوا عليّا ضعيفا أي لا يملك العدد و المدد، و عبد الناس العجل، و كان عليّ عليه السّلام يكثر من قول: ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللّه، و مرّ هذا الباب مشروحا بأكثر ممّا قلناه هنا.

و لمّا بلغ بالقوم المقام إلى هذا الحدّ قالوا: لا يقف في وجوهنا شي ء اليوم، لكنّنا يتحتّم علينا أخذ البيعة من عليّ عليه السّلام بأيّة وسيلة كانت و إلّا بقي أمرنا على غير التمام، و لا ينتظم لنا أبدا أمر.

تقول عائشة: ما بايع عليّ و فاطمة على قيد الحياة ستّة أشهر بعد وفاة

ص: 387


1- الأعراف: 150.
2- طه: 94.
3- الأعراف: 150. هذا جواب واقعيّ و هو عين الصواب، فقد قال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة الجزء الثالث ص 301 و 302: سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن زيد، فقلت له: إنّي لأعجب من عليّ عليه السّلام كيف بقي تلك المدّة الطويلة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ و كيف ما اغتيل و فتك به في جوف منزله مع تلظّي الأكباد عليه؟! فقال: لو لا أنّه أرغم أنفه بالتراب و وضع خدّه في حضيض الأرض لقتل و لكنّه أخمل نفسه و اشتغل بالعبادة و الصلاة و النظر في القرآن و خرج عن ذلك الزي الأوّل و ذلك الشعار و نسي السيف و صار كالفاتك يتوب و يصير سائحا في الأرض أو راهبا في الجبال، فلمّا أطاع القوم الذين ولّوا الأمر صار أذلّ لهم من الحذاء (كذا) تركوه و سكتوا عنه. (بحار الأنوار 29: 139).

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، هذا على روايتها، و أمّا ما رويناه في ذلك فيختلف عنها، و مرّت شذرة من ذلك.

يقول جعفر بن محمّد الصادق عليهما الصلاة و السلام: لم يتمّ تجهيز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى تنكّروا لعهده و تجمّعوا على خلاف ما أمرهم به.

شعر:

من مبلغ عنّا النبيّ محمّداأنّ الورى عادوا إلى العدوان

إنّ الذين أمرتهم أن يعدلوالم يعدلوا إلّا عن الأيمان

غصبوا أمير المؤمنين مكانه و استأثروا بالملك و السلطان

بطشوا بفاطمة البتول و أخذوا (1)ميراثها طعنا على الفرقان فلمّا فرغ الإمام من دفن النبيّ و الاشتغال بعزائه قيّد نفسه بجمع القرآن، و ائتمّ به الشيعة و لم يبق معه إلّا النزر اليسير من الصحابة.

و قال عمر لأبي بكر: إنّ جماعة الناس بايعونا ما عدا عليّا فأرسل إليه من يحضره للبيعة، فبعث عمر قنفذ لعنه اللّه- و هو ابن عمّه- إلى أمير المؤمنين، فقال:

أجب خليفة رسول اللّه. فقال عليّ عليه السّلام: ما أسرع ما كذبتم على رسول اللّه! و نكثتم فارتددتم، و قال لقنفذ: إنّما أنت سمّيت نفسك بهذا الاسم.

فلمّا بلّغه قنفذ الرسالة، قام عمر مغضبا و أقبل يريد عليّا، فاستوقفه أبو بكر و قال: صدق عليّ ما أنا بخليفة لرسول اللّه، و قال لقنفذ: اذهب إليه و قل له:

أمير المؤمنين يدعوك، فأبلغه قنفذ الرسالة، فقال عليّ: يا قنفذ، قل له: إنّك انتحلت اسما هو لغيرك، فقد لقّب رسول اللّه غيرك به و هو لقبي الذي وضعه رسول اللّه عليّ.

ص: 388


1- لا يستقيم وزن الصدر إلّا إذا وضعنا مكان «أخذوا»، «صادروا».

و بلّغ قنفذ أبا بكر قول عليّ، فهبّ عمر واقفا و قال: إنّ أمرنا لا يتمّ بغير قتل عليّ، و سآتيك برأسه من ساعتي هذه، فأقسم عليه أبو بكر أن يجلس، و قال لقنفذ:

اذهب إليه و قل له: أبو بكر يدعوك إليه، فجائه قنفذ فأبلغه ما قاله أبو بكر، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و ما كنت بالذي أترك وصيّة حبيبي و أخي إلى باطلكم، و ما اجتمعتم عليه من الجور و الفساد في أمّة محمّد.

فرجع قنفذ و أبلغهم الذي سمعه من عليّ، فغضب عمر غضبا شديدا و دعا خالدا بن الوليد و جماعة من المنافقين، فجمعوا الحطب و أقبلوا إلى بيت فاطمة به و هي لا تعلم لما داهمها من شدّة المصاب، و قد جلست جلسة الحزين مطأطأة الرأس، و قد بكت كثيرا فأصابها ألم برأسها عليها السّلام، و ما فتئت تنشأ المرثية بعد الأخرى لفراق أبيها، و ما زالت يغشى عليها مرّة و تفيق أخرى، فإذا تذكّرت أباها رسول اللّه دعت الحسنين إليها و نظرت إليهما و قالت: أين أبو كما الذي يكرمكما؟

أين أبو كما الذي كان أشدّ الناس شفقة عليكما؟ أين أبوكما الذي كان لا يدعكما تمشيان على الأرض؟ إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، لا أرى جدّكما يفتح هذا الباب لا يحملكما على عاتقه.

لفاطمة عليها السّلام:

و كنّا كغصني بانة وسط روضةففرّقنا ريب الزمان الموارب

كذا الموت لا يبقى خليلا لخلّةأنوح و أشكو لا أراك مجاويي

فيا ساكني الصحراء علّمني البكاو حزنك أنساني جميع المصائب

إذا اشتدّ شوقي زرت قبرك باكياأنوح و أشكو لا أراك مجاويي

فإن تك عنّي في التراب مغيّبافما أنت عن قلبي الحزين بغائب و بينما هم كذلك و إذا بعمر و معه أصحاب العناد و النفاق على الباب، و قال عمر:

يابن أبي طالب، افتح الباب و إلّا أضرمنا عليك الدار نارا. فقالت فاطمة عليها السّلام: اتّق

ص: 389

اللّه يا عمر في حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لا تدخل فإنّه عليك حرام، فعاندها عمر و دخل البيت مع المنافقين، فصاحت فاطمة: يا أبتاه، ما لقينا من أبي بكر و عمر بعدك، و رفع عمر سيفه و هو في غمده فضرب به جنب مولاتنا فاطمة عليها السّلام (لعن اللّه عمر بن الخطّاب- المترجم) و ضربها قنفذ لعنه اللّه بالسوط على متنها، فصاحت فاطمة: يا أبتاه، ما لقي أهل بيتك من أبي بكر و عمر من بعدك.

فنهض أمير المؤمنين و أمسك عمر من تلابيبه و جلد به الأرض و أراد قتله، فتذكّر وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأطلقه، و كان من المنظرين: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (1)، و قال: يابن صهّاك الحبشيّة، لو لا وصيّة سبقت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلمت أيّنا الأضعف، و اللّه لقد همّ رسول اللّه بقتلك و أمرني بذلك، فجائت هذه الآية: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (2).

و جاء عمر المدد و سلّ خالد سيفه ليقتل به عليّا، فسلّ الزبير سيفه على خالد، فأقسم عليه الإمام أن لا يفعل، فجاء سلمان و المقداد و أبو ذر مددا لعليّ، و لكن جيش النفاق تغلّب عليهم و أخرجوا عليّا معهم من بيته و ورائه فاطمة تصيح، و المسلمون يقولون: ما أسرع ما نسيتم رسول اللّه و أخرجتم الضغائن التي في صدوركم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، ذهب الإسلام اليوم.

و قال بريدة لعمر: أتظلم أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنت الذي تعرفه قريش.

و جاء خالد و معه السيف في الغمد و أوقف أمير المؤمنين قبال أبي بكر، فصاح أبو بكر ليوهم الناس: خلّوا سبيله، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام لأبي بكر: أغدرتم بأخي رسول اللّه و ظلمتموه، بأيّة حجّة تدعو الناس إلى بيعتك؟ أنسيت اليوم

ص: 390


1- الحجر: 37- 38، ص: 80- 81.
2- مريم: 84.

الذي بايعتني به بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لقد توفّي رسول اللّه و هو غاضب عليكم، و كنت أنت العاصي.

فقال أبو بكر: دعنا من أباطيلك و هلّم فبايع و إلّا ضربت عنقك.

فقال عليّ عليه السّلام: إذن أكون عبد اللّه و أخا رسوله المقتول، و لو لا وصيّة رسول اللّه لأريتكم تفاهة شأنكم و عجزكم عن مقارعتي.

فقال بريدة لأبي بكر: أمس أمرك رسول اللّه بالسلام على أمير المؤمنين عليه السّلام، باللّه أقسم لا أبقى في بلد أنت فيه، فأمر أبو بكر بتعتعته و إخراجه بعيدا من المجلس.

فقام سلمان و كانت له مع أبي بكر و عمر عداوة ظاهريّة، و وعظ أبا بكر و أبان عن فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام، ثمّ قام من بعده مقداد و أبو ذر و وعظا القوم كثيرا، و قالا في الختام: لو كنّا نعلم بأنّ الظلم يدفع عن أهل البيت بقتالنا لسللنا سيوفنا و قاتلنا حتّى يستقيم أمر العترة، و يعود الحقّ إلى صاحبه.

و كان أبو بكر على المنبر و القوم يخاطبونه حتّى قال له عمر: مالك ساكت، مره حتّى يبايع و إلّا ضربنا عنقه، و بكى الحسن و الحسين حين سمعا بهذا و كانا مع أبيهما، و أبكيا جماعة ممّن حضروا مثل أبي ذر و بريدة و سلمان و المقداد و آخرين، فضمّهما عليّ عليه السّلام إلى صدره، و لمّا سمعت أمّ أيمن بكاء الحسنين، قالت: يا أبا بكر، أأظهرتم النفاق و أغلظت لهم القول.

فقال أبو بكر: يا علي، بايع، قال: فإن لم أفعل فما أنت صانع؟ قال: أضرب عنقك، فكرّر القول ثلاث مرّات لإكمال الحجّة، و في جميع ذلك يقول أبو بكر:

نضرب عنقك.

فقام خالد المنافق و قبض على تلابيب أمير المؤمنين، فصارعه أبو ذر و قال له:

إنّ عداوتك و عداوة أبيك لرسول اللّه و أهل بيته قديمة، و اليوم أبنت عنها.

فخاف أبو بكر الفتنة على نفسه من العامّة فنزل عن المنبر و ضرب بيده على يد

ص: 391

أمير المؤمنين موهما أنّه بايع و كان يقول كاذبا: إنّ عليّا بايعني، فبايعوني أنتم أيضا.

فخرج أمير المؤمنين عليه السّلام من هناك و معه سلمان و المقداد و بريدة و الحسن و الحسين عليهما السّلام و ذهبوا إلى ضريح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و شكوا إليه غدر الصحابة، و أقبل جماعة من المسلمين على عليّ عليه السّلام و قالوا له: عزّ و اللّه علينا ما صنع بك بعد رسول اللّه، ادعنا إلى ما شئت فإنّا لك بحيث تحبّ.

فعلم أمير المؤمنين بأنّ المنافقين يفوقون المؤمنين بالعدد، فنهاهم عن الخروج لأنّهم لا يملكون العدّة و العدد الكافيين.

و كانت فاطمة عليها السّلام تستنهض الأنصار؛ الصغار و الكبار، و قيل: إنّها خرجت و هي مريضة إلى بيوت الأنصار تستنهضهم و تستعين بهم لإتمام الحجّة عليهم، و عليّ و الحسنان عليهم السّلام معها، فلم يجبها أحد منهم، و كان جوابهم لها واحدا: ليس لنا بالقوم طاقة لأنّهم أقوياء و حريصون على الظلم.

و يقال: إنّ معاذ بن جبل سأل أباه: ما كان غرض فاطمة في مجيئها إليك؟ فقال:

طلبت منّي نصرها على ظالميها فلم أجبها لذلك، فغضب على أبيه و قال: لا كلّمتك من رأسي أبدا، أتأتيك بنت رسول اللّه مستصرخة ثمّ تخرج آيسة من نصرك.

و قيل: إنّ فاطمة أسقطت المحسن لضرب عمر (لعنه اللّه- المترجم) إيّاها على بطنها.

و لمّا أدركها اليأس من نصرة أصحاب أبيها لها عادت إلى بيتها مهمومة مغمومة، و جلست في بيتها حتّى غصبوا فدكا منها، فلمّا فعل الرجل ذلك جاءت إليه و قالت: يا أبا بكر، أما علمت بأنّ فدكا لي حتّى غصبتها، و وعظته وعظا كثيرا، فطلب أبو بكر بياضا ليكتب لها كتابا بفدك، فسأله عمر: يا خليفة رسول اللّه، ماذا

ص: 392

تصنع؟ فقال: جائت ابنة رسول اللّه و ادّعت أنّ رسول اللّه نحلها فدكا في حياته (1)، فتناول البياض من يد أبي بكر و خرّقه، و قال: أيّتها المرأة، ايتينا بشاهد أنّ رسول اللّه أعطاك فدكا، و كان مع الزهراء عدد من النساء فاتّجهت من بينهنّ إلى أمّ أيمن و قالت: يا أمّ أيمن، اشهدي بما تعلمين.

فقالت أمّ أيمن لا أشهد حتّى تشهدوا بما قاله لي رسول اللّه في بيته من أنّي امراة في الجنّة، فقالوا: نعم سمعناه قال ذلك. ثمّ قالت: ناشدتكم اللّه أما سمعتم قول النبيّ:

من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار؟ فصاحوا بأجمعهم: اللهمّ نعم. قالت:

فلو كذبت على رسول اللّه لبدّل اللّه بيتي الذي في الجنّة إلى بيت في النار. ثمّ قالت:

أشهد أنّ رسول اللّه تصدّق على فاطمة بنته بفدك، و شهد أمير المؤمنين أيضا.

فقام عمر مغضبا، و قال: لا نقبل شهادتك لأنّك امرأة من العجم و لا تفهمين العربيّة، و عليّ يجرّ النار إلى قرصه (2).

الفصل الثاني: في وفاة فاطمة عليها السّلام

فعادت فاطمة إلى البيت منهم غاضبة، و أنشبت العلّة فيها أظفارها، فكانت

ص: 393


1- رحم اللّه المؤلّف، يظهر من كلامه أنّ أبا بكر ألين من عمر عريكة، و أحسنه طريقة، و لكنّ الواقع أنّه شرّ منه لشقوته و نكرانه جميل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنّه صاحب المزاج العصبي الذي أحرق آلاف المسلمين شيبا و شبّانا و صبيانا، ذكورا و إناثا فيما أطلق عليه حروب الردّة و هو صاحب الفكرة في سحب عليّ من بيته و إحراقه عليهم، و هو صاحب التهديد بضرب العنق، و هو صاحب الجرائم الكبرى التي سطرها الطبري في تاريخه، و لك أن ترجع إليه لتعرف سرّ ما أقول لك، فلعنه اللّه و أخزاه.
2- فما لأبي بكر لا يجيب؟! فهل قطع اللّه لسانه يومذاك؟! إنّي أردّ كثيرا ممّا قاله المؤلّف حيث يضفي شكلا من أشكال الخير على أوّل ظالم ظلم حقّ محمّد و آل محمّد، لعنه اللّه.

تزداد في كلّ يوم ذبولا، إلى أن مرّ عليها أربعون يوما و هي راقدة على فراش المرض من ظلمهم لها.

فأقبل أبو بكر و عمر لعيادتها، فلم تأذن لهما فاطمة عليها السّلام، فظهر الجزع على أبي بكر، و قال: و اللّه لا أعود إلى بيتي حتّى تأذن لي فاطمة، و ترضى عنّي، و خرجت فاطمة تلك الليلة إلى البقيع.

و رأى عمر أمير المؤمنين في تلك الليلة و قال: و اللّه إنّ أبا بكر صادق فيما قال، و قد أقسم باللّه لا يذهب إلى بيته حتّى ترضى عنه فاطمة (1)، فلو استأذنت فاطمة في زيارتها عسى أن تأذن له بشفاعتك.

و كان أمير المؤمنين عليه السّلام طاهر القلب، سليم النفس، فقال: أفعل إن شاء اللّه.

فأقبل عليها و قال لها: يابنة العم، و يابنة خير خلق اللّه، إنّ أبا بكر و عمر استأذنا في زيارتك و طلب رضاك و العفو عمّا بدر منهما بحقّك.

فقالت فاطمة عليها السّلام: يابن العمّ، المنزل منزلك و الإذن فيه إليك، و النساء تبع للرجال، فسمعا و طاعة، فاصنع ما بدالك، و أعوذ باللّه أن أعصيك طرفة عين، و أذنت لهما و قالت: يا علي، ألحفني الثوب، و قالت لنساء بحضرتها: حوّلن وجهي إلى الحائط.

فأقبل الرجلان و سلّما، فلم تردّ عليهما، فقال أبو بكر: نحن إنّما جئنا لطلب رضاك يابنة رسول اللّه قبل موتنا و نريد منك إبراءا للذمّتنا.

فقالت فاطمة: لا و اللّه و لا كرامة، ثمّ قالت: أريد أن أسألكم و أريد أن تصدّقاني إن صدقتما، و بعد ذلك أقول ما يصلحنا.

ص: 394


1- لو كان صادقا فيما يقول لردّ عليها ما أخذه منها و تنحّى لهم عن إمامتهم، و أعلن التوبة عسى اللّه أن يتوب عليه، أمّا أن يظهر الندم و هو مصرّ على ما فعل فإنّما هي دموع التماسيح.

قالا: لنصدّقنّك.

قالت: أما قال أبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فاطمة بضعة منّي، من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه؟

فقالا: أجل و اللّه لقد سمعناه قال ذلك.

ثمّ قالت فاطمة: اللهمّ إنّي أشهدك و جميع ملائكتك و رسلك و جميع من حضر أنّهما آذياني في حياتي بعد موت أبي، أخرجا عنّي، و اللّه لا رضيت عنكما حتّى ألقى أبي و أبثّه الشكوى، و أخبره بما ظلمتماني به.

فقام أبو بكر خزيان يدعو بالويل و الثبور، و خرج من عندها، فقال عمر: ما أعجبك، ويل للقوم الذين أمّروك عليهم، و ما زال به حتّى استلّ السخيمة من نفسه، و قال له: كيف يجزع الرجل لقول امرأة و يفرح لرضاها.

و بقيت الزهراء طريحة الوسادة و قيده أربعين ليلة إلى أن دنى أجلها، فاستدعت عليّا عليه السّلام و أسماء بنت عميس الخثعميّة و أمّ أيمن، و قالت: أخبروني بموتي و أنّي أوصيكم. فقال عليّ عليه السّلام: أوص بما شئت. فأوصت فاطمة بوصيّتها، فقالت: يا علي، إنّي حفظت رضا اللّه و رسوله و رضاك لأنّك زوجي، و لم أكذب قطّ، و لم يرتفع صوتي بالقهقهة، و قالت جملا مثل ذلك، ثمّ قالت: تزوّج أمامة من بعدي، فإنّها امرأه مشفقة على أولادي (1)، و إنّي أرى الملائكة قد حضروا لتجهيزي، و ينبغي أن تحضر أسماء و فلانة و فلانة إلى أربع نسوة غسلي، و ادفنّي يا علي ليلا لئلّا يحضر عدوّ اللّه و رسوله جنازتي، و لئلّا يصلّوا عليّ.

ص: 395


1- لم يقل عن أمامة أنّها ابنة أخت الصدّيقة عليها السّلام لأنّه ذهب إلى ما ذهب إليه صاحب الاستغاثة من كون زينب و رقيّة من رجل تميميّ تزوّج هالة أخت خديجة فأولدها إيّاهما، و لكن فات المؤلّف أنّ زينب لو كانت بنت هالة لم يزوّجها النبيّ من أبي العاص لأنّه ابن هالة أيضا فيكون أخاها من جهة الأمّ فكيف يتزوّجها، يا ناس! أرجو أن يفتح عينيه جيّدا من يذهب هذا المذهب.

و لمّا أسلمت الروح عليها السّلام فارتفعت الصيحة من نساء قريش، فبكى الحسن و الحسين و أمّ كلثوم على أمّهم، و بكى الناس لبكائهم، فجاء أبو بكر و عمر إلى عليّ و عزّياه عنها، فلم يجبهما أمير المؤمنين، و قالا: لا بدّ من إخبارنا لحضور جنازتها و الصلاة عليها، فلم يجبهما أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال عمر: إنّ عليّا لا يجيب لحزنه ممّا نزل به.

فخرج سلمان و قال: اذهبوا إلى بيوتكم فقد أخرّنا تجهيز الزهراء.

فقال عمر: أقسم باللّه ما أرادوا بالتأخير إلّا دفنها سرّا فلا نحضر جنازتها.

فلمّا تفرّق القوم و مضى هزيع من الليل أحضروا نعش فاطمة، و دار به عليّ و الحسن و الحسين و سلمان و أبو ذر و المقداد و العبّاس و ولداه عبد اللّه و الفضل، و حضرها عقيل بن أبي طالب و عبد اللّه بن جعفر و بريدة و عمّار و الزبير و أسامة و بنات عليّ و نساء من قريش، و صلّى الحاضرون على جنازة الزهراء عليها السّلام ثمّ دفنوها إلى جانب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من جهة منبره.

فلمّا أصبح الصباح اجتمع الناس عند بيت فاطمة عليها السّلام للصلاة عليها، فلمّا بصر المقداد بأبي بكر، قال: إنّنا ألحدناها ليلا.

فقال عمر: ألم أخبرك يا أبا بكر بما ينوون.

فقال المقداد: إنّ فاطمة أوصت بذلك لئلّا تحضروا جنازتها.

فرفع عمر يده و ضرب المقداد على وجهه، و ما زال يضربه حتّى كلّ من الضرب، فحال الحاضرون بينهما، و خلّصوا المقداد من شرّه.

فلمّا خلص المقداد من يده استقبله بوجهه و قال: لا عجب من ضربك إيّاي فقد ضربت بنت رسول اللّه بالسيف- و هو مغمد- على جنبها فأدميته و ألهبت متنيها بالسوط حتّى ماتت على هذه الحالة، و أنا أدنى منزلة منها و من بعلها.

و لمّا سمعوا هذا الكلام منه، قالوا: و اللّه لأحقّ الناس بالضرب و العقوبة عليّ بن

ص: 396

أبي طالب، و أقبلوا نحو عليّ و إذا به جالس على باب داره، فدار به أصحابه، و ناداه عمر: يابن أبي طالب، ما أنت بتارك حسدك القديم، غسّلت رسول اللّه من دون علمنا، و صلّيت على فاطمة و لم نحضرها، و حملت الحسن على أن يخاطب أبا بكر قائلا: انزل عن منبر أبي.

فاحتقره عليّ عليه السّلام و لم يجبه، فانبرى عقيل للجواب، و قال: و أنتم و اللّه لأشدّ الناس حسدا و أقدم عداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته، ضربتموها بالأمس و خرجت من الدنيا و ظهرها بدم (1) (كذا) و هي غير راضية عنكما، فمدّ عمر يده إلى عقيل، فلمّا بصره به عليّ يفعل هذا أخذه من تلابيبه و قال: و اللّه ما أراك تنتهي يابن الخطّاب حتّى نتكلّم بما فيك!!

و قام بنو هاشم يظاهرون عليّا عليه السّلام و نهض معهم الزبير بن العوام و العبّاس و عبد اللّه بن جعفر و سلمان و المقداد و أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب و أبو ذر و عمّار و خيار المؤمنين الصحابة مددا لعليّ عليه السّلام، و سلّ خالد السيف على عليّ، فقال له عليّ عليه السّلام: يا فاسق الخبيث، ما كان ظالما أشرّ على رسول اللّه بسيفك هذا أنت و أبوك (2)، فقام أبو بكر و قبض على يد عليّ و قال له: اجلس يا أبا الحسن، فقال:

ص: 397


1- هكذا وردت الكلمة، و الصحيح أنّها «مدمى».
2- من الواضح أنّ أخبار المؤلّف هذه لم يعزها إلى أحد و لم يشر إلى مصدرها و ليس لها سند للنظر فيه، و الذي يجعلها مقبولة عندنا الثقة بناقلها رحمه اللّه، و مع انعدام المصدر يذهب البحث و التحرّي سدى، و هذه العبارة مغلوطة و لم أستطع التأكّد من صحّتها لعدم الثور على راويها أو الكتاب الذي أخذها المؤلّف منه لذلك تركتها كما ذكرها المؤلّف، ثمّ هو لم يترجمها لأهتدي إلى صيغتها الصحيحة من معنى العبارة المترجمة إليها و أحيط القارئ علما بانّ كثيرا من هذه الأخبار عثرت عليه لأوّل مرّة في كتاب الكامل على أنّ بعض السياقات أشكّ في صحّتها لتكرّر الضرب و الاقتتال و سلّ السيوف بين كلمة و كلمة، و هذا إن لم يكن عجيبا من الخصوم فهو عجيب من أهل البيت عليهم السّلام.

كلّا بل نذهب إلى القبر فنجلس بينه و بين المنبر.

فلمّا بلغوا المكان أقسم أمير المؤمنين هناك قائلا: بحقّ المنبر و من فيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوصاني أن لا يرى جسمي أحد سواك و من رأى عورتي عمي، فقلت: يا رسول اللّه، من يعينني؟ قال: جبرئيل و الملائكة، فغسّلت رسول اللّه و عصّبت عيني الفضل بن العبّاس، و كان ينقل لي الماء و الملائكة تقلّب رسول اللّه كما أريد، فأردت أن أخلع قميصه فهتف بي هاتف فكنت أسمع صوته و لا أرى شخصه: لا تنزع الثوب من رسول اللّه، فأحضرت الحنوط و الكفن و أدرجت رسول اللّه في كفنه و خلعت بعده قميصه.

و أمّا الحسن فقد كان معلوما لديكم أنّ النبيّ إذا خطب يأتي و يجلس على كتفي النبي و يضع رجليه خلفه في عنقه، فلمّا وقعت عينه على غير جدّه على المنبر غضب الطفل و آلمه ذلك، فقال: انزل عن منبر أبي، و أقسم باللّه أنّي ما علّمته الذي قاله.

و أمّا ما كان بينكما و بين فاطمة فهو معلوم لديكما، و لقد ماتت غاضبة عليكما و أوصتني و قالت: إن هما صلّيا عليّ شكوتك إلى أبي بمثل الذي أشكوهما، فكرهت أن أغضبها.

قال الإمام الصادق عليه السّلام: تحالف القوم على قتل أمير المؤمنين، و قالوا: لن يخلو لنا الجوّ حتّى نقتل عليّا، فدعوا خالدا و قالوا: لنا إليك حاجة، إن قبلتها. قال:

أطعتكما و لو أمرتماني بضرب عنق عليّ بن أبي طالب. فقالا: هذا هو ما نريده منك. فاتعدوا على أن يأتي خالد بالسيف عند صلاة العتمة فإذا رفع أبو بكر صوته بالصلاة علاه خالد بالسيف.

و جائت أسماء بنت عميس ليلا و أخبرت عليّا بما ينوي الرجلان من قتله بيد خالد بن الوليد، و أمرته بالحذر، فندم أبو بكر و هو في الصلاة، فسلّم إخفاتا لئلّا

ص: 398

يسمعه خالد و قال: لا يفعلنّ خالد ما أمرته فإن فعل لأضربنّ عنقه، و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.

و أجاز المخالفون التكلّم في الصلاة بناءا على فعل أبي بكر.

فقبض أمير المؤمنين عليه السّلام على يد خالد و قال: أأنت فاعل ما أمروك به؟ فقال خالد: نعم، و اللّه أردت ضرب عنقك بالسيف، فقبض الإمام على قلاصمه حتّى كاد يختنق، و نهض عقيل يخاصم خالدا و يدافع عن أخيه و يطلق لسانه في أبي بكر و عمر.

ثمّ قال عمر: و اللّه لأستخرجنّ فاطمة من قبرها و لأقيمنّ الصلاة عليها، فقال عليّ: لو فعلت ذلك لأجرّدنّ سيفي فيكم حتّى أقتل، و اجتمع نساء بني هاشم في المسجد و صحن بصوت واحد: أردتم قتل رسول اللّه فلم تقدروا عليه فقتلتم ابنته بالأمس و تريدون قتل أخيه، و اغوثاه باللّه و برسوله، ما من منكر فينكر، ما من مسلم يقوم فيتكلّم بالحقّ بما صنع بوصيّ رسول اللّه و خليفته من بعده، فلم يجبهنّ أحد إلّا نفر قليل من المسلمين.

فخرج عليّ من بينهم و تبعه بنو هاشم، و أقبل على قبر النبيّ و أرخى عينيه بالدموع فبكى بكاءا كثيرا.

قال ابن عبّاس: ما إن وقعت عين عليّ عليه السّلام على قبر رسول اللّه حتّى قال: ي ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي (1)، إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (2)، و أقسم على الناس فرجعن من حيث جئن.

ص: 399


1- الأعراف: 150.
2- طه: 94.

الفصل الثالث

سأل أبان بن تغلب من الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: يابن رسول اللّه، أما ردّ أحد من الصحابة على مدّعي الإمامة؟ فقال: بلى، ردّ عليهم اثنا عشر رجلا من أصحاب رسول اللّه و هم: خالد بن سعيد بن العاص، و المقداد، و أبيّ بن كعب و عبد اللّه بن مسعود، و عمّار، و أبوذر الغفاري، و سلمان، و بريدة من المهاجرين، و من الأنصار: خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، و سهل بن حنيف، و أبو أيّوب، و أبو الهيثم بن التيّهان.

اجتمع هؤلاء و تعاهدوا على جذب أبي بكر من المنبر، و قال أحدهم: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (1)، قالوا: نذهب إلى عليّ عليه السّلام نستشيره.

فقال عليّ عليه السّلام: لو فعلتم ذلك لكنتم كالمال المنهوب لا يأتي بشي ء، و كالملح المذاب في المرجل، إنّ القوم رجعوا إلى جاهليّتهم الأولى و أظهروا العداوة للّه و رسوله، و أظهروا حقدهم القديم، و إنّ رسول اللّه أخذ عليّ السكوت و إلّا استأصلت أنا و أهل بيتي، و أنا شاورت أهلي فرأوا الصواب فيما أفعل لعلمهم أنّ قلوب القوم ملئت بالعداوة للّه و رسوله، و قال لي رسول اللّه: عليك بالصبر حتّى ينزل الأمر، ألا و إنّهم سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلا إلى إذلالك و سفك دمك، فإنّ الأمّة ستغدر بك بعدي كذلك أخبرني جبرئيل عن ربّي (2).

ص: 400


1- البقرة: 195.
2- و الرواية ذكرها الشيخ في الخصال و لكن بسياق آخر قريب من سياق المؤلّف و نحن نأتيك به ليكون مائز بين رواية المؤلّف المترجمة و بين الأصل. عن زيد بن وهب قال: كان الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة و تقدّمه على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام اثني عشر رجلا من المهاجرين و الأنصار، و كان من المهاجرين: خالد بن سعيد ابن العاص و المقداد بن الأسود و أبيّ بن كعب و عمّار بن ياسر و أبو ذر الغفاري و سلمان الفارسي و عبد اللّه بن مسعود و بريدة الأسلمي، و كان من الأنصار خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و سهل بن حنيف و أبو أيّوب الأنصاري و أبو الهيثم بن التيّهان و غيرهم، فلمّا صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره، فقال بعضهم: هلّا نأتيه فننزله عن منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم، و قال اللّه عزّ و جلّ: «و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»، و لكن امضوا بنا إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام نستشيره و نستطلع أمره. فأتوا عليّا عليه السّلام فقالوا: يا أمير المؤمنين، ضيّعت نفسك و تركت حقّا أنت أولى به، و قد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإنّ الحقّ حقّك و أنت أولى بالأمر منه، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك. فقال لهم عليّ عليه السّلام: لو فعلتم ذلك ما كنتم إلّا حربا لهم، و لا كنتم إلّا كالكحل في العين أو كالملح في الزاد، و قد اتفقت عليه الأمّة التاركة لقول نبيّها، و الكاذبة على ربّها، و لقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلّا السكوت لما تعلمون من وغر صدور القوم و بغضهم للّه عزّ و جلّ و لأهل بيت نبيّه عليهم السّلام، و أنّهم يطالبون بثارات الجاهليّة، و اللّه لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدّين للحرب و القتال كما فعلوا ذلك حتّى قهروني و غلبوني على نفسي، و لبّبوني، و قالوا لي: بايع و إلّا قتلناك، فلم أجد حيلة إلّا أن أدفع القوم عن نفسي و ذاك أنّي ذكرت قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، إنّ القوم نقضوا أمرك و استبدّوا بها دونك و عصوني فيك، فعليك بالصبر حتّى ينزل الأمر، ألا و إنّهم سيغدرون بك بعدي، كذلك أخبرني جبرئيل عليه السّلام عن ربّي تبارك و تعالى، و لكن ائتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيّكم و لا تجعلوه في الشبهة من أمره ليكون ذلك أعظم للحجّة عليه و أزيد و أبلغ في عقوبته إذا أتى ربّة و قد عصى نبيّه ... الخ. و اقتصرنا في الهامش على هذا المقدار من رواية الخصال، و أتممنا بما تبقّى من الرواية سياق المؤلّف في المتن لأنّه لا يختلف عنه إلّا بجمل بسيطة جدّا، و قد وضعنا ما اختلف بين قوسين أو حاصرتين تمييزا له، راجع الخصال: 462، نشر جماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة في قم، تحقيق غفاري.

ثمّ انطلقوا حتّى أتوا منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فحفّوا به يوم جمعة، فقالوا للمهاجرين:

إنّ اللّه عزّ و جلّ بدأ بكم في القرآن، فقال: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ

ص: 401

وَ الْأَنْصارِ (1) فبكم بدأ، و كان أوّل من بدأ و قام خالد بن سعيد بن العاص، بإدلاله ببني أميّة، (و كان أبو بكر على المنبر) فقال: يا أبا بكر، اتّق اللّه، فقد علمت ما تقدّم لعليّ عليه السّلام من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ألا تعلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لنا و نحن محتوشوه في يوم بني قريظة و قد أقبل على رجال منّا ذوي قدر، فقال: يا معشر المهاجرين و الأنصار، أوصيكم بوصيّة فاحفظوها، و إنّي مؤدّ إليكم أمرا فاقبلوه، ألا و إنّ عليّا أميركم من بعدي و خليفتي فيكم، أوصاني بذلك ربّي و هو أعلم، و إنّكم إن لم تحفظوا وصيّتي فيه و لم تؤدّوا أمر دينكم (و تؤووه و تنصروه اختلفتم في أحكامكم و اضطرب عليكم أمر دينكم) و ولي عليكم ألأمر شراركم، ألا و إنّ أهل بيتي هم الوارثون الأمر (أمري)، القائمون (القائلون) بأمر أمّتي من بعدي، اللهمّ فمن أطاعهم من أمّتي و حفظ فيهم وصيّتي فاحشره في زمرتي و اجعله له من مرافقتي نصيبا يدرك به فوز الآخرة، اللهمّ و من أساء خلافتي في أهل بيتي فاحرمه الجنّة التي عرضها السماوات و الأرض.

فقال له عمر بن الخطّاب: اسكت يا خالد فلست من أهل المشورة (الشورى) و لا ممّن يرضى بقوله.

فقال خالد: بل اسكت أنت يابن الخطّاب، فو اللّه إنّك لتعلم أنّك تنطق بغير لسانك، و تعتصم بغير اركانك، و اللّه إنّ قريشا لتعلم [أنّي أعلاها حسبا، و أقواها أدبا، و أجملها ذكرا، و أقلّها غنى من اللّه و رسوله، و] أنّك ألأمها حسبا، و أقلّها عددا، و أخملها ذكرا، و أقلّها من اللّه عزّ و جلّ و من رسوله، و أنّك لجبان عند الحرب، بخيل في الجدب، لئيم العنصر، مالك في قريش مفخر.

قال: فأسكته خالد، فجلس.

ص: 402


1- التوبة: 117.

ثمّ قام أبو ذر رحمة اللّه عليه، فقال بعد أن حمد اللّه و أثنى عليه: أمّا بعد، يا معشر المهاجرين و الأنصار، لقد علمتم و علم خياركم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: الأمر لعليّ عليه السّلام بعدي ثمّ للحسن و الحسين عليهما السّلام ثمّ في أهل بيتي من ولد الحسين، فأطرحتم قول نبيّكم و تناسيتم ما أوعز إليكم و اتّبعتم الدنيا الفانية و تركتم نعيم الآخرة الباقية التي لا تهدم بنيانها (الذي لا يهرم شبابها) و لا يزول نعيمها، و لا يحزن أهلها و لا يموت سكّانها، و كذلك الأمّة التي كفرت بعد أنبيائها و غيّرت و بدّلت فساويتموها (فحاذيتموها) حذو القدّة بالقذة، و النعل بالنعل، فعمّا قليل تذوقون و بال امركم و ما اللّه بظلّام للعبيد.

ثمّ قام سلمان الفارسي رحمه اللّه فقال: يا أبا بكر، إلى من تسند أمرك إذا نزل بك القضاء؟ و إلى من تفزع إذا سئلت عمّا لا تعلم و في القوم من هو أعلم منك و أكثر في الخير أعلاما و مناقب منك، و أقرب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قدمة في حياته، و قد أوعز إليكم فتركتم قوله و تناسيتم وصيّته (و وبّخه كثيرا و قال: قد سمعت كما سمعنا و رأيت كما رأينا، فلم يردعك ذلك عمّا أنت فاعله، فاللّه اللّه في نفسك و قد أعذر من أنذر- المؤلّف).

ثمّ قام المقداد بن الأسود رحمة اللّه عليه فقال: يا أبا بكر، أربع على نفسك و قس شبرك بفترك- أي لا تتجاوز حدّك .. المترجم- و الزم بيتك، و ابك على خطيئتك، فإنّ ذلك أسلم لك في حياتك و مماتك، و ردّ هذا الأمر إلى حيث جعله اللّه عزّ و جلّ و رسوله، و لا تركن إلى الدنيا، و لا يغرّنك من قد ترى من أوغادها فعمّا قليل تضمحلّ عنك دنياك ثمّ تصير إلى ربّك فيجريك بعملك و قد علمت أنّ هذا الأمر لعليّ عليه السّلام و هو صاحبه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد نصحتك إن قبلت نصحي.

ثمّ قام بريدة الأسلمي و بالغ في الوعظ و النصيحة، و قال: يا أبا بكر، نسيت أم تناسيت أم خادعتك نفسك، أما تذكر إذ أمرنا رسول اللّه فسلّمنا على عليّ عليه السّلام

ص: 403

بإمرة المؤمنين و نبيّنا بين أظهرنا، فاتّق اللّه ربّك و أدرك نفسك قبل أن لا تدركها، و أنقذها من هلكتها و دع هذا الأمر و وكله إلى من هو أحقّ به منك، و لا تماد في غيّك و ارجع و أنت تستطيع الرجوع، فقد نصحتك نصحي و بذلت لك ما عندي فإن قبلت وفّقت و رشدت.

ثمّ قام عبد اللّه بن مسعود (1) فقال: يا معشر قريش، قد علمتم و علم خياركم أنّ أهل بيت نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منكم و إن كنتم إنّما تدّعون هذا الأمر بقرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تقولون: إنّ السابقة لنا فأهل نبيّكم أقرب إلى رسول اللّه منكم و أقدم سابقة منكم و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام صاحب هذا الأمر بعد نبيّكم فأعطوه ما جعله اللّه له و لا ترتدّوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.

ثمّ قام عمّار بن ياسر فقال: يا أبا بكر، لا تجعل لنفسك حقّا جعله اللّه عزّ و جلّ لغيرك، و لا تكن أوّل من عصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خالفه في أهل بيته ...

ثمّ قام خزيمة ذو الشهادتين فقال: يا أبا بكر، ألست تعلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل شهادتي و حدي و لم يردّ معي غيري؟ قال: نعم. قال: فأشهد باللّه أنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أهل بيتي يفرّقون بين الحقّ و الباطل، و هم الأئمّة الذين يقتدى بهم.

ثمّ قام أبو الهيثم بن التيّهان فقال: يا أبا بكر، أنا أشهد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه أقام عليّا فقالت الأنصار: ما أقامه إلّا للخلافة، و قال بعضهم: ما أقامه إلّا ليعلم الناس أنّه وليّ من كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مولاه، فقال عليه السّلام: إنّ أهل بيتي نجوم أهل الأرض فقدّموهم و لا تقدّموهم.

ص: 404


1- إن كان عبد اللّه بن مسعود هو الذي يسمّيه النبيّ ابن أمّ عبد و هو صاحب المصحف المعروف فهو من المنحرفين عن الإمام عليه السّلام و قد جنح مع الظالمين رجاء دنيا يصيبها فخيّب اللّه ظنّة و مات مغضوبا عليه منهم.

ثمّ قام سهل بن حنيف فقال: أشهد أنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال على المنبر:

إمامكم من بعدي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و هو أنصح الناس لأمّتي (1).

ثمّ قام زيد بن وهب فتكلّم، و قام جماعة من بعده فتكلّموا بنحو هذا، فأخبر الثقة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ أبا بكر جلس في بيته ثلاثة أيّام، فلمّا كان اليوم الثالث (خرج من بيته و أقبل يطرق الأبواب مستقيلا قائلا: أقيلوني أقيلوني) ثمّ أتاه عمر بن الخطّاب و طلحة و الزبير!! و عثمان بن عفّان و عبد الرحمان بن عوف و سعد بن أبي وقّاص و أبو عبيدة بن الجرّاح مع كلّ واحد منهم عشرة رجال من عشائرهم، شاهرين السيوف (مع كلّ واحد مأة رجل من عشائرهم- المؤلّف) فأخرجوه من منزله و علا المنبر، و قال قائل منهم: و اللّه لئن عاد منكم أحد فتكلّم بمثل الذي تكلّم به لنملأنّ أسيافنا منه، فجلسوا في منازلهم و لم يتكلّم أحد بعد ذلك .. (2).

الفصل الرابع

إنّ بريدة الأسلمي أتى عمران بن حصين فدخل عليه في منزله حين بايع الناس

ص: 405


1- و هو نصح لأمّتي- المؤلّف، و العبارة الأولى أجدر بالسياق و أقرب للبلاغة النبويّة.
2- لا ندري عن مصدر المؤلّف في هذا النصّ شيئا و وجدناه في الخصال: 463 و اضطرّتنا الحال أن نترجم قسما منه و نحذف العبارة الطويلة التي تخرج النصّ من اختيار المؤلّف على أنّنا وضعنا من غير استقصاء بعض الاختلافات بين المؤلّف و الخصال بين قوسين و أحيانا بين حاصرتين، و أخرج هذا النصّ صاحب الاحتجاج 1: 100، و ابن طاووس في اليقين: 339، و محمّد طاهر الشيرازي في الأربعين: 239، و أخرجه في بحار الأنوار 28: 196، و الأحمدي الميانجي في مواقف الشيعة 1: 426، و في الدرجات الرفيعة اقتصر على موقف أبي ذر و ذكر أقواله: 237، و أخرجه ابن جبر في كتابه نهج الإيمان: 580، و ذكره الطريحي في المجمع: 86 بسياق آخر، و مجمع البحرين هنا في مجلّد واحد و هي الطبعة القديمة الحجريّة.

أبا بكر، فقال: يا عمران، ترى القوم نسوا ما سمعوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حائط بني فلان أهل بيت من الأنصار، فجعل لا يدخل عليه أحد من المسلمين فيسلّم عليه إلّا ردّ عليه السلام، ثمّ قال له: سلّم على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فلم يردّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ أحد من الناس إلّا عمر فإنّه قال: عن أمر اللّه أو عن أمر رسول اللّه؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بل من اللّه و من رسوله.

قال عمران: قد أذكر ذا.

فقال بريدة: فانطلق بنا إلى أبي بكر فنسأله عن هذا الأمر فإن كان عنده عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهده إليه بعد هذا الأمر أو أمر أمر به فإنّه لا يخبرنا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكذب و لا يكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (1).

فانطلقنا فدخلنا على أبي بكر فذكرنا ذلك اليوم و قلنا له: فلم يدخل أحد من المسلمين فسلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا قال له: (سلّم على أمير المؤمنين عليّ) و كنت أنت ممّن سلّم عليه بإمرة المؤمنين، فقال أبو بكر: قد أمر أذكر ذلك.

فقال له بريدة: لا ينبغي لأحد من المسلمين أن يتأمّر على أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام بعد أن سمّاه رسول اللّه بأمير المؤمنين، فإن كان عندك عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهده إليك أو أمرك به فأنت عندنا مصدّق.

فقال أبو بكر: لا و اللّه ما عندي عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا أمر يأمرني به و لكن المسلمين رأوا رأيا فتابعتهم به على رأيهم.

فقال له بريدة: و اللّه ما ذلك لك و لا للمسلمين خلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقال أبو بكر: أرسل لكم عمر، فجائه، فقال له أبو بكر: إنّ هذين سألاني عن أمر قد شهدته و قصّ عليه كلامهما، فقال عمر: قد سمعت ذلك و لكن عندي المخرج من ذلك.

ص: 406


1- بلى و اللّه إنّه أوّل من تبوّأ مقعده من النار بموضوعه: لا نورث ما تركناه صدقة.

فقال له بريدة: عندك؟

قال: عندي.

قال: فما هو؟

قال: لا تجتمع النبوّة و الملك في أهل بيت واحد.

قال: فاغتنمها بريدة و كان رجلا مفوّها جريّا على الكلام، فقال: يا عمر، إنّ اللّه عزّ و جلّ قد أبي ذلك عليك، أما سمعت اللّه في كتابه يقول: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (1) فقد جمع اللّه لهم النبوّة و الملك.

قال: فغضب عمر حتّى رأيت عينيه توقدان، ثمّ قال: ما جئتما إلّا لتفرّقا جماعة هذه الأمّة و تشتّتا أمرها، فما زلنا نعرف منه الغضب حتّى هلك (2).

روى هشام بن عروة عن أبيه أنّ أبا بكر و عمر و أبا عبيدة بن الجرّاح لم يحضروا دفن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانوا ساعتها في السقيفة يلاطمون على الخلافة لئلّا تذهب الفرصة من أيديهم، و كان أبو بكر يقول: البدار البدار قبل البوار، و يحثّ الناس على البيعة.

يقول البراء بن عازب: قصد أبو بكر و عمر بعد وفاة النبيّ بليلتين منزل العبّاس عمّ رسول اللّه و كان معهما أبو عبيدة بن الجرّاح و المغيرة بن شعبة، فقال أبو بكر: يا عمّ رسول اللّه، إنّ الأمّة اختارتني، و لكن لا يخلو من طعن طاعن و نحن نعرف لك منزلتك و قرابتك، فأردنا أن يكون لك في الأمر نصيب و يبقى من بعدك لأولادك.

فقال عمر: لم تأت بنا حاجة إليك و لكن نخشى من طاعن علينا، فإذا أردت فأنت شريكنا في الأمر.

ص: 407


1- النساء: 54.
2- السيّد ابن طاووس الحسني في كتاب؟؟؟: 273.

فقال العبّاس: يا أبا بكر، إن كنت أخذت الخلافة برسول اللّه فحقّنا أخذت، إذ لا قرابة بينك و بينه، و إن كنت أخذتها برضى المؤمنين، فنحن منهم و لا نرضى بك و نكره خلافتك، و هذا الذي تعطيه لي و لأولادي إن كان لك فاحتفظ به لنفسك، و إن كان للمؤمنين فليس لك التصرّف به، و إن كان لنا فلا نرضى ببعض دون بعض فأعطنا كلّه و لا حرج عليك، و أقول ذلك من باب الحجّة عليك؛ رسول اللّه الشجرة، و نحن فروعها، و أنتم جيرانها.

فقال عمر: أتخوّفني بالناس، فاعلم بأنّ هذا أوّل عصيان منك.

الفصل الخامس

لمّا بايع محمّد بن أبي بكر أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: يا محمّد، إنّي آخذ منك البيعة لإقرارك على أنّ أباك أوّل من ظلمني بعد وفاة رسول اللّه، و عبارة أمير المؤمنين كما يلي: أبايعك أنّ أباك أوّل من ظلمني و أنّي أولى الناس بالناس، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، لا يتقدّمك بعدي إلّا كافر، و إنّ أهل السماوات يسمّونك أمير المؤمنين.

الفصل السادس

قال النعمان بن بشير: رأيت المقداد يبكي في اليوم الذي اجتمع الناس فيه على بيعة أبي بكر.

و قال سلمان: ما دخل قلبي فرح منذ أخرج هذا الأمر عن بني هاشم.

قال جابر: ما زلت أعرف الغم في وجه سلمان منذ بايع الناس أبا بكر.

و قال المقداد: لا فرحت بشي ء بعد غمّي بالأثرة على عليّ و فاطمة عليهما السّلام.

ص: 408

قال: كان رسول اللّه يحبّ ثلاث قبائل من قريش أوّلهم بنو هاشم، و ثانيهم بنو أسد بن عبد العزّى- عبد العزيز ... المؤلّف- لأنّ خديجة بنت خويلد منهم، و الثالثة بنو زهرة لأنّ آمنة أمّه منهم، و يكره قبائل أربعا من قريش: بنو مخزوم لأنّ أبا جهل منهم، ثمّ بنو تيم و بنو عدي و بنو عبد الدار الذين منهم عمر بن الخطّاب و أصحابه و هو يبغضهم لعلمه بما يجري منه علينا.

و قد أمر النبيّ تسعة منهم بالسلام على عليّ بإمرة المؤمنين، و هم: أبو بكر و عمر و عثمان و المقداد و ابن مسعود و بريدة و أمثالهم، و هم رواة هذا الأمر بأجمعهم، أوّلا في حائط بني النجّار، و يوم الغدير، فقد سلّم عليه جماعة المهاجرين و الأنصار بإمرة المؤمنين.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم لعليّ عليه السّلام: يا علي، لا تفش سرّك على ثلاثة من قريش فإنّهم عدوّ لي و لك يا علي. فقال عليّ عليه السّلام: سمّهم لي يا رسول اللّه. فقال النبيّ: لا أخبرك بهم حتّى ينزل الوحي، و مرّ على هذا القول زمان، و ذات يوم و هو في بيته و قد أذن للمهاجرين و الأنصار فاجتمعوا على النبيّ حتّى اضطرّ أمير المؤمنين أن ينحاز خارج الدار، فناداه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قرّبه حتّى أدناه فصار إلى جنبه، فأوسع النبيّ له، و جاء بعده أبو بكر و عمر و عثمان فلم يسعهم المكان حتّى جلسوا على عتبة الباب، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، قدّمت عليّا عليّ و أوسعت له حتّى جلس إلى جانبك، فلماذا لم تفعل بي هكذا؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لقد أبديت ما في قلبك و ما بقي لعليّ في قلبك أشدّ و أجلّ.

و قال عمر نحوا من قول صاحبه، فقال رسول اللّه: إنّ اللّه لم يجعلك عندي و عليّا (سواء- الترجم).

فقال عثمان: إنّ في البيت من أنا أحقّ بالجلوس في البيت منه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من لا ينقص الحقّ و لا يعطي الفي ء غير من جعله اللّه له.

ص: 409

فلمّا انفضّ المجلس قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: أخبرني الوحي بأنّ هؤلاء عدوّك و قد بيّن اللّه أمرهم فاحذرهم أنّى يؤفكون.

الفصل السابع

اعلم بأنّ أبا بكر لم يكن من الأنصار و ليس من المهاجرين بوجوه عدّة:

الأوّل: لمّا كان خادما للنبيّ كان بمثابة دليله و حمّاله الذين لازماه، فإذا جاز تسمية هذين مهاجرين جاز تسمية أبي بكر مهاجرا لوحدة الشأن و الغاية «و هذا باطل فذاك باطل أيضا».

الثاني: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (1) فينبغي أن تكون الهجرة إلى اللّه و رسوله و لذا عدّاها بالحرف «إلى» لا بالحرف «مع» ليكون من صحب النبيّ مهاجرا و لم تكن هجرة أبي بكر للّه و رسوله لذا لا يسمّى مهاجرا.

الثالث: إنّ غرض أبي بكر و عمر و عثمان من الهجرة هو خطبة فاطمة، فحرّمهم اللّه و رسوله منها و أعطاها لعليّ (2).

الرابع: قال المؤرّخون: لمّا نزل النبيّ بقباء استأذنه أبو بكر في الذهاب إلى أصحابه في المدينة، فأذن له النبيّ و بقي النبيّ ثلاثة أيّام في قباء و أبو بكر متخلّف عنه عند أصحابه، فتبيّن أنّ هجرته إنّما كانت لزيارة الأصدقاء و تجديد العهد بهم لا لنفس الهجرة و صحبة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و في هذه الصورة لا يصدق على هجرته حرف

ص: 410


1- النساء: 100.
2- لا أعتقد أنّ هؤلاء الأوغاد تمنّيهم أنفسهم نيل ذلك لعلمهم بما عزم عليه النبيّ و لو كان ذلك يدور في خلدهم لما كتموه و هم في مكّة إذ لا داعي للهجرة من أجله، فقد كان بوسعهم طلبه و هم في مكّة.

«إلى»، فإذا كان الأمر كذلك فخلافته باطلة لقوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ (1).

سؤال: الرضا بالظلم و التسليم به ظلم أيضا، فلماذا سكت أمير المؤمنين عليه السّلام عن حقّه و لم يقاتل القوم لكي يظفر بحقّه لو كان له حقّ بالخلافة؟

الجواب: أمره رسول اللّه بالصبر لئلّا يستأصله المنافقون و أولاده. و جاء في الرواية بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: يا عليّ، إنّه سيلي هذا الأمر أبو بكر؛ فإن قاتلت فلك، و إن تركت فهو خير لك، ثمّ يلي بعده عمر؛ فإن قاتلت فلك، و إن تركت فهو خير لك، ثمّ يلي بعده عثمان؛ فإن قاتلت فلك، و إن تركت فهو خير لك.

ثمّ إنّ قوام الدين بعد النبيّ منوط به و بأولاده، و لو أنّه خرج فإنّ بني هاشم لا يقفون عن معاضدته و إنّهم لفئة قليلة و لا بدّ من وقوع السيف بين هؤلاء و هؤلاء، و حينئذ تدور الدائرة على بني هاشم فيهلكون بأجمعهم، و هلاكهم هلاك الدين، و في المدينة يكثر المنافقون و خارجها المرتدّون ... (2) فإنّ الغلبة لهم، و سوف يهتبلون الفرصة و يدمّرون بني هاشم طلبا لثاراتهم القديمة، فكان أمير المؤمنين يودّ أن يبقى من الدين و لو رمق واحد على أن يهلك كلّه و إن ظلّ محروما من حقّه، من هذه الجهة تباطأ عن القتال، لأنّه خاف محق الدين.

و هذا المعنى ظاهر من كلامه، معلوم بيّن، فقد قال لمّا بويع أبو بكر: أتاني نفر من

ص: 411


1- الأنفال: 72.
2- أخشى أن يكون المؤلّف على فضله أخذ بالدعاية المضلّلة من أنّ الذين حاربوا أبا بكر مرتدّون و الواقع أنّهم ليسوا كذلك و إنّما كان ارتدادهم عن أبي بكر لا عن الدين، فلم تنقل عن أحدهم كلمة واحدة مضادّة للدين ليثبت ارتدادهم، إنّما أبوا البيعة و دفع المال لأبي فصيل ....

أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعرفهم بالنصح للّه و لرسوله و لدينه و للمسلمين، فدعوني إلى أخذ حقّي و بذلوا أنفسهم في نصرتي ليؤدّوا بذلك الحقّ عنهم لي فعلمت أنّ نصب نفسي لطلب حقّي مع جدّة الإسلام و قرب عهده بالجاهليّة و المنازعة في ذلك، قال قائل فيه نعم، و قال قائل فيه: لا، فنرى في ذلك من القول إلى الفعل حتّى يصيروا إلى الحرب، فيتقيني عصبة ألّفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باللين مرّة و بالشدّة أخرى.

إلى أن قال: و نحن أهل بيت لا سقوف لبيوتنا، و لا ستور و لا أبواب إلّا جرايد نتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا، و ربّما أتانا النبيّ بالشي ء ممّا أفاء اللّه عليه و صيّره لنا خاصّة دون غيرنا، و نحن على ما وصفت من حالنا فنؤثر به أرباب النعم (1) و الأموال تألّفا منه لهم، و استكثارا منهم، فكنت أحقّ من لم يفسد هذه العصابة ألّفها رسول اللّه و لم يحملها على الخطّة التي لا خلاص لها منها دون بلوغها أو فتاء آجالها قبلها لأنّي لو نصبت نفسي حتّى أدعوهم إلى نصرتي مع إطباقهم على ما أطبقوا عليه، كانوا في أمري على إحدى المنزلتين: إمّا متّبع فقاتل او مقتول، و إمّا خاذل يكفر بخذلانه إيّاي، و قد علم أنّي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمنزلة هارون من موسى يحلّ به في مخالفتي و ترك نصرتي ما أحلّ به قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون، و رأيت الإمساك حتّى يقضي اللّه ما أحبّ (2).

جواب آخر: يقول المخالفون: إنّ المهاجرين و الأنصار بايعوا بأجمعهم أبا بكر، و بناءا على هذا كيف يستطيع عليّ محاربة هؤلاء؟!

ص: 412


1- فيؤثر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرباب النعم و الأموال تأليفا منه لهم ... الخ، السياق يدلّ على صحّة هذه العبارة دون التي ذكرها المؤلّف، و هي في ج 1 ص 349 من شرح الأخبار للمغربي.
2- القاضي النعماني المغربي، شرح الأخبار 1: 349؛ الخصال: 373 بسياق مختلف عن سياق المؤلّف و المعنى واحد؛ الاختصاص للمفيد: 172؛ حلية الأبرار للبحراني 2: 369؛ بحار الأنوار 38: 175؛ حياة أمير المؤمنين عن لسانه 2: 242.

جواب آخر: إنّ إبليس خالف أمر اللّه و عصاه فلم يسجد لآدم و كان بين الألوف المؤلّفة من الملائكة و مع هذا فلم يقاتله الملائكة، و كان عليّ منفردا وحده.

و لمّا كان إبراهيم لا طاقة له بعدوّه فعاش محتقرا و ألقي في النار، و لكنّه حين قوي على القتال قاتل حتّى قتل بأنّه اشترى ثلاثمائة غلام ليقاتلوا معه بالعصى و عمد الخشب.

و لمّا كان يوسف ضعيفا رضي بالعبوديّة، و لمّا استقوى خلّص نفسه.

و لم يقاتل موسى و هارون عبدة العجل السامري و لكن لمّا قويا قاتلا عنصرين من عناصر جيشه رجلا و امرأة حين زنيا، و مثله بنو إسرائيل فقد كانوا لا يدخلون بيت المقدس فلم يحاربهم موسى.

و نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله لم يقاتل أيّام الشعب و الغار و أوّل الهجرة، و لكنّه قاتل بعد الهجرة إلى المدينة حين ملك القوّة،، و لا ذمّ على الأنبياء في تركهم للحرب في ضعفهم.

و مثلهم عليّ عليه السّلام حين لم يجد الأعوان، و لمّا ملك العدّة و العدد أيّام معاوية حاربه حربا شرسة، و كان عليّ يقول: لو كان لي أعوان لجاهدتهم.

و قال أيضا كما قال سلفه الأنبياء: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (1).

الفصل الثامن

النبوّة دعوة الخلق إلى الطاعة و الإسلام و الإيمان بعد الوحي، و الإمامة بالنصّ، و النصّ يكون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و النبيّ دعاهم إلى إمامة عليّ عليه السّلام يوم الغدير، و يوم حائط بني النجّار، و يوم الحديبيّة، و يوم تبوك، و نظائر ذلك.

و يمكن أن نشبّهها بسجدة آدم، فقد أمر بها اللّه تعالى و لم يوجب على آدم دعوة

ص: 413


1- هود: 80.

إبليس إلى السجدة فإذا أبى حاربه بل هذا الأمر يعود إلى اللّه تعالى، فلمّا امتنع إبليس عن السجود قال اللّه له: إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (1) و لم يأذن للملائكة بقتاله.

و لو قلنا بوجوب إقامة البيّنة فلا يستبعد أن يحتال القوم على شهادة الشهود، و حينئذ لا يجني منها إلّا نقصان درجة المدّعي و كماله و الاستخفاف به و تجرّ إلى إذلاله و إهانته و إهانة الشهود، و تداني رتبة الشاهد عند الناس كما فعل أبو بكر (مع الزهراء)، و شهد جماعة على المغيرة بن شعبة بالزنا فدفع عمر شهادتهم بكلّ ما يملك من الاحتيال، فأدّى ذلك إلى خجل الشهود أمام الناس.

و أيضا لماذا لم يثبت إمامته بإظهار المعجزة و هذه في ظاهر الحال من خصائص النبوّة.

و لمّا أبى سعد من بيعته و قال له: أعطني سيفا يقتل الكافر دون المسلم، قال عليّ عليه السّلام: إنّ إمامتي نصّ من صاحب المعجزة و ليس في المعاجز تعنّت، و سئل رسول اللّه مثل هذا السؤال بتعنّت و أعرض عن السائل، كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً (2) الآية، و قال: لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً* أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ (3).

و قال عليّ عليه السّلام: ألا إنّ أبا بكر تقدّمني عليها و هو يعلم أنّي خير منه و أولى بها منه، ألا ما زلت مظلوما، ألا ما زلت مقهورا منذ قبض اللّه نبيّه ... و الخطبة الشقشقيّة شاهد عدل على ذلك.

ص: 414


1- ص: 78.
2- النساء: 153.
3- الفرقان: 7- 8.

ثمّ إنّ القوم أثاروا شبهة يوم السقيفة و تمكّنت من عقول الناس و لو أظهر عليّ دعواه فلا بدّ من إزالة هذه الشبهة، و هذا لا يتمّ إلّا بظهور الفتنة، و لمّا كان ضرر الفتنة عامّا كان دفعها واجبا بالصبر و التحمّل و السكوت.

جواب آخر: لو كان لأحد دين على أحد فإنّ المطالبة به واجبة بأحسن وجه، و ليس بالحرب و القتال، بل الواجب طلب الدين و إن جحده الغريم و إلّا فالصبر إلى موعد القيامة، و لمّا كان عليّ على علم تامّ بأنّ المطالبة بحقّه يجرّ إلى هلاكه و هلاك أهل بيته و كثير من المسلمين المؤمنين و تثور فتنة في الإسلام تأتي على الأخضر و اليابس، فإنّ فرض الجهاد حينئذ يسقط عنه، قال اللّه تعالى: وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (1).

جواب آخر: اتفق المخالف و المؤالف على أنّ بني هاشم لم يبايعوا أبا بكر طيلة حياة فاطمة عليها السّلام، و لم يقبل عليّ ولايتهم و لا شاركهم في غزو، و كان كثير المطالبة بحقّه، و ينكر على الصحابة ما فعلوه، و أعانه قوم من أصحاب النبيّ كسلمان و مقداد و عمّار، حيث رووا عن النبيّ أنّ الحقّ حقّه و غيره مبطل، و لمّا عاد الحقّ إلى أهله و ألقي زمامها إلى أمير المؤمنين و أصبحت الخلافة في حوزته و استأصل إليه شأفة عدوّه، لم يتقدّم أحد بالاعتراض عليه أو الردّ بأخذ ما ليس حقّه، و هذا بمجمله دليل على أحقّيّته، و إبطال دعاوى الآخرين، و طلحة و الزبير لم ينكرا حقّ عليّ و لا مرتبته في الدين بل توسّلوا بقتل عثمان فموّهوا على الناس أنّه تمّ بسعي عليّ عليه السّلام، و ليس كذلك و إنّما هو بإجماع من الصحابة و اتفاقهم عليه، و لو أراد عليّ القصاص مثلا فكيف السبيل إلى قتل كلّ هؤلاء القوم، ثمّ إنّ الذين قتلوه قتلوه بحجّة حتّى قالوا: قتلناه كافرا، كما جاء في نكت الفصول للاصفهاني.

ص: 415


1- الأنفال: 25.

و أيضا: إنّ صاحب النكت من فرقة النواصب إلى الحدّ الذي رأيته يمحو من بعض النكت المكتوب فيها عليّ أمير المؤمنين لفظ «أمير المؤمنين» و يكتب اسم عليّ مكانها، و يكتب عن شيوخه فلان و فلان بخطّ يده «أمير المؤمنين»، و أوّل من بايع عليّا من الصحابة طلحة و كان هو و الزبير يدعون الناس إلى بيعة أمير المؤمنين، و لكن استحوذ عليهم الشيطان و سوّل لهم النكث.

و كانت عائشة تحرّض الناس على قتل عثمان و بعد أن قتلته أخذت تطالب بدمه، و قال لها الإمام: إنّ وليّ عثمان المطالب بدمه أولاده، فأمّا أنت فلست من أوليائه، و ان قتله قتل «عمية» أي بين عدّة من المهاجمين لا يمكن إلقاء تبعة قتله على أحد منهم.

و عرض عليهم يوم الجمل كتاب اللّه فلم يقبلوه ثمّ طالبهم بالسنّة فردّوها و أرادوا أن يتأمّروا على الأمّة فلم يمكّنهم اللّه من ذلك و ضلّ سعيهم فأهلكهم سبحانه، و تمثّل أمير المؤمنين بهذه الأبيات:

لنا ما يدّعوه بغير حقّ إذا ميز الصحاح من المراض

عرفتم حقّنا فجحدتموه كما عرف السواد من البياض

كتاب اللّه شاهدنا عليكم و قاضينا الإله فنعم قاضي قال إسحاق بن جعفر: إنّ الأعمش قال: شهد عندي عشرة من خيار التابعين بأنّ البراء بن عازب قال: إنّي أبرأ حتّى الموت من أولئك الذين تقدّموا على عليّ، و أبرأ في الدنيا و الآخرة منهم، و كانت آخر كلمة قالها الأعمش عند النزاع: أنا إلى اللّه منهم بري ء، ثمّ أسلم الروح.

بيّنة: قال عبد اللّه بن عبّاس: كنت أماشي عمر ذات يوم، فرفع صوته بآية نزلت في

ص: 416

عليّ عليه السّلام ثمّ استقبلني بوجهه و قال: إنّ عليّا أحقّ بالأمر من الجماعة. و في رواية:

أما و اللّه إنّ صاحبكم أحقّ بالأمر منّا.

قال عبد اللّه: فقلت: فلماذا منعتموه حقّه أنت و صاحبك؟

قال: كنّا خائفين أن لا يجتمع العرب عليه، لأنّه و ترهم جميعا.

فقال عبد اللّه: إنّ اللّه قدّمه فكيف تؤخّره العرب، و مع ذلك فإنّ قتلهم كان بأمر اللّه و رسوله لا باختياره.

قال عمر: استصغرنا سنّة فأخّرناه.

قال عبد اللّه: إنّ رسول اللّه أعطاه سورة برائة و بعثه في الموسم فما استصغره، كما زوّجه فاطمة عليها السّلام، و كذلك حمّله الراية يوم خيبر فلم يستصغره، كما بعثه إلى اليمن و هو في هذه السنّ.

قال عمر: ما فعلنا ذلك عن عداوة و لكنّا خفنا أن لا يجتمع عليه قريش و العرب.

و قال أيضا: لو أدركت سالما مولى حذيفة ما تخالجني الشكّ، و سالم مولى امرأة من الأنصار و هي وارثته (1).

و كذلك قال: لو أدركت أعمش عبد القيس لسلّمتها إليه، يعني الجارود العبدي، و غرضه من ذلك الاستخلاف.

قال أبو بكر: الأئمّة من قريش.

و ما أعجب هذا التناقض! لست أدري هل الصدق في جانب عمر أو صاحبه؟!

ثمّ اعلم أنّ عمر أقرّ يوما بالخلافة لسالم و يوما للجارود العبدي و يوما لعليّ عليه السّلام

ص: 417


1- غفر اللّه للمؤلّف، هو يقول سالم مولى حذيفة، ثمّ يقول مولى امرأة من الأنصار، و حذيفة هذا هو ابن اليمان، و سالم مولاه، ثمّ العبارة التي ساقها المؤلّف ناقصة و تمامها «بتوليته».

و صيّرها يوما شورى، فإن كان مصيبا في واحد فقد أخطأ في الأخرى، «فاعتبروا يا أولي الأبصار».

رقبة بن مصقلة عن أبيه عن جدّه، عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو أنّ السماوات السبع وضعت في كفّة و وضع إيمان عليّ في كفّة لرجح إيمان عليّ (1).

و هو الذي غصب حقّ عليّ و تقدّمه، و العجب من أمر القوم أنّ اللّه و رسوله أراد تقديم عليّ على الأمّة و لكن الأعراب و قريشا كرهوا ذلك، و إرادتهم مقدّمة على إرادة اللّه و رسوله، و لها الاعتبار و لا اعتبار لأمر اللّه و رسوله و نهيه.

و كذلك قال عمر لأصحاب الشورى الستّة: إنّ الأمر فيكم ما بقي منكم أحد فلا تختلفوا فيه فيغلبكم عليه معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص لمكرهم و غنائهم، و مع هذا ولّى معاوية من قبله على الشام (2).

و قال لعثمان: أمّا أنت يا عثمان فو اللّه لروثة خير منك، و أنت من أهل النار.

و قال للزبير: أنت كافر الغضب مؤمن الرضا.

و قال لطلحة بن عبد اللّه: إنّي لا أحبّك و لا تحبّني، و أنت الذي أردت نكاح أزواج النبيّ من بعده «و لا تنكحوا أزواجه من بعده أبدا».

و قال لسعد بن أبي وقّاص: إنّك لفاروق هذه الأمّة في سحرك.

و قال لعبد الرحمان: لست عاقلا و لا فصيحا.

ص: 418


1- مستدرك الوسائل 15: 329؛ مناقب ابن شهر آشوب 1: 292 و 2: 191؛ الأربعين: 450؛ بحار الأنوار 31: 28 و 133؛ مقام علي لنجم الدين العسكري عن ذخائر العقبى: 14 إلى آخره؛ لسان الميزان لابن حجر 5: 97؛ مناقب الخوارزمي: 131؛ كشف اليقين: 110.
2- في كتابي «الحكم و الأخلاق في منطق الثورة الحسينيّة» جرّدت عمر من ثيابه حتّى بدت سوئته في هذه المسألة.

و قال لعليّ: لو وزن إيمانك بأهل الأرض لوزنتهم.

ثمّ قال: اذهب يا صهيب و صلّ بالناس، فإن مضت ثلاثة أيّام و رضي خمسة و أبي واحد فاضربوا عنقه، و إن أبي اثنان فاضربوا أعناقهما، و إن مضت ثلاثة أيّام و لم يجتمعوا على شي ء فاضربوا أعناقهم.

فقال الوليد بن عتبة (1): يا عمر، سمّ الخليفة أنت و عثمان أهل لها، فقال عمر مستنكرا على عثمان و خلافته: فكيف محبّته لأهل بيته و حبّه للمال.

و قال آخر: سمّ لها طلحة فإنّه جدير بها، فقال: كيف يستخلفون رجلا كان أوّل شي ء يحلّه رسول اللّه أرضا فجعله من مهر يهوديّة.

فقال أحدهما: أين أنت عن عليّ عليه السّلام فاستخلفه، قال: إنّكم لا تستخلفونه و لو أنّكم استخلفتموه لأقامكم على الحقّ و إن كرهتم.

و العجب من هذا الرجل زعم أنّ رسول اللّه توفّي و هو راض عن هؤلاء الستّة، و لم يأتوا ما يحلّ له دمهم لكي يقتلوا من الزنا و قتل النفس بغير الحقّ أو السعي فسادا في الأرض و أمثال ذلك، و لكنّه أمر بقتلهم عند موته!!

تأمّلوا أيّها العقلاء، و شاهدوا هذا الحال بعين الاعتبار فقد أمر بقتلهم بعد ثلاثة أيّام من وفاته فهل حكم اللّه و رسوله بهذا، و قد قال اللّه تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (2) إلّا أنّه يقول الخصم: إنّ حكم الأكاسرة و الفراعنة و القياصرة و النماردة، و ليس حكم اللّه و رسوله.

ص: 419


1- لعلّه الوليد بن عقبة، و تجد خطاب عمر للستّة بصيغ متباعدة في الكتب التالية: الإيضاح: 500 و 501؛ المسترشد: 456؛ الأمالي للمفيد: 62؛ الصراط المستقيم 3: 23؛ كتاب الأربعين لمحمّد بن طاهر القمّي: 567؛ بحار الأنوار 21: 359؛ الغدير 5: 364؛ شرح ابن أبي الحديد 1: 185؛ كنز العمّال 5: 741 رقم 14267 و غيرها كثير.
2- المائدة: 44.

جواب: لمّا أمر عمر بوضع الديوان و جاؤوه بالسجلّ فأمر أن يكتب اسم عليّ و الحسن و الحسين في رأس الجريدة و أمر لكلّ واحد منهم بخمسة آلاف درهم لكلّ سنة، فقال له بعضهم: لم لم تبدأ باسمك؟ قال: بل أكتبه بينهم، و لمّا مضت أيّام طلب الصحيفة، و أمر بمحو اسم عليّ و الحسنين منها، فقال: إن كان لهم هذا المال في كلّ سنة فسوف يترفون و يأخذهم البطر فيهبون للطلب بميراث النبيّ و خلافته فينبغي أن يظلّوا دائما في الجوع و الحاجة حتّى يعجزوا عن القيام لتحلّ بهم النكبة.

فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: نشدتك باللّه يا عمر حين كتبت في صدر الصحيفة أكنت تعدّها من حسناتك؟ قال: اللهمّ نعم، قال: الحمد للّه الذي لم يمتني حتّى رأيتك تمحو حسناتك بيدك، قيل: فطلب عند ذلك الصحيفة و أمر بإثبات بوضع أسمائهم في مكانها.

الفصل التاسع: في فوائد هذا الكتاب

قال ثوبان في وصف يوم السقيفة: ذلك يوم نحس مستمرّ.

و قال سعد بن عبادة: كاد هذا الأمر يضمحلّ يوم السقيفة، و كان غرضه من ذلك دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و قال أبو ذر: ما عدلت عندي مصيبة خروج هذا الأمر عن بني هاشم.

قال سلمان: أنا قلت لأبي بكر: لم يخرج أمّة قطّ إمارتها من بيت نبوّتها إلّا وقعت في شرّ.

مرّ أبيّ بن كعب عشيّة يوم السقيفة على حلقة فيها الأنصار جلوس، فقالوا له:

من أين قدمت؟ قال: من أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. فقالوا: كيف خلّفتهم؟ فقال:

كيف أخلّف قوما كان فيهم رسول اللّه و جبرئيل و اليوم فقدوهما و غصب حقّهم، فأبكى الحاضرين جميعا.

ص: 420

كان خزيمة بن ثابت و أبو الهيثم و الأنصار في يوم صفّين بذلوا غاية الجهد في نصر أمير المؤمنين، فقال عليّ عليه السّلام: إنّهم إن خذلونا في البداية و لكنّهم تابوا في النهاية، و علموا أنّ ما عملوه قبل اليوم كان شرّا كلّه.

مسألة: قال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. و روي: فاضربوا عنقه.

و المراد من الفلتة أنّه لم يكن بإجماع الأمّة بل أمر ارتجل من غير رويّة و تفكّر، و ذلك أنّ الصحابة لم يكونوا راضين به، فإذا كان هذا رأيه في بيعة صاحبه و لم يمنع من وقوع الفلتة بل أعان عليها فهو مخطئ.

فلو قيل: ما كان ذلك بمستطاع له، فنقول: و كذلك عليّ لم يكن قادرا على دفع ظلمهم.

و لئن قالوا: هذا القول موضوع على لسان عمر و إنّة قوّل ما لم يقل، فإنّنا نقول:

و كذلك الأحاديث الموضوعة في مناقبهم.

و يجوز قتل صاحبه طبقا لفتواه بل يجب و ما كذب الخليفة فقد أنكر عليه الأمر خالد بن سعيد بن العاص كما قال عبد اللّه بن عبّاس: يا بني هاشم، أنتم هداة البشر و لكن ختم اللّه الأديان و النبوّات فما بالكم سكتّم فقوموا إلى سيوفكم المرهفة الحدّين.

مسألة: مذهبنا بأنّ بني هاشم قاطبة و أتباعهم كأبي ذرّ و سلمان و المقداد لم يبايعوا قطّ.

و قال عمر لسلمان يوما: إنّ تلكّأ بنو هاشم عن البيعة فلإدلالهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و فخرهم به، و أنّهم يقولون: أفضل الخلق بعد النبيّ فما الذي خلّفك أنت؟

فقال سلمان: أنا شيعة لهم في الدنيا و الآخرة، أتخلّف بتخلّفهم، و أبايع ببيعتهم.

ص: 421

و البراء بن عازب و بريدة بن الحصين كانا مدّة قعود أمير المؤمنين معه يأتونه بأخبار القوم.

الفصل العاشر

لمّا انتقل النبيّ إلى الرفيق الأعلى، قيل: إنّ الصحابة اجتمعوا في المسجد و قال بعضهم: نبايع عليّا، و قال البعض الآخر: لا نبايع إلّا أبا بكر، ثمّ قاموا إلى بيت عائشة و بايعوا أبا بكر.

فقال عمر: لا يتمّ لنا هذا الأمر ما لم يبايع عليّ عليه السّلام، فذهب إلى بيت فاطمة عليها السّلام و معه فريق من الناس، فصاح بعليّ كما تقدّم: أين أبو الحسن؟ أين أبو الحسن؟ ثمّ قبض عليه من ثيابه و أخرجه خارج البيت، و قال: أترى أولادك يحمونك بمال الخمس الذي يأكلونه، فلن يطعموه بعد اليوم و لن ينالوه إلى الأبد، قال: «الثرى في فيك». فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: بل الثرى في فيك، و انتزاع ردائه من يده و سار معه و جلس ناحيه في المسجد مهموما يفكّر في ما آل إليه أمر الأمّة، و سرح في فكر عميق، و يضع التصاميم، ثمّ قال: إنّ هذا الذي بايعه الناس سوف يظلّ حاكما لمدّة محدودة و يأتيه حتفه و يموت بحمامه، و أمّا عمر فإنّه يظلّ حاكما سنين عدّة من بعده ثمّ يوافيه الأجل قتلا و يريق اللّه دمه.

يقول حبشي بن جنادة: وقع ما قاله أمير المؤمنين عليه السّلام كلّه لم يتقدّم يوما و لم يتأخّر يوما، و كان حبشي أحد الصحابة.

الفصل الحادي عشر

وقع الخلاف بين المهاجرين و الأنصار في موضوع الإمامة حتّى قال قائل منهم:

ص: 422

«منّا أمير و منكم أمير» و هذا دليل على أنّ موضوع الخلافة يختصّ بالملك و السلطان و ليس بالخلافة بعد النبوّة أو الإمامة، و كانت حجّة أبي بكر «الأئمّة من قريش» فانقاد الأنصار له عند سماع هذا الحديث و لكنّه لا يعرف كيف يستدلّ به، فإنّ قريشا كثيرون و التخصيص يحتاج إلى دليل، و هو إمّا بنصّ من اللّه و رسوله، و إمّا بالقرابة أو بكليهما، و هذه كلّها مفقود في الجماعة و مجموعة في عليّ عليه السّلام؛ لأنّ عمر قرشيّ و له قرابة و لا تخصيص في هذه المرويّة إلّا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و النبيّ من بني هاشم، و قريش بمنزلة الشجرة و بنو هاشم ثمرتها.

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّي مخلّف فيكم كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.

فقال: لا تقدّموهم فإنّهم أفضل منكم، و لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم.

و خصّ عليّا عليه السّلام من بينهم فقال: إنّه هاد مهدي يسلك بكم المحجّة البيضاء، و إنّه أقضى الأمّة، و إنّه عالم على (كذا) تأويل القرآن كما علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تنزيله (1).

هذا مع أنّ الخزرج بقيادة رئيسهم سعد بن عبادة لم يبايعوا و مات سعد على إنكار البيعة و بايع فريق من الأوس و فريق آخر لم يبايع، و الذين بايعوا كانت بيعتهم بدافع قبليّ محض حيث حملهم الحسد و العداوة القديمة في الجاهليّة بين الأوس و الخزرج، و كان اللّه قد ألّف بين قلوبهم في الإسلام ببركة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا فارق النبيّ الدنيا عاد القوم إلى جاهليّتهم و عداوتهم، في يوم السقيفة، و رفع الغطاء عن الأضغان القديمة، و استجدّت في الإسلام أخرى، و لهذا قال خزرجيّ لأوسيّ بعد أن بايع أبا بكر: ما حملك على ما صنعت إلّا حسد ابن عمّك سعد.

ص: 423


1- هذه مجموعة أحاديث اشتهرت بين الأمّة و تواتر بعضها، فما من حاجة إلى تخريجها لأنّك تجدها مرويّة و مخرّجة بأحسن الطرق عند معظم الحفّاظ إلّا الشاذّ منهم.

و يقال عن الواقدي في فتوح الشام بأنّه قال عن أبي بكر أنّه قال: قد علمت أنّي داخل في النار. و روي: واردها، و ليت شعري أخرج أم لا.

و كان الواقديّ عثمانيّا و هو من شيعة أبي بكر، و يوثق به عند أهل السنّة و الجماعة.

المعروف عن أبي بكر أنّه كان يظهر اللين و الرفق بأمير المؤمنين عليه السّلام، و كان يظهر النفرة من الخلافة و عدم الرضا بها لا سيّما إذا رأى أمير المؤمنين عليه السّلام أو جلس بحضرته، و سنحت له الفرصة ذات يوم فأقبل عليه و قال: يا أبا الحسن، أنت تعلم بأنّي لم أكن صاحب مال و لا خدم أو حشم، و لم أرغب في الإمرة، و لا تمنّيتها، فمالك تميل عنّي بوجهك و تظهر الكراهيّة على وجهك و الألم عند لقياي؟

فقال عليّ عليه السّلام: إن لم تكن ذا رغبة بها فمالك قبلتها و أخذت حقّا لم يكن لك؟

قال: إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا تجتمع أمّتي على ضلال، من ثمّ تقبّلتها، و لو علمت أنّ أحدا من الأمّة غير راض بي لما أقدمت على هذا الفعل الخطير، و لعزلت نفسي.

فقال عليّ عليه السّلام: يا أبا بكر، أنا واحد من أمّة محمّد و مثلي سلمان و أبو ذر و المقداد و عمّار و سعد بن عبادة و الأنصار من الخزرج، و لم يطعن بهم أحد، و لم يتّهمهم بالتقصير في ذات اللّه و وصيّة رسوله.

فقال أبو بكر: خفت على الأمّة من الارتداد إن لم أقم في الأمر أو يتخلى الناس عن الإسلام، و عند ذلك يصاب الإسلام بخلل لا يسدّ، و كسر لا يجبر.

فقال عليّ عليه السّلام لأبي بكر: بم يحصل هذا الأمر؟

فقال: بالنصيحة و الوقار و رفع المداهنة و المخاتلة و حسن السيرة و إظهار العدل و العلم بالكتاب و السنّة و فصل الخطاب مع الزهد في الدنيا و قلّة الرغبة فيها، و انتصار المظلوم من الظالم للقريب و البعيد.

ص: 424

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و السابقة و القرابة. ثمّ قال: ناشدتك اللّه، أهذه الخصال فيك أم فيّ؟

فقال أبو بكر: فيك يا أبا الحسن.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: أأنا السابق في الإسلام أم أنت؟ قال: بل أنت.

فقال: أأنا كنت مولى المسلمين كلّهم أم أنت؟ قال: بل أنت.

قال: أأنا وليّ المسلمين لمّا تصدّقت بالخاتم فأنزل اللّه فيّ قرآنا يتلى أم أنت؟

قال: بل أنت.

قال: أأنا لرسول اللّه بمنزلة هارون من موسى أم أنت؟

قال: بل أنت.

فقال: هل باهل رسول اللّه بي و بأولادي و زوجتي أو بك و بأهل بيتك؟ قال:

بل باهل بك و بأهل بيتك.

قال: هل نزلت آية التطهير فيّ و بأهل بيتي أو فيك و بأهل بيتك؟ قال: بل فيك و في أهل بيتك.

قال: المدعوّ تحت الكساء أنا و أهل بيتي أو أنت و أهل بيتك؟ قال: بل أنت و أهل بيتك.

فقال: أفيك نزلت آية يُوفُونَ بِالنَّذْرِ (1) الآية، و في أهل بيتك أو فيّ و في أهل بيتي؟ قال: بل فيك و في أهل بيتك.

قال: و في وقعة أحد حين نادى جبرئيل بين السماء و الأرض: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا علي، أكان هذا النداء في حقّك أم في حقّي؟

و هل ردّت الشمس لي أو لك بعد غروبها؟

ص: 425


1- الإنسان: 7.

و في يوم خيبر أعطي الراية لي و كان الفتح على يدي أم لك و على يديك؟

و من كشف الغمّ عن وجه رسول اللّه و المسلمين يوم الأحزاب و الخندق بقتل عمرو بن عبد ودّ، أنت أم أنا؟

و هل ائتمنني رسول اللّه على رسالته إلى الجنّ أو ائتمنك فأجابه بل إاتمنك.

و هل طهّرني رسول اللّه أم طهّرك بقوله: «يا علي، أنا و أنت من نكاح لا من سفاح من لدن آدم إلى عبد المطّلب»؟

و اختارني لفاطمة كفوا أم اختارك؟

و أنا أب لسيّدي شباب الجنّة أم أنت؟

و أخي يطير مع الملائكة في الجنّة جعفر أم أخوك؟

و أنا قاضي دين رسول اللّه أم أنت؟

و أنا مرسل من قبله للنداء في أهل الموسم أم أنت؟

و أنا منجز عدات رسول اللّه أم أنت؟

أنا المدعوّ إلى الطير المشويّ مع رسول اللّه أم أنت؟

و أنا الذي قمت بتجهيز رسول اللّه و أغمضت له عينيه و أسبلت له يديه و قمت بدفنه أم أنت؟

و أنا الذي دعا لي بعلم القضاء و فصل الخطاب و قال عنّي: أقضاكم عليّ، أم أنت؟ كامل البهائي ج 1 426 الفصل الحادي عشر ..... ص : 422

من منّا أمر النبيّ الصحابة أن يسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، أنا أم أنت؟

و من منّا أنزل اللّه عليه دينارا لقضاء حاجته و بايعه جبرئيل و شاراه، فأضاف الرسول و أولاده، أكان ذلك الشخص أنا أم أنت؟

ص: 426

قيل: و هاهنا بكى أبو بكر (1).

ثمّ قال: و أنا الذي رقيت على منكب النبيّ حتّى هشمت أصنام الكعبة أم أنت؟

ثمّ قال: لو شئت أنال أفق السماء لنلتها.

و من صاحب لواء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الدنيا و الآخرة، أنا أم أنت؟

و سدّ رسول اللّه جميع أبواب أصحابه المحاذيه للمسجد و ترك بابي مفتوحا أم بابك؟

و من صاحب مناجات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المتصدّق قبل التسبيح في الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (2) أنا أم أنت؟

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لفاطمة: «زوجك أوّل الناس إيمانا، و أرجحهم إسلاما» عنّي أم عنك؟

و كان أبو بكر لا يجيب على سؤال الإمام عليه السّلام إلّا بقوله: أنت لا غيرك، و ناشده بأمثال هذه الرتب العالية كثيرا، و كان يثني على الإمام كثيرا، و بكى في آخر الحديث و قال: يا أبا الحسن، أخرجني من هذا المأزق الذي وقعت فيه و خلّصني من عذاب اللّه يوم القيامة.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: الأمر إليك إن شئت ذلك، اردد عليّ حقّي و حقّ أولادي الذي لا تستحقّه أنت، فرضي بأن يفعل ذلك، و خرج على هذا القرار عند الإمام عليه السّلام.

و كان عمر يبحث عنه طول يومه و قد تملّكته الحيرة من غيابه، حيث لا يعلم

ص: 427


1- إن كان أبو بكر بهذا القلب الرقيق و العواطف السامية و يتحلّى بالنجابة التي تحمله على الشهادة لخصمه بحقّه و فضله إذن من الذي ظلم عليّا و غصبه حقّه ..؟؟!
2- المجادلة: 12.

الوجهة التي استخفى فيها، و كان يعلم منه اللين و الرضوح للحقّ أحيانا (1) لذلك لا يدعه وحده بحال من الأحوال، و كان يخشى أن يرجع الحقّ إلى عليّ عليه السّلام، و لمّا علم أنّه مختل بعليّ خاف.

و في تلك الليلة رأى أبو بكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عالم الرؤيا فسلّم عليه و لكن النبيّ لم يرد جواب سلامه و أشاح بوجهه الشريف عنه، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، ما ذنبي حتّى أدرت وجهك عنّي؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أردّ السلام عليك و قد عاديت من والى اللّه و رسوله، ردّ الحقّ إلى أهله. قال: فقلت: من أهله؟ فقال: من عاتبك عليه، عليّ. فقال أبو بكر: قد رددته عليه يا رسول اللّه. و غاب رسول اللّه عن عينه.

فما أن أصبح الصباح حتّى وافى ابو بكر بيت الإمام و أخبره عن الرؤيا و قال: مدّ يدك لأبايعك، فمدّ الإمام يده فبايعه و سلّمه الخلافة و قال: يا أبا الحسن، سأذهب إلى المسجد و أحكي للأمّة عن قصّة الرؤيا و أكشف لهم وجه حجّتك، و أستقيلهم من الحكم و أسلّمه لك. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: لعلّك تفعل ذلك.

فلمّا خرج من عنده و إذا بعمر مقبل عليه، فقال: يا خليفة رسول اللّه مالك تغيّر لونك؟ فحكى له أبو بكر الرؤيا و ما شاور فيه أمير المؤمنين و ما اتفقا عليه، فقال له عمر: إنّك وقعت تحت تأثير سحر بني هاشم، و ما زال يوسوس له حتّى صرفه عمّا عاهد عليه الإمام عليه السّلام، و ردّه إلى وضعه السابق اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ (2).

ص: 428


1- أمّا هذه الصفات فأبو بكر منها براء، و هو صاحب الانفعالات و المزاج العصبي الشديد الذي لا يلين، و على أثر هذا المزاج الحادّ قامت حروب التأسيس أو ما يسمّى بالردّة، فقد وقف المسلمون بجانب يستنكرون الحرب، و وقف أبو بكر بالجانب الآخر يأمر بها حتّى غلبت إرادته و قامت الحرب فأين لينه؟؟ ليت شعري.
2- المجادلة: 19.

فذهب عليّ عليه السّلام إلى المسجد على العهد الذي عاهده عليه أبو بكر و لكنّه رأى المسجد مقفرا فخرج منه «خائفا من شرّ غائلتهم عازما (على) زيارة روضة الرسول» فلحق به عمر في الطريق و سخر منه، و قال له: لن أدعك تنال الحكم أنت و أولادك ما دمت على قيد الحياة، فزار الإمام النبيّ و عاد إلى بيته.

الفصل الثاني عشر

كلّما اجتمع أبو بكر بعليّ يقول له: أعذرني. قال ابن عبّاس: أحصيت لأبي بكر عشرة مواضع سمعته يقول فيها لعليّ عليه السّلام: «أعذرني».

قال سلمان: ما وقعت عين أبي بكر على عليّ إلّا قال له: المعذرة إليك من التقدّم عليك.

و قال يوما و قد ضمّه المجلس مع عليّ و العبّاس: أعذروني أعذركم اللّه بالتقدّم، ما تقدّمنا عليكم عن رأينا و لكن غلبنا عليه (1).

قال عبد اللّه بن عبّاس: جاء أبي العبّاس يوم السقيفة المغيرة بن شعبة و أخذ يعتذر له، فقال أبي: لا عذّر اللّه من عذرك، اعزب عنّا لعنة اللّه عليك.

ص: 429


1- لست أدري من أين استقى المؤلّف هذه الأخبار و قد ساقها من غير ذكر للسند و لا للكتاب الذي تناولها منه، و قد بعد زماننا عن زمانه فليس لنا أن نحكم عليه بخطأ أو صواب حتّى يتبيّن لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، و أنّى لنا بذلك، أمّا عن أبي بكر و ما يحكيه المؤلّف عنه من سماحة الخلق و رجاجة الرأى و تفانيه في خدمة الإمام حتّى عاهده على الاستقالة و ردّ حقّه إليه لولا ما فعله عمر فهو كلام فارغ لا أساس له من الصحّة إطلاقا، و الرجل أبعد الناس من هذه الأخلاق، ولو صحّ فيه ما قاله المؤلّف لكان ردّه فدكا على الزهراء و إرثها عليها و سهم ذوي القربى أهون من ردّ الخلافة، فما باله مات و هو مصرّ على ذنبه، عاكف على جريمته، عفى اللّه عن المؤلّف فإنّه خلط الحابل بالنابل.

و رأى الإمام عليّ عليه السّلام أبا عبيدة بن الجرّاح، فقال له: و أنت أيضا تظاهر علينا؟

فقال: معذرة عليك، فحوّل الإمام وجهه عنه، و قال: هذا أوان لا يعذرون و لا يؤذن لهم فينتصرون.

يقول الزهري:

عليّ لعمري كان بالناس أرؤفاو في العلم بالأحكام أقضى و أعرفا

فما عذر قوم أخّروه و قدّمواعديّا و تيما و هو أعلى و أشرفا ***

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، تمّ بحمد اللّه و منّه و بتوفيق منه و عناية الجزء الأوّل من كتاب «كامل البهائي» في السقيفة، و نسأله سبحانه أن يمنّ علينا بالتوفيق لإتمام الجزء الثاني منه.

شعبان المعظّم 1376 ه (1)

ص: 430


1- الظاهر أنّ تجزئة الكتاب من الناشر و الدعاء و التاريخ منه أيضا، و الحمد للّه أوّلا و آخرا.

فهرس المحتويات

مقدّمة المترجم 3

شرح حال المؤلّف مطابقا لما تفضّل به المحدّث القمّي رضوان اللّه عليه 13

ديباجة الكتاب 17

الباب الأوّل: في أقسام العلم 34

الباب الثاني: في أقسام النعم 37

في بيان ما هو المذهب الحقّ من المذاهب المتعدّدة 42

في بيان عقيدة الشيعة و أهل السنّة 45

الباب الثالث: في بيان مذاهب أهل السنّة، و الجواب عنها للشيعة 49

الفصل الأوّل 49

الفصل الثاني 51

الفصل الثالث 53

الفصل الرابع 54

الفصل الخامس 57

الفصل السادس 64

الباب الرابع: في أنّ الشيعة ناجية 73

الباب الخامس: في دلائل حجّة اللّه على خلق اللّه أمير المؤمنين عليّ و أولاده الطاهرين صلوات اللّه عليه و عليهم أجمعين 92

الفصل الأوّل: في من ظلم العترة و سبّهم 139

الفصل الثاني: في مناقب عليّ عليه السّلام على سبيل الإجمال 142

الباب السادس: في الآيات التي لم يعملوا بها 145

الباب السابع: في بيان ما اجتمع بالقوم من الخصال الساقطة المنافية للإمامة 163

ص: 431

خصال عمر التي تفرّد بها 169

الباب الثامن: في المناقب و الأخبار التي افتروها زخرفة لأباطيلهم 176

فصل 313

الباب التاسع: في البدع التي ابتدعها أبو بكر و رسيلاه 316

قصّة سعد بن عبادة 323

بيان في أنّ عثمان و بني أميّة لم يكونوا من قريش و أنّ أميّة غلام روميّ 350

الباب العاشر: في حجّة الوداع و ذكر الغدير و وصيّة الرسول و وفاته و فيه ما يتبع ذلك 360

الفصل الأوّل: في حجّة الوداع 360

الفصل الثاني: في ذكر الغدير 362

الفصل الثالث: في ذكر وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله 368

الفصل الرابع: في ذكر الوصيّة 370

الفصل الخامس: في تمام قصّة موته صلّى اللّه عليه و آله 372

الباب الحادي عشر: في بناء السقيفة 378

الفصل الأوّل: في خلاف الصحابة 382

الفصل الثاني: في وفاة فاطمة عليها السّلام 393

الفصل الثالث 400

الفصل الرابع 405

الفصل الخامس 408

الفصل السادس 408

الفصل السابع 410

الفصل الثامن 413

الفصل التاسع: في فوائد هذا الكتاب 420

الفصل العاشر 422

الفصل العاشر 422

الفصل الحادي عشر 422

الفصل الثاني عشر 429

ص: 432

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.