سيدالمرسلين صلي الله عليه و آله المجلد2

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : سيدالمرسلين صلي الله عليه و آله/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : [قم]: الجماعه المدرسين في الحوزه العلميه بقم، موسسه النشر الاسلامي ، 1412ق. = 1370 -

فروست : موسسه النش ر الاسلامي التابعه لجماعه المدرسين بقم المشرفه ؛ 390 ، 391.

شابك : دوره 964-470-396-0 : ؛ 28000 ريال : ج.1 964-470-716-8 : ؛ 45000 ريال (ج.1، چاپ دوم)

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : ج.1 (چاپ دوم: 1427ق. = 1385).

يادداشت : كتابنامه.

شناسه افزوده : جامعه مدرسين حوزه علميه قم. دفترانتشارات اسلامي

رده بندي كنگره : BP22/9 /س 2س 9 1370

رده بندي ديويي : 297/93

شماره كتابشناسي ملي : م 71-1146

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[المقدمة]

مميّزات النهضة الالهية و خصائصها خصيصة «الخلود» و العمق في شخصية رسول الاسلام

المصادر الاولى و الأصيلة للكتابة عن سيرة النبيّ:

تشبه نهضة «الأنبياء» الالهية التي قام بها رسل اللّه و سفراؤه لتخليص البشرية من براثن الأوهام، و الخرافات، و لانقاذها من جور المستكبرين و ظلم الظالمين أكثر شي ء بأمواج البحر التي تبدأ بدوائر صغيرة محدودة، و لكنّها كلما ابتعدت عن مركز الدائرة ازدادت اتساعا و اتساعا، و اشتدت قوتها اكثر فاكثر.

إن الانقلاب المعنويّ العريض و التحوّل الروحيّ العظيم الذي وضعت اسسه في أرض مكة على يدي رسول الاسلام العظيم أضاء بشعاعه و نوره الباهر في اليوم الاوّل غار حراء و ثم منزل خديجة و بعض البيوت المتواضعة في مكة فقط، و لكنه اتسع نطاقه بمرور الزمان، حتى عمّ في مدة ليست بالطويلة شرق الارض و غربها، و دوّى نداء التوحيد في منطقة واسعة جدا من العالم (ابتداء من فرنسة و انتهاء بجدار الصين و ما وراءه) «1».

______________________________

(1) لقد كتبت هذه المقدّمة و ما بعده خلال تواجدي في الصين عام 1408 و قد جئت إليها في مهمة استطلاعية و تبليغية اسلامية، و قد زرت في نفس الفترة التي كنت فيها مشتغلا بكتابة هذه المقدمة المسجد الجامع في- بكين- العاصمة، و التقيت بامام ذلك المسجد الذي رحّب بي و بمن كان معي أشد ترحيب، و اتحفني بنسخة من ترجمة القرآن الكريم باللغة الصينية، وزرت خلال وجودي في ذلك المسجد قبر رجلين مسلمين من ايران أحدهما تاجر، و الآخر عالم جاءا إلى الصين في القرن السادس الهجري، و نشرا الاسلام في بكين و ما حولها، و قد نصبت عند قبرهما لوحتان من المرمر نقش عليهما اسمهما، و خصوصياتهما بالاحرف العربية.

و هناك تذكرت حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «اطلبوا العلم و لو

بالصين».

قلت في نفسي: لعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقصد فيما يقصد في هذا الحديث دفع

سيد المرسلين ،ج 2،ص:4

إن مؤسّسي هذا النوع من النهضات الدينية «1» يتمتعون- من حيث الاخلاق و الفضائل الانسانية- بخصيصة الخلود و اللانهاية فان الزمن يكشف باستمرار عن أبعاد أوسع و آفاق جديدة من شخصياتهم فهي تتسع كلما تقادم بها العهد تماما كأمواج البحر، و كأن الأنبياء نسخة ثانية من الطبيعة، فكما أننا كلما أمعنا أكثر في الطبيعة ظهرت لنا منها حقائق اكثر، و انكشفت لنا رموز و أسرار جديدة لم نعهدها من قبل فهكذا شخصيات الأنبياء و المرسلين، و سفراء اللّه الى البشرية.

و تتجلى هذه الحقيقة أكثر- فأكثر كلما تعاظمت شخصية من تلك الشخصيات-.

و خلاصة القول أننا كلما ازددنا تعمقا و امعانا فيهم. اكتشفنا أسرارا كثيرة، و حقائق جديدة عن حياتهم.

و يدل على كلامنا هذا تلك المؤلفات الكثيرة الوافرة التي كتبها علماء التاريخ و أصحاب السير، قديما و حديثا، حول رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله و لكن مع ذلك كله كلما تقادم العهد به، و كلما اتسعت النظرات و ازدادت عمقا

______________________________

المسلمين إلى نشر مبادئ الاسلام في تلك البلاد العريضة التي تضم خمس سكان العالم.

و قد قام المسلمون الغيارى على دينهم، الحريصون على نشره و بثه بهذه المهمة فيما سبق و أدوا ما كان عليهم. فما ذا فعلنا نحن؟

و هل ترى يجوز أن يجهل خمس سكان العالم دين اللّه، و لا ينعموا بخيراته؟!

أم هل ترى يجوز في شريعة الانصاف أن يعاني ذلك الشعب الكبير من الاباطرة الطغاة في الماضي، و من الانظمة و الايديولوجيات الجائرة الملحدة في الحاضر، هذا و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

كان يحرص على هداية فرد واحد، و القرآن يقول: «من احياها فكأنما أحيى الناس جميعا»؟؟

هل خصصت نهضة الأنبياء الالهية برقعة صغيرة من الارض هي الجزيرة العربية، و ما حولها؟ أم أنها رحمة للعالمين جميعا؟

سؤال نطرحه على ابناء الاسلام دعاة و رعايا، حكومات و شعوبا لعلهم يتفكرون؟ (جعفر الهادي).

(1) المقصود من الدين هو المنهاج الواسع الشامل الذي يتكفل سعادة البشرية في الحياتين الدنيا و الأخرى و ليس مجرد سلسلة من الطقوس الفارغة الخاوية كما هو الحال في المسيحية الحاضرة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:5

اكتشف المحققون مزيدا من الآفاق، و جديدا من الابعاد في هذه الشخصية الإلهية.

و لقد كان تعاطي السيرة النبوية و الحديث حولها في البداية منحصرا (أو بالاحرى مقتصرا) على مشاهدات أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مسموعاتهم.

و مع ظهور جيل جديد يدعى بالتابعين بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اتخذت الاحاديث و السنن الاسلاميّة، و تفاصيل الحياة النبويّة، و قصص غزواته و حروبه رونقا جديدا، و أحسّ الجيل الجديد برغبة شديدة في أخذ الاحاديث الاسلامية، و التعرف على الحوادث التي وقعت في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أيّام حياته من مولده إلى وفاته.

و كلما ازدادت حالات الوفاة، في أوساط الصحابة و التابعين الذين كانوا يشكّلون المنبع الأوّل و المصدر الأصيل لهذا النوع من العلوم الاسلامية، اتسع الاهتمام بالسيرة و ما شابهها و تعاظمت الرغبة فيها و تزايد عطش المسلمين إلى اخذ و معرفة الأحاديث التي تتضمن بيان خصوصيات حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله، و جزئيات سيرته الطاهرة. هذا من جانب.

و من جانب آخر كان تشدّد الخليفة الثاني «1»، و منعه عن كتابة أحاديث النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله قد أوجب أن يندثر كثير من الأحاديث الاسلامية، التي سمعها بعض أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تدفن تحت التراب بموتهم.

و لقد استمر منع الخليفة عن كتابة الحديث النبوي و بقي ساري المفعول لمدة طويلة بعد وفاته «2»، حتى أتى الى الحكم خليفة معتدل السيرة من الأمويين هو:

«عمر بن عبد العزيز» فأمر- في رسالة وجّهها الى أبي بكر بن حزم حاكم المدينة

______________________________

(1) تقييد العلم: ص 48- 53.

(2) لم يترك نهي الخليفة أي أثر على علماء الشيعة الذين كانوا يتبعون عليا عليه السلام، فقد عمدوا في فترة محدودة الى تدوين و ضبط الأحاديث، و حفظوا كنوزا عظيمة من علوم اهل البيت النبوي، للتوسع في هذا المجال راجع كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:6

و قاضيها- بكتابة احاديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خوفا من اندراس العلم و زواله «1».

أئمة السيرة:

و من حسن الحظ أن الخليفة الثاني لم يمنع إلّا من تدوين و كتابة الأحاديث النبويّة، فلم يشمل هذا المنع كتابة الحوادث و الوقائع التي وقعت في عصر الرسالة.

و لهذا الّفت في تلك الفترة كتب كثيرة عن حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أوّل من كتب حول وقائع عصر الرسالة، و أرخ حوادث الصدر الأوّل من الاسلام هو: «عروة بن الزبير بن العوّام» الصحابي المعروف الذي توفي عام 92 أو 96 من الهجرة «2»

ثم عمد بعد جماعة في المدينة و آخرون في البصرة الى جمع و تدوين تفاصيل السيرة، و حروب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و غزواته، و بيان هذا الأمر على نحو التفصيل خارج عن نطاق هذه الدراسة.

و لقد كانت هذه الكتب و

المؤلفات هي المنبع و الاساس للكتب التي دوّنت فيما بعد في صورة كتب السيرة النبويّة، أو تاريخ الاسلام.

و قد بدأ تدوين سيرة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله بشكل جميل و بصورة بديعة منذ أوائل المنتصف الثاني من القرن الثاني الاسلامي، و كان من بين من قام بجهد مشرف و مشكور في هذا المجال العالم الشيعي الكبير محمد بن اسحاق المتوفى عام 151 فهو أول من استخرج تفاصيل الوقائع الاسلامية من كتب الماضين، و من

______________________________

(1) ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري: ج 1 ص 195 و 196.

(2) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام: ص 233.

اختلفت الاقوال في من هو أول من صنف في علم المغازي و السير في الاسلام.

فقال السيوطي في كتاب الاوليات بأنه عروة بن الزبير.

و قال الافندي في كشف الظنون أنه محمد بن اسحاق.

و الحق انه لا الاول و لا الثاني بل عبيد اللّه بن أبي رافع فانه تقدمهما في التصنيف في السير و المغازي.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:7

ثنايا رواياتهم و منقولاتهم و ألفها و اخرج شيئا جامعا حول السيرة النبويّة إلى عالم الكتب و المؤلّفات.

كما أن أوّل من ضبط و دوّن غزوات رسول الاسلام بشكل مفصّل هو الواقدي صاحب «المغازي» و «فتوح الشام» المتوفى عام 207 ه «1».

و قد لخّصت سيرة ابن اسحاق على يد ابن هشام أبي محمد عبد الملك المتوفى عام 218 ه و عرفت فيما بعد بسيرة ابن هشام (أو السيرة الهشامية) و هو الآن معدود من مصادر التاريخ الاسلامي و سيرة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله الموثقة.

و لو أننا تجاوزنا هذه الشخصيات لكان لشخصيتين اخريين سهم كبير في تدوين و تسجيل تاريخ حياة رسول الاسلام، و هما:

1- محمد بن

سعد الكاتب الواقدي المتوفى عام 230 ه مؤلف «الطبقات الكبرى» الذي أورد فيه سيرة النبيّ الإكرام صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه على نحو التفصيل.

و قد طبع هذا الكتاب في لندن مؤخرا، كما اعيد طبعه في لبنان في 9 مجلدات.

2- محمد بن جرير الطبري المتوفى عام 310 ه مؤلف كتاب «تاريخ الامم و الملوك».

على أن تثمين جهود هذه الثلة من الكتّاب و المؤلفين لا يعني بالضرورة أن كل ما أدرجوه في مؤلفاتهم هو الثابت الصحيح، بل تحتاج مؤلفاتهم- كغيرها من المؤلفات، و الكتب- إلى التحقيق الواسع و التمحيص الدقيق.

ثم ان حركة التأليف حول شخصية رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) عدّ الشيخ الطوسي في رجاله ابن اسحاق من تلامذة الامام جعفر الصادق عليه السلام، و توجد نسخة خطية من سيرته في مكتبة مدرسة الشهيد المطهري بطهران حسب ما كتب صاحب الذريعة في ج 12 ص 281 فيها.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:8

و سيرته استمرت بعد ذلك طيلة القرون الاسلامية اللاحقة. و نحن اليوم أمام مكتبة زاخرة من الكتب، و الدراسات، المختلفة في أحجامها و مستوياتها، و المتنوعة في طرائقها و أساليبها، التي ألّفت حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هذا إنما يدل على خصيصة العمق و اللانهاية التي اتسمت بها شخصية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الخالدة العظيمة.

و قد أراد صاحب هذه الدراسة أن يقدم للجيل الحاضر شرحا ناطقا عن حياة رسول الاسلام العظيم، في حدود ما تسمح به إمكاناته المحدودة، و لم يأل جهدا- لتحقيق هذا الهدف على وجه أفضل- في مراجعة كتب الفريقين المعتبرة، و ان اكتفى بذكر عدد قليل من المصادر عند التأليف، و قد بيّنا عذرنا من هذا

في الجزء الأوّل من هذه الدراسة.

و لقد تناول الجزء الأول من هذا الكتاب حوادث مكة من بدء نشأتها إلى نهاية السنوات الثلاث عشرة الاولى من عصر الرسالة أي ما قبل الهجرة، و ها هو الجزء الثاني و هو يتناول حوادث العشر سنوات للهجرة الشريفة، و من اللّه التوفيق.

قم المقدّسة- الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

21 شعبان 1392 ه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:9

حوادث السنة الأولى من الهجرة «1»

اشارة

26 (1)

أوّل عمل ايجابيّ للنبيّ في المدينة عقد ميثاق تعايش بين المسلمين و غيرهم:

حملت وجوه فتية الانصار المستبشرة، المبتهجة، بمقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الاستقبال العظيم الذي قام به أغلبية الأوسيّين و الخزرجيين له حملته صلّى اللّه عليه و آله، على أن يعمد قبل أي شي ء إلى تأسيس مركز عام لتجمّع المسلمين فيه في الأوقات المختلفة، و للقيام بالاعمال التربوية و التثقيفية، و السياسية و العسكرية في رحابه.

كما أن عبادة اللّه الواحد تقع في طليعة البرامج التي جاء بها رسول الاسلام و لذا رأى من اللازم أن يعمد قبل أي عمل آخر الى بناء معبد للمسلمين حتى يتسنى لهم أن يعبدوا اللّه و يذكروه فيه في أوقات الصلوات.

أجل كانت الحاجة إلى مثل هذا المركز شديدة فلا بد من مكان ليجتمع اعضاء حزب الاسلام (حزب اللّه) كل اسبوع في يوم معين فيه، و يتشاوروا في

______________________________

(1) لا بدّ أنك أيها القارئ الكريم تتذكر جيدا أننا قصدنا من السنة الاولى للهجرة الاشهر العشرة المتبقية التي قضى رسول اللّه شهرين منها في مكة و حطّ في الباقي من شهرها الثالث (أي ربيع الاول) على أرض يثرب، بناء على هذا تكون السنة الاولى من الهجرة تسعة أشهر فقط، و تبدأ السنة الهجرية الثانية من شهر محرم الحرام (و ليس من اثنى عشر ربيع الاول).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:10

شئون الاسلام و المسلمين و مصالحهم، و ليجتمع فيه عامة المسلمين مضافا إلى هذا اللقاء الاسبوعيّ مرتين كل عام لأداء صلاة العيد، فكان المسجد الذي بناه كأول عمل قام به بعد قدومه المدينة.

(1) فلم يكن المسجد على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للعبادة فقط بل كانت تلقى فيه كل أنواع العلوم و المعارف الاسلامية الشاملة للأمور التربوية و غيرها.

لقد

كان يعلّم فيه كل التعاليم و المواد الدينية و العلمية، حتى الأمور المرتبطة بالقراءة و الكتابة.

و قد بقيت أغلب المساجد على هذا المنوال حتى مطلع القرن الرابع الهجريّ الاسلاميّ، فقد كانت في غير أوقات الصلاة تتحول الى مراكز لتدريس العلوم المتنوعة «1».

(2) و ربما اتخذ مسجد المدينة صورة المركز الأدبيّ، عند ما كان يلقي فيه كبار فصحاء العرب و بلغاؤهم قصائدهم المنسجمة مع التعاليم الاخلاقية و المعايير الاسلامية بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما فعل «كعب بن زهير» إذ ألقى قصيدته المعروفة «بانت سعاد» عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في المسجد، و أعطاه النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله صلة جيّدة، و خلع عليه بخلعة عظيمة «2».

أو كما كان يفعل «حسان بن ثابت» الذي كان يدافع بشعره عن حوزة الاسلام و المسلمين اذ كان يلقي بعض قصائده في المسجد عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

______________________________

(1) راجع صحيح البخاري: ج 1 كتاب العلم، بل حتى عند فصل المراكز العلمية عن المساجد في ما بعد، بقيت المدارس تبنى و تشيّد الى جانب المساجد فكان هذا العمل يجسد الصلة الوثيقة بين العلم بالدين.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 503 قال أنشد كعب بن زهير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد: بانت سعاد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:11

(1) و لقد كانت مجالس الدرس و التعليم في مسجد المدينة على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تتسم بروعة كبيرة بحيث عند ما شاهد وفد ثقيف مشهدا من مشاهدها انبهروا به، و عجبوا بشدة لاهتمام المسلمين بتعلم الاحكام و اكتساب المعارف و العلوم «1».

كما انه كانت تمارس الامور القضائية و

الفصل بين الخصومات، و اصدار الحكم على المجرمين في المسجد، فكان المسجد يومذاك بمنزلة محكمة (بكل معنى الكلمة) أي أنها تقوم بكل ما تقوم بها المحاكم اليوم.

هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يلقي خطبه الحماسية و الجهادية لتعبئة المسلمين من أجل مجاهدة الكفار و المشركين في المسجد.

(2) و لعل من حكمة الاجتماع في المسجد لاجل تحصيل المعارف و تعلم العلوم هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أراد بذلك أن يثبت عمليا أن العلم و الدين توأمان لا ينفكان فكلما كان هناك مركز للايمان وجب ان يكون محلا للعلم أيضا.

و أما ممارسة القضاء و القيام بالخدمات الاجتماعية، و اتخاذ القرارات العسكرية في المسجد فقد كان لأجل أن يعلن للجميع بأن دينه ليس مجرد أمر معنوي لا يتصل بالامور الدنيوية و لا تهمه قضايا الحياة و شئون المعيشة المادية، بل هو دين شامل كامل لا يحض الناس على التقوى، و لا يدعوهم إلى الايمان إلّا و يهتم أيضا بشئونهم المعيشية و إصلاح أوضاعهم الاجتماعية. فليس هو بالتالي يهتمّ بجانب و يغفل جانبا، بل هو دين شامل جامع يتكفل الأمور المادية و المعنوية معا.

(3) و لقد كان هذا التلاقي و الانسجام (بين العلم و الإيمان) محطّ اهتمام المسلمين و نصب أعينهم دائما حتى بعد ما اتخذت المراكز التعليمية و المؤسسات العلمية البحتة شكلا مستقلا و صار لها محل خاص تدرس فيه، فانهم ظلوا يبنون

______________________________

(1) تاريخ الخميس: ج 2 ص 136.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:12

الجامعات الى جانب الجوامع و يشيّدون المعاهد الى جانب المساجد ليثبتوا للعالم أن هذين الأمرين اللذين يكفلان إسعاد الحياة و الانسان لا يمكن أن ينفصلا، و يبتعد بعضها

عن بعض.

(1)

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ:

لقد ابتاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الارض التي بركت فيها ناقته يوم قدومه المدينة، من أصحابها بعشرة دنانير لإقامة مسجد فيها. و اشترك كافة المسلمين في تهيئة موادّه الانشائية و بناه، و عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه في تشييدها أيضا. فكان صلّى اللّه عليه و آله ينقل معهم اللبن، و الحجارة، و بينما هو صلّى اللّه عليه و آله ذات مرة ينقل حجرا على بطنه استقبله «اسيد بن حضير» فقال: يا رسول اللّه اعطني أحمله عنك.

قال صلّى اللّه عليه و آله: لا، اذهب فاحمل غيره «1».

و بهذا الاسلوب العملي كشف رسول الاسلام العظيم عن جانب من برنامجه الرفيع، إذ بيّن بعمله أنه رجل عمل و ليس رجل قول، رجل فعل و ليس رجل كلام، و كان لهذا أثره الفعّال في نفوس أتباعه.

فقد أنشد أحد المسلمين بهذه المناسبة يقول:

لئن قعدنا و النبيّ يعمل فذاك منّا العمل المضلّل «2» (2) و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يردّد و هو يبني و يعمل: لا عيش إلّا عيش الآخرة، اللهمّ ارحم الأنصار و المهاجرة.

و قد كان «عثمان بن عفان» ممن يهتمّ بنظافة ثيابه، و يحرص على أن يمنع عنها الغبار و التراب، فلم يعمل في بناء المسجد لهذا السبب، فاخذ عمار ينشد أبياتا تعلّمها من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، و فيها تعريض بمن لا يعمل و يحرص على ثيابه أن لا تتسخ بالغبار:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 112.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 496.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:13 لا يستوي من يعمر المساجدايدأب فيها قائما و قاعدا

و من يرى عن الغبار حائدا «1»

(1) و قد أغضب مفاد هذه

الابيات عثمان بن عفان، فقال لعمار مهدّدا: قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية، و اللّه إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك أي أضربك بها، و في يده عصا!!

فلما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكلام عثمان غضب و قال:

«ما لهم و لعمّار، يدعوهم إلى الجنّة، و يدعونه إلى النار.

إنّ عمارا جلدة ما بين عينيّ و أنفي ..» «2».

و كان «عمار» فتى الاسلام القوي، يحمل قدرا كبيرا من اللبن و الاحجار في بناء المسجد و لا يكتفي بحمل شي ء قليل منها.

فكان البعض يستغل طيب قلبه و اخلاصه فيثقله باللبن و الاحجار.

و يروى أن اصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جعل يحمل كل واحد لبنة لبنة و عمار يحمل لبنتين لبنتين لبنة عنه و لبنة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله محبة منه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «3».

(2) و ذات مرة رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد حمّلوه ثلاث لبن أو احجار ثقيلة فشكا إليه عملهم و قال: يا رسول اللّه قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون فنفض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فرته «4» و كان رجلا جعدا و هو يقول قولته التاريخية:

«ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، انما تقتلك الفئة الباغية» «5».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 496، و تاريخ الخميس: ج 1 ص 345 و السيرة الحلبية: ج 2 ص 76 و مع ان ابن اسحاق صرّح باسم عثمان بن عفان و لكن ابن هشام الذي لخصّ سيرة ابن اسحاق امتنع عن تسمية عثمان. و قال صاحب المواهب الدنية: المراد في هذه الابيات عثمان بن مظعون، راجع

هامش سيرة ابن هشام أيضا.

(2) تاريخ الخميس: ج 1 ص 345.

(3) السيرة الحلبية: ج 2 ص 71، البداية و النهاية: ج 2 ص 217.

(4) اي شعر راسه.

(5) المصدران السابقان

سيد المرسلين ،ج 2،ص:14

(1) و قد كان هذا الخبر الغيبي من الدلائل القوية على نبوة الرسول الكريم صلى اللّه عليه و آله و صدق دعواه، و صحة إخباراته، فقد وقع ما أخبره كما أخبر، فقد قتل «عمّار» و هو في التسعين من عمره في معركة صفين عند ما كان يقاتل جيش الشام بين يدي علي عليه السلام، فقتله أنصار معاوية، و قد أحدث هذا الخبر الغيبي أثرا عجيبا في حياة المسلمين فقد جعله المسلمون معيارا لمعرفة الحق، أي كانوا يعرفون حقانية أي جهة من الجهات و أي طرف من الأطراف في الصراعات و النزاعات بانضمام عمّار إليه.

و عند ما قتل عمّار في ساحة القتال بصفين، دبّ في أهل الشام اضطراب عجيب.

فالذين كانوا في شك في حقانية «عليّ» عليه السلام و موقفه في هذه الحرب بفعل الدعاية المضادة التي كان يقوم بها معاوية و مساعده عمرو بن العاص ضد الامام قد انتبهوا على خطائهم و عرفوا بمقتل «عمّار» على أيدي أنصار معاوية بأن عليا على حق و أن معاوية و جماعته هي الفئة الباغية التي أخبر عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و من هؤلاء «خزيمة بن ثابت» الأنصاريّ الذي خرج مع الإمام عليّ عليه السلام لقتال معاوية، و لكنّه كان متردّدا في مقاتلته، بيد أنه جرد سيفه بعد مقتل «عمّار» على أيدي أهل الشام، و حمل عليهم «1».

(2) و منهم «ذو الكلاع» الحميري الذي خرج على رأس عشرين ألف مقاتل و هم تمام رجال قبيلته، مع معاوية

لمحاربة الامام عليّ عليه السلام و كان معاوية يعتمد على نصرته اعتمادا كبيرا، حتى أنه لم يقدم على اتخاذ قرار الحرب إلّا بعد أن اطمأنّ الى تأييده له، و مشاركته في قتال علي عليه السلام.

فقد صدم القائد المخدوع بشدة عند ما سمع بوجود «عمّار» في معسكر الامام «علي».

______________________________

(1) المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 385 و وقعة صفين لابن مزاحم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:15

فأراد رجال معاوية أن يموهوا الأمر، و يشوشوه عليه فقالوا: ما لعمار و لصفين؟ فذلك ما يقوله أهل العراق و ما يبالون من الكذب.

(1) و لكن ذا الكلاع لم يقتنع بهذا فقال لعمرو بن العاص: يا أبا عبد اللّه أ ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إن عمارا تقتله الفئة الباغية»؟

فقال عمرو: أجل، و لكن ليس عمار في رجال علي.

فقال ذو الكلاع: فلا بدّ اذن أن أعرف ذلك بنفسي.

ثم أمر رجالا بأن يتحقّقوا من الأمر. و في هذه اللحظة الحساسة ادرك معاوية و عمرو خطورة الموقف اذ لو تحقق ذو الكلاع من وجود عمّار في معسكر «علي» أو عرف بمقتله بين يديه عليه السلام إذن لأحدث ذلك شرخا كبيرا و تمزقا فضيعا في جيش الشام، من هنا تمت تصفية ذو الكلاع فورا اذ قتل بصورة غامضة «1».

(2) إن اشتهار هذا الحديث لدى محدثي السنة و الشيعة ليغنينا عن استعراض مصادره، و اسناده.

فقد روى الامام احمد بن حنبل أنه لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال قتل عمّار و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تقتله الفئة الباغية فقام عمرو بن العاص فزعا يرجع (أي يقول: إنا للّه و إنا إليه راجعون)

حتى دخل على معاوية، فقال معاوية: ما شأنك؟ قال: قتل عمّار فقال معاوية: قد قتل عمّار فما ذا؟ قال عمرو: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: تقتله الفئة الباغية فقال له معاوية: أو نحن قتلناه انما قتله علي و أصحابه جاءوا به حتى القوه بين رماحنا (و سيوفنا) «2».

(3) و لكن لا يخفى أن هذا التأويل الباطل الذي لجأ إليه ابن أبي سفيان لتهدئة جنود الشام، ليس مقبولا عند اللّه تعالى قط، كما لا يقبل به أيّ عاقل لبيب.

فإنّ هذا هو الاجتهاد في مقابلة النص، و هو مما لا قيمة له أبدا، فان هذا

______________________________

(1) وقعة صفين: 377 و 387.

(2) مسند الامام احمد بن حنبل: ج 4 ص 198.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:16

النوع من الاجتهاد في مقابلة الآيات و الروايات الصريحة هو الذي سبّب في أن يعمد فريق من المجرمين و الجناة إلى تبرير جرائمهم و فضائعهم بحجة «الاجتهاد»، و تحت غطائه.

و إليك نموذجا من هذا الأمر:

(1)

ضئر أرأف من والدة!!

لا يجد المرء عبارة أفضل من هذه تعرّف حقيقة مؤرخ القرن الثامن الهجري (ابن كثير الشامي مؤلف البداية و النهاية).

فقد انبرى هذا الرجل الى الدفاع عن معاوية في كتابه اذ قال: لا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم، لأنهم و ان كانوا بغاة في نفس الأمر فانهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال و ليس كل مجتهد مصيبا، بل المصيب له أجران، و المخطئ له أجر واحد (ثم يقول) و أما قوله: يدعوهم الى الجنة و يدعونه الى النار فان عمّارا و أصحابه يدعون أهل الشام إلى الالفة و اجتماع الكلمة، و أهل الشام يريدون ان يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، و ان يكون الناس

أوزاعا على كل قطر امام برأسه، و هذا يؤدي إلى افتراق الكلمة و اختلاف الأمة فهو لازم مذهبهم و ناشئ عن مسلكهم و ان كانوا لا يقصدونه!! «1»

(2) و نحن لم نجد اسما يناسب هذا العمل إلّا التحريف للحقائق.

فان مؤيدي الفئة الباغية مع كل ما اوتوا من قدرة على إخفاء الحقائق و طمسها لم يستطيعوا إنكار هذه الحقيقة، و لكن مؤرخا مثل ابن كثير عمد- رغم ورود هذا الحكم الغيبي في شأن تلك الفئة- الى تحريف بارد قد غفلت تلك الفئة هي ذاتها عنه!!

(3) يقول أحمد بن حنبل: دخل رجلان على معاوية يختصمان في رأس عمّار يقول

______________________________

(1) البداية و النهاية: ج 2 ص 218.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:17

كل واحد منهما أنا قتلته، فقال عبد اللّه بن عمرو: ليطيب به أحدكما نفسا لصاحبه فاني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: تقتله الفئة الباغية قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: ان أبي شكاني إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: اطع أباك ما دام حيا، و لا تعصه، فأنا معكم و لست اقاتل «1».

(1) إن اعتذار «عبد اللّه بن عمرو بن العاص» يشبه تأويل ابن كثير الشامي الذي يقول: إن معاوية قاتل «عليا» في صفين اجتهادا و ايمانا، و إن أخطأ في اجتهاده، و ذلك لأن إطاعة الوالد واجبة ما لم تجر الى مخالفة الشرع، فهذا هو القرآن الكريم يقول:

«وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» «2».

كما ان الاجتهاد إنما يصح إذا لم يكن في المقام نصّ صريح، ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لهذا كان اجتهاد معاوية و عمرو بن العاص و امثالهما باطلا مرفوضا،

لكونه في مقابلة النصّ النبويّ.

و لو أننا فتحنا باب الاجتهاد هكذا بدون أية ضوابط لكان جميع المشركين و المنافقين معذورين في معارضتهم، و محاربتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما لا بدّ- حينئذ- أن نقول: إن يزيد و الحجاج و أشباههما كانوا معذورين في سيفكهم لدماء الأئمة المعصومين، و الصالحين من المسلمين، بل و مأجورين في عملهم هذا.

(2) انتهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون من بناء المسجد، و ظل يوسّع فيه كل عام شيئا فشيئا.

و قد بني الى جانب المسجد صفة ليسكن فيها الفقراء و المهاجرون المحرومون.

و كلّف «عبادة بن الصامت» بأن يعلّمهم الكتابة، و قراءة القرآن.

______________________________

(1) مسند احمد بن حنبل: ج 2 ص 164 و 165.

(2) العنكبوت: 8.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:18

(1)

التآخي؛ أو أعظم معطيات الايمان:

لقد فتح تمركز المسلمين في المدينة فصلا جديدا في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقد كان صلّى اللّه عليه و آله قبل دخوله المدينة لا يهمّه إلّا جذب القلوب و الدعوة إلى دينه، و لكنه اليوم عليه أن يعمل- كصاحب دولة محنّك- على حفظ كيانه و كيان جماعته، و لا يسمح للأعداء الداخليين و الخارجيين بالتسلّل و النفوذ في صفوفهم، و لكنه كان يواجه في هذا السبيل ثلاث مشاكل كبرى:

1- خطر قريش و عامة الوثنيين في شبه الجزيرة العربية.

2- خطر يهود يثرب الذين كانوا يقطنون داخل أو خارج المدينة و يمتلكون ثروة كبيرة.

3- الاختلاف الذي كان بين أتباعه من المهاجرين و بين الأوس و الخزرج.

(2) و حيث إن المهاجرين و الانصار قد نشئوا في بيئتين مختلفتين، لهذا كان من الطبيعي أن يختلفوا في طريقة المعاشرة، و آداب السلوك، و اسلوب التفكير اختلافا كبيرا.

هذا مضافا إلى أن الأوس

و الخزرج الذين كانوا يشكّلون جماعة الأنصار كانوا هم يعانون من رواسب عداء قديم و بقايا ضغائن نشأت خلال حروب موية طويلة استغرقت مائة و عشرين سنة بلا انقطاع.

و مع وجود مثل هذه التناقضات و الأخطار المحتملة لم يكن مواصلة الحياة الدينية، و السياسية المستقرة أمرا ممكنا قط.

و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تغلّب على كل هذه المشكلات بطريقة حكيمة، غاية في الحنكة و الابداع.

فبالنسبة إلى المشكلتين الأوليين فقد عالجهما بالقيام بأعمال سيأتي ذكرها في المستقبل.

و أما بالنسبة إلى مشكلة التناقضات بين فئات و أصناف جماعته فقد عالج

سيد المرسلين ،ج 2،ص:19

تلك المشكلة بحذق كبير، و تدبير رائع جدا.

(1) فقد امر من جانب اللّه تعالى بأن يؤاخي بين المهاجرين و الأنصار.

فجمعهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم و قال لهم:

«تآخوا في اللّه أخوين أخوين».

و قد ذكرت المصادر التاريخيّة الاسلامية، مثل «السيرة النبوية» لابن هشام «1» اسماء كلّ متآخيين من المهاجرين و الأنصار.

و بهذا الاسلوب كرّس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الوحدة السياسية و المعنوية بين المسلمين و قوّى اسسها و دعائمها.

و قد سببت هذه الوحدة، و هذا التآخي الواسع في أن يقرّر حلا للمشكلتين الاوليين بسرعة و سهولة.

(2)

منقبتان عظيمتان:

و لقد ذكر أكثر مؤرّخي السنة و الشيعة و محدّثيهم في هذا الموضع منقبتين عظيمتين، نذكرهما نحن هنا أيضا: لقد آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين ثلاثمائة من أصحابه من المهاجرين و الأنصار و هو يقول: يا فلان أنت أخ لفلان.

و لما فرغ من المؤاخاة، قال له علي عليه السلام، و هو يبكي:

«يا رسول اللّه آخيت بين أصحابك و لم تؤاخ بيني و بين أحد»؟

فقال له رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و قد أخذ بيده:

«أنت أخي في الدنيا و الآخرة» «2».

(3) و قد ذكر القندوزي الحنفي هذه القضية بنحو أكثر تفصيلا اذ قال:

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي:

«و الذي بعثني بالحق نبيا ما أخّرتك إلّا لنفسي، فأنت مني بمنزلة هارون من

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 504- 507.

(2) المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 14.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:20

موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي، و أنت أخي و وارثي» «1».

غير ان ابن كثير شكّك في صحة هذا الرواية «2»، و حيث إن هذه التشكيك نابع من نفسيّته الخاصة، و لا يقلّ تفاهة و بطلانا من اعتذاره و دفاعه عن معاوية و زمرته الباغية عن قتل الصحابي العظيم عمار بن ياسر لهذا نرجح أن نصرف النظر عن النقاش فيه، و نترك القضاء و الحكم عليه للقارئ المنصف، و المتتبع العدل.

(1)

منقبة أخرى لعليّ عليه السلام:

فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بناء المسجد، و قد بنيت منازله و منازل أصحابه حول المسجد، و كلّ شرع منه بابا إلى المسجد، و خطّ لحمزة خطا فبنى منزله فيه، و شرع بابه الى المسجد و خط لعليّ بن أبي طالب مثل ما خط لهم فبنى منزله فيه و شرع بابه إلى المسجد، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد من تلك الابواب.

و فجأة نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:

«يا محمّد إنّ اللّه يأمرك أن تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد أن يسدّه و لا يكون لأحد باب إلى المسجد إلّا لك و لعليّ عليه السلام».

(2) يقول ابن الجوزي: فأوجد هذا الامر ضجة عند البعض، و ظنوا أنّ هذا الاستثناء

قد نشأ عن سبب عاطفي، فخطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الناس و قال فيما قال:

«و اللّه ما أنا أمرت بذلك، و لكنّ اللّه أمر بسدّ أبوابكم و ترك باب عليّ» «3».

و خلاصة القول أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قضى عن طريق المؤاخاة

______________________________

(1) ينابيع المودة: ص 56، و نظيره في السيرة النبوية.

(2) البداية و النهاية: ج 2 ص 226.

(3) تذكرة الخواص: ص 46، بتصرف بسيط.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:21

الاسلاميّة بين أصحابه من الأنصار و المهاجرين على الاختلافات القديمة التي كانت رواسبها باقية بين المسلمين إلى ذلك اليوم، و بذلك حل مشكلة من المشاكل الثلاث التي مرّ ذكرها.

(1)

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين و يهود يثرب:

كانت المشكلة الثانية التي يواجهها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة هي مشكلة يهود يثرب الذين كانوا يقطنون المدينة و خارجها و كانوا يمسكون بأزمة التجارة و الاقتصاد في تلك المنطقة.

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدرك جيدا أنه ما لم تصلح الأوضاع الداخلية في المدينة و ما لم يضمّ الى صفوفه يهود يثرب، و بالتالي ما لم يقم وحدة سياسية عريضة في مركز حكومته، لم تتهيأ لشجرة الاسلام أن تنمو، و لن يتهيّأ له صلّى اللّه عليه و آله أن يفكر في أمر الوثنيين و الوثنية في شبه الجزيرة العربيّة و لا يستطيع معالجة المشكلة الثالثة أعني قريش بخاصة.

و بكلمة واحدة ما لم يستتبّ الأمن و الاستقرار في مقر القيادة لن يمكن الدفاع ضدّ العدوّ الخارجي.

(2) و لقد قام بين يهود المدينة و المسلمين في بداية هجرتهم إليها نوع من التفاهم لأسباب خاصة، لأنّ كلا الجانبين كانا موحّدين يعبدان اللّه، و يرفضان الأوثان، و كان اليهود يتصوّرون

أنهم يستطيعون- إذا اشتد ساعد المسلمين، و قويت شوكتهم- أن يأمنوا حملات المسيحيين الروم، هذا من جانب، و من جانب كان بينهم و بين الأوس و الخزرج علاقات عريقة و مواثيق قديمة.

من هنا حاول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يكرّس هذا التفاهم، و يبلوره بعقد معاهدة تعايش، و دفاع مشترك بين الأنصار و المهاجرين وقّع عليها يهود المدينة أيضا «1».

______________________________

(1) المقصود منهم يهود الأوس و الخزرج، و أما يهود بني النضير، و بني قينقاع، و بني قريظة فقد عقد

سيد المرسلين ،ج 2،ص:22

و قد احترم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك المعاهدة دين اليهود و ثروتهم في اطار شرائط معيّنة.

(1) و قد أدرج كتّاب السيرة و المؤرّخون النصّ الكامل لهذه المعاهدة في كتبهم «1».

و نظرا لأهميّتها الخاصّة، و لأنها تعتبر مستندا تاريخيّا حيّا، قويّ الدلالة، و لكونها تكشف عن مدى التزام رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله بمبادئ الحرية و النظم و العدالة، و مبلغ مراعاته و احترامه لها في الحياة، و لأنها تكشف لنا كيف أنها أوجدت جبهة متحدة قوية في وجه الحملات الخارجية نذكر هنا نقاطها الحسّاسة و نسجّلها كواحد من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزتها الحكومة الاسلامية الناشئة في العالم ذلك اليوم.

(2)

أعظم معاهدة تاريخية:

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمّد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بين المؤمنين و المسلمين من قريش و يثرب و من تبعهم، فلحق بهم، و جاهد معهم.

(3)

«البند الاوّل»

(4) 1- إنّهم أمّة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم (أي على الحال التي جاء الاسلام و هم عليها) يتعاقلون بينهم (أي يدفعون دية الدم) و هم يفدون عانيهم (أسيرهم) بالمعروف و القسط بين المؤمنين.

(5) 2- و بنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين، و هكذا بنو ساعدة و بنو الحارث، و بنو جشم، و بنو النجار، و بنو عمرو بن عوف و بنو النبيت، و بنو الأوس كلّ على ربعتهم

______________________________

- النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معهم معاهدة مستقلة سنذكرها.

(1) مثل السيرة النبوية: ج 1 ص 501.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:23

(و الحال التي جاء الاسلام و هم عليها من حيث التعاون على الديات الى اولياء المقتول، و دفع الفدية معا لفك الأسير).

(1) 3- و إنّ المؤمنين لا يتركون مفرحا (أي مثقلا بالدين و كثير العيال) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل (أي دفع دية او فداء أسير).

(2) 4- و إنّ المؤمنين المتقين (يد واحدة) على من بغى منهم، او ابتغى دسيعة (عظيمة) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، و أنّ أيديهم عليه جميعا و لو كان ولد احدهم.

(3) 5- و أن لا يحالف مؤمن مولى (أي عبد) مؤمن دونه (أي دون إذنه).

(4) 6- و أن لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر (أي قصاصا لمقتل كافر على يدي ذلك المؤمن) و لا ينصر كافرا على مؤمن.

(5) 7- و انّ ذمة

اللّه واحدة (تشمل جميع المسلمين بلا استثناء) يجير عليهم أدناهم (فاذا أجار عبد مسلم كافرا قبلت إجارته و احترم أمانه).

(6) 8- و إنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

(7) 9- و إنّه من تبعنا من يهود فانّ له النصر و الاسوة غير مظلومين، و لا متناصرين عليهم.

(8) 10- و إنّ سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلّا على سواء و عدل بينهم (فلا يجوز لأحد أن ينفرد بعقد معاهدة صلح مع أحد من غير المسلمين إلّا بموافقة المسلمين).

(9) 11- و إنّ كلّ غازية غزت معنا يعقّب بعضها بعضا (أي يتناوب المسلمون في المشاركة في الجهاد)، و انّ المؤمنين يبي ء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه (أي يراق منهم الدم على السواء لا أن يتعرض للقتل بعض دون بعض).

(10) 12- و إنّ المؤمنين المتقين على أحسن هدى و أقومه.

(11) 13- و أن لا يجير مشرك (من مشركي المدينة) مالا لقريش، و لا نفسا، و لا يحول دونه على مؤمن (أي لا يمنعه من مؤمن).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:24

(1) 14- و إنّه من اعتبط مؤمنا (أي قتل من المؤمنين مؤمنا بلا جناية منه توجب قتله) قتلا عن بيّنة فانّه قود به (أي يقتل بقتله قصاصا) إلّا أن يرضى وليّ المقتول.

و انّ المؤمنين عليه كافّة، و لا يحلّ لهم إلّا قيام عليه.

(2) 15- و إنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، و آمن باللّه و اليوم الآخر، أن ينصر محدثا (صاحب بدعة) و لا يؤويه و أنه من نصره، و آواه فعليه لعنة اللّه و غضبه يوم القيامة، و لا يؤخذ منه صرف و لا عدل.

(3) 16- و

إنكم مهما اختلفتم فيه من شي ء فان مرده إلى اللّه عزّ و جلّ و إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

(4)

«البند الثاني»

(5) 17- و إنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين (و دفاعا عن المدينة).

(6) 18- و إنّ يهود بني عوف أمة من المؤمنين (و بنو عوف قبيلة من قبائل الأنصار) لليهود دينهم و للمسلمين دينه، مواليهم و أنفسهم، إلّا من ظلم و اثم، فانه لا يوتغ (لا يهلك) الّا نفسه و أهل بيته (و السبب في هذا هو أن أهل بيت الرجل يتبعونه و يؤيّدونه في فعله غالبا و عادة).

و المراد من هذا الاستثناء هو أن العلاقات و الاتحاد يبقى قائما بين تلك الطائفة من اليهود و بين المسلمين ما دام لم يكن ثمة ظالم و معتد.

(7) 19- و إنّ ليهود بني النجار، و بني الحارث و بني ساعدة، و بني جشم، و بني الأوس و بني ثعلبة، و بني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، من الحقوق و الامتيازات.

و إن جفنة بطن من ثعلبة (أي تلك القبيلة فرع من هذه)، و انّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

(8) 20- و إنّ البرّ دون الإثم (أي أن يغلب حسناتهم على سيّئاتهم).

(9) 21- و إنّ موالي ثعلبة (أي المتحالفين معهم) كأنفسهم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:25

(1) 22- و إنّ بطانة يهود (أي خاصتهم) كأنفسهم.

(2) 23- و أنه لا يخرج منهم أحد (من هذه المعاهدة) إلّا باذن محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

(3) 24- و إنّه لا ينحجر على ثأر جرح (اي لا يضيع دم حتى الجرح)، و ان من فتك (بأحد) فبنفسه فتك، و أهل بيته إلّا من ظلم (أي إلّا إذا كان المفتوك به ظالما).

(4)

25- و إنّ على اليهود نفقتهم، و على المسلمين نفقتهم، و انّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة (أي أن على كل جماعة من المسلمين و اليهود أن يقوم بنصيبه من نفقات الحرب).

(5) 26- و إنّ بينهم النصح و النصيحة (أي أن تكون العلاقات على هذا الاساس) و البر دون الاثم.

(6) 27- و إنّه لم يأثم امروء بحليفه (أي لا يحق لأحد أن يظلم حليفه و أن النصر للمظلوم (لو فعل أحد ذلك).

(7) 28- و إنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة (أي أنّ داخل المدينة حرم و مأمن لجميع من وقّع على هذه الصحيفة).

(8) 29- و إنّ الجار (و هو من يدخل في أمان أحد) كالنفس غير مضارّ و لا آثم، (فلا يجوز إلحاق ضرر به).

(9) 30- و إنّه لا تجار حرمة إلّا باذن أهلها.

(10) 31- و إنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فان مردّه إلى اللّه عزّ و جلّ و إلى محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّ اللّه على اتّقى ما في هذه الصحيفة و أبرّه (أي انّه تعالى ناصر و ولي لمن التزم بهذه المعاهدة).

(11) 32- و إنّه لا تجار قريش و لا من نصرها.

(12)

«البند الثالث»

(13) 33- و إن بينهم (أي بين اليهود و المسلمين) النصر على من دهم يثرب

سيد المرسلين ،ج 2،ص:26

(فعليهم معا أن يدافعوا عن المدينة ضدّ المعتدين).

(1) 34- و اذا دعوا (أي دعي المسلمون اليهود) الى صلح يصالحونه، و يلبسونه، فانهم يصالحونه و يلبسونه.

و إنّهم اذا دعوا (أي اذا دعى اليهود المسلمين) الى مثل ذلك (الصلح) فانه لهم على المؤمنين إلّا من حارب في الدين.

فعلى اليهود أن

يوافقوا على كل صلح يعقده المسلمون مع الأعداء، و هكذا على المسلمين أن يقبلوا بكل صلح يعقده اليهود مع الاعداء إلّا إذا كان ذلك العدوّ ممن يخالف الاسلام و يعاديه و يتآمر عليه.

(2) 35- و إنّ يهود الأوس مواليهم و أنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة.

(3)

«البند الرابع»

(4) 36- و إنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم و آثم. (فلا يمكن لأحد أن يتستر وراءه ليتخلّص من العقاب إذا ارتكب خطيئة و جناية).

(5) 37- و إنّه من خرج (من المدينة) آمن، و من قعد آمن بالمدينة إلّا من ظلم أو أثم.

ثم ختمت هذه المعاهدة بالعبارة التالية:

«و إنّ اللّه جار لمن برّ و اتّقى، و محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» «1».

إنّ هذه المعاهدة السياسية التاريخية التي أدرجنا هنا أهم مقاطعها تعدّ نموذجا كاملا لرعاية الاسلام، و حرصه على مبدأ حرّية الفكر و الاعتقاد، و مبدا الرفاه الاجتماعي العام، و ضرورة التعاون في الامور العامة، بل و توضّح هذه المعاهدة- فوق كلّ ذلك- حدود صلاحيّات و اختيارات القائد، و مسئوليّة كلّ الموقّعين عليها، و على أمثالها.

(6) على أنه و إن لم يشترك يهود «بني قريظة» و «بني النضير» و «بني قينقاع»

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 503 و 504، الاموال: ص 125- 202.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:27

في إبرام هذه المعاهدة و التوقيع عليها، بل شارك فيها يهود الأوس و الخزرج فقط، إلّا أنّ تلك الطوائف اليهودية (الثلاث) قد وقعت فيما بعد مع قائد المسلمين و زعيمهم على معاهدات مماثلة أهم بنودها هي:

أن لا يعينوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا على أحد من أصحابه بلسان و لا يد و لا بسلاح و

لا بكراع (أي الخيل و غيرها من المراكب) في السر و العلانية لا بليل و لا بنهار، اللّه بذلك عليهم شهيد، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلّ من سفك دمائهم، و سبي ذراريهم، و نسائهم، و أخذ أموالهم.

و قد كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لكلّ قبيلة منهم كتابا على حدة على هذا الغرار، ثم وقع عليها «حي بن أخطب» عن قبيلة بني النضير، و «كعب بن أسد» عن بني قريظة، و «المخيريق» عن قبيلة بني قينقاع «1».

و بهذا ساد الأمن يثرب و ضواحيها بعد أن اعتبرت المنطقة حرما آمنا.

و الآن جاء دور أن يعالج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المشكلة الاولى، يعني قريش لأنه ما دام هذا العدوّ يعرقل حركة الدعوة، و يقف سدّا أمام تبليغ الاسلام، فلن يوفّق لنشر هذا الدين و تطبيق أحكامه، و تعاليمه المباركة.

(1)

ممارسات اليهود الإجهاضية:

لقد تسبّبت تعاليم الاسلام الرفيعة و أخلاق الرسول العظيم في أن يتزايد عدد المنتمين الى الاسلام يوما بعد يوم، و تزداد بذلك قوّة الاسلام العسكرية و الاقتصادية و السياسية.

و قد أحدث هذا التقدم المتزائد الباهر قلقا و ضجة عجيبة في الأوساط اليهودية الدينية، لأنهم كانوا يتصوّرون أنهم يستطيعون بدعمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تقويته و تأييده جرّه إلى صفوفهم، و لم يكونوا يتصوّرون قط أنّ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 110 و 111. احتفظ في ذاكرتك أيها القارئ الكريم هذا القسم من المعاهدة الثانية لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عاقب اليهود بسبب نقضهم لهذه المعاهدة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:28

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سيحصل بذاته على قوة تفوق قوة اليهود و النصارى، من هنا بدءوا بممارسة

الأعمال الاجهاضية مثل طرح الاسئلة الدينية العويصة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بغية زعزعة إيمان المسلمين بنبيّهم، و لكن جميع هذه المخططات باءت بالفشل و لم تترك أي أثر في صفوف المسلمين المتراصة و ايمانهم العميق برسول الاسلام.

(1) و قد جاءت بعض هذه المناظرات و المجادلات في سورة البقرة و سورة النساء.

و يستطيع القارئ العزيز- من خلال قراءة- آيات هاتين السورتين و التمعن فيهما أن يقف على مدى العناد و اللجاج الذي كان يبديه اليهود.

فمع أنهم كانوا يتلقون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أجوبة واضحة لكلّ واحد من اسئلتهم كانوا يتهرّبون من الانضواء تحت راية الاسلام، و يحجمون عن الاعتراف به، و كانوا يقولون في مقام الردّ على دعوة النبيّ إياهم إلى اعتناق الاسلام:

«قلوبنا غلف».

أي لا نفهم ما تقول!! «1».

(2)

اسلام عبد اللّه بن سلام:

هذه المناظرات و المجادلات و ان كانت لا تزيد غالبية اليهود إلّا تعنّتا و عنادا، و لكنها كانت تسبّب أحيانا يقظة البعض و إقبالهم على الاسلام، مثل «عبد اللّه ابن سلام».

فقد أسلم ابن سلام الذي كان من علماء اليهود و أحبارهم، برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد سلسلة من المناظرات و المجادلات المطولة «2».

و لم يمض وقت كبير على اسلام ابن سلام إلّا و التحق به عالم آخر من علماء

______________________________

(1) و (2) للوقوف على نص هذه المناظرات راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 530- 572، بحار الأنوار: ج 9 ص 303 فما بعد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:29

اليهود هو «المخيريق».

(1) و كان عبد اللّه بن سلام يعلم بأنه سيذمّه قومه من اليهود اذا عرفوا باسلامه و ترك دينهم، من هنا طلب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

أن يكتم عن الناس إسلامه، ريثما يحصل أولا على اعتراف من قومه بعلمه و تقواه، و بمعرفته و صلاحه قائلا: «يا رسول اللّه إن يهود قوم بهت، و أني أحبّ أن تدخلني في بعض بيوتك، و تغيّبني عنهم ثم تسألهم عنّي حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني و عابوني».

فأدخله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض بيوته و أخفاه عن الانظار ثم قال لليهود الداخلين عليه:

«أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم؟».

قالوا: سيدنا و ابن سيدنا، و حبرنا و عالمنا، فخرج عليهم «عبد اللّه بن سلام» من مخبأه و قال لهم: يا معشر يهود اتّقوا اللّه و اقبلوا ما جاءكم به، فو اللّه إنّكم لتعلمون أنه لرسول اللّه تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه و صفته، فاني أشهد أنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أؤمن به و اصدّقه و أعرفه.

فغضب اليهود من مقالته، و قالوا له: كذبت و وقعوا فيه، و عابوه، و بهتوه «1».

(2)

خطة أخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية:

لم تضعف مجادلات اليهود و اسئلتهم العويصة عقيدة المسلمين و ايمانهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فحسب، بل تسبّبت في أن تتضح مكانته العلمية، و قيمة معارفه الغيبية للجميع أكثر من ذي قبل.

ففي ظلّ هذه المجادلات و المحاورات رغب جماعات كبيرة من الوثنيين و اليهود في الاسلام فآمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صدّقوه.

من هنا دبّر اليهود مؤامرة أخرى و هي التذرّع باسلوب «فرّق تسد»، لالقاء

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 516.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:30

الفرقة في صفوف المسلمين.

(1) فقد رأى دهاة اليهود و ساستهم أن يستغلّوا رواسب الاختلافات، و يؤججوا نيران العداء القديم بين

الأوس و الخزرج الذي زال بفضل الاسلام، و بفضل ما أرساه من قواعد الاخوة و المساواة و المواساة و المحبة، بعد أن كانت مشتعلة طوال مائة و عشرين عاما متوالية، ليستطيعوا بهذه الطريقة تمزيق صفوف المسلمين بإثارة الحروب الداخلية بينهم، و التي من شأنها ابتلاع الاخضر و اليابس و القضاء على الجميع دون ما استثناء.

(2) ففيما كان نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الأوس و الخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه إذ مرّ عليهم «شاس بن قيس» و هو يهودي شديد العداء للإسلام، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، فغاظه ما رأى من الفة الأوس و الخزرج، و اجتماعهم و تواددهم، و صلاح ذات بينهم على الاسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة الطويلة في الجاهلية، فأمر فتى من يهود كان معهم فقال له: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث «1» و ما كان قبله و أنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا و تبادلوا فيه من الاشعار!! ايقاعا بين هاتين الطائفتين من الأنصار، و إثارة لنيران الاحقاد الدفينة، و العداوات الغابرة.

(3) ففعل ذلك الغلام اليهودي ما أمره به «شاس» فتكلم القوم عند ذلك، و تنازعوا، و تفاخروا، و تواثب رجلان من القبيلتين على الركب و أخذ كل منهما يهدّد الآخر، و تفاقم النزاع، و غضب الفريقان و تصايحا، و قاما إلى السلاح و كاد أن يقع قتال و دم بعد أن ارتفعت النداءات القبلية بالاستغاثة و الاستنجاد على عادة الجاهلية فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عرف بمكيدة اليهود، و مؤامرتهم الخبيثة هذه، فخرج الى تلك الجماعة المتصايحة من الأوس و الخزرج في جمع

من أصحابه المهاجرين فقال:

______________________________

(1) قد مرّ ذكر هذه الوقعة و قلنا: هو يوم اقتتلت فيه الأوس و الخزرج و كان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:31

«يا معشر المسلمين، اللّه اللّه أ بدعوى الجاهلية و أنا بين أظهركم بعد أن هداكم للإسلام، و أكرمكم به، و قطع به عنكم أمر الجاهليّة، و استنقذكم به من الكفر، و ألّف بين قلوبكم؟؟».

فعرف القوم أنها مؤامرة مبيّتة من اليهود اعداء الاسلام و المسلمين، و كيد خبيث منهم، فندموا على ما حدث، و بكوا و عانق الرجال من الأوس و الخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سامعين مطيعين، و أطفأ اللّه عنهم كيد أعدائهم «1».

(1) إلّا أن مؤامرات اليهود لم تتوقف عند هذا الحدّ، و لم تنته بهذا، فقد اتسعت دائرة خيانتهم و جنايتهم، و نقضهم للعهد و أقاموا علاقات سرية و خاصة مع مشركي الأوس و الخزرج، و مع المنافقين و المترددين في اسلامهم و اعتقادهم، و اشتركوا بصورة صريحة في اعتداءات قريش على المسلمين، و في الحروب التي وقعت بين الطرفين، و كانوا يقدّمون كل ما أمكنهم من الدعم و المساعدة للوثنيين، و يعملون لصالحهم!!

و قد جرت هذه النشاطات السرّية و العلنية المضادّة المعادية للاسلام و المسلمين، و هذا التعاون المشؤوم مع مشركي قريش، جرت إلى وقوع مصادمات و حروب دامية بين المسلمين و الطوائف اليهودية أدت في المآل إلى القضاء على الوجود اليهودي في المدينة.

(2) و سيأتي ذكر هذه الحوادث في وقائع السنة الثالثة و الرابعة من الهجرة، و سيتضح هناك كيف أن الجماعة اليهودية ردت على الجميل الذي تعكسه كلتا المعاهدتين من أولهما الى آخرهما، بنقض العهد، و

معاداة الاسلام و المسلمين، و التآمر ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصّة، و بنصرة أعدائه، و دعم خصومه، الأمر الذي أجبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على تجاهل تلك المعاهدات الودية و الانسانية و من ثم محاربتهم، و إخراجهم من المدينة و ما حولها و القضاء على

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 555- 557.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:32

ما تبقى من كياناتهم الشريرة.

لقد أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة إلى شهر صفر من السنة الثانية حتى بنى المسجد و البيوت و المنازل المحيطة بها، و قد أسلم في هذه الفترة كل من تبقى من الأوس و الخزرج، و لم يبق دار من دور الانصار إلّا أسلم أهلها، ما عدا بعض العوائل و الفروع ممن بقوا على شركهم، و لكنهم أسلموا بعد معركة بدر «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 500.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:33

(1)

حوادث السنة الثانية من الهجرة

اشارة

27

مناورات عسكرية و استعراضات حربية

اشارة

الهدف من هذا الفصل هو شرح و بيان الأسرار الكامنة وراء سلسلة الاستعراضات الحربية، و المناورات العسكرية، التي قام و أمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقد بدأت هذه المناورات منذ الشهر الثامن من الهجرة و استمرت حتى شهر رمضان من السنة الثانية، و تعد في الحقيقة أول مناورات عسكرية، و عروض حربيّة قام بها المسلمون.

إن التفسير الصحيح لهذه الوقائع، و بيان رموزها و أسرارها انما يتيسّر اذا طالعنا نص ما كتب حول هذه الوقائع في المصادر التاريخية من دون زيادة أو نقصان ثم نعرض على القارئ الكريم رأي المحققين من المؤرخين فيها.

و إليك فيما يأتي خلاصة هذه الحوادث:

(2) 1- لم يكن يمض على إقامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة أكثر من ثمانية أشهر عند ما عقد النبيّ أوّل لواء لقائد عسكريّ شجاع هو «حمزة بن عبد المطلب» و قد أمّره على ثلاثين رجلا من المهاجرين بعثهم الى سواحل البحر الأحمر حيث الطرق التجارية التي تمر فيها قافلة قريش التجارية، فالتقوا قافلة قريش في «العيص» فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل من أهل مكة، فاصطفّوا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:34

للقتال، و لكنهما تفرقا و لم يقع قتال لوساطة قام بها «مجديّ بن عمرو» الذي كان حليفا للفريقين، فانصرف حمزة راجعا الى المدينة، و توجّه أبو جهل في غيره و أصحابه إلى مكة «1».

(1)

تهديد خطوط قريش التجارية

غزوة بدر:

انقضت السنة الاولى من الهجرة بكل حوادثها الحلوة و المرة، و المسرّة و المحزنة، و دخل النبيّ و أصحابه العام الثاني من الهجرة.

و السنة الثانية من الهجرة تتضمن حوادث عظيمة و باهرة، و من أبرزها حادثتان تحظيان بمزيد من الاهمية احداهما: تغيير القبلة و الأخرى وقعة بدر الكبرى.

و لكي

تتضح أسباب و علل معركة بدر نذكر سلسلة من الوقائع التي وقعت قبلها، اذ بتحليلها و دراستها تتضح أسباب معركة بدر.

لقد كان من بين الحوادث التي وقعت في أواخر السنة الاولى و بدايات السنة الثانية من الهجرة: بعث «الدوريات العسكرية» الى خطوط قريش التجارية «2» و الآن يجب أن نرى ما هو هدف الحكومة الاسلامية من هذه البعوث

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 222 فما بعد، بحار الأنوار: ج 19 ص 186- 190، امتاع الاسماع:

ص 51، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 77 و 78 و المغازي للواقدي: ج 1 ص 9- 19.

(2) لقد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دوريات عسكرية عديدة إلى ضواحي المدينة و أطرافها لتهديد قوافل قريش التجارية.

و قد كان ينبغي- طبقا للترتيب الموضوعي و التسلسل التاريخي- أن نذكر بعض السرايا مثل سرية حمزة و سرية عبيدة بن الحارث في فصل وقائع السنة الاولى للهجرة، بيد أنه لوجود مناسبة بينها و بين حوادث السنة الثانية ذكرناها في أحداث السنة الثانية.

هذا مضافا الى أن ابن هشام- تبعا لابن إسحاق- يرى وقوع هذه الحوادث في السنة الثانية من الهجرة و ان كان الواقدي يعتبر بعضها من حوادث السنة الاولى.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:35

العسكرية.

(1) هناك مصطلحان رائجان في كتابات المؤرخين و كتّاب السيرة أكثر من أي مصطلح آخر و هما لفظة: «الغزوة» و «السرّيّة» «1».

و المقصود من «الغزوة» تلك العمليات العسكرية التي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يشارك فيها بنفسه، و يتولى قيادتها بشخصه.

على حين يكون المقصود من «السريّة» إرسال مجموعات عسكرية و فرق و كتائب نظاميّة لا يشترك فيها رسول اللّه بنفسه بل يؤمّر عليها أحد قادته العسكريّين و يوجّهها

إلى الوجهة التي يريدها.

و قد احصيت غزوات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكانت (27) أو (26) غزوة.

و يعود الاختلاف في العدد الى أن بعض المؤرخين يعتبر غزوة «خيبر» و غزوة «وادي القرى» اللتين حدثتا تباعا و من دون فاصلة غزوتين و البعض الآخر عدّهما غزوة واحدة «2».

(2) و قد وقع نظير هذا الخلاف في تعداد سرايا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيضا فأحصى المؤرخون (35)، (36)، (48)، و حتى (66) سرية.

و يعود هذا الاختلاف إلى أن بعض السرايا لم يحسب لها حساب لقلّة أفرادها، و لهذا حدث هذا الاختلاف في العدد.

من هنا كلّما ذكرنا لفظ السرّية قصدنا منه ما لم يشارك فيه النبيّ، و كلما ذكرنا لفظ الغزوة قصدنا منه ما شارك فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه.

و قد أحجمنا عن ذكر السرايا إلّا سرايا السنوات الاولى من الهجرة لأن في بيان هذه الطائفة من السرايا أثرا مهما في تفسير بعض الغزوات مثل غزوة «بدر».

و إليك بيان هذه السرايا و الغزوات و شرح تفاصيلها.

______________________________

(1) راجع المحبّر: ص 110- 116.

(2) مروج الذهب: ج 2 ص 287 و 288.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:36

(1) 2- في نفس الوقت الذي بعث فيه رسول اللّه سريّة حمزة، عقد لواء آخر لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، و بعثه في ستين راكبا من المهاجرين بهدف التعرض لقافلة قريش التجارية، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل «ثنية المرة» «1».

فلقي بها جمعا عظيما من قريش يبلغ مائتين بقيادة أبي سفيان، و لكن لم يكن بينهم قتال إلّا أن «سعد بن أبي وقاص» رمي يومئذ بسهم، كما أنه التحق رجلان مسلمان كانا في صفوف أبي سفيان بالمسلمين و قد خرجا مع

الكفار و جعلا ذلك وسيلة للوصول الى المسلمين و الالتحاق بهم «2».

(2) 3- بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شهر ذي القعدة في السنة الاولى من الهجرة سريّة اخرى بقيادة «سعد بن أبي وقاص» على رأس ثمانية أشخاص آخرين من المهاجرين للتحقيق في تنقلات قريش و رصد تحرّكاتها خارج المدينة، فخرجوا حتى بلغوا منطقة «الخرّار» و لكنهم لم يجدوا أحدا فعادوا إلى المدينة «3».

(3)

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يلاحق قريشا بنفسه:

(4) 4- في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة استعمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المدينة «سعد بن عبادة» و أناط إليه ادارة امورها الدينية و خرج بنفسه مع جماعة من المهاجرين و الأنصار، لملاحقة ركب قريش التجاري و اعتراضه، و عقد معاهدة موادعة مع «بني ضمرة» حتى بلغ الابواء، و لكنه لم يلق أحدا من قريش، فرجع صلّى اللّه عليه و آله هو و من معه إلى المدينة «4».

(5) 5- و في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة استعمل صلّى اللّه عليه و آله مرة اخرى على المدينة: «السائب بن عثمان» أو «سعد بن معاذ» و خرج نحو على رأس مائتين من الرجال يريد قريشا حتى بلغ بواط (و هو جبل من جبال

______________________________

(1) المحبر: ص 116.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 591.

(3) المحبر: ص 116.

(4) تاريخ الخميس: ج 1 ص 363 نقلا عن ابن اسحاق.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:37

بقرب ينبع على بعد 90 كيلومترا من المدينة تقريبا) و لكنه لم يظفر بقافلة قريش التي كان يقودها «أميّة بن خلف» و على رأس مائة رجل من قريش، فرجع الى المدينة.

(1) 6- و في منتصف شهر جمادى الاولى من السنة الثانية للهجرة جاء الخبر أن قافلة قريش

التجارية تخرج من مكة بقيادة أبي سفيان تريد الشام للتجارة، و قد جمعت قريش كل أموالها في تلك القافلة، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جمع من أصحابه لاعتراضها حتى بلغ «ذات العشيرة» و قد استعمل على مكة هذه المرّة «أبا سلمة بن عبد الأسد»، و بقي صلّى اللّه عليه و آله في ذات العشيرة إلى أوائل شهر جمادى الآخرة ينتظر قافلة قريش، و لكنه لم يظفر بها، ثم وادع فيها بني مدلج و عقد معاهدة عدم اعتداء ذكرتها المصادر التاريخية بالنص «1». سيد المرسلين ج 2 37 النبي صلى الله عليه و آله يلاحق قريشا بنفسه: ..... ص : 36

قال ابن الأثير: في هذه الغزوة (و المكان) نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جماعته في بواط عند عين فنام علي و عمّار فوجدهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نائمين في رقعاء من التراب فايقظهما، و حرّك عليّا فقال: قم يا أبا تراب أ لا اخبرك باشقى الناس: أحيمر ثمود عاقر الناقة، و الذي يضربك على هذه [يعني قرنه] فيخضّب هذه منها [يعني لحيته] «2».

(2) 7- بعد أن رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى المدينة بعد اليأس من قافلة قريش لم يقم بالمدينة الّا ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى هاجم «كرز بن جابر الفهري» على ابل أهل المدينة و مواشيهم التي كانت قد سرحت للرعى بالغداة.

فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في طلبه و قد استعمل على المدينة زيد بن حارثة حتى بلغ واديا من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يدركه ثم رجع صلّى اللّه عليه و آله و من

معه الى المدينة فأقام بها بقية جمادى الآخرة و رجبا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 598، تاريخ الخميس: ج 1 ص 363.

(2) الكامل: ج 2 ص 112 و المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 140 و 141.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:38

و شعبان «1».

(1) 8- و في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «عبد اللّه بن جحش» على رأس ثمانية رجال من المهاجرين لملاحقة قافلة قريش التجارية، و قد كتب له كتابا بالمهمة الّتي يجب ان ينفّذها، و أمره أن لا ينظر فيه قائلا له:

«قد استعملتك على هؤلاء النفر فامض حتّى إذا سرت ليلتين فانشر (إي افتح) كتابي ثم امض (اي نفّذ) لما فيه».

ثم عيّن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الوجهة التي يجب أن يتوجّه إليها.

فانطلق عبد اللّه و رفقاؤه و ساروا يومين كاملين كما أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم فتح عبد اللّه كتاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قرأ ما فيه، فاذا فيه:

«إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة و الطائف على اسم اللّه و بركته فترصّد بها قريشا، و تعلّم (أي حصّل) لنا من أخبارهم و لا تكرهنّ أحدا من أصحابك «2» و امض لأمري فيمن تبعك».

فلما قرأ الكتاب قال لاصحابه: قد أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن امضي إلى نخلة أرصد بها قافلة قريش حتّى آتيه منهم بخبر، و قد نهاني أن استكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة و يرغب فيها فلينطلق، و من كره ذلك فليرجع فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و

من أراد الرجعة فمن الآن.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 601، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 9، و قد عدّ بعض المؤرخين هذه الحادثة ضمن الغزوة التي عرفت في التاريخ باسم غزوة صفوان أو غزوة بدر الاولى.

(2) يقال إنه كان الجنود- الى حين الحرب العالمية الثانية- إذا انتهوا من خدمتهم العسكرية تسلّم إليهم مع وثيقة الانتهاء من الخدمة العسكرية رسالة مغلقة مختومة يؤمر الجندي فيها بالمحافظة عليها كأمانة عسكرية لا يجوز له فتحها إلّا عند حالات النفير العام، و العمل بمضمونها و قد سبق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى هذا التكتيك العسكريّ في أعماله النظامية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:39

(1) فقال أصحابه اجمعون: نحن سامعون مطيعون للّه و لرسوله و لك فسر على بركة اللّه حيث شئت، فسار هو و من معه لم يتخلّف منهم أحد حتى جاء نخلة فوجد قافلة لقريش يرأسها «عمرو بن الحضرمي» و هي عائدة من الطائف الى مكة، فنزل المسلمون بالقرب منهم، و لكي لا يكتشفهم العدوّ، و لا يعرف بأمرهم و مهمّتهم حلقوا رءوسهم ليتصوّر العدو أنهم عمّار يعتزمون الذهاب الى مكة للعمرة

فلما رآهم رجال قريش على هذه الحال اطمأنوا و أمنوا جانبهم و قالوا: عمّار لا بأس عليكم منهم.

(2) ثم تشاور المسلمون فيما بينهم في جلسة عسكرية للنظر فيما يجب عمله فتبين لهم: أنهم إذا تركوا القوم (أي قريشا) في تلك الليلة (و كانت آخر ليلة من شهر رجب) لدخلوا الحرم، و لم يمكن قتالهم فيه، و ان خرج الشهر الحرام.

فأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، و أخذ ما معهم، من هنا باغتوا تلك القافلة، و رمى «واقد بن عبد اللّه» قائدها «عمرو بن الحضرمي» بسهم فقتله، و

فرّ رجاله إلّا نفرين هما: «عثمان بن عبد اللّه» و «الحكم بن كيسان» حيث أسرهما المسلمون، و عاد عبد اللّه بن جحش و أصحابه بالقافلة مع ما فيها من أموال قريش و الاسيرين إلى المدينة.

(3) و لما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة و أخبروه بأنهم قاتلوا القوم في الشهر الحرام (رجب) انزعج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تصرف قائد المجموعة و عدم استفساره لما يجب أن يفعله بشدّة و قال:

«ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام».

و قد استخدمت قريش هذه القضية كسلاح دعائيّ ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اشاعت بأنّ «محمّدا» و أصحابه قد استحلّوا الشهر الحرام و سفكوا فيه الدم و أخذوا الاموال كما أنه تشاءم اليهود بهذه القضية و أرادوا أن يثيروا فتنة، و عاب المسلمون على «عبد اللّه بن جحش و أصحابه» فعلتهم هذه. هذا من جانب و من جانب آخر وقّف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الاموال و الأسيرين

سيد المرسلين ،ج 2،ص:40

و ابى أن يأخذ من كل ذلك شيئا و بقي ينتظر الوحي.

(1) و فجأة نزل جبرئيل بهذه الآية:

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» «1».

أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدّوكم عن سبيل اللّه مع الكفر به و صدّكم عن المسجد الحرام، و اخراجكم منه و أنتم اهله أكبر عند اللّه من قتل من قتل منهم «و الفتنة أكبر من القتل» أي ما كانوا يرتكبونه من فتنة المسلم في دينه حتّى

يردّونه الى الكفر بعد إيمانه أكبر عند اللّه من القتل.

(2) و لما نزل القرآن بهذا الأمر، و فرّج اللّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف و الحيرة قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأموال، و الأسيرين و قسمها بين المسلمين، و كانت أول غنيمة غنمها المسلمون.

و بعثت قريش الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في فداء أصحابهم فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«لن نفديهما حتّى يقدم صاحبانا».

يعنى رجلين من المسلمين كانا قد اسرا من قبل قريش، قد اشتركا في هذه العمليّة و لكنهما أضلا طريقهما في الصحراء فأسرتهما رجال من قريش.

و هكذا أبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يطلق سراح أسيري قريش لقاء فدية إلّا إذا أطلق المشركون أسيري المسلمين. قائلا لموفدي قريش:

«إنّي أخاف على صاحبيّ فإن قتلتم صاحبيّ قتلت صاحبيكم».

فاضطرت قريش إلى الافراج عن المسلمين الأسيرين، و مع وصولهما الى المدينة أفرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أسيري قريش.

و من حسن الحظ أنّ إحدى ذينك الأسيرين أسلم و رجع الآخر إلى مكة «2».

______________________________

(1) البقرة: 217.

(2) المغازي: ج 1 ص 13- 18، السيرة النبوية: ج 1 ص 603- 605.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:41

(1)

ما ذا كان الهدف من المناورات العسكرية؟

لقد كان الهدف الاساسي من بعث و توجيه السرايا، و عقد الاتفاقيات و المعاهدات العسكرية مع القبائل القاطنة على خطوط التجارة المكية هو ايقاف قريش على قوة المسلمين العسكرية، و اشتداد ساعدهم، و خاصة عند ما كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يشترك بنفسه في العمليات، و يترصّد مع مجموعات كبيرة من أنصاره تحركات قريش الاقتصادية، و يعترض قوافلها التجارية.

لقد كان رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله يريد بذلك إفهام

حكومة مكة الوثنية بأن جميع طرق التجارة المكية هي في متناول يده، و أنه يستطيع- متى شاء- أن يشلّ اقتصاد المكيين بتعريض خطوطهم و طرقهم التجارية، للتهديد الجدّي.

(2) و لقد كانت التجارة أمرا حيويّا و حساسا جدا بالنسبة إلى أهل مكة، و كانت البضائع التي تنقل منها إلى الطائف و الشام تشكّل اساس الاقتصاد المكّي، فاذا كانت هذه الخطوط تتعرض للتهديد من قبل العدوّ و حلفائه مثل «بني ضمرة» و «بني مدلج» فان ذلك كان يعني انهدام و انهيار حياتهم.

لقد كان الهدف من بعث تلك الدّوريات العسكرية هو: أن تعرف قريش بأن طريق تجارتها الرئيسية هي الآن تحت رحمة المسلمين، فاذا استمرّوا في معاداتهم للاسلام و للمسلمين و حالوا دون انتشار الاسلام، و الدعوة إليه، و استمروا في ايذاء من تبقّى من المسلمين المستضعفين و العجزة في مكة و اضطهادهم، قطع المسلمون شريان اقتصادهم.

(3) و الخلاصة أنّ الهدف كان هو أن تعيد قريش النظر في مواقفها في ضوء الحالة الجديدة، و التهديد العسكريّ الاسلامي الجدّي، و تترك للمسلمين الحرية في الدّعوة إلى عقيدتهم، و تفتح الطريق لزيارة بيت اللّه الحرام، و نشر التوحيد ليستطيع الاسلام بمنطقه القويّ، و المحكم أن ينفذ في القلوب، و يتجلّى نور الاسلام و يشعّ على جميع نقاط شبه الجزيرة العربية، و ربوعها، و بخاصة منطقة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:42

الحجاز مركز الجزيرة، و قلبها النابض.

(1) فان المتكلم مهما كان قويّ المنطق، سديد البرهان و أنّ المربّي و المرشد مهما كان مخلصا مجدا فانّه لا يستطيع أن يحرز اي نجاح في تنوير العقول، و تهذيب النفوس و بث الفكر الصحيح إذا لم تتوفّر له حرية العمل، و لم تتهيأ له البيئة المطمئنّة و أجواء

الحرّية و الديمقراطية.

و لقد كان الاضطهاد و الكبت و سلب الحريات التي كانت تمارسها قريش هي الموانع الكبرى أمام تقدّم الاسلام و سرعة انتشاره و نفوذه، و كان الطريق الى كسر هذا السدّ، و إزالة هذا المانع ينحصر في تهديد اقتصادها و تعريض خطوطها التجارية، للخطر، و كانت هذه الخطة تتحقق فقط عن طريق القيام بتلك المناورات العسكرية و الاستعراضات الحربية، و العمليات الاعتراضية.

(2)

نظرية المستشرقين:

و لقد وقع المستشرقون عند تحليلهم لهذه العمليّات في خطأ كبير، و تفوّهوا نتيجة ذلك بكلام يخالف القرائن و الشواهد الموجودة في التاريخ.

فهم يقولون: لقد كان هدف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مصادرة أموال قريش، و السيطرة عليها هو تقوية نفسه.

في حين أنّ هذا الرأي لا يلائم نفسيّة أهل يثرب لأنّ الغارة، و قطع الطريق، و استلاب الأموال، من شيم الاعراب أهل البوادي، البعيدين عن روح الحضارة، و قيم المدنية و أخلاقها، بينما كان مسلمو يثرب عامة، أهل زرع، و فلاحة، و لم يعهد منهم أن قطعوا الطرق على القوافل، أو سلبوا أموال القبائل التي كانت تعيش خارج حدودها.

و أما حروب الأوس و الخزرج فقد كان لها أسباب و علل محليّة، و قد كان اليهود هم الذين يؤججون نيرانها، بغية إضعاف القوى و الصفوف العربية و تقويه نفسها و موقعها.

(3) و من جانب آخر لم يكن المسلمون المهاجرون الذين كانوا حول الرسول

سيد المرسلين ،ج 2،ص:43

صلّى اللّه عليه و آله ينوون ملافاة ما خسروه، رغم أنّ ثرواتهم و ممتلكاتهم كانت قد صودرت من قبل المكيين، و يدل على ذلك أنهم لم يتعرضوا بعد معركة «بدر» لأيّة قافلة تجارية لقريش.

كيف لا و قد كان الهدف وراء أكثر هذه البعوث و الارساليات العسكرية

هو تحصيل و جمع المعلومات، عن العدوّ و تحركاته و خططه، و المجموعات التي لم يكن يتجاوز عدد أفرادها غالبا الثمانية أو الستين أو الثمانين رجلا لا يمكنها قطع الطريق، و استلاب الاموال، و مصادرة القوافل التجارية الكبرى التي كان يقوم بحراستها رجال أكثر عددا و أقوى عدّة من تلك السرايا، بأضعاف المرات غالبا.

(1) فاذا كان الهدف هو الحصول على المال و الثروة من هذا الطريق فلما ذا خصّت قريش بذلك، و لم يعترض المسلمون تجارة غيرهم من القبائل المشركة؟

و لما ذا لم يمس المسلمون شيئا من أموال غير قريش.

و اذا كان الهدف هو الغارة، و قطع الطريق و استلاب الأموال، فلما ذا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يبعث المهاجرين فقط، و لا يستعين بأحد من الأنصار في هذا المجال غالبا؟

و ربما قال هؤلاء المستشرقون: ان المقصود من هذه العمليات الاعتراضية كان هو الانتقام من قريش، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه تعرّضوا على أيدي المكيين لألوان التعذيب و الاضطهاد و الأذى، فدفعتهم غريزة الانتقام و الثأر- بعد أن حصلوا على القوة- الى تجريد سيوفهم، للانتقام من الذين طالما اضطهدوهم، و ليسفكوا منهم دما!!

(2) و لكن هذا الرأي لا يقل في الضعف و الوهن و السخافة عن سابقه، لأنّ الشواهد و القرائن التاريخية الحيّة العديدة، تكذّبه و تفنّده، و توضّح- بجلاء- أن الهدف من بعث تلك السرايا و الدوريات العسكرية لم يكن أبدا القتال و الحرب، و الانتقام و سفك الدماء.

و إليك ما يدلّ على بطلان هذه النظرية:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:44

(1) أوّلا: اذا كان هدف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من بعث تلك المجموعات العسكرية هو القتال و استلاب الاموال

و اخذ المغانم، وجب أن يزيد في عدد أفراد تلك المجموعات، و يبعث كتائب- عسكرية مسلّحة، و مجهزة تجهيزا قويا، إلى سيف البحر، و شواطئه على حين نجد أنه صلّى اللّه عليه و آله بعث مع «حمزة بن أبي طالب» ثلاثين شخصا، و مع «عبيدة بن الحارث» ستين شخصا، و مع «سعد بن أبي وقاص» أفرادا معدودين لا يتجاوزون العشرة، بينما كانت قريش قد أناطت حراسة قوافلها إلى أعداد كبيرة جدا من الفرسان، تفوق عدد أفراد المجموعات العسكرية الاسلامية.

فقد واجه «حمزة» ثلاثمائة، و عبيدة مائتين رجلا من قريش، و قد ضاعفت قريش من عدد المحافظين و الحرس على قوافلها خاصة بعد أن عرفت بالمعاهدات و التحالفات التي عقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع القبائل القاطنة على الشريط التجاريّ؟!

هذا مضافا إلى أنّه لو كان قادة هذه البعوث و الدوريات مكلّفين بمقاتلة العدوّ فلما ذا لم يسفك من أحد قطرة دم في أكثر تلك البعوث و العمليات و لما ذا انصرف بعضهم لوساطة قام بها «مجدي بن عمرو» بين الطرفين؟!

(2) ثانيا: ان كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي كتبه لعبد اللّه بن جحش شاهد حيّ على أن الهدف لم يكن هو القتال، و الحرب.

فقد جاء في ذلك الكتاب: «انزل نخلة بين مكة و الطائف فترصّد بها قريشا و تعلم (اي حصّل) لنا من أخبارهم».

إن هذه الرسالة توضّح بجلاء أنّ مهمة عبد اللّه و جماعته لم تكن القتال قط، بل كانت جمع المعلومات حول العدوّ و تنقلاته و تحركاته، أي مهمة استطلاعية حسب.

و اما سبب الصدام في «نخلة» و مصرع عمرو الحضرمي فقد كان القرار الذي أخذته الشورى العسكرية التي عقدتها نفس

المجموعة، و ليس بقرار و أمر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:45

(1) و من هنا انزعج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمجرد سماعه بنبإ هذا الصدام الدموي و لا مهم على فعلتهم و قال:

«ما أمرتكم بقتال».

و يؤيّد هذا ما ورد في مغازي الواقدي عن سليمان بن سحيم أنه قال:

ما أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقتال في الشهر الحرام، و لا غير الشهر الحرام إنما أمرهم أن يتحسّسوا أخبار قريش «1».

و العلة في أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يختار لهذه الدوريات و البعوث رجالا من المهاجرين دون الأنصار هي أن الانصار قد بايعوا في العقبة على الدفاع، أي أن معاهدتهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت معاهدة دفاعية تعهّدوا بموجبها بأن يمنعوه من أعدائه و يدافعوا عنه إذا قصده عدوّ.

من هنا ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يريد أن يفرض عليهم مثل هذه المهمات، و يبقى هو في المدينة، و لكنه عند ما خرج- فيما بعد- بنفسه أخذ معه جماعة من رجال الانصار تقوية لروابط الاخوة و الوحدة بين المهاجرين و الأنصار، و لهذا كان رجاله في غزوة «بواط» أو «ذات العشيرة» يتكونون من الأنصار و المهاجرين.

(2) و على هذا الاساس يتضح بطلان نظرية المستشرقين حول الهدف من بعث الدوريات العسكرية.

كما أنّ بالتأمل و الامعان في ما قلناه يتضح أيضا بطلان ما قالوه في هذا المجال في تلك العمليات التي شارك فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه، إذ أن الذين خرجوا معه ما كانوا ينحصرون في المهاجرين خاصه بل كانوا خليطا من المهاجرين و الأنصار،

و الحال أن الأنصار لم يبايعوا النبيّ على القيام بأية عملية هجوميّة ابتدائية، بل كل ما بايعوا عليه النبيّ كما قلنا هو: العمل الدفاعي،

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 16.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:46

فكيف يصح أن يدعوهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى عمليات قتالية ابتدائية هجوميّة.

(1) و تشهد بما نقول حادثة وقعة بدر التي سنشرحها في ما بعد، فما لم يعلن الأنصار عن موافقتهم على قتال قريش لم يقرر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الحرب، في تلك الواقعة.

هذا و السبب في تسمية أصحاب السير و التواريخ هذا النوع من العمليات التي خرج فيها النبيّ بنفسه (غزوة) و ان لم يقع فيها قتال و غزو، هو أنّهم أرادوا أن يجمعوا كل الحوادث تحت عنوان واحد، و إلّا فلم يكن الهدف الاساسيّ من هذه العمليات هو الحرب و القتال، أو السيطرة على الأموال و سلبها.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:47

(1)

28 تحويل القبلة من بيت المقدس الى الكعبة

لم يكن قد مضى على هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة عدة أشهر إلّا و بدأت نغمة معارضة اليهود للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله تظهر شيئا فشيئا!!

و في الشهر السابغ عشر من الهجرة بالضبط «1» أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالأمر المؤكّد القاطع بأن يتحول إلى الكعبة و يتخذها من الآن فصاعدا قبلة له و للمسلمين كافة، فيتوجهون الى المسجد الحرام في أوقات الصلوات.

هذا هو مجمل القصة، و إليك بيانها على وجه التفصيل.

صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثة عشر عاما كاملة في مكة نحو بيت المقدس.

(2) و بعد الهجرة الى المدينة كان الأمر الإلهيّ له هو أن يبقى على الحالة من حيث القبلة، أي بأن يصلي الى بيت المقدس،

كما كان يفعل في مكة.

و قد كان هذا الاجراء نوعا من المحاولة لاقامة التعاون و التقارب بين الدينين

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 241 و 242، إعلام الورى باعلام الهدى: ص 71 و 72. و يقول ابن هشام في السيرة النبوية: ان القبلة صرفت عن الشام إلى الكعبة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة (السيرة النبوية: ج 1 ص 606) و يرى ابن الاثير أن ذلك حدث في منتصف شهر شعبان (الكامل: ج 2 ص 80).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:48

القديم و الجديد، و لكن تنامي قوة المسلمين و اشتداد ساعدهم أحدث رعبا كبيرا، و أوجد قلقا واسعا في أوساط اليهود القاطنين في المدينة لأن تقدّم الاسلام و المسلمين المطرد كان يدلّ على أن الدين الاسلامي سيعمّ في أقرب وقت كل أنحاء شبه الجزيرة العربية، و ستتقلّص (بل تزول) في المقابل قوة اليهود و سلطانهم، و مكانتهم، من هنا نصب أحبار اليهود العداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عمدوا إلى ممارسة سلسلة من الأعمال الإجهاضية و الإيذائية.

(1) لقد أخذوا يؤذون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين بمختلف أنحاء الطرق و بشتى الوسائل و السبل، و المعاذير و الحجج و من جملتها التذرع بقضيّة صلاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين الى بيت المقدس.

فكانوا يقولون معيّرين إياه: أنت تابع لنا تصلي الى قبلتنا!!

أو كانوا يقولون: تخالفنا يا محمّد في ديننا و تتبع قبلتنا «1».

فشقّ هذا الكلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اغتم لذلك غما شديدا فكان يخرج من بيته في منتصف الليل و يتطلع في آفاق

السماء ينتظر من اللّه أمرا و وحيا في هذا المجال كما تفيد الآية الآتية:

«قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» «2».

(2) و يستفاد من الآيات القرآنية في هذا المجال أنه كان لتغيير القبلة مضافا إلى الردّ على دعوى اليهود سبب آخر أيضا.

و هو أن هذه المسألة كانت من المسائل الاختبارية التي اراد اللّه تعال بها ان يمتحن المسلمين، و يميّز المؤمن الواقعي الحقيقي عن أدعياء الايمان، المنتحلين له كذبا و نفاقا، و أن يعرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله به من حوله معرفة جيدة لأن إتباع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الأمر الثاني الذي نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أثناء الصلاة (و هو التوجه إلى المسجد الحرام) كان علامة قوية

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 255 أو: ما درى محمّد و أصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم.

(2) البقرة: 144.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:49

من علامات الايمان و التسليم، و الاخلاص و الوفاء للدين الجديد.

بينما كانت مخالفته علامة قوية من علامات النفاق و التردّد كما يصرّح القرآن الكريم بنفسه بذلك اذ يقول:

«وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» «1».

و من المسلّم أنه يمكن الوقوف على حكم اخرى لهذا الأمر (أي صرف القبلة من الشام الى الكعبة) إذا تتبعنا تاريخ الاسلام بشكل أوسع، و طالعنا أوضاع شبه الجزيرة العربية.

(1) و يمكن الاشارة الى بعض هذه الحكم مضافا الى ما ذكرناه:

(2) أولا: أن الكعبة التي رفعت قواعدها على يدي بطل التوحيد و ناشر لوائه النبيّ العظيم «ابراهيم الخليل» (عليه السلام) كانت موضع احترام و

تقديس من المجتمع العربي، فقد كان العرب يحبون الكعبة و يعظمونها غاية التعظيم على ما هم عليه من الشرك و الفساد، فكان اتخاذه قبلة من شأنه كسب رضا العرب، و استمالة قلوبهم، و ترغيبهم في الاسلام تمهيدا لاعتناق دين التوحيد و نبذ الاوثان و الاصنام.

و أيّ هدف، و أية غاية ترى أسمى و أجلّ من أن يؤمن المشركون المعاندون المتخلفون عن ركب الحضارة و المدنية، و ينتشر الاسلام بسببهم في كل أنحاء العالم.

(3) ثانيا: أن الابتعاد عن اليهود الذين لم يكن يؤمل في إذعانهم للاسلام، و ايمانهم برسالة (محمّد) ذلك اليوم كان يبدو أمرا ضروريا، لأنهم كانوا يقومون بأعمال ايذائية ضد الاسلام و المسلمين و يطلعون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه

______________________________

(1) البقرة: 143. و يمكن بيان هذه العلة بصورة أخرى و هي إنما أمر بالصلاة الى بيت المقدس لأن مكة و بيت اللّه الحرام كانت العرب آلفة بحجها فأراد اللّه أن يمتحن بغير ما آلفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. (راجع مجمع البيان: ج 1 ص 222 و 223).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:50

و آله بين الفينة و الأخرى بأسئلة عويصة يشغلونه بها، يظهرون بها- حسب تصورهم- أنهم يعرفون أمورا كثيرة و أنهم علماء، و بذلك يضيّعون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الوقت، و يشغلونه عن مهامه الكبرى.

فكان تغيير القبلة واحدا من مظاهر الابتعاد عن اليهود و اجتنابهم، تماما مثل نسخ صوم يوم عاشوراء الذي تم لنفس هذا الغرض.

فقد كانت اليهود تصوم يوم عاشوراء قبل الاسلام، فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المسلمون بأن يصوموا هذا اليوم أيضا، ثم نسخ الأمر بصوم عاشوراء و فرض مكانه صوم شهر رمضان «1».

(1) و

على كل حال فان الاسلام الذي يتفوق على جميع الأديان، يجب أن تتجلى فيه هذه الحقيقة بحيث يغدو أمر تكامله و تفوقه باديا للعيان، واضحا للجميع.

و في هذه الحالة تصوّر بعض المسلمين أن ما أتوا به من صلاة و عبادة و هم متجهين إلى بيت المقدس كان باطلا إذ قالوا: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى، أو حال من مضى من أمواتنا و هم كانوا يصلون الى بيت المقدس؟!

فنزل الوحي الإلهي يقول:

«وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» «2».

و مع ملاحظة هذه الاعتبارات و بينما كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد انتهى من الركعة الثانية من صلاة الظهر، نزل عليه جبرئيل، و أمره بأن يتوجه بالمصلّين معه حدب المسجد الحرام.

(2) و جاء في بعض الاخبار أنّ جبرئيل أخذ بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أداره نحو المسجد الحرام، فتبعه الرجال و النساء الذين كانوا يأتمون به في

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 273.

(2) البقرة: 143. و المراد من الايمان هنا هو العمل و هو من الموارد التي استعمل فيها لفظ الايمان و اريد به العمل.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:51

المسجد «1».

فتحوّل الرجال مكان النساء و النساء مكان الرجال فكان أول صلاته الى بيت المقدس، و آخرها الى الكعبة.

و منذ ذلك الحين جعلت الكعبة المعظمة- زاد اللّه من شرفها- قبلة مستقلة للمسلمين يتوجهون إليها في كثير من واجباتهم و شعائرهم الدينية «2».

هذا و الغريب أن اليهود الذين كانوا قبل نزول الأمر بالتحوّل من بيت المقدس الى الكعبة المعظمة يفتخرون على المسلمين بأنهم يصلّون على قبلة اليهود، لما حوّل المسلمون إلى الكعبة المعظمة، و امروا بالصلاة إليها دون بيت المقدس

أخذوا يعيبون على المسلمين التوجه إلى نقطة ما في الأرض فردّ اللّه عليهم بقوله:

«سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «3».

أي ان اللّه فوق الزمان و المكان، و التوجه إلى نقطة خاصة في حالة العبادة انما هو لمصالح اجتماعية خاصة فالصلاة الى الكعبة توجّه الى اللّه كالصلاة الى بيت المقدس سواء بسواء.

(1)

كرامة علمية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

و ما ينبغي الاشارة إليه هنا هو: أن العرض الجغرافي للمدينة- طبقا لمحاسبات علماء الفلك القدامى- هو 25 درجة، و طولها 75 درجة و 20 دقيقة، و لهذا كانت قبلة المدينة لا توافق محراب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الباقي على حالته السابقة الى الآن في مسجده الشريف، و قد سبّب هذا الاختلاف حيرة لدى بعض المتخصصين في هذا العلم، و ربما دفعهم إلى ارتكاب توجيهات و تبريرات لرفع هذا الاختلاف.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 201 عن من لا يحضره الفقيه.

(2) كالصلاة و الذبح و دفن الموتى، و الدعاء و غير ذلك.

(3) البقرة: 142.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:52

(1) و لكن القائد المعروف بسردار الكابلي أثبت في الآونة الأخيرة- طبقا للمقاييس المعروفة اليوم- أن خط المدينة الجغرافي على عرض 24 درجة و 57 دقيقة و طول 39 درجة و 59 دقيقة «1».

و تكون نتيجة هذه المحاسبة هي أن قبلة المدينة تكون في نقطة الجنوب تماما و تنحرف عن نقطة الجنوب ب 45 دقيقه فقط.

و هذا الاستخراج الفلكي للقبلة ينطبق على محراب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل تطبيق، و يعدّ هذا من كرامات النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله حيث توجه في حالة الصلاة «2»

من بيت المقدس الى الكعبة بصورة دقيقة و من دون أي انحراف و لا جزئي مغتفر و ذلك من دون أية محاسبة فلكيّة، و علميّة.

و قد أخذ جبرئيل بيده و حوّل وجهه نحو الكعبة المعظمة كما أسلفنا «3».

______________________________

(1) تحفة الأجلّة في معرفة القبلة: ص 71 طبعة 1359.

(2) من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1 ص 178.

(3) و قد نقل الحرّ العاملي في وسائل الشيعة: في أبواب القبلة ج 3 ص 215 و 216 حادثة تحوّل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الصلاة من بيت المقدس الى المسجد الحرام فراجع.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:53

(1)

29 معركة بدر

اشارة

معركة «بدر» من معارك الاسلام الكبرى و من حروبه البارزة، و قد اكتسب الذين شاركوا في هذه المعركة منزلة خاصة بين المسلمين فيما بعد.

فالواقعة التي كان يشارك فيها فرد أو عدة أفراد من المجاهدين في «بدر» أو اذا كانوا يشهدون على أمر قال المسلمون: و وافقنا عليه البدريون.

أجل إن الذين شاركوا في معركة بدر من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدعون بالبدريين، و لم يكن هذا إلّا لاهميّة تكلم الوقعة التاريخية.

و تتضح علة هذه الأهميّة إذا نحن استعرضنا تفاصيل هذه الوقعة.

(2) لقد قلنا في ما سبق أنه بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منتصف جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة، أن قافلة قريش التجارية خرجت من مكة إلى الشام بقيادة «أبي سفيان بن حرب».

فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لملاحقتها إلى «ذات العشيرة» و توقّف هناك إلى مطلع الشهر التالي، و لم يعثر على تلك القافلة، و قد كان وقت عودة القافلة معلوما تقريبا، فقد كانت قافلة قريش تعود من الشام إلى مكة في أوائل الخريف.

و

من المعلوم أنّ أوّل خطوة على طريق الانتصار في مثل هذه المحالات هو

سيد المرسلين ،ج 2،ص:54

تحصيل اكبر قدر من المعلومات حول العدوّ لأنّ قائد الجيش ما لم يعرف شيئا عن استعدادات العدوّ، و نقطة تمركزه و تواجده، و معنويات أفراده، فانه ربما ينهزم و ينكسر في أول مواجهة.

(1) و لقد كان من أساليب النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله الرائعة في جميع الحروب و المعارك التي ستقرأ تفاصيلها هو جمع المعلومات حول مدى استعداد العدوّ، و مبلغ تهيّؤه و مكان تواجده، و تمركزه، و هذه مسألة تحظى و الى اليوم بأهميّة خاصّة في الحروب العالمية و المحلية، بل و ترصد لها ميزانيّات كبرى، و تستخدم أجهزة عريضة في عالمنا الحاضر، كما هو معلوم للجميع، و كما أشرنا الى ذلك فيما سبق.

و قد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عينا له على قافلة قريش اسمه «عدي»- حسب رواية المجلسي «1»- أو «طلحة بن عبيد اللّه» و «سعيد بن زيد» حسب ما قال صاحب «حياة محمّد» نقلا عن المصادر التاريخيّة «2»، لإخباره عن مسير تلك القافلة، و عدد حرّاسها و رجالها و نوعية البضائع المحمّلة.

فلما عاد العين أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

1- بأن قافلة قريش قافلة كبرى شارك فيها كلّ أهل مكّة، حتى أنه ما من قرشيّ أو قرشية بمكة له مثقال فصاعدا إلّا بعث به في تلك القافلة.

2- إنّ البضائع يحملها ألف بعير و أنّ قيمتها تبلغ خمسين ألف دينار.

3- و أنه يقودها «أبو سفيان بن حرب» في أربعين رجلا.

(2) و حيث إن أموال المسلمين المهاجرين إلى المدينة كانت قد صودرت في مكة على أيدي قريش من هنا كان الوقت مناسبا

جدا لأن يأخذ المسلمون أموال قريش في تلك القافلة، و يحتفظوا بها ريثما تفرج قريش عن أموال المسلمين المهاجرين المصادرة بمكة، فاذا لجّوا و أصرّوا في مصادرة أموال المسلمين قسّم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 217.

(2) المغازي: ج 1 ص 19.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:55

المسلمون في المقابل أموال قريش المأخوذة فيما بينهم و تصرفوا فيها كغنائم حرب من هنا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم:

«هذا عير قريش (أي قافلتهم) فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعلّ اللّه ينفلكموها» «1».

من هنا استخلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة «عبد اللّه بن أمّ مكتوم» للصلاة بالناس، و القيام بالشؤون الدينية، و «أبا لبابة» للقيام بالشؤون السياسية.

ثم خرج من المدينة في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا لمصادرة أموال قريش أو بالاحرى توقيفها و حبسها.

(1)

النبيّ يتوجه الى منطقة ذفران «2»:

لقد ترك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة بعد أن أتاه خبر عن تحرك قافلة قريش، قاصدا وادي ذفران حيث طريق القافلة في يوم الاثنين، الثامن من شهر رمضان، و قد عقد رايتين سلّم إحداهما إلى مصعب بن عمير، و الاخرى (و تسمى العقاب) إلى علي بن أبي طالب عليه السلام.

و لقد كانت المجموعة التي خرج بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تتألّف من اثنين و ثمانين من المهاجرين، و مائة و سبعين من الخزرج، و واحد و ستين من الأوس، و كان عندهم ثلاثة أفراس فقط.

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 20.

(2) وادي ذفران الذي كان يمرّ به قافلة قريش التجارية يقع على مرحلتين من بدر.

و قد ذكر ابن هشام في سيرته جميع المراحل التي طواها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المدينة إلى ذفران و منه

إلى بدر الذي ارتحل إليه رسول اللّه بعد أن بلغه نبأ تحرك قافلة قريش.

و بدر كان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كلّ عام يتبايعون فيه و يتفاخرون على غرار سوق عكاظ، و كان يقع على طريق مكة و المدينة و الشام. (راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 613- 618).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:56

(1) و لقد بلغ حبّ الشهادة عند الاشخاص في المجتمع الاسلامي يومئذ مبلغا عجيبا حتى أنّ فتيانا دون الحلم اشتركوا في هذه المعركة، و ردّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعضهم إلى المدينة لمّا استصغرهم «1».

إن كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يفيد بانه صلّى اللّه عليه و آله قد وعدهم بالرخاء و الانفراج في المعيشة و ذلك عن طريق السيطرة على أموال قريش، و أخذ بضائعها، و كان المسوّغ لهذا العمل هو ما سبق أن ذكرناه، و هو أن قريشا كانت قد صادرت كل أموال المهاجرين المسلمين في مكة، منقولها و غير منقولها، و منعت من دخولهم مكة، و خروجهم منها.

و من الواضح أن يسمح العاقل لنفسه- أيّا كان- بأن يعامل عدوه بمثل هذه المعاملة التي عامله بها العدوّ.

(2) و أساسا يجب أن نعلم أنّ سبب هجوم المسلمين على قافلة قريش هو أنهم قد ظلموا و قهروا، الأمر الذي يذكره القرآن الكريم أيضا، و لذلك يسمح للمسلمين بأن يقاتلوا عدوّهم و يعترضوا تجارتهم إذ يقول:

«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» «2».

و لقد كان أبو سفيان قد عرف- عند توجهه بالقافلة إلى الشام- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يترصد القافلة، و لهذا اتخذ كافة الاحتياطات عند قفوله و رجوعه من الشام،

فكان يسأل القوافل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان إذا رأى أحدا منهم سأله: هل أحسست أحدا؟!

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 21.

و روي أنه كان الرجل يساهم أباه في الخروج مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رغبة في الجهاد في سبيل اللّه و الشهادة فكان ممن ساهم «سعد بن خيثمة» و أبوه في الخروج إلى بدر، فقال سعد لأبيه: انه لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا.

فقال خيثمة: آثرني، و قرّ مع نسائك! فابى سعد.

فقال خيثمة: إنه لا بدّ لأحدنا من أن يقيم، فاستهما (أي اقترعا) فخرج سهم سعد فقتل ببدر (المصدر).

(2) الحج: 39.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:57

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد خرج مع أصحابه من المدينة، يلاحق قافلة قريش، و قد نزل في وادي ذفران.

(1) و لما أحسّ أبو سفيان بذلك أحجم عن الاقتراب الى منطقة بدر و لم ير بدّا من أن يخبر قريشا بالخطر الذي يحدق بتجارتهم، و أموالهم، و يطلب مساعدتهم، فاستأجر رجلا يدعى «ضمضم بن عمرو الغفاري» و أمره بأن يجدع بعيره (يقطع أنفه) و يحوّل رحله، و يشقّ قميصه من قبله و دبره و يصيح الغوث! الغوث، و يخبر قريشا أنّ محمّدا تعرّض لتجارتهم!!

فخرج ضمضم سريعا إلى مكّة، و لمّا قدمها وقف ببطن الوادي يصيح بأعلى الصوت: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة «1»، أموالكم مع أبي سفيان قد تعرّض لها محمّد في أصحابه، لا أرى ان تدركوها، الغوث الغوث «2».

(2) فأثار هذا المنظر المثير، و استغاثات ضمضم المتتابعة أهل مكة، فتجهزوا سراعا، و تهيّأوا للخروج، و أعدّ كل صناديد قريش و رجالها المقاتلون أنفسهم للتحرّك نحو

المدينة إلّا أبو لهب الذي لم يشترك في هذا الخروج، و ارسل مكانه «العاصي بن هشام» لقاء أجر قدره أربعة آلاف درهم.

و أراد «أميّة بن خلف» هو الآخر أن يتخلّف لاسباب خاصّة، فقد قيل له:

أن محمّدا يقول: لأقتلنّ أميّة بن خلف «3».

فرأى أشراف قريش و سادات مكة أن تخلف رجل مثله يضرّ بقريش و يوهن من عزيمة الجيش، فقرروا إثارته و تحريكه فأتاه عقبة بن أبي معيط و أبو جهل و هو جالس في المسجد بين ظهرانيّ قومه، بمجمرة يحملانه فيها نار و عود يتبخّر به حتى وضعاها بين يديه ثم قالا له:

«يا أميّة استجمر فإنّما أنت من النساء»!

______________________________

(1) اللطيمة: الابل التي تحمل الاقمشة و العطور، و النداء يعني: ادركوا اللطيمة ادركوها.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 81، المغازي: ج 1 ص 31، بحار الانوار: ج 19 ص 216.

(3) المغازي: ج 1 ص 35.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:58

فغضب أميّة، و هاجت به الحمية، فتجهز من فوره، و خرج مع الناس «1».

و خلاصة القول أنه اوعبت قريش لمّا سمعت بتعرض قافلتها و أموالها للخطر من قبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، فكانوا بين رجلين إما خارج أو باعث مكانه رجلا، و ما بقي أحد من عظماء قريش إلّا أخرج مالا لتجهيز الجيش، و أخرجوا معهم المغنيات يضربن بالدفوف و يهيّجن الرجال للقتال.

(1)

المشكلة التي كانت تواجهها قريش:

و لما اعلن عن موعد الرحيل تذكرت قريش بأن بينهم و بين قبيلة «بني بكر» عداء قديما، فخافوا أن يوجهوا إليهم ضربة من الخلف، أو يحملوا على نسائهم و ذراريهم في مكة في غياب منهم فكاد ذلك يثنيهم عن الخروج.

و قد كان العداء بين قريش و بني بكر يعود إلى دم سفك

بينهم في قصة ذكرها ابن هشام و غيره من كتّاب السيرة «2».

و لكن سراقة بن جعشم المدلجي- و كان من أشراف بني كنانة و هم من بني بكر- طمأنهم، و وعدهم بأن لا تأتيهم بنو بكر من خلفهم بشي ء يكرهونه، و لما اطمأنّوا خرجوا صوب المدينة سراعا.

(2) و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه قد خرجوا من المدينة لاعتراض قافلة قريش التجارية، و هبطوا في وادي ذفران، و بقوا هناك ينتظرون مرورها، و لكنه فجأة بلغه خبر جديد غيّر أفكار قادة الجيش الاسلامي، و فتح- في الحقيقة- فصلا جديدا في حياتهم.

فقد أتاه الخبر عن مسير قريش باتجاه المدينة لحماية قافلتها التجارية، و أن جيشها قد وصل إلى مشارف المنطقة التي يتواجد فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، و أن طوائف متعددة قد ساهمت و شاركت في تكوين هذا الجيش.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 138، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 82، المغازي: ج 1 ص 35 و 36.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 610 و 611، المغازي: ج 1 ص 38 و 39.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:59

(1) فوجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و القائد الاعلى للمسلمين نفسه أمام خيارين:

إما أن يقاتل، و لكنّه لم يخرج هو أو أصحابه الذين مرّ ذكرهم إلّا لمصادرة أموال قريش، فلم يكونوا متهيّئين لمقاتلة الجيش المكّي الكبير، لا من حيث العدد، و لا من حيث العدّة.

و إما أن يرجع إلى المدينة من حيث أتى، و هذا يعني أن ينهار كلّ ما كسبوه من الهيبة و المهابة، بفضل المناورات العسكرية، و العروض النظامية السابقة.

و بخاصة إذا تقدم العدوّ نحو المدينة في ظل

هذا الانسحاب و اجتاح مركز الإسلام «المدينة المنورة».

فرأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن لا ينسحب، بل يقاتل العدوّ بما عنده من العدة القليلة و العدد القليل و يقاوم حتى اللحظة الأخيرة و النفس الأخير.

(2) و الجدير بالذكر أنّ أكثر الذين كانوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانوا من شبّان الأنصار و كان عدد المهاجرين لا يتجاوز 82 شخصا.

و كانت بيعة العقبة التي بايع فيها الأنصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيعة على الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حمايته لا القتال و الحرب.

اي انهم بايعوه صلّى اللّه عليه و آله على أن يمنعونه في المدينة فلا يصل إليه أحد من أعدائه و هو بينهم.

أمّا أن يخرجوا معه الى خارج المدينة لقتال العدوّ فلم يبايعوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على مثل ذلك فما ذا يفعل القائد الأعلى للمسلمين.

إنه لم ير مناصا من استشارة الناس الذين معه، و معرفة رأيهم في ما يجب اتخاذه من طريقة حل لهذه المشكلة.

(3)

النبيّ يعقد شورى عسكرية:

و هنا وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك الجماعة و قال: أشيروا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:60

عليّ أيّها الناس.

فقام أبو بكر و قال: يا رسول اللّه إنّها قريش، و خيلاؤها ما آمنت منذ كفرت، و لا ذلّت منذ عزّت و لم نخرج على أهبة الحرب!!

و هذا يعني أنه رأى من الصالح ان ينسحبوا الى المدينة، و لا يواجهوا قريشا.

فقال له رسول اللّه: اجلس.

ثم قام عمر بن الخطاب، و كرّر نفس مقالة أبي بكر، فأمره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالجلوس أيضا.

ثم قام «المقداد بن عمرو» و قال: يا رسول اللّه امض لما أراك

اللّه فنحن معك، و اللّه لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون.

و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا، و إنا معكما مقاتلون.

فو الّذي بعثك بالحقّ لو سرت الى برك الغماد (و هو موضع بناحية اليمن) لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه، و لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا (أي النار المتقدة) و شوك الهراس (و هو شجر كبير الشوك) لخضناه معك.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خيرا و دعا له به.

(1)

إخفاء الحقائق و كتمانها:

إذا كان اخفاء الحقائق، و التعتيم عليها و سترها، و التعصب الباطل أمرا مشينا من كلّ من ألّف و كتب، فإنّه و لا شك أقبح من المؤرّخ، المؤتمن على التاريخ و حقائقه.

فان على المؤرخ أن يكون مرآة صادقة للأجيال القادمة لا يكدرها غبار التعصب، و غشاوة التحريف و التبديل و الكتمان للحقائق.

و لقد ذكر ابن هشام «1» و المقريزي «2» و الطبري «3» ما وقع في الشورى

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 615.

(2) إمتاع الاسماع: ص 74.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 140.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:61

العسكرية التي عقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أدرج فيها ما قاله المقداد، و قاله سعد بن معاذ في كتبهم على وجه التفصيل، و لكنهم أحجموا عن إدراج ما قاله أبو بكر و عمر و إنما قالوا: و قال فلان و أحسن، و قال فلان و احسن!!

(1) و هنا نسأل ذينك المؤرخين اذا كان ما قاله فلان و فلان حسنا أرضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلما ذا تركوا ذكره على نحو التفصيل كما فعلوا بالنسبة إلى كلام مقداد و سعد.

بلى؛ إنهما لم

يقولا إلّا ما ذكرناه قبل قليل، ليس غير. و إذا كان أولئك المؤلفون يكتمون الحقائق، فقد أظهرها الآخرون و سجلوا نص ما قاله الرجلان «1»، و لم يكن قولا حسنا و لا كلاما طيبا، بل كان كلامهما مثبطا، ينمّ عن خوف، و وحشة، فهما صوّرا قريشا قوة لا تقهر، و جيشا لا يدحر، غير آبهين بما تترك كلماتهم من الأثر السيئ في نفوس المسلمين في ذلك الظرف الدقيق، و اللحظة الخطيرة!!

و إنك أيها القارئ لتستطيع أن تعرف مدى انزعاج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مقالتهما، مما ذكره الطبري نفسه في الصفحة ذاتها، فان الشيخين كما تلاحظ، كانا أوّل من نطقا في تلك الشورى، ثم تكلّم بعدهما المقداد، و سعد بن معاذ.

(2) فان الطبري يروي عن ابن مسعود أنه قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا لئن أكون أنا صاحبه احبّ إليّ مما في الارض من شي ء كان رجلا فارسا و كان

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 48، السيرة الحلبية: ج 2 ص 160، بحار الأنوار: ج 19 ص 217.

قال الواقدي: ثم قال عمر: يا رسول اللّه أنها و اللّه قريش و عزّها، و اللّه ما ذلّت منذ عزّت، و اللّه ما آمنت منذ كفرت، و اللّه لا تسلم عزّها أبدا، و لتقاتلنّك فاتّهب لذلك أهبته، و أعدّ لذلك عدّته!!!

كما جاء في صحيح مسلم: ج 5 ص 170 باب غزوة بدر و مسند أحمد: ج 3 ص 219 بطريقين انه حين بلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اقبال ابي سفيان شاور أصحابه، فتكلم أبو بكر فاعرض عنه، ثم تكلم عمر فاعرض عنه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:62

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذا غضب احمارّت وجنتاه، فاتاه

المقداد على تلك الحال «1» فقال: أبشر يا رسول اللّه فو اللّه لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: «اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون» «2».

و لقد كان ذلك المجلس مجلس استشارة و تبادل للرأي و كان لكل أحد الحقّ في أن يدلي برأيه، و يطرح نظره على القائد الأعلى، و لكنّ مجريات الاحداث أثبتت أن مقداد كان أقرب إلى الصواب، و أكثر توفيقا في اصابة الحق من ذينك الرجلين.

و قد أشار القرآن الكريم إلى تخوف بعض المسلمين من مواجهة العدوّ في هذه الموقعة إذ قال سبحانه:

«كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ» «3».

و قال تعالى:

«يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ» «4».

(1)

قرار الشورى الحاسم أو رأي زعيم الأنصار:

كانت الآراء التي طرحت آراء شخصيّة و فردية على العموم، و الحال أن الهدف الاساسيّ من عقد تلك الشورى كان هو الحصول على رأي الأنصار، فلمّا لم يدل الأنصار برأيهم لم يمكن لتلك الشورى أن تتخذ رأيا حاسما، و تبت في أمر.

من هنا أعاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوله: «أشيروا عليّ أيها

______________________________

(1) أي و هو غاضب من مقاله و تثبيط من تقدماه.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 140.

(3) الانفال: 5.

(4) الانفال: 6.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:63

الناس» و هو يريد الأنصار.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري و قال: و اللّه لكأنك يا رسول اللّه تريدنا؟

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أجل.

(1) فقال سعد: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنا قد آمنّا بك، و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به حق

من عند اللّه، و أعطيناك مواثيقنا و عهودنا على السمع و الطاعة فامض يا رسول اللّه لما اردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر «1» فخضته لخضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد، و ما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا.

إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة اللّه، وصل من شئت، و اقطع من شئت و خذ من أموالنا ما شئت، و ما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا مما تركت.

فسّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقول سعد و نشّطه ذلك، و أزال سحابة اليأس من النفوس، و أشعل ضياء الأمل في القلوب.

و لهذا لم يفرغ ذلك الأنصاريّ البطل و القائد المؤمن الشجاع من مشورته الشجاعة إلّا و أصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمره بالرحيل قائلا: «سيروا على بركة اللّه و ابشروا فانّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين و لن يخلف اللّه وعده.

و اللّه لكأنّي الآن أنظر الى مصارع القوم».

و تحرك الجيش الاسلاميّ بقيادة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و نزل عند آبار «بدر» «2».

(2)

تحصيل المعلومات حول العدوّ:

مع أنّ المبادئ العسكريّة و التكتيكات الحربية في الوقت الحاضر تختلف

______________________________

(1) يقصد البحر الأحمر.

(2) المغازي للواقدي: ج 1 ص 48، السيرة النبوية: ج 1 ص 615.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:64

عما كانت عليه في العصور الغابرة اختلافا كبيرا إلّا أنّ مسألة تحصيل المعلومات حول العدوّ و معرفة أسراره العسكرية، و مدى استعداداته و مبلغ قواه التي يستخدمها، و درجة معنويات أفراده لا تزال على أهميتها و قيمتها، لم تتغير من هذه، بل ازدادت أهمية في العصر الحاضر- كما أسلفنا-.

فهي تشكل

الآن أيضا مفتاحا في الحروب، و منطلقا للانتصارات العسكرية.

(1) على أن هذه المسألة قد اتخذت اليوم صبغة التعليم و التمرين، فقد أصبح لها اليوم كتب و معاهد تتولى تعليم طرائق التجسس العسكري و اساليبه، كما و يعزي قادة المعسكر الغربي و الشرقي الكثير من نجاحاتهم إلى نجاحهم في توسعة دوائر التجسس و منظماته التي تستطيع اطلاع أصحابها على معلومات دقيقة و مفصّلة عن خطط العدو و قواه، و اماكن تمركزه و تواجده، و خطوط إمداده، و تموينه تمهيدا لإفشال تحركاته أو إجهاضها فورا.

من هنا استقر الجيش الاسلاميّ في منطقة تلائم مبادئ التستر بشكل كامل، و منع عن أي عمل من شأنه انكشاف أسراره، كما أن فرقا مختلفة و متعددة كلّفت بتحصيل و جمع المعلومات عن قريش و قافلتها و جيشها.

(2) فكانت المعلومات التي توفرت لدى القيادة الاسلامية هي كالتالي:

الف/ انّ النبيّ نفسه ركب هو و رجل من قادة جيشه حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش و عن محمّد و أصحابه و ما بلغه عنهم فأخبرهم بأن محمّد و أصحابه خرجوا يوم كذا و كذا، و انه إن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا و كذا للمكان الذي كان به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ان قريشا خرجوا يوم كذا و كذا، و انه ان كان الذي أخبره صدقه فهم اليوم بمكان كذا و كذا للمكان الذي فيه قريش.

و هكذا عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نقطة تواجد قريش، و استقرار قواتهم.

(3) باء/ بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جماعة «الزبير بن العوام» و «سعد

سيد المرسلين ،ج 2،ص:65

بن أبي وقاص» بقيادة عليّ عليه السلام الى

ماء بدر يلتمسون له الخبر، فأصابوا إبلا يستقي عليها الماء لقريش فيها غلامان أحدهما لبني الحجاج و الآخر لبني العاص فأتوا بهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألهما النبيّ عن قريش فقالا: هم و اللّه وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.

فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كم القوم و ما عدّتهم فقالا:

لا ندري، كثير. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كم ينحرون (من الابل) كل يوم؟ قالا: يوما تسعا و يوما عشرا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: القوم فيما بين التسعمائة و الألف.

ثم سألهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟

قالا: عتبة بن ربيعة، و أبو البختري بن هشام، و حكيم بن حزام و شيبة بن ربيعة و أبو جهل بن هشام و أميّة بن خلف و .. و ..

فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أصحابه و قال:

«هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» «1».

(1) جيم/ كلّف شخصان بالدخول الى قرية بدر و تقصّي الحقائق حول قافلة قريش فيها فمضيا حتى نزلا بدرا فأناخا ابلهما الى تلّ قريب من الماء، ثم تظاهرا بأنّهما يريدان أن يستسقيا، و كان على الماء جاريتين تستسقيان و تقول إحداهما للاخرى: إنما تأتي القافلة غدا أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك.

فقال لها «مجدي بن عمرو الجهني»، و كان على مقربة منهما: صدقت ثم خلص بينهما.

فسرّ صاحبا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما سمعا فعادا في سرّية كاملة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبراه بما سمعا «2».

و الآن و بعد أن أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عارفا

بوقت ورود القافلة، و مكان تواجد قريش، معرفة دقيقة عمد إلى ترتيب المقدمات اللازمة.

______________________________

(1) و (2) السيرة النبوية: ج 1 ص 617.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:66

(1)

كيف هرب أبو سفيان؟

لقد تعرّض أبو سفيان قائد قافلة قريش لدى توجّهه بها إلى الشام للملاحقة من قبل مجموعة من المسلمين، و لهذا فانه كان يعلم جيدا بأنهم سوف يتعرضون له عند قفوله من الشام أيضا.

و لهذا عند ما وصل بقافلة قريش إلى المنطقة الخاضعة للمراقبة الاسلامية أراحها في منطقة بعيدة عن متناول أيدي المسلمين و دخل هو قرية «بدر» يتجسس، و يسأل عن أخبار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فالتقى «مجدي بن عمرو» على ماء بدر فسأله: هل أحسست أحدا؟ (و يقصد هل رأيت أحدا من عيون محمّد و رجاله؟).

فأجابه مجدي قائلا: ما رايت أحدا انكره، إلّا أني قد رأيت راكبين قد أناخا الى هذا التلّ ثم استقيا في شنّ لهم، ثم انطلقا.

فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففتّه، فاذا فيه النوى فقال: هذه- و اللّه- علائف يثرب. هذه عيون محمّد و أصحابه، ما أرى القوم إلّا قريبا.

فرجع إلى أصحابه سريعا و حرّك القافلة من فوره، و ابتعد عن بدر و أخذ بها جهة ساحل البحر الأحمر كما أنه كلّف أحدا بإخبار قريش فورا، بأنّ قافلتهم أفلتت من يد محمّد و أصحابه، و أن أموالهم نجت فليرجعوا و ليتركوا محمّدا تكفيه العرب.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:67

خارطة معركة بدر

دليل الخارطة:

1- القلعة 2- مدينة بدر 3- النخيل 4- مسجد العريش 5- بيوت بدر

سيد المرسلين ،ج 2،ص:68

(1)

علم المسلمين بإفلات قافلة قريش:

عرف المسلمون بإفلات قافلة قريش، و انتشر هذا النبأ بينهم بسرعة، فاغتمّ من خرج مع المسلمين يريد الحصول على شي ء من تلك الأموال، فقال اللّه تعالى تثبيتا لهم و تسكينا لقلوبهم:

«وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ

بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» «1».

(2)

إختلاف قريش في القتال:

عند ما وافى رسول أبي سفيان قريشا و هم بالجحفة، و أبلغهم رسالة أبي سفيان و طلب منهم الرجوع إلى مكة حدث بين رجال قريش اختلاف عجيب.

و قال بنو زهرة و الأخنس بن شريق و كانوا حلفاء على الرجوع قائلين: قد خلصت أموال سيد بني زهرة: «مخرمة بن نوفل» و انما نفرنا لنمنعه و ماله، فلا حاجة بأن نخرج في غير منفعة.

و رجع طالب (ابن أبي طالب) إلى مكة و كان قد استكره على الخروج من مكة، و ذلك بعد مشاجرة بينه و بين رجل من قريش قال له:

«و اللّه لقد عرفنا يا بني هاشم، و إن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمّد» «2».

(3) و أما أبو جهل فقد أصرّ على مواصلة التقدّم نحو المدينة، و عدم الرجوع إلى مكّة خلافا لطلب أبي سفيان، قائلا:

و اللّه لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزر (الأباعر) و نطعم الطعام، و نسقي الخمر، و تعزف لنا القيان و المغنيات، و تسمع بنا العرب و بمسيرنا، و جمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا!!

______________________________

(1) الانفال: 7 و 8.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 619.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:69

(1) فحملت كلمات أبي جهل المغرية قريشا على مواصلة التقدم نحو المدينة، و نزلت في مكان مرتفع «1» خلف كثيب.

و أمطرت السماء مطرا غزيرا فأصاب قريشا منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، و منعهم من مزيد التقدم.

بينما لم يحدث المطر أي مشكلة في العدوة الدنيا للمسلمين و لم يمنع من تحركهم بل كان بحيث لبد الأرض حتى ثبتت أقدامهم «2».

و «بدر» منطقة واسعة يتكون

جنوبها من مكان مرتفع (العدوة القصوى) و شمالها من مكان منخفض منحدر (العدوة الدنيا) و كانت في هذا الوادي الواسع بضع آبار و عيون ماء، فكان منزلا للقوافل ينزلون فيه و يستقون، و يستريحون ردحا من الزمن.

(2) و هنا تقدم «الحباب بن منذر» و كان فارسا مجربا و عسكريا محنكا باقتراح الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذ قال: يا رسول اللّه أ رأيت هذا المنزل منزلا أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدمه و لا نتأخر عنه أم هو الرأي و الحرب و المكيدة؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «بل هو الرأي و الحرب و المكيدة».

فقال: يا رسول اللّه فان هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتّى أدنى ماء من القوم، فنزله فنغوّر (أي ندفن العين) ما وراء القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب و لا يشربون.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقد أشرت بالرأي.

فنهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من معه فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب (الآبار) فغوّرت، و بنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية.

إن هذه الحادثة تكشف جيّدا على اهتمام رسول الإسلام بالمشاورة،

______________________________

(1) و هو ما يسمى بالعدوة القصوى.

(2) و يقال كان المطر ينزل على قريش كأفواه القرب و على أصحاب رسول اللّه رذاذا بقدر ما لبد الأرض.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:70

و احترامه لآراء الآخرين و اتساع صدره لاقتراحاتهم، و الأخذ بما يفيد منها دون تكبّر أو انزعاج «1».

(1)

«العريش» أو غرفة القيادة:

اشارة

و قيل إن سعد بن معاذ تقدم هو الآخر بمقترح عسكري رائع و هو بناء و اقامة برج لرسول

اللّه يقود منه العمليات و يشرف على سيرها و يكون مأمنا له من كيد الاعداء فقال: يا رسول اللّه أ لا نبني لك عريشا تكون فيه، و نعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدوّنا فان أعزّنا اللّه و أظهرنا على عدوّنا، كان ذلك ما أحببنا، و ان كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلّف عنك أقوام يا نبيّ اللّه ما نحن بأشد لك حبا منهم، و لو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك اللّه بهم، يناصحونك و يجاهدون معك.

فأثنى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دعا له بخير، ثم بني له صلّى اللّه عليه و آله عريش فوق مكان مرتفع مشرف على ساحة القتال و الحرب، و كان سعد و جماعة من فتيان الأنصار يحرسونه في بعض حالات القتال!! «2».

(2)

نظرة الى مسألة «العريش»:

ان مسألة بناء العريش لرسول اللّه، و حراسة سعد بن معاذ و جماعة من فتيان الأنصار له هو مما ذكره و رواه الطبري في تاريخه نقلا عن ابن اسحاق و تبعه الآخرون في ذلك، و لكن هذه القصة لا يمكن القبول بها لاسباب هي:

(3) أوّلا: أن هذا العمل يفتّ في عضد الجنود، و يضعف من معنوياتهم القتالية لأن معناه أن القائد يفكر في وسيلة لنجاة نفسه دون أن يفكر في نجاة جنوده، و مثل هذه القيادة لا يمكنها ان تستحوذ على قلوب جنودها، و تجعلها مطيعة لأوامرها.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 620، تاريخ الطبري: ج 2 ص 144.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 145، السيرة النبوية: ج 1 ص 620.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:71

(1) ثانيا: أنّ هذه القصة تتنافى مع الاخبار القطعية التي بشر رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله بها المسلمين في ضوء ما نزل عليه من آيات.

فهو صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يواجه المسلمون قريشا قال لأصحابه الذين خرجوا معه من المدينة وعدهم إحدى الطائفتين، أي إما الظفر بقافلة قريش التجارية قطعا، أو الانتصار على الجيش المكي حتما و يقينا إذ قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» «1».

و إنما اقدم على بناء العريش لرسول اللّه- بناء على رواية الطبري- في الوقت الذي كانت قافلة قريش قد أفلتت و هربت من أيدى المسلمين، و لم يبق الّا الجماعة المسلحة التي خرجت لحماية القافلة، و كان المسلمون يعلمون- طبقا لذلك الوعد الإلهي القاطع- أنهم سينتصرون على تلك الجماعة الكافرة:

«و يقطع دابر الكافرين» فلم يكن المجال مجال تردد و شك.

و بهذا يكون حديث هزيمة المسلمين في هذه المواجهة و لزوم بناء عريش لحماية النبيّ و اعداد ابل سريعة السير عند العريش لينجو صلّى اللّه عليه و آله عليها بنفسه حديثا باطلا لا مبرّر له، و لا مسوّغ.

(2) يقول ابن سعد نقلا عن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت «سيهزم الجمع و يولّون الدبر» قلت: و أي جمع يهزم و من يغلب؟ فلما كان يوم بدر نظرت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يثب في الدرع وثبا و هو يقول: «سيهزم الجمع و يولّون الدبر» فعلمت ان اللّه تبارك و تعالى سيهزمهم «2».

و مع هذا هل يحتمل أن يدور في خلد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه شي ء حول الهزيمة أو يحدثوا أنفسهم بالفرار؟

(3) ثالثا: أن

النبيّ الذي يصف الامام عليّ عليه السلام موقفه و حالته عند اشتداد ضراوة القتال لا تنسجم أبدا و لا تلائم هذا التكتيك الذي لا يتسم

______________________________

(1) الأنفال: 7.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 25.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:72

بالشجاعة و الثبات.

يقول عليّ عليه السلام:

«كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه» «1».

فهل يفكر مثل هذه الشخصيّة التي يصفها أول تلامذة مدرسته، و أقرب صحابته إليه بمثل هذا الوصف، في الفرار، أو اتخاذ الاحتياطات اللازمة لذلك.

نحن نعتقد أن بناء العريش لم يكن إلّا من باب إعداد غرفة للعمليّات و لمراقبة سير القتال من مكان مشرف على ساحة القتال، لأن القيادة ما لم تكن مشرفة على ساحة القتال لا يمكنها أن تتصرف بواقعية و اتقان، و لا يمكنها أن تقود الجنود و الحشود من منطلق الواقع القتالي و العسكري.

من هنا لم يكن الهدف من العريش ان صحّ أصل القصة هو الإعداد و التحسب للفرار و ما شاكل ذلك.

(1)

تحرك قريش باتجاه بدر:

في صبيحة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ارتحلت قريش من وراء الكثيب و انحدرت إلى وادي بدر، فلما رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«اللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها، و فخرها تحادّك و تكذّب رسولك.

اللّهمّ فنصرك الّذي وعدتني به، اللّهمّ أحنهم «2» الغداة».

(2)

قريش تتشاور في القتال:

استقرت قوى قريش في منطقة من أرض بدر استعدادا للمواجهة، و حيث

______________________________

(1) نهج البلاغة لعبده: الكلمات القصار الكلمة 214، و يقول السيد الرضي رضي اللّه عنه: معنى ذلك أنه اذا عظم الخوف من العدوّ، و اشتد عضاض الحرب فرع المسلمون الى قتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه فينزل اللّه عليهم النصر به و يؤمنون ممّا كانوا يخافونه بمكانه.

(2) أي اهلكهم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:73

أنهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن عدد أفراد المسلمين و مبلغ استعداداتهم، لذلك كلفوا «عمير بن وهب الجمحيّ»- و كان فارسا ماهرا في الاحصاء و التخمين- بأن يحزر (و يقدر بالحدس) عدد أصحاب محمّد.

فاستجال بفرسه حول عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم رجع الى قريش و قال: ثلاثمائة رجل يزيدون أو ينقصون، و لكن أمهلوني حتى انظر أ للقوم كمين، أو مدد.

فضرب في الوادي حتى أبعد و لكنه لم ير شيئا.

فرجع الى قريش ثانية و هو يحمل لهم خبرا مرعبا إذ قال: ما وجدت شيئا (أي كمينا او مددا وراء المسلمين) و لكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا «1» تحمل المنايا، نواضح «2» يثرب تحمل الموت الناقع «3»، قوم ليس معهم منعة و لا ملجأ إلّا سيوفهم.

و اللّه ما أرى أن يقتل رجل منهم حتّى يقتل رجلا منكم، فاذا اصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك

فروا رأيكم!!!

(1) و روى الواقدي عبارات عمير بنحو آخر إذ قال: قال عمير: و اللّه ما رأيت جلدا و لا عددا و لا حلقة و لا كراعا، و لكني رأيت قوما لا يريدون أن يئوبوا الى أهليهم، قوما مستميتين ليست لهم منعة و لا ملجأ إلّا سيوفهم، زرق العيون كأنهم الحصى تحت الحجف «4» «5».

و روى المجلسي ما قاله عمير بنحو ثالث إذ قال: قال عمير: ما لهم كمين و لا مدد، و لكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أ ما ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمّظ الافاعي ما لهم ملجأ إلّا سيوفهم ما أراهم يولون حتى يقتلوا، و لا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم «6».

______________________________

(1) و هي جمع بلية و هي الناقة او الدابة.

(2) الابل يستقى عليها الماء.

(3) الموت الثابت البالغ في الافناء.

(4) الحجف جمع الحجفة و هي الترس.

(5) المغازي: ج 1 ص 62.

(6) بحار الأنوار: ج 19 ص 224.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:74

(1)

اختلاف قادة قريش في امر القتال:

أوجدت كلمات عمير الفارس الشجاع ضجة كبرى بين رجال قريش و سادتها و زعمائها، و انتاب الجميع خوف بالغ و رعب شديد من المسلمين.

فمشى حكيم بن حزام الى عتبة بن ربيعة ليقنعه بالعدول عن مقاتلة المسلمين، فقال له: يا أبا الوليد إنّك كبير قريش و سيّدها، و المطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزل تذكر فيها بخير الى آخر الدهر، ترجع بالناس و تحمل أمر (دم) حليف عمرو بن الحضرمي، و ما أصاب محمّد من ماله ببطن نخلة «1» إنكم لا تطلبون من محمّد شيئا غير هذا الدم و المال؟!

(2) فاقتنع عتبة برأي حكيم، فجلس من فوره على جمله، و وقف يخطب في المشركين من قريش بنطق جميل و

بليغ يقول: يا قوم أطيعوني و لا تقاتلوا هذا الرجل و أصحابه (يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله)، يا معاشر قريش أطيعوني اليوم و اعصوني الدهر، إن محمّدا له آل (أي قرابة) و ذمة و هو ابن عمكم فخلّوه و العرب، إنكم و اللّه ما تصنعون بأن تلقوا محمّدا و أصحابه شيئا، و اللّه لئن اصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا و خلّوا بين محمّد و سائر العرب، فان أصابوه فذاك الذي أردتم و ان كان غير ذلك ألفاكم و لم تعرضوا منه ما تريدون «2».

(3) و انطلق حكيم بن حزام الى أبي جهل و أخبره برأي عتبة و مقالته، هذا و أبو جهل يهين درعه، فانزعج أبو جهل من مقالة عتبة و موقفه انزعاجا شديدا و ثارت ثائرته حسدا على عتبة، و تعنتا عن الحق «3»، و بعث من فوره رجلا إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو الذي قتل في غزوة عبد اللّه بن جحش بنخلة

______________________________

(1) إشارة الى ما جرى في سرية عبد اللّه بن جحش.

(2) المغازي: ج 1 ص 63، السيرة النبوية: ج 1 ص 623، بحار الأنوار: ج 19 ص 224.

(3) قال صاحب المغازي: فحسده أبو جهل حين سمع خطبته و قال: ان يرجع الناس من خطبة عتبة يكن سيد الجماعة، و عتبة انطق الناس!!!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:75

و قال له: هذا حليفك (عتبة) يريد أن يرجع بالناس و قد رأيت ثأرك بعينك، فقم و انشد خفرتك «1» و مقتل (أو دم) أخيك.

(1) فقام عامر و كشف عن رأسه، و أخذ يحثو التراب على رأسه، و صاح

مستغيثا وا عمراه وا عمراه، تحريكا للناس و إثارة لمشاعرهم.

فهاج الناس لمنظر عامر و ثارت مشاعرتهم لندبته، و أجمعوا على الحرب، و تناسوا اقتراح عتبة، و نصيحته البليغة الحكيمة لهم.

و لكن عتبة هذا الذي كان يميل الى اعتزال الجيش و ترك الحرب، هاجت مشاعره هو الآخر فقام من فوره و لبس لامة حربه و استعد لقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه «2».

و هكذا نجد كيف يتضاءل نور العقل عند هبوب رياح العاطفة الملتهبة، و المشاعر الثائرة الباطلة و تنطفئ شعلة الفكر، و لا يعود يضي ء لصاحبه درب المستقبل حتى أن الرجل الذي كان قبل قليل داعية السلام، و التعايش الاخوي يتحول تحت تأثير ذلك الهياج العاطفي، العابر، الاحمق إلى أول مبادر الى القتال و سفك الدماء و ازهاق الارواح!!!

(2)

ما الذي حتّم القتال؟

لما أبصر الاسود بن عبد الأسد المخزومي و كان رجلا شرسا سيئ الخلق- الحوض الذي بناه المسلمون عند البئر لشربهم قال: اعاهد اللّه لاشربن من حوضهم أو لا هدمنّه أو لأموتنّ دونه!!

ثم خرج من بين صفوف المشركين و شد حتى دنا من الحوض فاستقبله حمزة، و لما التقيا ضربه بسيفه حمزة فاطار قدمه، و هو دون الحوض فوقع على الأرض تشخب رجله دما ثم حبا الى الحوض حتى اقتحم فيه يريد ان يشرب منه أو ان

______________________________

(1) اي اطلب من قريش الوفاء بخفرتهم و عهدهم لك لأنه كان حليفا لهم.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 623، بحار الأنوار: ج 19 ص 224.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:76

يبر يمينه، فاتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

فتسببت هذه الحادثة في أن يصبح القتال امرا مسلّما و حتميا، لانه ليس ثمة شي ء يقدر على تحريك المشاعر، و اثارة العواطف

و دفع الناس للقتال كسفك الدم.

فالذين كان الغيظ و الحنق على المسلمين يكاد يقتلهم، و كانوا يبحثون عن ذريعة يشعلون بها نيران الحرب و يفجّرون فتيلها قد حصلوا الآن على ما يريدون «1».

(1)

المبارزات الفردية أولا:

كان التقليد المتّبع عند العرب في الحروب أن يبدأ القتال بالمبارزات الفرديّة ثم تقع بعدها الحملات الجماعية.

فلما قتل الاسود المخزومي خرج ثلاثة فرسان من صناديد قريش المعروفين من صفوف الجيش المكي و دعوا الى المبارزة.

و هؤلاء الصناديد الثلاثة هم:

1- عتبة «2».

2- شيبة.

و هما ابنا ربيعة بن عبد شمس.

3- الوليد بن عتبة بن ربيعة.

فأخذوا يجولون في ميدان القتال و يدعون الى المبارزة، فخرج إليهم من المسلمين فتية من الأنصار ثلاثة و هم «عوف» و «معوذ» ابنا الحارث و «عبد اللّه بن رواحة».

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 147 و 148.

(2) و عتبة هذا هو الذي اقترح الانسحاب و عدم القتال كما عرفت. و يروى انه لما خرج قال له حكيم بن حزام: أبا الوليد مهلا، مهلا تنهى عن شي ء و تكون أوّله!! (المغازي: ج 1 ص 67).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:77

(1) و لما عرف عتبة أنهم من رجال المدينة قال: ما لنا بكم من حاجة.

ثم نادى مناديهم: يا محمّد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«قم يا عبيدة بن الحارث و قم يا حمزة، و قم يا عليّ».

فقاموا، و خرجوا للمبارزة، و لما دنوا منهم، سألهم عتبة عن أسمائهم فعرّف أبطال الاسلام أنفسهم و ذكروا أسماءهم.

فقال رجال المشركين الثلاثة: نعم أكفاء كرام.

(2) و يرى البعض أنه بارز كلّ من هؤلاء الثلاثة من كان على سنّه من الكفار فبارز عليّ عليه السّلام الوليد (خال معاوية بن أبي سفيان) و بارز حمزة

(و هو أوسطهم) عتبة (جدّ معاوية لامّه) و بارز عبيدة (و هو أسنّ الثلاثة) شيبة و هو أسنّ الكفار الثلاثة.

غير أن ابن هشام يقول: بارز «حمزة» شيبة، و بارز «عبيدة» عتبة، و بارز «عليّ» الوليد بن عتبة «1».

و هذا يعني أن حمزة (الاوسط في السن) قاتل الاسنّ من الكفار.

(3)

فأيّ القولين هو الأصح؟

إن ملاحظة أمرين توضح الحقيقة في هذا المجال:

الأوّل: إن المؤرخين كتبوا: أن عليا و حمزة قتلا خصميهما في الحال، ثمّ ساعدا عبيدة على قتل خصمه «2».

الثاني: إن الامام أمير المؤمنين عليه السلام كتب في كتاب له الى معاوية:

«و عندي السيف الذي اعضضته بجدّك و خالك و أخيك في مقام

______________________________

(1) راجع لمعرفة كلا الرأيين سنن البيهقي: ج 3 ص 276.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 148، السيرة النبوية: ج 1 ص 625 قال: و كرّ حمزة و عليّ بأسيافهما على عتبة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:78

واحد» «1».

(1) فمن هذا الكتاب يتضح بجلاء أن الامام عليه السلام شارك- في قتل جدّ معاوية (أي عتبة) هذا من جانب.

كما أننا نعلم من جانب آخر أن كلا من حمزة و عليا قد قتل خصمه في اللحظة الاولى من المبارزة. فاذا كان خصم حمزة هو عتبة (جدّ معاوية) لم يكن- حينئذ- أي معنى لقول الامام عليه السلام: «أنا قتلت جدك».

فلا مناص من أن نقول: إن الذي بارز حمزة هو شيبة، و أن الذي بارز عبيدة هو عتبة ليصح حينئذ أن يقال أن عليا و حمزة، ذهبا- بعد الفراغ من قتل خصميهما- الى عتبة و كرّا بأسيافهما عليه و قتلاه، ثم احتملا صاحبهما «عبيدة» و أتيا به الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «2».

و بهذا تترجح النظرية الثانية، و القاضية بعدم التكافؤ بين أسنان

كلّ من المتبارزين.

(2)

الهجوم العامّ:

إثر مقتل صناديد قريش الثلاثة في المبارزة الفردية بدأ الهجوم العام.

فتزاحف الناس و دنا بعضهم من بعض، و قد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم، و أن يكتفوا برمي القوم بالنبال إذا اقتربوا منهم ليمنعوا من تقدّم العدوّ.

ثم نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من برج القيادة (العريش) و عدل صفوف أصحابه و في يده سهم يعدّل القوم. فمر بسوّاد بن غزية، و هو متقدم من الصف، فطعن في بطنه بالسهم الذي معه و قال له: استو يا سوّاد.

______________________________

(1) نهج البلاغة قسم الكتب الرقم 64 و اعضضته به جعلته يعضه.

(2) ثم إن المقصود من أخ معاوية الذي أشار الامام علي في كلمته الى قتله هو حنظلة بن أبي سفيان بن حرب راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 708 و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 18 ص 19.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:79

(1) فقال: يا رسول اللّه أوجعتني و قد بعثك اللّه بالحق و العدل فأقدني (أي اقتصّ) لي من نفسك. فكشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن بطنه و قال:

استقد (أي أنت اقتصّ) فاعتنقه سوّاد و قبّل بطنه صلّى اللّه عليه و آله فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما حملك على هذا؟

قال: يا رسول اللّه حضر ما ترى (من القتال) فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك.

فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخير «1».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن عدّل الصفوف رجع الى غرفة العمليّات (العريش) فدخله و توجّه إلى ربه بقلب مفعم بالإيمان يناشده ما وعده

من النصر و قال في مناجاته لربه في تلك اللحظات:

«اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا» «2».

و لقد سجّلت المصادر التاريخية الاسلامية تفاصيل و جزئيات الهجوم العام، الى درجة ما، إلّا أنّ من المسلّم المقطوع به أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان ينزل من العريش أحيانا و يحرّضهم على القتال و المقاومة. فقد قال في احدى هذه المرات:

«و الّذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلّا أدخله اللّه الجنّة».

(2) و لقد كانت كلمات القائد الاعلى هذه تفعل فعلتها في النفوس، فتثير الهمم، و توجد شوقا عجيبا الى الشهادة في المقاتلين المسلمين، حتى أن أحدهم و يدعى «عمير بن الحمام» أخو بني سلمة قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و في يده تمرات ياكلهنّ يا رسول اللّه: بخ بخ، أ فما بيني و بين أن أدخل الجنّة إلّا أن يقتلني هؤلاء.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 626

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 627، تاريخ الطبري: ج 2 ص 149.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:80

ثم قذف التمرات من يده و أخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل «1».

ثم إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال:

«شاهت الوجوه».

ثم نفحهم بها، و أمر أصحابه، فقال: شدّوا «2».

و لم يمض وقت طويل حتى ظهرت بوادر انتصار المسلمين على أعدائهم المشركين فقد انتاب المشركين خوف و رعب شديدان، و أخذوا ينهزمون أمام زحف المسلمين.

فقد كان المسلمون يقاتلون عن ايمان، و اخلاص و يعلمون بأنهم ينالون السعادة قتلوا أو قتلوا، فلم يرهبوا شيئا، و ما كان يمنعهم شي ء عن التقدم و الإقبال.

(1)

رعاية الحقوق:

لقد كان

لا بدّ من رعاية الحقوق بالنسبة الى طائفتين في معسكر المشركين:

الاولى: اولئك الذين احسنوا إلى المسلمين في مكة، و دافعوا عنهم كأبي البختري الذي كان ممن قام في نقض الصحيفة الظالمة التي سبق الحديث عنها.

الثانية: أولئك الذين اكرهوا على الخروج من المشركين إلى بدر، و كانوا يرغبون في قرارة أنفسهم في الاسلام مثل معظم رجال بني هاشم كالعباس بن عبد المطلب عم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

(2)

مصرع أميّة بن خلف:

و لقد اسّر «اميّة بن خلف» و ابنه على يد عبد الرحمن بن عوف و اذ كان بينه

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 627.

(2) المصدر السابق: ص 628، البداية و النهاية: ج 2 ص 284.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:81

و بين أمية صداقة بمكة طلب أميّة من عبد الرحمن أن يخرجه من أرض المعركة لكي لا يقتل هو و ولده، او ليعدّا من الأسرى.

فرضى عبد الرحمن بذلك، و بينما هو يقودهما إذ أبصر بلال بهم و كان اميّة هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الاسلام، فيخرجه الى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمّد فيقول بلال: أحد، أحد.

(1) فلما رآه بلال في الأسر و قد أقدم عبد الرحمن على حمايته و الذب عنه و هو يريد نجاته و ولده، صاح مستصرخا المسلمين: يا أنصار اللّه رأس الكفر اميّة بن خلف لا نجوت إن نجا.

فأحاط المسلمون باميّة و ولده من كل جانب و قطّعوهما بسيوفهم حتى فرغوا منهما «1».

و قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن قتل أبي البختري الذي كان له دور مشرف في نقض الحصار الاقتصادي الذي ضربته قريش

على المسلمين في مكة، و كان لا يؤذي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلقيه رجل من المسلمين يدعى «المجذر» فأراد أسره و استبقاءه ريثما يأخذه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليرى فيه رأيه، و لكنّه نازل المجذّر، و أبى إلّا القتال، فاقتتلا فقتله المجذّر.

ثم ان المجذّر أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: و الذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلّا أن يقاتلني فقاتلته فقتلته «2».

(2)

خسائر بدر في الأرواح و الاموال:

لقد قتل في معركة «بدر» من المسلمين أربعة عشر رجلا، و قتل من المشركين سبعون و اسر سبعون من أبرزهم: النضر بن الحارث، و عقبة ابن أبي معيط، و أبو

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 632.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 629 و 630 و راجع الطبقات الكبرى: ج 2 ص 23.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:82

غرة، و سهيل بن عمرو و العباس، و أبو العاص بن الربيع (صهر النبيّ) «1».

ثم دفن شهداء بدر في جانب من أرض المعركة، و قبورهم باقية إلى الآن.

ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يلقى بقتلى المشركين في البئر.

و بينما كان يسحب عتبة بن ربيعة الى البئر نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وجه «أبي حذيفة» ابن عتبة فاذا هو كئيب، قد تغيّر لونه فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شي ء؟!

فقال: لا و اللّه يا رسول اللّه، ما شككت في ابي و لا في مصرعه، و لكنني كنت أعرف من أبي رأيا و حلما و فضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الاسلام، فلمّا رأيت ما أصابه و ذكرت

ما مات عليه من الكفر بعد الّذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك!!.

فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخير «2».

إن هذه القصة لتكشف عن مدى حبّ المسلمين لدينهم، و رغبتهم الصادقة في أن يهتدي إليه الناس كما تكشف أيضا عن أنهم كانوا يقدّمون المعيار الديني على المعيار العائلي إذا تعارضا.

(1)

ما أنتم باسمع منهم:

لقد انتهت معركة بدر بانتصار عظيم في جانب المسلمين و هزيمة نكراء في جانب المشركين.

فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربين صوب مكة مخلّفين وراءهم سبعين قتيلا من صناديدهم و ساداتهم و فتيانهم الشجعان و سبعين أسيرا.

و لما أمر النبيّ بإلقاء قتلى المشركين في القليب «3» وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند القليب و أخذ يخاطب القتلى واحدا واحدا و يقول:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 706 و 708، المغازي: ج 1 ص 138- 173.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 640 و 641.

(3) القليب: البئر.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:83

«يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، و يا شيبة بن ربيعة، و يا اميّة بن خلف، و يا أبا جهل (و هكذا عدّد من كان منهم في القليب) هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقا، فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا».

فقال له بعض أصحابه: يا رسول اللّه أ تنادي قوما موتى؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم و لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

و كتب ابن هشام يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال يوم هذه المقالة:

«يا أهل القليب بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم كذّبتموني و صدّقني الناس، و أخرجتموني و آواني الناس، و قاتلتموني و نصرني الناس، (ثم قال:) هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّا؟» «1».

(1)

الشعر يخلّد هذه القصة:

سيد المرسلين ج 2 83 الشعر يخلد هذه القصة: ..... ص : 83

تبر هذا الموضوع من القضايا الثابتة و المسلّمة في التاريخ الاسلاميّ، فقد ذكره جميع المحدّثين و المؤرخين من الشيعة و السنة، و قد ذكرنا طائفة من مصادره في الهامش.

و قد كان من دأب حسان بن ثابت شاعر عصر الرسالة ان ينشد أبياتا

في كل واقعة من وقائع الاسلام البارزة و بذلك يقوي من عزيمة المسلمين و يشد من أزرهم لأن الشعر يجلي البطولات و يكرم المواقف و يخلد الامجاد و يحافظ على المفاخر و يكسبها طابعا أبديا و لهذا يعد وسيلة جيدة لتقوية المعنويات، و إبطال مفعول الحرب الباردة و النفسية التي يقوم بها العدوّ.

و قد طبع ديوان «حسان» لحسن الحظ، و يمكن لنا أن نقف على الكثير من ايام الإسلام و امجاده من خلال قصائده، و ابياته المدرجة فيه.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 639، السيرة الحلبية: ج 2 ص 179 و 180 و غيرهما.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:84

(1) و قد أنشد حسان قصيدة بائية رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض ابياتها الى هذه الحقيقة اعني قصة القليب إذ يقول:

يناديهم رسول اللّه لمّاقذفناهم كباكب في القليب

أ لم تجدوا كلامي كان حقّاو أمر اللّه يأخذ بالقلوب؟

فما نطقوا و لو نطقوا لقالواصدقت و كنت ذا رأي مصيب! على أنه لا توجد عبارة اشد صراحة من ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المقام حيث قال: «ما أنتم بأسمع منهم».

(2) و ليس ثمة بيان أكثر إيضاحا و أشدّ تقريرا لهذه الحقيقة من مخاطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لواحد واحد من أهل القليب، و مناداتهم بأسمائهم و تكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة.

فلا يحقّ لأيّ مسلم مؤمن بالرسالة و الرسول أن يسارع الى إنكار هذه القضية التاريخية الاسلامية المسلّمة، و يبادر قبل التحقيق و يقول: إن هذه القضية غير صحيحة لانها لا تنطبق على موازين عقلي المادي المحدود.

و قد نقلنا هنا نص هذا الحوار، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله يصرح بهذه الحقيقة بحيث لا توجد فوقه عبارة في الصراحة، و الدلالة على هذه الحقيقة.

و من أراد الوقوف على مصادر هذه القصة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش ادناه «1».

______________________________

(1) إن تكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع رءوس الشرك الموتى الذين القيت اجسادهم في البئر من مسلمات التاريخ و الحديث، و قد اشار الى هذا من بين المحدثين و المؤرخين:

صحيح البخاري: ج 5 في معركة بدر ص 76 و 77- 86 و 87، صحيح مسلم: ج 8 كتاب الجنة باب مقعد الميت ص 163، سنن النسائي ج 4 باب أرواح المؤمنين ص 89 و 90، مسند الامام أحمد: ج 2 ص 131، السيرة النبوية: ج 1 ص 639، المغازي: ج 1 غزوة بدر ص 112، بحار الأنوار:

ج 19 ص 346.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:85

(1)

بعد معركة بدر:

يعتقد كثير من المؤرخين المسلمين أن المبارزات الفردية و من بعدها القتال الجمعي في غزوة بدر استمر حتى زالت الشمس و انتهت المعركة بفرار المشركين و أسر جماعة منهم. ثم بعد أن فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه من دفن شهداء المسلمين صلى بالناس العصر في بدر ثم غادر ارض بدر قبل غروب الشمس من ذلك اليوم، هذا و قد كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اشخاصا بجمع الغنائم من أيدي الناس.

و هنا واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اول اختلاف بين أصحابه في كيفية تقسيم الغنائم، فقد كان كلّ فريق يرى نفسه أولى من غيره بها، نظرا لدوره في تلكم المعركة.

فالذين كانوا يحرسون عريش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مخافة أن يكرّ عليه

العدو كانوا يرون أن عملهم لا يدانيه في الاهمية أي عمل آخر، لأنهم كانوا يحرسون القائد، و يحافظون على مقرّ القيادة.

و بينما كان الذين جمعوا الغنائم يرون أنهم الأحق لأنهم جمعوها، فيما كان الذين قد قاتلوا العدو و لا حقوه و طاردوه يقولون: و اللّه لو لا نحن ما أصبتموه، إنا لنحن الذين شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم «1».

(2) و لا ريب أن أسوأ ما يصيب أي جيش هو أن يدبّ الخلاف بين قطعاته و أفراده، فينفرط عقده و تتلاشى وحدته.

من هنا بادر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للقضاء على هذه الآمال و المطامع المادية و بغية اسكات كل تلك الاصوات إلى إيكال جمع الغنائم و حملها، و المحافظة عليها إلى «عبد اللّه بن كعب المازني» و أمر جماعة من أصحابه أن يعينوه ريثما يفكّر في طريقة تقسيمها. لقد كان قانون العدل و الإنصاف يقضي بأن

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 98 و 99.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:86

يشترك جميع أفراد ذلك الجيش في تلك الغنائم، لأنهم ساهموا بأجمعهم في تلك المعركة، و كان لكل منهم دور و مسئولية فيها، فما كان لفريق أن يحرز نجاحا من دون أن يقوم الآخرون بأدوارهم.

من هنا قسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الغنائم بينهم- في أثناء الطريق- على قدم المساواة، و فرز لذوي الشهداء أسهما منها.

(1) و لقد أثارت طريقة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تقسيم الغنائم (و ذلك بقسمتها على جميع المشاركين معه في معركة بدر بالتساوي) سخط «سعد بن أبي وقاص» فقال: يا رسول اللّه أ يعطى فارس القوم الذي يحميهم مثل ما يعطى الضعيف؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«ثكلتك أمّك، و هل تنصرون إلّا بضعفائكم» «1».

و هو صلّى اللّه عليه و آله يقصد أن هذه الحرب لم تكن إلّا لأجل الدفاع عن الضعفاء، و رفع الحيف عنهم، و انه صلّى اللّه عليه و آله لم يبعث إلّا لإزالة هذه الفوارق و الامتيازات الظالمة، و إلّا لاجل اقرار المساواة في الحقوق بين الناس.

(2) هذا و رغم أن خمس الغنيمة هي بنص آية الخمس «2» للّه و لرسوله و لذي القربى و اليتامى و ابن السبيل من أهل بيته صلّى اللّه عليه و آله إلّا أنه صلّى اللّه عليه و آله لم يخمّس غنائم «بدر» بل وزّع الخمس على المشاركين في بدر أيضا.

على أنه يمكن أن تكون آية الخمس لم تنزل آنذاك بعد، أو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يتمتع باختيارات خاصة، فصرف النظر عن أخذ الخمس لنفسه و قرباه، تكثيرا لأسهم المجاهدين، و ذلك و لا ريب خطوة حكيمة جدا و خاصة في أول مواجهة عسكرية مع العدوّ «3».

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 99.

(2) الانفال: 1.

(3) و جاء في بعض المصادر التاريخية ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ضرب من الغنائم أسهما لاشخاص لم يحضروا بدر و لم يشتركوا في القتال مع رغبتهم في ذلك و ذلك إما لامور أصابتهم عند الخروج

سيد المرسلين ،ج 2،ص:87

(1)

قتل أسيرين في اثناء الطريق:

و لما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في «الصفراء» «1» و هي أحد المنازل على طريق بدر- المدينة عرض عليه الاسرى فأمر بقتل النضر بن الحارث و كان من أعداء المسلمين الالداء.

و أمر بأن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط إذ كان بعرق الظبية.

و هنا ينطرح سؤال و هو: إن حكم الاسلام

في أسرى الحرب هو أنّهم عبيد للمسلمين و المجاهدين، يباعون و يشترون باثمان مناسبة فلما ذا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شأن هذين الأسيرين بحكم آخر؟.

ثم إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي خاطب المسلمين في «بدر» في الأسرى الذين بأيديهم و أوصاهم بهم خيرا قائلا:

«استوصوا بالاسارى خيرا».

كيف اتخذ مثل هذا القرار في حق بعضهم؟

(2) يقول أبو عزيز، و كان صاحب لواء في جيش قريش: كنت أسيرا في أيدي رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر فكانوا إذا قدّموا غداءهم و عشاءهم خصّوني بالخبز، و أكلوا التمر و الخبز عندهم قليل و التمر زادهم، و ذلك لوصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلّا نفحني بها فأستحي فاردّها على أحدهم فيردّها عليّ، و كانوا يحملوننا و يمشون «2»!!

مع ملاحظة هذه الامور لا بدّ من الاذعان بأن قتل هذين الأسيرين كان مما تقتضيه المصالح الاسلامية العامة، لا أنه كان بدافع الانتقام، فقد كان ذانك الأسيران من رءوس الكفر، و من مخطّطي الخطط الجهنّميّة ضد الاسلام

______________________________

إلى بدر او لقيامهم بمهمات، تتعلق بامور مراقبة العدو في الطرق او للقيام بمهمات ادارية داخل المدينة.

(1) المغازي: ج 1 ص 6.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 645، المغازي: ج 1 ص 119.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:88

و المسلمين، و ضدّ الرسالة و الرسول، و كانا ممن يؤلبون القبائل ضدّ رسول الاسلام، فلعله لو كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يفرج عنهم و يطلق سراحهم عادوا الى تدبير المؤمرات ضدّ الاسلام، و المسلمين، و عملا على تخطيط الخطط، و تأليب القبائل، فلم يكن بد من تصفيتهم و

القضاء عليهم.

(1)

بشائر النبيّ الى المدينة:

كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «عبد اللّه بن رواحة»، و «زيد بن حارثة» بأن يسبقاه الى المدينة، ليبشّرا المسلمين بما حققه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه في بدر من الانتصار الكاسح و الفتح المبين، و يخبرا أهلها بمصرع رءوس الكفر و الشرك كعتبة و شيبة و أبي جهل و أبي البختري و أميّة، و نبيه و منبه و .. و ..

فما قدم المبعوثان الى المدينة الا و المسلمون عائدون من دفن ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زوجة عثمان بن عفان فامتزجت الافراح بالاحزان، و اختلط السرور بانتصار النبيّ و أصحابه بالحزن على موت ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قد أرعب المشركون و اليهود و المنافقون بخبر انتصار المسلمين الساحق على قريش، و راحوا يحاولون تكذيبه، و تفنيده حتى إذا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة و دخل بعده أسرى قريش أصبح الخبر قطيعا مسلّما، فباءت محاولات المنافقين بالفشل.

(2)

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم:

كان «الحيسمان الخزاعي» أول من قدم مكة و اخبر الناس باحداث «بدر» الدامية و بمصرع طائفة كبيرة من سادة قريش على أيدي المسلمين.

يقول أبو رافع الذي كان غلاما للعباس بن عبد المطلب آنذاك ثم أصبح من أصحاب النبيّ و على فيما بعد: كنت غلاما للعباس، و كان الاسلام قد دخلنا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:89

أهل البيت، فأسلم العباس و أسلمت أمّ الفضل و أسلمت، و كان العباس يهاب قومه و يكره خلافهم و كان يكتم إسلامه، و كان ذا مال كثير متفرق في قومه، و كان أبو لهب قد تخلّف عن بدر، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته اللّه و

أخزاه، و وجدنا في أنفسنا قوة و عزة.

و قد كنت رجلا ضعيفا و كنت أصنع السهام و النبال أنحتها في حجرة زمزم فو اللّه بينما أنا جالس فيها أنحت سهامي و عندي أمّ الفضل جالسة و قد سرّنا ما جاءنا من الخبر عن هزيمة قريش، إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ حتى جلس عند طنب «1» الحجرة فكان ظهره إلى ظهرى، فبينما هو جالس إذ قال الناس:

هذا أبو سفيان فقال أبو لهب: هلمّ إليّ فعندك لعمري الخبر.

فجلس إليه و الناس قيام عليه فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟

قال أبو سفيان: و اللّه ما هو إلّا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا، و يأسروننا كيف شاءوا، و أيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض، و اللّه ما تبقي شيئا و لا يقوم لها شي ء.

يقول أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: تلك و اللّه الملائكة.

فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة «2».

(1)

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر:

يبقى أن نعرف أن مسألة اشتراك العباس عمّ النبيّ في غزوة بدر من مشكلات التاريخ و غوامضه، فهو من الذين اسرهم المسلمون في بدر فهو من جانب يشارك في الحرب، و من جانب آخر يحضر في بيعة العقبة، و يدعو أهل المدينة إلى حماية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نصرته.

______________________________

(1) الطنب: الطرف.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 646 و 647.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:90

فكيف يكون هذا؟

إن الحل يكمن في ما قاله أبو رافع غلام العباس نفسه: كان العباس قد أسلم و لكنه كان يهاب قومه و يكره خلافهم و يكتم اسلامه، مثل أخيه أبي طالب لاقتضاء

المصالح الاسلامية ذلك، و من هذا الطريق كان يساعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يخبره بمخططات العدو و نواياه و تحركاته و استعداداته كما فعل ذلك في معركة «احد» أيضا «1». فقد كان أول من أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بتحرك قريش و خططهم و استعداداتهم.

و قد أفجع مقتل سبعين رجلا من رجال مكة و فتيان قريش أكثر البيوت و العوائل في مكة، و سلبهم البهجة و الفرح، و النشاط و الحركة، و تحولت مكة برمتها الى مأتم كبير، و ناحت قريش على قتلاها «2».

(1)

المنع من النوح و البكاء في مكة:

غير أنّ أبا سفيان عمد- لا بقاء أهل مكة على حالة الحنق و الغضب- الى منع النوح و البكاء على القتلى و حث الناس باستمرار على الاستعداد للثأر و الانتقام من محمّد و أصحابه فقال: يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم، و لا تنح عليهم نائحة و لا يبكهم شاعر، و اظهروا الجلد و العزاء فانكم إذا نحتم عليهم و بكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم، فأكلّكم ذلك عن عداوة محمّد و أصحابه .. و لعلكم تدركون ثأركم.

و لكي يلهب أبو سفيان مشاعر الناس أكثر فأكثر أو يبقي على سخونتها على الأقل، قال: و الدهن و النساء عليّ حرام حتى أغزو محمّدا.

و كان «الأسود بن المطلب» اصيب له ثلاثة من ولده: زمعة و عقيل و الحارث بن زمعة، فكان يحب أن يبكي على قتلاه، و لكنه ما كان يستطيع

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 217.

(2) المغازي: ج 1 ص 122. قال: لم تبق دار بمكة إلّا فيها نوح.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:91

ذلك لمنع أبي سفيان من النواح و البكاء على القتلى.

(1) فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة

من الليل فقال لغلامه- و قد ذهب بصره و عمي-: هل بكت قريش على قتلاها لعليّ أبكي على زمعة، فان جوفي قد احترق.

فذهب الغلام و رجع إليه فقال: إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلّته، فأنشد الأسود بن المطلب حينها يقول:

أ تبكي أن يضل لها بعيرو يمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر «1» و لكن على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص و مخزوم و رهط أبي الوليد

و بكّي ان بكيت على عقيل و بكيّ حارثا اسد الاسود «2»

(2)

القرار الأخير حول مصير الاسارى:

في هذه المعركة بالذات أعلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن قرار تاريخي عظيم و رائع هو: أن من علّم من الاسرى عشرة من صبيان الغلمان و الصبيان من أولاد الأنصار الكتابة و القراءة كان ذلك فداؤه و خلّي عن سبيله من غير أن يؤخذ منه مال «3».

و ان من دفع فدية قدرها أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم خلي سبيله و ان من كان فقيرا لا مال له افرج عنه دون فداء.

فأحدث هذا النبأ في مكة لدى عوائل الاسرى حركة عجيبة و دفعهم الى التفكير في تقديم الفداء الى المسلمين، و اطلاق اسراهم.

فهيّأ كل واحد منهم ما استطاع و قدم المدينة يفدي اسيره.

و عند ما افرج عن سهيل بن عمرو لقاء فدية قال عمر بن الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو (أي أسنانه

______________________________

(1) البكر: الفتى من الابل.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 648.

(3) السيرة الحلبية: ج 2 ص 193.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:92

الامامية) و يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا امثل به فيمثل

اللّه بي و ان كنت نبيا» «1».

و تلك لفتة انسانية أخرى من لفتات النبيّ العظيم الكثيرة في المعارك.

(1) و قد كان في الاسارى أبو العاص بن الربيع زوج ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: زينب.

و كان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا و أمانة و تجارة، و قد تزوّج بزينب ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الجاهلية.

و لما جاء الاسلام آمنت خديجة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و آمنت بناته، (و منهن زينب) كذلك و شهدن أن ما جاء به الحق، و دنّ بدينه، و ثبت أبو العاص على شركه، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقدر على أن يفرّق بينهما.

و قد اشترك أبو العاص هذا في معركة بدر مع قريش، و أسر بأيدي المسلمين.

فلمّا بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في فداء أبي العاص بن الربيع بمال و بعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة قد أهدتها إليها ليلة دخول أبي العاص بها (ليلة زفافها).

(2) فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تلك القلادة تذكّر زوجته الوفية خديجة عليها السلام و ما اسدته الى الاسلام من خدمات و قدمته من تضحيات، و بكى بكاء شديدا.

فالتفت الى المسلمين و قال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، و تردوا عليها

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 649، و المغازي: ج 1 ص 107 يقول صاحب المغازي في صفحة 105 من نفس الجزء: كان عمر (رض) يحض على قتل الاسرى لا يرى أحدا في يديه أسير إلا امر بقتله!!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:93

ما لها فافعلوا.

فقالوا: نعم يا

رسول اللّه، نفديك بأنفسنا و أموالنا.

فأطلقوه، و ردوا عليها الذي لها و بذلك احترم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حقوق المسلمين و ما يرجع إليهم من أموال بل أنها و اللّه أعظم مظهر من مظاهر الديمقراطية، (ان صح التعبير) فالنبيّ مع أن له ما له من الولاية على المسلمين يقترح عليهم الافراج عن زوج زينب و يترك الامر لاختيارهم.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ على أبي العاص الميثاق بأن يخلي سبيل زينب، و يبعثها الى المدينة.

ففعل أبو العاص ما تعهّد به، و بعث زينب الى المدينة.

ثم إن أبا العاص نفسه أسلم أيضا و قدم المدينة، و ردّ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زينب بالنكاح الاول أو بنكاح جديد «1»

رسول الاسلام و مكافحة الامية:

كما أنه يتبين من قصة الاسرى الذين اطلق سراحهم لقاء تعليم أولاد المسلمين الكتابة و القراءة مدى اهتمام الاسلام بالثقافة و التثقيف، و الوعي و النوعية، فان معرفة القراءة و الكتابة بداية التثقيف و النوعية.

و لا بدّ أن نقول هنا أيضا أن اطلاق الاسارى العارفين بالقراءة و الكتابة لقاء تعليم صبيان المسلمين تعد أول عملية لمكافحة الامية التي اهتم بها العالم الحاضر.

ففي الوقت الذي كانت الكثير من الدول في عصر الاسلام الاول تمانع من تثقيف أبنائها و رعاياها- كما مرّ عليك في دراسة أوضاع الامبراطوريتين الفارسية و الرومية- أعلن رسول الاسلام ان من لم يكن معه فداء و هو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة من غلمان المدينة (أي صبيانها) يعلمهم الكتابة فاذا تعلموا كان ذلك فداءه .. و ما أعظمها من خطوة ثقافية و حضارية.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 651- 659، بحار الأنوار: ج 19 ص

348 و 349.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:94

(1)

كلام لابن أبي الحديد في المقام:

يقول العلّامة ابن أبي الحديد: قرأت على (استاذي) النقيب أبي جعفر البصري العلوي هذا الخبر، فصدّقه و قال: أ ترى أبا بكر و عمر لم يشهدا هذا المشهد؟ أ ما كان يقتضي التكريم و الاحسان أن يطيّبا قلب فاطمة عليها السلام، و يستوهب لها من المسلمين (أي يستوهب فدكا من المسلمين و يردّه عليها)؟

أ تقصر منزلتها عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من منزلة زينب أختها و هي سيدة نساء العالمين؟!

هذا إذا لم يثبت لها حق لا بالنحلة و لا بالارث؟

فقلت له: فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر قد صار حقا من حقوق المسلمين، فلم يجز له أن يأخذه منهم.

فقال: و فداء أبي العاص قد صار حقا من حقوق المسلمين، و قد أخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منهم.

فقلت: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صاحب الشريعة، و الحكم حكمه، و ليس أبو بكر كذلك.

(2) فقال: ما قلت هلّا أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة عليها السلام و إنما قلت: هلّا استنزل المسلمين عنه، و استوهبه منهم لها، كما استوهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فداء أبي العاص؟ أ تراه لو قال: هذه بنت نبيكم صلّى اللّه عليه و آله قد حضرت لطلب هذه النخلات ا فتطيبون عنها نفسا؟ كانوا منعوها ذلك؟!

فقلت له: قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو ذلك.

قال: إنهما لم ياتيا بحسن في شرع التكريم، و ان كان ما أتياه حسنا في الدين!!

أي ان ما فعلاه و ان كان يوافق موازين الدين- حسب تصور القاضي- و لكنه لا يناسب شأن فاطمة و

تكريمها لمقامها و لمكانها من أبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:95

و آله «1».

هذا و قد أمر اللّه نبيّه الكريم بأن يعلن للاسرى بأن الباب مفتوح على وجوههم لينضموا الى صفوف المسلمين، فينعموا بالاسلام فيعيد اللّه عليهم أفضل مما أخذ منهم و يغفر لهم ذنوبهم، إذ يقول تعالى:

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «2»

و بذلك فتح الاسلام باب الأمل أمام الاسارى، و كشف عن نزعته الانسانية، و أيضا عن رغبته الصادقة في هداية البشرية، و نجاتها.

كما ضرب بذلك مثلا في الحكمة و حسن السياسة لم يسبق له مثيل.

على انه هدّد الاسرى من ناحية اخرى إذا أساءوا، و عادوا بعد الخلاص من الاسر إلى التآمر ضد الإسلام.

إذ قال:

«وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» «3».

و بذلك جمع بين الحزم و الحكمة، و اللين الحكيم و الشدّة المعقولة.

القرآن يتحدث عن بدر:

و لقد ذكّر القرآن الكريم المسلمين، و لا يزال يذكّرهم بالانتصار الكبير الذي تحقق للمؤمنين في بدر بفضل ثبات المقاتلين و نصر اللّه و تأييده الغيبي إذ قال:

«إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 334- 352 و لابن أبي الحديد كلام آخر يشبه هذا في اهدار من أسقط جنين زينب فراجع.

(2) و (3) الانفال: 70 و 71.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:96

هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ

لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» «1».

و قال تعالى:

«قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» «2».

و قال تعالى أيضا:

«إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» «3».

و قوله تعالى:

«إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» «4».

و قال سبحانه أيضا:

«وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ، هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ

______________________________

(1) الانفال: 42 و 44.

(2) آل عمران: 13.

(3) الانفال: 9.

(4) الانفال: 11- 12.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:97

كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» «1».

و في هذه الآيات تصريحات واضحة بما كان عليه المسلمون في معركة بدر من حيث قلة العدة و العدد، و بأبرز

الامدادات الغيبية الإلهية التي ساعدت المسلمين على الانتصار على أعدائهم المشركين، الذين كانوا يفوقونهم في العدة و العدد و السلاح و الرجال مع التأكيد على أن ذلك الانتصار العظيم جاء نتيجة ثبات المسلمين و استقامتهم، و صبرهم و إخلاصهم.

و أبرز تلك الامدادات الغيبية هي:

1- مع أن الاعداء كانوا متمركزين في العدوة العليا و هي أعلى الوادي و المسلمين في أسفل الوادي، و كان ذلك من شأنه أن يعزز موقع الكفار لإمكان مراقبة المسلمين من مكان مرتفع كما كان من شأنه أن يجعل هجوم المسلمين على الكفار أمرا صعبا، و لكن كفة الحرب رجحت مع ذلك لصالح المسلمين.

2- إنهم لو كانوا على ميعاد مع العدو، و مع العلم التفصيلي بحجم امكانياته البشرية و القتالية لامتنع عامة المسلمين عن مقابلة المشركين، و لكن شاء اللّه أن لا يعرف المسلمون شيئا مفصلا عن المشركين، مسبقا، بل يواجه المسلمون الأمر الواقع، فيتحقق ما أراد اللّه من الانتصار على قريش. و الى هذا اشار سبحانه بقوله:

«وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ».

3- تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين و تقليل عدد المشركين في أعين المسلمين في أول القتال لكي يستقل الاعداء قوة المسلمين، و لكي لا يهاب المسلمون الاعداء و يستعظموا عددهم، و إليه يشير تعالى بقوله:

«إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ».

4- تكبير عدد المسلمين في أعين الكفار في أثناء القتال و إليه يشير تعالى بقوله:

______________________________

(1) آل عمران: 123- 127.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:98

«يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ».

5- الإمداد بالملائكة المردفين المسوّمين.

6- النعاس الذي ألقاه اللّه على المسلمين فجدد نشاطهم، و ضاعف من قوتهم.

7- نزول المطر عليهم و الذي طهّرهم من الاقذار و مكّنهم من الاغتسال عما أصاب بعضهم

من حدث، و ثبّت الأرض الرمليّة تحت أقدامهم، و قد أشار سبحانه إلى كل ذلك في الآية 11 من سورة الانفال.

8- تثبيت قلوب المؤمنين بواسطة الملائكة.

9- القاء الرعب في قلوب الكفار و الى هذين النوعين من الإمداد الغيبي أشار بقوله: «فثبّتوا الّذين آمنوا سألقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب».

كما و يشير القرآن الكريم في هذا السياق إلى دور الشيطان في هزيمة الكفار فهو الذي يغري و هو الذي يخذل عند اللقاء يقول سبحانه:

«وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» «1».

كما أن القرآن يتحدث أيضا عن حالة المشركين عند ما أتوا إلى بدر لمواجهة المسلمين و ما كانت تنطوي عليه نفوسهم فيقول:

«وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» «2».

كما و يعزي هزيمتهم إلى سبب رئيسي و حقيقي و هو مشاققة اللّه و رسوله إذ يقول:

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» «3».

______________________________

(1) الانفال: 48.

(2) الانفال: 47.

(3) الانفال: 13.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:99

و ينبغي الاشارة في ختام هذا العرض التفصيلي- نوعا ما- لوقعة بدر إلى تكتيكات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الحربية، و إلى أساليبه الحكيمة في تقوية معنويات المسلمين و إلى جانب تنظيم صفوفهم، ممّا لا يسع المجال لذكره على وجه التفصيل الكامل.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:100

(1)

30 زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه «1»

اشارة

إن الرغبة الجنسيّة حالة تظهر عند البلوغ لدى كل انسان، و ربما تنحرف بالشاب و

تهوي به في أحضان الفساد و السقوط الاخلاقي إذا لم تتوفر له أجواء التربية الصحيحة و لم تتح له الفرصة المناسبة، و المسير الصحيح لتنفيذ تلك الرغبة، و الاستجابة لها بصورة صحيحة.

و ان خير وسيلة للحفاظ على العفة الفردية و الحياء العام، و تجنيب الفرد و المجتمع مفاسد و أخطار الانحراف الجنسيّ هو الزواج.

فان الاسلام يحتّم على الرجل و المرأة- تأكيدا لحكم الفطرة و تمشّيا مع ناموس الطبيعة البشرية- أن يتزوجا طبقا لضوابط خاصّة تضمن سلامة الزيجة و دوامها.

و قد جاء هذا التأكيد، و الحديث في الكتاب العزيز، و السنة الشريفة بمختلف الصور، و تحت مختلف العناوين:

فقد جاء في الكتاب العزيز:

«وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» «2».

______________________________

(1) كان زواج فاطمة بعد وقعة بدر، راجع بحار الأنوار: ج 43 ص 79 و 111.

(2) النور: 32.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:101

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذا الصدد:

«تزوّجوا فانّي مكاثر بكم الامم غدا في القيامة» «1».

و قال أيضا:

«من أحب أن يلقى اللّه طاهرا مطهّرا فليلقه بزوجة» «2».

(1)

مشاكل الزواج في العصر الحاضر:

على أن مشاكل الزواج في عصرنا الحاضر لا تنحصر- و للاسف- في مشكلة واحدة أو مشكلتين.

فالرجال و النساء اليوم يقدمون على الزواج- غالبا- في ظروف صعبة، و أوضاع رديئة، و تنتهي أكثر الزيجات بسبب تلك الظروف و الاوضاع و بسبب، ما يلابسها من مستلزمات قاسية و ثقيلة بالطلاق و الافتراق بعد سلسلة من الخلافات و المنازعات.

فتلك هي صحف البلاد تحمل في أبوابها الاجتماعية كلّ يوم عشرات الانباء و الأخبار عن الجرائم الزوجية و تعالج عشرات المشاكل في مجال العائلة.

و لكن أكثر هذه المشاكل و

المصائب تدور حول قضية واحدة، و هي أن الفتيان و الفتيات في مجتمعاتنا الحاضرة ليسوا بصدد تشكيل عائلة تضمن سعادتهم الواقعية.

فالبعض يهمّه من الزواج أن يصل عن طريق إلى المناصب الراقية الحساسة.

و البعض الآخر يهمّه من الزواج الحصول على الثروة و المال.

(2) و قلّما يفكر المقدمون على الزواج، و تأسيس العائلة في امور هامة و جوهرية كالعفة و الطهر، و إذا لوحظ هذا الجانب فإنما يلاحظ بصورة هامشية، لا أساسية.

و يدل على ذلك أن الشباب يتنافس غالبا على التزوج بفتيات من العوائل المعروفة ذات المكانة و الشهرة الاجتماعية و المالية، و الحال أنه يمكن أن تكون

______________________________

(1) و (2) وسائل الشيعة: ج 14 ص 3 و 6.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:102

تلك الفتيات غير متصفات بالاخلاق النبيلة، و لا يكنّ من حيث الجانب المعنوي بالنوع الجيد، الجدير بالاهتمام، الصالح للاقتران به.

فما أكثرهن الفتيات الفاضلات، الطيبات هنا و هناك في زوايا المجتمع اللائي لا يهتم بهن الشباب، لفقرهنّ، و قلة ذات ايديهن. او لعدم شهرة عوائلهن.

على أن الأسوأ من ذلك كلّه ما اصبح يكلّفه الزواج في عصرنا الحاضر من نفقات باهضة نتيجة تزايد التقاليد المبتدعة في مجال إقامة الاعراس و حفلات القران و الزواج، الأمر الذي أصبح يرهق كاهل الزوجين، و يتعب عائلتيهما، مثل مشكلة المهور الباهضة، و ما شابه ذلك مما هو في تصاعد مستمر في بلادنا، الأمر الذي دفع بالبعض الى ترك الزواج، و اشباع غرائزهم الجنسيّة بالوسائل غير المشروعة، و من ثم شيوع اللاابالية، و الاباحية في المجتمعات.

(1)

رسول الاسلام يكافح هذه المشاكل عمليّا:

اشارة

تلك طائفة من المشاكل الاجتماعية التي كانت و لا تزال موجودة في كل مجتمع بنسب خاصة.

و لم تكن الفترة التي عاصرها رسول الاسلام بمستثناة من هذا الأمر فقد كانت

هناك في المجتمع في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مشاكل مماثلة في الزواج.

فقد كان أشراف العرب لا يزوّجون بناتهم إلّا لمن كان من قبيلة ذات مال و شوكة، و مكانة و قوة، و يردّون كل خاطب لبناتهن يكون على غير هذه الصفة.

و قد كان الأشراف، يصرّون- تبعا لتلك العادة- على أن يتزوّجوا بابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله السيدة فاطمة لانهم كانوا يتصوّرون أن النبيّ لن يتشدد في هذا الأمر، بل يكفيه أنهم ذو ثروة و مكانة اجتماعية مرموقة.

و كانوا يتصوّرون أنهم يمتلكون كلّ ما يهمّ الفتاة و أباها من الامكانيات المادية، كيف لا و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يتشدد في زواج ابنتيه الاوليين:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:103

زينب و رقية.

و لكنهم غفلوا عن أن هذه الفتاة (أي فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها) تختلف عن اختيها السابقين.

إنها- كما تدل عليه آية المباهلة- «1» ذات مقام رفيع، و شأن كبير.

(1) لقد أخطأ خطّاب فاطمة عليها السلام في هذا التصور، و ما كانوا يعلمون أن زوج فاطمة و قرينها لا يمكن أن يكون إلّا كفؤها في التقوى و الفضل، و الايمان و الاخلاص، فاذا كانت فاطمة- بحكم آية التطهير- معصومة من الذنب وجب أن يكون زوجها هو الآخر معصوما و الا لم يكن كفؤها المناسب.

و ليس المال و ليست الثورة ملاك هذا التكافؤ.

لقد قال الاسلام: «إذا خطب إليكم كفؤ فزوّجوه».

و يفسر هذا التكافؤ بالمماثلة و التكافؤ في الايمان و التقوى، و الطهارة و العفاف، لا في المال و الثروة «2».

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مأمورا من جانب اللّه تعالى أن يقول لكل من خطب إليه «فاطمة» من اولئك

الرجال: «أمرها بيد اللّه» و هو بهذه الاجابة يكشف القناع عن الحقيقة إلى درجة ما.

(2) و لقد أدرك أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن زواج «فاطمة» ليس أمرا سهلا و بسيطا، و أنه ليس لمن كان من الرجال و ان بلغ من الثراء، و المكانة الاجتماعيّة أن يحظى بالزواج منها، فان زوج «فاطمة» ليس إلّا من يشابهها من حيث الأخلاق و الفضائل، و الصدق و الايمان، و الطهر، و الاخلاص، بل ويلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السجايا الكريمة و الصفات الرفيعة،

______________________________

(1) آل عمران: 61.

في قضية المباهلة اصطحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا و الحسن و الحسين و فاطمة دون غيرها من النساء و سيأتي مفصل هذه القصة.

(2) راجع الوسائل: ج 14 ص 50- 52.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:104

و الخلق العظيم.

و لا تجتمع هذه الصفات و المواصفات إلّا في «علي» عليه السلام لا سواه.

و للتأكد من هذه الحقيقة اقترح بعض الصحابة على (عليّ) عليه السلام أن يخطب الى النبيّ فاطمة صلوات اللّه عليهما «1».

و كان علي عليه السلام يريد ذلك في نفسه، و يرغب إليه من كل قلبه إلّا أنه كان ينتظر الفرصة المناسبة ليقدم على هذا الأمر.

(1) فاتى علي عليه السلام بنفسه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لما رآه رسول اللّه قال: ما جاء بك يا أبا الحسن، حاجتك.

فمنع الخجل عليا من البوح بمطلبه و سكت، و أطرق برأسه الى الارض، حياء من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لعلك جئت تخطب فاطمة؟

فأجاب علي عليه السلام بكلمات ضمّنها رغبته في الزواج من فاطمة بنت رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد كان هذا النمط من الخطبة علامة واضحة لما كان بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين علي عليه السلام، من الاخوة و الصفاء، و لما تحلّى به الجانبان من اخلاص و ودّ. و ما أروعها من ظاهرة. حقا انّ المبادئ و الانظمة التربوية لم تستطع أن تعلّم الشباب الذين يقدمون على الخطبة الى أحد مثل هذه الحرية، المقرونة بالتقوى، و الايمان و الاخلاص.

(2) لقد وافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على طلب علي عليه السلام و قال:

«يا عليّ أنه لقد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها، و لكن على رسلك حتى أخرج إليك».

ثم دخل صلّى اللّه عليه و آله على فاطمة، فذكر لها الأمر، و أن عليا عليه السلام خطبها إليه قائلا:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 43 ص 93.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:105

«إن علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته، و فضله و اسلامه، و اني قد سألت ربي أن يزوّجك خير خلقه، و أحبهم إليه، و قد ذكر من أمرك شيئا فما ترين؟».

فسكتت فاطمة سلام اللّه عليها، و لم ير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وجهها كراهة فقام و هو يقول:

«اللّه أكبر، سكوتها إقرارها» «1».

(1) و لكن عليّا عليه السلام لم يكن يملك آنذاك إلا سيفا، و درعا فقط.

فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يبيع درعه، و يهيئ بثمنه عدة الزواج و جهاز العروس، فباع علي عليه السلام درعه، و أتى بثمنه الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سكب المال بين يديه «2».

فقبض صلّى اللّه عليه و آله قبضة الدراهم، و دعا

بلالا فأعطاه فقال:

«ابتع لفاطمة طيبا».

ثم أعطى صلّى اللّه عليه و آله بقية تلك الدراهم إلى أبي بكر و عمّار بن ياسر و أمرهما أن يبتاعا لفاطمة ما يصلحها من ثياب و أثاث البيت، و ما شاكل ذلك من احتياجات العروسين.

ففعلا ذلك و اشتريا ما أمرهما به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكان جهاز فاطمة كالتالي:

(2)

جهاز فاطمة:

1- قميص بسبعة دراهم.

2- خمار «3» بأربعة دراهم.

______________________________

(1) نفس المصدر السابق.

(2) و في رواية عن عليّ عليه السلام: فسكبت الدراهم في حجره فلم يسألني كم هي و لا أنا أخبرته.

(3) الخمار: مقنعة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:106

3- قطيفة سوداء لا تكفي لتغطية كلّ البدن.

4- سرير مزمّل بشريط (أي مصنوع من جريد النخل و اليافه).

5- فراشان من خيش «1» مصر، حشو أحد هماليف، و حشو الآخر من صوف الغنم.

6- اربع مرافق «2» اثنان من الصوف و اثنان من الليف.

7- ستر.

8- حصير هجري.

9- رحى لليد.

10- مخضب «3» من نحاس.

11- سقاء من أدم.

12- قعب للبن.

13- شنّ «4» للماء.

14- مطهرة مزفّته «5».

15- جرّة خضراء.

16- كيزان خزف.

(1) فلما عرض المتاع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جعل يقلّبه بيده و يقول:

«اللهمّ بارك لقوم جلّ آنيتهم الخزف» «6».

إن في مهر فاطمة امورا تدعو إلى التأمل حقا، أبرزها مقدار ذلك المهر.

فمهرها هو مهر السنّة و هو خمسمائة درهم «7».

إن هذه الزيجة- في الحقيقة- خير درس للآخرين، للفتيان و الفتيات الذين يئنون من ثقل المهر و بهاضته و ربما يئنون من قيود الزواج و شروطه.

______________________________

(1) الخيش: نسيج خشن من الكتان.

(2) المرفقة: الوسادة.

(3) المخضب: اناء للمسك و الطيب.

(4) الشنّ: القربة.

(5) مطلية بالزفت.

(6) بحار الأنوار: ج 43 ص 94، كشف الغمة: ج 1 ص 359.

(7) وسائل الشيعة: ج 5

ص 18.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:107

(1) ان البيئة الزوجية يجب أن تكون- أساسا- بيئة دف ء و حنان، بيئة اخلاص مودة.

بيئة سلام و وفاق فهذا هو ما يسعد الحياة الزوجية و يوفر للزوجين عيشا هانئا محببا.

أما المهور الثقيلة، و النفقات الباهضة و الجهاز المكلف فلا تؤدي إلّا إلى تعكير صفو الحياة الزوجية، و التقليل من بريق الرابطة العائلية، و بالتالي لا تضمن مستقبل الزواج و دوامه، و المحافظة عليه من الهزات.

إن أولياء الفتيات- في عصرنا الحاضر يعمدون بغية دعم مكانة فتياتهم و تقوية مركزهن و ضمان مستقبلهن إلى فرض سلسلة طويلة و ثقيلة من الشروط و القيود و منها المهر الباهض على العريس حنى لا يستطيع أن يقوم بطلاق زوجته تحت دوافع الهوى و الشهوة، أو كلما سولت له نفسه ذلك، على حين أن هذا الاجراء لا يضمن بقاء الرابطة الزوجية، و دوامها بل العلاج الحقيقي و الناجع هو اصلاح الوضع الاخلاقي للشباب، و رفع مستواهم المعنوي.

يجب أن تكون بيئتنا الثقافية و الاجتماعية من الطهر و النقاوة بحيث لا يوجد في رحابها امثال هذه النوازع الشريرة عند شبابنا، و الا لبلغ الأمر إلى نقطة تستعد فيه الفتاة الى بذل مهرها للنجاة بنفسها من البيت الزوجي.

(2)

مراسم الزواج تقام ببساطة:

ثم بعد أن عقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السلام على فاطمة عليها السلام في رحاب مسجده على مرأى و مسمع من المسلمين و في جو يسوده الفرح و الابتهاج و السرور قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السلام هيّئ منزلا حتى تحوّل فاطمة إليه، فأخذوا منزل أحد الصحابة بصورة مؤقتة، و حوّلت فاطمة إلى علي عليه السلام في منزل ذلك الصحابي الجليل، في زفاف

جميل مبارك و قد صنع علي طعاما من لحم و تمر و سمن و اطعم المسلمون جميعا تقريبا، و ساد الناس فرح عظيم لم يشهد له نظير.

عن ابن بابويه: أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنات عبد المطلب و نساء

سيد المرسلين ،ج 2،ص:108

المهاجرين و الأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة سلام اللّه عليها و ان يفرحن، و يرجزن و يكبرن و يحمدن و لا يقولن ما لا يرضى اللّه.

قال جابر: فأركبها على ناقته- و في رواية على بغلته الشهباء- و أخذ سلمان زمامها و النبيّ و حمزة و عقيل و جعفر و أهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم و نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قدامها يرجزن، فانشأت أم سلمة تقول:

سرن بعون اللّه جاراتي و اشكرنه في كل حالات

و اذكرن ما أنعم رب العلى من كشف مكروه و آفات

فقد هدانا بعد كفر و قدانعشنا رب السماوات

و سرن مع خير نساء الورى تفدى بعمات و خالات ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما دخلوا الدار أنفذ إلى علي عليه السلام ثم دعا فاطمة سلام اللّه عليها فأخذ يدها و قد علاها الاستحياء و تصبب منها العرق خجلا، بل و قد تعثرت من شدة خجلها فقال لها رسول اللّه: «أقالك اللّه العثرة» «1».

و وضعها في يده و قال:

«بارك اللّه في ابنة رسول اللّه يا علي نعم الزوجة فاطمة، و يا فاطمة نعم الزوج علي».

ثم أخذ بيده اناء فيه ماء وصب منه على رأس فاطمة و بدنها و دعا لهما قائلا:

«اللّهم اجمع شملهما، و الّف بين قلوبهما، و اجعلهما و ذريتهما من ورثة جنة النعيم و ارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة، و اجعل في ذريتهما البركة، و

اجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك، و يأمرون بما يرضيك.

اللّهم انّهما أحبّ خلقك إليّ، فاحبهما و اجعل عليهما منك حافظا، و انّي اعيذهما بك و ذريتهما من الشيطان الرجيم» «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 43 ص 96.

(2) بحار الأنوار: ج 43 ص 114- 118.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:109

(1) و بذلك أبدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من نفسه في تلك الليلة صفاء و اخلاصا لم يعرف له نظير حتى في مجتمعاتنا الحاضرة رغم ما حققته من تكامل و رشد.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عدد لفاطمة فضائل علي كما ذكر لعلي فضائل فاطمة و انها «لو لم يخلق علي لما كان لها كفؤ» «1». ثم ذكر لهما وظائفهما و واجباتهما العائلية فأوكل إلى فاطمة ما هو في داخل البيت من شئون و أوكل إلى علي ما هو من شئون الخارج.

و لا بدّ أن نذكر هنا قصة هامة أداء لحق فاطمة، و بيانا لمقامها.

(2) يقول أنس بن مالك: إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج الى الفجر فيقول:

«الصلاة يا أهل البيت، انما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا» «2».

هذا و قد كانت هذه الزيجة أفضل زيجة في الاسلام و أكثرها بركة و خيرا، فقد عاش هذان القرينان الطاهران جنبا الى جنب في وئام و وداد، في حياة زوجية طاهرة يسودها الاحترام المتقابل، و الاخلاص الكامل من بدايتها إلى نهايتها.

و قد أنجبا أفضل الاولاد و البنات أبرزهم: الامام الحسن و الامام الحسين عليهما السلام سبطا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الاثيران لديه، و المقربان إليه، و زينب بنت علي التي رافقت

أخاها في وقعة كربلاء الدامية و كان لها مواقف عظيمة و مشرفة في الرعاية للحق و العدل، و نصرة الاسلام، و غيرهم من الاولاد ذكورا و اناثا.

و قد بقي كلا الزوجين (علي و فاطمة) حتى آخر اللحظات عارفين بمكانة

______________________________

(1) مسند احمد بن حنبل: ج 2 ص 259.

(2) الدر المنثور: ج 5 ص 199.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:110

الآخر، فكلاهما من أهل البيت الذين اذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، و كلاهما من القربى الذين أمر بمودتهم و لهذا لم يتزوّج علي عليه السلام على الزهراء امرأة اخرى الا بعد وفاتها، كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالنسبة إلى خديجة، وفاء لحقها، و احتراما لمقامها.

لكن بعض الايادي دسّت- مع الأسف- في التاريخ أباطيل للتقليل من شأن هذين الزوجين الطاهرين، و الحط من مكانتهما، فنسبت إليهما التنازع، و التشاجر، أو نسبت إلى فاطمة شكاية عليّ عليه السلام الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أوردت في هذه المجال روايات مختلقة، لا أساس لها من الصحة، تفندها أخلاق علي و فاطمة و تقواهما و زهدهما، و تكذّبها ما جاء في شأنهما و جلالة قدرهما من الآيات القرآنية و الاحاديث النبوية.

و قد استند أعداء الاسلام التقليديين إلى امثال هذه الروايات لمسخ صورة الاسلام الحنيف و تشويه سمعة رجاله العظماء و نسائه الخالدات الطيبات.

فهذا هو المستشرق النصراني الحاقد الاستاذ اميل درمنغم في كتابه الملي ء بالاباطيل: «حياة محمّد» ترجمة الاستاذ محمّد عادل زعيتر بعد ان يلصق برسول السلام تهما عجيبة و يصفه بالبدويّ الحمس، يقع في علي و فاطمة عليهما السلام!!

فتارة يقول: إن فاطمة كانت عابسة دون رقية جمالا، و دون زينب ذكاء، و إنها لم تكن ترغب

في عليّ لانها كانت تعدّ عليا دميما محدودا مع عظيم شجاعته!! و ان عليا كان غير بهيّ الوجه .. و و .. مع أنه كان تقيا شجاعا صادقا وفيا مخلصا صالحا مع توان و تردد!!

و كان إذا عاد إلى منزله من العمل بشي ء من القوت قال لزوجته فاطمة عابسا: كلي و اطعمي الاولاد!! و أن عليا كان يحرد بعد كل منافرة و يذهب لينام في المسجد و كان حموه يربّته على كتفه و يعظه و يوفّق بينه و بين فاطمة إلى حين، و ممّا حدث أن رأى النبيّ ابنته في بيته ذات مرة و هي تبكي من لكم عليّ لها!!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:111

ثم يقول: إن محمّدا- مع امتداحه قدم علي في الاسلام ارضاء لابنته- كان قليل الالتفات إليه و كان صهر النبيّ الامويان: عثمان الكريم و أبو العاصي أكثر مداراة للنبيّ من عليّ، و كان علي يألم من عدم عمل النبيّ على سعادة ابنته و من عدّ النبيّ له غير قوّام بجليل الأعمال فالنبيّ و ان كان يفوّض إليه ضرب الرقاب كان يتجنب تسليم قيادة إليه!! «1»

إلى غير ذلك من الترهات و السخافات التي الصقها تارة إلى رسول اللّه الاكرم محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و اخرى إلى حبيبه و ابن عمه و وصيه الامام علي بن أبي طالب عليه السلام.

إن أفضل اجابة على هذه الافتعالات هو ما كتبه العلامة الاميني حيث يقول:

كلّ ما في الكتاب من تلكم الأقوال المختلقة، و النسب المفتعلة إن هي إلّا كلم الطائش، تخالف التاريخ الصحيح، و تضادّ ما أصفقت عليه الامّة الإسلاميّة، و ما أخبر به نبيّها الأقدس.

هل تناسب تقولاته في فاطمة مع قول أبيها صلّى اللّه عليه و

آله: فاطمة حوراء إنسيّة كلّما اشتقت إلى الجنّة قبّلتها؟! «2»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله: ابنتي فاطمة حوراء آدميّة؟! «3»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله: فاطمة هي الزهرة؟! «4»

أو قول أمّ أنس بن مالك؟!: كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر أو الشمس كفر غماما، إذا خرج من السحاب بيضاء مشربة حمرة، لها شعر أسود، من أشدّ الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شبها، و اللّه كما قال الشاعر:

بيضاء تسحب من قيام شعرهاو تغيب فيه و هو جثل أسحم «5»

______________________________

(1) هذه المقتطفات اخذت من كتاب حياة محمّد: ص 197- 199.

(2) تاريخ الخطيب البغدادي: ج 5 ص 86.

(3) الصواعق: ص 96، اسعاف الراغبين: ص 172 نقلا عن النسائي.

(4) نزهة المجالس: ج 2 ص 222.

(5) جثل الشعر: كثر و التف و اسود فهو جثل: سحم فهو اسحم: اسود.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:112 فكأنّها فيه نهار مشرق و كأنّه ليل عليها مظلم «1» و لقبها الزهراء المتسالم عليه يكشف عن جليّة الحال.

و هل يساعد تلك التحكمات في ذكاء فاطمة و خلقها قول أمّ المؤمنين خديجة رضي اللّه عنها: كانت فاطمة تحدّث في بطن امّها، و لمّا ولدت فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدة رافعة اصبعها؟! «2».

أو يلائمها قول عائشة: ما رأيت أحدا أشبه سمتا و دلا و هديا و حديثا برسول اللّه في قيامه و قعوده من فاطمة، و كانت إذا دخلت على رسول اللّه قام إليها فقبّلها و رحّب بها، و أخذ بيدها و أجلسها في مجلسه؟! «3»

و في لفظ البيهقي في السنن ج 7 ص 101: ما رأيت أحدا أشبه كلاما و حديثا من فاطمة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحديث.

و هل توافق مخاريقه في

الامام عليّ صلوات اللّه عليه، و عدم بهاء وجهه، و عدّ فاطمة له دميما و كونه عابسا مع ما جاء في جماله البهيّ: انّه كان حسن الوجه كأنّه قمر ليلة البدر، و كأنّ عنقه إبريق فضّة «4» ضحوك السنّ «5» فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم؟! «6».

و أين هي من قول أبي الأسود الدؤلي من أبيات له؟!:

إذا استقبلت وجه أبي تراب رأيت البدر حار الناظرينا «7»

______________________________

(1) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 161.

(2) سيرة الملا، ذخائر العقبى: ص 45، نزهة المجالس: ج 2 ص 227.

(3) اخرجه الحافظ ابن حبان كما في ذخائر العقبى 40 م، و الحافظ الترمذي و حسنه، و الحافظ العراقي في التقريب كما في شرحه له و لابنه ج 1 ص 150، و ابن عبد ربه في العقد الفريد: ج 2 ص 3، و ابن طلحة في مطالب السئول: ص 7، اسعاف الراغبين: ص 171.

(4) كتاب صفين: ص 262، الاستيعاب: ج 2 ص 469، الرياض النضرة: ج 2 ص 155، نزهة المجالس: ج 2 ص 204.

(5) تهذيب الاسماء و اللغات للامام النووي.

(6) حلية الأولياء: ج 1 ص 84، تاريخ ابن عساكر: ج 7 ص 35، المحاسن و المساوى: ج 1 ص 32.

(7) تذكرة السبط: ص 104.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:113

نعم:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله فالناس أعداء له و خصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجههاحسدا و بغضا: إنّه لدميم أو يخبرك ضميرك الحرّ في علي ما سلقه الرجل به من (التواني و التردّد)؟! و عليّ ذلك المتقحم في الأحوال، و الضارب في الأوساط و الأعراض في المغازي و الحروب؛ و هو الذي كشف الكرب عن وجه رسول اللّه في كلّ نازلة و كارسة منذ صدع بالدين الحنيف، إلى أن

بات على فراشه و فداه بنفسه، إلى أن سكن مقرّه الأخير.

أ ليس عليّ هو ذلك المجاهد الوحيد الذي نزل فيه قوله تعالى: «أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

و قوله تعالى: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ». «1».

فمتى خلى عليّ عن مقارعة الرجال و الذبّ عن قدس صاحب الرسالة حتى يصحّ أن يعزى إليه توان أو تردّد في أمر من الامور؟! غير ان القول الباطل لا حدّ له و لا أمد.

و هل يتصوّر في أمير المؤمنين تلك العشرة السيّئة مع حليلته الطاهرة؟! و النبيّ يقول له: أشبهت خلقي و خلقي و أنت من شجرتي التي أنا منها «2».

و كيف يراه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أفضل امّته أعظمهم حلما، و أحسنهم خلقا، و يقول: عليّ خير أمّتي أعلمهم علما و أفضلهم حلما؟! «3».

و يقول لفاطمة: إنّي زوّجتك أقدم أمّتي سلما، و أكثرهم علما، و أعظمهم حلما؟! «4».

______________________________

(1) راجع الجزء الثالث من «الغدير»: ص 47، 53 ط ثاني.

(2) تاريخ بغداد للخطيب: ج 11 ص 171.

(3) الطبري، الخطيب، الدولابي. كما في كنز العمال: ج 6 ص 153 و 392 و 398.

(4) مسند احمد: ج 5 ص 26، الرياض النضرة: ج 2 ص 194، ذخائر العقبى: ص 78، مجمع الزوائد:

ج 9 ص 101، 114 و صححه و وثق رجاله.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:114

و يقول لها: زوّجتك أقدمهم سلما، و أحسنهم خلقا؟! «1».

يقول هذه كلّها و عشرته تلك كانت بمرأى منه و مسمع، أفك الدجّالون، كان عليّ عليه السلام كما أخبر به النبيّ الصادق الأمين.

و هل يقبل شعورك ما قذف به الرجل [فضّ اللّه فاه]

عليّا بلكم فاطمة بضعة المصطفى؟! و عليّ هو ذاك المقتص أثر الرسول و ملأ مسامعه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفاطمة: إنّ اللّه يغضب لغضبك، و يرضى لرضاك «2».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو آخذ بيدها: من عرف هذه فقد عرفها، و من لم يعرفها فهي بضعة منّي، هي قلبي و روحي التي بين جنبيّ، فمن آذاها فقد آذاني «3».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فاطمة بضعة منّي، يريبني ما رابها، و يؤذيني ما آذاها «4».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها فقد أغضبني «5».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فاطمة بضعة منّي، يقبضني ما يقبضها، و يبسطني ما يبسطها «6».

______________________________

(1) أخرجه أبو الخير الحاكمي كما في الرياض النضرة: ج 2 ص 182.

(2) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 154 و صححه، ذخائر العقبى: ص 39، تذكرة السبط: ص 175 مقتل الخوارزمي: ج 1 ص 52، كفاية الطالب: ص 219، شرح المواهب للزرقاني: ج 3 ص 202، كنوز الدقائق للمناوي: ص 30، أخبار الدول للقرماني هامش الكامل: ج 1 ص 185، كنز العمال: ج 7 ص 111 عن الحاكم و ابن النجار، تهذيب التهذيب: ج 12 ص 443، الاصابة: ج 4 ص 378، الصواعق: ص 105، الاسعاف: ص 171 عن الطبراني، ينابيع المودة: ص 173.

(3) الفصول المهمة: ص 150، نزهة المجالس: ج 2 ص 228، نور الابصار: ص 45.

(4) صحاح البخاري و مسلم و الترمذي، مسند أحمد: ج 4 ص 328، الخصائص للنسائي: ص 35، الاصابة: ج 4 ص 378.

(5) صحيح البخاري، خصائص النسائي: ص

35.

(6) مسند أحمد: ج 4 ص 323 و 332، الصواعق: ص 112.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:115

و هل يقصر امتداح النبيّ عليّا بقدم إسلامه؟! حتّى يتفلسف في سرّه و يكون ذلك إرضاء لابنته، على أنّ امتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان يقتصر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على قوله لفاطمة في ذلك و كان يتأتّى الغرض به، فلما ذا كان يأخذ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيد عليّ في الملأ الصحابي تارة و يقول: إنّ هذا أوّل من آمن بي، و هذا أوّل من يصافحني يوم القيامة؟ و لما ذا كان يخاطب أصحابه اخرى بقوله: أوّلكم واردا عليّ الحوض أوّلكم اسلاما عليّ بن أبي طالب؟!

و كيف خفي هذا السرّ المختلق على الصحابة الحضور و التابعين لهم باحسان فطفقوا يمدحونه عليه السلام بهذه الاثارة كما يروى عن سلمان الفارسي، أنس بن مالك، زيد بن أرقم، عبد اللّه بن عبّاس، عبد اللّه بن حجل، هاشم بن عتبة، مالك الاشتر، عبد اللّه بن هاشم، محمد بن أبي بكر، عمرو بن الحمق، أبو عمرة عديّ بن حاتم، أبو رافع، بريدة، جندب بن زهير، أمّ الخير بنت الحريش.

و هل القول بقلّة التفات النبيّ إلى عليّ يساعده القرآن الناطق بأنّه نفس النبيّ الطاهر؟! او جعل مودّته أجر رسالته؟!

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث الطير المشويّ الصحيح المرويّ في الصحاح و المسانيد: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك ليأكل معي؟!

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعائشة: إنّ عليّا أحبّ الرجال إليّ، و أكرمهم عليّ، فاعرفي له حقّه و أكرمي مثواه؟! «1»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أحبّ الناس إليّ من

الرجال عليّ؟! «2»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ خير من أتركه بعدي؟! «3»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خير رجالكم عليّ بن أبي طالب، و خير

______________________________

(1) أخرجه الحافظ الخجندي كما في الرياض: ج 2 ص 161، و ذخائر العقبى: ص 62.

(2) و في لفظ: أحب أهلي، من حديث اسامة.

(3) مواقف الايجي: ج 3 ص 276، مجمع الزوائد: ج 9 ص 113.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:116

نساءكم فاطمة بنت محمّد؟! «1»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر «2»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من لم يقل عليّ خير الناس فقد كفر؟! «3»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: في حديث الراية المتّفق عليه: لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّه اللّه و رسوله و يحبّ اللّه و رسوله؟

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ منّي بمنزلة الرأس (رأسي) من بدني أو جسدي؟ «4»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ منّي بمنزلتي من ربّي؟ «5».

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ أحبّهم إليّ و أحبّهم إلى اللّه «6».

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ: أنا منك و أنت مني. أو: أنت منّي و أنا منك؟ «7»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليّ منّى و أنا منه، و هو وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ «8»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث البعث بسورة البراءة المجمع على

______________________________

(1) تاريخ بغداد للخطيب: ج 4 ص 392.

(2) تاريخ الخطيب عن جابر، كنوز الحقائق هامش الجامع الصغير: ج 2

ص 16، كنز العمال: ج 6 ص 159

(3) تاريخ الخطيب البغدادي: ج 3 ص 192 عن ابن مسعود، كنز العمال: ج 6 ص 159.

(4) تاريخ الخطيب: ج 7 ص 12، الرياض النضرة: ج 2 ص 162، الصواعق: ص 75 م- الجامع الصغير للسيوطي، شرح العزيزي: ج 2 ص 417، فيض القدير: ج 4 ص 357، نور الأبصار:

ص 80، مصباح الظلام: ج 2 ص 56.

(5) الرياض النضرة: ج 2 ص 163، السيرة الحلبية: ج 3 ص 391.

(6) تاريخ الخطيب: ج 1 ص 160.

(7) مسند أحمد: ج 5 ص 204، خصائص النسائي: ص 36 و 51.

(8) مسند أحمد: ج 5 ص 356 و أخرجه جمع من الحفاظ باسناد صحيح

سيد المرسلين ،ج 2،ص:117

صحته: لا يذهب بها إلّا رجل منّي و أنا منه «1»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لحمك لحمي و دمك دمي و الحقّ معك؟ «2»

أو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من نبيّ إلّا و له نظير في امّته و عليّ نظيري؟ «3»

أو ما صحّحه الحاكم و أخرجه الطبراني عن أمّ سلمة قالت: كان رسول اللّه إذا أغضب لم يجترئ أحد أن يكلّمه غير عليّ؟ «4»

أو قول عائشة: و اللّه ما رأيت أحدا أحبّ إلى رسول اللّه من عليّ و لا في الأرض امرأة كانت أحبّ إليه من امرأته؟ «5»

أو قول بريدة و أبيّ: أحبّ الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من النساء فاطمة و من الرجال عليّ؟! «6»

أو حديث جميع بن عمير قال: دخلت مع عمّتي على عائشة فسألت أيّ الناس أحبّ إلى رسول اللّه؟! قالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت:

زوجها، إن كان ما علمت

صوّاما قوّاما؟ «7»

و كيف كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقدّم الغير على عليّ في الالتفات إليه؟! و هو أوّل رجل اختاره اللّه بعده من أهل الأرض لمّا اطّلع

______________________________

(1) خصائص النسائي: ج 8.

(2) المحاسن و المساوى: ج 1 ص 31، كفاية الطالب: ص 135، مناقب الخوارزمي: ص 76 و 83 و 87، فرائد السمطين: في الباب 2 و 27.

(3) الرياض النضرة: ج 2 ص 164.

(4) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 130، الصواعق: ص 73، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 116.

(5) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 154 و صححه، العقد الفريد: ج 2 ص 275، خصائص النسائي:

ص 29، الرياض النضرة: ج 2 ص 161.

(6) خصائص النسائي: ص 29، مستدرك الحاكم: ج 3 ص 155 صححه و هو و الذهبي، جامع الترمذي:

ج 2 ص 227.

(7) جامع الترمذي: ج 2 ص 227 ط هند، مستدرك الحاكم: ج 3 ص 157، و جمع آخر.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:118

عليهم كما أخبر به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفاطمة بقوله: إنّ اللّه اطّلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيّا، ثمّ اطّلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إليّ فأنكحته و اتّخذته وصيّا «1».

و بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن اللّه اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوك و الآخر زوجك «2».

و إنّي لا يسعني المجال لتحليل كلمة الرجل: و كان صهرا النبيّ الامويّان.

إلخ: و حسبك في مداراة عثمان الكريم حديث أنس عن رسول اللّه لمّا شهد دفن رقيّة ابنته العزيزة و قعد على قبرها و دمعت عيناه فقال: أيّكم لم يقارف الليلة أهله؟! فقال أبو طلحة: أنا. فأمره أن ينزل في قبرها.

قال ابن بطّال: أراد

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يحرم عثمان النزول في قبرها و قد كان أحقّ الناس بذلك لأنّه كان بعلها و فقد منها علقا لا عوض منه لأنّه حين قال عليه السلام: أيّكم لم يقارف الليلة أهله؟! سكت عثمان و لم يقل: أنا. لأنّه قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه، و لم يشغله الهمّ بالمصيبة و انقطاع صهره من النبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم عن المقارفة فحرم بذلك ما كان حقّا له و كان أولى به من أبي طلحة و غيره. و هذا بيّن في معنى الحديث و لعلّ النبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئا لأنّه فعل فعلا حلالا غير أنّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغا يشغله حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير صريح «3».

و ما عساني أن أقول في أبي العاص الذي كان على شركه إلى عام الحديبيّة، و اسر مع المشركين مرّتين، و فرّق الإسلام بينه و بين زوجته زينب بنت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ستّ سنين، و هاجرت مسلمة و تركته لشركه، و لم ترد

______________________________

(1) اخرجه الطبراني عن أبي ايوب الأنصاري كما في اكمال كنز العمال: ج 6 ص 153، و اخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد: ج 9 ص 165 عن علي الهلالي.

(2) المواقف للايجي: ص 8

(3) الروض الانف: ج 2 ص 107.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:119

قطّ بعد إسلامه كلمة تعرب عن صلته مع النبيّ و مداراته له فضلا عن مقايسته بعليّ أبي ذرّيّته و سيّد عترته.

و قد اتّهم الرجل نبيّ الإسلام بعد العمل على سعادة ابنته الطاهرة المطهّرة بنصّ الكتاب

العزيز، و يقذف عليّا بالتألّم من ذلك، و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أصبح أتى باب عليّ و فاطمة و هو يقول: يرحمكم اللّه إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا. و كان لم يزل يقول: فاطمة أحبّ الناس إليّ.

و يقول: أحبّ الناس إليّ من النساء فاطمة.

و يقول: أحبّ أهلي إليّ فاطمة.

و كان عمر يقول لفاطمة: و اللّه ما رأيت أحدا أحبّ إلى رسول اللّه منك «1».

و ما أقبح الرجل في تقوّله على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعدّه لعليّ غير قوّام بجليل الأعمال. و قد وازره و ناصره و عاضده بتمام معنى الكلمة بكلّ حول و طول من بدء دعوته إلى آخر نفس لفظه، فصار بذلك له نفسا و أخا و وزيرا و وصيّا و خليفة و وارثا و وليّا بعده، و كان قائده الوحيد في حروبه و مغازيه، و هو ذلك الملقّب بقائد الغرّ المحجّلين وحيا من اللّه العزيز في ليلة أسرى بنبيّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى «2».

و ممّا يعجّب بل و يؤسف أن نجد العقاد كاتب النيل الكبير يذهب هذا المذهب، و ينحو هذا المنحى ذاته من سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمّ الامامين الهمامين الحسن و الحسين عليهما السلام، فيسطر في كتابه «فاطمة الزهراء و الفاطميّون» «3» شيئا من هذه العبارات و المقالات التافهة التي لا يليق بكاتب مثله عرف بالتحقيق و الفهم، ان يدرجها في مؤلفه.

______________________________

(1) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 150 و صححه.

(2) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 138 و صححه، الرياض النضرة: ج 2 ص 177، شمس

الاخبار:

ص 39، أسد الغابة: ج 1 ص 69، مجمع الزوائد: ج 9 ص 121.

(3) راجع ص 32 و 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:120

و لا يجاب على ما كتبه العقاد و من حذى حذوه إلا بما مرّ في كلام العلّامة و المحقق الخبير الاميني رحمه اللّه. ففيه كفاية لمن تحرّى الحقيقة عن أهل البيت عليهم السلام.

هذا و ينبغي ان نذكّر القارئ الكريم بنفس ما كتبه العقاد في كتابه و مما يعتبر شهادة دامغة تفند ما بدر منه من قول غير لائق في شأن علي و الزهراء، فهو يقول: في كل دين صورة للانوثة الكاملة المقدسة يتخشع بتقديسها المؤمنون كأنّما هي آية اللّه فيما خلق من ذكر و انثى.

فاذا تقدست في المسيحية مريم العذراء ففي الاسلام لا جرم تتقدس صورة فاطمة البتول.

ثم يقول: من الواضح البين ان الزهراء اخذت مكانها الرفيع بين اعلام النساء في التاريخ لانها بنت نبي و زوجة امام و أم شهداء «1».

فاذا كانت هذه هي صورة الزهراء البتول، فكيف يصدّق العقل ما حاكته أيدي الدسّ في تاريخ هاتين القمتين الطاهرتين من قمم الاسلام الشامخة؟!

______________________________

(1) راجع: ص 51 و 52.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:121

(1)

31 جرائم «بني قينقاع»

اشارة

كانت معركة «بدر» بمثابة طوفان شديد ضدّ الوثنية في قلب شبه الجزيرة العربية.

طوفان اقتلع بعض جذور الوثنية العريقة، فقد قتل طائفة من صناديد قريش، و اسرت اخرى و هرب الباقون بمنتهى الذل و الصغار، و انتشر خبر هزيمة جيش قريش المتغطرس في جميع أنحاء و ربوع الجزيرة العربية.

و لكن ساد بعد هذا الطوفان المرعب، شي ء من الهدوء و المقرون بالاضطراب و القلق. هدوء كان منشؤه التفكير في مستقبل شبه الجزيرة العام و ما تخبئه الايام القادمة لسكانها على أثر التحول الجديد.

(2) و كانت مخاوف

القبائل الوثنية، و يهود يثرب الاثرياء و يهود خيبر و وادي القرى تزداد يوما بعد يوم من تقدم الاسلام المطّرد، و تعاظم شوكته، و اشتداد أمر حكومته الفتية، و كان جميع هؤلاء يجدون مستقبلهم مهددا بخطر جديّ، بعد أن كانوا لا يتصورون أن يكسب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المهاجر من مكة كلّ هذه النجاحات الباهرة، و أن يبلغ من القوة ذلك المبلغ، بحيث يقهر بقواه المحدودة قوة قريش الكبرى و يكسر شوكتها العريقة!!

(3) و كان يهود بني قينقاع الذين يقطنون داخل المدينة، و يمسكون بخيوط اقتصادها، أشدّ خوفا من غيرهم، و اكثر قلقا على مستقبل أمرهم، لأنهم كانوا يخالطون المسلمين مخالطة كاملة و كان وضعهم يختلف عن وضع يهود خيبر و وادي القرى الذين كانوا يعيشون خارج المدينة بعيدا عن مركز قوة المسلمين و منطقة حاكميتهم!!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:122

من هنا بدأ يهود بني قينقاع قبل غيرهم من طوائف اليهود العائشة في تلك الديار بتدبير المؤامرات، و ممارسة الأعمال الإيذائية ضدّ المسلمين و القيام بالحرب الباردة (الإعلامية) ضدّهم، و ذلك بنشر الأكاذيب و بثّ المعلومات الكاذبة، و اطلاق الشعارات القبيحة، و انشاد القصائد التي من شأنها الاساءة الى المسلمين و تحقيرهم، و تخريب معنوياتهم.

و بهذا يكون اليهود قد بدءوا عمليّا بنقض معاهدة التعايش السلمي التي ذكرناها سلفا، و التي عقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معهم في إبّان قدومه المدينة.

(1) و لم تكن هذه الحرب الباردة الشريرة لتبرر تصدي القوى الاسلامية لها بالحرب الساخنة، و استعمال السلاح، لأن ما يمكن حله بسلاح المنطق لا يحبذ أن يعالج بمنطق السلاح، و خاصة أن الرد الساخن و المسلح يؤدي إلى زعزعة الأمن و الاستقرار

في المدينة، و الحال أن المحافظة على الوحدة السياسية، و استتباب الأمن و الاستقرار في المدينة كان مما يهمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جدا و هو يواجه أعداء أشداء من الخارج.

فلم يكن من مصلحة الاسلام و المسلمين تفجير الموقف في عاصمة الاسلام، يومئذ.

و لهذا- و بغية اتمام الحجة على يهود بني قينقاع- وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم في سوقهم بعد أن جمعهم فيه ثم قال لهم:

«يا معشر يهود احذروا من اللّه مثل ما نزل بقريش من النقمة، و أسلموا، فانكم قد عرفتم انّي رسول اللّه (أو أني نبي مرسل) تجدون ذلك في كتابكم و عهد اللّه إليكم».

و هنا نزل قول اللّه تعالى:

«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:123

يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» «1».

(1) و لكن اليهود المغرورين المتكبرين لم يشكروا نصيحة النبي هذه أو يسكتوا حسب، بل ردوا عليه بعناد و لجاج و صلافة قائلين: يا محمّد انك ترى انا قومك لا يغرنّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فاصبت منهم فرصة، إنا و اللّه و لئن حاربناك لتعلمنّ أنّا نحن الناس (أو أنّا و اللّه أصحاب الحرب، و لئن قاتلتنا لتعلمنّ أنك لم تقاتل مثلنا)!! «2»

فلم تترك كلمات يهود «بني قينقاع» الجوفاء، و تشدقهم الفارغ بقوتهم و قدرتهم على القتال و المواجهة أدنى اثر في نفوس المسلمين.

و لكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد أتم عليهم الحجة، فلم يعودوا معذورين حسب السياسة الاسلامية،

و قد أصبح ساعتئذ من اللازم الاحتكام إلى منطق السلاح بعد أن لم ينجع سلاح المنطق، و لم يقنع اليهود بضرورة تغيير مواقفهم، و التخلي عن مؤامراتهم و خططهم الايذائية ضد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين.

أجل لا بد من استخدام القوة مع هؤلاء اليهود الصلفين المتعنتين و الّا ازدادوا صلافة، و كثرت اعتداءاتهم.

و لهذا أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينتظر الفرصة المناسبة لتأديب تلك الجماعة المتعنتة الوقحة.

(2)

لهيب الحرب يبدأ من شرارة:

قد تجر بعض الحوادث الصغيرة إلى سلسلة من التحولات و الاحداث في الاجتماعات الكبرى. يعني أن تتسبب حادثة جزئية في انفجار الحوادث الكبرى، فيصفي كلّ من طرفي النزاع حسابه مع الطرف الآخر، انطلاقا من علل و اسباب اخرى، و ليست تلك الحادثة الجزئية.

______________________________

(1) آل عمران: 12 و 13.

(2) المغازي: ج 1 ص 175 و 176.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:124

فللمثال نشأت الحرب العالمية الاولى و هي إحدى اكبر الحوادث التاريخية في حياة البشر من حادثة صغيرة تذرعت بها الدول الكبرى، و تلك الحادثة الصغيرة التي اشعلت فتيل الحرب العالمية الاولى هي اغتيال «الارشيدوق فرانسيز فريديناند» ولي عهد النمافي سراييفو.

فقد وقعت هذه الحادثة في 28 من شهر يونيو عام 1914 و بعد شهر وعدة أيام بدأت الحرب العالمية الاولى بهجوم الالمان على بلجيكا، و افرزت هذه الحرب المدمرة الشاملة عن مقتل عشرة ملايين و جرح عشرين مليونا من البشر «1».

(1) و لقد انزعج المسلمون من صلافة يهود بني قينقاع، وردهم الوقح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يخاطبهم بأدب ينصحهم، و كانوا يتوقعون أن يقوم اليهود بعمل عدائي ليثوروا ضدهم، و يؤدبوهم.

و بيناهم على هذه الحال إذ تعرضت امرأة من العرب لاعتداء

من اليهود فاشعل هذا الحادث الموقف.

و إليك مفصل تلك الحادثة:

(2) جاءت امرأة من العرب الى سوق بني قينقاع فجلست عند صائغ تبيع حليّا لها أو تشتري، و كانت تبالغ في ستر وجهها عن اليهود، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد رجل من يهود بني قينقاع إليها و جلس من ورائها، و هي لا تشعر فعقد أسفل ثوبها إلى ظهرها، فلما قامت المرأة بدت عورتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين الى ذلك الرجل اليهودي فقتله، فاجتمعت بنو قينقاع، و شدّوا على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم القتيل المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون غضبا شديدا.

(3) و لقد كان من الطبيعي أن يثب الرجل المسلم على ذلك اليهودي الوقح الشرير الذي فعل بالمرأة العربية ذلك الصنع، فان قضية «الأعراض» قضية حياتية و حساسة في أي مجتمع، فهي قضية شرف، و قد كان هذا الأمر يحظى في المجتمع

______________________________

(1) الموسوعة العربية الميسرة: ص 700.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:125

العربيّ خاصة بأهمية كبرى، و خاصة عند البدو الرحل منهم، فكم من دماء جرت لعدوان على عرض ديس أو تعرض للتحرش.

من هنا أزعج وضع تلك المرأة الغريبة و حالها المؤلم و اضطرابها الرجل المسلم، و أشعل غيرته فوثب على اليهودي المعتدي و قتله.

و كان من الطبيعي أيضا أن لا يمرّ هذا العمل دون رد من اليهود فيثب اليهود بأجمعهم على ذلك المسلم الغيور و يقتلوه، و يريقوا دمه بأجمعهم.

نحن هنا لا يهمّنا أن نعرف أن قتل ذلك الرجل اليهودي لازدرائه بامرأة كان أمرا صحيحا منطقيا يتفق مع الموازين أم لا ينطبق.

و لكنّه ما من شك في أن وثوب مئات من الرجال و اجتماعهم على قتل رجل مسلم واحد، و إراقة دمه، عمل

بالغ الشناعة و القبح.

من هنا تسبّب انتشار هذا الخبر (اي مقتل رجل مسلم واحد على أيدي مجموعة كبيرة من الرجال بصورة مفجعة) في إثارة المسلمين و نفاذ صبرهم، و دفعهم إلى العزم على حسم الموقف حسما كاملا و بالتالي هدم قلعة الفساد على رءوس أصحابها القتلة.

(1) فاحس «بنو قينقاع» بخطر الموقف، و أدركوا انه لم يعد من الصالح أن يبقوا في أسواقهم، و يواصلوا البيع و الشراء، و قد تلبّد الجوّ بالغيوم الداكنة على أثر العمل الفضيع و الجناية الكبرى التي ارتكبوها.

من هنا تركوا أسواقهم بسرعة، و عادوا إلى قلاعهم المحصّنة، و تحصّنوا فيها، و كان ذلك منهم انسحابا خانعا بعد ذلك التشدّق الصلف!!

و لقد أخطئوا هذه المرة أيضا إذ ظنوا انهم مانعتهم حصونهم، من انتقام اللّه.

و لو أنهم اعتذروا لخطئهم، و أظهروا الندامة لكانوا يجلبون رضا المسلمين، و يحصلون على عفو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هم يعرفون خلقه العظيم؛ و صفحة الكريم.

إلّا أن تحصّنهم كان آية عنادهم، و اعلانهم الحرب، و نصبهم العداء الصريح للاسلام و النبيّ و المسلمين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:126

(1) فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمحاصرتهم، و منع من دخول أيّ امداد إليهم، كما منع من اتصالهم بأي أحد خارج حصونهم.

فحصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة أشدّ الحصار، حتى قذف اللّه في قلوبهم الرعب، و فقدوا القدرة على المقاومة، و رضوا بأن ينزلوا عند حكم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيهم!!

و أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يؤدب تلك الجماعة التي كانت أول من نقض العهد و نبذ الميثاق تأديبا قاسيا، يكون عقابا لهم و عبرة لغيرهم.

و لكن «عبد اللّه بن أبي بن

سلول» الذي كان من منافقي المدينة و يتظاهر بالاسلام، أصرّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يحسن معاملتهم، و لا يأخذهم بما فعلوا لحلف و مودة كانت بينه و بين يهود من السابق، فانصرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن ما كان يريد من تأديبهم الشديد، و عقوبتهم على كره منه «1» و لكن أمر بأن يجلوا من المدينة، و لا يبقوا فيها شريطة أن يتركوا أسلحتهم، و أموالهم، و دروعهم.

(2) فنزلوا على حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحد المسلمين بقبض أموالهم و أسلحتهم، و كلّف «عبادة بن الصامت» باجلائهم من حصونهم فعجّل عبادة في ترحيلهم و إجلائهم.

فخرجوا من المدينة و لحقوا بمنطقة تدعى «أذرعات» و هي بلد في اطراف الشام.

______________________________

(1) هذا مع العلم ان القرآن الكريم ندّد بمثل هذه الوساطة الذي قام بها ذلك الرجل المنافق رغم تخفيف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معاقبة اليهود و رسم للمسلمين منهجا في التعامل مع اليهود و النصارى إذ قال:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ. وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا، أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ» (المائدة: 51- 53).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:127

و باجلاء «بني قينقاع» عادت الوحدة السياسية الى المجتمع في المدينة.

و كانت الوحدة السياسية هذه المرة مقرونة

بالوحدة الدينية إذ كان المسلمون يشكلون الاغلبية الساحقة في المدينة فلم يكن لغيرهم فيها شأن يذكر «1».

(1)

تقارير جديدة تصل الى المدينة:

من المعلوم أن الاخبار تنتشر بين الناس بسرعة في المناطق الصغيرة، على العادة. سيد المرسلين ج 2 127 تقارير جديدة تصل الى المدينة: ..... ص : 127

هنا فان انباء أكثر المؤامرات و التحركات المعادية للاسلام التي كانت تقع في المناطق المختلفة من شبه الجزيرة كانت تصل بسرعة- و عبر المسافرين المحايدين أو الاصدقاء المترصدين- الى مركز القيادة الاسلامية في المدينة.

هذا مضافا الى أن هذا النوع من المعلومات كان يحظى لدى رسول الاسلام باهمية كبرى، فيرصد لها من يأتي بها أولا بأول، و لهذا كانت اكثر التحركات و المؤامرات يقضى عليها في مهدها بفضل الردّ السريع و المناسب الذي كانت القيادة الاسلامية تقوم به في ضوء المعلومات الواردة إليها، أو التي حصلت عليها.

فبمجرّد أن تتضمن هذه المعلومات، إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خبرا مفاده أن إحدى القبائل تعد قوة، و تستعدّ للهجوم على المدينة كان صلّى اللّه عليه و آله يبادر الى بعث سرية أو يقود هو بنفسه مجموعة مناسبة لمحاصرة تلك القبيلة، و افشال مؤامرتها، و ابطال تدبيرها قبل أن تستطيع فعل شي ء، و كان هذا هو اسلوب المباغتة الذي استطاع به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقضي على كثير من التحركات المعادية في مهدها.

و إليك مختصرا عن بعض تلك الغزوات التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة:

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 177، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 28 و 29.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:128

(1)

1- غزوة قرقرة الكدر «1»:

كانت المنطقة التي تتمركز فيها قبيلة «بني سلم» تدعى «الكدر».

و قد بلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن القبيلة المذكورة تهيّئ، و تعدّ العدة للهجوم على مركز الاسلام و عاصمته (المدينة). فخرج رسول اللّه بنفسه من المدينة

بعد أن استخلف عليها أحد أصحابه و أوكل إليه إدارة المدينة في غيابه، و كان الذي استخلفه هذه المرّة «ابن أمّ مكتوم»، و خرج على رأس قوة عسكرية إلى مركز تلك القبيلة فلما سمعوا بمسير القوى الاسلامية إليهم تفرقوا، و عاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة من غير قتال.

ثم بعث سرية بقيادة فارس من فرسانه يدعى «غالب بن عبد اللّه» إلى نفس تلك المنطقة، فوقع بينه و بينهم قتال محدود و عاد «غالب» الى المدينة ظافرا بعد أن استشهد ثلاثة من رجاله.

(2)

2- غزوة السويق:

كان عرب الجاهلية إذا نذروا ينذرون نذورا غريبة.

فقد نذر أبو سفيان بعد معركة بدر أن لا يقارب زوجته ما لم يثأر «2» من المسلمين لقتلى بدر فكان عليه أن يقوم بهجوم على المدينة، و يقاتل النبيّ و أصحابه ليفي بنذره!!

فخرج من مكة في مائتي راكب فجاء بني النضير ليلا، يطلب مشورة من أحبار اليهود.

فلما كان في وقت السحر خرج فمر بالعريض فوجد رجلا من الانصار مع أجير له فقتل الأنصاريّ، و قتل أجيره، و حرّق بيتا و حرثا لهم بارشاد من كبير اليهود «سلام بن مشكم» و رأى أن يمينه قد حلّت، ثم ذهب هاربا، و خاف

______________________________

(1) قرقرة الكدر: ناحية بين المعدن و بين المدينة، (الطبقات).

(2) المغازي: ج 1 ص 182، الطبقات: ج 2 ص 30.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:129

ملاحقة المسلمين له.

فعرف به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فندب أصحابه فخرجوا في أثره، و جعل أبو سفيان و أصحابه يتخففون فيلقون أكياس السويق (و هو القمح المقلّى المطحون الملتوت بالسمن أو العسل)، و هي عامة زادهم، فجعل المسلمون يمرّون بها فيأخذونها.

فسميت تلك الغزوة بغزوة السويق لهذا الشأن.

(1)

3- غزوة ذي أمرّ:

بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن قبيلة غطفان تجمع أفرادها، و تتأهب للعدوان على المدينة المنورة، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على رأس أربعمائة و خمسين رجلا.

فلما سمع العدو بمسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليهم خافوا خوفا شديدا فهربوا إلى رءوس الجبال، فرارا من النبيّ و المسلمين.

فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إليهم يبحث عنهم فلم يلاق أحدا منهم، و قد غيّبوا سرحهم و ذراريهم في ذرى الجبال خوفا و فرقا.

(2) فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

«ذا أمرّ» «1» و عسكر معسكره هناك، فأصابهم مطر كثير، فذهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ناحية ليقضي حاجة، فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، و قد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وادي «ذي أمرّ» بينه و بين أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف، و ألقاها على شجرة، ثم اضطجع تحتها، و الأعراب ينظرون الى كلّ ما يفعل.

فقالت الأعراب لدعثور و كان سيّدها و أشجعها: قد أمكنك محمّد، و قد انفرد من أصحابه، حيث إن غوّث بأصحابه لم يغث حتى تقتله.

فاختار سيفا من سيوفهم صارما ثم أقبل مشتملا على السيف حتى قام على

______________________________

(1) واد بطريق فيد إلى المدينة. وفاء الوفاء: ج 2 ص 249.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:130

رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالسيف مشهورا، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مستلق على قفاه.

(1) فقال بنبرة خشنة مهددة: ما يمنعك منّي اليوم؟ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اللّه.

فكان لهذه الكلمة أثر عجيب في نفس دعثور بحيث ارعب، و وقع السيف من يده، فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قام به على رأسه، فقال: و من يمنعك منّي اليوم.

فقال: لا أحد.

ثم قال: فأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه، و اللّه لا أكثر عليك جمعا أبدا.

فأعطاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيفه ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: أما و اللّه لانت خير منّي.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنا أحق بذلك منك.

فأتى قومه، و قصّ عليهم ما جرى له مع النبيّ، و أنّه أسلم، و دعا قومه الى

الاسلام.

(2) أجل يكتب المؤرخون في هذا المقام أن الرجل أسلم من فوره، و يجب أن نعلم أنه لم يسلم خوفا و فرقا و تحت بارقة السيف لأنه بقي ثابتا و مستمرا في اسلامه بعد ذلك و أخذ يدعو قومه كما أسلفنا و هذا يدل على أنه أسلم عن طواعية و رغبة. و ان اسلامه كان لتنبّه فطرته، و يقظة وجدانه، فانّ فشله غير المتوقع، و نجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التي تمت بطريقة خارقة للعادة جعلته ينتبه الى عالم آخر، و عرف بأن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ارتباطا بعالم آخر، و أنه مؤيّد بالتالي بقوة عليا، وراء هذا العالم المادي.

و لهذا السبب- و ليس لسواه- أسلم، و قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اسلامه، و بعد أن مشى خطوات ردّ الى النبيّ سيفه الذي أعاده إليه النبيّ قبل ذلك و اعتذر إليه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:131

و قال: أنت أولى بهذا السيف لأنّك قائد هذه السرية المصلحة. «1»

(1)

قريش تغيّر مسير تجارتها:

تعرضت سواحل البحر الاحمر للخطر من قبل عناصر الجيش الاسلامي و حلفائهم، و لم يعد من الممكن مواصلة التجارة و ارسال القوافل التجارية عبرها.

من هنا تشاورت قريش فيما بينها، و درست أوضاعها في ظل هذه المستجدات، و اتفقت على أنه لو تركت التجارة لهلكت رءوس أموالها و فنيت، و كان عليها أن تسلّم للمسلمين.

و ان واصلت التجارة لم تحرز في هذا المجال نجاحا ما دامت الطريق غير آمنة، و ما دام يمكن أن تتعرض أموالها للمصادرة على أيدي المسلمين كلما عثروا عليها.

فاقترح أحدهم التجارة إلى الشام عن طريق العراق فاستحسنوا رأيه جميعا، و تهيّأت القافلة للحركة في الخط الجديد و تولّى أبو

سفيان و صفوان بنفسيهما مهمة الاشراف على تلك القافلة و ادارتها، و استخدما رجلا من بني بكر يدعى «فرات ابن حيان» ليدلّهما على الطريق.

(2) قال المقريزي في امتاع الاسماع: سمع رجل من المدينة (و هو سليط بن النعمان) بخبر خروج صفوان بن أمية في عيره و ما معهم من الاموال فخرج من ساعته و أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب فاصابوا العير، و أفلت أعيان القوم، فقدموا بالعير فخمّسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبلغ الخمس عشرين ألف درهم، و قسّم ما بقي على أهل السريّة، و كان فيمن اسر فرات بن حيّان فأسلم «2».

______________________________

(1) المناقب: ج 1 ص 164، المغازي: ج 1 ص 194- 196.

(2) الإمتاع الاسماع: ج 1 ص 112.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:132

(1)

حوادث السنة الثالثة من الهجرة 32 الدفاع عن الحرّية

اشارة

(2)

غزوة احد أو الدفاع عن الحرّية عند جبل احد:

اشارة

لم تكن السنة الهجرية الثالثة بأقل من السنة الثانية من حيث وقوع الحوادث و الوقائع الملفتة للنظر فيها.

فاذا وقعت في السنة الثانية من الهجرة غزوة «بدر» فقد وقعت في السنة الثالثة منها غزوة «احد» و هما من أعظم معارك الاسلام و غزواته.

على أن غزوة «احد» لم تكن الغزوة الوحيدة التي وقعت في السنة الثالثة، بل وقعت أيضا غزوات اخرى «1» الى جنب طائفة من السرايا، التي اخترنا منها سرية واحدة و غزوتين فقط.

(3)

1- سرية محمّد بن مسلمة:

لقد وصل نبأ انتصار المسلمين في معركة «بدر» عن طريق رجلين من المسلمين.

و لم يكن الجيش الاسلامي الظافر قد وصل الى المدينة بعد، عند ما انزعج «كعب بن الاشرف»- الذي كانت أمه من يهود «بني النضير» و كان شاعرا قويا، و خطيبا بارعا- من الفتح الذي أصابه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون في «بدر» فقال: و اللّه لئن كان محمّد أصاب أشراف العرب و ملوك الناس (و يعني سادة قريش و صناديدهم الذين قتلوا في بدر على أيدي المسلمين لبطن

______________________________

(1) مثل غزوة بحران و غزوة حمراء الأسد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:133

الأرض خير من ظهرها!! و بدأ يبث الأكاذيب و الشائعات في المدينة و مضى يشكك في انتصارات المسلمين في بدر.

(1) و قد كان يسي ء الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قصائده حتى قبل معركة «بدر» و يحرّض الناس على المسلمين.

ثم إنه لما تيقن الخبر خرج حتى قدم مكة و جعل يحرّض قريشا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد أنشد في هذا المجال أشعارا يبكي فيها أصحاب القليب من قريش و قد ذكرتها المصادر التاريخية «1».

ثم رجع كعب هذا الى المدينة فشبّب «2» بنساء المسلمين

حتى آذاهم!!

و لا شك أنه بهذه المواقف المعادية كان من أظهر مصاديق المفسد في الارض، الأمر الذي آل إلى أن يقرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التخلص منه، و كفاية المسلمين شره، و قد أوكل هذه المهمة الصعبة الى «محمد بن مسلمة».

و قد خطّط «ابن مسلمة» للتخلص من «كعب» خطة رائعة، و ألّف لتنفيذها فريقا كان من بينهم «أبو نائلة» الأخ الرضاعي لكعب بن الأشرف، ليمكن من هذا الطريق التمويه على كعب و تنفيذ الخطة المذكورة.

(2) فخرج أبو نائلة إلى كعب و جلسا يتحادثان، و يتبادلان الشعر.

ثم إن أبا نائلة قال لكعب- بعد ان طلب منه أن يخرج كل من كان هناك من ذويه و أهله-: إني قد جئتك في حاجة إليك اريد ذكرها لك فاكتم عني، و إني كرهت ان يسمع القوم كلامنا، فيظنون! لقد كان قدوم هذا الرجل (يعني رسول اللّه) علينا من البلاء، و حاربتنا العرب، و رمتنا عن قوس واحدة، و قطّعت السبل عنا حتّى جهدت الانفس، و ضاع العيال، أخذنا بالصدقة و لا نجد ما نأكل.

فقال كعب: قد و اللّه كنت احدّثك بهذا يا ابن سلامة إن الامر سيصير الى ما أقول.

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 121- 122.

(2) راجع السيرة النبويّة: ج 2 ص 52.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:134

فقال أبو نائلة: إنّ معي رجالا من أصحابي على مثل رأيي، و قد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاما، أو تمرا و تحسن في ذلك إلينا، و نرهنك ما يكون لك فيه ثقة.

(1) فقال كعب: و ما ذا ترهنونني يا أبا نائلة، أبناءكم و نساءكم؟؟!

فقال أبو نائلة: لقد أردت أن تفضحنا و تظهر أمرنا، و لكنا نرهنك من الحلقة (أي السلاح)

ما ترضى به.

فرضي كعب بن الاشرف بذلك.

و إنما قال أبو نائلة هذا القول لابن الاشرف حتى لا يستغرب إذا رأى السلاح بيد الرجال الذين سيأتون معه.

ثم خرج أبو نائلة من عند ابن الاشرف على ميعاد، فاتى أصحابه، فأخبرهم بما دار بينه و بين كعب، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، ثم أتوا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عشاء و أخبروه، فمشى معهم حتى اتى البقيع، ثم وجّههم، ثم قال:

«امضوا على بركة اللّه و عونه اللّهم أعنهم».

(2) فمضوا حتى أتوا ابن الاشرف، فلمّا انتهوا إلى حصنه هتف به أبو نائلة، و كان ابن الاشرف حديث عهد بعرس، فوثب من فراشه، فأخذت امرأته بناحية ملحفته و قالت: أين تذهب، إنك رجل محارب، و لا ينزل مثلك في هذه الساعة؟؟

فقال ابن الاشرف: ميعاد، إنما هو أخي أبو نائلة.

ثم نزل إليهم فحيّاهم، ثم جلسوا فتحدثوا ساعة حتى اطمأن إليهم.

ثم قالوا له: يا ابن الاشرف: هل لك أن تتمشّى الى شعب العجوز (و هو موضع قرب المدينة) فنتحدث فيه بقيّة ليلتنا.

فخرجوا يتماشون حتى ابتعدوا عن حصنه، و بينما هم كذلك إذ أدخل أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شم يده فقال: ويحك ما أطيب عطرك هذا يا ابن الاشرف، ثم مشى ساعة، ثم كرّر هذا العمل ثانية حتى اطمأن ثم مشى ساعة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:135

ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه و قال: اضربوا عدوّ اللّه، فضربوه بسيوفهم، و طعنه أبو نائلة بخنجر في بطنه، و صاح صيحة ثم وقع على الارض و لم تنفعه استغاثاته.

ثم عاد هذا الفريق الفدائي إلى المدينة من فورهم و لما بلغوا «بقيع الغرقد» كبّروا، و قد قام رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله تلك الليلة يصلّي، فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تكبيرهم بالبقيع كبّر، و عرف أنهم قد قتلوه.

و بهذا أعلنوا عن نجاح عمليّتهم الفدائية الجريئة التي أراحت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه من شرّ ذلك المفسد الخطير الذي لم يفتأ عن إيذاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تناول أعراض المسلمين في أشعاره ... «1».

(1)

اغتيال مفسد آخر:

و كان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي يظاهر كعب بن الاشرف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقوم بنفس الدور الخبيث الذي كان يقوم به ابن الاشرف من الايذاء و الازعاج للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين. فقام فريق فدائي آخر من المسلمين باغتياله على غرار اغتيال صاحبه في عملية فدائية جسورة على نحو ما رواه ابن الأثير في كتابه: الكامل في التاريخ بصورة مفصلة «2».

و قد كانت هاتان العمليتان و امور اخرى من أسباب اندلاع معركة «احد».

و قد حان الأوان الآن أن نستعرض تفاصيل هذه الواقعة الكبرى!

(2)

قريش تتكفل نفقات الحرب:

كانت بذور الرغبة في الانتقام و الثأر من المسلمين قد بذرت في مكة من زمان و قد ساعدت خطة المنع من البكاء و النياحة على القتلى على اذكاء روح الانتقام هذه لدى قريش.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 51- 56، المغازي: ج 1 ص 184- 190.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 101.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:136

كما أن تعذّر مرور قافلتها التجارية عبر طريق مكة- المدينة- الشام، و اضطرارها الى سلوك طريق العراق للسفر الى الشام زاد هو الآخر من سخطها و انزعاجها.

و لقد أجج مقتل «كعب بن الاشرف» من أوار هذا الحقد، و أوقد لهيبه في النفوس.

من هنا اقترح «صفوان بن أميّة» و «عكرمة بن أبي جهل» على أبي سفيان و من كانت له في قافلة قريش التجارية مشاركة، أن يدفع كل واحد منهم مبلغا من المال لتسديد نفقات الحرب قائلين: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم، و قتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا.

(1) و لقد لقي هذا الاقتراح قبولا من أبي

سفيان و تقرّر الإعداد للحرب فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى فعل أبو سفيان ذلك.

و قد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع كما ذكر كيف أن قريشا لم تحصد من هذا الإنفاق الا الخيبة و الخسران اذ قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» «1».

و حيث إن زعماء قريش كانوا يعرفون بقوة المسلمين و قد رأوا من كثب استقامتهم و ثباتهم في معركة «بدر» لهذا قرروا أن يتألف جيشهم هذه المرة من صناديد أكثر القبائل العربية و شجعانها البارزين و أبطالها المعروفين.

(2) فكلّف «عمرو بن العاص» وعدة أشخاص آخرين بأن يؤلّبوا العرب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يجمعوا أبطالها و صناديدها، للمشاركة في الجيش الكثيف و المنظم الذي اعتزمت قريش على تسييره لقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين، و غزوهم و بأن يخبروهم بأن قريشا قد تكفّلت نفقات هذه المعركة.

و قد أثمرت نشاطات «عمرو» و رفاقه في هذا السبيل.

______________________________

(1) الانفال: 36، و راجع السيرة النبوية: ج 2 ص 60، مجمع البيان: ج 2 ص 541، السيرة الحلبية: ج 2 ص 217.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:137

فقد استطاعوا بعد محاولات واسعة أن يضمّوا إلى جيش قريش أبطالا و صناديد من بني كنانة و تهامة، فخرجت قريش و هم أربعة آلاف بمن انضم إلى صفوفهم من تلك القبائل «1».

(1) و قد كان هذا هو عدد الرجال الذين شاركوا في هذه المعركة، و لو أضفنا إليهم عدد النساء اللواتي شاركن فيها لتجاوز العدد ما ذكرناه.

على أنه لم يكن من عادة العرب أن

يشركوا نساءهم في الغزو و يخرجوهن معهم إلى القتال، و لكن نساء مكة الوثنيات شاركن مع رجالهن في هذه المعركة على خلاف عادة العرب، و كان الهدف من أخذهن هو أن يحرّضن الرجال على القتال و الصمود، و يمنعن المقاتلين من الفرار، و يذكّرن بقتلى بدر، و يشعلن الحماس في النفوس بدق الدفوف، و إنشاد الأشعار المثيرة للهمم و الداعية إلى الثأر و لأن فرار الرجال كان يعني أن تقع النسوة في الأسر، و هو ما كان يأباه العربي آنذاك. فتكون الغيرة و الحمية على العرض سببا للمقاومة و الصمود.

كما أنه اشترك في هذه المعركة طائفة من العبيد و الرقيق طمعا في العتق الذي و عدوا به إن نصروا أسيادهم و قاتلوا بين أيديهم، و ذلك مثل «وحشي» و كان غلاما حبشيا لمطعم بن جبير يقذف بحربة له قذف الحبشة قلّما يخطئ بها فقال له سيده: أخرج مع الناس فإن نلت محمدا أو عليّا أو حمزة فأنت عتيق «2».

و على أية حال استطاعت قريش أن تجهّز بعد جهد كبير جيشا كبيرا قويا يتألف من سبعمائة دارع، و ثلاثة آلاف فارس، و مشاة كثيرين، و قد خرجوا بعدة و سلاح كثير.

(2)

الاستخبارات ترفع تقريرا الى النبيّ:

فلما اجمعت قريش على المسير كتب العباس بن عبد المطلب «3» كتابا يضم

______________________________

(1) اختلف علماء التفسير و التاريخ كعلي بن ابراهيم و الشيخ الطبرسي في إعلام الورى، و ابن هشام و الواقدي في عدد المشركين و الكفار في هذه المعركة، و ما ذكرناه هو الاقرب الى الحقيقة.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 96.

(3) و كان العباس كما أسلفنا ممن أسلم و آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مكة و لكنه ظلّ يكتم

سيد

المرسلين ،ج 2،ص:138

تقريرا مفصلا عن نوايا و استعدادات قريش، و ختمه و استأجر رجلا من بني غفار و اشترط عليه أن يقطع الطريق إلى المدينة في ثلاثة أيام و يوصل تلك الرسالة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقدم الغفاري المدينة فلم يجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و انما وجده في بستان خارجها فدفع إليه كتاب العباس المختوم، فقرأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اطلع على ما فيه، و لكنه كتم محتواها عن أصحابه «1».

روى العلامة المجلسي عن الامام ابي عبد اللّه الصادق عليه السلام أنه قال:

كان مما منّ اللّه عزّ و جلّ على رسوله صلّى اللّه عليه و آله أنه كان لا يقرأ و لا يكتب، فلما توجّه أبو سفيان الى «احد» كتب العباس إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجاءه الكتاب و هو في بعض حيطان المدينة فقرأه و لم يخبر أصحابه، و أمرهم أن يدخلوا المدينة فلما دخلوا المدينة أخبرهم «2».

(1)

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة:

تحرّك جيش قريش باتجاه المدينة، و بعد قطع مسافة معينة وصلت طلائعه إلى الابواء، و هي المنطقة التي دفنت فيها والدة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله السيدة «آمنة بنت وهب» فقال فتية من قريش: تعالوا ننبش قبر أم محمّد، فانّ النساء عورة، فان يصب من نسائكم أحد قلتم هذه رمة امّك، فان كان برّا بامّه كما يزعم فلعمري ليفادينكم برمة أمّة، و ان لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة امّه بمال كثير إن كان بها برّا.

______________________________

ايمانه ليتمكن من البقاء بين قريش و رصد تحركاتهم و اخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنواياهم.

راجع السيرة الحلبية: ج 10 ص 198.

(1) المغازي: ج

1 ص 203، و يرى بعض المؤرخين أن مبعوث العباس قدم بالرسالة المدينة و كان النبيّ ساعتها في المسجد فأعطى النبيّ الرسالة إلى أبي بن كعب فقرأها عليه، و قد روى الواقدي هذا الوجه أيضا (ج 1 ص 204) و مع أن النبيّ لم يعهد منه أن قرأ رسالة فيكون الوجه الاول أقرب الى الحقيقة.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 111.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:139

و استشار أبو سفيان أهل الرأي من قريش في ذلك فاستقبحوه و شجبوه بشدة و قالوا:

لو فعلنا ذلك نبشت بنو بكر و خزاعة (و هم أعداء قريش) موتانا «1».

(1) و بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليلة الخميس الخامس من شهر شوال، السنة الثالثة من الهجرة، «أنسا» و «مونسا» ابني «فضالة» للتجسس على قريش خارج المدينة، و اخباره صلّى اللّه عليه و آله بتحركاتهم، فأخبرا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، و انهم قد سرحوا إبلهم و خيولهم ترعى في مراعي المدينة.

كما أخبر «الحباب بن المنذر» هو الآخر باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، و ان طلائع ذلك الجيش قد استقر على مقربة من جبل احد، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد بعث الحباب سرا و قال له: لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلّا أن ترى قلة.

و بخبر الحباب تأكّد ما أخبر به ابنا فضالة.

و حيث إن المسلمين كانوا يخافون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من العدو، أن يهاجموه ليلا، لذلك باتت وجوه الأوس و الخزرج (الانصار) ليلة الجمعة و عليهم السلاح في المسجد بباب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحرسونه، و حرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا.

(2)

منطقة «احد»:

كان الوادي الطويل الكبير الذي يصل طريق الشام التجارية باليمن يسمى آنذاك ب «وادي القرى»، و كانت القبائل العربية من اليهود و غير اليهود تقطن في كل منطقة تتوفر فيها ظروف المعيشة و مستلزمات الحياة، و لهذا نشأت على طول هذا الخط «قرى» بسبب وجود مناطق خصبة فيه و قد سوّرت بأسوار من الحجارة،

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 206.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:140

و كانت يثرب مركز هذه القرى و امها و هي التي سميت في ما بعد بمدينة الرسول، و من ثم «المدينة» تخفيفا و اختصارا.

و كان على كل قادم من مكة إلى المدينة، أن يدخل من جنوب يثرب و حيث إن أرض هذه المنطقة ذات طبيعة صخرية لذلك يكون عبور الجيش من خلالها أمرا عسيرا و في غاية الصعوبة.

(1) من هنا عمدت قريش- عند ما وصل جيشها الى مشارف المدينة- تحاشت هذه المنطقة، و دخلت من شمال المدينة، و استقرت في وادي العقيق في سفوح جبل «احد»، و قد كانت هذه المنطقة لعدم وجود نخيل فيها، و لسهولة أرضها، أفضل مكان للعمليات العسكرية، و خير ميدان للقتال و الحرب.

و قد كانت المدينة عرضة للخطر من هذه الناحية لأنه قلّما كان المرء يرى فيها موانع طبيعية.

نزلت قوى المشركين عصر يوم الخميس في الخامس من شوال من السنة الثالثة من الهجرة عند جبل «احد».

و بقي النبي ذلك اليوم و ليلته في المدينة، و في يوم الجمعة أقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عقد شورى عسكرية، و استشار قادة جيشه و أهل الخبرة و الرأي من أصحابه في كيفية مواجهة العدو، و التكتيك الذي يجب أن يتبعه المسلمون «1».

(2)

المشاورة في كيفية الدفاع:

كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

قد امر من جانب اللّه تعالى أن يشاور أصحابه في الامور العسكرية و ما يشابهها و يشركهم في قراراته و خططه التي يتخذها في المجالات المذكورة، ليعطي بذلك درسا كبيرا للمسلمين، و يوجد بين أصحابه و أتباعه روح الديمقراطية (الصحيحة) و تحري الحق، و الموضوعية.

______________________________

(1) لم تكن هذه هي المرة الأولى و الأخيرة التي شاور النبيّ فيها أصحابه و قد ذكرنا عدة موارد من هذا النوع من التشاور و الهدف منه في كتابنا: معالم الحكومة الاسلامية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:141

و لكن هل كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه يستفيد من هذه المشاورة؟

و ينتفع بآرائهم و نظرياتهم، و مقترحاتهم، أم لا؟.

لقد أجاب علماء العقيدة و رواد علم الكلام الاسلامي من مختلف الطوائف على هذا السؤال في مؤلفاتهم و دراساتهم، و للقارئ الكريم إذا أراد الوقوف على الجواب أن يراجع تلكم المصنفات.

لكن الذي لا يمكن انكاره في المقام هو: أن هذه المشاورات سيرة حية تركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بعده، و لقد كانت هذه السيرة مؤثرة جدا بحيث استخدم الخلفاء و الأمراء من بعده من اسلوب التشاور و الشورى، و كانوا يستفيدون على هذا الاساس من آراء الامام علي عليه السلام و نظرياته السامية في الامور العسكرية، و المشكلات الاجتماعية التي كانت تطرأ على حياة المسلمين.

(1)

المشاورات العسكرية:

لما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باقتراب قريش الى المدينة وقف في تلك الشورى التي كانت جمعا كبيرا من صناديد أصحابه، و قادة جيشه و جنوده و قال بصوت عال: «أشيروا عليّ» «1».

و هو يطلب بذلك من اولئك الجنود و القادة أن يدلوا بآرائهم في كيفية مواجهة العدو، و طريقة الدفاع عن حوزة

الاسلام و صرح التوحيد المهددة من قبل قريش و المتحالفين معهم من أحزاب الشرك، و أتباع الوثنية.

فقام «عبد اللّه بن ابي بن سلول» و كان من منافقي المدينة، و طرح فكرة التحصّن في داخل المدينة، و القتال فيها على غرار حرب الشوارع. و ذلك بأن لا يخرج المسلمون من المدينة بل يبقوا داخلها، و يستخدموا أبراجها و سطوحها لمقاتلة العدوّ و دفعه فترمي النساء العدوّ بالأحجار من السطوح، و يقاتل الرجال أفراده في الشوارع و الأزقة قائلا: يا رسول اللّه كنا نقاتل في الجاهلية فيها، و نجعل النساء

______________________________

(1) راجع الخطبة 134 من نهج البلاغة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:142

و الذراري في هذه الصياصي و نجعل معهم الحجارة، و نشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كلّ ناحية و ترمي المرأة و الصبي من فوق الصياصي و الآطام، و نقاتل بأسيافنا في السكك (أي الطرقات).

(1) يا رسول اللّه إن مدينتنا عذراء ما فضّت علينا قط، و ما خرجنا إلى عدوّ قط إلّا أصاب منّا. فانهم ان أقاموا أقاموا بشر محبس، و ان رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين.

و كان هذا رأي الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المهاجرين و الأنصار، إلّا أن الفتيان من المسلمين و بخاصة من لم يشهد منهم بدرا و كانوا يشكلون الاغلبية شجبوا هذا الرأي بشدة، و رفضوه بقوة و طلبوا من رسول اللّه الخروج إلى العدو، و رغبوا في الشهادة، و أحبّوا لقاء العدو.

و قالوا: إنّا نخشى يا رسول اللّه أن يظن عدوّنا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا، و قد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفّرك اللّه عليهم، و نحن اليوم بشر كثير، قد

كنا نتمنى هذا اليوم و ندعوا اللّه به فقد ساقه اللّه إلينا في ساحتنا.

و قال «حمزة» بطل الاسلام العظيم: لا أطعم اليوم طعاما حتى اجالدهم بسيفي خارجا من المدينة «1».

(2)

الاقتراع من أجل الشهادة!!:

و قام خيثمة أبو سعد بن خيثمة- و هو شيخ يقظ البصيرة- و قال: ان قريشا مكثت حولا تجمع الجموع، و تستجلب العرب في بواديها، و من تبعها من أحابيشها، ثم جاءونا قد قادوا الخيل و امتطوا الابل، حتى نزلوا بساحتنا فيحصرونا في بيوتنا، و صياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا، فيجرّئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا، و يصيبوا أطرافنا، و يضعوا العيون و الارصاد علينا، مع ما قد صنعوا بحروثنا،

______________________________

(1) المغازي ج 1 ص 211 و بحار الانوار ج 125 من المعلوم أن نظرية عبد اللّه بن أبي لم تخلو من الخطر، إذ لم يكن من البعيد ان يستفيد العدوّ بعد دخوله في المدينة من بيوت المنافقين. و أن يتعاون معهم يهود المدينة أيضا فتكون حينئذ الضربة القاضية للاسلام و المسلمين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:143

و يجترئ علينا العرب حولنا، حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم، فنذبهم عن جوارنا، و عسى اللّه أن يظفّرنا بهم، فتلك عادة اللّه عندنا، أو تكون الاخرى:

الشهادة.

لقد أخطأتني وقعة بدر، و قد كنت عليها حريصا، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت «1» ابني على الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، و قد كنت حريصا على الشهادة و قد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة و أنهارها، و هو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا.

و قد و اللّه يا رسول اللّه أصبحت مشتاقا الى مرافقته في الجنة، و قد

كبرت سني و رقّ عظمي، و أحببت لقاء ربّي فادع اللّه يا رسول اللّه أن يرزقني الشهادة و مرافقة سعد في الجنة!!! «2».

(1) إن هذا الذي ذكرناه ليس سوى نموذج واحد من مواقف كثيرة تجدها أيّها القارئ الكريم في صفحات التاريخ الاسلامي المشرقة فهناك الكثير من هؤلاء الفدائيين المخلصين الذين آلوا على أنفسهم أن يدافعوا عن حياض العقيدة و شرف الدين، و رزقوا الشهادة في نهاية المطاف.

إن الايديولوجية التي لا تعتمد على اسس الايمان باللّه و اليوم الآخر قلما تنتج جنديا فدائيا مخلصا مثل خيثمة، و من شاكله.

إن روح الفداء و التفاني و الايثار بالنفس و التضحية بالغالي و الرخيص، التي تدفع بالجندي إلى أن يطلب الشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحق، و إعزاز التوحيد باصرار و شوق لا توجد إلّا في مدرسة الأنبياء و المرسلين، و لا تحصل الّا في ضوء تربيتهم.

و اما في المجتمعات المادية كالمجتمعات الحاضرة التي تهتم أكبر اهتمام بتحسين أحوال العسكريين حيث إن الهدف من الحروب و المعارك لم يكن قط إلّا الحصول على وضع معيشي أفضل، فانّه لا يهم الجنود فيها إلّا الحفاظ على أرواحهم و حياتهم

______________________________

(1) اي اجريت القرعة بيني و بين ولدي.

(2) المغازي: ج 1 ص 212 و 213.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:144

فذلك هو أكبر هدف لديهم، و من هنا تندر عندهم روح التفاني و التضحية.

و أما في مدرسة الأنبياء فان المعارك و الحروب لا يهدف منها إلّا ابتغاء رضا اللّه سبحانه، فلو انحصر ذلك في الشهادة أقدم عليها الجندي المسلم من دون خوف أو وجل، و عرّض نفسه لجميع الاخطار من دون تلكؤ أو ابطاء.

(1)

حصيلة الشورى:

لقد أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برأى الاكثرية التي كانت

ترجح الخروج من المدينة لمقاتلة العدوّ، و رجح هو صلّى اللّه عليه و آله البقاء في المدينة و قتال العدو داخلها، إذ لم يكن من الصالح- بعد ما اقترحه قادة جيشه البارزين مثل حمزة، و سعد بن عباده و نظرائهم، و أصروا عليه- أن يأخذ برأي عبد اللّه بن أبيّ بن سلول المنافق.

هذا مضافا الى أن حرب الشوارع و المدن غير المنظم في داخل سكك المدينة و أزقتها الضيقة، و اشتراك النسوة في الأمور الدفاعية، و الجلوس في البيت، و السماح للعدو بأن يفعل ما يريد آية العجز، و الوهن، و هو أمر لا يليق بالمسلمين، و لا يتلاءم مع الانتصار العظيم الذي كسبوه في معركة «بدر»، و هزموا به عدوهم الغاشم القويّ.

إن محاصرة المدينة و سيطرة العدوّ على مداخلها و طرقاتها، و سكوت جنود الاسلام على ذلك من شأن أن يقتل الروح القتالية، و الفروسية في أبناء الاسلام المجاهدين.

و يمكن أن يكون «عبد اللّه بن أبيّ بن سلول» قد أضمر في نفسه نيّة سيئة ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنه بهذا الاقتراح (أي البقاء في المدينة و عدم الخروج لمجابهة العدوّ، و مواجهته بشجاعة) كان يريد- في الحقيقة- أن يوجّه ضربة الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله!!

(2)

النبيّ يلبس لامة الحرب:

بعد أن تعيّنت كيفية مواجهة العدو و الدفاع، دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:145

و آله بيته و لبس لامته، و قد لبس الدرع فأظهرها و حزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من أدم و اعتم و تقلّد السيف، و خرج من بيته.

فأثار هذا المشهد المسلمين و هزهم بشدة و تصور بعضهم بأن إصرارهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

بالخروج من المدينة لم يكن فيه للنبيّ رضا، و خشوا أنهم قد استكرهوه على هذا الأمر، فندموا على ذلك، و قالوا معتذرين: يا رسول اللّه ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك (أو: ما كان لنا أن نستكرهك و الأمر الى اللّه ثم إليك).

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل» «1».

(1)

النبيّ يخرج من المدينة:

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى بالناس الجمعة و خرج على رأس ما يزيد على ألف مقاتل قاصدا احد، و ذلك بعد أن قال لهم:

«انظروا إلى ما أمرتكم به فاتّبعوه امضوا على بركة اللّه فلكم النصر ما صبرتم» «2».

و قد أجاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ لمن لم يبلغوا الحلم بأن يخرجوا معه كسمرة و رافع و كان راميا جيدا، ورد اسامة بن زيد و عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب «3».

ثم إن جماعة من اليهود كانوا متحالفين مع عبد اللّه بن ابي بن سلول قرّروا أن يشتركوا في هذه المعركة و يخرجوا مع المسلمين، و لكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يسمح بذلك لأسباب خاصة.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 23، المغازي: ج 1 ص 214، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 38.

(2) المغازي: ج 1 ص 214.

(3) السيرة النبوية: ج 2 ص 66.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:146

(1) و سار النبيّ و أصحابه حتى اذا كانوا بمنطقة بين المدينة و احد تسمى «الشوط» انعزل عنه «عبد اللّه بن أبي بن سلول» و عاد بثلث الناس كلهم من الأوس المتحالفين معه إلى المدينة بحجة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ برأي الفتية و

الشباب، و رفض اقتراحه و هو البقاء في المدينة.

و من هنا لم يشترك في هذه المعركة لا اليهود و لا حزب النفاق.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه كانوا يرغبون في أن يسلكوا أقرب الطرق إلى معسكرهم من هنا اضطروا الى أن يمروا عبر بستان لمنافق من منافقي المدينة يدعى «مربع بن قيظي» و كان ضريرا، فامتنع من ذلك، و اساء بالقول الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فابتدره أصحاب النبيّ ليقتلوه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر» «1».

(2)

جنديان فدائيان:

استعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جيشه في منطقة تدعى بالشيخين «2»، و كانت الوجوه المشتاقة إلى الجهاد تلمع كما تلمع أشعة السيوف، و تعكس إصرارا كبيرا على قتال الكفار، و مجاهدة المشركين.

و لقد كان جيش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي خرج بهم لمجابهة قريش عند جبل احد يتألف من مقاتلين يتفاوتون في الأعمار تفاوتا كبيرا.

ففيهم الشيخ الكبير الطاعن في السن و فيهم الشاب الفدائيّ الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة.

و لقد كان الدافع الذي يحرك الجميع الى ذلك هو تعشق الكمال الذي

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 65، المغازي: ج 2 ص 218.

(2) و لقد كان من عادة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اسلوبه في جميع المعارك استعراض جيشه على الدوام، و عدّهم، و تسريح بعض العناصر الضعيفة احيانا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:147

ما كان ليتوفر إلّا في ظلّ الدفاع عن صرح التوحيد المقدس، ليس إلّا.

(1) و لإثبات هذه الحقيقة نشير هنا الى قصة شيخ كبير السن، و شاب لم يمض من عرسه إلّا ليلة واحدة!!

(2) 1-

كان «عمرو بن الجموح» رجلا شيخا أعرج شديد العرج و قد اصيب في رجله في حادثة. و كان له بنون أربعة مثل الاسود، يشهدون مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المشاهد، فلما كان يوم «احد» أراد ان يخرج مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قد أبت نفسه أن تفوته الشهادة، و أن يجلس في بيته و لا يشترك مع رسول اللّه في تلك المعركة، و إن اشترك بنوه الأربعة فيها.

فأراد أهله و بنوه حبسه و قالوا له: إنّ اللّه عزّ و جل قد عذرك، و لم يقتنع بمقالتهم، و أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه و الخروج معك فيه، فو اللّه إنّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله له:

«أمّا أنت فقد عذرك اللّه و لا جهاد عليك» «1».

ثم قال صلّى اللّه عليه و آله لبنيه و قومه:

«لا عليكم أن لا تمنعوه، لعلّ اللّه يرزقه الشهادة».

فخلّوا عنه، و خرج و هو يقول: اللهمّ ارزقني الشهادة و لا تردني الى أهلي.

و قد كان موقف هذا المجاهد الأعرج من مشاهد معركة «احد» العظيمة، و من قصصها الرائعة، فقد كان يحمل- و هو على ما هو عليه من العرج- على الاعداء و يقول: «أنا و اللّه مشتاق إلى الجنّة» و ابنه يعدو في أثره حتّى قتلا جميعا «2».

______________________________

(1) لقول اللّه تعالى: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» (الفتح: 17).

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 90 و 91، المغازي: ج 1 ص 265.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:148

(1) 2- «حنظلة» و

هو شاب لم يكن قد جاوز الرابعة و العشرين من عمره آنذاك. و هو ابن «أبي عامر» عدوّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الذي كان مصداقا لقول اللّه تعالى «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ».

فقد اشترك والده أبو عامر الفاسق في معركة «احد» إلى جانب قريش ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان ممن يكيدون للاسلام و ممن حرّض قريشا ضدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استمرّ في معاداة الاسلام حتى النفس الأخير، و لم يأل جهدا في هذا السبيل.

و قد كان أبو عامر هذا هو السبب الرئيسيّ وراء حادثة مسجد «ضرار» التي سيأتي تفصيلها في حوادث السنة التاسعة من الهجرة.

غير أن علاقة الابوة و البنوة و ما يتبعها من احاسيس لم تصرف حنظلة عن الاشتراك في حرب ضد أبيه، ما دام أبوه على باطل و هو (أي حنظلة) على الحق فيوم خرج النبيّ مع أصحابه الى «احد» لمواجهة قريش كان حنظلة يريد البناء بزوجته ليلته، فقد تزوج بابنة «عبد اللّه بن ابيّ بن سلول» و كان عليه أن يقيم مراسيم الزفاف و العرس في الليلة التي خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى «احد» في صبيحتها المنصرمة.

(2) و لكنه عند ما سمع مؤذن الجهاد، و دوّى نداؤه في اذنه بحيّر في ما يجب أن يفعله، فلم يجد مناصا من أن يستأذن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بان يتوقف في المدينة ليلة واحدة لاجراء مراسيم العرس و يقيم عند عروسته ثم يلتحق بالمعسكر الاسلامي صبيحة الغد من تلك الليلة.

و قد نزل في هذا الشأن- على رواية العلّامة المجلسي- قوله تعالى:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ

وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» «1».

______________________________

(1) النور: 62.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:149

فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

فبات حنظلة عند عروسته تلك الليلة و دخل بها، و لما اصبح خرج من فوره و توجه إلى «احد» و هو جنب.

(1) و لكنه حينما اراد أن يخرج من منزله بعثت امرأته الى أربعة نفر من الأنصار، و اشهدت عليه أنه قد واقعها.

فقيل لها: لم فعلت ذلك؟

قالت: رأيت هذه الليلة في نومي كأنّ السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة، ثم انضمت فعلمت أنها الشهادة، فكرهت أن لا اشهد عليه.

و لما حضر حنظلة القتال نظر إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكر، فحمل عليه، فضرب عرقوب فرسه، فاكتسعت الفرس و سقط أبو سفيان إلى الأرض، و صاح: يا معشر قريش أنا أبو سفيان، و هذا حنظلة يريد قتلي، و عدا أبو سفيان، و جرى حنظلة في طلبه، فعرض له رجل من المشركين فطعنه، فمشى الى ذلك المشرك فطعنه فضربه و قتله، و سقط حنظلة الى الأرض بين حمزة و عمرو بن الجموح و عبد اللّه بن حزام و جماعة من الأنصار، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«رأيت الملائكة تغسّل حنظلة بين السماء و الارض بماء المزن في صحائف من ذهب» «2».

فكان يسمى غسيل الملائكة أو حنظلة الغسيل.

و كانت الأوس تعدّ حنظلة من مفاخرها فكانت تقول: «و منا حنظلة غسيل الملائكة».

و كان أبو سفيان يقول: حنظلة بحنظلة و يقصد بالأوّل حنظلة غسيل الملائكة و بالثاني ابنه حنظلة الذي قتل يوم بدر

«3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 57.

(2) و (3) اسد الغابة: ج 2 ص 59 و 60، بحار الأنوار: ج 20 ص 57 و غيرهما.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:150

(1) إنه حقا عجيب أمر هذين العروسين (الزوجين) فبينما كانا هما في أعلى درجات التفاني في سبيل الحق كان والداهما، من اعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خصومه الالداء.

فعبد اللّه بن أبيّ بن سلول (والد العروس) كان رأس المنافقين في المدينة، و كان أبو عامر الفاسق والد العرّيس الذي كان يسمى في الجاهلية بالراهب معاديا أشد العداء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد التحق بالمشركين في مكة، كما حرّض «هرقل» لضرب الحكومة الاسلامية الفتية في المدينة، ثم اشترك في معركة احد ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قاتل المسلمين قتالا شديدا «1».

(2)

العسكران يصطفّان:

في صبيحة اليوم السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة اصطفّت قوى الاسلام أمام قوى الشرك المعتدية، و كان جيش التوحيد قد جعل ظهره الى احد كمانع طبيعيّ يحفظ الجيش من الخلف. و قد كان في جبل احد ثغرة كان من الممكن أن يتسلل منها العدوّ و يباغت المسلمين من الخلف، و يوجّه إليهم ضربة قاضية.

و لهذا عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى وضع جماعة من الرماة عند تلك الثغرة، و أمّر عليهم «عبد اللّه بن جبير» و قال:

انضح الخيل عنّا بالنبل، و احموا لنا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، و الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، إن كانت لنا أو علينا، فلا تفارقوا مكانكم».

و لقد أثبتت حوادث «احد» التي وقعت في ما بعد أهمية هذه الثغرة عسكريا، فقد كانت هزيمة المسلمين بعد انتصارهم في

بداية المعركة نتيجة تجاهل الرماة لأمر النبيّ و اخلاء ذلك الموقع الإستراتيجي، الأمر الذي سمح للعدوّ بأن يباغت المسلمين في حركة التفافية سريعة، و يحمل عليهم، و يوجه عليهم ضربة قوية!!

______________________________

(1) أسد الغابة: ج 2 ص 59 و 60، بحار الأنوار: ج 20 ص 57 و غيرهما.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:151

(1) إنّ أمر النبيّ المؤكد و المشدّد للرماة بأن لا يخلوا أماكنهم في الجبل حيث الثغرة المذكورة يكشف عن معرفته الكاملة بقواعد القتال و قوانين الحرب، و بما يصطلح عليه اليوم بالتكتيك العسكري.

بيد أن نبوغ القائد العسكري لا يكفي وحده لإحراز الانتصار إذا كان الجنود يعانون من عدم الانضباطية، و عدم التقيد بأوامر القائد.

و لقد أشار القرآن الكريم إلى الترتيبات الميدانية التي قام بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند استقرار جنود الإسلام في أرض المعركة بأحد، و تعيينه لمكان كل قطعة من قطعات الجيش الإسلامي إذ قال: «و إذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال و اللّه سميع عليم» «1».

(2)

رفع معنويات الجنود و تقوية عزائمهم:

لم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليغفل في المعارك و الحروب عن تقوية العنصر الروحي لدى الجنود، و ما يصطلح عليه الآن بالروح المعنوية، أو المعنويات العسكرية.

ففي هذه المرة أيضا لما اصطفّ سبعمائة مقاتل مسلم أمام ثلاثة آلاف من المقاتلين المشركين المدججين بالسلاح، خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسلمين خطبة رفع بها من معنويات المسلمين، و ذلك بعد ان نظم صفوفهم و سوّاها.

فلقد كتب «الواقدي» المؤرخ الاسلامي الكبير في هذا الصدد ما يلي:

جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الرماة خمسين رجلا على «عينين» عليهم «عبد اللّه بن جبير»، و جعل «احدا» خلف ظهره، و استقبل

المدينة، ثم جعل صلّى اللّه عليه و آله يمشى على رجليه يسوّي تلك الصفوف، و يبوّئ أصحابه

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 495، الكشاف: ج 1، ص 346- 347.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:152

للقتال يقول تقدّم يا فلان، و تأخر يا فلان، حتى أنه ليرى منكب الرجل خارجا فيؤخره، فهو يقوّمهم كأنما يقوم بهم القداح.

(1) ثم قام صلّى اللّه عليه و آله فخطب الناس فقال:

«يا أيّها الناس، أوصيكم بما أوصاني اللّه في كتابه من العمل بطاعته، و التناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر و ذخر. لمن ذكر الذي عليه، ثم وطّن نفسه له على الصبر و اليقين و الجدّ و النشاط فانّ جهاد العدوّ شديد، شديد كريه، قليل من يصبر عليه، إلّا من عزم اللّه رشده، فان اللّه مع من أطاعه، و إنّ الشيطان مع من عصاه، فافتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، و التمسوا بذلك ما وعدكم اللّه، و عليكم بالذي أمركم به، فانّي حريص على رشدكم فإن الاختلاف و التنازع و التثبيط من أمر العجز و الضعف ممّا لا يحبّ اللّه، و لا يعطي عليه النصر و لا الظفر.

و إنّه قد نفث في روعي الروح الأمين إنّه لن تموت نفس حتّى تستوفي أقصى رزقها، و لا ينقص منه شي ء و أن ابطأ عنها ... المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد اذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد و السلام عليكم» «1».

(2)

العدوّ ينظّم صفوفه:

نظم أبو سفيان قائد المشركين صفوف جنوده و قسّمهم إلى ثلاثة أقسام:

الرماة، و جعلهم في الوسط، و الميمنة و استعمل عليهم خالد بن الوليد، و الميسرة، و استعمل عليهم عكرمة بن أبي جهل. و قدّم جماعة فيهم حملة الألوية و الرايات.

ثم قال لأصحاب الرايات و

كانوا جميعا من بني عبد الدار: إنا إنما اتينا يوم بدر من اللواء، و إنّما يؤتى القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم و حافظوا عليه، أو خلوا بيننا و بينه فانا قوم مستميتون موتورون، نطلب ثارا حديث العهد.

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 221- 223.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:153

فشقّ هذا الكلام على «طلحة بن أبي طلحة» و كان شجاعا، و هو أوّل من حمل راية لقريش، فاندفع من فوره الى ساحة القتال، و طلب المبارزة، متحديا بذلك أبا سفيان.

(1)

الإثارة النفسيّة و إلهاب الحماس:

قبل أن يبدأ القتال أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيفا بيده و قال:

- و هو يثير بذلك همم جنوده-.

«من يأخذ هذا السيف بحقّه»؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة الأنصاري، فقال: و ما حقّه يا رسول اللّه؟

قال: «أن تشرب به العدوّ حتى ينحني».

قال: أنا آخذه يا رسول اللّه بحقّه.

فأعطاه إياه، و كان أبو دجانة رجلا شجاعا، يختال عند الحرب اذا كانت، و كان اذا أعلم، أعلم بعصابة له حمراء، فاعتصب بها علم أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخرج عصابته تلك فعصّب بها رأسه، و جعل يتبختر بين الصفّين. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «انها لمشية يبغضها اللّه إلّا في هذا الموطن» «1».

(2) حقا إن مثل هذه الاثارة النفسية، و هذا التحريك القويّ للهمم أمر ضروري لجيش يقاتل دفاعا عن الحق و القيم، و لا يدفعه إلى ذلك سوى العقيدة، و حب الكمال.

إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يهدف بعمله إثارة أبي دجانة وحده، بل كان صلّى اللّه عليه و آله يهدف بذلك إثارة الآخرين، و إفهامهم بأن عليهم

أن يبلغوا في الشجاعة و البطولة، و الجرأة و الإقدام هذا المبلغ.

(3) يقول «الزبير بن العوّام» و هو كذلك رجل شجاع: وجدت في نفسي حين

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 66 و 67.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:154

سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله السيف فمنعنيه، و أعطاه أبا دجانة و قلت:

أنا ابن صفيّة عمته، و من قريش و قد قمت إليه فسألته إياه، فاعطاه إياه و تركني! و اللّه لانظرنّ ما يصنع. فأتبعته فأخرج عصابة له حمراء، فعصّب بها رأسه، فقالت الانصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، و هكذا كانت تقول له اذا تعصّب بها.

فخرج و هو يقول:

أنا الّذي عاهدني خليلي و نحن بالسفح لدى النخيل

ألّا أقوم الدهر في الكيّول «1»أضرب بسيف اللّه و الرّسول فجعل لا يلقى أحدا إلّا قتله، و كان من المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلّا ذفّف عليه، فجعل كلّ واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت اللّه أن يجمع بينهما، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة، فاتقاه بدرقته، فعضت بسيفه، و ضربه أبو دجانة، فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق «هند بنت عتبه» ثم عدل السيف عنها، فقلت: اللّه و رسوله أعلم.

ثم إن أبا دجانة أوضح عمله هذا فقال: رأيت انسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فاذا امرأة، فأكرمت سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أضرب به امرأة «2».

(1)

القتال يبدأ:

بدأ القتال بما فعله أبو عامر الفاسق الذي كان قد هرب من المدينة مباعدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما أسلفنا، و كان من الأوس، و قد فرّ معه خمسة عشر رجلا من الأوس بسبب معارضته للاسلام.

و قد تصوّر

أبو عامر هذا أن الأوس إذا رأوا يوم احد تركوا نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما التقى العسكران يومئذ نادى أبو عامر: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر.

______________________________

(1) الكيّول: آخر الصفوف في الحرب.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 68 و 69.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:155

قالوا: فلا أنعم اللّه بك عينا يا فاسق. فلما سمع ردّ الأوس تركهم، و اعتزل الحرب بعد قليل «1».

(1) ثم إن هناك مواقف و تضحيات عظيمة قام بها رجال معدودون في معركة احد معروفة بين المؤرخين، أبرزها، و أجدرها بالاجلال تضحيات علي عليه السلام و مواقفه الكبرى في ذلك اليوم.

فهو صاحب اللواء و الراية في هذه الموقعة الكبرى.

قال الشيخ المفيد في الارشاد: تلت بدرا غزاة احد و كانت راية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد أمير المؤمنين عليه السلام فيها و مما يدل على ذلك ما رواه يحيى بن عمارة قال: حدثني الحسن بن موسى بن رباح مولى الانصار قال حدثني أبو البختري القرشي، قال: كانت راية قريش و لواؤها جميعا بيد قصى ثم لم تزل الراية في يد ولد عبد المطلب يحملها منهم من حضر الحرب حتى بعث اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و آله فصارت راية قريش و غيرها الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فأقرها في بني هاشم فأعطاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى علي بن أبي طالب عليه السلام في غزاة ودان و هي أول غزاة حمل فيها راية في الاسلام مع النبيّ ثم لم تزل معه في المشاهد ببدر و هي البطشة الكبرى في يوم احد و كان اللواء يومئذ في بني عبد الدار فاعطاه رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله مصعب بن عمير فاستشهد و وقع اللواء من يده فتشوفته القبائل فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدفعه إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجمع له يومئذ الراية و اللواء «2».

و قد ورد عن ابن عباس ما يؤيد ذلك فقد روى أنه قال: لعلي أربع خصال ليس لأحد من العرب غيره (هو) أول عربي و عجمي صلّى مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو الذي كان لواؤه معه في كل زخف ... «3».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 67.

(2) الارشاد: ص 43، بحار الأنوار: ج 20 ص 80.

(3) ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر: ج 1 ص 142.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:156

كما عن قتادة: ان علي بن ابي طالب كان صاحب لواء رسول اللّه يوم بدر و في كل مشهد «1».

(1) ثم إنه كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري (و كان يدعى كبش الكتيبة) فبرز و نادى: يا محمّد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم الى النار، و نجهزكم بأسيافنا الى الجنّة، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليّ فبرز إليه علي (عليه السلام) و هو يقول:

يا طلح إن كنتم كما تقول لكم خيول و لنا نصول

فاثبت لننظر ايّنا المقتول و أيّنا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد المسئول بصارم ليس به الفلول

ينصره القاهر و الرسول ثم تصاولا بعض الوقت قتل بعده طلحة بضربة علي (عليه السلام) القاضية.

فأخذ الراية اخوان آخران لطلحة فخرجا لقتال علي عليه السلام على التناوب فقتلا جميعا على يديه (عليه السلام).

هذا و يستفاد من كلام لعلي عليه السلام قاله في أيام الشورى التي انعقدت بعد موت الخليفة الثاني.

(2) فقد

قال الامام عليه السلام في مجلس ضم كبار الصحابة في تلك المناسبة:

«نشدتكم باللّه هل فيكم أحد قتل من بني عبد الدار تسعة مبارزة كلّهم يأخذ اللواء، ثم جاء صوأب الحبشي مولاهم و هو يقول لا أقتل بسادتي إلّا محمدا، قد ازبد شدقاه، و احمرّت عيناه، فاتّقيتموه، وحدتم عنه، و خرجت إليه، فلما أقبل كأنه قبة مبنيّة فاختلفت أنا و هو ضربتين، فقطعته بنصفين و بقيت عجزه و فخذاه قائمة على الأرض ينظر إليه المسلمون و يضحكون منه».

قالوا: اللهم لا «2».

______________________________

(1) ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر: ج 9 ص 142.

(2) الخصال: ص 560.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:157

أجل ان قريشا كانت قد ادخرت لحمل الراية تسعة رجال من شجعان بني الدار و قد قتلوا جميعا على يد الامام علي عليه السلام على التوالي فبرز غلامهم و قتل هو أيضا «1».

(1)

المقاتلون بدافع الشهوة!!

من الأبيات التي كانت تتغنّى بها «هند بنت عتبة» زوجة أبي سفيان و من كان معها من النساء في تحريض رجال قريش و حثهم على القتال و اراقة الدماء و المقاومة، و يضربن معها الدفوف و الطبول يتبين ان تلك الفئة لم تكن تقاتل من أجل القيم الرفيعة كالطهر و الحرية، و الخلق الانساني بل كانت تقاتل بدافع الشهوة الجنسية و من أجل الوصول إلى المآرب الرخيصة.

فقد كانت الأغاني و الأبيات التي ترددها تلك النساء اللائي كنّ يضربن بالدفوف خلف الرجال على نحو خاص هي:

نحن بنات طارق نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق (2) و لا شك أن الفئة التي تقاتل من أجل الشهوات، و يكون دافعها الى الحرب و القتال هو الجنس و اللذة، و بالتالي لا تهدف سوى

الوصول إلى المآرب الرخيصة فان حالها تختلف اختلافا بيّنا و كبيرا عن حال الفئة التي تقاتل من أجل هدف مقدس كاقرار الحرية، و رفع مستوى الفكر، و تحرير البشرية من براثن الجهل و أسر الخضوع للاوثان.

و لا شك أن لكل واحدة من تلك الدوافع آثارها المناسبة في روح المقاتل و سلوكه.

و لهذا لم يمض زمان طويل إلّا و وضعت قريش أسلحتها على الارض و ولّت هاربة من أرض المعركة بعد أن اصيبت باصابات قوية بفضل صمود و تضحيات رجال مؤمنين شجعان كعليّ و حمزة و أبي دجانة و الزبير و ... مخلّفة وراءها غنائم

______________________________

(1) و قد ذكر المجلسي قصة مصرع هؤلاء في البحار: ج 20 ص 81- 82.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:158

و أموالا كثيرة، و أحرز المسلمون بذلك انتصارا عظيما على عدوهم القوي في تجهيزاته، الكثير في افراده «1».

(1)

الهزيمة بعد الانتصار:

قد يتساءل سائل: لما ذا انتصر المسلمون اولا؟

لقد انتصروا لأنهم كانوا يقاتلون، و لا يحدوهم في ذلك شي ء حتى لحظة الانتصار إلّا الرغبة في مرضاة اللّه، و نشر عقيدة التوحيد، و إزالة الموانع عن طريقها، فلم يكن لهم أي دافع ماديّ يشدّهم إلى نفسه.

و قد يتساءل: و لما ذا انهزموا أخيرا؟

لقد انهزموا لأنّ أهداف أكثر المسلمين و نواياهم قد تغيّرت بعد تحقيق الانتصار، فقد توجهت أنظارهم الى الغنائم التي تركها قريش في أرض المعركة، و فروا منهزمين. لقد خولط اخلاص عدد كبير من المسلمين، و نسوا على أثره أوامر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تعاليمه، فغفلوا عن ظروف الحرب.

و إليك فيما يأتي تفصيل الحادث:

(2) لقد ذكرنا عند بيان الأوضاع الجغرافية لمنطقة احد أنه كان في «جبل احد» شعب (ثغرة) و قد كلّف رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله خمسين رجلا من الرماة بمراقبة ذلك الشعب، و حماية ظهر الجيش الاسلامي، و أمّر عليهم «عبد اللّه بن جبير»، و كان قد أمر قائدهم بأن ينضحوا الخيل و يدفعوها عن المسلمين بالنبل و يمنعوا عناصر العدوّ من التسلّل من خلالها و لا يغادروا ذلك المكان انتصر المسلمون او انهزموا، غلبوا أو غلبوا.

و فعل الرماة ذلك فقد كانوا في أثناء المعركة يحمون ظهور المسلمين، و يرشقون خيل المشركين بالنبل فتولّى هاربة، حتى إذا ظفر النبيّ و أصحابه، و انكشف المشركون منهزمين، لا يلوون على شي ء، و قد تركوا على أرض المعركة

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 68، تاريخ الطبري: ج 2 ص 194.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:159

غنائم و أموالا كثيرة، و قد تبعهم بعض رجال المسلمين ممن بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على بذل النفس في سبيل اللّه و مضوا يضعون السلاح فيهم حتى أجهضوهم عن العسكر أما أكثر المسلمين فقد وقعوا ينتهبون العسكر و يجمعون الغنائم تاركين ملاحقة العدوّ و قد اغمدوا السيوف، و نزلوا عن الخيول ظنا بأن الأمر قد انتهى.

(1) فلما رأى الرماة المسئولون عن مراقبة الشعب ذلك قالوا لأنفسهم: و لم نقيم هنا من غير شي ء و قد هزم اللّه العدوّ فلنذهب و نغنم مع إخواننا.

فقال لهم أميرهم (عبد اللّه بن جبير): أ لم تعلموا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لكم: احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم، و إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، و إن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا احموا ظهورنا؟

و لكن أكثر الرماة خالفوا أمر قائدهم هذا و قالوا: لم يرد رسول اللّه هذا، و قد أذلّ اللّه المشركين و هزمهم.

و لهذا نزل أربعون

رجلا من الرماة من الجبل و دخلوا في عسكر المشركين ينتهبون مع غيرهم من المسلمين الاموال و قد تركوا موضعهم الإستراتيجي في الجبل، و لم يبق مع عبد اللّه بن جبير إلّا عشرة رجال!!

(2) و هنا استغل «خالد بن الوليد» الذي كان مقاتلا شجاعا، قلّة الرماة في ثغرة الجبل، و كان قد حاول مرارا أن يتسلل منها و لكنه كان يقابل في كل مرة نبال الرماة، فحمل بمن معه من الرجال على الرماة في حملة التفافيّة و بعد أن قاتل من بقي عند الثغرة و قتلهم بأجمعهم انحدر من الجبل و هاجم المسلمين الذين كانوا منشغلين بجمع الغنائم، و غافلين عما جرى فوق الجبل، و وقعوا في المسلمين ضربا بالسيوف و طعنا بالرماح، و رميا بالنبال، و رضخا بالحجارة، و هم يصيحون تقوية لجنود المشركين.

فتفرقت جموع المسلمين، و عادت فلول قريش تساعد خالدا و جماعته، و أحاطوا جميعا بالمسلمين من الأمام و الخلف، و جعل المسلمون يقاتلون حتى قتل منهم سبعون رجلا.

إن هذه النكسة تعود إلى مخالفة الرماة لأوامر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحت تأثير المطامع المادية و تركهم ذلك المكان الإستراتيجي عسكريا و الذي اهتم به القائد الاعلى صلّى اللّه عليه و آله، و أكد بشدة على المحافظة عليه، و دفع أيّ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:160

هجوم من قبل العدوّ عليه. و بذلك فتحوا الطريق- من حيث لا يشعرون- للعدوّ بحيث هاجمتهم الخيل بقيادة خالد بن الوليد، فدخل إلى أرض المعركة من ظهر الجيش الاسلامي، و وجه الى المسلمين تلك الضربة النكراء!!

(1) و لقد ساعد خالدا في هذا «عكرمة بن أبي جهل» الذي حمل هو الآخر بمن كان معه من الرجال على المسلمين، و ساد

على صفوف المسلمين في هذه الحال الهرج و المرج، و عمت فوضى لا نظير لها ساحة المعركة، و لم ير المسلمون مناصا من أن يدافعوا عن أنفسهم متفرّقين، و لكن عقد القيادة لما قد انفرط بسبب هذه المباغتة العسكرية لم يستطع المسلمون إحراز أي نجاح في الدفاع، بل تحمّلوا- كما أسلفنا- خسائر كبرى في الأرواح، و قتل عدد من المسلمين على أيدي اخوانهم من المسلمين خطأ و من دون قصد.

و لقد صعّدت حملات خالد و عكرمة من معنويات المشركين، و نفخت فيهم روحا جديدة فعادت قواتهم الهاربة المنهزمة قبل قليل، و دخلت ساحة المعركة ثانية، و ساعدت جماعة منهم خالدا و عكرمة و حاصروا المسلمين من كل ناحية و قتل جمع كبير من المسلمين بسبب ذلك!!

(2)

شائعة مقتل النبيّ:

و في هذا الأثناء حمل «الليثي» «1» و كان من صناديد قريش و أبطالها على مصعب بن عمير حامل لواء الاسلام في تلك المعركة و هو يظن أنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تبودلت بينهما طعنات و ضربات حتى قتل «مصعب» بضربه قاضية من الليثي، و كان المسلمون يومئذ ملثّمون، ثم صاح: قتلت محمّدا، أو قال ألا قد قتل محمد، ألا قد قتل محمد.

فانتشر هذا الخبر في جموع المسلمين كالنار في الهشيم و علمت قريش بذلك فسروا بذلك سرورا عظيما، و ارتفعت الاصوات في ساحة القتال تنادي: ألا قد

______________________________

(1) هو عبد اللّه بن قمئة الليثي.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:161

قتل محمّد، ألا قد قتل محمّد.

(1) و لقد زاد هذا الخبر الكاذب من جرأة العدوّ فتحركت جحافله و أفراده نحو المسلمين يسعى كل واحد منهم أن يقتطع من جسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عضوا، و بذلك ينال

فخرا في أوساط المشركين!!

و بقدر ما ترك هذا الخبر الكاذب من أثر ايجابي في نفوس المشركين، ترك أثرا سيئا جدا في نفوس المسلمين، و أضعف معنوياتهم بشدة بحيث تخلّى عدد كبير من المسلمين عن القتال، و لجئوا إلى الجبل فرارا بأنفسهم، و لم يثبت الّا عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد من الرجال.

(2)

هل يمكن أن ينكر أحد فرار البعض؟

لا يمكن أبدا أن ينكر أحد فرار أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلّا من يعدّون بالاصابع في تلك المعركة، و لا يمنع كونهم صحابة، أو كونهم أصبحوا في ما بعد ذوي مكانة أو مناصب في المجتمع الإسلامي في ما بعد، من القبول بهذه الحقيقة التاريخية المرّة.

فهذا هو ابن هشام المؤرخ الاسلامي الكبير يكتب في هذا الصدد قائلا:

انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب و طلحة بن عبيد اللّه في رجال من المهاجرين و الأنصار، و قد ألقوا بايديهم «1» فقال:

ما يجلسكم؟ (اي ما يقعدكم عن القتال و المقاومة).

قالوا: قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

قال: فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثم عاد الى المشركين فقاتلهم حتى قتل.

أو قال: حسب رواية كثير من المؤرخين:- ان كان محمد قد قتل فان ربّ محمّد لم يقتل، و ما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقاتلوا على

______________________________

(1) اي استسلموا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:162

ما قاتل عليه رسول اللّه، و موتوا على ما مات عليه ثم قال: اللّهم إنّي اعتذر إليك مما يقوله هؤلاء، و أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شد بسيفه على الكفار فقاتل حتى قتل.

(1) و يروي ابن هشام عن أنس بن مالك

(ابن أخ انس بن النضر) لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين جراحة فما عرفه إلّا اخته عرفته ببنانه «1».

و كتب الواقدي في مغازيه يقول:

حدثني ابن أبي سبرة عن أبي بكر بن عبد اللّه بن أبي جهم و اسم أبي جهم عبيد قال: كان خالد بن الوليد يحدث و هو بالشام يقول: الحمد للّه الذي هداني للاسلام، لقد رأيتني و رأيت عمر بن الخطاب حين جالوا و انهزموا يوم احد و ما معه أحد و أنّي لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري فنكبت عنه و خشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له فنظرت إليه موجّها إلى الشعب «2».

و قد بلغ الانهزام و الضعف النفسي ببعض الصحابة في هذه المعركة بحيث أخذ يفكر في التبري من الاسلام لينجو بنفسه فقال: ليت لنا رسولا إلى عبد اللّه بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان!! «3».

(2)

القرآن يكشف عن بعض الحقائق:

إن الآيات القرآنية تمزق كل حجب الجهل و التعصب التي اسدلت على هذه المسألة، و تفيد بوضوح أن طائفة من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اعتقدوا بأن ما أخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الظفر، و النصر لا أساس له من الصحة، فان اللّه تعالى يقول في هذا الصدد:

«وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ» «4».

و في امكانك أيها القارئ الكريم أن تحصل على الحقائق المكتومة في هذا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 83 راجع تفسير المنار: ج 4 ص 102.

(2) المغازي: ج 1 ص 237.

(3) بحار الأنوار: ج 20 ص 27

(4) آل عمران: 154.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:163

المجال بالتمعن في آيات

من سورة آل عمران «1».

فهذه الآيات تكشف بصورة كاملة عن عقيدة الشيعة حول أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1) فان الشيعة تعتقد بأنه لم يكن جميع صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أوفياء لعقيدة التوحيد، متفانين في سبيله، بل كان منهم الضعيف في ايمانه و المنافق، و المتردد، و مع ذلك لم يكن المؤمنون الأتقياء و الصالحون الأبرار قلة أيضا.

و من العجيب و المؤسف أن يسعى بعض الكتاب من أهل السنة اليوم إلى التغطية على كثير من المواقف و الاعمال المشينة التي بدرت من بعض الصحابة كالذي مرّ عليك في معركة احد، و يحاول تجاوزها بنوع من التبرير البعيد عن روح الحقيقة كمحاولة للمحافظة على شأن جميع الصحابة، و مكانتهم على حين أن هذه التبريرات الفجة، و هذا التعصب اللامنطقي لا يمكنها أن تمنع من رؤية الحقيقة كما هي.

فأي كاتب يستطيع إنكار مفاد هذه الآية التي تصرح قائلة:

«إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» «2».

(2) إن هذه الآية تقصد اولئك الّذين رآهم أنس بن النضر، و من شابههم من الذين تركوا ساحة المعركة، و لجئوا إلى الجبل، و جلسوا يفكّرون في نجاة أنفسهم!!

و الأوضح من الآية السابقة قول اللّه تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» «3».

إن اللّه تعالى يعاتب و يوبّخ الّذين تذرّعوا- لفرارهم من المعركة- بنبإ مقتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على يد العدوّ، و راحوا يفكرون في الحصول على أمان من أبي سفيان بواسطة عبد اللّه بن أبي اذ يقول:

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ

مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» «4».

______________________________

(1) الآيات: 121- 180.

(2) آل عمران: 153.

(3) و (4) آل عمران: 155 و 144.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:164

(1)

التجارب المرة:

إن في أحداث معركة «احد» و وقائعها تجارب مرة و اخرى حلوة فهذه الحوادث و الوقائع تثبت بجلاء صمود و استقامة جماعة، و ضعف و هزيمة آخرين.

كما أنه يستفاد من ملاحظة الحوادث التاريخية أنه لا يمكن اعتبار جميع المسلمين الذين عاصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتقياء عدولا بحجّة أنهم صحبوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لأن الذين أخلّوا مراكزهم على الجبل، يوم احد و عصوا أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تلك اللحظات الخطيرة، و جرّوا بفعلهم على المسلمين تلك المحنة الكبرى، كانوا أيضا ممّن صحبوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

(2) يقول المؤرخ الاسلاميّ الكبير الواقدي في هذا الصدد: «بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم احد ثمانية على الموت: ثلاثة من المهاجرين علي و طلحة و الزبير، و خمسة من الأنصار» فثبتوا و هرب الآخرون «1».

و كتب العلامة أبن أبي الحديد المعتزلي أيضا: حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية رحمه اللّه في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة 608 هجرية، و قارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي، فقرأ: حدثنا الواقدي عن ابن أبي سبرة عن خالد بن رياح عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن محمد بن مسلمة قال: سمعت اذناي، و أبصرت عيناي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول يوم احد، و قد انكشف الناس الى

الجبل و هو يدعوهم و هم لا يلوون عليه، سمعته يقول:

«إليّ يا فلان، إليّ يا فلان أنا رسول اللّه».

فما عرّج عليه واحد منهما، و مضيا!! فأشار ابن معد إليّ أي اسمع.

فقلت: و ما في هذا؟ قال: هذه كناية عنهما. (أي اللذين تسنّما مسند الخلافة

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 240.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:165

بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله)

فقلت: و يجوز أن لا يكون عنهما لعله عن غيرهما.

قال: ليس في الصحابة من يحتشم من ذكره بالفرار، و ما شابهه من العيب، فيضطرّ القائل إلى الكناية إلّا هما.

قلت له: هذا ممنوع.

فقال: دعنا من جدلك و منعك، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما، و أنه لو كان غيرهما لذكرهما صريحا «1».

(1) كما أنّ العلّامة ابن أبي الحديد ذكر في شرحه لنهج البلاغة أيضا اتفاق الرواة كافة على أن عثمان لم يثبت في تلك اللحظات الحساسة يوم احد «2».

و ستقرأ في الصفحات القادمة ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن امرأة مجاهدة متفانية في سبيل الرسالة الاسلامية تدعى «نسيبة المازنية» دافعت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم احد.

فقد لمّح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كلامه عنها و عن موقفها العظيم يومذاك، إلى ما يقلّل من شأن الذين فرّوا من المعركة.

نحن لا نريد هنا الاساءة إلى أيّ واحد من صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، بل غاية ما نتوخّاه هو الكشف عن الحقيقة، و إماطة اللثام عن الواقع، فبقدر ما نستنكر، و نقبّح فرار من فرّ، نكبر صمود من صمد و ثبات من ثبت ممن سنأتي على ذكرهم في الصفحات القادمة، و هذا هو ما تمليه علينا روح التحليل الصادق

أو تقتضيه أمانة النقل، و ما يسمى بالامانة التاريخية على الأقل.

(2)

خمسة يتحالفون على قتل النبيّ:

في تلك اللحظات التي تشتت فيها جيش المسلمين، و انفرط عقده، و في الوقت الذي تركزت فيه أن حملات المشركين من كل ناحية على رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 15 ص 23 و 24.

(2) المغازي: ج 1 ص 278 و 279.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:166

اللّه عليه و آله تعاهد خمسة أنفار من صناديد قريش المعروفين أن يضعوا نهاية لحياة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و يقضوا عليها مهما كلّفهم من الثمن «1».

(1) و هؤلاء هم:

1- عبد اللّه بن شهاب الذي جرح جبهة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

2- عتبة بن أبي وقاص الذي رمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأربعة أحجار فكسر رباعيته صلّى اللّه عليه و آله، و جرح باطنها، من الجهة اليمنى.

3- ابن قميئة الليثي الذي رمى و جنتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جرحهما بحيث غاب حلق المغفر في وجنته صلّى اللّه عليه و آله فأخرجها أبو عبيدة الجراح بأسنانه فكسرت ثنيتاه العليا و السفلى.

4- عبد اللّه بن حميد الذي قتل على يد بطل الإسلام أبي دجانة و هو يحمل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

5- ابيّ بن خلف و كان من الذين قتلوا بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه.

فهو واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ما وصل صلّى اللّه عليه و آله إلى الشعب، و قد عرفه بعض أصحابه و أحاطوا به، فجعل يصيح بأعلى صوته:

يا محمّد لا نجوت ان نجوت، و حمل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لما دنا

تناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحربة من «الحارث بن الصمّة»، ثم انتفض انتفاضة شديدة و طعن «ابيّا» بالحربة في عنقه، و هو على فرسه، فجعل ابيّ يخور كما يخور الثور!

(2) و مع أن ما أصاب ابيّا من جراحة كان يبدو بسيطا، إلّا أنه تملّكه رعب و خوف شديدان إذ لم ينفعه معهما تطمينات رفاقه، و لم يذهب عنه الروع بكلامهم، و كان يقول: و اللات و العزى لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز «2» لماتوا أجمعون.

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 243.

(2) كان ذو المجاز سوقا من أسواق العرب و هو عن يمين الموقف بعرفة قريبا من كبكب (معجم ما استعجم على ما في حواشي المغازي: ص 508).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:167

أ ليس قال: (أي النبيّ يوم كان بمكة) أنا أقتلك إن شاء اللّه، قتلني و اللّه محمّد!!

و قد فعلت الطعنة، و كذا خوفه فعلتهما فمات في منطقة تدعى سرف (و هو موضع على ستة أميال من مكة) فيما كانت قريش قافلة من احد الى مكة «1».

(1) حقا إن هذا ينمّ عن منتهى الدناءة و الخسة في خلق قريش و موقفها، فمع أنها كانت تعرف صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تعترف به، و تنكر أن يكون قد صدر منه كذب في قول، أو خلف في وعد، كانت تعاديه أشدّ العداء، و تمدّ نحوه يد العدوان، و تبغي مصرعه، و تسعى إلى اراقة دمه!!

كما أنه من جهة اخرى يدل على شجاعة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و بطولته و مقدرته الروحية الكبرى، من ناحية اخرى، و ثباته في عمله من ناحية ثالثة.

أجل لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله يدافع عن رسالته السماوية، و عن حياض عقيدته التوحيدية العظمى، و يصمد لاعداء صمود الجبال الرواسخ مع أنه ربما دنا من الموت و كان منه قاب قوسين أو أدنى.

و مع أنه كان صلّى اللّه عليه و آله يرى أن كل همّ المشركين و كل حملاتهم موجهة نحوه بشخصه، إلّا أنه لم يشهد أحد منه أي قول أو فعل يشعر بتوجسه و اضطرابه، و لقد صرح المؤرخون بهذا الأمر فقد كتب المقريزي و نادى المشركون بشعارهم [يا للعزى، يا لهبل] فارجعوا في المسلمين قتلا ذريعا، و نالوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما نالوا. و لم يزل صلّى اللّه عليه و آله شبرا واحدا بل وقف في وجه العدوّ، و أصحابه تثوب إليه مرة طائفة و تتفرق عنه مرة، و هو يرمي عن قوسه أو بحجر حتى تحاجزوا «2».

(2) نعم غاية ما سمع من صلّى اللّه عليه و آله هو ما قاله عند ما كان يمسح الدم

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 84، المغازي: ج 1 ص 251.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 131، المغازي: ج 2 ص 240.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:168

عن وجهه المبارك اذ قال:

«كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدّم و هو يدعوهم إلى اللّه؟!» «1».

إن هذه العبارة الخالدة تكشف عن عمق رحمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عاطفته حتى بالنسبة إلى اعدائه الألدّاء.

(1) بينما تكشف كلمة قالها علي عليه السلام عن شجاعته صلّى اللّه عليه و آله الفائقة إذ قال:

«كنّا إذا احمر البأس اتقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يكن احد أقرب منّا إلى العدوّ منه» «2».

من هنا فان سلامة النبيّ الاكرم صلّى اللّه

عليه و آله في الحروب تعود في أكثر أسبابها إلى حسن دفاعه عن دينه، و عن نفسه، و الى شجاعته في المعارك.

و لقد كانت ثمة علل و أسباب صانت هي الاخرى حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أن يلحقها خطر أو ضرر، الا و هو تضحية و تفاني تلك القلة القليلة من أصحابه الأوفياء الذين بذلوا غاية جهدهم للحفاظ على حياة رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله و بذلك أبقوا على هذا المشعل الوقاد، و هذا السراج المنير.

لقد قاتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم احد قتالا شديدا، فرمى بالنبل حتى فني نبله و انكسرت سية قوسه، و انقطع وتره «3».

(2) على أن الّذين دافعوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد «4»، و حتى هذه القلة القليلة المدافعة ثباتهم معه جميعا غير مقطوع به من منظار علم التاريخ، و من زاوية التحقيق التاريخي.

نعم ما هو متفق عليه بين المؤرخين، و أرباب السير هو ثبات أفراد قلائل نعمد هنا إلى ذكر أسمائهم و مواقفهم بشي ء من التفصيل.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 102.

(2) نهج البلاغة: فصل في غريب كلامه رقم 9.

(3) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 107.

(4) شرح نهج البلاغة: ج 15 ص 20 و 21.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:169

(1)

الدفاع الموفق أو النصر المجدّد:

لو أننا أسمينا هذه المرحلة من تاريخ الاسلام بمرحلة النصر المجدّد لما قلنا جزافا، فان المقصود من هذا الانتصار هو أن المسلمين استطاعوا- و خلافا لتوقعات العدو الحاقد- أن يصونوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من خطر الموت الذي كاد أن يكون محققا، و هذا هو انتصار مجدّد أصابه جند

الاسلام.

أما إذا عزونا هذا الانتصار إلى جيش الاسلام برمّته فان ذلك انما هو لأجل تعظيم مقام المجاهدين المسلمين، و إلّا فان ثقل هذا الانتصار العظيم وقع على عاتق عدد معدود جدا من رجال الاسلام الذين صانوا حياة الرسول الاكرم عن طريق المخاطرة بحياتهم، و تعريضها للخطر الجدي.

و في الحقيقة فإنّ بقاء الدولة الاسلامية، و بقاء جذوة هذا الدين المبارك مشتعلة إنما هو نتيجة تضحيات تلكم القلة القليلة المتفانية في سبيل اللّه و رسوله.

و إليك فيما يلي استعراضا إجماليا لتضحيات اولئك الرجال المتفانين في سبيل العقيدة و الدين:

(2) 1- إن أول و أبرز الرجال الصامدين الثابتين على طريق الجهاد و التضحية في هذه الواقعة هو شاب بطل لم يتجاوز ربيعه السادس و العشرين من عمره ...، هو الذي رافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سني صغره و بدايات حياته و حتى لحظة وفاة الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله.

إن بطل الاسلام الاكبر و ان ذلك الفدائي الواقعي هو الامام «عليّ بن أبي طالب» عليه السلام الذي تحفظ ذاكرة التاريخ الاسلامي عنه الكثير الكثير من مواقف التضحية و الفداء في سبيل نشر الاسلام و الدفاع عن حوزة التوحيد، و ارساء دعائمه.

و في الاساس ان هذا الانتصار المجدّد- على غرار الانتصار الأول- إنما جاء نتيجة لبسالة و بطولة هذا المجاهد المتفاني في سبيل الاسلام ذلك لأن السبب الجوهري في هزيمة قريش و فرارها في بداية المعركة كان هو سقوط لوائها بعد

سيد المرسلين ،ج 2،ص:170

مقتل كل حملة اللواء على يد الامام علي عليه السلام، و بالتالي نتيجة للرعب الذي القي في قلوبهم لما رأوا من تساقط صناديدهم الواحد تلو الآخر، الأمر الذي سلبهم القدرة على المقاومة.

(1)

إن الكتّاب المصريين المعاصرين الذين تناولوا حوادث التاريخ الاسلامي بالتحليل و الدراسة، لم يعطوا عليا عليه السلام- و للأسف- حقه في هذه الموقعة، أو على الأقلّ لم يذكروا ما اتفق عليه المؤرخون، و تطابقت في اثباته التواريخ، بل جعلوا تضحيات الإمام عليّ عليه السلام و مواقفه الشجاعة و العملاقة في عداد مواقف الآخرين، و في مستواها.

من هنا ينبغي أن نسلّط بعض الضوء على تضحيات ذلك الفدائيّ الواقعيّ، و ذلك البطل الشجاع الذي شهدت له ساحات الوغى مواقف لا نظير لها في العظمة، و السمو.

(2) 1- يقول ابن الاثير في تاريخه «1»: كان الذي قتل أصحاب اللواء علي- قاله ابو رافع-، (قال) فلما قتلهم أبصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جماعة من المشركين فقال لعليّ: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرّقهم، و قتل منهم، ثم أبصر جماعة اخرى فقال له: احمل عليهم، فحمل عليهم و فرّقهم و قتل منهم، فقال جبرئيل: يا رسول اللّه هذه المواساة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنه مني و أنا منه، فقال جبرئيل: و أنا منكما قال: فسمعوا صوتا:

«لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلا علي» «2».

(3) و قد شرح ابن أبي الحديد هذه القضية بتفصيل أكثر اذ كتب في شرحه لنهج البلاغة يقول: لما فرّ معظم أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم احد كثرت عليه كتائب المشركين و قصدته كتيبة من بني كنانة، ثم من بني عبد مناة بن

______________________________

(1) الكامل: ج 2 ص 107.

(2) و مثله في تاريخ الطبري: ج 2 ص 197، ميزان الاعتدال: ج 3 ص 324، لسان الميزان: ج 4 ص 406.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:171

كنانة فيها بنو سفيان بن عويف،

و هم خالد بن ثعلب و أبو الشعثاء بن سفيان و أبو الحمراء بن سفيان و غراب بن سفيان، و انها لتقارب خمسين فارسا و هو (أي علي عليه السلام) راجل، فما زال يضربها بالسيف تتفرق عنه، ثم تجتمع عليه هكذا مرارا حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة و تمام العشرة منها ممن لا يعرف اسماؤهم.

ثم نقل ما قاله جبرئيل، ثم كتب يقول: قلت و قد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين و هو من الاخبار المشهورة وقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن اسحاق و رايت بعضها خاليا عنها، و سألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة عن هذا الخبر، فقال: خبر صحيح.

فقلت له: فما بال الصحاح (أي مثل صحيح البخاري و مسلم و ما شاكلهما) لم تشتمل عليه؟

قال: أو كلّ ما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح؟ كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة؟! «1».

(1) 2- و لقد اشار الامام علي عليه السلام نفسه في كلام مفصل له مع رأس اليهود إلى هذا الموقف اذ قال:

«ذهب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عسكر بأصحابه في سد احد و اقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد و استشهد من المسلمين من استشهد، و كان ممّن بقي من الهزيمة، و بقيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مضى المهاجرون و الانصار الى منازلهم من المدينة كلّ يقول قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قتل أصحابه، ثم ضرب اللّه عزّ و جلّ وجوه المشركين، و قد جرحت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نيفا و سبعين جراحة، منها هذه، و هذه».

ثم انه عليه السلام

ألقى رداءه، و أمرّ يده على جراحاته، و قال:

«و كان منّي في ذلك ما على اللّه عزّ و جلّ ثوابه إن شاء اللّه» «2».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 250 و 251.

(2) الخصال: ص 368.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:172

(1) و قد بلغ عليّ عليه السلام- حسب رواية علل الشرائع- من كثرة ضربه لطوائف المشركين الذين كانوا يحملون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم احد، ان انكسر سيفه، فجاء الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه إنّ الرجل يقاتل بسلاحه و قد انكسر سيفي، فأعطاه عليه السلام سيفه ذا الفقار فما زال يدفع به عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال جبرئيل في حقه و في سيفه ما مرّ «1».

و قد اشار ابن هشام في سيرته إلى العبارة التي نادى بها جبرئيل إذ قال:

و حدثني بعض أهل العلم ان ابن أبي نجيح قال: نادى مناد يوم احد: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا عليّ «2».

(2) كما عد ابن هشام في سيرته «3» القتلى من المشركين في احد (22) رجلا، و قد ذكر أسماءهم واحدا واحدا و ذكر قبائلهم، و غير ذلك من خصوصياتهم، و قد قتل منهم (12) رجلا بيد علي عليه السلام، و قتل البقية بايدي المسلمين، و نحن نعرض هنا عن ذكر اسماء اولئك المقتولين رعاية للاختصار.

هذا و نحن نعترف بأننا لم نستطع بيان كل ما قام به علي عليه السلام من خدمات كبرى في هذه الصفحات القلائل على نحو ما جاء في كتب الفريقين السنة و الشيعة و بخاصة في موسوعة بحار الأنوار.

إن ما نستفيده من مطالعة الروايات

و الأخبار الثابتة و المتعددة في هذا المجال هو انه لم يثبت أحد في معركة «احد» كما ثبت علي عليه السلام «4».

(3) 2- أبو دجانة، و هو البطل المسلم الثاني بعد الامام علي عليه السلام في الصمود، و التضحية، و البسالة و الفداء دفاعا عن حياة النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله.

فقد بلغ من حرصه على حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دفاعه عنه أن

______________________________

(1) علل الشرائع: ص 7، بحار الانوار: ج 20 ص 71.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 100.

(3) السيرة النبوية: ج 2 ص 127 و 128.

(4) بحار الأنوار: ج 20 ص 84.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:173

جعل من نفسه ترسا يقي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من سيوف الكفار و رماحهم، و سهامهم و أحجارهم، و قد وقعت سهام كثيرة في ظهره و لكنه ظل مترسا بجسمه دون النبيّ، و بذلك حافظ على حياته الشريفة «1».

(1) و قد جاء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له يوم «احد» بعد ان فرّ و انهزم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حاصره الكفار من كل جانب يا أبا دجانة أ ما ترى قومك، قال: بلى، قال:

«الحق بقومك و أنت في حل من بيعتي، أمّا عليّ فهو أنا و أنا هو».

فبكى أبو دجانة بكاء مرا و قال:

لا و اللّه، لا جعلت نفسي في حل من بيعتي إني بايعتك، فالى من أنصرف يا رسول اللّه الى زوجة تموت، أو ولد يموت، او دار تخرب، او مال يفنى، أو أجل قد اقترب؟

فرّق له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يزل يقاتل حتى اثخنته الجراحة و هو في وجه و

«عليّ» في وجه، فلما سقط احتمله علي عليه السلام فجاء به إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فوضعه عنده فقال: يا رسول اللّه أوفيت ببيعتي؟ قال: سيد المرسلين ج 2 173 الدفاع الموفق أو النصر المجدد: ..... ص : 169

م «2».

(2) و قد ذكر في كتب التاريخ أشخاص آخرون كعاصم بن ثابت، و سهل بن حنيف، و طلحة بن عبيد اللّه، و غيرهم ممن يبلغ- حسب بعض الكتب- 36 شخصا ادعي أنهم ثبتوا و لم يفروا، إلّا أنّ ما هو مسلم به تاريخيا هو ثبات علي عليه السلام و أبي دجانة، و حمزة و امرأة تدعى أم عامر، و أما ثبات غير هؤلاء الأربعة فامر مظنون بل و مشكوك في بعضهم.

(3) 3- حمزة بن عبد المطلب، عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان من شجعان العرب و من المعروفين ببطولاته في الاسلام، و هو الذي أصرّ على أن

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 82.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 107 و 108 عن روضة الكافي: ص 318- 322.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:174

يخرج المسلمون من المدينة و يقاتلوا قريشا خارجها.

و لقد دأب حمزة على حماية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أذى المشركين و الوليين في اللحظات الخطيرة، و الظروف القاسية من بدء الدعوة المحمدية بمكة.

و قد ردّ على أبي جهل الذي كان قد أذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بشدة، و ضربه ضربه شج بها رأسه في جمع من قادة قريش و لم يجرأ احد على مقابلته.

(1) لقد كان حمزة مسلما مجاهدا و بطلا فدائيا متفانيا في سبيل الاسلام، فهو الذي قتل «شيبة» و شيبة من كبار صناديد قريش و

ابطالها، في بدر كما قتل آخرين، و لم يهدف إلّا نصرة الحق، و الفضيلة، و إقرار الحرية في حياة الشعوب و الامم.

و لقد كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان تحقد عليه أشدّ الحقد، و قد عزمت على أن تنتقم من المسلمين لأبيها مهما كلّف الثمن.

فأمرت «وحشيا» و هو غلام حبشي لجبير بن مطعم الذي قتل هو الآخر عمّه في بدر بأن يحقق غرضها، و أملها كيفما استطاع، و قالت له: لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لاعطينّك رضاك.

فقال وحشي لها: أمّا محمد فلا أقدر عليه، و أما علي فوجدته رجلا حذرا كثير الالتفات فلا أطمع فيه، و أما حمزة فاني أطمع فيه لأنه اذا غضب لم يبصر بين يديه.

(2) يقول وحشي: و لما كان يوم احد كمنت لحمزة في أصل شجرة ليدنوا مني، و كان حمزة يومئذ قد أعلم بريشة نعامة في صدره، فو اللّه إني لأنظر إليه يهدّ الناس بسيفه هدا ما يقوم له شي ء، فهززت حربتي- و كان ماهرا في رمي الحراب- حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته (و هي أسفل البطن) حتى خرجت من بين رجليه، و ذهب لينوء نحوي، فغلب، و تركته و اياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت الى العسكر فقعدت فيه، و لم يكن لي بغيره حاجة، و انما قتلته لأعتق.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:175

(1) فلما قدمت الى مكة اعتقت ثم اقمت حتى إذا افتتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة هربت الى الطائف فمكثت بها. فلما خرج وفد الطائف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليسلموا تعيّت عليّ المذاهب، فقلت: ألحق بالشام أو اليمن، أو ببعض البلاد، فو

اللّه إني لفي ذلك من همّي إذ قال لي رجل: ويحك إنه و اللّه ما يقتل أحدا من الناس دخل في دينه، و تشهّد شهادته.

فلما قال لي ذلك، خرجت حتى قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة، فلم يرعه إلّا بي قائما على رأسه أتشهّد بشهادة الحق، فلمّا رآني قال: أو حشي؟!

قلت: نعم يا رسول اللّه.

قال: اقعد فحدّثني كيف قتلت حمزة، فحدثته بما جرى له معه، فلما فرغت من حديثي قال: ويحك! غيّب عني وجهك فلا أرينّك.

(2) أجل هذه هي الروح النبويّة الكبرى، و تلك هي سعة الصدر التي وهبها اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و آله قائد الاسلام الأعلى، و معلم البشرية الاكبر، تراه عفى عن قاتل عمه، مع أنّه كان في مقدوره أن يعدمه بمائة حجة و حجة!!

يقول وحشي: فكنت أتنكّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث كان لئلّا يراني، حتى قبضه اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلما خرج المسلمون الى قتال مسيلمة الكذاب خرجت معهم، و أخذت حربتي التي قتلت بها حمزة، فلمّا التقى الناس رايت مسيلمة الكذاب قائما في يده السيف، و ما أعرفه، فتهيأت له، و تهيّأ له رجل من الأنصار من الناحية الاخرى، كلانا يريده فهزرت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت فيه، و شد عليه الأنصاري فضربه بالسيف.

هذا هو ما ادّعاه وحشي، بيد أنّ هشام قال في سيرته: بلغني أن وحشيا لم يزل يحدّ في الخمر حتى خلع من الديوان فكان عمر بن الخطاب يقول: قد علمت أنّ اللّه تعالى لم يكن ليدع قاتل حمزة «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 72 و 73.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:176

(1)

4- أمّ عمارة:

لا ريب أن الجهاد

الابتدائي مرفوع عن المرأة ساقط عنها في نظر الاسلام، و لهذا عند ما أوفدت نساء المدينة امرأة الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لتتحدّث معه حول الحرمان من هذه العبادة الكبرى، فجاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالت: يا رسول اللّه نحن نقوم بكل ما يحتاج إليه الرجال في حياتهم، ليجاهدوا ببال فارغ، فلم حرمنا نحن من هذه الفضيلة؟!

فأجابها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائلا: «إنّ حسن التبعّل يعدل ذلك كله»، و هو صلّى اللّه عليه و آله يشير إلى أن لهذا المنع أسبابه الطبيعية و الوظيفية في طبيعة المرأة و خلقتها، و ليس هو بالتالي يعني حرمانها من شي ء فان قيامها على الوجه الصحيح بخدمة زوجها و تربية أولادها تعدل الجهاد في سبيل اللّه «1».

(2) بيد أن بعض النسوة المجرّبات ربما كن يخرجن من المدينة لمساعدة جنود الاسلام كسقي العطاشى، و غسل ثياب المقاتلين، و تضميد الجرحى. و بذلك كنّ يقدّمن خدمة مؤثرة في نصرة المسلمين و دعمهم.

تقول أمّ عمارة (نسيبة المازنية): خرجت أول النهار الى «احد» و أنا أنظر ما يصنع الناس، و معي سقاء فيه ماء، فانتهيت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو في الصحابة، و الدولة و الريح للمسلمين.

فلما انهزم المسلمون انحزت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجعلت أباشر القتال و أذبّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالسيف، و أرمي بالقوس حتى خلصت إليّ الجراح.

(تقول راوية هذا الكلام) فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت:

يا أمّ عمارة من أصابك بهذا؟.

(3) قالت: أقبل ابن قميئة و قد ولّى الناس عن رسول اللّه، يصيح:

دلّوني على

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 5 ص 398.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:177

محمد، لا نجوت إن نجا. فاعترض له مصعب بن عمير و ناس معه، فكنت فيهم فضربني هذه الضربة، و لقد ضربته على ذاك ضربات، و لكنّ عدوّ اللّه كان عليه درعان. هذا و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ينظر إليّ، فنظر الى جرح على عاتقي، فصاح بأحد اولادي و قال: «امّك امّك اعصب جرحها». فعاونني عليه.

(1) ثم إنها رأت أن ابنها جرح فاقبلت إليه و معها عصائب في حقويها قد أعدّتها للجراح فربطت جرحه و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ينظر، ثم قالت لولدها: انهض يا بني فضارب القوم.

فأعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باستقامتها و ثباتها و ايمانها و قال:

«و من يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة»؟!

و في الأثناء اقبل الرجل الذي ضرب ولدها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا ضارب ابنك فاعترضت له، و حملت عليه كالأسد المغضب و ضربت ساقه فبرك.

فازداد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إعجابا بشجاعتها و تبسّم حتى بدت نواجذه و قال:

«استقدت يا أمّ عمارة الحمد للّه الذي ظفّرك و أقرّ عينك من عدوّك».

(2) و عند ما نادى منادي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الى حمراء الأسد، بعد معركة احد، و طلب من الجرحى أن يخرجوا لملاحقه جيش المشركين، شدّت عليها ثيابها و قد كان بها جراح عديدة أعظمها الجرح الذي على عاتقها فما استطاعت بسبب نزف الدم، فأرادت أن تخرج مع العسكر منعتها جراحها الباهضة من ذلك، فلما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غزوة حمراء الاسد ما وصل الى بيته حتى أرسل إليها عبد اللّه

بن كعب المازني يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها، فسرّ النبيّ بذلك.

(3) و لقد أثار موقف هذه المرأة البطلة الثابتة على درب الايمان سرور النبيّ و اعجابه فقال في حقها مشيدا بموقفها البطل و معرضا بفرار من فرّ و هروب من هرب في معركة احد:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:178

«لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من فلان و فلان».

و كانت نسيبة قد طلبت من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم احد بعد أن أشاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بصلابتها و مواقفها أن يدعو لها بمرافقته في الجنة فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله داعيا لها و لأهل بيتها:

«بارك اللّه عليكم من أهل بيت رحمكم اللّه. اللّهم اجعلهم رفقائي في الجنّة».

(1) و قال ابن أبي الحديد معلقا على عبارة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لمقام نسبية اليوم خير من مقام فلان و فلان» قلت: ليت الراوي لم يكنّ هذا الكناية، و كان يذكر من هما بأسمائهما حتى لا يترمى الظنون إلى امور مشتبهة، و من أمانة الحديث أن يذكر الحديث على وجهه و لا يكتم منه شيئا فما باله كتم اسم هذين الرجلين «1».

و لكننا نعتقد أن الرجلين هما من الشخصيات التي تسنمت مراكز القيادة العليا بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد أحجم الراوي عن التصريح بأسمائهما إما احتراما أو تقية و خوفا.

(2)

بقية واقعة «احد»:

لقد آلت تضحيات ثلة قليلة و معدودة من رجال الاسلام المتفانين و بسالتهم الى الابقاء على حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حفظها من الخطر القطعي الحتمي.

و من حسن الحظ أن أكثر أفراد العدوّ قد تصوروا يومئذ أن النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله قد قتل، و مضوا يفتشون عن جسده بين القتلى، و دفعت الحملات التي كان يقوم بها أقلية من المشركين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد ردّت على

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 14 ص 265- 267، المغازي: ج 1 ص 269 و 270، بحار الأنوار: ج 20 ص 134.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:179

اعقابها بفضل ثبات علي عليه السلام و أبي دجانة و أنفار آخرين (احتمالا) و قد رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن من الصالح في تلك اللحظات أن لا ينتشر تكذيب شائعة مقتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لكي لا يصرّ العدو على البقاء في أرض المعركة مع ما كان عليه المسلمون من التشتت و التفرق، و المحنة، و من هنا صعد هو و بعض أصحابه إلى الشعب في جبل احد.

(1) و في خلال ذلك سقط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حفيرة في الجبل حفرها أبو عمار الفاسق للمسلمين، فأخذ علي عليه السلام بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أخرجه منها، و كان أوّل من عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المسلمين، «كعب بن مالك» و قد رأى عينيه صلّى اللّه عليه و آله تزهران من تحت المغفر فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأشار إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أنصت.

و ذلك لأن انتشار خبر سلامة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان من شأنه أن يدفع المشركين- كما قلنا- الى مواصلة حملاتهم على المسلمين، بهدف استئصال شأفتهم و لهذا أمر النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله كعبا بالسكوت، فسكت كعب.

و أخيرا وصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى فم الشعب، و لما عرف المسلمون بحياته صلّى اللّه عليه و آله سروا بذلك و أخذوا يتجمّعون عنده، و هم يظهرون الندامة من تركه بين الاعداء، و الفرار بأنفسهم الى الجبل، و أخرج أبو عبيدة الجرّاح حلقتي المغفر من وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جاء علي عليه السلام بماء في درقته فغسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جاء علي عليه السلام بماء في درقته فغسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله به الدم عن وجهه و صبّ منه على رأسه و قال:

«اشتدّ غضب اللّه على من دمّى وجه نبيّه» «1».

(2)

العدوّ يحاول استغلال الفرصة:

في الوقت الذي واجه المسلمون فيه هزيمة كبرى انهارت بها الكثير من

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 83.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:180

المعنويات اغتنم العدوّ الفرصة للترويج عن معتقداته، فأطلق شعارات متعددة ضد عقيدة التوحيد، كان من شأنها أن تغري البسطاء، و الضعفاء في الايمان و تؤثر فيهم، و تزلزل إيمانهم. فليست هناك حالة لبثّ العقائد و تسريبها إلى النفوس أفضل من حالة الانهزام و النكسة، و البلاء و المصيبة، ففي حالة كهذه يبلغ الضعف النفسي لدى المصاب و المنكوب حدّا يفقد معه العقل سيطرته على الانسان بحيث يفقد على أثر ذلك قدرة التمييز بين الحق و الباطل و في هذه الصورة تصبح مسألة بثّ الدعايات السيئة و زرعها في النفوس و استثمارها مسألة بسيطة، اذ يكون الانسان في هذه الحالة أكثر تقبلا و أيسر قبولا.

من هنا عمد أبو سفيان و عكرمة فرفعا أصناما كبيرة على الايدي بعد الحاق الهزيمة بالمسلمين، و أظهروا الفرح

و السرور و أخذوا ينادون بأعلى أصواتهم- مستغلين هذه الفرصة-: «اعل هبل، اعل هبل»!!

(1) و يعنون بذلك الشعار أن الانتصار الذي أحرزه المشركون إنما هو بفضل الصنم: هبل، و بالتالي بفضل الوثنية التي تدين بها أهل مكة. و لو كان ثمة إله سواه، و كانت عقيدة التوحيد على حق لانتصر المسلمون، و لما خلص إليهم من المحنة ما خلص

فادرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمق الخطر الذي يكمن في الاسلوب الذي أخذ العدوّ يمارسه في مثل هذه اللحظة الحساسة، و ما سيتركه ذلك من أثر سيئ في النفوس، و بخاصة الضعيفة منها. و لهذا تناسى كل أوجاعه و مصاعبه و أمر عليّا و المسلمين فورا بأن يجيبوا منادي الشرك بشعار مضاد قوي، فقال:

قولوا:

«اللّه أعلى و اجلّ، اللّه اعلى و اجلّ».

أي انّ هذه الهزيمة ليست نابعة من عقيدة التوحيد، بل هي ناشئة من انحراف بعض الجنود عن أوامر القائد و تعليماته العسكرية الحكيمة.

و بيد أن أبا سفيان لم يكف عن اطلاق شعاراته، و المضيّ في الدعاية لمعتقده الباطل فقال: نحن لنا العزّى و لا عزى لكم!!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:181

(1) فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأن ينادي المسلمون بشعار مضاد لشعار أبي سفيان، مشابه له في الوزن و السجع فقال: قولوا:

«اللّه مولانا و لا مولى لكم».

أي اذا كنتم تعتمدون على صنم مصنوع من الحجر و الخشب، فاننا نعتمد على اللّه الخالق، القادر و العلي الاعلى.

فنادى منادي الشرك ثالثا: يوم بيوم بدر. فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بان يجيبه المسلمون.

«لا سواء قتلانا في الجنة، و قتلاكم في النار».

فكان لشعارات المسلمين القوية الرادعة التي كان يرددها المئات، أثرها العجيب في نفس رأس الشرك

أبي سفيان الذي بدأ هذه الحملة النفسية و الحرب الباردة بغية تحطيم ايمان المسلمين، و رأى كيف ارتد كيده إلى نحره و لهذا انزعج بشدة و قال: ألا إن موعدكم بدر للعام القابل.

ثم انصرف إلى أصحابه، و غادروا جميعا أرض المعركة راجعين إلى مكة «1».

و كان على المسلمين الآن- و فيهم مئات الجرحى و المصابين و سبعون قتيلا- أن يصلّوا الظهر و العصر فصلى بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جلوسا، و صلّوا معه جلوسا، لما أصابهم من الضعف، ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدفن الشهداء، و مواراتهم الثرى عند جبل احد.

(2)

نهاية المعركة:

وضعت الحرب أوزارها، و تباعد الجانبان، و قد تحمّل المسلمون من الخسائر في الارواح ثلاثة أضعاف ما تحمّله المشركون. و كان عليهم أن يبادروا إلى دفن الشهداء على النحو الذي أمرهم به الدين.

و لكنهم فوجئوا بأمر فضيع، فقد اغتنمت نسوة من قريش و في طليعتهن هند

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 94.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:182

زوجة ابي سفيان فرصة انشغال المقاتلين المسلمين و ارتكبن بحق الشهداء الابرار، جناية فظيعة لم يعرف لها تاريخ البشرية مثيلا، فهن لم يكتفين بالانتصار الظاهري بل عمدن إلى التمثيل بشهداء المسلمين، تمثيلا مروعا فخمشن وجوههم، و قطّعن الأنوف، و جدعن الاذان، و سملن العيون، و قطعن أصابع الأيدي و الأرجل، و المذاكير، و صنعن منها القلائد و الاساور، نكاية بالمسلمين، و اطفاء للحقد الدفين، و بذلك الحقن بهنّ و بأوليائهنّ عارا لا ينسى.

(1) فان جميع الامم و الشعوب- متفقة على أن الميت الذي لا يستطيع دفاعا عن نفسه، و لا يتوقع منه ضرر يجب احترامه، و يحرم اهانته و ان كان عدوا. و لكن

هندا زوجة أبي سفيان و من كان برفقتها من نساء المشركين مثّلن بأجساد القتلى شر تمثيل، و صنعن مما قطّعن منها الاساور و القلائد، و بقرت «هند» بالذات صدر حمزة بطل الاسلام الفدائيّ، و أخرجت كبده، و لاكته بين أسنانها و لكنها لفظته و لم تستطع أكله.

و قد بلغ هذا العمل من القبح، و السوء أن تبرّأ منه أبو سفيان و قال: «في قتلاكم مثلة لم آمر بها» «1».

و قد عرفت هند بسبب فعلتها الشنيعة هذه بآكلة الاكباد، و دعي أبناؤها في ما بعد ببني آكلة الاكباد.

و لما أبصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حمزة بن عبد المطلب، ببطن الوادي و قد بقر بطنه عن كبده، و مثّل به فجدع أنفه و اذناه، حزن حزنا شديدا و غاضه تمثيلهم به فقال:

«ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إليّ من هذا!».

(2) ثم إنّ المؤرّخين يتفقون على أنّ المسلمين تعاهدوا في ذلك الموقف (و ربما نسب هذا إلى النبيّ نفسه) لئن أظفرهم اللّه بالمشركين يوما أن يمثّلوا بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب أو يمثلوا بدل الواحد ثلاثين.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 244.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:183

و لم يمض زمان حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى:

«وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» «1».

(1) و لقد كشف الاسلام مرة اخرى و من خلال هذه الآية- التي تتضمن أصلا اسلاميا في مجال القضاء مسلما به- عن وجهه الانسانيّ العاطفيّ، و أظهر للجميع بأن الدين الاسلامي ليس شريعة انتقام، و ثأر، فهو يعلّم أتباعه بأن لا يغفلوا في أشدّ اللحظات و الحالات النفسية هياجا و غضبا عن قانون العدالة، و الحق، و بهذا يكون

الاسلام قد راعى مبادئ العدالة و الانصاف على الدوام، و صانها من الانهيار، و السقوط.

و لقد أصرّت صفية أخت حمزة أنّ ترى جثمان أخيها، إلّا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر ابنها الزبير أن يحبسها و يصرفها عن ذلك لكي لا ترى ما بأخيها فلا تحتمل الصدمة.

فقالت صفية: قد بلغني أن قد مثّل بأخي و ذلك في اللّه، فما أرضانا بما كان من ذلك! لاحتسبنّ و لأصبرنّ إن شاء اللّه.

فأخبر الزبير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمقالتها فقال صلّى اللّه عليه و آله: خلّ سبيلها، فأتته، فنظرت إليه فصلّت عليه، و استرجعت، و استغفرت له، ثم أمر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدفن «2».

(2) حقا أن قوّة الإيمان أعظم القوى، فهي تحبس الانسان و تحفظه في أصعب الحالات، و تفيض على صاحبه حالة من السكينة و الوقار.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلى على شهداء أحد الأبرار، و أمر بدفنهم واحدا واحدا أو اثنين اثنين، و أمر بأن يدفن «عمرو بن الجموح» و «عبد اللّه بن عمرو» في قبر واحد.

______________________________

(1) النحل: 126.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 97.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:184

قائلا:

«ادفنوا هذين المتحابّين في قبر واحد» «1».

(1)

آخر ما نطق به سعد بن الربيع:

كان سعد بن الربيع من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأوفياء، و كان رجلا مؤمنا مخلصا، عظيم الوفاء و الحبّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد اصيب في «احد» اثنتا عشرة اصابة قاضية فسقط على الأرض.

فمرّ عليه رجل يدعى مالك بن الدخشم فقال له: أ ما علمت أن محمدا قد قتل؟ فقال سعد: اشهد أن محمّدا قد بلّغ رسالة ربه، فقاتل أنت عن

دينك فان اللّه حيّ لا يموت «2».

ثم إنه قد مرّ عليه رجل من الانصار و هو في هذه الحال و بعد أن وضعت الحرب أوزارها فقال لسعد: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرني أن أنظر أ في الاحياء أنت أم في الأموات؟ فقال سعد: أنا في الأموات فابلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنّي السلام، و قل له: إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك اللّه عنا خيرا ما جزى نبيا عن امته و أبلغ قومك عنّي السلام، و قل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لاعذر لكم عند اللّه إن خلص الى نبيكم صلّى اللّه عليه و آله و منكم عين تطرف.

ثم لم يبرح ذلك الانصاري حتى قضى سعد بن الربيع نحبه، فجاء الأنصاري الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بما قال. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«رحم اللّه سعدا نصرنا حيّا و اوصى بنا ميتا» «3».

(2) إنّ حبّ الانسان لنفسه، أو ما يصطلح عليه العلماء بحبّ الذات من الغرائز

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 98، بحار الأنوار: ج 20 ص 131.

(2) و (3) السيرة النبوية: ج 2 ص 95، بحار الأنوار: ج 20 ص 12.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:185

القوية المتأصلة في كيان الانسان بحيث لا يمكن لأي أحد أن يغفل عنها مهما كانت الظروف و هي بالتالي من القوة و الهيمنة على وجود الانسان بحيث يضحّى في سبيلها بكل شي ء.

و لكن قوة الايمان و حبّ الانسان للعقيدة، و تعشقه للمعنويات أقوى و أشدّ تأثيرا من ذلك، فهذا الجنديّ الشجاع لم يكن بين- حسب ما تفيده النصوص التاريخية- و بين الموت في ذلك

الوقت سوى لحظات، و مع ذلك نجده ينسى نفسه، و يفكر في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي كان يعتبره أقوى سبب لبقاء الدين، و دوام الشريعة، و هذا هو الهدف المقدّس الذي قاتل من أجله سعد البطل، و لهذا لا يحمل ذلك الرجل الأنصاري سوى رسالة واحدة إلى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحثهم فيها على السهر على حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و العمل معه على تحقيق أهدافه، في ارساء دعائم التوحيد.

(1)

النبيّ يعود الى المدينة:

كانت الشمس تميل نحو المغرب و كانت تستعد للملمة أشعتها الذهبية من صفحة الكون، و كان السكون و الصمت يخيم على كل مكان من الأرض.

في مثل هذه اللحظات كان على المسلمين المقاتلين أن يعودوا بجرحاهم الى منازلهم في المدينة ليستعيدوا قواهم، و يجدّدوا نشاطهم، و يضمدوا جرحاهم.

و لهذا صدرت أوامر من جانب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالتوجه نحو المدينة.

فلما كانوا بأصل الحرة قال صلّى اللّه عليه و آله: اصطفوا فنثني على اللّه، فاصطف الرجال صفين خلفهم النساء ثم دعا فقال:

اللّهم لك الحمد كله، اللّهم لا قابض لما بسطت، و لا باسط لما قبضت، و لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت و لا هادي لمن اضللت و لا مضلّ لمن هديت، و لا مقرّب باعدت و لا مباعد لما قرّبت.

اللّهم انّي أسألك من بركتك، و رحمتك و فضلك و عافيتك.

اللّهم انّي أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول و لا يزول.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:186

اللّهم انّي أسألك الأمن يوم الخوف و الغنى يوم الفاقة عائذا بك.

اللّهم من شرّ ما أنطيتنا و شرّ ما منعت منّا.

اللّهم توفّنا مسلمين.

اللّهم حبّب إلينا الايمان، و زيّنه

في قلوبنا، و كرّه إلينا الكفر و الفسوق و العصيان، و اجعلنا من الراشدين.

اللّهم عذّب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك و يصدّون عن سبيلك.

اللّهم أنزل عليهم رجسك و عذابك إله الحق. آمين «1».

و قد كان هذا العمل خطوة مهمة جدا من الناحية النفسية فقد أمدّ هذا الدعاء نفوس المسلمين المصابين بطاقة روحية ضخمة مما كان من شأنه تخفيف وطأة الهزيمة و تقوية عزائم المسلمين، كما علّمهم أن يلجئوا إلى اللّه تعالى في كلّ حال.

فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه أصحابه من الانصار و المهاجرين الذين شاركوا في تلك المعركة المدينة.

و كانت أكثر بيوت المدينة قد تحوّلت الى مناجات و مآتم، يرتفع منها أصوات بكاء الامهات و الازواج و البنات اللائي أصبن في رجالهنّ و أوليائهنّ، و آبائهنّ.

(1) و لما مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على منازل بني عبد الاشهل و سمع ندبة النساء، و بكاءهنّ حزن و انحدرت دموعه على خديه و قال:

«لكنّ حمزة لا بواكي له» «2».

فلما عرف سعد بن معاذ و اسيد بن حضير بذلك أمرا جماعة من نسائهم بأن يذهبن فيبكين على عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكاءهنّ على حمزة خرج عليهن و هنّ على باب مسجده يبكين عليه فقال:

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 162 و 163.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 99.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:187

«ارجعن يرحمكنّ اللّه فقد آسيتنّ بأنفسكنّ».

و قيل لما سمع صلّى اللّه عليه و آله بكاءهنّ قال:

«رحم اللّه الأنصار، فانّ المواساة منهم ما علمت لقديمة .. مروهنّ فلينصرفن» «1».

(1)

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة:

إن للنسوة المؤمنات صفحات مشرقة، و عجيبة في تاريخ الاسلام،

لأننا قلما نجد لها نظيرا في عالم المرأة اليوم.

و من تلك النسوة المؤمنات ذوات المواقف الرائعة و العجيبة في صدر الاسلام المرأة الدينارية، التي اصيب زوجها و أخوها و أبوها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باحد.

فانّها لما نعوا لها مصرع رجالها قالت: فما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟

قالوا: خيرا يا أمّ فلان، هو بحمد اللّه كما تحبّين.

قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؟

فاشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (اي صغيرة) «2».

ما أعظم تلك الاستقامة، و ما أعظم ذلك الايمان الذي يجعل من الانسان طودا راسخا ثابتا في وجه العواصف و الاعاصير.

(2)

نموذج آخر من النسوة المجاهدات:

لقد أشرنا في الصفحات الماضية بصورة إجمالية إلى قضية «عمرو بن الجموح» الذي آلى على نفسه أن يشارك في الجهاد مع ما كان به من العرج

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 99، امتاع الاسماع: ج 1 ص 163 و 164.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 99.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:188

الموجب لسقوط الجهاد كما عرفت.

فقد شارك هذا المسلم الصادق و المؤمن المجاهد في معركة احد، و مضى يقاتل في الصف الاول من المجاهدين، و شارك ابنه «خلّاد بن عمرو بن الجموح» و أخو زوجته «عبد اللّه بن عمرو» «1» في هذا الجهاد المقدس، و استشهدوا جميعا في تلك المعركة أيضا.

(1) فخرجت «هند» زوجته و هي بنت عمرو بن حزام، عمة جابر بن عبد اللّه الأنصاري الى «احد» و حملت أجسادهم على بعير و توجهت بها نحو المدينة، بمنتهى الجلادة، و رباطة الجأشى.

و عند ما فشى في المدينة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قتل باحد خرجت النسوة، يتأكّدن من هذا النبأ، فالتقت هند ببعض نساء النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله- و هي عائدة من احد- فسألنهنّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالت: خيرا، أمّا رسول اللّه فصالح، و كلّ مصيبة بعده جلل، و اتخذ اللّه من المؤمنين شهداء، و قرأت قول اللّه تعالى: «وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ...»!!

(2) فسألوا: من هؤلاء؟

قالت: أخي، و ابني خلّاد، و زوجي عمرو بن الجموح!!

فقلن لها: فأين تذهبين بهم؟

قالت: إلى المدينة اقبرهم بها .. ثم زجرت بعيرها تحثه على السير قائلة:

حل .. حل في نبرة صامدة.

و مرة اخرى يظهر في هذه الصفحة الناصعة من تاريخ الاسلام نموذج حيّ آخر من مشاهد الثبات و الصمود، و الاستقامة، و تجاوز المصائب، و تحمّل الآلام و الشدائد في سبيل الهدف المقدّس، و كلّ ذلك من فعل الايمان، و نتائجه.

إن المذاهب المادية لا و لن تستطيع تربية أمثال هذه النسوة و الرجال المتفانين في سبيل العقيدة، بمثل هذا التفاني العظيم.

______________________________

(1) و هو عبد اللّه بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام الأنصاري.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:189

على أن هؤلاء لم يقاتلوا من أجل المآرب المادية، و انما قاتلوا من أجل الهدف، و هو إعلاء كلمة الدين و اقامة صرح التوحيد، و محو الوثنية و الشرك.

(1) هذا و في بقية هذه القصة ما هو أعجب من اولها، و هو أمر، لا يمكن أن يدرك بالمقاييس المادية، و الأسس التي ينطلق منها أصحاب الاتجاه المادي في تحليل القضايا التاريخية. و انما يهضمها- فقط- من يؤمن بعالم آخر وراء العالم الماديّ الصرف، و يصدّق بتأثيره في هذا العالم، و بالتالي لا يقبل بها إلّا من يصدّق بقضية الإعجاز و المعجزة، و يذعن لها و يعترف بصحتها من

غير تلكّؤ و ابطاء.

و إليك هذه البقية:

لمّا زجرت هند بعيرها لتدخل به المدينة برك البعير في مكانه.

فقالت النسوة التي كنّ هناك: لعلّه برك لما عليه.

فقالت هند: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل البعيران، و لكنّي أراه لغير ذلك.

فزجرته ثانية، فقام، فلما وجّهت به إلى المدينة برك، فوجهته راجعة الى احد فاسرع.

فرجعت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته بذلك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فانّ الجمل مأمور. هل قال (يعني: عمرو بن الجموح) شيئا؟

(2) قالت: إنّ عمرا لمّا وجّه إلى احد استقبل القبلة، و قال: اللّهم لا تردّني إلى أهلي خزيا، و ارزقني الشهادة!!

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «فلذلك الجمل لا يمضي. إنّ منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على اللّه لابرّه، منهم عمرو بن الجموح، يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن»، ثم مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى قبرهم، ثم قال: «يا هند قد ترافقوا في الجنة جميعا، عمرو بن الجموح، و ابنك خلّاد، و أخوك عبد اللّه».

قالت هند: يا رسول اللّه فادع لي عسى أن يجعلني معهم «1».

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 146- 148.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:190

(1) ثمّ إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل بيته فلما أبصرت به بنته العزيزة «فاطمة» و رأت ما أصابه من الجراح ذرفت عيناها بالدموع، فأعطى رسول اللّه سيفه لابنته (الزهراء) حتى تغسله.

و قال الاربلي المؤرخ الشيعي المعروف الذي كان يعيش في القرن السابع الهجري: كان علي يجي ء بالماء في ترسه، و فاطمة تغسل الدم و أخذ حصيرا فاحرقه وحشى به جرحه «1».

و

في الامتاع لما رأت فاطمة الدم لا يرقأ- و هي تغسله و علي يصب الماء عليها بالمجنّ- أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم الصقته بالجرح فاستمسك الدم و يقال: داوته بصوفة محترقة «2».

(2)

لا بدّ من ملاحقة العدو:

لقد كانت الليلة التي استقرّ فيها المسلمون في منازلهم بالمدينة بعد يوم احد ليلة جدّا خطيرة و حساسة.

فالمنافقون و اليهود و أتباع عبد اللّه بن أبي قد سرّوا لما أصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه سرورا كبيرا، و أظهروا القول السيئ، و قالوا: ما اصيب نبي هكذا قط.

و كان أنين الجرحى و المكلومين و بكاء الموتورين في رجالهم و نياحهم يسمع من أكثر بيوت المدينة.

و الأخطر من كلّ هذا هو التخوّف من أن يقوم المنافقون و اليهود بعملية خيانية ضد الاسلام و المسلمين في تلك الظروف.

أو أن يعرّضوا وضع العاصمة الاسلامية الثابت، و الوحدة السياسية القائمة في المدينة للخطر بايجاد الاختلاف و التشتت على الاقل.

إن ضرر الاختلافات الداخليّة أشد بكثير من حملات العدوّ الخارجي، و ان

______________________________

(1) كشف الغمة: ج 1 ص 189.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 137 و 138.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:191

انهيار الوحدة و الانسجام في الجبهة الداخلية أخطر بكثير من تعرّض البلاد لهجوم من الخارج.

(1) من هنا كان يتعيّن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يرهب العدو الداخلي، و يفهمه بأنّ قوى التوحيد لم تفقد انسجامها و تماسكها و انّ أيّة خطوة أو نشاط معاد يهدّد أساس الاسلام للخطر سيسحق بشدة في اللحظة الأولى.

و لهذا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يخرج في نفس الليلة لملاحقة العدوّ (أي مشركي مكة).

فكلّف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رجلا بأن ينادي في

كل مناطق المدينة:

«أ لا عصابة تشدّد لأمر اللّه تطلب عدوّها، فانّها أنكأ للعدوّ و أبعد للسمع.

ألا لا يخرجن معنا الّا من حضر يومنا بالامس».

أو قال: «يا معشر المهاجرين و الأنصار من كانت به جراحة فليخرج، و من لم يكن به جراحة فليقم».

و انما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما أسلفنا ليرهب العدوّ و ليبلغهم أنه خارج في طلبهم فيظنوا به قوّة، و أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوّهم «1».

(2) على أن لهذا التقييد، و لهذا النهي عن خروج غير الجرحى، أو من لم يشترك في احد، عللا أو حكما لا تخفى على العارفين بالسياسة، و الرموز العسكرية.

و يمكن الاشارة الى بعضها:

(3) أولا: انّ هذا التحديد، و بالتالي الاقتصار على من شارك في معركة احد هو نوع من التعريض بمن امتنع من المشاركة في تلك المعركة، و في الحقيقة هو نوع من تجريدهم من صلاحية المشاركة في الدفاع المقدّس.

(4) ثانيا: إنّ هذا التحديد هو نوع من عقاب المشاركين في معركة احد، لأنّهم بتجاهلهم لتعاليم القيادة، و انصرافهم بسرعة الى المطامع المادية، و الغفلة عن ملاحقة العدوّ في حينه تسببوا في توجيه تلكم الضربة النكراء الى الاسلام،

______________________________

(1) مجمع البيان للطبرسي: ج 2 ص 535- 541.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:192

و لذلك يجب عليهم انفسهم ملافاة تلك الخسارة، و ترميم ذلك العطب، لكيلا يعودوا إلى مثل ذلك، و لا يتجاهلوا أوامر القيادة، و نحن نعلم أن الانضباطية و التقيد الكامل بالاوامر هو أهم عنصر في نجاح الامور العسكرية «1».

بلغ نداء مؤذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مسامع شاب من بني الاشهل كان قد شهد احدا مع رسول اللّه، فخرج هو و أخوه و هما جريحان مع

رسول اللّه لطلب العدوّ، و قد قال أحدهما للآخر: أ تفوتنا غزوة مع رسول اللّه.

و قد خرجا دون أن تكون لهما دابة يركبانها و كلاهما مصابان بجروح ثقيلة، فكان الأيسر منهما يحمل الآخر مسافة، فاذا تعب مشيا مسافة، ثم عاد الى حمله حتى انتهيا الى ما انتهى إليه المسلمون «2».

(1)

حمراء الأسد «3»:

خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه الى حمراء الاسد (و هي تبعد عن المدينة بثمانية أميال) و قد استخلف على المدينة «ابن أمّ مكتوم».

و هناك مرّ به «معبد بن أبي معبد الخزاعي» رئيس بني خزاعة، و كانت خزاعة مسلمهم و مشركهم يومذاك ذات علاقات طيبة جدا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين و كانوا لا يخفون عن النبيّ شيئا.

فتقدم معبد رئيسهم و عزّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما أصابه، و هو يومئذ مشرك قائلا: يا محمّد أما و اللّه لقد عزّ علينا ما أصابك، و لوددنا أنّ اللّه عافاك فيهم.

ثم خرج معبد حتى لقي أبا سفيان و من معه بمنطقة تدعى بالروحاء و قد

______________________________

(1) كلا هذين الوجهين يستقيمان إذا قلنا بان النبيّ خرج بكل من شارك في احد لا أنه اقتصر على الجرحى، كما تصرح به بعض النصوص التاريخية.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 168، السيرة النبوية: ج 2 ص 101.

(3) لقد عدّ البعض خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى حمراء الاسد لملاحقة العدوّ غزوة مستقلة، و ذكرها البعض الآخر في ذيل معركة احد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:193

عزموا على الرجوع الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه للكرة عليهم، و استئصالهم، و القضاء عليهم بالمرة.

فلما رأى أبو سفيان معبدا (و كان

معبد قد استهدف من خروجه الى أبي سفيان و جماعة المشركين القيام بخدمة لصالح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه) قال: ما وراءك يا معبد، و ما ذا عندك من الاخبار؟

(1) فقال معبد:- و هو يريد إرعاب قريش و صرفهم عن الرجوع الى المدينة- محمّد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم ار مثله قط، يتحرّقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، و ندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق و شدة الغيظ عليكم شي ء لم ار مثله قط!!

فقال أبو سفيان:- و قد أرعب بشدة من هذا النبأ- ويحك ما ذا تقول؟

قال معبد: و اللّه ما أرى ان ترتحل حتى أرى نواصيّ الخيل.

قال أبو سفيان: فو اللّه لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيّتهم!

قال معبد: فاني أنهاك عن ذلك.

و قد تركت كلمات معبد، و وصفه لقوة المسلمين و عزمهم الشديد على توجيه ضربة الى الكفار أثرها في نفس أبي سفيان الذي تملّكه خوف شديد، دعاه إلى الانصراف عن الرجوع الى المدينة ثانية، و العزم على القفول الى مكة «1».

و مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه حتى عسكروا ليلا بحمراء الاسد، فامر بأن يوقد المسلمون النيران فأوقدوا خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد، و ذهب صوت معسكرهم و نيرانهم في كل وجه، و تصور العدو أن النبيّ جاءهم في جيش عظيم، فتشاوروا حول الرجوع الى المدينة فنهاهم صفوان عن ذلك، فانصرفوا «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 102، امتاع الاسماع: ج 1 ص 169 و 170.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 49.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:194

(1)

لا يخدع مؤمن مرّتين:

هذا هو معنى قول النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله:

«المؤمن

لا يلدغ من جحر مرّتين».

و لقد قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ما أسّر المسلمون أبو عزّة الجمحي في طريق عودتهم من حمراء الاسد على نحو الصدفة، و أراد النبيّ ضرب عنقه فاستقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و طلب منه العفو و كان قد أسر ببدر قبل ذلك، ثم منّ عليه النبيّ و أطلق سراحه مشترطا عليه أن يكفّ عن المؤامرة ضد النبيّ و المشاركة في قتاله، و لكنه عاد الى مكة، و شارك في قتال النبيّ مرة اخرى في احد.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لما طلب العفو ثانية:

«و اللّه لا تمسح عارضيك بمكة بعدها و تقول: خدعت محمّدا مرتين، إنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين».

ثم أمر بضرب عنقه، و ضرب عنقه «1».

(2) و أخيرا انتهت معركة احد و قد قدم المسلمون فيها سبعين، أو اربعة و سبعين، أو واحدا و ثمانين شهيدا على روايات مختلفة، بينما لم يتجاوز عدد قتلى قريش اثنين و عشرين.

و قد نشأت هذه النكسة المرّة بسبب تجاهل الرماة لتعليمات الرسول القائد على النحو الذي قرأت.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 104، نلفت نظر القارئ الكريم الى أننا قد ذكرنا في الهوامش مصادر أهم الحوادث في معركة احد و في إمكان القارئ الكريم لو أراد التوسع ان يراجع المصادر التالية التي اعتمد عليها المؤلف: و هي: الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 36- 49، المغازي: ج 1 ص 199- 340، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 14 ص 14- 218 و ج 5 ص 60، و بحار الأنوار: ج 20 ص 14- 146، و امتاع الاسماع: ج 1

ص 113- 166، السيرة النبوية: ج 2 ص 60- 168.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:195

و قد وقعت معركة احد يوم السبت السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة، هذا مضافا الى غزوة حمراء الاسد التي استمرت إلى يوم الجمعة من ذلك الاسبوع نفسه، فتكون قضايا و وقائع هذه الغزوة في الرابع عشر من شهر شوال من نفس تلك السنة.

ميلاد الامام الحسن السبط:

(1) هذا و قد ولد في هذه السنة (اي السنة الثالثة من الهجرة) سبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الاكبر الإمام الحسن بن علي عليه السلام في منتصف شهر رمضان من تلك السنة، و اجرى له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مراسيم ولادة خاصة ذكرها أصحاب الحديث و تجد تفصيلها في سيرة الائمة من أهل البيت النبوي الطاهرين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:196

(1)

حوادث السنة الرابعة من الهجرة 33

فاجعة فريق المبلّغين «1»

اشارة

لقد ظهرت الآثار السياسية لنكسة المسلمين في معركة «احد» بصورة واضحة بعد الحرب.

فمع أن المسلمين أظهروا مقاومة رائعة أمام العدوّ المنتصر و منعوا من رجعته الى المدينة و تحقيق أهدافه الخطيرة في استئصال المسلمين إلا أن التحريكات الداخليّة و الخارجية ضدّ الاسلام بهدف القضاء على هذا الدين، و رجاله قد تصاعد مدّها في أعقاب حادثة «احد».

و قد تجرّأ منافقو المدينة، و يهودها و المشركون المتواجدون في شتى النقاط البعيدة خارج المدينة على أثر ذلك، و بدءوا يحيكون المؤامرات ضدّ الاسلام و المسلمين و يجمعون الاسلحة و الرجال لشن الحروب و الغارات على المدينة.

(2) و قد استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بمهارة كبيرة إطفاء كلّ تلك التحريكات، كما و استطاع قمع تحرّكات القبائل القاطنة خارج المدينة التي كانت تنوي الهجوم على المدينة و ذلك بارسال السرايا و المجموعات القوية من المجاهدين.

و في هذا الاثناء بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نبأ مفاده أن قبيلة بني أسد تنوي الهجوم على المدينة و تسخيرها، و قتل المسلمين، و نهب أموالهم، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من فوره جماعة من المقاتلين يبلغ عددهم (150)

______________________________

(1) وقعت حادثة قتل المبلّغين في الشهر السادس.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:197

رجلا بقيادة «أبي سلمة»

الى منطقة تجمع المتآمرين.

ثم إنه صلّى اللّه عليه و آله أوصاهم بأن يخفوا مقصدهم الأصلي، و يسلكوا طريقا آخر غير الطريق المتعارف، و يقيموا نهارا و يسيروا ليلا، ليعمّوا على القوم.

و قد فعل «أبو سلمة» و جماعته ما أوصاهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكانوا يسيرون الليل، و يكتمون النهار، حتى وردوا المنطقة فاحاطوا ببني أسد في عماية الصبح، و قضوا على المؤامرة في مهدها، و عادوا غانمين موفورين إلى المدينة، و قد وقعت هذه الحادثة في شهر المحرّم على رأس خمسة و ثلاثين شهرا من الهجرة «1».

(1)

خطة ما كرة للفتك بالمبلّغين:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقوم بافشال بارسال السرايا و المجموعات العسكرية جميع مؤامرات المتآمرين ضد الاسلام، كما أنه كان يقوم الى جانب ذلك ببعث المجموعات التبليغية الى القبائل، و الجماعات و بذلك يجلب قلوب المحايدين منهم نحو العقائد الاسلامية.

و كان المبلّغون و الدعاة الذين كانوا من قراء القرآن الكريم، و من الملمين بالاحكام الاسلامية و التعاليم النبوية يبدون استعدادا عجيبا للقيام بهذه المهمّة الصعبة و لو كلّفت حياتهم فكانوا ينقلون تعاليم الاسلام إلى الناس في المناطق النائية، و الاماكن البعيدة بأوضح بيان و أوضح اسلوب.

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ببعثه للمجموعات العسكرية من جانب، و ارساله للفرق التبليغية من جانب آخر يقوم- في الحقيقة- بوظيفتين هامتين من وظائف المنصب النبوي.

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 340، و امتاع الاسماع: ج 1 ص 170، و لا بدّ أنك أيها القارئ الكريم تتذكر أن السنة الثالثة للهجرة تنتهي عند انتهاء الشهر الرابع و الثلاثين، و تكون حوادث الشهر الخامس و الثلاثين متعلقة بالسنة الرابعة من الهجرة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:198

(1)

فهو ببعثه للسرايا و المجموعات العسكرية كان يقصد في الحقيقة القضاء على محاولات التمرّد، و التآمر التي كانت في مرحلة التحقق و التكوّن لكي يتسنى للمجموعات التبليغية في ظل الأمن و الحرية الدعوة إلى الاسلام، و القيام بوظيفتها الاساسية ألا و هي ارساء دعائم الحكومة الاسلامية في القلوب، و تنوير الافكار، و ايقاظ العقول.

و لكن بعض القبائل المتوحّشة، و المنحطّة أخلاقيا و فكريّا كانت تتحايل على المجموعات التبليغية التي كانت تمثل القوى المعنوية للاسلام، و التي لم يكن لها هدف سوى نشر التوحيد، و اقتلاع جذور الكفر و الوثنية، و كانوا يقتلونهم بصورة فضيعة و مفجعة.

و فيما يلي نلفت نظر القارئ الكريم إلى قصة مجموعة من الدعاة و المبلّغين الذين لقوا هذا المصير و كان عددهم يبلغ ستة أشخاص حسب رواية ابن هشام «1»، أو عشرة أشخاص حسب رواية ابن سعد «2».

(2)

الغدر بالدعاة الى الإسلام و قتلهم:

لقد مشت جماعة من قبيلتي «عضل» و «القارة» إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا- و هم يضمرون المكر- يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إن فينا إسلاما فاشيا فابعث معنا نفرا من أصحابنا يقرءوننا القرآن، و يفقهوننا في الاسلام.

فرأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن من واجبه الاستجابة لمطلب تلك الجماعة التي كانت تمثل قبائل كبرى، و كما رأى المسلمون أيضا أن من واجبهم أن يستفيدوا من هذه الفرصة مهما كلّف الثمن.

من هنا بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جماعة بقيادة «مرثد بن أبي مرثد

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 169، و قال في امتاع الاسماع: ج 1 ص 174 انهم سبعة اشخاص.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 55.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:199

الغنويّ» مع تلك

الجماعة إلى القبائل المذكورة.

(1) فخرج هؤلاء المبلغون و وفد القبيلتين من المدينة متوجّهين الى حيث تتواجد «عضل» و «قارة»، و لمّا كانوا بماء يسمى الرجيع تقطن عنده قبيلة تدعى «هذيل» كشف مندوبو القبيلتين عن نواياهم الشرّيرة، و استصرخوا هذيلا و كمينا من رجالهم، و كانوا مائة رام و بأيديهم السيوف فاحاطوا بالدعاة يريدون أسرهم ثم قتلهم و ابادتهم!!

فلم ير المبلّغون بدّا- و هم محاطون بتلك الجماعات المسلحة- من اللجوء الى سيوفهم و الدفاع عن أنفسهم.

و لكن العدوّ قال: ما نريد قتالكم، و ما نريد إلّا ان نصيب منكم من أهل مكة ثمنا، و لكم عهد اللّه و ميثاقه لا نقتلكم!!

(2) فنظر الدعاة بعضهم الى بعض، و قرر أكثرهم المقاومة و عدم الرضوخ لهذا العرض الغادر، و الخطة الماكرة، و قال أحدهم: إني نذرت أن لا أقبل جوار مشرك «1» ثم جعلوا يقاتلون القوم قتال الرجال الابطال، حتى قتلوا إلّا ثلاث هم: «زيد بن دثنّة»، و «خبيب بن عديّ»، و «عبد اللّه بن طارق البلويّ» فقد أغمد هؤلاء سيوفهم و سلّموا، فأخذوا و وثّقوا بأوتار قسيّهم، و لكن «عبد اللّه» ندم على فعله، فنزع يده من رباطه ثم أخذ سيفه، و راح يقاتلهم حتى قتلوه رميا بالحجارة، و قد انحازوا عنه و هو يشدّ فيهم و ينفرجون عنه، و دفن في مر الظهران.

ثم أخذوا الأسيرين الآخرين «خبيب» و «زيد» و قدموا بهما مكة فباعوهما لأهل مكة!!

فأمّا زيد بن الدثنّة فقد اشتراه «صفوان بن أميّة» و قتله ثأرا لابيه، و لقتله قصة عجيبة سطر فيها أروع آيات المقاومة و الوفاء و الاخلاص.

(3) فقد اشتراه «صفوان بن أميّة» كما أسلفنا ليقتله بأبيه، و قد حبسه صفوان في الحديد،

و كان يتهجّد بالليل و يصوم بالنهار، و لا يأكل شيئا مما اتى به من

______________________________

(1) أو قالوا: و اللّه لا نقبل من مشرك عهدا و لا عقدا أبدا (السيرة النبوية: ج 2 ص 170).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:200

الذبائح، و هو في الاسر و الحبس.

ثم إنه اخرج إلى «التنعيم» «1» ليصلب على مرأى حشد كبير من الناس.

فرفعوا له جذعا، فقال: دعوني أصلّي ركعتين، فصلّى ركعتين، ثم حملوه على الخشبة ثم جعلوا يقولون له: يا زيد ارجع عن دينك المحدث، و اتّبع ديننا، و نرسلك فيقول: و اللّه لا افارق ديني أبدا.

(1) فقال له أبو سفيان فرعون مكة و أشدّ المتآمرين على الاسلام و مدبر أغلب الحروب ضد رسول اللّه، و المسلمين: أنشدك باللّه يا زيد أ يسرّك أن محمّدا في أيدينا مكانك و أنت في بيتك؟. فقال زيد بشجاعة و وفاء عظيمين: ما يسرّني أنّ محمّدا اشيك بشوكة و اني في بيتي، و جالس في أهلي!!!

و قد كان لهذه الكلمة أثر الصاعقة في نفس طاغية مكة أبي سفيان فقال:

ما رأينا أصحاب رجل قطّ أشدّ حبّا من أصحاب محمّد بمحمّد!!

و لم تمض لحظات إلّا و صار «زيد» على خشبة الاعدام و طارت روحه الى خالقها، و مضى ذلك المسلم الوفيّ، و المؤمن الشجاع شهيد الثبات في طريق العقيدة، و الدفاع عن حياض الدين «2».

(2) و اما «خبيب» فقد حبس مدة من الزمان حتى قرّر ندوة مكة قتله، فخرجوا به الى التنعيم ليصلبوه و خرج معه النساء و الصبيان و العبيد و جماعة من أهل مكة، فقال لهم: إن رأيتم ان تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، فقالوا دونك فاركع.

فركع ركعتين أتمّهما و أحسنهما ثم اقبل على القوم و قال: أما

و اللّه لو لا أن تظنّوا أنّي إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة!!

ثم رفعوه على خشبة ثم وجّهوه الى المدينة، و أوثقوه رباطا، ثم قالوا له: ارجع عن الاسلام، نخلّ سبيلك.

______________________________

(1) التنعيم ابتداء الحرم و منها يحرم المعتمرون للعمرة المفردة.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 172، المغازي: ج 2 ص 362، امتاع الاسماع: ج 1 ص 174 و 175.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:201

قال: لا و اللّه ما أحبّ أنّي رجعت عن الاسلام و أنّ لي ما في الأرض جميعا.

فقالوا: أمّا و اللات و العزّى لئن لم تفعل لنقتلنّك!

فقال: إن قتلي في اللّه لقليل، فلمّا أبى عليهم و قد جعلوا وجهه من حيث جاء (أي نحو المدينة)، قال: أما صرفكم وجهي عن القبلة، فان اللّه يقول:

«فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» ثم قال: اللهم إني لا أرى إلّا وجه عدوّ، اللهم أنه ليس هاهنا أحد يبلّغ رسولك السلام عنّي فبلّغه أنت عنّي السلام.

ثم دعا على القوم و قال: اللّهم أحصهم عددا و اقتلهم بددا، و لا تغادر منهم أحدا.

ثم دعوا أبناء من أبناء من قتل ببدر فوجدوهم أربعين غلاما، فأعطوا كل غلام رمحا، ثمّ قالوا هذا الّذي قتل آباءكم، فطعنوه برماحهم طعنا خفيفا فاضطرب على الخشبة فانقلب، فصار وجهه الى الكعبة، فقال: الحمد للّه الّذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه و لنبيه و للمؤمنين!!

(1) فأثارت روحانيته الكبرى، و طمأنينته العظيمة غيض أحد المشركين الحاضرين، و هو «عقبه بن الحارث» و تملكه غضب شديد من إخلاصه للاسلام فأخذ حربته و طعن بها خبيبا طعنة قاضية، قتلته، و هو يوحّد اللّه و يشهد أن محمّدا رسول اللّه.

و يروي ابن هشام أن خبيبا أنشد قبل مقتله أبياتا عظيمة

نذكر هنا بعضها:

إلى اللّه أشكو غربتي ثمّ كربتي و ما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

فذا العرش صبّرني على ما يراد بي فقد بضّعوا لحمي و قد ياس مطمعي

و ذلك في ذات الاله و أن يشأيبارك على أوصال شلو ممزّع

و قد خيّروني الكفر و الموت دونه و قد هملت عيناي من غير مجزع

و ما بي حذار الموت أني لميّت و لكن حذاري جحم نار ملفّع

فو اللّه ما أرجو إذا متّ مسلماعلى أي جنب كان في اللّه مصرعي

فلست بمبد للعدوّ تخشعاو لا جزعا إنّي إلى اللّه مرجعي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:202

و قد أحزنت هذه الحادثة الاليمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كذا جميع المسلمين.

(1) و أنشد فيهم «حسان بن ثابت» أبياتا ذكرها ابن هشام في سيرته، كما أنه هجا هذيلا في أبيات اخرى لارتكابهم هذه الجريمة النكراء «1».

و لقد خشي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن تتكرر مثل هذه الجريمة النكراء، و بذلك يواجه رجال التبليغ و الدعوة الذين كان يعدهم بصعوبة بالغة مصاعب في سبيلهم، و يتعرضوا لخسائر لا تجبر، و عمليات غدر و اغتيال اخرى.

و قد بقي جثمان هذا المسلم المجاهد على الخشبة مدة من الزمن، يحرسه جماعة من المشركين حتى قام رجلان قويّان شجاعان من المسلمين بانزاله من فوق الصليب ليلا، و من ثم دفنه بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «2».

(2)

جريمة بئر معونة:

و في شهر صفر من السنة الرابعة و قبل أن يصل نبا مصرع الدعاة المذكورين و استشهادهم على أيدي المشركين في منطقة الرجيع الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قدم أبو براء العامري المدينة فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى الاسلام فلم يسلم و لكنّه قال

للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يا محمّد إني ارى أمرك حسنا، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل «نجد» فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فان هم اتبعوك فما أعز أمرك.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي اخشى عليهم أهل نجد.

قال أبو براء: لا تخف، أنا لهم جار، فابعثهم فليدعو الناس الى أمرك.

(3) فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعين رجلا من خيار المسلمين من أصحابه ممن حفظوا القرآن و عرفوا احكام الاسلام، و أمّر عليهم «المنذر بن

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 354- 362، السيرة النبوية: ج 2 ص 169.

(2) سفينة البحار: ج 1 ص 372.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:203

عمرو»، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة و هي بين أرض بني عامر و حرّة بني سليم و هم يحملون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتابا إلى عامر بن الطفيل أحد زعماء «نجد»، و كلّف أحد المسلمين بايصال ذلك الكتاب إلى عامر، فلما أتاه الكتاب لم ينظر فيه حتى عدا على الرجل (حامل الكتاب) فقتله، ثم استصرخ بني عامر على المبلّغين، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، و قالوا: لن ننقض عهد أبي براء، و قد عقد لهم عقدا و جوارا.

(1) فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى نزلوا حيث نزل جماعة الدعاة، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم بعد أن أبدوا مقاومة كبرى، و بسالة عظيمة، و لم يكن يتوقع منهم غير ذلك.

فانّ مبعوثي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكونوا مجرد رجال فكر و علم فقط، بل كانوا رجال حروب، و أبطال معارك، و لذا

رفضوا الاستسلام للمعتدين، و اعتبروا ذلك عارا لا يليق بالمسلم الحرّ الأبيّ، فقاتلوهم حتى استشهدوا جميعا، إلّا كعب بن زيد، فانه جرح فعاد بجراحه الى المدينة، و أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما جرى لأصحابه على أيدي قبائل بني سليم المشركة الغدرة.

فحزن رسول اللّه و المسلمون جميعا لهاتين الحادثتين، المفجعتين اشد الحزن بل و لم يجد على قتلى مثل ما وجد عليهم، و بقي رسول اللّه يذكر شهداء بئر معونة ردحا من الزمان «1»

هذا و لقد كانت هاتان الحادثتان المؤسفتان المؤلمتان جميعا من نتائج النكسة التي أصابت المسلمين في «احد» و التي جرّأت القبائل خارج المدينة على قتل رجال المسلمين و دعاتهم غدرا و مكرا.

(2)

كيد المستشرقين و جفاؤهم:

إن المستشرقين الذين دأبوا على نقد أبسط سوء يتعرض له مشرك على أيدي

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 183- 187 امتاع الاسماع: ج 1 ص 170- 173.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:204

المسلمين فينالون من الاسلام و المسلمين أشدّ نيل، و يصرّون على أن يؤكّدوا على أن الاسلام لم ينتشر إلّا بالسيف و القهر، التزموا صمتا عجيبا تجاه هاتين الحادثتين المؤلمتين المفجعتين، و لم ينبسوا في هذا المقام ببنت شفة أبدا، و كأن شيئا من هذا لم يقع، و كأن ما وقع لا يستأهل اهتماما و حديثا.

ترى أيّ نظام من أنظمة العالم القديم و الجديد يجيز أن يقتل الدعاة و المبشرون و رجال العلم و الفكر، و التعليم و التثقيف.

إذا كان الاسلام قد تقدّم بالسيف- كما يدّعي رجال الاستشراق- فلما ذا تخاطر جماعات التبليغ و الدعوة هذه بأنفسها و تزهق أرواحها في سبيل نشر الاسلام، و الدعوة السلمية الفكرية إليه.

إنّ هاتين الحادثتين تنطويان على نقاط حيوية، و عبر مفيدة جدا، فان

قوة الايمان لدى تلك الجماعات، و عمق تفانيها، و تضحيتها، و بسالتها تستحق إعجاب المسلمين، و اكبارهم. كما و تعتبر من أفضل الدروس و ابلغها لهم.

(1)

المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين:

لقد أثارت حادثتا «الرجيع» و «بئر معونة» المفجعتان اللتان جرتا إلى مصرع مجموعة كبيرة من خيرة الدعاة و المبلّغين موجة من الحزن و الأسى في المسلمين و تركت أثرا مؤلما في أوساطهم.

و هنا يتساءل القارئ: لما ذا أقدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على إرسال المجموعة الثانية من المبلّغين الى «نجد» مع أنه حصل على تجربة مرّة؟! أ لم يقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين».

إن الإجابة على هذا السؤال تتضح من خلال مراجعة النصوص التاريخية لأن المجموعة الثانية قد بعثت في جوار من أبي براء (عامر بن مالك بن جعفر) و الذي كان رئيسا لقبيلة بني عامر، و لم تفعل قبيلته ما خالف جوار رئيسهم و لم يشتركوا في تلك الجريمة و قد بقي أبو براء نفسه في المدينة تأكيدا لجواره، ريثما

سيد المرسلين ،ج 2،ص:205

يرجع فريق التبليغ إلى المدينة.

(1) لقد كانت خطة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطة مدروسة و صحيحة لأن جماعة المبلّغين الثانية لم تقتل على يد قبيلة أبي براء، و مع أن ابن أخيه عامر بن الطفيل قد استصرخ قبيلة أبي براء التي كانت قبيلته أيضا، ضدّ جماعة المبلّغين إلّا أن قبيلة أبي براء أبت أن تنفر معه، و لم يستجب لندائه أحد منهم بل قالوا:

لن يخفر جوار أبي براء. و لما أيس منهم استصرخ قبيلة اخرى لا تمتّ إلى قبيلة أبي براء بصلة، فاقدمت تلك القبائل على محاصرة الدعاة الأربعين و مقاتلتهم.

ثم إن جماعة المبلّغين المذكورة

كانت قد بعثت عند مغادرتها المدينة و توجهها الى منطقة أبي براء رجلين من رجالها هما: عمرو بن أميّة و «حارث بن الصمة» «1» ليرعيا إبل الجماعة و يحافظا عليها، و بينما كان الرجلان يقومان بواجبهما اذ أغار عليهما «عامر بن الطفيل». فقتل حارث بن الصمة، و اطلق سراح عمرو بن اميّة.

(2) فعاد عامر الى المدينة، في اثناء الطريق التقى رجلين من العامريين فرافقهما و أمهلهما حتى اذا ناما وثب عليهما فقتلهما، و هو يرى بأنه انتقم لزملائه من المسلمين من بني عامر، و قد أخطأ في تصوره هذا لأن بني عامر لم تخفر جوار سيدها أبي براء و لم تنقض أمانة كما أسلفنا، و لم يشترك في جريمة قتل الدعاة الأربعين.

فلما قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره الخبر، حزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لذلك و قال لعمرو:

«بئس ما صنعت، قتلت رجلين كان لهما مني أمان و جوار، لا دفعن ديتهما».

و لكن الاجابة الاكثر وضوحا على هذا الاعتراض (او السؤال) هو ما يذكره ابن سعد صاحب الطبقات إذ يقول: و جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خبر أهل بئر معونة، و جاءه تلك الليلة أيضا مصاب خبيب بن عديّ و مرثد بن أبي مرثد «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 168 و صاحب السيرة يرى انه المنذر بن محمد.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 52 و 53.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:206

(1)

34 غزوة «بني النضير»

اشارة

لقد فرح منافقو المدينة و يهودها بانتكاسة المسلمين في معركة «أحد» كما فرحوا أيضا بمصرع رجال التبليغ و الدعوة، فرحا بالغا و باتوا يتحيّنون الفرصة لإثارة القلاقل و الفتن في المدينة لإفهام القبائل خارجها بأنه لا

توجد أية وحدة سياسيّة و انسجام اجتماعيّ في مركز الاسلام، و عاصمة الحكومة الاسلامية، و أن في مقدور الأعداء الخارجيين أن يجهزوا على حكومة الاسلام الفتية، و يقضوا عليها بسهولة!!

و لكي يقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على نوايا و دخائل يهود بني النضير مشى في جماعة من أصحابه إلى حصنهم.

على أن الهدف الظاهري المعلن عنه كان هو الاستعانة بهم في دية العامريّين اللذين قتلا خطأ على يد «عمرو بن أميّة» كما أسلفنا، و ذلك بموجب الاتفاقيّة المعقودة بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين اليهود و كذا بني عامر و غيرهم و القاضية بالتعاون معا في تسديد الدية في مثل هذه الموارد.

(2) فلما وصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى حيث يسكن بنو النضير، و كلّمهم في أن يعينوه في تلك الدية، رحبوا به ظاهرا، و وعدوا بأن يلبّوا مطلبه، ثم إنهم خاطبوه قائلين: يا أبا القاسم نعينك على ما احببت. ثم دعوه إلى أن يدخل في بيوتهم، و يقضي يومه فيها، قائلين: قد آن لك أن تزورنا، و أن تأتينا، اجلس حتى نطعمك، فلم يقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بتلبية مطلبهم، بل

سيد المرسلين ،ج 2،ص:207

جلس مستندا الى جدار بيت من بيوتهم و اخذ يكلمهم «1».

(1) ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله احسّ بشرّ من ذلك الترحيب الحارّ الذي قابلته به رجال بني النضير، و الذي رافق حركات مشبوهة منهم!!

هذا مضافا إلى أنه صلّى اللّه عليه و آله شاهدهم و قد خلا بعضهم إلى بعض يتناجون و يتهامسون الأمر الذي يدعو الى الشك، و يورث سوء الظن!!

و قد كان سوء الظن هذا

في محله، فقد قرر سادة يهود- لمّا أتاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رهط قليل من أصحابه- أن يتخلصوا منه باغتياله و الغدر به على حين غفلة منه صلّى اللّه عليه و آله، فانتدبوا أحدهم و هو «عمرو بن جحاش» لتنفيذ هذه الجريمة، و ذلك بأن يعلو على البيت الذي استند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى جداره فيلقى عليه صخرة تقتله.

(2) إلّا أنّ هذه المؤامرة انكشفت- و لحسن الحظ- قبل تنفيذها، إما من خلال حركات اولئك اليهود الخبثاء، المشبوهة، أو بخبر أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من السماء، كما يروي ابن هشام و الواقدي في مؤلفيهما.

فنهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سريعا، كأنه يريد حاجة، و توجه من توّه إلى المدينة دون أن يخبر أصحابه الذين أتوا معه، بقصده.

و بقي أصحابه هناك ينتظرون عودته من حاجته دون جدوى.

و ندمت يهود على ما صنعت، و اضطربت لذلك اضطرابا شديدا، و اصابتها حيرة شديدة فيما يجب أن تقوم به.

فمن جهة خشيت أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد علم بمؤامرتهم و تواطئهم، فيقدم على تأديبهم لنقضهم ميثاق التعايش السلميّ، و لتواطئهم القبيح، و مكرهم السيئ.

(3) و من ناحية اخرى أخذت تفكّر في أن تنتقم من أصحابه الموجودين هنا إن هو فاتهم، و لكنها خشيت أن يؤدي ذلك إلى مزيد من تأزّم الموقف، و ان ينتقم

______________________________

(1) يقول صاحب المغازي: إن النبيّ جاء بني النضير في ناديهم ج 1 ص 364.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:208

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حينئذ منهم قطعا و يقينا.

و فيما هم في هذه الحالة من الاضطراب و التحيّر قرر أصحاب

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله العودة إلى المدينة بعد أن يئسوا من رجعته إليهم من حاجته، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبلوا حتى انتهوا إليه صلّى اللّه عليه و آله و عرفوا بمؤامرة اليهود إذ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم لما قالوا: يا رسول اللّه قمت و لم نشعر:

«همّت اليهود بالغدر بي، فأخبرني اللّه بذلك فقمت» «1».

(1)

بما ذا يجب أن تقابل هذه الجريمة؟

و الآن ما ذا يجب أن يقوم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تجاه هذه الزمرة الخائنة المتآمرة؟ تلك الزمرة التي تنعم بما وفّرتها لهم الحكومة الاسلامية من أمن و حرية، و يحافظ جنود الاسلام على أنفسهم و أموالهم و أعراضهم، كما يفعلون الفعل ذاته بالنسبة إلى أنفسهم و أموالهم و أعراضهم على حد سواء.

تلك الزمرة التي كانت ترى كل آثار النبوة و دلائلها في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أعماله، و أقواله تماما على نحو ما قرأت عنه في كتبها و أسفارها، و لكنها بدل أن تردّ الجميل بالجميل و تقابل الاحسان بالاحسان، و بدل أن تحسن ضيافته و قد نزل عليهم ضيقا تتآمر لقتله غيلة و غدرا دون ما خجل و لا حياء!!

ما هو ترى ما تقتضيه العدالة في هذا الصعيد و في هذه الحال؟

و ما ذا يجب أن يفعل المرء حتى يمنع من تكرار مثل هذه الحوادث، و يستأصل جذور مثل هذه الجرائم؟

(2) إن الطريق المنطقي هو ما أختاره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فعله.

فقد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسلمين بالتهيّؤ لحربهم، و السير

إليهم،

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 57، امتاع الاسماع: ج 1 ص 178.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:209

ثم دعا محمد بن مسلمة و أمره بأن يذهب إلى بني النضير، و يبلغ سادتهم، من قبله رسالة.

فخرج محمد بن مسلمة الأنصاري الاوسي «1» الى بني النضير و قال لسادتهم:

إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرسلني إليكم يقول:

«قد نقضتم العهد الّذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي.

اخرجوا من بلادي فقد أجّلتكم عشرا فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه».

(1) فأحدثت هذه الرسالة الشديدة اللهجة و الساخنة المضمون انكسارا عجيبا في يهود بني النضير، و أخذوا يتلاومون، و أخذ يحمّل كل واحد منهم الآخر مسئولية هذه القضية.

فاقترح عليهم أحد سادتهم أن يعتنقوا الاسلام، و يؤمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لكن عنادهم منعهم من القبول بهذا الاقتراح. و عمتهم حالة يرثى لها من الحيرة، و الانقطاع، فقالوا لمبعوث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا محمّد ما كنّا نرى أن يأتي بهذا رجل من الاوس.

و يقصدون أنه كان بيننا و بين الأوس حلف فما بالك تريد حربنا الآن.

فقال محمد بن مسلمة: تغيّرت القلوب.

(2) و قد كان هذا الاجراء متطابقا مع ما جاء في ميثاق التعايش الذي عقده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع يهود يثرب ابان دخوله المدينة، و قد وقع عليه عن اليهود بني النضير حيي بن أخطب، و قد نقلنا في ما سبق النصّ الكامل لهذا الميثاق و ها نحن ندرج هنا قسما منه ليتضح ما ذكرناه.

جاء في أحد بنود الميثاق (العهد):

«ألّا يعينوا (أي بنو النضير و بنو قريظة و بنو قينقاع) على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا

على أحد من أصحابه بلسان و لا يد و لا بسلاح و لا بكراع في السرّ و العلانية لا بليل و لا بنهار و اللّه بذلك عليهم شهيد، فان فعلوا فرسول اللّه في حل

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 366.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:210

من سفك دمائهم، و سبي ذراريهم، و نسائهم، و أخذ أموالهم» «1».

(1)

المستشرقون و دموع التماسيح:

لقد أبدى المستشرقون حزنهم و أسفهم لما جرى في هذه القضية، و ذرفوا دموع تماسيح، و أبدوا دقّة و شفقة أكثر مما تبديه والدة تجاه وليدها، على اليهود الخونة الناقضين العهد، الناكثين للايمان، و اعتبروا الإجراء الذي اتخذه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بحقهم بعيدا عن روح الانصاف و سنن العدل!!

و الحق أن هذه الاعتراضات و الانتقادات لا تنبع من منطلق السعي لمعرفة الحقيقة، لأننا عند مراجعتنا لنص الميثاق الذي أدرجناه للقارئ الكريم نرى الحقيقة على غير ما يتصورون و يصورون فاننا نعرف أن الجزاء الذي جازى به رسول اللّه يهود بني النضير هو في الحقيقة أقلّ من الجزاء المنصوص عليه في ذلك الميثاق بدرجات.

إن هناك اليوم مئات الجرائم و المظالم التي يرتكبها أسياد هؤلاء المستشرقين في الشرق و الغرب دون أن يعترض عليها أي واحد من هؤلاء المستشرقين الرحماء، أدعياء الدفاع عن حقوق الانسان!!!

أما عند ما يقوم رسول الاسلام بتنفيذ عقوبة- هي في الحقيقة- اقل بكثير من ما هو منصوص عليه في الميثاق بحق زمرة خائنة متآمرة ناقضة للعهد تتعالى أصوات حفنة من الكتاب المدفوعين بأغراض معينة و دوافع خاصة بالاعتراض، و الانتقاد.

(2)

دور حزب النفاق أيضا:

كان خطر المنافقين- و كما أسلفنا- أكبر من خطر اليهود لأن المنافق يطعن من الخلف و تحت غطاء من الصداقة، و يتستر وراء قناع الصحبة و الزمالة.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 111.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:211

و قد كان رأس هذا الحزب هو «عبد اللّه بن أبي» و «مالك بن أبي» و .. و ..

و لمّا سمع هؤلاء المنافقون بما يلقاه بنو النضير من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرسلوا إليهم من يقول لهم: لا تخرجوا من دياركم و أموالكم،

و أقيموا في حصونكم، فان معي ألفين من قومي و غيرهم من العرب، يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم و تمدكم قريظة فانه لن يخذلونكم، و يمدّكم حلفاؤكم من غطفان؟!

و لقد جرّات هذه الوعود بني النضير، فانصرفوا عن فكرة الرضوخ لمطلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأغلقوا أبواب حصونهم، و أعدّوا عدة الحرب، و عزموا على أن يقاوموا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مهما كلّف الثمن، و لا يسمحوا للمسلمين بأن يسيطروا على بساتينهم و ممتلكاتهم دون عوض.

(1) فنصحهم أحد كبرائهم و هو «سلام بن مشكم» و شكك في وعود عبد اللّه بن أبي، و اعتبرها وعودا جوفاء، و قال: ليس رأي ابن أبيّ بشي ء، فهو و اللّه جلاؤنا من أرضنا، و ذهاب أموالنا، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا.

إلّا أن «حيي بن أخطب» أبي إلّا محاربة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حث الناس على المقاومة و الصمود، و أرسل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

إنا لا نبرح من دارنا و أموالنا فاصنع ما أنت صانع!!

(2) فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برسالة «عبد اللّه بن ابي» إلى بني النضير، و و عوده لهم، فاستخلف ابن أمّ مكتوم على المدينة، و سار صلّى اللّه عليه و آله في أصحابه مكبّرا لمحاصرة بني النضير فصلّى صلاة العصر بفضائهم و استقر في الطريق بين «بني النضير» و بين «بني قريظة» ليقطع بذلك سبيل الاتصال بين هذين الفريقين، و حاصر بني النضير ست ليال- حسب رواية ابن هشام- «1» أو خمسة عشر يوما حسب روايات آخرين، و لكن اليهود تحصنوا منه في الحصون، و

أظهروا المقاومة، و الإصرار على الامتناع، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 191، و هذا من التكتيكات العسكرية التي كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يستعملها ليقطع خطوط الارتباط بين الجماعات المتعاونة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:212

بقطع النخيل المحيطة بتلك الحصون، و إلقاء النار لييأس اليهود من البقاء في تلك المنطقة ما دامت بساتينهم أعدمت، و افنيت.

(1) فتعالت نداءات اليهود تقول: يا محمّد، قد كنت تنهى عن الفساد، و تعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل و تحريقها؟!

فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله:

«ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ» «1».

هذا من جهة و من جهة اخرى خذلهم عبد اللّه بن أبيّ، فلم يأتوهم، كما اعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاح و لا رجال.

و قد ذكر القرآن الكريم هذا الخذلان إذ قال تعالى:

«أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» «2».

و قد كشفت الآيات الحاضرة- إلى جانب ما ذكر- عن نفسية اليهود الجبانة، و التي انهارت أيضا بسبب معنويات المسلمين القوية حتى أنهم رغم اجتماعهم و عددهم الكبير يخافون من مواجهة المسلمين فلا يقاتلونهم إلّا من وراء

أسوار الحصون، و جدران القلاع القوية خائفين مذعورين، و مرعوبين، و هم الى جانب كل ذلك يعانون من اضطراب و قلق و تفرق كلمة في الواقع.

و أخيرا رضخ اليهود لمطلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سألوه أن يجليهم، و يكفّ عن دمائهم على أن يكون لهم ما حملت الابل من أموالهم إلّا السلاح

______________________________

(1) الحشر: 5.

(2) الحشر: 11- 14.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:213

و الدروع، فرضي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك.

فاحتملوا من أموالهم أكبر قدر ممكن، حتى أن الرجل منهم يقلع باب بيته فيضعه على ظهر بعيره، ثم يخرب بيته بيديه!!

فخرج جماعة منهم إلى خيبر، و سارت جماعة اخرى منهم الى الشام.

و قد خرجت تلك الزمرة الذليلة المسكينة و هم يضربون بالدفوف، و يزمّرون بالمزامير، و قد البسوا نساءهم الثياب الراقية، و حليّ الذهب، مظهرين بذلك تجلّدا ليغطوا على هزيمتهم، و يروا المسلمين أنهم غير منزعجين من مغادرتهم تلك الديار!!

(1)

مزارع بني النضير تقسّم بين المهاجرين فقط:

إن ما يغنمه جنود الاسلام دون قتال و هو ما يسمى بالفي ء يعود أمره الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصة يضعه حيث يشاء و يصرفه فيما يرى من مصالح الاسلام لقوله تعالى:

«ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» «1».

و قد رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن من الصالح أن يقسم المزارع و الممتلكات التي غنمها من بني النضير على المهاجرين دون الأنصار، لحرمانهم من ممتلكاتهم و ثروتهم في مكة بسبب الهجرة منها الى المدينة، و كانوا في الحقيقة ضيوفا على الأنصار طوال هذه المدة، و قد أيّد «سعد بن معاذ» و «سعد بن عبادة»

هذا الرأي، و من هنا قسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جميع تلك المزارع و الممتلكات على المهاجرين خاصّة، و لم يصب أحد من الأنصار منها شيئا الا رجلان كانا محتاجين هما: «سهل بن حنيف»، و «أبو دجانة»، الانصاريين و حصل بذلك انفراج في أحوال المسلمين عامة، و أعطى «سعد بن معاذ» سيف

______________________________

(1) الحشر: 7.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:214

رجل من زعماء بني النضير و كان سيفا معروفا.

يقول المقريزي:

فلما غنم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بني النضير بعث ثابت بن قيس بن شماس فدعا الانصار كلّها- الاوس و الخزرج- فحمد للّه و أثنى عليه، و ذكر الانصار و ما صنعوا بالمهاجرين و انزالهم اياهم في منازلهم، و آثرتهم على أنفسهم ثم قال صلّى اللّه عليه و آله:

«ان أحببتم قسمت بينكم و بين المهاجرين ما أفاء اللّه عليّ من بني النضير و كان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم و أموالكم، و ان أحببتم أعطيتهم و خرجوا من دوركم»؟

فقال سعد بن عبادة و سعد بن معاذ: رضينا و سلّمنا يا رسول اللّه.

فقسّم رسول اللّه ما أفاء اللّه عليه، على المهاجرين دون الانصار إلّا رجلين كانا محتاجين .. الخ «1».

و قد وقعت هذه الحادثة في شهر ربيع الأول في السنة الرابعة من الهجرة و نزلت سورة الحشر في هذا الشأن، و التي جاء في مطلعها قوله تعالى:

«هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» «2».

هذا و

يعتقد أكثر المؤرخين المسلمين أنه لم يسفك في هذه الحادثة، أي دم، و لكن المرحوم الشيخ المفيد يكتب في ارشاده: انه وقع ليلة فتح حصون بني النضير قتال محدود قتل فيه عشرة من اليهود و كان ذلك هو السبب في فتح تلكم الحصون «3».

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 182 و 183.

(2) الحشر: 2.

(3) الارشاد: ص 47 و 48.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:215

و قال المقريزي: و فقد علي رضي اللّه عنه في بعض الليالي فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: انه في بعض شأنكم، فعن قليل جاء برأس «عزوك» و قد كمن له حتى خرج في نفر من اليهود يطلب غرّة من المسلمين و كان شجاعا راميا فشدّ عليه علي رضي اللّه عنه، فقتله و فرّ اليهود «1».

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 180.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:216

(1)

35 تحريم الخمر ذات الرقاع، بدر الصغرى

1- تحريم الخمر:

اشارة

كانت الخمور، و على العموم جميع المسكرات و لا تزال من أشد الاوبئة الاجتماعية التي تهدد أمن و سلامة المجتمعات البشرية و تجر إليها أكبر الأخطار و يكفي في خطورة هذا السمّ القاتل أنه يعادي أكبر ما يميّز البشر عن ما سواه من الاحياء، ذلكم هو العقل، فان الخمرة هو العدوّ الأول لهذه الموهبة الالهية التي في سلامتها ضمان سعادة الانسان.

إن الفارق بين الانسان و بين سائر الاحياء هو القوة العاقلة التي يمتلكها الانسان دون غيره، و تكون المسكرات من أعدى أعداء هذه القوة، من هنا كان المنع من تعاطي الخمور و المسكرات من أبرز البرامج التي جاء بها الأنبياء، و كانت الخمور محرمة في جميع الشرائع السماوية «1».

______________________________

(1) عام 1339 هجري زار الدكتور آرشه تونك رئيس منظمة مكافحة الخمور ايران، و قد سرّ لما سمع أن الاسلام يحرم تعاطي

المسكرات.

و قد كان يحبّ أن يلتقي بزعيم المذهب الشيعي يومئذ: (آية اللّه السيد البروجردي) ليتعرف على رأي الاسلام في الخمور و المسكرات، فاصطحبه أحد الدكاترة المعروفين في طهران إلى منزل السيد البروجردي في مدينة «قم»، و بعد الاستئذان تشرف بلقاء السيد، و قد حضر العلامة الطباطبائي في ذلك المجلس و كنت أنا و والدي حاضرين هناك كذلك.

فكان أول سؤال طرحه الدكتور هو: لما ذا حرم الاسلام المسكرات؟

فقال الامام البروجردي: يكفي أن أشير لك من بين العلل الكثيرة إلى علة واحدة و هي أن الخمرة تحطّم العقل الذي به يمتاز الانسان عن سائر الاحياء، و يتميز عليهم. كما اوضحناه اعلاه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:217

(1) و لقد كانت معاقرة الخمور من الآفات التي كانت متفشية و متجذرة في المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربيّة بحيث كانت معالجتها تحتاج الى وقت طويل، و اسلوب مدروس، و لم تكن الظروف و الاحوال في ذلك العهد لتسمح بأن يعلن رسول الاسلام عن تحريم الخمر دفعة واحدة و من دون آية مقدمات، و ممهّدات لذلك، بل كان يتحتم عليه أن يعالج هذا الوباء الاجتماعيّ من خلال إعداد الناس لمرحلة التحريم النهائي و القطعي تماما كما يفعل الطبيب بالنسبة إلى المرضى الذين طال بهم المرض، و تجذر.

من هنا حرّمت الخمر في أربع مراحل تدريجية ضمن آيات أربع أظهرت الاستياء من الخمر لكن لا على نمط واحد، بل بدأت من مرحلة مخفّفة حتى انتهت إلى مرحلة الاعلان عن التحريم القطعي.

(2) إنّ التمعن في هذه الآيات تكشف لنا عن كيفيّة الاسلوب النبويّ في التبليغ و الإرشاد، و الدعوة و الهداية، و ينبغي للخطباء، و الكتاب أن يتبعوا هذا الاسلوب المؤثر و المفيد في معالجة الأدواء الاجتماعية

المزمنة، و يكافحها بهذا الشكل حتى يحصلوا على أفضل النتائج.

إن الشرط الاساسي لمكافحة ناجحة لأيّ خلق و سلوك فاسد هو إيقاظ المجتمع و إيقافه أوّلا على أضرار ذلك السلوك، و مفاسده، و تذكيره بآثاره السيئة ليحصل لدى المجتمع- بذلك- الاستعداد الروحي بل و الدافع الباطني إلى خوض معركة أساسية و جذرية ضدّ ذلك السلوك الفاسد، و الخلق الذميم، و يكون الناس هم الضمانة لا نجاح هذه المهمة. و ذلك لأن ردّ المعتاد عن عادته كالمعجز كما في الحديث الشريف «1».

كيف و العرب كانوا يعشقون الخمرة حتى أن الرجل منهم ربما كان يوصي بأن يدفن الى جنب كرمة لتسقى عظامه بالخمر.

يقول أحدهم:

______________________________

(1) مفاتيح الغيب: ج 2 ص 263.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:218 اذا مت فادفني الى جنب كرمةتروّي عظامي بعد موتي عروقها «1» من هنا اعتبر القرآن الكريم اتخاذ الخمر من التمور و الاعناب- في مجتمع كان تعاطي الخمر جزء أساسيا من حياته- مخالفا للرزق الحسن، و بذلك ايقظ العقول العافية، إذ قال:

«وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً» «2».

(1) إنّ القرآن أعلن- في المرحلة الاولى من مراحل النهي عن تعاطي الخمر- أن اتخاذ المسكر من التمر و العنب لا يعد من الارتزاق الحسن بل الارتزاق الحسن هو تناول التمر و العنب على حالتهما الطبيعية.

إن هذه الآية: أعطت هزة ذكيّة للعقول و هيّأت الطبائع المنحرفة لمرحلة أقوى في مسيرة تحريم الخمر حتى يتسنى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يشدد من نبرته، و يعلن عن طريق آية اخرى أنّ النفع المادي القليل، الذي تعود به الخمر و يأتي به القمار، ليس بشي ء بالقياس الى أضرارهما الكبرى و أخطارهما العظيمة، و قد

تم الكشف عن هذه الحقيقة في قوله تعالى:

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» «3».

(2) و لا ريب أن مجرد المقارنة بين النفع و الضرر، و كذا الوقوف على زيادة الضرر على النفع كاف لايجاد النفور و الاشمئزاز لدى العقلاء، و الداعين من الخمر و ما شاكلها، و شابهها.

إلّا أن جماهير الناس و عامتهم لن يقلعوا عن هذه العادة الشريرة المتجذرة ما لم يسمعوا نهيا صريحا و قاطعا عنها.

فها هو عبد الرحمن بن عوف رغم نزول هذه الآية قد استضاف جماعة من الصحابة و أحضر على المائدة خمرا، فأكلوا، و شربوا الخمر، ثم قاموا الى الصلاة، فأخطأ أحدهم في القراءة و هو سكران خطأ غيّر من مراد اللّه تعالى في ما قرأ من

______________________________

(1) أي ما يسكر.

(2) النحل: 67.

(3) البقرة: 219.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:219

الآية، فقد تلا سورة «الكافرون»، و بدل أن يقول: «لا أعبد ما تعبدون» قرأ:

«أعبد ما تعبدون». فاضطربت تلك الجماعة لهذا الأمر، و خشيت أن تكون ارتكبت بذلك أمرا عظيما!!

(1) و قد هيّأ هذا الحادث الناس ليحرّم تعاطي الخمر في ظروف و حالات خاصة على الاقل.

من هنا جاء الاعلان عن حرمة تعاطي الخمر قبل الصلاة، و أعلن القرآن الكريم بصراحة أنه لا يجوز لمسلم أن يصلّي في حالة السكر، و قد أعلن عن هذا التشريع الالهيّ في قول اللّه تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» «1».

و لقد بلغ من تأثير هذه الآية، و فاعليتها أن هجر جماعة من المسلمين تعاطي الخمر بالمرّة بحجة أن ما يضرّ بالصلاة يجب ان يطرد من حياة المسلم نهائيا.

و لكن البعض بقي

يتعاطاها حتى أنّ رجلا من الأنصار دعا جماعة الى مائدة أحضر فيها الخمر- رغم نزول الآية الحاضرة- فلما شربوا و أسكروا حمل بعضهم على بعض، و جرح بعضهم بعضا فشكوا أمرهم إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان الخليفة الثاني لم يزل يشرب الخمر إلى ذلك معتقدا عدم كفاية الآية الحاضرة في التحريم القطعيّ لها و لهذا رفع يديه إلى السماء و قال: اللّهم بيّن لنا بيانا شافيا في الخمر.

(2) و لا يخفى أن هذه الحوادث و الوقائع المؤسفة قد هيّأت الارضية بشكل رائع لتقبّل مسألة تحريم الخمر تحريما كاملا و قاطعا، من هنا نزل قوله تعالى يعلن عن هذه الحرمة القطعية:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «2».

______________________________

(1) النساء: 43.

(2) المائدة: 90.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:220

و قد دفع هذا البيان البليغ القاطع أن يقلع عن الخمر نهائيا من كان يشربها حتى تلك الساعة بحجة عدم وجود نهي صريح و قاطع عنها.

و قد جاء في كتب السنة و الشيعة أن الخليفة الثاني قال بعد سماع هذه الآية: انتهينا يا ربّ «1»!!

(1)

وقفة عند «البيان الشافي»:

قلنا إن الخليفة الثاني لم يقتنع بعد سماع الآيات الثلاث بحرمة الخمر، بل بقي ينتظر بيانا شافيا يكشف عن التحريم القطعي، حتى اقنعته الآية الرابعة بحرمة الخمور و المسكرات، و قد كان حكم اللّه تعالى في هذه الآية هو: أنّ الخمر «رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون» و لكن المتغربين، و هواة المادية الغربية في عصرنا لم تقنعهم كل هذه الآيات بحرمة الخمر، حتى الآية الرابعة الصريحة في هذا الأمر، فيقولون لا بدّ أن يعلن عن هذا التحريم بلفظة:

حرام أو حرّمت،

و الّا لم يمكن القطع بحرمة الخمر!!

إن هذه الزمرة التابعة لأهوائها، الأسيرة لشهواتها الحرام، لا تريد في الحقيقة إلّا أن تظل عاكفة على الخمر أبدا، و من هنا تطرح مثل المعاذير و تتوسل بمثل هذه التحججات الجوفاء.

على أن القرآن الكريم قد استعمل لفظ الحرام بشكل ما في شأن الخمر إذ قال: «و إثمهما أكبر من نفعهما» «2».

و قد حرّم تعالى جميع أنواع الإثم في آية اخرى إذ قال:

«قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ» «3».

و بعبارة اخرى: لقد بين اللّه تعالى في آية اخرى الموضوع، و هو أن الخمر (التي تسمّى إثما أيضا) قد حرّمت.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 4 ص 143، روح المعاني: ج 7 ص 15.

(2) البقرة: 219.

(3) الاعراف: 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:221

فهل ينتظر هواة الغرب بعد هذا البيان الواضح و التحريم الصريح بيانا كافيا شافيا؟!

(1) و في الحقيقة نحن لا نحتاج إلى مثل هذا الاستدلال أبدا فالآيات الأربع المتقدمة التي وصفت الخمر بأنها «رجس» و أنها نظير «الميسر»، و أنها «عمل شيطاني»، مناقض للفلاح، و سبب «للعداوة» و «البغضاء»، قد أعلنت عن حرمتها بصورة واضحة لا إبهام فيها، و لا غموض، و هي بالتالي أقوى بيان لمن تدبّر و أنصف، و تجرّد عن الاهواء و الأغراض المريضة.

و هنا لا بدّ أن نذكّر بنقطة هامة و هي أن النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله استطاع ان يطهّر في هدى هذه الآيات الأربع، بيئته و مجتمعه من أدران هذه العادة الشريرة، و يقوم المؤمنون أنفسهم بتنفيذ هذا الحكم من دون قهر أو إجبار، بينما لم يستطع العالم الغربي رغم كل ما يملك من الإمكانات الماديّة العريضة، و أجهزة الدعاية

الواسعة أن يخطو خطوة ناجحة في هذا الطريق، فقد اخفقت كل خططه، أمام هذا السمّ القاتل، و الفشل الذي أصاب الولايات المتحدة في مكافحة المشروبات الروحية في أعوام 1933- 1935 أمر معروف للجميع، و له قصة عجيبة يمكن أن يقف عليها القارئ الكريم في مصادرها «1».

رواية مختلقة:

و من عجيب الأمر أن يروي بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى:

«و لا تقربوا الصلاة و انتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون» رواية جاء فيها أن امام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام كان ضمن جماعة شربوا الخمر ثم قاموا الى الصلاة فقرأ أمامهم غلطا: «اعبد ما تعبدون» فانزل اللّه تعالى هذه الآية:

«لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ».

نقول إن من العجيب أن تنسب إلى الامام علي عليه السلام مثل هذه

______________________________

(1) راجع ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 80 و غيره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:222

النسبة و هو الطاهر المطهّر بحكم آية التطهّر «1» و هو الذي نشأ و ترعرع في احضان سيد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله الذي كان يتجنب الخمر، حتى قبل نزول النهي الصريح عنها، هذا و علي عليه السلام المعروف بحكمته و فهمه و علمه عارف بما للمسكر من تبعات خطيرة.

نعم من العجيب أن نصدق بأن عليا عليه السلام شرب الخمر، و هناك في الجاهلية (و قبل الاسلام) من حرّم الخمر على نفسه لكونه يذهب بالعقل، و يؤول بالمرء الى ما لا يحمد. سيد المرسلين ج 2 222 رواية مختلقة: ..... ص : 221

ي السيرة الحلبية كان عبد اللّه بن جدعان من جملة من حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أي بعد ما كان مغرما بها و سبب ذلك أنه سكر ليلة فصار

يمدّ يده على ضوء القمر ليمسكه فضحك منه جلساؤه ثم اخبروه بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبدا.

و كان عثمان بن مظعون ممّن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أيضا و قال:

لا أشرب شيئا يذهب عقلي، و يضحك بي من هو أدنى مني، و يحملني على أن انكح كريمتي من لا اريد «2».

و ورد عن الامام محمد الباقر عليه السلام قال: أوحى اللّه تعالى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اني أشكر لجعفر بن أبي طالب عليه السلام أربع خصال.

فدعاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبره فقال: لو لا أن اللّه تبارك و تعالى أخبرك ما أخبرتك:

ما شربت خمرا قط لاني لو شربتها زال عقلي.

و ما كذبت قط لان الكذب ينقص المروة.

و ما زنيت قط لأني خفت إذا عملت عمل بي.

______________________________

(1) الاحزاب: 33، راجع تفاسير الفريقين و مجاميعهم الحديثية.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 130.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:223

و ما عبدت صنما قط لأني علمت أنه لا يضر و لا ينفع.

فضرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على عاتقه و قال: «حق للّه تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة» «1».

نعم هذا هو موقف من هو أقل مرتبة و منزلة من الإمام علي عليه السلام من الخمر، و لو في العهد الجاهلي، و قبل تحريمها في الاسلام.

لكن يد الوضع و الدس أبت إلّا أن تختلق رواية في المقام، فقد جاءت في جامع البيان للطبري روايتان نذكرهما سندا و متنا ليقف القارئ على ما تعانيان من مآخذ:

1- حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان

هو و عبد الرحمن و رجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت:

لا تقربوا الصلاة و انتم سكارى.

2- حدثني المثنى قال حدثنا الحجاج بن المنهال قال حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن عبد اللّه بن حبيب أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما و شرابا فدعا نفرا من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأكلوا و شربوا حتى تملّوا فقدّموا عليا يصلّي بهم المغرب فقرأ: قل يا أيها الكافرون اعبد ما تعبدون و أنتم عابدون ما أعبد و أنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل اللّه تبارك و تعالى هذه الآية: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» «2».

و الروايتان- مضافا إلى ما يرد عليهما من الاشكال- تعانيان من مؤاخذات متعددة أبرزها الاشكال في سندهما، فكلتا الروايتان تنتهيان إلى عطاء بن السائب، و هو مطعون في وثاقته و ديانته، و في حفظه و حديثه، و إليك ما قال عنه أئمة علم الرجال:

______________________________

(1) الدرجات الرفيعة: ص 70 نقلا عن الامالي لابن بابويه.

(2) جامع البيان في تفسير القرآن للطبري: ج 5 ص 61.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:224

قال عنه الذهبي: عطاء بن السائب أحد علماء التابعين، تغيّر بأخرة و ساء حفظه.

قال عنه أحمد: من سمع منه قديما فهو صحيح، و من سمع منه حديثا لم يكن بشي ء.

و قال عنه يحيى بن معين: لا يحتج به.

و قال أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى: حديثه ضعيف.

و قال عنه أبو حاتم: محلّه الصدق قبل أن يخلّط.

و قال النسائي: ثقة في حديثه القديم لكنه تغيّر.

و قال ابن عليّة: قدم علينا عطاء بن السائب البصرة، فكنا نسأله، فكان يتوهّم، فنقول له:

من؟ فيقول: اشياخنا ميسرة، و زاذان، و فلان.

و قال الحميدي، حدثنا سفيان، قال: كنت سمعت من عطاء بن السائب قديما، ثم قدم علينا قدمة فسمعته يحدث ببعض ما كنت سمعت، فخلّط فيه، فاتقيته و اعتزلته.

و اضاف الذهبي: «و من مناكير عطاء ...» «1».

أجل هذا هو عطاء في منظار علماء الرجال، انه سيئ الحفظ، ضعيف مخلّط له مناكير، يتوهّم، تغيّر بأخرة، و قد ظهرت آثار الوهم و سوء الحفظ و التخليط هذا في روايتيه هاتين. فهو تارة يقول أن عليا عليه السلام كان مأموما في هذه القصة (كما في الرواية الاولى) و تارة يقول كان عليه السلام إماما للجماعة.

و هذه الرواية من مناكيره، و أوهامه بلا ريب، إذ كيف يصح أن ينسب إلى رجل لازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الطيّب الطاهر منذ نعومة أظفاره، شرب الخمر، و الائتمام برجل دونه في الفضل، أو إمامته للجماعة و تخليطه في قراءة سورة عظيمة من سور القرآن الكريم؟!

و لنستمع معا إلى ما يقوله إمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام عن

______________________________

(1) ميزان الاعتدال: ج 3 ص 70- 73.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:225

فترة صباه في كنف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانه أفضل ردّ على هذه الرواية و نظائرها: قال عليه السلام:

«قد علمتم موضعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقرابة القريبة، و المنزلة الخصيصة، وضعني في حجره و أنا ولد يضمّني الى صدره، و يكنفني في فراشه، و يمسّني جسده و يشمّني عرفه، و كان يمضغ الشي ء فيلقمنيه و ما وجد لي كذبة في قول، و لا خطلة في فعل، و لقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه و آله من لدن كان

فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم، ليله و نهاره، و لقد كنت اتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، و يأمرني بالاقتداء به» «1».

هذا و أغلب الظن ان الذين اختلقوا هذه الرواية لما وجدوا أمثال هذه القبائح في حياة بعض الصحابة أرادوا ان يساووا بين الامام علي عليه السلام و غيره، فاختلقوا هذه الفرية الوقحة.

و مما يثير الاستغراب أن يقع بعض الكتّاب و المفكّرين المعاصرين في نفس ما وقع القدامى من الخطأ في هذا المجال، و يذكر هاتين الروايتين في تفسيره للقرآن الكريم، مع كل هذه المؤاخذات عليهما حتى في صورة النقل، كما فعل سيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» «2»، إذ ليس كل ما هو مذكور في كتب الاقدمين يصح نقله، و يجوز تكراره. و بخاصة من دون تعليق و تكذيب.

(1)

غزوة ذات الرقاع:

اشارة

قيل إنما سمّيت هذه الغزوة، و هذا الجهاد المقدس بالرقاع، لأنّ المسلمين مرّوا بأرض بقع سود، و بقع بيض كأنها مرقعة برقاع مختلفة.

و ربما قيل لأن الحجارة أوهنت أقدام المجاهدين فكانوا يلفّون على أرجلهم

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة رقم 192.

(2) عند تفسير قوله تعالى: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:226

الخرق، و الرقاع فسمّيت هذه الغزوة بذات الرقاع «1».

و على كل حال فان هذه الغزوة لم تكن ابتدائية تماما مثل بقية الغزوات، بل كانت لإطفاء شرارة كانت على شرف الاشتعال، و الانفجار، و بالضبط جاءت لتقضي على تحركات و استعدادات عدائية كان يقوم بها بنو محارب و بنو ثعلبة و كلاهما من قبائل غطفان.

(1) و قد كان من دأب النبيّ و سياسته أن يبثّ أشخاصا أذكياء إلى المناطق المختلفة

ليأتوا له بالأخبار عن كل ما يستجدّ على ساحة الجزيرة العربية، و في أوساط القبائل.

فأتاه الخبر ذات مرة أن القبيلتين المذكورتين تنويان جمع الاسلحة و الرجال لاجتياح المدينة و غزوها، فسار إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على رأس مجموعة من رجاله و أصحابه حتى نزل نخلا بنجد قريبة من مكان العدو «2».

فدفعت سوابق المسلمين الجهادية، و ما سطروه في المعارك و المواقف من قصص المقاومة و الصمود و البسالة و الاستقامة، و ما حققوه من انتصارات ساحقة حيّرت سكّان الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها.

لقد دفعت كل هذا العدوّ إلى الانسحاب، و اللجوء الى رءوس الجبال، و قد خافوا ألّا يبرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى يستأصلهم.

و قد صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمسلمين في هذه الغزوة صلاة الخوف، التي بيّن اللّه تعالى كيفيتها في سورة النساء الآية 102.

و أغلب الظن أن العدوّ كان في هذه الغزوة قويا في تجهيزاته و قواه، و ان الاوضاع العسكرية قد وصلت الى مرحلة خطيرة مما سبّب الخوف، و لكن الانتصار كان في المآل من نصيب المسلمين.

______________________________

(1) السيرة النبوية، الهوامش: ج 2 ص 204.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 188.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:227

(1)

مواقف خالدة في هذه الغزوة:
اشارة

يروي المؤرخون و المفسرون المسلمون كابن هشام «1» و أمين الاسلام الطبرسي «2» قصصا عجيبة، و حوادث مثيرة للاعجاب وقعت في هذه الغزوة تكشف عن عمق مروءة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع أعدائه، و قد نقلنا نظير هذا في غزوة ذي أمر، من هنا نحجم عن ذكر ذلك في هذه الدراسة رعاية للاختصار، و لكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى القصة التالية التي تكشف عن صمود

المسلمين و اخلاصهم لدينهم.

(2)

الحرّاس الصامدون:

مع أن جيش الاسلام قد عاد الى المدينة من هذه الغزوة من دون قتال و لكنّه أصاب مع ذلك بعض الغنائم، و استراح في شعب في أثناء الطريق، و بات ليلته هناك، ثم كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجلين بحراسة الجيش ليلا يدعيان: «عباد» و «عمار»، فقسم الرجلان الليل بينهما، فنام أحدهما و سهر الآخر يحرس الجيش، و كان الذي سهر أول الليل هو «عباد».

ثم إن رجلا من العدوّ خرج في أثر المسلمين، و كان يقصد أن يريق دما أو يصيب شيئا و يعود الى محله.

و قام «عباد» يصلّي، و أقبل ذلك الرجل يطلب غرّة فلما رأى «عباد» سواده من قريب قال ذلك الرجل في نفسه: نعلم اللّه أنّ هذا لطليعة القوم، و حرسهم ففوّق له سهما و رماه به فأصاب عبادا و لكن عبّادا نزع السهم و وضعه، و ثبت قائما يصلّي فرماه العدوّ بسهم آخر، فأصابه فانتزعه و ثبت قائما فرماه بثالث فنزعه، فلما غلب عليه الدم ركع و سجد، ثم قال لصاحبه: اجلس فقد اصبت، فجلس عمّار، فلمّا رأى الاعرابي أن عمارا قد قام علم أنهما قد علما

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 205- 209.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 103.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:228

به،: فقال عمّار: أي أخي ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به؟!

قال: كنت في سورة أقرأها و هي سورة الكهف، فكرهت أن أقطعها حتى أفرغ منها، و لو لا أني خشيت أن اضيّع ثغرا أمرني به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما انصرفت و لو أتى على نفسي «1».

و هكذا صمد هذا المسلم و استمر في صلاته غير

مبال بما اصابته من السهام.

(1)

بدر الثانية:

اشارة

لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم «احد» نادى: موعدنا و موعدكم بدر الصفراء العام القابل نلتقي فيه فنقتتل.

و لهذا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسلمين بأن يتهيّئوا للدفاع على أنفسهم و قد مر على وقعة «احد» عام واحد.

و كان أبو سفيان الذي كان يرأس قريش آنذاك يواجه في ذلك الوقت مشاكل داخلية مختلفة فكره الخروج الى رسول اللّه في الموعد الذي ضربه لمقاتلة المسلمين، و اتفق أن قدم مكة في تلك الايام «نعيم بن مسعود» الذي كانت بينه و بين أبي سفيان علاقات صداقة خاصة، فجاءه أبو سفيان و قال له: إنّي وعدت محمّدا و أصحابه يوم «احد» أن نلتقي نحن و هو ببدر الصفراء على رأس الحول، و قد جاء ذلك، و لا يصلح أن نخرج إليه العام.

فقال نعيم: ما أقدمني إلّا ما رأيت محمّدا و أصحابه يصنعون من إعداد السلاح و الكراع، و قد تجلّب إليه حلفاء الأوس، فتركت المدينة أمس و هي كالرمّانة.

فزاد ذلك من مخاوف أبي سفيان، و ضاعف من كراهته للخروج الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و تقرر بالتالي أن يعود نعيم إلى المدينة و يحذر المسلمين من الخروج للموعد، و يخذّلهم.

(2) و عاد «نعيم» إلى المدينة، و راح يرعّب أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 208، المغازي: ج 1 ص 397.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:229

و آله و يخوّفهم من الخروج إلى أبي سفيان إلّا أن كلامه لم يترك أي أثر في نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فخرج صلّى اللّه عليه و آله في ألف و خمسمائة مقاتل من أصحابه، و قد

خرجوا ببضائع لهم، و تجارات حتى انتهوا الى «بدر» و قام السوق السنوي هناك فباعوا و اشتروا في موسم بدر و ربحوا كثيرا ثم تفرّق الناس، و لكن النبيّ و أصحابه بقوا هناك ثمانية أيام ينتظرون أبا سفيان و جيشه.

و قد كان هذا الاجراء اجراء عسكريا حكيما و رائعا إذ أظهر قوة النبيّ و عزيمته و قوة أصحابه و عزيمتهم، و لهذا كان له أثر قوي في نفوس الاعداء.

فلما بلغت أنباء خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه الى بدر، لم ير حكّام مكة المشركون بدّا من الخروج إلى بدر حفاظا على ماء الوجه، فخرج أبو سفيان و المشركون بتجهيزات كافية إلى مرّ الظهران، و لكنهم عادوا من منتصف الطريق إلى مكة بحجة الغلاء و القحط، فاعترض صفوان بن اميّة على أبي سفيان و قال: قد و اللّه نهيتك يومئذ أن تعد القوم، و قد اجترءوا علينا، و رأوا انا قد أخلفناهم، و انما خلفنا الضعف عنهم «1».

ولادة السبط الأصغر لرسول اللّه:

(1) و في الثالث من شهر شعبان من هذه السنة (الرابعة من الهجرة) ولد السبط الثاني لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الامام الحسين بن عليّ «2»، كما توفيت «فاطمة بنت أسد» والدة الإمام علي عليه السلام «3».

و في هذا العام بالذات أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زيد بن حارثة أن يتعلم السريانية من اليهود «4».

______________________________

(1) المغازي: ج 1 ص 384- 390، و قد وقعت هذه الحادثة في الشهر الخامس و الاربعين بعد الهجرة.

و تسمى هذه الغزوة «بدر الموعد».

(2) و (3) تاريخ الخميس: ج 1 ص 467.

(4) إمتاع الاسماع: ص 187، تاريخ الخميس: ج 1 ص 464.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:230

(1)

حوادث السنة الخامسة من الهجرة «1»

36 من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

اشارة

تعتبر معركة «الاحزاب»، و قصة بني قريظة، و زواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزينب بنت جحش من أروع الحوادث التاريخية التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة.

و أوّل هذه الحوادث- كما عليه المؤرخون المسلمون- هو زواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمرأة المذكورة.

و قد ذكر القرآن الكريم تفاصيل هذه القضية ضمن الآيات (4، 6، 36، الى 40) من سورة «الاحزاب»، و لا يبقى- حينئذ- مجال لأكاذيب المستشرقين و دسائسهم و مختلقاتهم الواهية.

و نحن هنا ندرس هذه القضية على ضوء أصح المصادر و الينابيع التاريخية الاسلامية التي لم تطلها أيدي العبث و التحريف، و المسخ، و التشويه، ألا و هو القرآن الكريم، ثم بعد ذلك نتحدث حول ما قاله المستشرقون و من لف لفهم،

______________________________

(1) يرى مؤلف كتاب تاريخ الخميس أن هذه الحادثة وقعت في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة و لكن هذا الرأي يبدو غير صحيح من وجهة نظر المحاسبة الاجتماعية، لأن رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله كان منشغلا بغزوة «الاحزاب»، و «بني قريظة» من 24 شهر شوال من السنة الخامسة الى 19 من شهر ذي الحجة من نفس السنة فيكون تحقق مثل هذا الزواج في مثل هذه الظروف أمرا مستبعدا جدا، و اذا كان الزواج من زينب يعدّ من حوادث السنة الخامسة لزم ان يكون قد تحقق قبل الحادثتين المذكورتين، و لهذا عمدنا الى ذكر هذه الحادثة قبل تينيك الواقعتين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:231

و نحى منحاهم في التعامل مع تاريخ السيرة النبوية.

(1)

من هو زيد بن حارثة؟

كان زيد شابا سرقه قطّاع الطرق من الأعراب و هو صغير من قافلة، و باعوه عبدا في سوق عكاظ، و قد اشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، و قد أهدته خديجة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد زواجها منه.

و لقد دفعت سيرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الحسنة، و أخلاقه الفاضلة و سجاياه النبيلة زيدا هذا في أن يحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حبا شديدا، حتى أنه عند ما جاء أبوه الى مكة يبحث عنه، و علم بوجوده عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مشي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و طلب منه أن يعتقه، و يعيده إليه، ليعيده بدوره إلى أمه و يلحقه بأقربائه، فابى زيد إلّا البقاء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فضّل ذلك على المضي مع أبيه، و العودة إلى وطنه، و عشيرته، و قد خيّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المكث عنده أو الرحيل مع أبيه إلى وطنه.

(2) على أن ذلك الانجذاب و الحب كان متبادلا بين زيد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله فكما أن زيدا كان يحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يحب أخلاقه و خصاله، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحب زيدا كذلك لنباهته و أدبه حتى أنه أعتقه و تبنّاه، فكان الناس يدعونه زيد بن محمد بدل زيد بن حارثة، و لكي يتأكد ذلك وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم و قال لقريش:

«يا من حضر اشهدوا أن زيدا هذا ابني» «1».

و قد بقي هذا الحب المتبادل بين زيد، و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أن استشهد هذا المسلم الصادق و المؤمن المجاهد في معركة مؤته، فحزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمصرعه كما حزن لولد من أولاده.

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 2 ص 235 و كذا الاستيعاب و الإصابة مادة: زيد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:232

(1)

زيد يتزوج بابنة عمة النبيّ:

لقد كان من أهداف رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله هو أن يخفف من الفواصل بين طبقات المجتمع و فئاته، و يقارب بينها قدر الامكان، ليعيش البشر جميعا تحت لواء الانسانية و التقوى إخوة متحابّين لا تبعد بعضهم عن بعض مقاييس الثروة و النسب، بل يكون الملاك في التفاضل هو الأخلاق الفاضلة و السجايا الانسانية.

من هنا كان يجب التعجيل في ازالة التقاليد العربية البالية التي كانت تقضي بأن لا يتزوج بنات السادة و الاشراف بأبناء الطبقات الضعيفة و الفقيرة.

و أي وسيلة لضرب هذا التقليد القبيح الظالم و تحقيق المساواة الكاملة أفضل من أن يبدأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تحطيم هذا التقليد بأقربائه و ذويه ليقدّم بذلك درسا عمليا للامة في هذا المجال، فقام بتزويج عتيقه «زيد بن حارثة» من شريفة من

بني هاشم و هي ابنة عمته زينب بنت جحش حفيدة عبد المطلب ليعلم الناس أنه يجب عليهم الاقلاع عن تلك التقاليد الجاهلية الظالمة بسرعة، و يعرفوا أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو أوّل من نفّذ في حق ذويه ما كان يردّده من قوله: «لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى» و «إنّ المؤمن كفؤ المؤمن».

(2) و لأجل تحطيم ذلك التقليد الجاهليّ الخاطئ ذهب رسول اللّه بنفسه إلى منزل زينب، و خطبها لزيد، فلم تبد زينب و أخوها رغبة في هذا الأمر في الوهلة الاولى لأنّ الأفكار الجاهلية كانت لا تزال مترسبة في قلوبهم، و من ناحية اخرى كان الرد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمرا صعبا و لهذا تذرّعا بعبودية «زيد» السابقة و حاولا بذلك التخلّص من مطلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

فلم يلبثا أن نزل قوله تعالى يشجب رد زينب و أخيها لطلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:233

مِنْ أَمْرِهِمْ، وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» «1».

فتلاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليهم فورا فدفع إيمان زينب و أخيها الصادق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهدافه المقدسة إلى أن تبادر زينب إلى الاعلان عن رضاها و رضا أخيها بهذا الزواج، فتزوّجت ابنة شريف قوم «زينب» بعتيق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زيد و بذلك طبّق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله واحدا من أعظم مناهج الاسلام الحيّة، و آدابه الانسانية الرفيعة، و حطّم عمليا واحدة من أقبح السنن الجاهلية،

و أكثرها تخلفا و اجحافا.

(1)

زيد يطلق زوجته:

إلا أن هذا الزواج لم يدم طويلا، فقد آل إلى الطلاق، و الافتراق و يعزى البعض ذلك إلى نفسيّة «زينب» و سلوكها الحاد حيث كانت ربما تذكر لزيد دنوّ حسبه، و علوّ حسبها، و بذلك كانت تمرّ في ذائقته طعم الحياة و تسبب انزعاجه.

و لكن يحتمل أن السبب وراء هذا الطلاق كان هو زيد نفسه، فان تاريخ حياته يشهد بأنه كان يعاني من روح العزلة، و عدم الالفة، فقد اتخذ أزواجا متعددة و طلقهنّ (إلا الاخيرة منهن حيث استشهد عنها و هي في حبالته) فيكون هذه الطلقات المتعددة دليلا على عدم القدرة على الانسجام مع زوجاته، لحالة نفسيّة كان يعاني منها.

و يشهد بذلك أيضا خطاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحادّ، له، فان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا عرف بأن زيدا يبغي طلاق زوجته زينب غضب و قال: «أمسك عليك زوجك و اتّق اللّه» «2».

و لو كان الذنب كلّه ذنب زوجته زينب لما كان يعدّ تطليقها عملا مخالفا للتقوى.

______________________________

(1) الاحزاب: 36.

(2) الاحزاب: 37.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:234

و مهما يكن فقد طلق زيد زينبا و افترقا، ثم تزوج بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد ذلك.

(1)

زواج النبيّ بمطلقة متبناه لابطال سنة جاهلية اخرى:

اشارة

و لكن قبل أن ندرس العلة الاساسية لهذا الزواج لا بد أن نلقي نظرة فاحصة إلى مسألة النسب الذي يعدّ مقوما مهما من مقومات المجتمع الصحيح.

و بعبارة اخرى و أكثر تحديدا لا بد أن ندرس الفرق الجوهري بين الولد الحقيقي، و بين المتبنى.

و توضيحا لهذا الأمر نقول:

كان يوجد في المجتمع العربي الجاهلي أبناء لا يعرف لهم آباء أو لهم آباء معروفون، و كان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه و يدعوه ابنه، و يلحقه بنسبه و تصير له

حقوق البنوة و ملحقاتها.

و لما كان هذا شذوذا عن الاساس الطبيعي للاسرة أبطله الاسلام و ذلك لأن الولد الحقيقي ينتمي إلى أبيه بجذور تكوينية، فالوالد هو- في الحقيقة- المنشأ المادي لوجود ابنه، و يرث الولد من والده و والدته الكثير من صفاتهما الجسمية و الروحية، و بذلك يكون امتدادا طبيعيا لوالديه.

(2) و على أساس هذه الوحدة الطبيعية، و وحدة الدّم يتوارث الآباء و الأبناء، و تترتب أحكام خاصة في مجال الزواج و الطلاق، و التحليل و التحريم.

و بناء على هذا فان مثل هذا الموضوع الذي ينشأ من جذور تكوينية واقعية، لا يوجد أبدا باللفظ و اللسان.

و لهذا قال اللّه سبحانه في الكتاب العزيز في معرض الردّ على من يتصور المتبنّى ولدا حقيقيا لمجرد ادعاء البنوة:

«وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:235

ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» «1».

فلا يكون الابن المتبنى و الولد الحقيقي في صعيد الموضوع سيان أبدا، فكيف في صعيد الاحكام كالتوارث، و الزواج و الطلاق و ما شابه ذلك.

فاذا ورث الولد الحقيقي من ابيه او بالعكس أو حرمت زوجة الولد الحقيقي على أبيه بعد طلاقها من زوجها لا يمكن أن نقول أن الابن المتبني يشبهه و يشترك معه في هذه الاحكام أبدا.

(1) و من المسلم به أنّ مثل هذا التشريك في الحقوق و الشؤون مضافا إلى كونه لا يستند الى أساس معقول و صحيح هو نوع من العبث بعامل النسب، و هو العنصر المهم في المجتمع

السليم الصحيح.

و على هذا الاساس إذا كان التبني بدافع العاطفة أمرا مستحسنا و مقبولا، إلّا أنّه إذا كان بهدف إشراكه في سلسلة من الأحكام الاجتماعية التي هي من شئون الولد الحقيقي و حقوقه يعد أمرا بعيدا و غريبا جدا عن المحاسبات العلمية، و الاسس الموضوعية.

و لقد كان المجتمع العربي- كما اسلفنا- يعدّ الابن بالتبني كالولد الحقيقي دون فرق، و قد كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من جانب اللّه تعالى بأن يقضي على هذا التقليد الجاهلي و السنة الخاطئة باجراء عملي صارخ و ذلك بالتزوج بزينب مطلّقة متبناه «زيد»، و يمحي من حياة المجتمع العربي هذا التقليد القبيح بالعمل الذي يفوق القول، و وضع القانون، في التأثير، و الفاعلية. و لم يكن لهذه الزيجة غير هذا السبب.

(2) لقد كان هذا التقليد أمرا مقدّسا في المجتمع العربي بشكل كبير جدّا بحيث لم يكن أحد ليجرأ على نقضه و مخالفته و التزوج بمطلّقة دعيّه «2» لقبحه في نظر العرب لذلك دعا اللّه سبحانه نبيّه الى القيام بهذا العمل الخطير، إذ قال:

______________________________

(1) الأحزاب: 4 و 5، راجع تفسير الميزان: ج 16 ص 290 و 291.

(2) الدعيّ هو الابن المتبنى و جمعه أدعياء.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:236

«وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» «1».

(1) إن هذا الزواج مضافا إلى كونه استهدف منه تحطيم سنّة جاهليّة مقيتة (سنة عدم الزواج بمطلقة المتبنى)

و اعادة العلاقات العائلية الى وضعها الصحيح يعتبر من أقوى مظاهر المساواة في الإسلام، لأن النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله تزوّج بمطلّقة عتيقه و قد كان مثل هذا العمل مخالفا لشؤون المجتمع يومذاك.

و لقد أثار هذا الاقدام الشجاع موجة من الاعتراض و النقد من جانب المنافقين، و أصحاب العقول الضيّقة، فقد طرحت هذه المسألة في الاوساط و النوادي و أخذوا يشنعون بها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقولون: لقد تزوّج محمّد بمطلّقة دعيّه.

فأنزل اللّه تعالى في الرد على تلكم الافكار و الاقوال الباطلة قوله:

«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» «2».

(2) على أن القرآن لم يكتف بهذا البيان بل امتدح نبيّه الذي نفّذ حكم اللّه بشجاعة كاملة بقوله:

«ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» «3».

و خلاصة المفاد لهاتين الآيتين هي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كغيره من الأنبياء يبلّغ رسالات اللّه و لا يخاف لوم اللائمين، و كيد المنافقين، و إرجاف المرجفين.

______________________________

(1) الأحزاب: 37.

(2) الأحزاب: 40.

(3) الأحزاب: 38 و 39.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:237

هذه هي فلسفة تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزينب بنت جحش مطلّقة دعيّه و متبناه و عتيقه زيد بن حارثة في ضوء القرآن الكريم.

(1)

المستشرقون و قضية تزوّج النبيّ بزينب:

اشارة

إن زواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزينب مطلّقة زيد بن حارثة- كما لاحظت- قضية بسيطة خالية عن أي إبهام أو

غموض.

و لكنّ جماعة من المستشرقين تذرّعوا بها لإغراء البسطاء و من شاكلهم غير الملمّين بالتاريخ الاسلامي و أرادوا بذلك إضعاف إيمان الذين لا يعرفون السيرة النبويّة حقّ المعرفة، فانّنا يجب أن ندرس ما قالوه في هذا المجال، و نكشف للقارئ الكريم عن مواطن الدسّ و التحريف فيه.

و لا يخفى أن الاستعمار البغيض لم يكتف للسيطرة على بلادنا باستخدام القوة العسكرية، و السلاح الاقتصادي بل ربما دخلها متسترا بقناع العلم و التحقيق، فقد سعى- و لم يزل- لفرض أسوأ هيمنة فكرية شاملة و تبعيّة ثقافيّة مقيتة على شعوبنا وفق تخطيط دقيق و مدروس و هذا هو ما يسمّى بالاستعمار الفكري، و الثقافي.

و في الحقيقة فان المستشرق هو طليعة ذلك الاستعمار، بل و جيشه المتقنع بقناع العلم و المعرفة الذي ينفذ إلى أعماق المجتمع، و يتسلسل إلى اوساط المفكرين و المثقفين و ينفث سمومه القاتلة، و يحذر العقول، و يمهّد النفوس للاستعمار السافر، و المكشوف.

(2) و يمكن أن لا يرتضي كثير من الكتّاب و عشّاق القلم و الثقافة في الغرب منطقنا هذا فيعمدوا الى رمينا بالتحجر، و العصبيّة و التخلف و يتصوروا باننا نقول ما نقوله بدافع العصبيّة القومية أو الدينية، و لكنّ كتابات المستشرقين و إخفاءهم المتعمّد و الكثير للحقائق، و تحريفهم و دسّهم المكشوف في تاريخ الاسلام حينا و الخفيّ حينا آخر يشهد بوضوح أنّ دافعهم في كثير ممّا كتبوا ليس حبّ العلم و تحرّي المعرفة، فان أكثر ما كتبوه ممزوج بطائفة من أفكارهم المعادية للاسلام، و لرسول

سيد المرسلين ،ج 2،ص:238

اللّه و المسلمين «1».

(1) و يشهد على هذه النزعة- بجلاء و وضوح- موقفهم من زواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزينب بنت جحش و

ما نسجوه من قضايا خياليّة حول هذه القضية، التي وقعت بهدف إبطال سنة باطلة، فأعطوها صبغة قصص الحب و أساطير الغرام على طريقة القصّاصين و الروائيين و ديدنهم، و عمدوا إلى حكاية تاريخية مختلقة و ضخّموها و نفخوا فيها و نسبوه إلى أطهر إنسان عرفه العالم البشري.

و على كل حال فان أساس هذه الاسطورة عبارات نقلها ابن الأثير «2» و من قبله الطبري «3» و بعض المفسّرين، و هي أنه: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يريد زيدا و على الباب ستر من شعر فرفعته الريح فرآها و هي حاسرة فأعجبته!!!

و لكن المستشرقين بدل أن يتحققوا من سند هذه الأقوال، لم يكتفوا بنص ما ذكره اولئك المؤرّخون و المفسرون، بل الصقوا به الكثير الكثير حتى تحوّلت تلك الجمل العابرة إلى قصة تشبه أقاصيص ألف ليلة و ليلة.

(2) إنّ من المؤكّد أنّ الذين يعرفون سيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الطاهرة يدركون أنّ هذا التاريخ إنّما هو في أصله و فرعه من نسج الخيال، و صنع الأوهام، و انها تخالف ما في صفحات التاريخ النبويّ الوضاءة النقيّة مخالفة كاملة، الى درجة أن علماء معروفين كالفخر الرازي و الآلوسي كذّبوا هذه القصة بشكلها الذي ذكرها ابن الاثير و الطبري بصراحة كاملة و قالوا: إن هذه الرواية رواية باطلة زوّرها و اختلقها أعداء الاسلام، و راجت في كتب المؤلفين المسلمين «4».

فكيف يمكن القول بأنّ هذه القصة و بهذه الكيفية كانت مما يعتقد بصحته

______________________________

(1) للتاكّد الأكثر من هذا الأمر (راجع كتاب المستشرقون).

(2) و (3) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 121، جامع البيان في تفسير القرآن: ج 22 ص 10.

(4) مفاتيح الغيب: ج 25 ص

212، روح المعاني: ج 22 ص 23 و 24.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:239

ابن الأثير، و الطبريّ في حين أن هناك العشرات ممن نقلوا خلافها و برّأوا ساحة النبيّ العظيم صلّى اللّه عليه و آله من هذه المساوئ.

و على أية حال فإننا نشير في الصفحات التالية دلائل اختلاق هذا القسم من التاريخ، و نعتقد أن القضية في واقعها و حقيقتها واضحة جدا، و اغنى من ان ندافع عنها.

و إليك أدلّتنا:

(1) أولا- ان التاريخ المذكور يخالف المصدر الاسلامي الاصيل و هو (القرآن الكريم) لأنّ القرآن بشهادة الآية (37) من سورة الأحزاب تصرّح بأنّ زواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من زينب كان لأجل إبطال سنة جاهلية باطلة و هي السنّة القاضية بأنه لا يحق لأحد أن يتزوج مطلقة دعيّه، خاصة و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعل ذلك بأمر اللّه سبحانه و ليس بدافع من الرغبة الشخصية، و الحب الشخصي، و لم يكذّب ذلك أحد في صدر الاسلام.

فاذا كان ما قاله القرآن الكريم مخالفا للحقيقة لسارع اليهود و النصارى و المنافقون الى نقده و تفنيده، و لأحدثوا ضجة بسبب ذلك، في حين أنّ مثل هذا لم يؤثر من أعداء الاسلام الذين كانوا يتحيّنون الفرص للايقاع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و تلويث سمعته.

(2) ثانيا- أن «زينب بنت جحش» هي تلك المرأة التي اقترحت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الزواج بها قبل أن يتزوج بها «زيد» و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصرّ على ان تتزوج غلامه المعتق زيدا رغم رغبتها في الزواج من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله يحبّ الزواج بها- و هو يعرفها طبعا- لما وجد مانعا من ذلك عند ما طلبت منه الزواج بها، فلما ذا لم يتزوج بها؟ و لما رفض طلبها؟.

أجل، انه لم يتزوج بها و لم يجب مطلبها بل ألحّ عليها أن تتزوج بشخص آخر رغم أنه أحسّ برغبة شديدة لدى زينب في الزواج منه لا من غيره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:240

(1) و بعد تكذيب هذا القسم المحرّف من التاريخ الاسلامي لا يبقى مجال لتعليقات و أوهام جنود الاستعمار و طلائعه المغرضين.

إننا نبرّئ ساحة رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله من أمثال هذه الترّهات و النسب الرخيصة و نرى أن ساحته المقدسة أجلّ من أن ننقل كلمات هذا الفريق من الكتّاب المغرضين الحاقدين في حقّ نبيّ بقي مكتفيا بزوجة تكبره بثمانية عشر عاما، الى أن بلغ سن الخمسين.

من هنا نعرض عن ذكر أقوالهم.

و لا بأس بأن نذكر هنا ما كتبه جماعة من المحققين المصريين الذين أشرفوا على طباعة «التاريخ الكامل» لابن الأثير تعليقا على ما أدرجه في هذا المجال:

هذه رواية باطلة زوّرها الملاحدة، و اختلقها أذهان أعداء الدين الاسلامي ليطعنوا في نبي الاسلام عليه و على آله الصلاة و السلام، و هل يعقل: انه لا يعرف ابنة عمته التي كان ولي زواجها إلى مولاه زيد؟ و انما دسائس الزنادقة، و مبشّري المسيحية قد تغلغلت في نفوس العلماء من حيث لا يعلمون، فافتكروا في رواية الخبر، فاتخذوه أساسا، و أعرضوا عن كتاب اللّه و عن قول اللّه تعالى من أنّ اللّه أعلمه بأنها صارت زوجه قبل أن استشاره زيد في طلاقها.

و العجيب أن ابن الأثير مع جلالة قدره ينقل هذه الرواية المزيّفة التي هي طعن صريح في رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد قلّد في روايته هذه ابن جرير قبله، و كلاهما وقع في هوّة الضلالة من حيث لا يشعر، و لو عرضت كل رواية على كتاب اللّه تعالى لما أقدم أحد على مثل هذا الإفك العظيم!!

إن زينب هي وهبت نفسها لرسول اللّه فزوّجها من مولاه، ثم تزوجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «كي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم اذا قضوا منهن وطرا»، فاذن كان الزواج لأجل التشريع، و كان عمليّا، لشدة نفرة أهل الجاهلية من هذا الزواج من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لانهم يعدّون المتبنى ولدا صريحا أو في مرتبته.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:241

قال الفخر الرازي: و فيه إشارة إلى أنّ التزويج من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن لقضاء شهوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بل لبيان الشريعة بفعله، انتهى.

و نحن نعتب عليه أيضا إذ جعله اشارة و لم يجعله صريحا و بما أن روح التقليد الأعمى قد اشتدّ بين المسلمين منذ زمن بعيد فالحكاية التي أوردها المؤلف نقلها كثير من المفسرين غير مفكرين بما فيها من طعن في الدين لإفادتها أن الشريعة الاسلامية عبارة عن إتباع أهواء أو تنفيذ شهوات تنزهت عن ذلك كله، و يرحم اللّه السيّد الآلوسي حيث قال في تفسيره: و حاصل العتاب: لم قلت «امسك عليك زوجك»، و قد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك و هو مطابق للتلاوة، لأنّ اللّه أعلم أنه مبدئ ما أخفاه عليه الصلاة و السلام و لم يظهر غير تزويجها منه فقال: «زوّجناكها» فلو كان الضمير محبتها و ارادة طلاقها، و نحو ذلك لأظهره جلّ و علا،

و للقصّاص في هذه القصّة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيّز القبول، انتهى.

ثم أورد الروايات المزيفة التي تشبه ما أورده المؤلف (أي ابن الأثير) محذرا الناس منها و من أمثالها التي لا تروج إلّا على الحمقى و المغفلين انتهى. راجع هامش الكامل في التاريخ ج 2 ص 121. طبعة القاهرة ادارة الطباعة المنيرية عام 1349 ه.

(1)

توضيح عبارتين:

هذا و استكمالا للبحث، و اتماما للفائدة ندرج نص الآية التي نزلت في هذا المجال، و التي تسبّبت جملتان منها في إثارة الشكوك لدى بعض الجاهلين بحقائق السيرة النبويّة الزكية، و نعطي بعض التوضيحات اللازمة حولهما: و إليك نص الآية أولا:

«وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:242

و فيما يلي الجملتان اللتان تحتاجان الى التوضيح:

«و تخفي في نفسك ما اللّه مبديه».

(1) فما ذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخفي في نفسه و قد أظهره اللّه و أبداه بعد كل تلك النصيحة التي نصح بها صلّى اللّه عليه و آله زيدا؟

ربما يتصوّر أحد أنّ الأمر الذي كان يخفيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو رغبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تطليق زيد زوجته زينب أي أنه و ان كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينهى زيدا في الظاهر عن تطليق زينب، إلا أنه كان في سرّه يرضى بذلك بل يرغب فيه ليتسنّى له بعد ذلك أن يتزوجها هو.

و لا شك أنّ هذا الاحتمال غير صحيح مطلقا لأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا كان يبطن مثل هذا الأمر، فلما ذا لم يبد اللّه سبحانه نيّته هذه بآيات اخرى، في

حين أنه سبحانه وعد في هذه الجملة بأن يظهر ما كان يخفيه رسول اللّه في نفسه إذ قال تعالى: «مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ»؟!

(2) و لهذا قال المفسرون: إن المقصود مما كان يخفيه هو الوحي الالهي الّذي أنزله اللّه عليه، و توضيح ذلك هو: أنّ اللّه تعالى أوحى إليه بأن زيدا سيطلّق زوجته رغم نصيحة النبيّ، و أنه صلّى اللّه عليه و آله سيتزوج بها من بعده لإبطال سنّة جاهلية مقيتة (و هي حرمة الزواج بمطلّقة الدعيّ).

و من هنا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين نصيحته لزيد و نهيه عن تطليق زينب زوجته ملتفتا و منتبها إلى هذا الوحي الالهيّ أيضا، و لكنه أخفى هذا الوحي عن زيد و غيره، و لكن اللّه تعالى أخبر النبيّ في نفس تلك الجملة بأنه تعالى سيبدي للناس ما يخفيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قلبه، و أن الامر لن يبقى خافيا على أحد بإخفائه صلّى اللّه عليه و آله له.

و يشهد بهذا المعنى أنّ القرآن الكريم اظهر الامر في ذيل نفس هذه الآية إذ قال:

«فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:243

فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» «1».

فمن هذا التعقيب يستفاد أن ما كان يخفيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الوحي الالهي، بأنه عليه أن يتزوج بزوجة دعيّه بعد طلاقها لإبطال سنة جاهلية خاطئة.

(1) 2- و اما الجملة الثانية التي هي بحاجة الى التوضيح فهي قوله تعالى: «وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ». غير أن هذا القسم من الآية هي الجملة الثانية الأقلّ إيهاما و غموضا من

الجملة السابقة بدرجات، لأن تجاهل سنّة عريقة متجذرة في بيئة منحرفة (و هي الزواج بمطلّقة الدعيّ) يقترن- بطبيعة الحال و حتما- بحرج نفسيّ يزول و يرتفع لدى الأنبياء بتوجههم إلى الأمر الالهي ..

و اذا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يعاني من حرج نفسيّ شديد من هذه القضيّة فانما هو لأجل أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يتصوّر أن جماعة العرب الذين لم يكن عهدهم بالإسلام طويلا، لم يمر على انقطاعهم عن عاداتهم و تقاليدهم الجاهلية سوى زمن قصير سيقولون: إن النبي ارتكب عملا سيّئا، و الحال أن الامر ليس كما يعتقدون.

قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد: قوله: «لكي لا يكون على المؤمنين حرج في ازواج أدعيائهم لمّا قضوا منهن وطرا» تعليل للتزويج و بيان مصلحة للحكم. و قوله: و «كان أمر اللّه مفعولا» مشير الى تحقق الوقوع و تأكيد للحكم.

و من ذلك يظهر أن الذي كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يخفيه في نفسه هو ما فرض اللّه له أن يتزوجها لا هواها، و حبه الشديد لها و هي بعد مزوّجة كما ذكره جمع من المفسرين، و اعتذروا بأنها حالة جبليّة لا يكاد يسلم منها البشر فإن فيه أولا: منع أن يكون بحيث يقوى عليه التربية الإلهية. و ثانيا: أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه و إخفائه في نفسه فلا مجوّز في الإسلام لذكر حلائل الناس

______________________________

(1) الاحزاب: 37.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:244

و التشبّب بهن «1».

و لما كانت المسألة مسألة وضع قانون جديد لهذا مضى القرآن الكريم يؤكدها و يزيل عنصر الغرابة عنها فقال تعالى: «ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ

كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ، وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً. وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً. وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً. وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً. وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» «2».

ففي هذه الآيات اشارة إلى:

1- أن ما قام به النبي من التزوج بزينب كان بأمر اللّه، و كان على سبيل سنّ قانون و تشريع سنة و لكن بصورة عملية، و إن ذلك القانون علم اللّه ضرورتها و قدرها و زمانها و مكانها.

2- أن زيدا ليس ابن محمّد صلّى اللّه عليه و آله انما هو متبنّاه و دعيّه بل هو ابن والده حارثة واقعا و حقيقة و ليس ذلك إلّا تقرير و تأكيد للحقيقة التي سبقت الاشارة إليها في قوله تعالى: «وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ».

3- أن ما قام به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من التزوج بمطلّقة متبنّاه هو جزء من تشريعه الذي يشرّعه بأمر اللّه و إذنه تعالى لتسير عليه البشرية، وفق آخر رسالة السماء الى الأرض، لا أنه أمر واقع بدافع شخصي.

______________________________

(1) تفسير الميزان: ج 16 ص 343.

(2) الاحزاب:

38- 48.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:245

4- إن اللّه هو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية و ما يصلحها و هو الذي فرض على النبيّ ما فرض ليحلّ للناس ازواج أدعيائهم اذا ما قضوا منهن وطرا و انتهت حاجتهم منهن و اطلقوا سراحهن. قضى اللّه هذا وفق علمه بكل شي ء، و معرفته بالاصلح و الاوفق من النظم و الشرائع.

5- إن ما سنّه اللّه للمسلمين و ما اختاره تعالى للامة الاسلامية في مجال العلاقات العائلية يريد بها الخير و الخروج من الظلمات إلى النور، فعليهم ان يذكروه و يشكروه أبدا و دائما، فانه سيكون لهم لو أطاعوه و سبّحوه و ذكروه شأن في الملأ الاعلى فهو يصلي عليهم و ملائكته، و يذكرهم هناك بالخير، و انما يفعل كل هذا من منطلق الرحمة و العناية بهم.

6- أن وظيفة النبي صلّى اللّه عليه و آله في المسلمين هي (الشهادة) عليهم، فليحسنوا العمل، و هي (التبشير) لهم بما ينتظر العاملين من رحمة و غفران، و (الانذار) للغافلين المسيئين بما ينتظرهم من عذاب و نكال، و (الدعوة الى اللّه) لا إلى دنيا أو مجد أو عزة قومية أو عصبيّة جاهلية، و ذلك باذن اللّه فما هو بمبتدع، و لا بقائل من عنده شيئا.

7- ان على النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يبشّر المؤمنين المطيعين لاوامر اللّه بأن لهم فضلا كبيرا، و لا يطيع الكافرين، و المنافقين، و ألّا يحفل أذاهم له و للمؤمنين، و ان يتوكل على اللّه وحده و هو بنصره كفيل، و هو يوحي بأن المنافقين أرجفوا بالنبي صلّى اللّه عليه و آله في هذه القضية، ارجافا عظيما.

و كل هذه الامور توحي بأن تغيير تلك السنة الجاهلية (عدم الزواج بمطلّقة

المتبنّى) كانت عملية صعبة فاحتاجت إلى كل هذا التعقيب، و بالتالي تثبيت اللّه للنفوس فيه، كي تتلقى ذلك الأمر بالرضى و القبول و التسليم، و هذا هو الحال عند سنّ القوانين المهمّة و الخطيرة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:246

(1) 37

غزوة الاحزاب «1» لقد قاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة الخامسة مجموعة من الغزوات، كما و بعث سلسلة من السرايا لافشال المؤامرات التي كانت في طور الانعقاد أو التكوين أو التي كانت محتملة من جانب العدو.

و إليك فيما يأتي بعض غزوات السنة الخامسة:

(2) 1- غزوة دومة الجندل «2»: بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ بدومة الجندل جمعا كثيرا و أنهم يظلمون من مرّ بهم من المسافرين و التجار، و أنهم يريدون أن يدنوا من المدينة، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل و يكمن النهار أخذ بعنصر الاستتار و السرية على عادته.

و لما دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من دومة الجندل و عرف به تلك الجماعة تفرقوا من فورهم فلم يجد صلّى اللّه عليه و آله بها أحدا، فأقام بها أيّاما و بثّ السرايا و الدوريّات و فرّقها حتى غابوا عنه يوما ثم رجعوا إليه، و لم يصادفوا من

______________________________

(1) ذكر ابن هشام في سيرته أن هذه الغزوة وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، و حيث إن غزوة الأحزاب انتهت في الرابع و العشرين من شهر ذي القعدة، و طالت محاصرة المدينة شهرا واحدا لذلك يجب أن نقول إن هذه المعركة بدأت منذ الرابع و العشرين من شهر شوال تقريبا.

(2) المغازي: ج 1 ص 402، السيرة النبوية: ج 3 ص

213 و دومة الجندل منطقة بين دمشق و المدينة (الطبقات الكبرى: ج 2 ص 44).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:247

تلك الجماعة أحدا.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عاد إلى المدينة في العشرين من شهر ربيع الثاني، من دون ان يقاتل «1».

(1)

2- غزوة الخندق (الأحزاب):

اشارة

أجلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يهود بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة كما قلنا بسبب نقضهم للميثاق، و سيطر على قسم من أموالهم و ممتلكاتهم، و اضطرّت بنو النضير إلى أن تذهب الى «خيبر» و تسكن هناك، أو تسير الى الشام.

و قد كان إجراء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا متطابقا مع ما جاء في الميثاق المعقود بينه و بين يهود يثرب.

و قد دفع هذا الإجراء بسادة بني النضير و زعمائهم الى التآمر ضدّ الإسلام، فقدموا مكة، و حرّضوا قريشا على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إليك مفصل هذه الغزوة:

عبّأ المشركون العرب، و اليهود قواهم في هذه المعركة ضدّ الاسلام.

(2) فقد شكّلوا اتّحادا نظاميا قويا و حاصروا المدينة مدة شهر واحد، و بما أن أحزابا مختلفة اشتركت في هذه المعركة سميت هذه المعركة بمعركة الأحزاب، و ربما سمّيت بمعركة «الخندق» لأن المسلمين احتفروا خندقا حول المدينة عظيما، دفاعا عنها، و منعا للكفار عن اجتياحها.

و لقد كان زعماء بنى النضير و بنى وائل- كما أسلفنا- هم المحرّكون الأصليّون لهذه الحرب، و المشعلون الرئيسيون لفتيلها.

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 193 و 194.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:248

فانّ الضربة القوية التي تلقاها يهود بني النضير من المسلمين، و التي اضطرّوا على أثرها الى مغادرة المدينة، فسكن بعضهم خيبر، دفعهم إلى ان يخطّطوا بصورة جهنمية و دقيقة لاستئصال شأفة الاسلام، و

القضاء عليه. و انها لخطّة عجيبة حقا، فقد جعلوا المسلمين يواجهون طوائف متعددة و أحزاب مختلفة لم يعرف لها تاريخ العرب مثيلا!!

(1) كما أن في هذه الخطة كان اليهود هم أنفسهم المموّلون الاساسيون لطوائف العرب العديدة، فقد أمدّوهم بأموال كبيرة، و هيّئوا كل ما يحتاجون إليه من حاجات و معدات!!

و كانت الخطة كالتالي: قدم جماعة من سادة بني النضير مثل «سلام بن أبي الحقيق» و «حيي بن أخطب» في نفر من بني النضير على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فلقد جئنا لخالقكم على عداوة محمّد و قتاله.

و قال حيي بن أخطب: إن محمّدا قد وتركم و وترنا و أجلانا من المدينة من ديارنا و أموالنا، و أجلا بني عمّنا بني قينقاع فسيروا في الأرض، و اجمعوا حلفاءكم و غيرهم حتى نسير إليهم، فقد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل و هم بنو قريظة، و بينهم و بين محمّد عهد و ميثاق و أنا أحملهم على نقض العهد بينهم و بين محمّد و يكونون معنا عليهم، فتأتونه انتم من فوق و هم من أسفل.

فأثّرت كلمات اليهود و ما قاله «حيي بن اخطب» في نفوس المشركين الحانقين على رسول اللّه، و اصحابه، و استحسنوا خطتهم، و ابدوا استعدادهم للخروج إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قتاله. و لكنهم قبل أن يوافقوا اليهود على ذلك الرأي سألوهم قائلين: يا معشر اليهود انكم أهل الكتاب الأوّل، و العلم، أخبرونا عما اصبحنا نحن فيه و محمّد، ا فديننا خير أم دين محمّد؟

(2) و يجب أن نرى الآن بما أجابت هذه الطائفة (التي

كانت و لا تزال تعد نفسها حامل لواء التوحيد، الوحيد في العالم) اولئك المشركين الجهلة الذين

سيد المرسلين ،ج 2،ص:249

وصفوا اليهود بالعلم و المعرفة، و طلبوا منهم حل مشكلتهم؟! «أجل لقد قال اليهود بوقاحة كبيرة: بل دينكم خير من دينه، و أنتم أولى بالحق، إنكم لتعظّمون هذا البيت، و تقومون على السقاية، و تنحرون البدن، و تعبدون ما كان عليه آباؤكم، فانتم أولى بالحق منه!!! «1».

و لقد أضافت اليهود بهذه الاجابة الوقحة و صمة عار اخرى الى سجلّهم الاسود، و زادوا تاريخهم المشؤوم سوادا، و سوء.

و لقد كانت هذه الغلطة فضيعة، و قبيحة الى درجة أنّ الكتّاب اليهود تأسّفوا لوقوعها، في ما بعد.

(1) فهذا هو الدكتور اسرائيل يكتب في كتابه: (تاريخ اليهود في بلاد العرب) حول هذا الموقف المشين جدا قائلا: «كان من واجب هؤلاء ألا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، و الا يصرّحوا امام زعماء قريش بأن عبادة الاصنام أفضل من التوحيد الاسلامي و لوأدى بهم الأمر الى عدم اجابة مطالبهم كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم و كل عزيز لديهم في سبيل ان يخذلوا المشركين، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الاصنام انما كانوا يحاربون أنفسهم و يناقضون تعاليم التوراة» «2».

(2) و في الحقيقة أن هذا المنطق هو الذي يتوسّل به الساسة الماديون اليوم لإنجاح مقاصدهم، و تحقيق مآربهم. فهم يعتقدون- بكل جدّ- أن عليهم- لتحقيق أهدافهم- التوسل بكل وسيلة ممكنة مشروعة كانت أو غير مشروعة، و هذا هو مقولة «الغاية تبرر الوسيلة» التي طرحها ميكافيلي، و بالتالي فان «الاخلاق» في منظور هذه الجماعة هو ما يخدم مصالحهم و يحقق أغراضهم ليس إلّا.

إن القرآن الكريم يتحدث عن هذه الواقعة المرة فيقول:

«أَ لَمْ تَرَ

إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 217.

(2) حياة محمّد: ص 329.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:250

يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» «1».

(1) و لقد ترك كلام أدعياء العلم و الدين هؤلاء، أثرا عجيبا في نفوس المشركين و عبدة الاوثان، فأظهروا موافقتهم على خطّة اليهود الجهنمية و هو تأليف جيش من قبائل متعددة لمقاتلة المسلمين و حدّدوا معهم موعدا للتوجه الى المدينة، لتحقيق ذلك الغرض المشؤوم.

فخرج مثيرو الفتنة و مشعلو الحرب (اليهود) من مكة بقلوب مملوءة سرورا، و غبطة، و ساروا الى نجد، ليتصلوا بقبيلة غطفان- و كانت من اعدى اعداء الاسلام- فاستجلبوا موافقة قبائل غطفان: بني فزار، و بني مرّة، و بني اشجع، شريطة أن يعطونهم تمر خيبر، لمدة سنة، بعد الانتصار على المسلمين، و لكن تحركات قريش في مجال ضمّ القبائل الى ذلك الجيش لم ينته الى هذا الحد فقد راسلت قريش حلفاءها من بني سليم و راسلت غطفان حلفاءها من بني اسد، و دعوهم إلى المشاركة في هذه الحرب، فاستجابت لهم تلك القبائل، و تحركت جميع هذه الفئات و الاحزاب في جيش كبير هائل قدمت عناصره من مختلف نقاط الجزيرة، نحو المدينة في يوم معين و هي تبغي اجتياح مركز الاسلام، و استئصال شأفته!! «2».

(2)

استخبارات المسلمين ترفع تقريرا للقيادة:

منذ أن سكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة كان يبعث بجواسيسه و عيونه النشطين الاذكياء الى مختلف مناطق الجزيرة، لتقصّي الأخبار، و مراقبة الأوضاع، و إخبار النبي صلّى اللّه عليه و آله بكلّ ما يحصلون عليه في هذا المجال أولا بأول.

فقدم أحدهم

على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بخروج تلك القوة

______________________________

(1) النساء: 51 و 52.

(2) المغازي: ج 2 ص 443.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:251

الكبيرة و مسيرها إلى المدينة، و بهدفها، و تاريخ خروجها، و وصولها إلى مشارف يثرب.

فرعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه فورا و أخبرهم خبر عدوّهم، و شاورهم في الامر، ليستفيدوا من تجارب «احد»، فاقترح جماعة منهم اسلوب التحصن، و القيام بالدّفاع من داخل القلاع و الحصون، و لكن هذا العمل لم يكن كافيا لأن جيش العدوّ كان كثيفا و كبيرا جدا و كان من المحتمل بقوّة أن تقوم عناصره الكثيرة، الكبيرة في عددها بهدم الحصون و القلاع، و القضاء على المسلمين، فلا بد اذن من اتخاذ وسيلة تمنع العدوّ من الاقتراب الى المدينة أصلا.

(1) فقال سلمان الفارسي الذي كان عارفا بفنون القتال عند الفرس معرفة كاملة: يا رسول اللّه إنّا اذا كنّا بأرض فارس، و تخوّفنا الخيل، خندقنا حولنا، فهل لك يا رسول اللّه أن تخندق؟ «1»

و في رواية اخرى أنه قال: يا رسول اللّه نحفر خندقا يكون بيننا و بينهم حجابا، فلا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه، فانا كنّا معاشر العجم في بلاد فارس اذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة «2»، (أي محدودة).

فاعجب رأى سلمان المسلمين جميعا، و كان لهذا التكتيك أثر جوهري و بارز جدا في حفظ الاسلام و صيانة المسلمين.

(2) و من الجدير بالذكر أن النبي صلّى اللّه عليه و آله خرج بنفسه يدرس المنطقة ميدانيا و لكى يحدّد المنطقة التي يمكن ان ينفذ من خلالها العدو فقرر ان يحفروا الخندق من ناحية «احد» الى «راتج» و كان سائر

المدينة مشبك بالبنيان و النخيل لا يتمكن العدو منها، و علّم الموضع الذي يجب ان يحفر بخط خطّه على

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 445، تاريخ الطبري: ج 2 ص 234.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 218.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:252

الأرض.

و لكي يتم هذا الامر بنظام و سرعة جعل على كلّ عشرين خطوة، و ثلاثين خطوة جماعة من المهاجرين و الانصار يحفرونه، فحملت المساحي و المعاول، و بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه و أخذ معولا فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، و عليّ عليه السّلام ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عيي «1» و هو يقول:

«لا عيش إلّا عيش الآخرة، اللّهم اغفر للأنصار و المهاجرة».

(1) و قد كشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعمله هذا عن جانب من نهج الاسلام و اسلوبه، و في ذلك تنشيط الامة و تقوية لعزائمهم في مجال القيادة و اخلاق القائد، و أفهم المجتمع الاسلامي أنّ على القائد الاسلاميّ، و على إمام الامة أن يشارك الناس في آلامهم كما يشاركهم في آمالهم و يسعى أبدا الى التخفيف عن كاهلهم بمشاركته العملية في الأعمال، و لهذا لما نظر الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحفر نشطوا و اجتهدوا في الحفر، و نقلوا التراب، و لما كان اليوم الثاني بكّروا في العمل، و كان ذلك النشاط العظيم عاملا في أن يندفع يهود بني قريظة أيضا إلى مساعدتهم فأعاروهم المساحي و الفؤوس و الأوعية الكبيرة لنقل التراب «2».

و كان المسلمون يومئذ يعانون من نقص و ضيق شديدين في المواد الغذائية، و مع ذلك كان أصحاب المكنة و الثراء من المسلمين

يمدّونهم بالطعام و غيره «3».

و ربما عرضت للمسلمين و هم يحفرون في الخندق صخرة عظيمة عجزوا عن كسرها و إزالتها، فأخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك فأخذ معولا فكسرها و أزالها.

______________________________

(1) و جاء في تاريخ الخميس: ج 1 ص 489 انه (ص) كان ينقل التراب حتى اغبرّ بطنه.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 311.

(3) السيرة الحلبية: ج 1 ص 312.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:253

(1) أما طول الخندق فكان بالنظر الى عدد العاملين في حفرها- و قد كان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف حسب المشهور، و كان كل عشرة يحفرون (40) ذراعا- هو (12000) ذراعا اي ما يقارب خمس كيلومترات و نصف الكيلومتر، و أما العرض فكان بحيث لا يقدر الفرسان الماهرون من عبوره بالقفز بأفراسهم، فيكون عرضه بطبيعة الحال ما يقارب خمسة أمتار و عمقه خمسة أمتار أيضا.

(2)

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان:

عند ما قسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المهاجرين و الانصار جماعات جماعات، و أوكل الى كل جماعة حفر موضع من الخندق، تنافس الناس يومئذ في سلمان الفارسي و أراد كل أن يضمّه الى صفّه، فقال المهاجرون: سلمان منا و قالت الأنصار: سلمان منا و نحن أحق به!!

فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قولهم فقال قولته الخالدة في شأن سلمان يومذاك:

«سلمان منّا أهل البيت» «1».

ثم إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقى الى جانب الخندق ستة ليال بأيّامها حتى فرغ المسلمون من عمل الخندق غير أن المنافقين تخاذلوا في هذه القضيّة و كانوا يتذرعون بأعذار مختلفة ليتملّصوا من العمل في الخندق، و ربما كانوا يذهبون إلى منازلهم من دون أن يستأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

أما المؤمنون الصادقون فكانوا

يعملون باستمرار، و اذا ما احتاجوا إلى الذهاب إلى منازلهم أحيانا، أو جدّ لهم عذر استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأذن لهم ثم عادوا الى الخندق فور أن يرتفع عذرهم، و قد ذكر القرآن الكريم هذه القضية في سورة النور في الآيات 62 و 63 اذ يقول تعالى:

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 446، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 122.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:254

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».

(1)

مقاتلوا العرب و اليهود يحاصرون المدينة:

و تتابعت أرتال الجيش العربيّ على منطقة «احد» و على مقربة من الخندق الذي كان قد تمّ انجازه قبل ستة أيام و قد كان الكفّار و من لف لفّهم يتوقعون أن يلتقوا جنود الإسلام عند جبل «احد»، و لكنهم لم يلقوا أحدا منهم هناك فتقدموا نحو المدينة حتى وصلوا الى الخندق، فلما نظروا الى الخندق الذي كان أشبه بحصن منيع يحفظ المدينة من الخطر، فوجئوا به و قالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك ان هذا من تدبير الفارسي الذي معه.

(2)

العدد الدقيق لقوات الطرفين:

كان جيش العرب لا يتجاوز في عدده عشرة آلاف، و قد استقروا خلف الخندق و سيوفهم تلمع و هي تخطف بلمعانها الابصار!

و كان عدد المشاركين في هذه الجيش من قريش وحدها- على رواية المقريزي في الامتاع- (4 آلاف) مقاتل، معهم (300) فرس و (1500) بعير.

و قد التحق بهم بنو سليم- و هم من حلفاء قريش- في (700) رجل في مر الظهران و كان من قبيلة بني فزارة (1000) مقاتل و من قبائل اخرى. مثل اشجع و بني مرة كل واحد منهما (400) مقاتل، و الباقي و هم ما يقارب (3500) مقاتل من بقية القبائل، و على هذا الاساس لم يكن المجموع ليتجاوز عشرة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:255

آلاف، و قد استقروا جميعا في مكان آخر.

(1) و أمّا عدد المسلمين فكان لا يتجاوز ثلاثة آلاف، و قد نزلوا في سفح جبل سلع و هو موضع مرتفع، مشرف على الخندق و خارجه، إشرافا كاملا بحيث يمكن معه مراقبة جميع تحركات العدوّ و نشاطاته منه.

و قد و كل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جماعة من أصحابه بحفظ الممرّات و نقاط العبور على الخندق و مراقبة تحركات العدوّ،

و رصد عناصره. و بذلك كان المسلمون يملكون متراسا قويا طبيعيا، و غير طبيعي، اذ أن سائر المدينة كان مشبكا بالبنيان، و النخيل كما أسلفنا.

لقد حاصر الكفار «المدينة» ما يقرب من شهر واحد، و مكثوا خلف الخندق متحيّرين، و لم يستطع أن يعبر منهم الخندق الّا أفراد معدودون، فمن كان يفكر في العبور رماه المسلمون بالحجارة، فولّى هاربا!!

و للمسلمين في هذه الفترة قصص جميلة و مواقف رائعة مع عناصر الجيش العربي المعتدي ذكرتها صحائف التاريخ الاسلامي في مواضعها «1».

(2)

خطر البرد، و تناقص الغذاء و العلف:

صادفت غزوة الخندق فصل الشتاء و كانت المدينة قد أصيبت في تلك السنة بقلة الغيث، و لذلك كانت تعاني من نقص في الطعام.

كما أن طعام المشركين لم يكن هو الآخر يكفي لمدة طويلة، و لم يكن أحد منهم يتصور أن عليه أن يمكث خلف الخندق مدة شهر واحد، بل كان المشركون- جميعا- يرون- بادئ الامر- أنهم سيقضون بهجوم واحد واسع، على جنود الاسلام، و يجتاحون المدينة، و يستأصلون المسلمين!!

و لقد أدرك مثيرو هذه الحرب العدوانية (اليهود) هذه المشكلة بعد أيام،

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 225- 228.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:256

فقد عرفوا بأن مضىّ الزمان سيقلّل من مقدرة سادة الجيش العربي و قادته على مقاومة القرّ، و قلة العلف و تناقص الطعام، و من هنا فكروا في الاستعانة بيهود بني قريظة داخل المدينة، ليشعلوا فتيل الحرب من داخل المدينة، و بذلك يمهّدوا السبيل لجيش العرب لغزو المدنية، و اجتياحها من الخارج!!

(1)

حيي بن أخطب يدخل حصن بني قريظة:

كان بنو قريظة الطائفة اليهودية الوحيدة التي بقيت في المدينة تعايش المسلمين في سلام و أمن، و كانوا يحترمون الميثاق الذي عقدوه مع النبي صلّى اللّه عليه و آله، احتراما كاملا.

فرأى «حييّ بن أخطب» أن طريق الانتصار يتوقف على الاستعانة بمن في داخل المدينة لصالح المعتدين العرب و ذلك بأن يدعو يهود بني قريظة الى نقض العهد الذي عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله به. ليشعل بذلك حربا بين المسلمين و يهود بني قريظة و يشغل المسلمين بفتنة داخلية، و بذلك يمهّد لانتصار المشركين الذين يحاصرون المسلمين خلف الخندق.

و انطلاقا من هذه الفكرة أتى «حييّ» الى حصن بني قريظة و دق عليهم الباب و عرّف نفسه، فأمر رئيس بني قريظة «كعب بن الاسد» بان

لا يفتحوا له الباب و لكنه أصر، و قال: ما يمنعك من فتح الباب إلا جشيشتك (أي خبزك) الذي في التنور تخاف أن اشاركك فيها فافتح فانّك آمن من ذلك. فأثارت تلك الكلمات الجارحة حمية كعب فأمر بأن يفتحوا له باب الحصن، ففتحوا له، فدخل مثير الحرب المشؤوم «حييّ» و قال لكعب: يا كعب لقد جئتك بعزّ الدهر، هذه قريش في قادتها وسادتها مع حلفائهم من كنانة، و هذه فزارة مع قادتها و سادتها، و هذه سليم و غيرهم، و لا يفلت محمّد و أصحابه من هذا الجمع أبدا و قد تعاقدوا و تعاهدوا الّا يرجعوا حتى يستأصلوا محمّدا و من معه، فانقض العهد بينك و بين محمّد، و لا تردّ رأيي.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:257

(1) فأجابه كعب قائلا: لقد جئتني- و اللّه- بذلّ الدهر، و بسحاب يبرق و يرعد و ليس فيه شي ء، و أنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري و مالي معي، و الصبيان و النساء، اني لم أر من محمّد إلّا صدقا و وفاء فارجع عنّي، فانه لا حاجة لي فيما جئتني به.

و لكن حييّ بن أخطب لم يزل يراوض كعبا و يخاتله و يلحّ عليه كما يفعل صاحب الإبل الجامع الذي يستصعب عليه، حتى اقنعه بنقض عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هيّا لذلك، فقال: أنا أخشى أن لا يقتل محمّد و تنصرف قريش إلى بلادها، فما ذا نفعل حينذاك؟ فوعده حيي أن يدخل معه حصنه ليصيبه ما أصابه ان لم يقتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

فقال كعب: دعني اشاور رؤساء اليهود فدعا رؤساء اليهود و شيوخهم، و خبرهم الخبر، و حيى حاضر، و قال

لهم كعب: ما ترون؟ فقالوا: أنت سيدنا، و المطاع فينا، و صاحب عهدنا و عقدنا فان نقضت نقضنا معك و إن أقمت أقمنا معك، و إن خرجت خرجنا معك.

(2) فقال «الزبير بن باطا» و كان شيخا كبيرا مجرّبا قد ذهب بصره: قد قرأت في التوراة التي أنزلها اللّه في سفرنا يبعث نبيّا في آخر الزمان، يكون مخرجه بمكة، و مهاجره في هذه البحيرة ... يبلغ سلطانه منقطع الخفّ و الحافر فان كان هذا (أي محمّد) هو فلا يهولنّه هؤلاء و لا جمعهم، و لو ناوى على هذه الجبال الرواسي لغلبها.

فقال أخطب من فوره: ليس هذا ذاك، ذلك النبي من بني إسرائيل، و هذا من العرب من ولد اسماعيل، و لا يكونوا بنو اسرائيل أتباعا لولد اسماعيل أبدا، لأنّ اللّه فضّلهم على الناس جميعا و جعل فيهم النبوة و الملك، و ليس مع محمّد آية، و إنّما جمعهم جمعا و سحرهم!!

و لم يزل يقنّع بهم، و يقلّبهم عن رأيهم، و يلحّ عليهم حتى أجابوه، و رضوا بأن ينقضوا العهد الذي بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقال: أخرجوا الكتاب الذي بينكم و بين محمّد، فأخرجوه، فأخذه و مزقه،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:258

و قال: قد وقع الأمر، فتجهّزوا و تهيّأوا للقتال، و بذلك جعلهم أمام الامر الواقع الذي ظنوا أنه لا مفرّ منه!! «1»

(1)

النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد:

بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن طريق جواسيسه الاذكياء نقض بني قريظة للعهد، في مثل ذلك الظرف الحساس، فغمه غما شديدا. فأمر من فوره «سعد بن معاذ» و «سعد بن عبادة»- و كانا من خيرة رجاله الشجعان و من قادة جيشه الممتازين، كما أنهما كانا رئيسي الأوس و الخزرج-

بأن يحصّلا له على معلومات دقيقة عن هذا الحادث، و أسبابه و ملابساته، و أنه اذا كان هناك خيانة و نقض للعهد فعلا أن يخبّراه وحده فقط و لا يخبرا أحدا به و يقولا: عضل و القارة لكيلا لا يفتّ ذلك أعضاد المسلمين و لا يضعف من معنوياتهم، و أما إذا لم تكن هناك خيانة، فيكذّبا الأمر بصراحة.

فذهب الرجلان، و اقتربا إلى حصن بني قريظة، فأشرف عليهما كعب من داخل الحصن، فشتم سعدا و شتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و بذلك أظهر نقضه للعهد و الميثاق فأجابه سعد- بالهام غيبي-: إنّما أنت ثعلب في جحر، لتولّينّ قريش، و ليحاصرنّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لينزلنك على الصغار و الذلّ و ليضربنّ عنقك.

ثم رجعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالا له: عضل و القارة. فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائلا برفيع صوته: «اللّه أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بالفتح» «2».

و هذه العبارات تكشف عن مبلغ شجاعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 456، بحار الأنوار: ج 20 ص 222 و 223.

(2) المغازي: ج 2 ص 459.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:259

و عمق سياسته، فقد قالها لكي لا تضعف معنوية المسلمين، و لا يتملكهم الخوف إذا سمعوا بنقض بني قريظة للعهد، و هم في تلك الظروف الحرجة الشديدة أحوج ما يكونون إلى المعنويات العالية، و الاحساس بروح النصر.

(1)

تجاوزات بني قريظة الاولية:

كانت الخطة المبدأية لبني قريظة تقضي بأن يبدءوا عملهم الخياني بالاغارة على المدينة، و إرعاب النساء و الاطفال الموجودين في البيوت و المنازل، و قد نفذت مراحل من هذه الخطة تدريجا!!

فقد أخذ بعض صناديد بني

قريظة يحومون حول بيوت المسلمين التي فيها اطفالهم و نساؤهم بصورة مشبوهة!!

(2) تقول «صفية بنت عبد المطلب» عمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كنت في فارع، حصن حسان بن ثابت و كان حسان بن ثابت معنا فيه، مع النساء و الصبيان، فمرّ بنا رجل من يهود. فجعل يطيف بالحصن، و قد حاربت بنو قريظة، و قطعت ما بينها و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ليس بيننا و بينهم أحد يدفع عنا، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون في نحور عدوّهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت، فقلت لحسان: إن هذا اليهوديّ كما ترى يطيف بالحصن، و إنّي و اللّه ما آمنه أن يدل علينا من وراءه من يهود، و قد شغل عنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أصحابه، فانزل إليه فاقتله، قال: يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطلب و اللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، فلما قال لي ذلك احتجزت «1» (أي شددت وسطي) ثم أخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت الى الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه فانه لم يمنعني من سلبه، إلّا أنه رجل فقال حسان: ما لي بسلبه

______________________________

(1) و في رواية: اعتجرت.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:260

حاجة يا ابنة عبد المطلب!! «1».

(1) و لما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن طريق عيونه على اليهود أنهم نقضوا ما بينه و بينهم من العهد و انهم طلبوا من قريش الف رجل و من غطفان ألف رجل ليغيروا على المدينة عبر حصن اليهود، و كان ذلك في ما

كان المسلمون منشغلين بحراسة الخندق، فعظم بهذا الخبر البلاء و صار الخوف على الذراري أشد من الخوف على أهل الخندق، بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله مسلمة بن أسلم و زيد بن حارثة في خمسمائة رجل يحرسون المدينة و يظهرون التكبير تحفظا على الجواري من بني قريظة «2».

(2)

الإيمان في مواجهة الكفر:

لقد خاض المشركون حروبا عديدة ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل معركة الأحزاب، و لكن العدوّ في جميع تلك المعارك و الحروب كان من طائفة أو قبيلة واحدة، و لم يكن من عموم الجزيرة العربية، و من عموم القبائل، أي الاسلام لم يواجه في تلك الحروب و الوقائع عدوانا شاملا من سكان الجزيرة.

و حيث إن أعداء الاسلام رغم الجهود الكبيرة لم ينجحوا في القضاء على الحكومة الاسلامية الفتيّة، قرروا هذه المرة أن يستأصلوا الاسلام عن طريق اتّحاد عسكري عريض، يضم كل قبائل الجزيرة العربية المشركة، و يرموا المسلمين بآخر سهم في جعبتهم، من هنا عمدوا الى تعبئة أكبر قدر من المقاتلين، و استصرخوا أكبر قدر من القبائل و تحركوا في جمع لم يعرف له تاريخ العرب و الجزيرة من نظير نحو المدينة لتحقيق ذلك الهدف المشؤوم. و لو لا تدبير المسلمين للدفاع عن المدينة لحقق العدوّ الحاقد أهدافه.

(3) و لهذا جلب أعداء الاسلام معهم أكبر صنديد من صناديد العرب، و أشهر

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 228.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 315.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:261

بطل من أبطالهم و رأسوه عليهم، و هو عمرو بن عبد ود العامري ليشدّوا به أزرهم، و يحققوا بسببه ما كانوا يأملونه من الظفر.

و على هذا الاساس كانت معركة الأحزاب مواجهة كاملة بين كل الكفر و كلّ الايمان، و

خاصة عند ما تبارز بطل الاسلام و بطل الكفر و تواجها في ساحة القتال.

(1) و لقد كان الخندق الذي احتفره المسلمون سلفا من عوامل إخفاق المشركين، و كان العدوّ يحاول أن يعبر هذا الخندق فتطيف فرسانهم به ليل نهار و لكن دون جدوى، لانهم كانوا يواجهون في كل مرة سهام الحرس الذي و كلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحراسة الخندق، و رصد محاولات العدو لاجتيازه و افشالها فورا، و أيضا بفضل تدابير النبي القائد نفسه.

كان الشتاء و برده القارص في تلك السنة و تناقص الطعام، و العلف يهدد جيش المشركين، و أنعامهم، و خيولهم فاستقرض حيي بن أخطب من بني قريظة عشرين بعيرا محملة شعيرا و تمرا و تبنا تقوية لقريش، و لكن دورية من المسلمين صادفتها في أثناء الطريق فصادرتها و أتوا بها الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فتوسع بها أهل الخندق «1».

(2) و ذات يوم من أيام الانتظار وراء الخندق كتب أبو سفيان الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتابا يقول فيه: إني احلف باللات و العزى لقد سرت إليك في جمعنا و إنّا نريد ألّا نعود إليك أبدا حتى نستأصلكم فرأيتك قد كرهت لقاءنا، و جعلت مضايق و خنادق، فليت شعري من علمك هذا؟ فان نرجع عنكم فلكم منّا يوم كيوم احد تبقر فيه النساء «2».

(3) فكتب إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من محمّد رسول اللّه إلى أبي سفيان بن حرب ... أمّا بعد فقديما غرّك باللّه الغرور، أما ما ذكرت أنك سرت

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 323.

(2) المغازي: ج 2 ص 492.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:262

إلينا في جمعكم، و انك لا تريد

أن تعود حتى تستأصلنا فذلك أمر اللّه يحول بينك و بينه، و يجعل لنا العاقبة و ليأتينّ عليك يوم تدافعني بالراح، و لياتينّ عليك يوم أكسر فيه اللات و العزّى و اساف، و نائلة، و هبل حتى اذكّرك ذلك» «1».

(1) و لقد وقعت إجابة الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله التي كانت تنبئ عن قوة إرادته و شدة عزيمته، و تصميمه القاطع موقع السهم في قلب زعيم المشركين، و حيث إن قريش كانت تعتقد بصدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانّها اصيبت بهذا الرد الحاسم في عزيمتها و نفسيتها، و لكنها مع ذلك لم تكفّ عن مواصلة عدوانها.

و ذات ليلة عزم «خالد بن الوليد» على أن يعبر بجماعته الخندق و لكنه اضطرّ الى التراجع عند ما واجه مقاومة شجاعة من مائتين من المسلمين بامرة «اسيد بن حضير» و قد كلّفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقيام على شفير الخندق، و دفع المشركين و منعهم من العبور!!

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن ليغفل عن تقوية عزائم المقاتلين المسلمين و رفع معنوياتهم، و لهذا كان يهيّئهم بخطبه الحماسية، و كلماته المشجعة، الحاثة على الجهاد و الاستقامة و الدفاع عن حياض العقيدة و الايمان، و الذود عن صرح الحرية، و العدل.

فقد وقف ذات يوم خطيبا في اجتماع كبير من المسلمين و قال- بعد أن حمد اللّه و أثنى عليه-.

«أيّها النّاس إذا لقيتم العدوّ فاصبروا و اعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السيوف» «2».

(2)

أبطال من العرب يعبرون الخندق:

لبس خمسة من شجعان المشركين هم: «عمرو بن عبد ود العامري»، «عكرمة

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 239 و 240.

(2) السيرة الحلبية: ج 2 ص 323.

سيد

المرسلين ،ج 2،ص:263

بن أبي جهل»، «هبيرة بن وهب»، «نوفل بن عبد اللّه»، و «ضرار بن الخطاب» لامة الحرب، و وقفوا أمام بني كنانة في غرور عجيب، و قالوا: تهيّأوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم؟

ثم ضربوا خيولهم فعبرت بهم الخندق من مكان ضيق قد أغفله المسلمون، و لكنهم بادروا إلى محاصرة تلك الثغرة و منع غيرهم من العبور.

و كان الموضع الذي وقف فيه اولئك الشجعان الخمسة الذي عبروا الخندق للمبارزة يقع بين الخندق و جبل سلع حيث تمركز جنود الاسلام «1».

ثم أخذوا يدعون المسلمين إلى البراز، في كبرياء و غرور كبيرين، و هم يقطعون ذلك الموضع جيئة و ذهابا بخيولهم!!

(1) بيد أنّ أشجع اولئك الخمسة و أجرأهم و أعرفهم بفنون القتال و هو: «عمرو بن عبد ود العامري» تقدم، و أخذ يرتجز داعيا المسلمين الى النزال و البراز قائلا:

و لقد بححت من النداءبجمعكم هل من مبارز

و وقفت إذ جبن المشجّع موقف البطل المناجز

إنّي كذلك لم أزل متسرّعا نحو الهزاهز

إن السماحة و الشجاعة في الفتى خير الغرائز فأحدثت نداءات عمرو الرهيبة حالة من الرعب، و الوجل الشديدين في معسكر المسلمين، و سكت الجميع، و لم ينبسوا ببنت شفة رهبة و خوفا منه.

(2) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أيكم يبرز إلى عمرو أضمن له الجنة»؟

و قد قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاث مرات، و في كلّ مرة يقوم عليّ عليه السّلام و يقول: انا له يا رسول اللّه، و القوم ناكسوا رءوسهم «2» او كأنّ المسلمين يومئذ على رءوسهم الطير لمكان عمرو و شجاعته، كما يقول الواقدي «3».

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 239، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 28.

(2) تاريخ الخميس: ج

1 ص 486.

(3) المغازي: ج 2 ص 470.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:264

(1) و لا بدّ أن تحلّ هذه المشكلة بيد علي عليه السلام فارس ميادين الحرب المقدام، و كان كذلك، فلما أبدى عليّ عليه السّلام استعداده الكامل لمقاتلة عمرو أعطاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيفه و عممه بيده، و وجّهه صوب عمرو و قد دعا له قائلا: اللّهم أعنه عليه. و قال أيضا:

«اللّهم إنّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر، و حمزة بن عبد المطلب يوم احد، و هذا أخي علي بن أبي طالب ربّ لا تذرني فردا و أنت خير الوارثين» «1».

فبرز عليّ عليه السلام إلى عمرو يهرول في مشيته، مبادرا إليه دون ابطاء، و هنا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلمته الخالدة في تلك المواجهة:

«برز الإيمان كله إلى الشرك كلّه» «2» و ارتجز عليه السّلام قائلا:

لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذونيّة و بصيرةو الصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن اقيم عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى ذكرها عند الهزاهز (2) و قد كان عليّ عليه السّلام مسربلا بالحديد لا يرى منه إلّا عيناه من تحت المغفر، فأراد عمرو أن يعرف من برز إليه فقال: من أنت؟

قال: أنا عليّ بن أبي طالب.

فقال عمرو: إنّي أكره أن اريق دمك، و اللّه إن أباك كان لي صديقا و نديما، ما أمن ابن عمك حين بعثك إليّ أن اختطفك برمحي هذا فأتركك شائلا بين السماء و الأرض لا حيّ و لا ميت.

فقال عليّ عليه السّلام: لكنني ما أكره و اللّه أن أهريق دمك، و قد علم ابن

______________________________

(1) كنز الفوائد: ص 137.

(2) تاريخ الخميس: ج 1 ص 486 و 487، بحار الأنوار، ج 20

ص 215.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:265

عمي أنّك إن قتلتني دخلت الجنة، و أنت في النّار، و إن قتلتك فانت في النّار و أنا في الجنة.

فضحك عمرو و قال مستهزئا: كلتاهما لك يا عليّ، تلك إذا قسمة ضيزى.

(أي ناقصة جائرة).

(1) يقول ابن أبي الحديد: كان شيخنا أبو الخير يقول اذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع: و اللّه ما أمر عمرو بن عبد ود عليا (عليه السّلام) بالرجوع إبقاء عليه، بل خوفا منه، فقد عرف قتلاه ببدر و احد، و علم أنه إن ناهصه قتله، فاستحيا أن يظهر الفشل فأظهر الإبقاء، و إنه لكاذب فيه «1».

ثم إن عليا عليه السّلام ذكّر عمرا بعهد قطعه على نفسه فقال له:

يا عمرو إنّك كنت تقول في الجاهلية: لا يدعوني أحد الى واحدة من ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها و أنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة.

قال عمرو: أجل، فهاتها يا عليّ.

قال: تشهد أن لا إله الّا اللّه، و انّ محمّدا رسول اللّه، و تسلم لرب العالمين.

فقال عمرو: نحّ عني هذا.

قال عليّ عليه السّلام: فالثانية أن ترجع إلى بلادك، فان يك محمّد صادقا فأنتم أعلى به عينا و ان يك غير ذلك كفتكم ذؤبان العرب أمره.

(2) فقال عمرو في غرور عجيب: اذا تتحدّث نساء قريش بذلك، و ينشد الشعراء فيّ أشعارها اني جبنت، و رجعت على عقبي في الحرب، و خذلت قوما رأسوني عليه.

فقال له علي عليه السّلام: فالثالثة أن تنزل إليّ فانك راكب و أنا راجل، حتى انابذك.

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 19 ص 20.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:266

فقال عمرو: هذه خصلة ما ظننت أن أحدا من العرب يسومني عليها، ثم وثب عن فرسه، و لكي يرعب

عليّا عليه السّلام عرقب قوائم فرسه على عادة العرب في الجاهلية «1».

(1)

تصاول البطلين:

و هنا بدأ تصاول شديد بين البطلين، و ارتفعت بينهما عجاجة حجبت الرؤية، و انما كان الناس يسمعون فقط صوت اصطكاك السيوف و الدروع الحديدية و غيرها، و بعد فترة من التصاول بين ذينك البطلين العملاقين ضرب «عمرو» «أمير المؤمنين عليا» عليه السّلام بالسيف على رأسه، فاتقاه علي عليه السّلام بالدرقة فقطعها، و شجّت الضربة رأسه ففاجأه عليّ عليه السّلام بضربة قوية على ساقيه فقطعهما جميعا، ثم انكشفت العجاجة فنظر المسلمون فاذا عليّ عليه السّلام على صدر عدوّ اللّه يريد أن يذبحه. و ارتفع صوت عليّ بالتكبير من بين العجاجة يعلن عن انتصاره، و مقتل عمرو.

فألقى هلاك فارس العرب الاكبر «عمرو بن عبد ود» رعبا عجيبا في نفوس بقيه الابطال و الشجعان الذين عبروا معه الخندق، فهربوا راجعين الى معسكرهم، إلّا «نوفل» الذي سقط فرسه في الخندق، و هوى هو إلى الارض بشدة، فرماه حرس الخندق بالحجارة فقال: قتلة أجمل من هذا، ينزل إليّ بعضكم فأقاتله، فنزل إليه عليّ عليه السّلام فضربه حتى قتله في الخندق «2».

فهيمن الخوف و الرعب على كل أرجاء المعسكر العربي المشرك، و بهت أبو سفيان أكثر من غيره.

ثم إنه كان يتصور أن المسلمين سيمثّلون بجسد «نوفل» انتقاما لحمزة الذي

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 470 و 471.

(2) بحار الأنوار، ج 20 ص 256، تاريخ الطبري: ج 2 ص 240.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:267

مثل به في احد، فبعث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من يشتري جثته بعشرة آلاف فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

«هو لكم، لا ناكل ثمن الموتى» «1».

(1)

قيمة هذه الضربة:

لقد قتل عليّ عليه السّلام- حسب الظاهر- رجلا شجاعا لا أكثر، بيد أنه بضربته لعمرو و بقتله إياه أحيا- في

الحقيقة- كل من أرعبته نداءات عمرو المهدّدة، من المسلمين، و القى رعبا كبيرا في نفوس جيش قوامه (000/ 10) رجل تعاهدوا و تعاقدوا على محو الاسلام و استئصال الحكومة الاسلامية الفتية. و لو أن الانتصار كان يحالف عمرا لعرفنا حينئذ قيمة هذه التضحية الكبرى التي قام بها عليّ عليه السّلام.

و عند ما عاد عليّ عليه السّلام ظافرا منتصرا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين».

و قيل إنه قال:

«لو وزن اليوم عملك بعمل جميع امة محمّد لرجح عملك على عملهم و ذاك أنه لم يبق بيت من المشركين إلا و قد دخله ذل بقتل عمرو، و لم يبق بيت من المسلمين إلّا و قد دخله عز بقتل عمرو» «2».

و بذلك كشف عن أهمية الضربة التي أوقعها علي عليه السّلام بعمرو في تلك الواقعة.

لما ذا التنكر لهذا الموقف؟

و يحق لنا هنا أن نستغرب تنكر بعض المؤرخين أو تجاهلهم لهذا الموقف

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 20 ص 205.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 216، مستدرك الحاكم: ج 3 ص 32.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:268

العظيم الذي أدى إلى هزيمة المشركين، و الاحزاب في معركة الخندق هزيمة نكراء، كل واحد بشكل من الاشكال و صورة من الصور:

فهذا ابن هشام رغم اسهابه في بعض الامور التاريخية ممّا لا قيمة له بعد أن يذكر مقتل «عمرو» على يد بطل الاسلام الخالد عليّ عليه السّلام من دون أن يذكر ما قاله النبي صلّى اللّه عليه و آله عند مطالبة عمرو بالمنازل و المبارز، ذكر أبياتا قالها عليّ عليه في المقام ثم يشكك في نسبتها إليه عليه السّلام «1».

و هكذا ابن الاثير رغم اهتمامه بالدقائق التاريخية و وصفه لكتابه بالكامل نجده يحاول

التقليل من أهمية هذا الموقف بصورة اخرى و هو أن عليّا خرج ضمن مجموعة لمقاتلة عمرو و ليس وحده.

و لكن المعلّقين على الطبعة المنيرية للكامل و التي أشرف عليها فضيلة الاستاذ عبد الوهاب النجار لم يرق لهم هذا الصنيع، و أبت عليهم ضمائرهم الحرّة أن يتركوا الرواية على حالها فقالوا في الهامش: و روى السهيلي عن ابن اسحاق أن عمرا دعا المسلمين للمبارزة و عرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأمر ثلاث مرات و لا يقوم إلّا عليّ كرم اللّه وجهه، و في الثالثة قال له: انه عمرو قال: و ان كان عمرا، فنزل إليه، و قتله و كبّر فكبّر المسلمون فرحا بقتله «2».

و هذا ابن تيمية يحاول التنقيص من هذه الفضيلة و لكن بالضرب على وتر آخر حيث قال ان قول النبي صلّى اللّه عليه و آله في شأن عليّ عليه السّلام لما قتل عمرا: «قتل عليّ لعمرو بن ود أفضل من عبادة الثقلين» من الاحاديث الموضوعة التي لم ترد في شي ء من الكتب التي يعتمد عليها بسند ضعيف، و كيف يكون قاتل كافر أفضل من عبادة الثقلين ... ثم قال: بل ان عمرو بن ود لم يعرف له ذكر إلّا في هذه الغزوة.

فهو يحاول التقليل من شأن عمرو، و الايحاء بأنه لم يكن شيئا، فلا يكون

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 225.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 124.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:269

لقتله أهمية.

و لكن صاحب السيرة الحلبية الذي ينقل كل هذه العبارات عن ابن تيمية يرد عليه قائلا: و يرد قوله: «ان عمرو بن ود هذا لم يعرف له ذكر إلّا في هذه الغزوة» قول الأصل: و كان عمرو بن عبد ود

قد قاتل يوم بدر حتى اثبتته الجراحة فلم يشهد يوم احد فلما كان يوم الخندق خرج معلما (أي جعل له علامة) ليعرف مكانه و يرى.

و يرده أيضا ما تقدم من أنه نذر أن لا يمسّ رأسه دهنا حتى يقتل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله.

و استدلاله: و كيف يكون إلى آخره، فيه نظر لان قتل هذا كان فيه نصرة للدين و خذلان الكافرين «1».

و ما قاله صاحب السيرة الحلبية عن مشاركة عمرو في معركة بدر يوافق ما جاء في الكامل لابن الاثير الجزء 2 الصفحة 124 و يوافق أيضا ما جاء في السيرة النبويّة الجزء 2 الصفحة 225.

(1)

مروءة عليّ عليه السّلام و شهامته:

و لقد أحجم عليّ عليه السّلام عن سلب «عمرو بن عبد ود» درعه، و كان درعا غالية الثمن ليس للعرب، درع خير منها، و قد فعل ذلك مروءة، و ترفعا، فاعترض عليه بعض، حتى أن عمر بن الخطاب قال له: هلا استلبته درعه فانه ليس في العرب درع مثلها؟ «2».

و لما عرفت اخت عمرو بمقتله سألت عمن قتله، فاخبروها بأن عليا عليه السّلام هو الذي قتله فقالت لم يعد موته إلّا على يد كفؤ كريم، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قتل الابطال، و بارز الاقران، و كانت منيته على يد كفؤ

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 320.

(2) السيرة الحلبية: ج 2 ص 320.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:270

كريم من قومه ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر.

ثم انشأت تقول:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكنّ قاتل عمرو لا يعاب به من كان يدعى قديما بيضة البلد «1» و قد ذكر عليّ عليه السّلام صنيعه هذا في أبيات أنشأها يوم الخندق إذ قال:

أ عليّ تقتحم الفوارس هكذا؟عنّي

و عنها خبّروا أصحابي

أرديت عمرا إذ طغى بمهنّدصافي الحديد مجرّب قضاب

فصددت حين تركته متجدّلاكالجذع بين دكادك و روابي

و عففت عن أثوابه و لو انّني كنت المقطّر بزّني أثوابي «2» و الآن حان أن نرى إلى أيّ مصير آل أمر معسكر المشركين بعد مقتل فارس العرب و شجاعها البارز.

(1)

جيش العرب يتفرق في موقفه:

لم يكن دافع جيش العرب و من عاونهم و مالأهم من اليهود الى محاربة الاسلام واحدا، فاليهود كانوا يخشون من اتساع رقعة الحكومة الاسلامية الفتيّة، المتزائد، و اما دافع قريش فكان هو العداء القديم للاسلام و المسلمين. و أما قبائل «غطفان» و «فزارة» و غيرها من القبائل فلم يحرّكها إلّا الطمع في محاصيل «خيبر» التي وعدهم بها اليهود.

فعلى هذا الاساس لم يكن محرّك «الأحزاب» المشاركة في جيش الشرك أمرا واحدا، فقد كان محرّك الطوائف الأخيرة أمرا ماديا، و لو أنّ هذا الهدف تحقّق عن طريق المسلمين لعادت هذه القبائل إلى أوطانها مسرورة راضية، و خاصّة أن البرد، و قلّة الطعام، و العلف، و طول مدّة المحاصرة قد أوجدت في

______________________________

(1) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 33.

(2) المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 32.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:271

نفوسهم كللا و مللا، من جهة، و عرّضت أنعامهم لخطر الهلاك و الفناء من ناحية اخرى.

(1) من هنا كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جماعة بأن يتصلوا بهذه القبائل (الأخيرة) و يذكروا لهم بأنّ المسلمين مستعدّون لإعطائهم ثلث تمر المدينة إن هم تركوا قريشا و عادوا إلى ديارهم، فأعدّوا عهدا و جاءوا به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليمضيه، و لكنه شاور فيه سعد بن معاذ، و سعد بن عبادة قبل أن يمضيه، فقالا: يا رسول اللّه إن كان أمرا

من السماء فامض له، و ان كان أمرا لم تؤمر فيه فان الرأي عندنا هو السيف، فإنهم ما طمعوا بهذا منّا قطّ في الجاهلية أن يأخذوا تمرة، الا بشرى أو قرى، فحين أتانا اللّه تعالى بك، و أكرمنا بك، و هدانا بك نعطي الدنيّة؟ لا نعطيهم أبدا إلّا السيف؟

(2) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مبيّنا علة إقدامه على مثل هذا الصلح:

«إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، فقلت ارضيهم و لا أقاتلهم، الآن قد عرفت ما عندكم فكونوا على ما أنتم عليه، فان اللّه تعالى لن يخذل نبيّه، و لن يسلمه حتى ينجز له ما وعده» «1».

فمحى سعد بن معاذ ما في الصحيفة باذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: ليجهدوا علينا «2».

و بهذا كشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن صفحة اخرى من سياسته الحكيمة، فقد كان إقدامه على ثني القبائل المتحالفة مع قريش في جيش الاحزاب باعطاء بعض التنازلات المادية (لا المعنوية) و تحييدها خطوة سياسية و عسكرية صحيحة، و رائعة، و كان مشورته مع أصحابه من الانصار (خاصة) عملا حكيما أيضا لانه استشار بذلك هممهم، و شدّ من عزائمهم، فوعدوا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 223، بحار الأنوار: ج 20 ص 252.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 236 و جاء فيه انه (ص) استشار سعد بن معاذ و سعد بن عبادة خفية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:272

بالصمود و المقاومة في ذلك الظرف العصيب و عدم تقديم اية تنازلات و لهذا انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ما اراد أولا، فكان مجموع هذه الخطوات عملا حكيما جدا، يكشف عن حنكة سياسية عظيمة، و دراية عسكرية

عميقة.

(1)

العوامل التي فرقت كلمة «الاحزاب»:

هناك عوامل عديدة تسببت في تفرق الجيش العربي الذي زحف إلى المدينة لاجتياحها، و انقسام الاحزاب على أنفسهم، و إليك أبرزها:

(2) 1- إن أول عامل من تلك العوامل هو تكلم مبعوثي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع سادة غطفان و فزارة، لأن هذه المعاهدة و إن لم توقع إلّا أنها لم تنقض، فتسبّب ذلك في أن يختلفوا مع قريش في الرأي، أي اجتياح المدينة و بشكل من الاشكال و ان لا يقدموا على أي إجراء عسكريّ مع غيرهم انتظارا للتوقيع على تلك المعاهدة، و لهذا كلّما طلبت القيادة القرشية منهم الهجوم الشامل اعتذروا ببعض الاعذار تملّصا من ذلك الطلب.

(3) 2- مصرع «عمرو بن عبد ود» فارس العرب الأكبر الذي كان الأغلبية في ذلك الجيش يعلّقون عليه آمالهم في الانتصار على المسلمين. فلما قتل تملّك الجميع رعب غريب و انهارت آمالهم، و بخاصة عند ما هرب زملاؤه الشجعان من وجه عليّ عليه السّلام خوفا، و رهبة.

(4) 3- ما لعبه «نعيم بن مسعود» الذي أسلم حديثا، من دور في إلقاء روح الشك و الفرقة بين يهود بني قريظة و جيش «الاحزاب»، فقد قام بهذا الدور بشكل رائع، تماما كما يفعله الجواسيس المنظّمون في عصرنا الحاضر، بل كان ما فعله أفضل و أكبر تأثيرا و عطاء.

فقد أتى «نعيم» هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال يا رسول اللّه؛ قد أسلمت، و إن قومي لم يعلموا باسلامي، فمرني بما شئت.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:273

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنّا ما استطعت (أي ادخل بين القوم حتى يخذّل بعضهم بعضا). فان الحرب خدعة».

(1) فخرج نعيم حتى أتى

بني قريظة، و كان لهم نديما في الجاهليّة، فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي، و خاصّة ما بيني و بينكم.

قالوا: صدقت، لست عندنا بمتّهم.

فقال: إنّ قريشا و غطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم و أبناؤكم و نساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، و ان قريشا و غطفان قد جاءوا لحرب محمّد و أصحابه، و قد ظاهرتموهم عليه، و بلدهم و أموالهم و نساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فان رأوا نهزة أصابوها، و إن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، و خلّوا بينكم و بين محمّد، و لا طاقة لكم به. إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم، على أن تقاتلوا معهم محمّدا حتى تناجزوه.

فقالوا: لقد أشرت بالرأي.

(2) ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال لأبي سفيان بن حرب و من معه من رجال قريش: قد عرفتم ودّي لكم، و فراقي لمحمّد، و انه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه، نصحا لكم فاكتموا عني. فقالوا: نفعل.

قال: اعلموا أنّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم و بين محمّد، و قد أرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين، من قريش و غطفان رجالا من اشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من يبقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.

(3) ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي و عشيرتي، و أحب الناس إليّ، و لا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم،

قال

سيد المرسلين ،ج 2،ص:274

فاكتموا عني، قالوا: نفعل فما أمرك، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش و حذّرهم ما حذّرهم.

و هكذا أدّى «نعيم» وظيفته بأحسن صورة ثم دخل سرا في جيش المسلمين، و اشاع بين المسلمين أنّ بني قريظة تنوي أخذ رجال من المشركين لتسليمهم الى النبي و المسلمين.

و قد كان يقصد من اشاعة هذا النبأ أن يبلغ مسامع رؤساء العرب و قادتهم.

(1)

مبعوثو قريش يمشون إلى بني قريظة:

و لما كانت ليلة السبت قرّر أبو سفيان ان يحسم الموقف بشكل من الأشكال فأرسل إلى بني قريظة جماعة من سادة قريش و غطفان فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف و الحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمّدا، و نفرغ ممّا بيننا و بينه.

فأرسل بنو قريظة إليهم: إن اليوم يوم السبت، و هو يوم لا نعمل فيه شيئا، و قد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، و لسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم محمّدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّدا، فاننا نخشى إن ضرستكم الحرب، و اشتدّ عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم و تتركونا، و الرجل في بلدنا و لا طاقة لنا بذلك منه.

فلما رجعت الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش و غطفان: و اللّه إن الّذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحق.

فارسلوا إلى بني قريظة من يقول لهم: إنا و اللّه لا ندفع إليكم رجلا واحدا، فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.

فقالت بنو قريظة- حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا فان رأوا فرصة انتهزوها، و ان كان

سيد المرسلين ،ج 2،ص:275

غير ذلك أسرعوا إلى بلادهم و خلّوا بيننا

و بين محمّد. في بلدنا «1».

و هكذا انسحبت بنو قريظة من الأحزاب و أوقع اللّه التخاذل بينهم، و تفرّقوا، و تمزق شملهم، و كان ذلك من عوامل فشل الاحزاب، و تقهقرهم و رجوعهم خائبين.

(1)

آخر العوامل لهزيمة الكفار:

لقد انضمت العوامل المذكورة إلى عامل آخر يمكن تسميته- في الحقيقة- بالامداد الغيبيّ ففرقت جماعة الاحزاب، و شتّتّ جماعتهم و ذلك العامل هو أن اللّه تعالى بعث عليهم فجأة الريح و العاصفة، و اشتدّ البرد، و كان اشتداد الريح كبيرا بحيث أكفأ قدورهم، و اقتلع خيامهم و مضاربهم، و أطفأ أضواءهم، و أوجد حريقا في الصحراء.

و هنا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حذيفة أن يعبر الخندق، و يأتيه بخبر عن أحوال المشركين و من مالأهم من الاحزاب.

يقول حذيفة: فذهبت فدخلت في القوم و الريح و جنود اللّه تفعل ما تفعل بهم لا تقرّ لهم قدرا، و لا نارا و لا بناء، فسمعت أبا سفيان يقول، و قد قام في جماعة من قريش: يا معشر قريش إنكم و اللّه ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع و الخفّ، و أخلفتنا بنو قريظة و لقينا من شدّة الريح ما ترون ما تطمئنّ لنا قدر، و لا تقوم لنا نار، و لا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا إني مرتحل.

ثم قام إلى جمله- و هو معقول- فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فو اللّه ما أطلق مقاله إلّا و هو قائم من شدّة الدهش و الخوف!!

و لم يسفر الصبح إلّا و أسرعت قريش و غطفان عائدين إلى بلادهم يجرّون أذيال الخيبة، و لم يبق منهم أحد هناك.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 339- 231، تاريخ الطبري: ج 2 ص 242 و

243.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:276

و هكذا انتهت معركة الاحزاب في الرابع و العشرين من شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة «1».

القرآن الكريم و معركة الاحزاب

و لقد أشار القرآن الكريم إلى أبرز النقاط في معركة الأحزاب (الخندق) ضمن سبع عشرة آية و ها نحن ندرجها برمتها و نشير باختصار إلى ما تضمنته من حقائق:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً

عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ سيد المرسلين ج 2 276 القرآن الكريم و معركة الاحزاب ..... ص : 276

____________________________________________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 244، امتاع الاسماع: ج 1 ص 239.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:277

الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَ تَسْلِيماً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً». «1».

و يمكن تقسيم هذه الآيات الى ثلاثة أقسام:

القسم الاول و هي الآيات التي ترسم الوضع العام للمسلمين عند ما أتتهم عساكر الاحزاب.

القسم الثاني و هي الآيات التي تتعرض لذكر موقف المنافقين و ضعاف الايمان.

القسم الثالث و هي الآيات التي تتعرض لذكر موقف المؤمنين الصادقين.

و إليك بيانا لمفاد هذه الآيات على وجه الاختصار.

1- تبدأ هذه المجموعة من الآيات بتذكير المؤمنين- في الآية الاولى- بنعمة اللّه عليهم أن ردّ عنهم الجيش الذي قصد استئصالهم لو لا عناية اللّه و مدده العظيم، و في هذا إشعار قوي بأن اللّه هو الذي يحمي القائمين على

دعوته و منهجه من عدوان الكافرين و المتآمرين.

2- ثم تشرح الآية الثانية الحالة العسكرية الخطيرة التي كان يواجهها المسلمون، فهم محاصرون من قبل الاعداء و المتواطئين معهم من كل جهة محاصرة

______________________________

(1) الأحزاب: 9- 25.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:278

ألقت الرعب في قلوب الكثيرين من أهل المدينة فزاغت الابصار هولا، و بلغ القلوب الحناجر خوفا، و ظنّ البعض أن ما أعطاهم اللّه و رسوله من الوعد بالتأييد و النصرة لم يكن صحيحا.

3- ثم تحدثت الآية الثالثة عن الابتلاء و الاختبار الذي أفرزه هذا الوضع الخطير، فقد ابتلى المسلمون في هذه الواقعة، و تملكهم خوف شديد.

4- و لكن المنافقين، و الذين في قلوبهم مرض كانوا أشد هولا و خوفا حتى أن ذلك الكرب و الهول أخرج خبيئة نفوسهم، فشككوا في وعود اللّه الصادقة، و قالوا: ما وعدنا اللّه إلّا غرورا، فهو خدعنا إذ وعدنا بالغلبة على أعدائنا.

5- و لم يكتف المنافقون باشاعة هذه التشكيكات بين المسلمين بل دعوا أهل المدينة إلى الانسحاب من الميدان إلى داخل المدينة، و بالتالي حرّضوهم على ترك الصفوف. و احتجوا لذلك بالخوف على النساء و الصبيان من كيد الاعداء قائلين: «بيوتنا عورة» و هم لا يريدون إلّا الفرار جبنا و خوفا.

6- ثم تكشف الآية السادسة و السابعة عن حقيقة ما في نفوس اولئك المنافقين، فهم لا يريدون الانسحاب إلى داخل المدينة للمحافظة على الذراري و الصبيان، انما هو نقض العهد، و خلف الوعد و فقدان الايمان القلبي فهم اذا دخل عليهم العدوّ المدينة و طلبوا منهم الرجوع عن الاسلام لرجعوا إلى الكفر دون تأخير. و لكن اللّه سيسألهم عن العهد الذي أعطوه من قبل بأن يثبتوا امام العدو، و كان عهد اللّه مسئولا».

7- ثم إن

اللّه تعالى يوبخهم- في الآية في الآيات اللاحقة- على موقفهم المتخاذل هذا، و يقول لهم: بأن الفرار و الانسحاب لن ينجيهم من الموت ان كان مقدّرا عليهم، و حتى لو عاشوا أياما فلن يعيشوها في خير و أمان.

كما و يقول لهم: بأن اللّه لا يخفى عليه ما يقومون به من تخذيل و عرقلة لمسيرة الاسلام الصاعدة، و لا تخفى عليه سبحانه مواقفهم في أوقات المحنة، من كف الايدى عن مساعدة المؤمنين، أو سلقهم بألسنتهم و تحميلهم عوامل المحنة و الشدة،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:279

حتى بعد الانتصار.

و هنا يبدو و يبرز دور المنافقين، و تظهر حالاتهم العجيبة في الحرب و السلم.

فهم يخافون خوفا شديدا، و هم يظنون باللّه ظن السوء و هم يشيعون الخوف و روح الهزيمة في الناس و هم ينسحبون و يدعون إلى الانسحاب من الصفوف و هم مستعدون في كل وقت للارتداد و الرجوع عن الاسلام الى الكفر، و هم بالتالي اشحة بخلاء، في نفوسهم كزازة على المسلمين كزازة بالجهد و كزازة بالمال و كزازة بالعواطف و المشاعر على السواء.

8- إنهم لكونهم لم تخالط قلوبهم بشاشة الايمان و لم يهتدوا بنوره يفقدون الشجاعة و القوة حتى بعد ذهاب عوامل الخوف و الهول.

فهم ما يزالون يرتعشون، و يتخاذلون، و يأبون أن يصدقوا أن الاحزاب قد ذهبت و ولّت مهزومة. و يودون لو أن الاحزاب دخلت المدينة أن لا يكونوا فيها مبالغة في النجاة من الأهوال!!

9- و لكن في مقابلة هذا الفريق المتخاذل الجبان يرسم القرآن الكريم في الآيات 21 إلى 25 صورة المؤمنين الصادقين و في مقدمتهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القدوة الحسنة لجميع المسلمين في جميع الحالات و الظروف.

فان هذه الجماعة المؤمنة

الصادقة لما رأت الاحزاب قالت: هذا ما وعدنا اللّه و رسوله، هذا الهول لا بد أن يجي ء فيه النصر فهو وعد اللّه الصادق المحقق.

فصمدوا و صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، فجزاهم اللّه بصدقهم إذ ردّ الذين كفروا بغيظهم، لم ينالوا خيرا و كفى اللّه المؤمنين القتال، و كان اللّه قويا عزيزا خلافا لما ظنه المنافقون، و توهموه.

و قد كانت هذه الواقعة في منظور القرآن الكريم امتحانا عظيما، و اختبارا دقيقا للنفوس و القلوب و هو امتحان لا بد منه حتى يتميز الصادق عن المنافق، و الموفون بعهدهم و الناقضون له.

كما أن هذه الواقعة و ما جاء حولها من الآيات كشفت عن أن وعود اللّه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:280

صادقة و محققة اذا توفرت شرائطها، و مقدماتها، و منها استخدام الوسائل الطبيعية المناسبة، و الاتكال على اللّه و استمداد العون منه.

و في هذه الآيات إشارة إلى دور ما يسمى الآن بالطابور الخامس و إلى خطورة الشائعات السيئة في المجتمع، و بخاصة في ظروف الحرب.

كما أن فيها اشارة إلى كيفية مواجهة هذه الشائعات و التعامل مع فعاليات هذا الفريق الخطر.

و لقد لا حظنا خلال ما مضى من السيرة كيف أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يبطل بتكتيكاته العسكرية مفعول تلك النشاطات التخريبية و المضرة.

فقد كان يعتمد اسلوب الدعاء، و الذكر، و التشجيع، و التكبير، و ارسال الدوريات العسكرية و العمل المباشر و المشاركة الفعلية في عمليات الدفاع و الحراسة و ما شاكل ذلك ممّا ذكرناه و ممّا لم تسع هذه الدراسة لذكره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:281

حوادث السنة الخامسة من الهجرة (1)

38 سقوط آخر أوكار الفساد و المؤامرة

اشارة

أقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة الاولى من هجرته الى المدينة، على تنظيم و

عقد ميثاق تعايش بين سكان المدينة و ما حولها، بغية إنهاء جميع أشكال الاختلاف، و التنازع، و الصراع الداخليّ.

و قد تعهّد الأوسيّون و الخزرجيّون، عامة و اليهود من تينك القبيلتين أن يدافعوا عن المدينة و ما حولها، و قد مرّ النص الكامل لهذا الميثاق على القارئ الكريم فيما سبق «1».

هذا من ناحية.

(2) و من ناحية اخرى عقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينه و بين يهود المدينة ميثاقا آخر ينصّ على أنّ مختلف الطوائف اليهودية تتعهد بأن لا تلحق أيّ ضرر و أذى برسول اللّه و أصحابه، و لا تمدّ أعداءهم بالخيل و السلاح، و أنها لو فعلت شيئا من ذلك يكون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحق في أن يقتلهم، و يسبي نساءهم و أبناءهم.

إلّا أنّ جميع الطوائف اليهودية الثلاث نقضت الميثاق المذكور بشتى العناوين و الصور، و تجاهلت بنوده، و مواده!

فقد قتل «بنو قينقاع» مسلما، و خطّطت «بنو النضير» لاغتيال رسول اللّه

______________________________

(1) راجع صفحة 21 من هذا الجزء.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:282

صلّى اللّه عليه و آله، و أجبرهم على الجلاء من المدينة و أخرجهم من البيئة الاسلامية.

و تعاونت «بنو قريظة» مع جيش المشركين لضرب المسلمين، و طعنهم من الخلف، و الآن يجب أن نرى كيف يوبخ رسول اللّه بني قريظة على نقضهم للميثاق.

قوات الاسلام تحاصر بني قريظة:

(1) لم يكن الصبح قد أسفر بعد عند ما غادرت آخر مجموعة من جنود «الأحزاب» أرض المدينة قافلة إلى بلادها مرعوبة فزعة للغاية.

كما أن آثار التعب و الارهاق لم تكن قد فارقت بعد ملامح المسلمين، و مع ذلك فقد أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بأن يعالج قضيّة «بني قريظة» بصورة نهائية، فأذّن مؤذّن رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و صلّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمسلمين صلاة الظهر، ثم نادى منادي النبي صلّى اللّه عليه و آله في الناس:

من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلّا ببني قريظة!

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قدّم «عليّ بن أبي طالب» برايته «1»، و خرج معه جنود الإسلام الشجعان، فحاصروا حصون «بني قريظة»، فأخبرهم ديرانيهم بنشاط المسلمين، فبادروا إلى اغلاق أبواب الحصون، و التحصّن في داخلها، و نشبت الحرب بين بني قريظة و المسلمين من اللحظات الاولى فقد أخذ اليهود يشتمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا فيه مقالة قبيحة فرجع عليّ عليه السّلام بالمسلمين فالتقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الطريق و قد كره أن يسمع النبي صلّى اللّه عليه و آله أذاهم و شتمهم و حاول أن يثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الاقتراب إلى حصن بني قريظة قائلا: لا عليك أن تدنو

______________________________

(1) زاد المعاد: ج 2 ص 73، و امتاع الاسماع: ج 1 ص 243.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:283

من هؤلاء الاخابث.

فلما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بسبب ذلك قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حصونهم قال لهم:

«هل أخزاكم اللّه و أنزل عليكم نقمته»؟

و قد كانت ردة فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الشديدة غير متوقعة لليهود، و من هنا قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا .. و هم يريدون بذلك إطفاء مشاعره الملتهبة ضدّهم «1».

فأثارت كلمتهم هذه عاطفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحيث رجع من غير

اختيار، و سقط رداؤه من كتفه.

(1)

اليهود يتشاورون حول الموقف:

تشاور يهود بنو قريظة و هم معتصمون بحصونهم في الموقف، و قد شارك فيه «حيي بن أخطب» مثير معركة الأحزاب، فانه لم يذهب إلى خيبر بعد أن وضعت الحرب- في معركة الاحزاب- أوزارها و ولى العرب المشركون بل دخل في حصون بني قريظة.

هذا و قد طرح زعيم بني قريظة ثلاثة اقتراحات و طلب من الجميع أن يتفقوا على واحدة منها لمعالجة الموقف:

(2) 1- أن يؤمنوا برسول اللّه، و يصدّقونه لأنه قد تبيّن لهم أنه نبي مرسل، و أنه الّذي يجدونه في كتابهم، و بذلك يأمنون على دمائهم و أموالهم و نسائهم و أبنائهم.

(3) 2- أن يقتلوا أبناءهم و نساءهم ثم يخرجوا إلى محمّد و أصحابه يقاتلونهم، فإذا هلكوا، هلكوا و لم يتركوا وراءهم نسلا يخشى عليه، و إن انتصروا تزوجوا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 234، تاريخ الطبري: ج 2 ص 245 و 246.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:284

من جديد، و وجدوا أبناء.

(1) 3- ان الليلة هي ليلة السبت، و انه عسى أن يكون محمّد و أصحابه قد منوهم فيها، لعلمهم بأن اليهود لا يقاتلون في السبت، فلينزلوا من الحصون لعلهم يصيبون من محمّد و أصحابه على حين غفلة.

و لكن المشاورين رفضوا جميع هذه الطروحات و قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، و لا نستبدل به غيره، و قالوا: ان نقتل أبناءنا و نساءنا فما خير العيش بعدهم، و قالوا: لا نقاتل ليلة ليلة السبت، محمّدا و أصحابه نفسد سبتنا علينا، و نحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلّا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ «1».

إن هذا الحوار يساعدنا على فهم نفسية تلك الجماعة (و نعي

اليهود)، و خصالهم و أخلاقهم الفاسدة.

فإن رفض الاقتراح يكشف عن أنهم كانوا جماعة معاندة، لجوجة، لأنهم إذا كانوا حقا يعرفون صدق نبوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- كما قال زعيمهم- لم يكن لوقوفهم سبب الا العناد و العتوّ، و اللجاج.

(2) و اما الاقتراح الثاني و ما دار حوله من كلام فيشهد- بجلاء- على أن تلك الطائفة كانت جماعة قاسية، لا تعرف للرحمة و الحنان معنى، لان قتل الاطفال و النساء الابرياء لا يمكن من دون قسوة شديدة.

هذا مضافا إلى أن المشاورين آنذاك رفضوا هذا المقترح لا بدافع الرحمة و الشفقة على الأطفال و النساء، بل لأن الحياة لا تعود لذيذة بعد فقدهم هذا هو ما قالوه. و لم يقل أي واحد منهم: و ما ذا جنى الاطفال و النساء حتى نقتلهم و نذبحهم، و لو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- تمكن منهم- لم يقتلهم، فكيف نعمد نحن (الآباء الرحماء) إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة بحقهم. فنفسك دماءهم

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 236.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:285

من غير جرم و لا جناية؟

(1) و أما الاقتراح الثالث فيكشف عن أنهم لم يكونوا يعرفون جيدا مدى علم رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله بفنون القتال، و الدفاع و كانوا يتصورون أن القائد الأعلى للاسلام لا يراعي قواعد الحذر و الاحتياط ليلة السبت و يومه، و خاصة في مواجهة أعداء خونة، أخوان غدر و مكر، أمثال اليهود الناقضين للعهود، الناكثين للمواثيق.

ان دراسة و تقييم معركة «الاحزاب» تثبت ندرة وجود الاذكياء و الفطنين بين هذه الجماعة، و الّا لكانوا يتمكنون من حفظ كيانهم حتى من الناحية السياسية في تلك الظروف من دون أن ينحازوا إلى

أيّ واحد من طرفي الصراع (الاسلام و الشرك).

أي أنه كان من الممكن أن يتخذوا جانب الحياد الكامل، و يبقوا متفرجين لما يدور بين محمّد، و جيش المشركين، و بهذا يبقوا محافظين على كيانهم و وجودهم، انتصر من انتصر و غلب من غلب.

(2) و لكنهم خدعوا بتسويلات «حيي بن أخطب» و وسوساته و انحازوا الى جيش العرب المشركين فتورطوا في مثل تلك الورطة، و هي أن يتخلوا- في النهاية- عن مساعدة قريش بعد شهر كامل من التعاون معهم، و الرضوخ لخطة «نعيم بن مسعود»، و إخبار قريش بأنهم لن يتعاونوا معهم ضدّ رسول الاسلام ما لم تسلم قريش بعض شخصياتها إليهم، لغرض الاحتفاظ بهم في حصونهم كوثيقة!!

لقد غاب عن تلك الزمرة المعاندة اللجوجة أنهم قد تعاونوا ضدّ رسول الاسلام في بداية الأمر، فاذا قطعوا علاقاتهم مع قريش، و ترك جيش المشركين ساحة المعركة إذا أحسّ بالعجز عن تحقيق أي انتصار، و عاد الى بلاده، فان بني قريظة بأجمعهم سيكونون حينئذ في قبضة المسلمين.

(3) فلو كانوا يملكون شيئا من الرؤية السياسية الصحيحة لكان عليهم أن يعلنوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- فور قطع العلاقات مع قريش- عن ندامتهم على

سيد المرسلين ،ج 2،ص:286

نقض الميثاق الذي عقدوه من قبل مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و يعتذروا إليه ممّا بدر منهم لينجوا من الخطر- في صورة انتصار المسلمين على الكفار- و لكن الشقاء أصابهم عند ما قطعوا العلاقات مع جيش قريش، و لم يلتحقوا بالمسلمين، و لم يعتذروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

على أنه لم يكن في مقدور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يترك بني قريظة- بعد هزيمة جيش العرب- على حالهم،

و يغض النظر عن موقفهم إذ لم يكن من المستبعد، أن يفكر العرب في مناسبة اخرى في تسيير جيش ضخم و منظم آخر لاجتياح المدينة، و يتمكنوا مع مساعدة بني قريظة من استئصال الاسلام.

فكان يهود بني قريظة يعتبرون- في الحقيقة- العدوّ الداخلي الذي يهدّد كيان الاسلام من الداخل، و على هذا كان من الواجب معالجة الامر مع بني قريظة، و حلّ هذه المسألة الخطيرة بالنسبة الى المسلمين من الاساس.

(1)

خيانة أبي لبابة:

لقد طلب يهود بني قريظة بعد محاصرة النبي صلّى اللّه عليه و آله لهم، أن يبعث إليهم «أبا لبابة» الأوسي ليتشاوروا معه في الموقف، و قد كان أبو لبابة حليفا لليهود قبلى دخول الاسلام إلى المدينة، فأرسله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال و جهش إليه النساء و الصبيان يبكون في وجهه و قالوا: يا أبا لبابة أ ترى أن ننزل على حكم محمّد؟

قال: نعم- و أشار بيده إلى حلقه- يريد أنهم سوف يقتلهم و لن يحقن دماءهم، لو سلّموا.

لقد كان أبو لبابة يعلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لن يوافق على بقاء هذه الزمرة الشريرة الخائنة الخطرة على دين التوحيد، إلّا أن أبا لبابة قد خان بفعله هذا المسلمين، و مصالح الاسلام العليا، و أفشى سرّا كان عليه أن يكتمه قبل وقوعه، و لهذا ندم على فعله ندما شديدا، فخرج من حصن بني قريظة و هو

سيد المرسلين ،ج 2،ص:287

يرتجف و يقول: إنّي خنت اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و انطلق على وجهه، و لم يأت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين و هم ينتظرون رجوعه إليهم- و ربط نفسه في

المسجد بعمود من أعمدته، و قال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب اللّه عليّ ما صنعت!!

(1) و يقول المفسرون: فنزل في خيانة أبي لبابة قول اللّه تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» «1».

فلما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خبر أبي لبابة، و كان قد استبطأه قال:

أما أنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب اللّه عليه.

و بقي أبو لبابة مرتبطا بالاسطوانة، و كانت ابنته أو زوجته تأتيه في مواعيد الصلاة، و تحلّ رباطه، فيصلّي ثم تعيد الرباط.

فلما كان السحر من اليوم السابع نزلت توبة أبي لبابة بواسطة ملك الوحي- على رسول اللّه و هو في بيت أمّ سلمة، و الآية التي نزلت في توبته هي قوله تعالى:

«وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «2».

(2) فلما نظرت أمّ سلمة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو مستبشر يضحك قال صلّى اللّه عليه و آله لها:

«لقد تيب على أبي لبابة إن شئت فبشريه».

فقامت إليه و هو مرتبط بالجذع في المسجد و قالت له: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللّه عليك.

فلما عرف الناس بذلك أرادوا أن يطلقوه فقال: لا و اللّه حتى يكون رسول اللّه

______________________________

(1) الأنفال: 27.

(2) التوبة: 102.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:288

صلّى اللّه عليه و آله هو الذي يطلقني.

فلما مر عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه «1».

(1) و لا شك إن زلّة أبي لبابة كانت بسبب عواطفه تجاه يهود بني قريظة، فقد سلبه

بكاء رجالهم و نسائهم، و صبيانهم و استغاثتهم العاطفية القدرة على ضبط النفس، فكشف سرّا من أسرار المسلمين كان عليه أن يكتمه، و لكنّ قوة الايمان باللّه و الخشية من عذابه أكبر و أعلى من كل شي ء الى درجة أنها دفعت بابى لبابة إلى أن يندم على فعله ذلك الندم العجيب، و يعمد- لجبران تلك الخيانة- الى ما فعل من الانابة، و الاستغفار، الأمر الذي تكون نتيجته أن لا تراود مثل هذه الفكرة نفسه مرة اخرى قط.

(2)

إلى أيّ مدى ذهب الطابور الخامس في مشاغبته؟

خرج «شأس بن قيس» اليهودي من الحصن ليتحادث مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نيابة عن بني قريظة، فطلب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يسمح ليهود بني قريظة بأن يحملوا معهم أموالهم و يخرجوا من المدينة كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع بني النضير، فأبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «لا، إلّا أن تنزلوا على حكمي».

فقال شأس: لك الاموال و السلاح و تحقن دماءنا، فابى النبي صلّى اللّه عليه و آله و رفض هذا الاقتراح أيضا.

و هنا يطرح السؤال التالي نفسه و هو: لما ذا رفض رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله مقترحات مندوب بني قريظة؟!

إن السبب واضح، فانه لم يكن من المستبعد أن تقدم هذه الزمرة- بعد

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 237 و 238.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:289

خروجها من قبضة المسلمين- على تحريك العرب المشركين الوثنيين ضدّ الاسلام و المسلمين على نحو ما فعلت بنو النضير، و تعرّض المجتمع الاسلامي و الدولة الاسلامية الفتية لأخطار كبرى جدا، و تسبب في سفك دماء كثيرة.

(1) و لهذا لم يوافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله على اقتراحات مندوب بني قريظة، و عاد شأس إلى الحصن، و اخبر قومه بمقالة رسول اللّه عليه و آله، و رفضه لمقترحاته.

فقرر بنو قريظة التسليم للمسلمين من دون أي قيد أو شرط.

أو الرضا بما يحكم به سعد بن معاذ الأوسي- و كان حليفا لهم- في حقهم.

و لهذا عمدوا الى فتح باب الحصن، و دخل عليّ عليه السّلام على رأس كتيبة خاصة من المسلمين الحصن و جرّدوا بني قريظة من السلاح، و حبسوهم في منازل «بني النجار» ليتقرر مصيرهم فيما بعد.

(2) و حيث إن يهود بني قينقاع قد اسروا على أيدي جنود الاسلام، ثم عفي عنهم بوساطة من الخزرج و بخاصة «عبد اللّه بن ابي»، و انصرف النبي صلّى اللّه عليه و آله عن إهراق دمهم فيما مضى، لذا ضغط الاوسيون المتحالفون مع بني قريظة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصرّوا عليه اصرارا شديدا بأن يعفو عن بني قريظة الذين كانوا متحالفين مع الأوس من قبل أن يقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة، و ذلك منافسة للخزرج، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قاوم هذا الطلب، و قال لهم:

«أ لا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم»؟

قالوا: بلى.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فذاك إلى «سعد بن معاذ» فهو يحكم فيهم.

(3) و الطريف أن اليهود قد قبلوا هم أيضا بما يحكم به سعد بن معاذ فقد بعث بنو قريظة الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- كما يروى ابن هشام «1» و الشيخ

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 240.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:290

المفيد «1»-: يا محمّد ننزل على حكم سعد بن معاذ.

(1)

و كان سعد آنذاك يتداوى في خيمة لامرأة تدعى «رفيدة» من سهم أصابه في معركة الخندق، و كانت رفيدة تداوي الجرحى في سبيل اللّه، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعود سعدا بين الحين و الآخر، فلما حكّمه في بني قريظة أتاه فتيان الأوس، و حملوه على حمار و قد وطئوا له بوسادة من أدم و كان رجلا جسيما جميلا، ثم أقبلوا معه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما طلع سعد على رسول اللّه و الناس حوله صلّى اللّه عليه و آله جلوس، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«قوموا إلى سيّدكم».

فقام الناس على أرجلهم صفين احتراما لسعد، و حيّاه كل واحد منهم، حتى انتهى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد طلب منه رجال قومه مرارا أن يحسن الحكم في حلفائهم: يهود بني قريظة، و يخلّصهم من خطر الموت و القتل قائلين: يا سعد أجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد حكّمك فيهم لتحسن فيهم.

و لكن سعدا حكم في ذلك المجلس- رغم كل ذلك الالحاح، و الضغط- بأن يقتل رجال اليهود، و تقسّم أموالهم، و تسبى ذراريهم و نساؤهم «2».

(2)

تقييم ما استند إليه سعد في حكمه:

ليس من شك في أنه اذا غلبت عواطف القاضي و أحاسيسه على عقله، تعرض جهاز القضاء للفوضى و الاختلال، و انتهى الى تمزق المجتمع و سقوطه،

______________________________

(1) الارشاد: ص 50 و أيضا راجع زاد المعاد: ج 2 ص 73، امتاع الاسماع: ج 1 ص 246.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 240، المغازي: ج 2 ص 510، زاد المعاد: ج 2 ص 73 و 74.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:291

و انهيار كل

شي ء، لارتباط كل شي ء بالعدالة و ارتباط العدالة بالقضاء و المؤسسة القضائية.

إن العواطف تشبه الى حد بعيد الشهية الكاذبة التي تزيّن في نظر صاحبها كل مضر مهلك في حين إذا غلبت هذه العواطف و المشاعر العقل سحقت مصالح الفرد و المجتمع، أو أضرت به أشدّ و أبلغ إضرار.

(1) إنّ عواطف سعد و أحاسيسه و مشاعره، و منظر صبيان و نساء بني قريظة المحزن، و أوضاع رجالهم التي كانت تثير الاشفاق و هم في الحبس، و ملاحظة الرأي العام في قبيلة الأوسيين الذين كانوا يلحّون على سعد أن يحسن الحكم و الرأي في بني قريظة، كل هذه الاعتبارات كان من شأنها أن تجعل القاضي فريسة العاطفة، فيصدر حكمه على أساس من تقديم مصالح أقلية خائنة مشاغبة على مصالح الاكثرية (أي عامة المسلمين) و يبرّئ بني قريظة الجناة الخونة، أو يخفف عن عقوبتهم أكبر قدر ممكن، على الأقلّ، أو يسلّم لإحدى المقترحات السابقة.

إلّا أن منطق العقل، و حرية القاضي و استقلاله في الحكم و القضاء و مراعاة المصالح العامة كل ذلك قاد سعدا إلى ناحية اخرى، فحكم بأن يقتل رجال تلك الزمرة المتآمرة الخائنة، و تصادر أموالهم، و تسبى نساؤهم و أطفالهم.

(2) و قد استند هذا الحاكم في حكمه هذا إلى الامور التالية:

(3) 1- أن يهود بني قريظة قد تعهّدوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله قبل مدّة بأنهم لو تآمروا ضدّ الإسلام، و المسلمين، و ناصروا أعداء التوحيد، و اثاروا الفتن و القلاقل، و ألبوا على المسلمين كان للمسلمين الحق في قتلهم و مصادرة أموالهم و سبي نسائهم «1».

و قد رأى بأنه لو حكم بمعاقبة اليهود حسب هذا الميثاق لم يصدر حكما مخالفا

______________________________

(1) و لقد مرّ

عليك نص هذا الميثاق الذي وقع عليه كعب بن الاسد رئيس بني قريظة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:292

للعدالة، و لم يرتكب ظلما.

(1) 2- إن هذه الزمرة الناقضة للميثاق أخلّت بأمن المدينة في ظل حراب القوى المشركة، فترة من الزمن، و هاجمت منازل المسلمين، و لو لا مراقبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للاوضاع و حراسة من عيّنهم من جنود الاسلام للحفاظ على أمن المدينة، لفعلت تلك الزمرة الأفاعيل و لارتكبت أسوأ الفضائع و الفجائع، و لو أتيح لهم أن يسيطروا على المدينة لقتلوا رجال المسلمين و صادروا أموالهم، و سبوا نساءهم و أطفالهم.

و من هنا رأى سعد بن معاذ في نفسه بأنه لو قضى فيهم بمثل هذا القضاء لما خالف الحق و أطفالهم.

(2) 3- من المحتمل جدا أن سعد بن معاذ رئيس الأوس الحلفاء ليهود بني قريظة، و الذين كانت بينهم علاقات ودّ و محبّة كان مطّلعا على قوانين اليهود، الجزائية في هذا المجال، فإن التوراة تنص بما يلى: «حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعاها إلى الصلح. فان اجابتك إلى الصلح و فتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، و يستعبد لك. و ان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. و اذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، و اما النساء و الأطفال و البهائم و كل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك» «1».

و لعلّ سعدا فكر في نفسه بأن القاضي المرضيّ و المقبول لدى الجانبين لو عاقب المعتدين حسب شريعتهم ما فعل إلّا ما يقتضيه العدل و الانصاف.

(3) 4- و الذي نتصوره هو أن أكبر أسباب هذا الحكم هو أن «سعد بن معاذ» رأى بام عينيه أن

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عفا عن بني قينقاع المعتدين بناء على طلب من الخزرجيين، و اكتفى- من عقابهم- باخراجهم من المدينة، و اجلائهم

______________________________

(1) التوراة: سفر التثنية الفصل العشرون 10- 14.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:293

عنها و لكن تلك الزمرة التي شملها عفو النبيّ لم تكن تغادر أراضي الاسلام حتى بدأت بالمشاغبة و المؤامرة الدنيئة ضدّ الاسلام، فذهب كعب بن الأشرف الى مكة، و أخذ يتباكى- دجلا و خداعا- على قتلى بدر، و يذرف عليهم دموع التماسيح، و لم يفتأ عن تأليب قريش ضد رسول الاسلام و أصحابه حتى عزمت قريش على تسيير جيشها نحو المدينة، و كانت واقعة «احد» التي استشهد فيها اثنان و سبعون من خيرة أبناء الاسلام، و رجاله.

(1) و هكذا فعلت بنو النضير المتآمرون الخونة، الذين عفا عنهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اكتفى من عقابهم بمجرّد اجلائهم عن المدينة، و لكنهم قابلوا هذا الموقف الانساني، بتأليب القبائل العربية المشركة ضدّ الاسلام، و المسلمين، و كوّنوا اتحادا نظاميا بينها، و ألفوا منها جيشا قويا ساروا به الى عاصمة الاسلام (المدينة)، فكانت وقعة (الاحزاب) التي لو لا حنكة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و خطة حفر الخندق لقضي على الاسلام بسببها منذ الايام الاولى، و لما بقي من ذلك الدين خبر و لا أثر و لقتل آلاف الناس.

(2) لقد لاحظ سعد بن معاذ كل هذه الاعتبارات، فلم تسمح له التجارة الماضية بأن يستسلم لعواطفه، و يضحّي بمصالح الآلاف في سبيل الحفاظ على مصالح أقلية لأنه كان من المسلّم به أن هذا الفريق سيقوم في المستقبل بايجاد تحالف عسكري أوسع، و سيثير و يؤلب قوى العرب ضد الاسلام، و

يعرّض مركز الاسلام، و محوره الاساسي للخطر من خلال تدبير مؤامرات اخرى.

و على هذه الأساس رأى بأن وجود هذه الزمرة يضرّ المجتمع الاسلامي مائة بالمائة و أيقن بأن هذه الزمرة لو أتيح لها أن تخرج من قبضة المسلمين لما فتأت لحظة عن المؤامرة و لواجه المسلمون بسببها أخطارا كبرى.

(3) و من المحقق أنه اذا لم تكن في المقام هذه الجهات و الاعتبارات لكان إرضاء الرغبة العامة في الابقاء على بني قريظة أو التخفيف في عقابهم أمرا في غاية الأهمية بالنسبة إلى سعد بن معاذ، فان رئيس أي قوم، أو جماعة أحوج ما يكون

سيد المرسلين ،ج 2،ص:294

إلى تأييد قومه و جماعته و كسب رضاهم و دعمهم، و لا ريب أن عدم الاستجابة لمطلبهم، و تجاهل توصياتهم يوجّه أكبر ضربة لسيد القوم و رئيسهم، و لكن سعدا (رئيس الأوس) أدرك أن جميع هذه التوصيات و الوساطات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين، من هنا آثر عدم الحياد عن حكم العقل، و المنطق، على رضا قومه عنه.

هذا و إن الّذي يشهد بدقة نظر سعد، و صواب رأيه، و صحة تشخيصه و تقديره للأمر أنه عند ما اتي بحيي بن أخطب ليضرب عنقه فوقعت عينه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما لمت نفسي في عداوتك، و لكنه من يخذل اللّه يخذل. أي لو لا خذلان اللّه لليهود لاستمرّوا في معاداة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تدبير المؤامرات ضده.

ثم أقبل على الناس فقال: يا أيّها الناس لا بأس بأمر اللّه، ملحمة كتبها اللّه على بني إسرائيل.

(1) ثم إنه قتل في هذه الواقعة من النساء امرأة واحدة لأنها ألقت برحى من فوق الحصن فقتلت به أحد

المسلمين، فقتلت قصاصا.

و كان بين المحكوم عليهم بالقتل رجل اسمه «الزبير بن باطا» شفع له رجل من المسلمين يدعى ثابت بن قيس، فلم يقتل، و اخلي سبيل زوجته و أولاده، و اعيدت إليه أمواله، و أسلم أربعة من بني قريظة، و قسّمت غنائم العدوّ بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها، و اخراج ما يرتبط بالامور الادارية الاسلامية العامة.

و قد اعطي للفارس سهمان، و للراجل سهم واحد، و سلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أموال «الخمس» إلى زيد بن حارثة ليذهب بها إلى نجد و يشتري بها العتاد، و السلاح، و الخيل، و غيرها من أدوات الحرب «1».

______________________________

(1) تاريخ الطبرى: ج 2 ص 250، السيرة النبوية: ج 2 ص 241، زاد المعاد: ج 2 ص 74.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:295

(1) و هكذا انتهت مشكلة بني قريظة في التاسع عشر من شهر ذي الحجة من السنة الخامسة للهجرة، و قد نزلت في شأن هذه الواقعة الآيات 26- 27 من سورة الاحزاب اذ يقول سبحانه:

«وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً».

و قد استشهد «سعد بن معاذ» الذي سبق أن جرح في معركة الخندق بعد حادثة بني قريظة هذه «1»

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 250- 254.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:296

(1)

حوادث السنة السادسة من الهجرة

39 أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة «1»

اشارة

لم تنقض السنة الهجرية الخامسة إلّا و قد انتهت فتنة «الاحزاب» و «بني قريظة»، و قضي عليهما بالكامل، و أصبحت المدينة و ضواحيها برمتها في قبضة المسلمين و تحت سيطرتهم، و ازدادت قواعد الحكومة الاسلامية الفتية رسوخا و ثباتا، و

ساد هدوء نسبي في المنطقة التي تخضع للحكومة الاسلاميّة، غير أن هذا الهدوء كان هدوء موقتا، و كان على قائد المسلمين الأعلى أن يراقب أحوال العدو و أوضاعه، و تحركاته ليقضي في المهد على كل مؤامرة ضدّ الاسلام بما اوتي من قوى و امكانيات.

(2) و لقد سمح الهدوء الذي ساد المنطقة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأن يقمع بعض مشعلي فتنة «الاحزاب» الذين هربوا من قبضة المسلمين بعد رحيل «الاحزاب».

فلقد قتل «حيي بن أخطب» الذي كان من مشعلي معركة الأحزاب، في غزوة بني قريظة، و لكن رفيقه «سلّام بن أبي الحقيق» كان لا يزال يعيش في خيبر، و لا شكّ في أن هذا العنصر الخطر لم يكن ليفتأ لحظة واحدة عن إثارة و تأليب «الأحزاب» مرّة اخرى ضدّ الاسلام، و خاصة أن العرب الوثنيين كانوا

______________________________

(1) يستفاد من السيرة النبوية: ج 3 ص 291 ط 1355 أن خطة اغتيال «سلّام» كانت قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة، و لكن بالنظر إلى أن قضية بني قريظة حدثت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة يستبعد هذا الرأى.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:297

مستعدين لشن حرب على الاسلام، و كان من المحتمل إذا نوفرت هناك جهة تتكفل نفقات الحرب، أن تتكرر قضية الاحزاب مرة اخرى.

(1) على أساس هذه المحاسبات كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1» مجموعة من شجعان الخزرج و فوارسهم بأن يصفّوا هذا العنصر الخطر، الجري ء و الحاقد، بشرط أن لا يتعرّضوا لأحد من أبنائه و زوجاته.

فخرجوا حتى قدموا خيبر، فدخلوا خيبر ليلا و لم يدعوا بابا في الدار الا أغلقوه على أهله حتى لا يحس بهم أحد إذا صاح و استغاث بأحد، ثم تسللوا إلى غرفته و

كانت في الطابق الاعلى، فطرقوا باب حجرته، فخرجت إليهم امرأته و قالت:

من أنتم؟ قالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة، ففتحت الباب و سمحت لهم بالدخول عليه من دون التحقق من أمرهم، فدخلوا في غرفته و ابتدروه و هو على فراشه بأسيافهم بعد أن أغلقوا باب الغرفة على أنفسهم، و قضوا على ذلك المفسد الشرير الذي طالما أزعج المسلمين بفتنه و مؤامراته، ثم خرجوا، و انحدروا من الدرج و اختبئوا في ممرّ مائي من خارج الحصن الى داخله، فصاحت زوجته، و استغاثت بالجيران، فأوقد اليهود النيران، و اشتدوا في طلب تلك الجماعة الفدائية المسلمة، و لكن من دون جدوى، و عند ما يئسوا من القبض عليهم رجعوا الى صاحبهم المقتول، و قد بلغ من جرأة المسلمين أن بعثوا أحدهم ليدخل بين اليهود في خيبر و يأتي لهم بخبر ابن أبي الحقيق، لأنهم كانوا يظنون بأنه لا يزال على قيد الحياة.

(2) فدخل ذلك الرجل بين اليهود فوجدهم و امرأته حول ابن أبي الحقيق، و في يدها المصباح تنظر في وجهه، و تحدثهم، و تقصّ عليهم ما جرى، ثم أقبلت عليه

______________________________

(1) إن السبب أو الحكمة في تكليف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخزرج بهذه المهمة هو أن الاوس قاموا بعملية مشابهة في حق «كعب بن الأشرف» اليهودى الخطر فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إقامة توازن في كسب المفاخر بين تينك القبيلتين و لذلك أوكل مهمة تصفية هذا اليهودي المفسد إلى رجال الخزرج.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:298

تنظر في وجهه ثم قالت: فاظ (أي مات) و إله يهود.

فعاد إلى رفاقه و أخبرهم بنجاح عمليّتهم و هلاك عدوّ اللّه: «سلام بن أبي الحقيق» على أيديهم، فخرجوا في تلك

الليلة من مخبأهم و عادوا إلى المدينة و أخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما جرى «1».

(1)

أهل الرأي من قريش يهاجرون الى الحبشة:

توجه جماعة من أهل الرأي في قريش الذين أخافهم تقدّم الاسلام، و انتشاره المطرد بشدة، الى البلاط الحبشي ليقطنوا و يقيموا في الحبشة فقد قالوا: الرأي أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فان ظهر «محمّد» على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمّد و إن ظهر قومنا فنحن من عرفوا فلن يأتينا منهم إلّا خير.

و خرجت هذه الجماعة و فيهم «عمرو بن العاص» بهدايا كثيرة من الحجاز قاصدة أرض الحبشة، و بلاط النجاشيّ بالذات.

(2) و صادف دخولهم على «النجاشي» ورود «عمرو بن اميّة الضمري» مبعوث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حامل كتابه إلى النجاشي يوصيه فيه بجعفر بن أبي طالب، و المهاجرين الآخرين من رفقائه.

فقال «عمرو بن العاص»: لو دخلت على «النجاشيّ» بالهدايا و سألته عمرو بن اميّة فاعطانيه، فضربت عنقه.

فدخل «عمرو بن العاصي» على «النجاشيّ»، و سجد له- على النحو الذي كان متبعا- فسأله النجاشيّ عن حاله، ثم قال: هل أهديت إليّ من بلادك شيئا؟

قال ابن العاص: نعم أيها الملك، قد أهديت إليك ادما كثيرا، ثم قال: أيها

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 274 و 275.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:299

الملك اني قد رأيت رجلا خرج من عندك (و يقصد مبعوث رسول اللّه) و هو رسول عدوّ لنا، فاعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا و خيارنا.

(1) فغضب النجاشيّ لمقالة ابن العاص غضبا شديدا فصفعه صفعة كادت أن تكسر أنفه، ثم قال: أ تسألني أن اعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله.

ويحك يا عمرو أطعني و اتبعه فانه و اللّه لعلى الحق، و ليظهرنّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون و جنوده، ثم قال: أ فتبايعني له على الاسلام؟

يقول عمرو بن العاص: فقلت نعم، فبسط يده فبايعته على الاسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، و قد حال رأيي عما كان عليه، و كتمت أصحابي إسلامي «1».

(2)

الوقاية من تكرار التجارب المرة:

تركت حادثة «الرجيع» المرّة التي قتل فيها جماعة من قبائل «عضل» و «القارة» من بني لحيان ثلة من دعاة الاسلام غدرا و من دون رحمة، بل و سلّمت رجلين منهم بقوا على قيد الحياة إلى قريش فصلبتهما قريش صبرا انتقاما من رسول اللّه و المسلمين.

لقد تركت هذه الفاجعة المأساوية المؤلمة ألما شديدا في نفوس المسلمين، و أحدثت جرحا عميقا في ضمائرهم و أدت إلى توقف حركة الارشاد و التبليغ و الدعوة.

و لكن في الظروف المستجدة التي استطاع الاسلام أن يزيل- بعد الأحزاب و بني قريظة- كل العراقيل و العقبات عن سبيل المسلمين رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن من الضروري تأديب بني لحيان لتعتبر بقية القبائل، فلا يؤذوا بعد ذلك فرق الدعوة و بعثات التبليغ الاسلامي.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 276 و 277.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:300

(1) فاستخلف مكانه لإدارة شئون المدينة «ابن أمّ مكتوم» في الشهر الخامس من السنة الهجرية السادسة و لم يظهر لأحد ما يقصده، بل خرج يظهر أنه يريد الشام ليصيب «بني لحيان» على غفلة منهم، فلما وصل الى طريق مكة عرّج حتى نزل بمنطقة تدعى غراب و هي منازل بني لحيان، و قد كان بنو لحيان قد عرفوا بمسير النبي إليهم فحذروه، و تمنعوا في رءوس الجبال.

و كان غزو المسلمين هذا، و

جبن العدو قد تركا أثرا نفسيا قويا، فأحدث رعبا في قلوب أعداء الإسلام.

و استكمالا لهذا الهدف العسكريّ الهامّ عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى القيام بسلسلة من المناورات العسكرية، و استعراض القوة القتالية في جنوده ليرهب أعداء اللّه القريب منهم و البعيد و لتسمع بهم قريش خاصة فيذعرهم، فنزل في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان على مقربة من مكة و قد قال من قبل:

«لو هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة».

ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم (و هو موضع بناحية الحجاز بين مكة و المدينة و هو واد أمام عسفان بثمانية أميال). ثم عاد مع أصحابه إلى المدينة «1».

هذا و كان جابر بن عبد اللّه الأنصاري يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول حين رجوعه من هذه الغزوة:

«... أعوذ باللّه من وعثاء السفر و كآبة المنقلب و سوء المنظر في الأهل و المال» «2».

(2) غزوة ذي قرد:

لم يقم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة بعد عودته من الغزوة

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 279 و 280.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 254، المغازي: ج 2 ص 535، إمتاع الاسماع: ج 1 ص 259 و 260.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:301

السابقة إلّا ليالي قلائل حتى أغار «عيينة من حصن الفزاري» بمساعدة بني غطفان، على إبل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت ترعى في منطقة تدعى الغابة (و هي موضع قرب المدينة من ناحية الشام) كانت مرعى أهل المدينة، و كان فيها آنذاك رجل من بني غفار، و امرأة مسلمة له، فقتلوا الرجل، و أخذوا معهم المرأة و الإبل.

(1) و كان أول

من أخبر الناس بذلك رجل يدعى سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي و كان قد غدا يريد الغابة متوشحا سيفه و قوسه و نبله، يريد الصيد، حتى إذا علا «ثنية الوداع» نظر إلى بعض خيول المغيرين، فصعد على تلّة سلع و صرخ مستغيثا و مستنجدا: وا صباحاه،

ثم خرج يشتد في آثار القوم (المغيرين) فجعل يردّهم بالنبل، و لكن المعتدين لاذوا بالفرار.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أول من سمع صراخ ابن الاكوع و استغاثاته، فصرخ صلّى اللّه عليه و آله هو مستغيثا: الفزع، الفزع. فأسرع جماعة من الفرسان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما اجتمعوا عنده أمّر عليهم «سعد بن زيد الاشهليّ» و قال له:

«اخرج في طلب القوم، حتى الحقك في الناس».

فخرج الفرسان المسلمون في طلب القوم، و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ورائهم، حتى أدركوا القوم في ذي قرد، فوقع بين المسلمين، و بين المغيرين قتال قليل قتل فيه من المسلمين رجلان، و من المعتدين ثلاثة، و استنقذت المرأة، و بعض الابل المسروقة، و لكن العدوّ لجأ إلى غطفان، فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك المنطقة يوما و ليلة، تخويفا للعدوّ، و لم ير من الصالح ملاحقة العدوّ رغم إصرار بعض المسلمين على ملاحقتهم، و استنقاذ بقية السرح (الابل).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:302

ثم رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قافلا حتى قدم المدينة «1» و كانت هذه الغزوة في الثالث من ربيع الاوّل من السنة السادسة من الهجرة «2».

(1)

النذر غير المشروع

و اقبلت المرأة الغفارية المسلمة التي استنقذت من أيدي المغيرين على ناقة من إبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى

قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبرته بما جرى ثم قالت: يا رسول اللّه إني قد نذرت إن نجّاني اللّه على هذه الناقة، أن أنحرها فآكل كبدها و سنامها.

فتبسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:

«بئس ما جزيتيها أن حملك اللّه عليها و نجاك ثم تنحرينها، انه لا نذر في معصية، و لا فيما لا تملكين إنّما هي ناقة من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة اللّه» «3».

و بذلك بيّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكما في مجال النذر، و هو أن النذر لا يصح في مال الغير، فلا نذر إلّا في ملك.

و القصة إلى جانب ذلك تكشف عن الخلق العظيم الذي كان يتحلى به قائد الاسلام الأعلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لطفه بأصحابه و اتباعه، حيث جابه المرأة المذكورة برفق و لطف، و بصّرها بما لها و ما عليها في منتهى التواضع و الشفقة.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 255، المغازي: ج 2 ص 537 و 549.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 260 و 261.

(3) السيرة النبوية: ج 2 ص 381- 289، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 133، امتاع الاسماع: ج 1 ص 263 قال صاحب الامتاع: و كانت الناقة هي القصواء، و القصواء اسم ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:303

حوادث السنة السادسة من الهجرة (1)

40 تمرّد بني المصطلق

اشارة

لقد بلغت قوة المسلمين العسكرية في السنة الهجرية السادسة حدا ملفتا للنظر، بحيث تمكن جماعة خاصة منهم أن يترددوا على المناطق القريبة من مكة بمنتهى الحرية، و من دون خوف، بيد أن هذه القوة العسكرية لم تكن كافية للسيطرة على المناطق التي

كان يتواجد فيها القبائل المشركة، و مصادرة أموالهم و ممتلكاتهم.

و اذا كان المشركون لا ينتزعون المسلمين حريتهم، و كانوا يسمحون لأن تجري النشاطات التبليغية من دون منع أو معارضة لما كان رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله يقدم على شراء الاسلحة، و بعث السرايا، و المجموعات العسكرية، و لكن حيث ان نشاطات المسلمين التبليغية، و مجموعات الارشاد و الدعوة كانت تتعرض باستمرار للمضايقة، و الاذى، بل و الاغتيال من قبل العدو، لذلك كان رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله مضطرا بحكم العقل و الفطرة أن يقوي من قدرات الاسلام الدفاعية.

(2) لقد كانت العلل و الأسباب الواقعيّة لأكثر الحروب التي وقعت إلى السنة الهجرية السادسة بل حتى آخر لحظة من حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله تتلخص في إحدى الامور التالية:

(3) 1- الردّ على اعتداءات المشركين الغادرة، مثل معركة «بدر» و «احد» و

سيد المرسلين ،ج 2،ص:304

«الخندق».

(1) 2- تأديب و عقاب الظالمين الذين قتلوا رجالا أبرياء من المسلمين، أو قتلوا جماعات الدعوة و التبليغ في البراري و القفار النائية، أو عرّضوا كيان الاسلام للخطر بنقضهم عهودهم، و تتمثل هذه الحروب في الغزوات الثلاثة ضدّ الطوائف اليهودية الثلاث (بني قينقاع، بني النضير، بني قريظة) و بني لحيان.

(2) 3- افشال و احباط المؤامرات، أو محاولات التمرد التي كانت على شرف الانعقاد في القبائل التي كانت تنوي بجميع الرجال و الاسلحة غزو المدينة، و اكتساح عاصمة الاسلام، و استئصال المسلمين، و كانت أكثر الحروب الصغيرة و المناوشات العابرة ناشئة من هذا العامل الأخير.

(3)

غزوة بني المصطلق:

كان بنو المصطلق من قبائل «خزاعة» المتحالفة مع قريش.

و قد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن الحارث بن أبي ضرار زعيمها

يعدّ العدّة، و يجمع الرجال المقاتلين لمحاصرة المدينة و غزوها، فقرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يقضي على هذه المؤامرة في مهدها كما كان يفعل دائما.

و لهذا أرسل أحد أصحابه و هو: «بريدة» إلى أرض بني المصطلق ليأتي بأخبارهم، فذهب بريدة، و دخل فيهم و تحادث- في هيئة متنكرة- مع رئيسهم و عرف بنيته، ثم عاد إلى المدينة و اخبر رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله بما رآه و سمعه، و أن بني المصطلق عازمون على المسير إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمحاصرة المدينة.

فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جمع من أصحابه حتى لقيهم عند ماء يدعى «المريسيع»، و نشبت الحرب بينهم و بين المسلمين، و لكن صمود المسلمين و بسالتهم التي كانت قد أرعبت قلوب قبائل العرب تسبب في أن

سيد المرسلين ،ج 2،ص:305

لا يطول القتال بين المسلمين و بين «بني المصطلق» فتفرق جيش العدو بأن قتل منهم عشرة رجال، كما و قتل رجل مسلم خطأ، فأصاب المسلمون غنائم كثيرة و سبوا جماعة كبيرة من نساء بني المصطلق «1».

(1) هذا و ان النقاط و الدروس المفيدة في هذه الواقعة تتمثل في السياسة الحكيمة التي مارسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حوادث هذه الغزوة، ممّا سنذكر بعضها عما قريب.

و قد شبّ في هذه المنطقة و لأوّل مرّة خلاف بين المهاجرين و الأنصار، كاد أن يأتي بنتائج مروّعة أبسطها أن توجّه ضربة قوية إلى الاتحاد الحاصل بين المسلمين نتيجة هوى البعض و هو سهم لو لا تدبير النبي صلّى اللّه عليه و آله و حكمته، الرشيدة التي أنهت كل شي ء، و ابقت على روح التآخي

بين المسلمين.

و تعود جذور هذه الحادثة إلى تزاحم رجلين من المسلمين على البئر بعد ان وضعت الحرب أوزارها.

فقد ازدحم «جهجاه بن مسعود» و هو من المهاجرين و «سنان بن وبر الجهني» و هو من الأنصار على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني- مستغيثا بقبيلته على عادة الجاهليين-: يا معشر الأنصار، و صرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، و كاد أن يتقاتل المسلمون من الفريقين فيما بينهم في هذه الحادثة، و في هذا المكان البعيد عن عاصمة الاسلام و مركزه، و يتعرض بذلك كيانهم للسقوط و الانهيار، لأنهم تواعدوا على القتال كل فريق انتصارا الصريحة.

فلما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك قال:

«دعوها فإنها منتنة» «2».

أي أن هذا النوع من الاستغاثة و لمثل هذا الدافع ما هو إلّا من دعوى

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 260، امتاع الاسماع: ج 1 ص 195 و 196.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 290 (الهامش).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:306

الجاهلية، و قد جعل اللّه المؤمنين إخوة و حزبا واحدا، فانما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين، و إلّا كانت جاهلية، لا قيمة لها في الإسلام «1».

و بذلك قضى النبي الحكيم على الفتنة في مهدها، و جنّب المسلمين أخطارها.

(1)

منافق حاول إشعال الموقف:

أجل لقد استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذا الاستنكار الشديد أن يطفئ نار الاختلاف و التنازع فكيف الفريقان (القبيلتان) عن استئناف التنازع و التقاتل.

إلّا أن «عبد اللّه بن ابي» رئيس حزب المنافقين بالمدينة، و الذي كان يكنّ حقدا كبيرا على الإسلام و قد شارك في تلك الغزوة طمعا في الغنيمة، أظهر- في هذه الحادثة- حقده، و ضغينته على الإسلام، و قال لرهط من أهل المدينة كانوا عنده آنذاك: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم،

و قاسمتموهم أموالكم أما و اللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا الى غير داركم، لقد نافرونا (أي المهاجرين) و كاثرونا في بلادنا، و اللّه ما أعدنا و جلابيب قريش إلّا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك، أما و اللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل (و يقصد بالأذل المهاجرين)!!!

(2) فتركت كلمات «ابن ابي» أمام تلك الجماعة التي كانت لا تزال تعاني من بقايا عصبية جاهلية، أثرها في نفوسهم، و كادت توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة الاسلاميّة، و الاخوة الايمانية التي كانت تشدّ المسلمين- أنصارا و مهاجرين- بعضهم ببعض كالبنيان المرصوص.

و من حسن الحظ أن فتى غيورا من فتيان المسلمين هو زيد بن الارقم

______________________________

(1) راجع هوامش السيرة النبوية: ج 2 ص 290.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:307

لما سمع بهذه الكلمات المثيرة للشغب و الفتنة رد على «ابن ابي» بكلمات قوية شجاعة اذ قال: أنت و اللّه الذليل القليل المبغض في قومك، و محمّد في عزّ من الرحمن، و مودّة من المسلمين، و اللّه لا احبّك بعد هذا أبدا.

(1) ثم نهض و مشى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره الخبر، فرده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاث مرات حفظا للظاهر، قائلا: لعلّك و همت يا غلام، لعلّك غضبت عليه، لعلّه سفّه عليك.

و لكن زيدا كان يؤكّد على صحة ما أخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مقالة المنافق الخبيث «عبد اللّه بن ابي»، و تحريكه للناس ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و هنا طلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقتل «ابن ابي» قائلا: مر به عبّاد بن بشر

فليقتله «1».

و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أجاب عمر بقوله:

«فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمّدا يقتل أصحابه، لا» «2».

(2) و لقد مشى «عبد اللّه بن ابي» إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين بلغه أنّ «زيد بن الارقم» قد بلّغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما سمع منه، فحلف

______________________________

(1) تثبت دراسة حياة الخليفة الثاني أنه لم يبد في أية معركة من معارك الاسلام قوة و بسالة، بل كان في صف المتقاعدين دائما. و لكن كلما أسّر المسلمون أحدا كان هو اول من يقترح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتله و نذكر للمثال ما يلي:

أ- هذا المورد الذي طلب فيه من رسول اللّه أن يقتل ابن أبي.

ب- طلبه من النبي بأن يقتل حاطب بن أبي بلتعة الذي تجسس لصالح المشركين من أهل مكة في فتح مكة.

ج- طلبه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتل أبي سفيان الذي جاء به العباس عم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبيل فتح مكة، و غير ذلك من الموارد التي سبقت أو التي تأتي.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 202.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:308

باللّه: ما قلت ما قال، و قال بعض من حضر من أهل الرأي من أصحابه دفاعا عن ابن ابي: يا رسول اللّه عسى أن يكون الغلام قد اوهم في حديثه و لم يحفظ ما قال الرجل.

(1) و لكن الامر لم ينته إلى هذا، فقد كان هذا نوعا من الهدوء المؤقت تماما كالهدوء الذي يسبق العاصفة، الذي لا يمكن الاطمئنان إليه.

فقد كان يتوجب على قائد المسلمين الأعلى

أن يقوم فورا بما يؤدي إلى أن ينسى الطرفان هذه القصة نهائيا، و لهذا أمر بالرحيل في ساعة من النهار لم يكن صلّى اللّه عليه و آله يرتحل فيها عادة.

فجاءه «اسيد بن حضير»، و قال: يا رسول اللّه لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها؟

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع الى المدينة أخرج الاعز منها الاذل»؟

فقال اسيد: فأنت و اللّه يا رسول اللّه تخرجه إن شئت، هو و اللّه الذليل، و أنت العزيز، ارفق به يا رسول اللّه، فو اللّه لقد جاء اللّه بك و ان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، و أنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

(2) ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالرحيل فارتحل الناس، و سار بهم النبي صلّى اللّه عليه و آله يومهم ذاك حتى أمسى، و ليلتهم تلك حتى أصبح، من دون أن يسمح لهم بالنزول و الاستراحة، إلّا للصلاة، و سار بهم في اليوم هكذا حتى آذتهم الشمس و سلبوا القدرة على مواصلة السير فأذن لهم بالاستراحة، فنزل الناس، و لم يلبثوا ان وجدوا مسّ الارض فوقعوا نياما من شدة التعب، و قد نسوا كل شي ء من تلك الذكريات المرّة، و كان هذا هو ما يريده النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقد سار بهم ليل نهار من دون توقف ليشغلهم عن الحديث الذي كان من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:309

«عبد اللّه بن ابي» المنافق المفتّن «1»

(1)

صراع بين الايمان و العاطفة:

كان عبد اللّه ابن «عبد اللّه بن ابي» من فتيان الإسلام الشجعان، و من فرسانه البواسل، و كان- كما تقتضيه تعاليم الإسلام- يبر بأبيه المنافق أكثر من

غيره، و لكنه عند ما عرف بما تفوّه به أبوه في شأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ظن أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيقتل أباه جاء الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه انه قد بلغني أنك تريد قتل «عبد اللّه بن ابي»، فيما بلغك عنه فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرني به فانا أحمل إليك رأسه، فو اللّه لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، و إني أخشى أن تامر به غيري، فيقتله فلا تدعني نفسي انظر إلى قاتل عبد اللّه بن أبي يمشي في الناس فاقتله، فأقتل (رجلا) مؤمنا بكافر فأدخل النار!!

(2) إن حديث هذا الفتى يعكس- في الحقيقة- أعظم تجليات الإيمان و آثاره في النفس، و الروح الانسانية.

لما ذا لم يطلب من النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يعفو عن أبيه؟! لأنّه كان يعلم أن ما يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنما هو بأمر اللّه تعالى، و لكن ابن عبد اللّه كان يرى نفسه في صراع روحيّ حادّ.

فمن جانب كانت تدعوه عواطف البنوة و الابوّة و الأخلاق العربيّة أن ينتقم ممّن يقتل أباه، و يسفك بالتالي دم مسلم.

و من جانب آخر توجب عوامل اخرى مثل ضرورة استتباب الأمن و الطمأنينة في البيئة الاسلامية أن يقتل رأس المنافقين «ابن أبي»، انه صورة من صور الصراع بين مقتضى الايمان، و مقتضى العاطفة.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 261 و 262، مجمع البيان: ج 10 ص 292- 295.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:310

(1) و لقد اختار عبد اللّه بن عبد اللّه بن ابي طريقا ثالثا في هذا الصراع، يضمن

مصالح الإسلام من جهة، و يحافظ على مشاعره من أن تجرح على أيدي الآخرين من جهة اخرى، و ذلك بأن يكون هو الذي ينفّذ حكم الاعدام في أبيه المنافق المشاغب.

و هذا العمل و ان كان شاقا مؤلما إلّا أن قوة الايمان باللّه و التسليم لأمره سبحانه كانت تفيض عليه قدرا كبيرا من الطمأنينة و السكون.

و لكن النبي الرحيم صلّى اللّه عليه و آله قال ردا على سؤال و اقتراح عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي:

«بل نترفق به و نحسن صحبته ما بقي معنا»!!!

(2) و هذا الكلام الذي يكشف عن سمو أخلاق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مبلغ رحمته، أدهش المسلمين جميعا فتوجهوا باللوم و العتاب الحادّ إلى المنافق «عبد اللّه بن أبي»، و لحقه بسبب ذلك ذل شديد بين الناس ما وراءه ذل، و هوان ما وراءه هوان، و احتقره الناس حتى انه لم يعد أحد يعبأ به، و يقيم له وزنا.

لقد علّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسلمين في هذه الحوادث دروسا مفيدة جدا، و أظهر جانبا من سياسة الاسلام الحكمية، و الرشيدة.

فقد تحطم «عبد اللّه بن أبي» رئيس المنافقين بعد هذه الحادثة، و لم يعد له أي دور، بل عاش بقية حياته مهانا محتقرا بين الناس بعد أن رأى الناس إيذاءه المستمر لرسول اللّه، و عفو النبي صلّى اللّه عليه و آله عنه، و اغضاءه عن مساوئه.

و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعمر بن الخطاب ذات يوم حين بلغه احتقار الناس لابن ابي ذلك الاحتقار، و سقوط محله في القلوب:

«كيف ترى يا عمر، أما و اللّه لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لارعدت له

انف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته».

فقال عمر: قد و اللّه علمت لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعظم بركة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:311

من أمري «1».

(1)

الزواج المبارك:

كانت «جويرية» بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق من جملة السبايا التي وقعت في أيدي المسلمين في غزوة بني المصطلق، فأقبل أبوها الحارث بفداء ابنته إلى المدينة فلما كان في وادي العقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها لفداء ابنته فرغب في بعيرين منها فغيّبها في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا محمّد أصبتم ابنتي و هذا فداؤها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

«فأين البعيران اللذان غيّبتهما بالعقيق في شعب كذا و كذا»؟!

(2) فلما سمع الحارث بهذا الخبر الغيبي على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله آمن هو و والده به، و أسلم اناس آخرون من قومه كانوا معه، و أرسل إلى البعيرين فجاء بهما، فدفع الإبل إلى رسول اللّه و دفعت إليه ابنته «جويرية» فأسلمت هي أيضا.

ثم خطبها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أبيها، فزوّجه اياها، و أصدقها أربعمائة درهم.

فلما بلغ الناس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تزوّج جويرية بنت الحارث و كان بأيديهم بعض الاسرى من بني المصطلق قالوا: أصهار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأطلقوا ما كان بأيديهم من اولئك الاسرى و كانوا مائة عائلة، فما علم امرأة اعظم بركة على قومها منها، فقد اعتق بتزويجه اياها مائة أهل بيت من بني

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 292 و 293 و في السيرة الحلبية: ج 2 ص 291: لأرغدت له أنوف، و تعني

هذه القولة النبوية الشريفة: ان النبي لو كان يأخذ باقتراح عمر بقتل عبد اللّه بن أبي لدافع عنه اناس حمية و عصبية، و لكنه اليوم و بعد أن خذله الناس أنفسهم لو أمر النبي اولئك المدافعين بقتله. لقتلوه دون إبطاء.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:312

المصطلق.

و هكذا اطلق جميع أسرى بني المصطلق الذين كانوا بأيدي المسلمين رجالا و نساء بفضل ذلك الزواج المبارك، أو قل بفضل هذه السياسة الاجتماعية الحكيمة، و عادوا الى قبيلتهم «1».

(1)

الفاسق يفتضح:

كان إسلام بني المصطلق اسلاما نابعا من قناعة و رغبة لأنهم لم يجدوا من المسلمين خلال مدّة الأسر إلّا حسن المعاملة و الإحسان و العفو حتى أنه تم اطلاق جميع الأسرى ببعض الذرائع و عادوا إلى قبيلتهم و أهليهم.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرسل إليهم «وليد بن عقبة بن أبي معيط» لجباية زكاتهم، فلما سمعوا بقدومه خرجوا إليه راكبين ليكرموه و ليؤدوا إليه ما عليهم من الزكاة، فلما سمع بهم هابهم، فرجع إلى رسول اللّه مسرعا فأخبره بأن القوم همّوا بقتله، و أنهم منعوه ما قبلهم من صدقتهم، فطلب المسلمون غزوهم، و في الاثناء قدم وفد من بني المصطلق على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا:

يا رسول اللّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه، و نؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فأسرع راجعا فبلغنا أنه زعم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّا خرجنا إليه لنقتله و و اللّه ما جئنا لذلك. فنزلت في هذا الشأن الآية السادسة من سورة الحجرات تؤيد مقالة بني المصطلق و تصف الوليد بالفسق، اذ يقول تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ

فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 295، امتاع الاسماع: ج 1 ص 198 و 199.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 296 و 297.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:313

(1)

41 قصة الإفك

اشارة

بقي رئيس حزب النفاق عبد اللّه بن ابي يواصل تجارته بالجواري، و الإماء و يضعهن تحت تصرف الرجال للزنا بهن، ليجني من هذا الطريق أرباحا طائلة.

حتى بعد دخول الاسلام في المدينة.

فعند ما نزلت آيات تحريم الزنا كان ذلك الفاسق يمارس حرفته القذرة، حتى أن إماءه ضقن بهذا العمل الفاجر ذرعا، فشكين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالت إحداهن: إن سيّدي يكرهنى على البغاء.

فنزل قوله تعالى في شجب هذا العمل الدني ء: «وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» «1» «2».

و لقد أراد رجل يعبث بعفاف النساء كهذا، أن يسي ء إلى امرأة ذات مكانة و شخصية في المجتمع الاسلامي «3»، و يتهمها بالزنا نكاية بالمؤمنين، و المؤمنات، و بغيا و حسدا.

______________________________

(1) النور: 33.

(2) مجمع البيان: ج 4 ص 141، الدر المنثور: ج 5 ص 46.

(3) اخترنا هذا التعبير لورود نوعين من شأن النزول في المقام بحيث لم يتأكد للمؤلف من هي المقصودة هنا، و ستقرأ في الصفحات القادمة أدلة عدم ثبوت من عيّنه البعض.

إن ما يستفاد من الآيات و الروايات المرتبطة بهذه القصة تفيد إجمالا أن امرأة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي آنذاك تعرضت لاتهام المنافقين لها، و أما من هي تلك المرأة على وجه التعيين فذلك ما لا يمكن البت فيه، على وجه القطع و اليقين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:314

(1) حقا إن معاداة النفاق للايمان من أشدّ أنواع المعاداة، فان العدوّ المشرك و الكافر يعمد دائما إلى إشفاء

غيظه و اطفاء غضبه و حنقه باستخدام عدائه في جميع الموارد و الاوقات.

و لكن المنافق الذي يتظاهر بالايمان، و يتستر بالاسلام حيث انه لا يمكنه التظاهر بعدائه، فان عداءه الباطني يتراكم و يتصاعد حتى يصل أحيانا إلى حدّ الانفجار، لهذا ينطلق المنافق في كيل التهم من دون حساب أو ميزان تماما كما يفعل المجانين.

و نرى مثل هذه الحالة في عبد اللّه بن ابي.

و لقد ظهرت ذلّة «عبد اللّه بن ابي» رئيس حزب النفاق في واقعة بني المصطلق، و قد منعه ابنه من دخول المدينة، و لم يسمح له بدخولها إلّا بوساطة من النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هكذا آل مصير رجل كان يحلم بالملوكية و السلطان الى أن يمنعه أخصّ أقربائه عن الدخول إلى مسقط رأسه، فيما كان يطلب هو من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يكف عنه ولده.

(2) إن من الطبيعي أن يعمد رجل مثل هذا إلى فعل كل ما يشفي غليله و يذهب غيظه، و من ذلك ترويج الشائعات الكاذبة انتقاما من المجتمع الاسلامي.

فعند ما يعجز العدوّ عن المواجهة المباشرة يعمد إلى حبك الشائعات، و ترويجها و اشاعتها ليستطيع من خلال ذلك، توجيه ضربة نفسيّة إلى المجتمع، و كذا بلبلة الرأي العام، و إشغاله بالتوافه و صرفه عن القضايا المهمة و المصيرية.

إن سلاح الشائعات من الأسلحة المدمرة التي يمكن أن تستخدم في تشويه سمعة الأفراد الصالحين، و ابعاد الناس عنهم.

(3)

المنافقون يتهمون شخصا نقيّ الجيب:

اشارة

يستفاد من الآيات النازلة في قضيّة «الإفك» أن المنافقين اتهموا شخصا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:315

بريئا كان يتمتع في المجتمع الاسلامي آنذاك بتهمة الزنا، تحقيقا لمآربهم الدنيئة، و اضرارا بالمجتمع الاسلاميّ، و قد ردّهم القرآن و شجب عملهم بشدّة قل نظيرها،

و أبطل خطتهم.

فمن هو- ترى- ذلك البري ء؟ ان في ذلك خلافا بين المفسرين، فالاكثرون على أنها «عائشة» زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يرى الآخرون أنها «مارية» القبطية أم إبراهيم و زوجة رسول اللّه أيضا لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآيات لا تخلو من عن إشكال. و ها نحن ندرس القول الذي يذهب إلى أن المراد في هذه الآيات هو: «عائشة» و توضيح ما يصح و ما لا يصح في هذا المجال:

(1)

دراسة القول الأوّل:

يرى المحدّثون و المفسرون من أهل السنة أن نزول آيات «الإفك» يرتبط بعائشة، و يذكرون في هذا المجال رواية مفصّلة لا يتلاءم بعضها مع عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من هنا لا يمكن القبول بهذا القول على اطلاقه.

و ها نحن نذكر ما يتلاءم من هذه القصة مع عصمة النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم نستعرض آيات الإفك، ثم نشير إلى القسم الذي يخالف عصمته صلّى اللّه عليه و آله في هذا القول.

إن اسناد هذه الرواية تنتهي برمتها إلى «عائشة» «1» نفسها، فهي تقول:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيّهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع عادة فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا، فبات به بعض الليل، ثم أذن في الناس بالرحيل، فارتحل

______________________________

(1) راجع الدر المنثور: ج 5 ص 24- 34.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:316

الناس و خرجت لبعض حاجتي، و

في عنقي عقد لي، فيه جزع ظفار، (أي خرز يمني) (1) فلما فرغت انسلّ من عنقي و لا أدري فلما رجعت إلى الرحل ذهبت التمسه في عنقي فلم أجده، و قد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته، و جاء القوم خلا في الذين كانوا يرحّلون لي البعير، و قد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج، و هم يظنون أني فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه، فشدّوه على البعير و لم يشكّوا أني فيه، ثم اخذوا رأس البعير، فانطلقوا به، فرجعت إلى العسكر و ما فيه من داع و لا مجيب، قد انطلق الناس.

فتلففت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، و عرفت أن لو قد افتقدت لرجع إليّ. فو اللّه إني لمضطجعة (2) اذ مرّ بي صفوان السلمي (و هو من فرسان الاسلام) و قد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف و قد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال:

إنا للّه و إنا إليه راجعون ظعينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنا متلففة في ثيابي. قال: ما خلّفك يرحمك اللّه. فما كلّمته، ثم قرّب البعير فقال: اركبي، و استأخر عنّي فركبت، و أخذ برأس البعير، فانطلق سريعا يطلب الناس، فو اللّه ما أدركنا الناس، و ما افتقدت حتى أصبحت، و نزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي، فقال أهل الإفك ما قالوا؛ و ارتعج العسكر (أي شكوا فيّ) و و اللّه ما اعلم بشي ء من ذلك. حتى نزلت آيات «الإفك» تبرئني ممّا اتهمني به المنافقون.

هذا القسم من شأن النزول الذي لخصناه لك من قصّة مفصّلة يمكن

تطبيقها مع آيات «الإفك»، و ليس فيه ما ينافي عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و إليك الآيات التي نزلت في هذا المجال:

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:317

عَظِيمٌ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ «1».

(1)

أبرز النقاط في آيات «الإفك»:

يستفاد من القرائن أن هذه التهمة كانت نابعة أساسا من المنافقين أي أنه من كيدهم، و إليك هذه القرائن:

(2) 1- يقال: إن المراد من قوله سبحانه: «وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ» هو «عبد اللّه بن ابي» رئيس المنافقين، و كبيرهم.

(3) 2- لقد عبّر تعالى في الآية الحادية عشرة عن الذين اتهموا المرأة بلفظ:

«عصبة» و هذه العبارة تستعمل في الجماعة المنظّمة، التي يربطها هدف واحد و تحدوها غاية واحدة و تفيد أنهم كانوا متعاونين و متعاضدين في المؤامرة و لم يكن مثل هذه الجماعة بين المسلمين إلّا المنافقون.

(4) 3- ان «عبد اللّه بن ابي» بسبب منعه من الدخول إلى المدينة، بقي عند مدخل المدينة، فلمّا شاهد عائشة و هي راكبة بعير صفوان استغل الفرصة للايقاع برسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله اشفاء لغيظه، فبادر إلى استعمال سلاح التهمة و البهتان، و قال إن زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باتت مع اجنبى في تلك الليلة و و اللّه ما نجا منهما من الإثم أحد.

______________________________

(1) النور: 11- 16.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:318

(1) 4- إنه تعالى يقول في نفس الآية (أي الحادية عشرة): «لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ».

و الآن يجب أن نرى كيف لا يكون اتّهام مؤمن طاهر الجيب شرا للمؤمنين بل يكون خيرا لهم؟

إن سبب ذلك هو أنّ هذه القصة كشفت القناع عن نوايا المنافقين و مقاصدهم الشرّيرة و افتضحوا برمّتهم، هذا مضافا إلى أنّ المسلمين أخذوا من هذه القضية دروسا مفيدة، مذكورة في محلها.

(2)

الزوائد في هذه القصة:

اشارة

هذا القدر من القصة يمكن تطبيقه مع القرآن الكريم، و لا يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن البخاري روى بين ثنايا هذه القصة امورا- نقلها عنه الآخرون في الاغلب- تعاني من إشكالين أساسيين هما:

(3)

1- منافاتها لمقام النبوة و العصمة صلّى اللّه عليه و آله:

فقد روى البخاري عن عائشة نفسها قولها:

لما قدمنا المدينة لم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة (أي مرضت) و لا يبلغني من ذلك شي ء و قد انتهى الحديث الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إلى أبويّ لا يذكرون لي منه قليلا و لا كثيرا إلّا أنّي قد أنكرت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعض لطفه بي، و كنت إذا اشتكيت رحمني و لطف بي، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك، فأنكرت ذلك منه، كان إذا دخل عليّ و عندي امّي تمرضني قال: كيف تيكم، لا يزيد على ذلك. حتى اذا نقهت من وجعي بلغني ما قاله المنافقون فيّ، فمرضت مرة اخرى فقلت يا رسول اللّه لو أذنت لي فانتقلت إلى أمّي فمرضتني، فقال: لا عليك، فانتقلت إلى امّي، فقلت لامّي: يغفر اللّه لك تحدّث الناس بما تحدّثوا به، و لا تذكرين لي من ذلك شيئا، فقالت: أي بنيّة هوّني

سيد المرسلين ،ج 2،ص:319

عليك الشأن فو اللّه لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل لها ضرائر إلّا كثّرن، و كثر الناس عليها. «1»

(1) ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شاور «اسامة بن زيد» في الامر، فأثنى عليّ خيرا و قاله، ثم قال: يا رسول اللّه أهلك و لا نعلم منهم إلّا خيرا، و هذا الكذب و الباطل!!

و شاور عليّا فقال: يا رسول اللّه إن النساء لكثير، و انّك لقادر على

أن تستخلف، و سل الجارية، فانّها ستصدّقك (إي جارية عائشة) فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بريرة ليسألها، فقالت: و اللّه ما أعلم إلّا خيرا، و ما كنت اعيب على عائشة شيئا.

إن هذا القسم من الرواية يتنافى بقوة مع عصمة النبي صلّى اللّه عليه و آله لانه يكشف عن أن النبي وقع فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أنه غير سلوكه مع عائشة، و شاور أصحابه فيها!!

إن مثل هذا الموقف مع شخص بري ء لا يوجد على تهمته أي دليل ليس فقط يتنافى مع مقام العصمة النبوية، بل يتنافى حتى مع مقام مؤمن عادي لأنه من المؤمنين ليس من الجائز أبدا أن تغيّر الشائعات سلوك مسلم عاديّ تجاه شخص منهم، و حتى لو تركت تلك الشائعات تأثيرا في نفس المسلم، فليس من الجائز أن تحدث مثل ذلك التغيير و الانقلاب في نظرته و سلوكه.

(2) إن القرآن الكريم يوبّخ في الآية 12 و 14 من سورة النور اولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات و ظنّوا الظن السوء إذ يقول تعالى:

«لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ»؟!

______________________________

(1) صحيح البخاري: ج 6 تفسير سورة النور ص 102 و 103 و كذا الجزء 5 ص 118 السيرة النبوية:

ج 2 ص 299

سيد المرسلين ،ج 2،ص:320

«وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ»؟! «1».

فاذا صحّ هذا القسم من الرواية المذكورة في شأن النزول لزم أن نقول: ان هذا العتاب الشديد و هذا التوبيخ الصارخ كان يعمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أيضا، و الحال أن مقام النبوة الذي يلازم العصمة لا يسمح لنا بأن

نقول بأن هذا الخطاب و التوبيخ موجّهين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

من هنا لا مناص من رفض كل هذه الرواية المذكورة في شأن النزول الذي يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو القبول بالقسم الذي لا يتنافى منها مع عصمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و رفض ما يتنافى معها.

(1)

2- سعد بن معاذ توفي قبل حادثة «الإفك»:

و يروي البخاري في صحيحه في ذيل شأن النزول عن عائشة نفسها: بعد أن سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بريرة عن أمري، فقالت فيّ خيرا و صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: «من يعذرني ممن يؤذيني في أهلي (أي من يؤدبه) و يقولون لرجل، و اللّه ما علمت على ذلك الرجل إلّا خيرا، و ما كان يدخل بيتا من بيوتي إلّا معي و يقولون عليه غير الحق».

فقام «سعد بن معاذ» و قال: أنا اعذرك منه يا رسول اللّه إن يك من الأوس آتك برأسه، و إن يك من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك نمضي لك.

فثقل هذا الكلام على «سعد بن عبادة» و غضب منه، فقام و قال:

كذبت لعمر اللّه، لا تقتله و لا تقدر على قتله «2».

______________________________

(1) أي لما ذا- عند ما سمعتم بهذا الافتراء- لم تظنوا بأنفسكم خيرا و قلتم: هذا إفك، و لما ذا- عند ما سمعتم بهذا الكلام- لم تقولوا هذا بهتان لا يجوز ان نتكلم به.

(2) كان «سعد بن معاذ» رئيس الاوس و «سعد بن عبادة» رئيس الخزرج، و كانت بين هاتين-

سيد المرسلين ،ج 2،ص:321

(1) فقام اسيد بن حضير- و هو ابن عم سعد بن معاذ- و قال: كذبت و اللّه

لنقتلنّه و أنفك راغم. فانك منافق تجادل عن المنافقين، و اللّه لو نعلم ما يهوى رسول اللّه من ذلك في رهطي الأدنين ما رام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكانه حتى آتيك برأسه، و لكني لا أدري ما يهوى رسول اللّه.

ثم تغالظوا، و قام آل الخزرج من جانب، و آل الأوس من جانب آخر، و كادوا أن يشتبكوا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المنبر، فأشار رسول اللّه إلى الحيّين جميعا أن اسكتوا، و نزل عن المنبر فهدّأهم و خفضهم حتى انصرفوا ...

هذا القسم من القصة المذكورة في رواية البخاري غير صحيح، و لا يتلاءم مع التاريخ الثابت الصحيح لأن «سعد بن معاذ» كان قد مات بعد إصدار حكمه في بني قريظة متأثرا بجرح أصابه في معركة «الاحزاب»، و قد وقعت حادثة «الإفك» بعد واقعة بني قريظة، و قد صرّح البخاري نفسه بهذا في صحيحه (ج 5 ص 113) في باب «معركة الاحزاب و بني قريظة»، فكيف يمكن و الحال هذه أن يحضر مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يجادل سعد بن عبادة في قصة الإفك التي وقعت بعد واقعة بني قريظة بعدة شهور؟! «1»

(2) لقد ذهب المؤرخون الى أن معركة الخندق ثم واقعة بني قريظة وقعتا في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، فتكون النتيجة ان قضية بني قريظة انتهت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة، و قد توفي سعد بن معاذ في أعقاب هذه الحادثة مباشرة لمّا انفجر به جرحه «2» في حين وقعت غزوة بني المصطلق في شهر شوال

______________________________

القبيلتين منافسة قديمة، و كان «عبد اللّه بن أبي» خزرجيا، فاعتبر «سعد بن عبادة» كلام

«سعد بن معاذ» تعريضا بالخزرج و حطا من شأنهم.

(1) نفس المصدر السابق، و الجدير بالذكر أن ابن هشام لم يذكر في سيرته «سعد بن معاذ»، و لكنه روى جدال اسيد مع سعد بن عبادة راجع السيرة النبوية: ج 2 ص 300، و هكذا فعل ابن الاثير في الكامل في التاريخ: ج 2 ص 134، و لكن المغازي ذكر القصة كاملة، و اتى باسم سعد بن معاذ راجع: ج 2 ص 431.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 250.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:322

من السنة السادسة «1».

أجل إنّ ما هو مهمّ في المقام هو أن نعرف أنّ حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس، و يبلبلها ببهت امرأة صالحة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي يومذاك.

و قد فسر قوله: «الّذي تولى كبره» أي الذي تحمل القسط الاكبر من هذه العملية الخبيثة بعبد اللّه بن ابي، فهو الذي قاد هذه العملية الرخيصة و الخطرة كما صرحت بذلك عائشة نفسها أيضا.

(1)

الرواية الاخرى في سبب النزول:

و تقول هذه الرواية أن الآيات الحاضرة نزلت في «مارية القبطيّة» زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و والدة إبراهيم.

فان هذه الرواية تقول: لما مات إبراهيم بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حزن عليه حزنا شديدا، فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلّا ابن جريح، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا صلوات اللّه عليه و أمره بقتله، فذهب علي صلوات اللّه عليه و معه السيف، و كان جريح القبطي في حائط (أي بستان)، فضرب «علي» باب البستان، فأقبل جريح له ليفتح الباب، فلما رأى عليّا صلوات اللّه عليه، عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعا و لم يفتح باب البستان، فوثب علي عليه السّلام على

الحائط و نزل إلى البستان، و أتبعه، و ولّى جريح مدبرا، فلما خشي أن يرهقه (أي يدركه) صعد في نخلة و صعد «علي» في أثره، فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة، فبدت عورته، فاذا ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء، فانصرف عليّ عليه السّلام إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 297، و لعلّه فطن ابن هشام لهذه الناحية فترك ذكر سعد بن معاذ، بينما غفل عنها البخاري في صحيحه، راجع شروح البخاري منها: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر: ج 8 ص 471 و 472 للوقوف على اضطراب الشرّاح في معالجة هذا التناقض.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:323

فقال له: يا رسول اللّه إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبّت؟

قال: لا بل تثبت.

قال: و الذي بعثك بالحق ما له ما للرجال و ما له ما للنساء.

فقال: الحمد للّه الذي صرف عنا السوء أهل البيت.

و هذه الرواية التي نقلها «المحدث البحراني» في «تفسير البرهان» ج 2 ص 126- 127 و «الحويزي» في تفسير «نور الثقلين» ج 3 ص 581- 582 ضعيفة و غير مستقيمة من حيث المفاد، و هو ضعف ظاهر لا يحتاج الى البيان و لذلك.

و من هنا لا يمكن القبول بها في شأن نزول هذه الآيات.

فالمهم هو وقوع أصل هذه الحادثة، كان من كان المتّهم في هذه الحادثة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:324

(1)

42 رحلة سياسيّة دينيّة [قصة الحديبية]

اشارة

كانت السنة الهجرية السادسة بكل حوادثها المرة و الحلوة تقترب من نهايتها عند ما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المنام أنه دخل البيت (الكعبة) و حلق رأسه، و أخذ مفتاح البيت، و عرّف مع المعرفين، فقصّ صلّى اللّه

عليه و آله هذه الرؤيا على أصحابه و تفاءل به خيرا «1».

و لم يلبث أن أمر أصحابه بالتهيّؤ للعمرة، و دعا القبائل المجاورة التي كانت لا تزال على شركها و كفرها الى مرافقة المسلمين في هذه السفرة، و لهذا شاع في جميع أنحاء الجزيرة العربية أن المسلمين سيتجهون في شهر ذي القعدة صوب مكة يريدون العمرة.

و لقد كانت هذه السفرة الروحانية تنطوي- مضافا إلى العطاء الروحاني و المعنوي- على مصالح اجتماعية و أهداف سياسية، فقد عززت مكانة المسلمين في شبه الجزيرة العربية، و تسببت في انتشار دين التوحيد في أوساط المجتمع العربي آنذاك، و ذلك:

(2) أولا: لأنّ القبائل العربية المشركة كانت تتصوّر أن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله يخالف كل عقائد العرب، و تقاليدهم الشعبية، و الدينية حتى فريضة الحج، و العمرة التي كانت تعد من ذكريات الاسلاف و مواريثهم.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 126.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:325

من هنا كانوا يخافون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يتوجسون خيفة من دينه، و عقيدته، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استطاع في هذه المناسبة- باشتراكه، و اشتراك أصحابه في مراسيم العمرة أن يخفف هذا الخوف لدى القبائل المشركة إلى حدّ كبير، و أن يوضح بعمله أنّ رسول الإسلام لا يعارض زيارة بيت اللّه الحرام، و الفريضة المذكورة التي تعد من طقوسهم الدينية، و تقاليدهم المذهبية، بل يعتبرها فريضة مقدسة، فهو مثل والد العرب الاكبر «إسماعيل بن إبراهيم الخليل» عليهما السّلام يعمل على المحافظة على هذه التقاليد الدينية، و بهذا استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستقطب قلوب من كان يتوهم أن رسالة «محمّد» و دعوته، و

دينه يعارض جميع شئونهم و تقاليدهم و أعرافهم الدينية، و الشعبية، و يخالفها مخالفة مطلقة، و يقلّل من خوفهم، و استيحاشهم.

(1) ثانيا: إذا استطاع المسلمون أن يحرزوا في هذا السبيل نجاحا، و يؤدوا مناسك العمرة في المسجد الحرام بحرية، أمام أعين الآلاف من المشركين، فان عملهم هذا بنفسه سيكون تبليغا ناجحا للإسلام، لأن أخبار المسلمين ستنتشر بواسطة المشركين الذين قدموا مكة من جميع المناطق لاداء مناسك العمرة، فسيحملون أنباء ما رأوه و شاهدوه من أفعال المسلمين الرشيدة، و أخلاقهم الفاضلة، إلى أوطانهم لدى عودتهم من مكة إلى بلادهم، و بهذا ينتشر نداء الإسلام في تلكم المناطق التي لم يستطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يبعث إليها الدعاة و المبلغين حتى ذلك الحين، و يترك هذا الأمر أثره المطلوب.

(2) ثالثا: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذكّر الناس في المدينة بحرمة الأشهر الحرم و قال صلّى اللّه عليه و آله: و أمر المسلمين بأن لا يحملوا معهم من الاسلحة شيئا إلّا السيف الذي يحمله كل مسافر معه.

و لقد جلب هذا الامر عواطف كثير من الغرباء عن الإسلام نحو هذا الدين، و غيّر من نظرتهم السلبية تجاه دعوة الإسلام، لأنهم شاهدوا بام أعينهم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحرّم القتال في هذه الاشهر، و يدافع بنفسه عن

سيد المرسلين ،ج 2،ص:326

هذه السنّة الدينية القديمة و يدعو إلى رعايتها خلافا لكل الدعايات التي كانت تبثها قريش عن أن الاسلام لا يحترم هذه الأشهر، و يجيز الاقتتال و سفك الدماء فيها.

(1) لقد فكر القائد الاسلاميّ مع نفسه بانه لو أصاب المسلمون في هذا السبيل أيّ نجاح، فانهم يكونون قد حققوا أملا قديما من

آمالهم التي طالما تشوقوا إلى تحقيقها.

كما أنه سوف يستطيع المهاجرون الذي طال بعدهم عن وطنهم، و أهليهم، أن يزوروا ذويهم و أقربائهم. هذا إذا سمحت قريش لهم بدخول مكة.

و أمّا إذا منعتهم قريش عن الدّخول في الحرم فان مكانة قريش ستتعرض- حينئذ- لخطر السقوط في العالم العربي، و سيلومهم العرب على ذلك، لأن جميع ممثلي القبائل العربية المحايدة سترى كيف عاملت قريش جماعة مسالمة أرادت دخول مكة لأداء مراسيم العمرة، و زيارة الكعبة المعظمة، و لا تحمل معها أيّ سلاح إلّا ما يحمله المسافر في سفره عادة، في حين يرتبط المسجد الحرام بالعرب كافة، و انما تقوم قريش بمجرّد سدانته، و ادارة شئونه.

(2) و هنا تتجلى حقانية المسلمين بشكل واضح، و يتضح عدوان قريش و ينكشف للجميع بطلان مواقفها، فلا تستطيع قريش بعد ذلك أن تواصل تأليبها للقبائل العربية ضدّ الإسلام، و عقد تحالفات عسكرية و اتحاد نظاميّ مع قواها المحاربة المسلمين لانها قد منعت الزوّار المسلمين أمام أعين الآلاف من الحجيج و الزائرين من حقهم المشروع.

لقد لا حظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّ هذه الجوانب و غيرها فامر المسلمين بالتوجّه نحو مكة، و أحرم الف و اربعمائه «1» أو الف و ستمائة «2» أو الف و ثمانمائة «3» في «ذي الحليفة» و قلّد سبعين بدنة (بعيرا) و بهذا أعلن عن هدفه من تلك الرحلة.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 309.

(2) مجمع البيان: ج 2 ص 288.

(3) روضة الكافي: ص 322.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:327

و لقد أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عينا له ليخبره عن قريش إذا وجدهم في أثناء الطريق.

(1) و لما كان رسول اللّه بعسفان (و هي منطقة بين

الجحفة و مكة) أتاه رجل خزاعيّ كان يتقصى الاخبار لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فعاهدوا اللّه أن لا تدخلها أبدا و هذا «خالد بن الوليد» في خيلهم (و كانوا مائتين) قد قدّموها الى كراع الغميم. (و هي موضع بين مكة و المدينة أمام عسفان بثمانية أميال).

فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعزم قريش على منعه و منع اصحابه من العمرة قال:

«يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب ما ذا عليهم لو خلّوا بيني و بين سائر العرب، فان هم أصابوني كان الذي أرادوا، و إن أظهرني اللّه عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، و إن لم يفعلوا قاتلوا و بهم قوة، فما تظنّ قريش، فو اللّه لا أزال اجاهد على الذي بعثني اللّه به حتى يظهره اللّه به، أو تنفرد هذه السالفة «1» (أي أقتل أو أموت).

(2) ثم طلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من يدلّه على طريق آخر غير الطريق الذي هم بها لكي يتجنب مواجهة طليعة قريش بقيادة «خالد بن الوليد».

فتعهّد رجل من بني أسلم بذلك فسلك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه طريقا وعرا كثيرة الحجارة بين شعاب حتى انتهوا إلى منطقة سهلة تدعى بالحديبية، فبركت هناك ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما هذا لها عادة، و لكن حبسها حابس الفيل بمكة» «2».

ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس أن ينزلوا في ذلك المكان فنزلوا.

______________________________

(1) السالفة: صفحة العنق، و كنى بهذه الجملة عن الموت لأنّها لا تنفرد عمّا يليها الّا بالموت.

(2) بحار

الانوار: ج 20 ص 329 و غيره. و قد أشار بهذا الكلام إلى واقعة الفيل.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:328

(1) و لما علمت طليعة قريش بمسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لحقت به، حتى اقتربت منه و حاصرت موكبه و رجاله فكان على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اذا أراد أن يواصل سيره باتجاه مكة ان يخترق صفوف رجال قريش، فيسفك دماءهم، و يعبر على أجسادهم، و حينئذ كان الجميع يرى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يهدف العمرة و الزيارة بل يريد الحرب و القتال، فكان مثل هذا العمل يسي ء إلى سمعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و يضر بهدفه السلميّ.

ثم إن قتل هؤلاء النفر من طليعة قريش لا يزيل جميع الموانع من طريقه، لأن قريشا كانت تبعث بإمدادات مستمرة، و لم يكن لينته إلى هذا الحدّ.

هذا مضافا إلى أن المسلمين ما كانوا يحملون معهم حينذاك- إلّا ما يحمله المسافر العاديّ من السلاح، و مع هذه الحال لم يكن القتال أمرا صحيحا، و حكيما بل كان يجب ان تحلّ المشكلة عن طريق التفاوض.

(2) و لهذا عند ما نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك المنطقة قال:

«لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة يسألونني فيها صلة الرحم إلّا أعطيتهم إياها» «1».

و لقد بلغ كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا مسامع الناس، و كان من الطبيعي أن يسمع به العدو أيضا، و لهذا بعثوا برجال من شخصيّاتهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليتعرفوا على هدفه الاصلي من هذا السفر.

(3)

مندوبو قريش عند النبي صلّى اللّه عليه و آله:

بعثت قريش بعدة مندوبين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليتعرفوا على مقصده

و هدفه في هذا السفر.

و كان أول أولئك المبعوثين هو: «بديل بن ورقاء الخزاعي» الذي أتى

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 270- 272.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:329

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رجال من خزاعة فكلّموه نيابة عن قريش و سألوه: ما الذي جاء به؟ فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّا لم نجي ء لقتال أحد، و لكنّا جئنا معتمرين».

فرجعوا إلى قريش و أخبروهم بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يات لقتال و إنما جاء معتمرا زائرا لبيت اللّه، و لكن قريشا لم يصدقوهم و قالوا: و إن كان جاء و لا يريد قتالا فو اللّه لا يدخلها علينا عنوة أبدا، و لا تحدّث بذلك عنّا العرب.

(1) ثم بعثوا «مكرز بن حفص» فسمع من النبي صلّى اللّه عليه و آله ما سمعه سابقه، فعاد و صدّق ما أخبر بديل قريشا به، و لكن قريشا لم تصدق مكرزا أيضا كما لم تصدّق سابقه.

فبعثت في المرة الثالثة الحليس بن علقمة «1» و كبير رماة العرب، لحسم الموقف، فلما رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقبلا قال:

«إن هذا من قوم يتألّهون (أي يعظمون أمر اللّه) فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه».

(2) فلما رأى الحليس، الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، و قد أكل أوباره من طول الحبس عن محلّه، رجع إلى قريش، و لم يصل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إعظاما لما رأى، فقال لهم: يا معشر قريش و اللّه ما على هذا حالفناكم، و لا على هذا الّذي عاقدناكم، أ يصدّ عن بيت اللّه من جاء معظما له و قد ساق الهدي معكوفا إلى محلّه؟!،

و الذي نفس الحليس بيده لتخلّنّ بين محمّد و ما جاء له، أو لأنفّرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد، و هكذا امتنع الحليس من مواجهة رسول اللّه بالقوة و استخدام العنف معه لصده، و قد لاحظ بأم عينيه ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين لا يريدون إلّا العمرة و الزيارة لا القتال

______________________________

(1) لقد جاء الحليس إلى النبي بعد عروة الثقفي حسب رواية الطبري في تاريخه: ج 2 ص 276.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:330

و الحرب، بل عاد يهدد قريشا اذا هي أرادت صدّه عن ذلك.

فشق هذا الكلام و هذا التهديد على قريش و خافوا من مخالفته، فقالوا: مه، كفّ عنا يا حليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

(1) ثمّ بعثوا أخيرا «عروة بن مسعود الثقفي» و كان رجلا لبيبا تطمئن قريش إلى درايته و حكمته و خيره و كان لا يحبّ أن يمثّل قريشا في هذه المفاوضات لما رآه من معاملتهم مع الممثلين السابقين، و لكن قريشا تعهدت له بان تقبل بما تقول، و أعلنت له عن ثقتها الكاملة به، و بما سيخبر به، و بأنه غير متّهم عندهم.

فخرج من عندهم حتى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجلس بين يديه ثم قال: يا محمّد جمعت أو شاب الناس (أي أخلاطهم) ثم جئت بهم إلى أهلك و قبيلتك، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، و أيم اللّه لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا، (أو قال: أن يفرّوا عنك و يدعوك).

(2) و عند ما بلغ ابن مسعود في كلامه إلى هذا قال له أبو بكر و كان جالسا خلف رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله: أ نحن ننكشف عنه، و ندعه؟

لقد كان «عروة» كأيّ دبلوماسيّ ماكر، يحاول إضعاف معنويات أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكلامه، و روغانه.

و أخيرا انتهت المباحثات دون جدوى. و هنا جعل «عروة» يتناول لحية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ازدراء به صلّى اللّه عليه و آله، و المغيرة بن شعبة- و كان واقفا على رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- يقرع يده إذا تناول لحية النبي صلّى اللّه عليه و آله و يقول اكفف يدك عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل أن لا تصل إليك.

فسأل عروة: يا محمّد من هذا؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة (و يبدو أن جميع من كان حول النبي آنذاك أو بعضهم كانوا مقنعين رعاية للظروف الأمنية).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:331

(1) فغضب عروة و قال: «أي غدر، و هل غسلت سوءتك إلّا بالأمس» و كان المغيرة قد قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف فودى عروة المقتولين و أصلح الأمر.

فقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الكلام على عروة و قال له مثل ما قال لبديل و رفيقيه، و أنه لم يات يريد حربا، بل جاء يريد العمرة، و لاجل أن يرى عروة مكانته بين أصحابه و أتباعه، قام صلّى اللّه عليه و آله و توضأ أمامه، فرأى عروة بام عينيه كيف أنه لا يتوضّأ إلّا و تسابق أصحابه على التقاط القطرات المتناثرة من وضوئه، فرجع إلى قريش و قال لهم: يا معشر قريش إنّي قد جئت كسرى في ملكه، و قيصر في ملكه، و النجاشيّ في

ملكه، و إنّي و اللّه ما رأيت ملكا في قوم قطّ مثل محمّد في أصحابه، و لقد رأيت قوما لا يسلمونه لشي ء قط فروا رأيكم «1».

(2)

رسول اللّه يبعث مندوبا الى قريش:

لم تثمر الاتصالات التي جرت بين مبعوثي قريش، و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكان من الطبيعي أن يتصور رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ مبعوثي قريش لم يستطيعوا نقل هدفه إلى قريش، و إسماعهم الحقيقة، و أن اتهامهم لهم بالجبن و الكذب منعهم من قبول ما قد أخبروا به، و لهذا قرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبعث هو مندوبا عنه إلى رءوس الشرك ليوضّح لهم هدف رسول الاسلام من هذا السفر، و أنه ليس إلّا زيارة بيت اللّه و أداء مناسك العمرة لا غير.

(3) فاختار رجلا لبيبا حازما من بني خزاعة يدعى «خراش بن اميّة» فبعثه إلى قريش بمكّة و حمله على بعير يقال له «الثعلب». ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له من

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 598، امتاع الاسماع: ج 1 ص 287.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:332

الزيارة و العمرة، فدخل مكة، و بلّغ سادة قريش رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و لكن قريشا- خلافا لكل الأعراف الدولية و الاجتماعية قديما و حديثا. و القاضية بحصانة السفراء و ضرورة احترام كل مما يمت إليهم بصلة من ممتلكاتهم عمدت الى جمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي امتطاه سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى مكة فعقروه عدوانا، و كادوا أن يقتلوا سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه، و لكن وساطة جماعة من قادة العرب ادت إلى أن تخلّي قريش سبيله حتى أتى رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله.

إن هذا العمل الدني ء أثبت- بوضوح- أن قريشا لم تكن تريد السلام بل كانت دائما في صدد اشعال قتيل الحرب.

(1) و لم تلبث قريش أن كلّفت خمسين رجلا من فتيانها بالطواف بعسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بغية أخذ شي ء من أمواله، أو أسر بعض أصحابه لو أتيح لهم ذلك، ارعابا للمسلمين و تخويفا لهم. و لكن هذه الخطة فشلت فشلا ذريعا، فان هؤلاء لم يصيبوا شيئا بل أسرهم المسلمون جميعا و أتى بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعفا عنهم، و خلّى سبيلهم مع أنهم كانوا قد رموا في عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالحجارة و النبل.

و بهذا ثبت رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله مرة اخرى أنه يحب السلام و يسعى إليه، و انه جاء معتمرا لا معتديا و لا محاربا «1».

(2)

النبي يبعث سفيرا آخر الى قريش:

رغم كل هذه الامور و رغم كلّ التصلّب و التعصّب الذي أبدته القيادة القرشية المشركة ضدّ الاسلام و المسلمين و ضد محاولات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله السلميّة لم ييأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تحقيق السلام

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 278.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:333

فقد كان يريد- واقعا- أن يعالج المشكلة من طريق المفاوضات، و من طريق تغيير التصورات التي كان يحملها اشراف قريش و سادتها المتعنتين المتصلبين عن رسول اللّه و دعوته.

(1) و من هنا كان يجب هذه المرّة أن يختار صلّى اللّه عليه و آله رجلا لم تخض يده في دماء قريش، و لهذا لم يصلح «علي بن أبي طالب» و لا «الزبير» و لا غير هم من فرسان الاسلام و شجعانه

الذين جالدوا صناديد قريش في ميادين القتال و أردوا فريقا منهم صرعى، لمثل هذه السفارة، و هذه المهمة.

و لهذا تقرر- بعد التأمل. انتداب «عمر بن الخطاب» لهذه المهمة، أي الذهاب الى مكة، و التحدث الى سادة قريش، و رؤسائها، لأنه لم يكن قد أراق من المشركين حتى ذلك اليوم و لا قطرة دم، و لكن «عمر» اعتذر عن تحمل هذه المسئولية، و القيام بهذه المهمة المحفوفة بالمخاطر قائلا: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؛ إني أخاف قريشا على نفسي، و ليس بمكة من بني عديّ (و هم عشيرته) من يمنعني، و لكني ادلّك على رجل أعزّ بها مني، «عثمان بن عفان». (لكونه أمويا بينه و بين أبي سفيان زعيم قريش قرابة) «1».

فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «عثمان بن عفان» فبعثه إلى «أبي سفيان» و أشراف قريش، ليخبرهم أنه لم يأت لحرب، و أنه انما جاء زائرا لهذا البيت و معظما لحرمته.

(2) فخرج عثمان الى مكة، فلقيه «أبان بن سعيد بن العاص» حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانطلق «عثمان» حتى أتى أبا سفيان و أشراف قريش فبلغهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف،

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 315.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:334

فامتنع عثمان عن الطواف احتراما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثم إن قريشا احتبست عثمان عندها، و لعلّهم فعلوا ذلك ريثما يتوصلوا إلى حلّ ثم يطلقوه ليبلّغ الى

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأيهم.

(1)

بيعة الرضوان:

إلّا أن إبطاء مبعوث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن العودة من مكة أوجد قلقا شديدا في نفوس المسلمين، خاصّة و أنه شاع أن عثمان قد قتل، فثارت ثائرة المسلمين، و استعدّوا للانتقام من قريش و عمد النبي صلّى اللّه عليه و آله أيضا إلى مخاطبتهم قائلا:

«لا نبرح حتى نناجز القوم».

و ذلك تقوية لارادة المسلمين، و تحريكا لمشاعرهم الطاهرة.

و في هذه اللحظات الخطيرة، و في ما كان الخطر على الابواب، و بينما لم يكن المسلمون متهيئين للقتال قرر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجدّد بيعته مع المسلمين.

فجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحت شجرة، و أخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة و الثبات و الوفاء واحدا واحدا، و يحلفون له أن لا يتخلوا عنه أبدا، و أن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير، و قد سمّيت هذه البيعة ببيعة «الرضوان» التي جاء ذكرها في قوله تعالى:

«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» «1».

(2) فاتضح موقف المسلمين بعد هذه البيعة، فإمّا أن تسمح لهم قريش بدخول مكة لزيارة بيت اللّه المعظّم، و إمّا أن تتصلّب في موقفها الرافض فيكون بينهم

______________________________

(1) الفتح: 18.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:335

القتال و الحرب «1». سيد المرسلين ج 2 335 بيعة الرضوان: ..... ص : 334

بينما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الحال اذ طلع عليهم «عثمان بن عفان»، و كان ذلك بنفسه طليعة سلام كان يريده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فأخبر عثمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن الذي

يمنع قريشا من السماح لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدخول مكة هو اليمين التي الزموا بها انفسهم أن لا يدعوه يدخل مكة هذا العام و انهم سيبعثون إليه من يتفاوض معه بهذا الشأن.

(1)

سهيل بن عمرو يفاوض رسول اللّه:

بعثت قريش- في المرة الخامسة- «سهيل بن عمرو» الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد كلّفته بانهاء المشكلة ضمن شروط خاصّة سنقرؤها في ما يأتي.

فأقبل «سهيل بن عمرو» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لما رآه النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

فلما انتهى «سهيل» إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تكلّم في المسألة كما يتكلّم أي دبلوماسيّ بارع، فقال و هو يحاول إثارة عواطف النبي صلّى اللّه عليه و آله و أحاسيسه:

يا أبا القاسم إن مكة حرمنا و عزّنا، و قد تسامعت العرب بك إنك قد غزوتنا و متى ما تدخل علينا مكة عنوة تطمع فينا فنتخطّف، و إنا لنذكّرك الحرم، فان مكة بيضتك التي تفلّقت عن رأسك.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «فما تريد»؟

______________________________

(1) و لقد كان لهذه البيعة في نفسها أثرا سياسيا مهما في نفس العدو، يقول الواقدي: فلما رأت عيون قريش سرعة الناس إلى البيعة و تشميرهم إلى الحرب اشتدّ رعبهم و خوفهم و أسرعوا إلى القضية (ج 2 ص 604). و راجع امتاع الاسماع: ج 1 ص 291 أيضا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:336

قال: اريد أن أكتب بيني و بينك هدنة على أن اخلّيها لك في قابل «1» فتدخلها، و لا تدخلها بخوف و لا فزع، و لا سلاح إلّا سلاح الراكب، السيف في القراب.

فقبل رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله بعقد مثل هذا الصلح.

(1) و هكذا أدّت مفاوضات «سهيل» مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عقد صلح شامل و واسع بين قريش و بين المسلمين.

و لقد تشدد «سهيل» في شروط هذا الصلح كثيرا، حتى كاد أن ينتهي هذا التشدّد إلى قطع المفاوضات أحيانا، و لكن حيث إن الطرفين كانا يرغبان في الصلح و الموادعة، لهذا كانا يستأنفان التحاور و التفاوض مرة اخرى، بعد كلّ أزمة تطرأ على المباحثات.

و أخيرا انتهت مفاوضات الجانبين- رغم كل ما أبداه مندوب قريش من التصلّب- الى عقد وثيقة موادعة و هدنة نظّمت في نسختين و وقع عليها الجانبان.

(2) و يروي كافّة المؤرخين و أرباب السير أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استدعى عليّا (عليه السّلام)، و امره أن يكتب تلك الوثيقة قائلا له: اكتب «بسم اللّه الرحمن الرحيم» فكتب «عليّ» ذلك فقال سهيل: لا أعرف هذا، و لكن أكتب: باسمك اللّهم!!

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اكتب: باسمك اللّهم و امح ما كتبت.

ففعل «علي» ذلك.

ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أكتب «هذا ما صالح عليه رسول اللّه سهيل بن عمرو».

فقال سهيل، لو أجبتك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوّة فامح هذا الاسم و اكتب: محمّد بن عبد اللّه (أو قال: لو شهدت انك رسول اللّه لم اقاتلك.

______________________________

(1) أي افرغ لك مكة في العام القادم لتدخلها.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:337

و لكن أكتب اسمك و اسم ابيك).

(1) و لم يرض بعض من حضر من المسلمين في هذه النقطة بأن يرضخ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمطالب «سهيل» الى هذه الدرجة، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله الذي كان يلاحظ مصالح عليا غفل عنها ذلك البعض كما سنذكرها فيما بعد رضي بمطلب «سهيل»، و قال لعليّ (عليه السّلام): امحها يا عليّ.

فقال عليّ (عليه السّلام) بأدب بالغ: يا رسول اللّه إن يديّ لا تنطلق لمحو اسمك من النبوة.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فضع يدي عليها، فمحى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده كلمة: رسول اللّه نزولا عند رغبة «سهيل» مفاوض قريش «1».

ان التسامح الذي أبداه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في تنظيم وثيقة الصلح هذه لا يعرف له نظير في تاريخ العالم كله، لأنه اظهر بجلاء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقع فريسة بيد الاهواء و الاغراض الشخصية و العواطف و الاحاسيس العابرة، و كان يعلم أن الحقائق لا تتبدّل و لا تتغيّر بالكتابة و المحو، من هنا تسامح مع مفاوض قريش «سهيل» الذي تصلّب في مطاليبه غير المشروعة كثيرا، حفاظا على أصل الصلح. و حرصا على السلام.

(2)

التاريخ يعيد نفسه:

و لقد ابتلي علي (عليه السّلام) تلميذ النبي الأول بمثل هذه التجربة المرّة بعد

______________________________

(1) الارشاد: ص 60، اعلام الورى: 106، بحار الأنوار: ج 20 ص 368 و قد اخطأ الطبري في هذا المقام اذ قال: في احدى رواياته لهذه الحادثة: قال لعلى عليه السّلام: امح «رسول اللّه»، قال:

لا و اللّه لا أمحاك أبدا فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ليس يحسن يكتب فكتب مكان «رسول اللّه»: محمّد.

و هكذا نسب الكتابة إلى شخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نحن نعلم انه أمي لا يحسن الكتابة، و قد حققنا هذه المسألة في المجلد الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن 319-

374.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:338

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فيوم امتنع علي عليه السّلام عن محو كلمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن اسم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال له النبي صلّى اللّه عليه و آله:

يا عليّ إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوّة فو الّذي بعثني بالحق نبيّا لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها و أنت مضيض مضطهد» «1»

(1) و لقد بقيت هذه القضية في ذاكرة عليّ عليه السّلام، حتى إذا كان يوم «صفين» و خدع أصحاب الامام عليّ عليه السّلام بالاسلوب الماكر الذي اتبعه جيش الشّام الذي قاتل عليّا (عليه السّلام) بقيادة معاوية بن أبي سفيان و مساعدة عمرو بن العاص، و أجبروا الامام عليه السّلام على عقد الصلح مع معاوية فشكّل الجانبان لجنة لتنظيم وثيقة ذلك الصلح، كلّف «عبيد اللّه بن رافع» كاتب الامام من جانب الامام عليّ عليه السّلام بأن يكتب وثيقة الصلح، فكتب:

«هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي» قال عمرو بن العاص ممثل معاوية في تلك المفاوضات: لو علمنا أنك أمير المؤمنين لم ننازعك!!

و هكذا طالب عمرو بن العاص بحذف عبارة أمير المؤمنين.

و طال الكلام و التشاجر في هذا الموضوع، و لم يكن الامام علي يريد ان يعطي حجة للبسطاء من أصحابه، و لهذا لم يرضخ لهذا المطلب، و لكنه بعد إلحاح من أحد قادة جيشه سمح بأن يمحى لقب «أمير المؤمنين» من اسمه ثم قال:

«اللّه اكبر سنة بسنة».

و هو بذلك يشير إلى حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله له يوم الحديبية «2».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 138، بحار الأنوار: ج 20 ص 353.

(2) الكامل في التاريخ: ج 3 ص 162، راجع المصدر لتقف

على القصة بكاملها و لتقف على ما دار بين الامام و ابن العاص.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:339

(1)

نصّ صلح الحديبية:

و أخيرا عقدت اتّفاقية صلح و هدنة بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قريش تضمنت المواد و الشروط التالية:

(2) 1- تعهّد المسلمون، و قريش بترك الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، و يكف بعضهم عن بعض.

(3) 2- من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، و من جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه.

(4) 3- من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد و عهده (أي يتحالف معه) دخل فيه و من أحب أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه.

(5) 4- انّ محمّدا يرجع بأصحابه إلى المدينة عامه هذا و لا يدخل مكة، و انما يدخل مكة في العام القابل في أصحابه فيقيم فيها ثلاثة أيام، لا يدخل فيها بسلاح إلّا سلاح المسافر، السيوف في القرب «1».

(6) 5- أن لا يستكره أحد على ترك دينه و يعبد المسلمون اللّه بمكة علانية و بحرية، و ان يكون الاسلام ظاهرا بمكة و ان لا يؤذي أحد و لا يعيّر «2».

(7) 6- لا إسلال (سرقة) و لا إغلال (خيانة) بل يحترم الطرفان أموال الطرف الآخر، فلا يخونه و لا يسرق منه «3».

(8) 7- أن لا تعين قريش على محمّد و أصحابه أحدا بنفس و لا سلاح «4».

هذا هو نص وثيقة «صلح الحديبية»، و قد جمعنا بنوده من المصادر المتنوعة

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 21.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 352.

(3) مجمع البيان: ج 9 ص 117 أو: «من قدم مكة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا أو يبتغي من فضل اللّه فهو آمن على دمه

و ماله، و من قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو الشام فهو آمن على دمه و ماله».

(4) بحار الأنوار: ج 20 ص 352.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:340

التي أشرنا الى بعضها في الهامش، و قد كتبت هذه الوثيقة في نسختين، ثم وقع عليها جماعة من شخصيات قريش، و المسلمين و شهدوا عليها و اعطيت نسخة الى «سهيل بن عمرو» ممثل قريش، و تركت نسخة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1)

نشيد الحرية:

لقد كان كل عاقل لبيب يحسن تقدير الامور يسمع نشيد الحريّة من ثنايا هذا الصلح التاريخيّ، و مع أن كل بنود هذه المعاهدة جديرة بالاهتمام و الاكبار، إلّا أن النقطة التي تستحق الاهتمام و التقدير أكثر من سواها هي المادّة الثانية في هذا الصلح، و هي المادّة التي أزعجت بعض الصحابة يوم انعقاد تلك المعاهدة.

فقد انزعج صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله من هذا التمييز الصارخ، و قالوا حول قرار القيادة الحكمية المتمثلة في قائد محنّك كرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان ينبغي أن لا يقولوه، في حين تعتبر هذه المادة من أعظم بنود الوثيقة إذ تعكس نظرة رسول الاسلام، و تفكيره حول كيفيّة تبليغ الاسلام، و إشاعته و نشره، فانه يظهر منها- و بجلاء- مدى احترام رسول الاسلام لمبدإ الحرية.

(2) و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في معرض الاجابة على من اعترض من صحابته على البند القاضي بتسليم كل مسلم فرّ من قريش إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين إلى قريش، دون العكس قائلا:

«من جاءهم منّا فأبعده اللّه و من جاءنا منهم رددناه إليهم فلو علم اللّه الاسلام من قلبه جعل

له مخرجا».

و أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن الذي يهرب من جماعة المسلمين و يلجأ إلى المشركين فلا قيمة لإيمانه و إسلامه، إذ أن ذلك يدل على أنه لم يؤمن بهذه الدين حق الإيمان فلا داعي لأن يعاد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:341

لا اكراه في الدين و أما من هرب من المشركين الى المسلمين فلو علم اللّه منه الصدق لنجاه حتما.

(1) و لقد كانت نظرية النبي صلّى اللّه عليه و آله و رأيه متطابقا كل التطابق مع موازين العقل و المنطق السليم، و قد تجلت صوابيته و حقانيته مع مضيّ الزمن في ما بعد، لانه لم يمض زمن طويل إلّا و قريش- و بعد سلسلة من الحوادث المؤسفة- طلبت بنفسها إلغاء هذه المادّة كما سيأتي بيانه في ما بعد.

إن هذه المادة تعد ردا قاطعا على تقوّلات و تخرّصات المستشرقين المغرضين الذين يصرّون على القول بانّ الاسلام انتشر بالسيف.

إنهم حيث لا يتحملون رؤية هذا الامتياز العظيم الذي كسبه الاسلام الحنيف، حيث انتشر في مدة قصيرة جدا في شتى نقاط العالم و بقاعه، حتى كاد أن يعمّ المعمورة كلّها، و لهذا اضطروا إلى إعزاء انتشار الاسلام الى عامل استخدام القوة، و قالوا: ان الاسلام انتشر بالقوة، ليشوهوا بذلك ملامح الاسلام، و يخفوا الحقيقة خلف غطاء من الاراجيف، في حين أن هذا الميثاق الذي عقد في الجزيرة العربية أمام اعين المئات من المسلمين و غير المسلمين يعكس بجلاء روح الاسلام و حقيقة تعاليمه السامية، و مع هذا يكون من مجانبة الواقع القول بأن الاسلام انتشر بقوة السيف. لا بالدعوة الحرة، و التبليغ و الارشاد.

هذا و لقد تحالفت قبيلة خزاعة-

مع المسلمين في ضوء المادة الثالثة من الميثاق، بينما تحالفت قبيلة بني كنانة- و كانوا أعداء تقليديّين لخزاعة مع قريش.

(2)

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح:

كانت مقدمات الميثاق المذكور، و بنوده توحي بصورة جليّة و كاملة بأن أكثرها قد فرضت فرضا على المسلمين، فلو أن رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله قبل بامحاء كلمة «رسول اللّه» من اسمه، و بدأ الميثاق بعبارة «باسمك اللّهم» على عادة الجاهليين بدل البسملة الكاملة فان غايته من ذلك كانت هي الحفاظ على

سيد المرسلين ،ج 2،ص:342

الصلح، و اقرار الأمن في الجزيرة العربية.

و لو ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رضي بأن يسلّم المسلمين الهاربين من قبضة المشركين الى جماعة المسلمين، و يعيدهم الى القيادة الوثنية في مكة فان بعض ذلك كان بسبب تصلّب سهيل ممثل قريش و تعنته، و لو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان يرضخ لهذا الشرط (استجابة لرغبة الرأي العام الاسلامي الذي كان مخالفا لمثل هذا الشرط و معارضا لاعادة المسلمين الهاربين من مكة إلى قريش، و حفاظا على حقوق اولئك الأشخاص الهاربين) لتعطّلت عملية السلام، و لما تحقق الصلح، و لفاتت المسلمين هذه النعمة الكبرى التي انطوت على آثار عظيمة في المستقبل كما أثبتت الوقائع في ما بعد.

من هنا قاوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كل الضغوط من جهة، و تحمل عملية فرض هذا الشرط من جهة اخرى، ليصل الى المقصد الأعلى و الهدف الاكبر الذي تتضاءل تجاهه هذه المتاعب.

و لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يراعي الرأي العام و يلاحظ حقوق هذه الجماعة، لكان «سهيل» يتسبب- بسبب تصلبه الارعن- في اشتعال نائرة الحرب.

و القصّة التالية تشهد بما نقول:

(1) حينما انتهت مفاوضات السلام، و بينما كان الامام علي (عليه السّلام) يكتب وثيقة الموادعة و الصلح دخل أبو جندل بن سهيل في مجلس النبي صلّى

اللّه عليه و آله و هو يرسف في الحديد.

فتعجب الجميع من حضوره هناك، اذ كان محبوسا في سجن أبيه سهيل (المفاوض) مدة طويلة.

و لم يكن لابي جندل من ذنب إلّا أنه اختار التوحيد عقيدة، و الاسلام دينا، و رفض الوثنية و الشرك و كان يحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حبا شديدا فحبسه أبوه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:343

(1) و كان أبو جندل قد بلغه أمر المفاوضات هذه، فهرب من محبسه و انفلت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سالكا إليه طرقا وعرة في الشعاب، و الوديان.

فلما رأى «سهيل» ابنه أبا جندل و قد هرب من سجنه، و لجأ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قام إليه فضرب وجهه، و اخذ بتلابيبه ثم قال: يا محمّد لقد تمت القضية بيني و بينك قبل أن يأتيك هذا، و هذا يا محمّد أول من أقاضيك عليه أن ترده.

و لا شك أن كلام «سهيل» كان باطلا، و لا مبرر لطلبه، لأن الميثاق لم تتم كتابته على الورق، و لم يوقع عليه الطرفان، و لم ينته- بالتالي- من مراحله النهائية و الأخيرة بعد، فكيف يمكن الاستناد إليه، و لهذا أجابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائلا:

«إنا لم نرض (نقض) بالكتاب بعد» «1»

(2) فقال سهيل: إذا و اللّه لا اصالحك على شي ء أبدا، حتى ترده إليّ، و لم يزل يصرّ على كلامه و رفضه هذا حتى أنزعج اثنان ممّن رافقه من شخصيات قريش هما مكرز و حويطب من تصلب سهيل و تشدده.

ثم قاما و أخذا أبا جندل من أبيه و أدخلاه خيمة و قالا: نحن نجيره.

و لقد فعلا ذلك حتى ينهيا ذلك التنازع، و الجدال، و

لكن إصرار سهيل على موقفه، أبطل تدبيرهما اذ قال: يا محمّد لقد لجّت القضية بيني و بينك قبل ان ياتيك هذا «2».

فاضطرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أن يقوم بآخر سعي في طريق الحفاظ على الهدنة و الصلح الذي كان له أثر عظيم في انتشار الاسلام، و لهذا رضى بردّ أبي جندل إلى والده، لإعادته الى مكة، ثم قال لذلك المسلم الاسير تطييبا لخاطره:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 334.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 21 لجّت: وجبت و تمت.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:344

(1) «يا أبا جندل، اصبر و احتسب، فان اللّه جاعل لك و لمن معك من المستضعفين فرجا و مخرجا، إنا قد عقدنا بيننا و بين القوم صلحا، و أعطيناهم على ذلك، و أعطونا عهد اللّه، و إنا لا نغدر بهم».

و انتهت جلسة المفاوضات، و تمّ التوقيع على نسختي الميثاق، و عاد سهيل و رفاقه إلى مكة، و معهم «أبو جندل» ابن سهيل في جوار مكرز و حويطب، و نحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان معه من الهدي «1» في نفس ذلك المكان و حلق فنحر جماعة من المسلمين و حلقوا «2».

(2)

تقييم عاجل لصلح الحديبية:

بعد أن فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من عقد صلح الحديبية بينه و بين رءوس الشرك، و بعد أن توقف في أرض الحديبية مدة 19 يوما عاد هو و أصحابه الى المدينة، و عاد المشركون إلى مكة.

هذا و قد نشبت مشاجرات و مشادات كلامية حين تنظيم ذلك الميثاق و كتابته، بين أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فمنهم من كان يعتبر ذلك الصلح في صالح الاسلام، و قليل منهم كان يعدّه مضرا

بمصلحة الاسلام و المسلمين.

و لقد انقضى الآن أكثر من أربعة عشر قرنا على عقد ذلك الصلح التاريخي العظيم فلندرس معا تلك المعاهدة بموضوعية و تجرد، و نستعرض طرفا من تلك الاعتراضات و المجادلات لنقف على معطيات تلك العملية، و نتائجها.

ان الذي نراه هو: ان هذا الصلح كان في صالح الاسلام مائة بالمائة، و انه هو الذي جعل أمر انتصار الاسلام قطعيّا،

______________________________

(1) أي الابل التي ساقها معه.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 281، بحار الأنوار: ج 20 ص 353، السيرة النبوية: ج 2 ص 318. امتاع الاسماع: ج 1 ص 394 و 395.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:345

لا شك فيه، و إليك أدلة هذا الرأي:

(1) 1- إن حملات قريش المتتابعة على المسلمين، و التحريكات الداخلية و الخارجية التي أشرنا إليها في حوادث «احد» و «الاحزاب» على نحو الاختصار، لم تترك للنبي صلّى اللّه عليه و آله فرصة لنشر الاسلام بين القبائل، و في المناطق المختلفة خارج شبه الجزيرة العربية.

من هنا كان صلّى اللّه عليه و آله يصرف اكثر اوقاته الثمينة في الدفاع و العمل على إفشال المؤامرات الخطرة التي كان العدوّ الداخلي و الخارجيّ يحيكها باستمرار.

و لكن النبي صلّى اللّه عليه و آله فرغ باله بعد عقد صلح الحديبية مع قريش من ناحية الجنوب، فتهيّأت الأرضية لانتشار الاسلام في المناطق الاخرى.

و قد ظهر أثر هذا الهدوء و الاستقرار بعد سنتين من عقد تلك المعاهدة، فقد كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحديبية ألف و أربعمائة و لكنه عند ما توجّه إلى مكة لفتحها بعد عامين خرج معه عشرة آلاف، و كان هذا التفاوت من نتائج صلح الحديبية مباشرة، لأن بعض الناس كانوا يخشون قريشا فلا

يلتحقون بالمسلمين لذلك السبب، و لكن بعد أن اعترفت قريش بالكيان الاسلاميّ بصورة رسمية، و أعطيت للقبائل الحرية الكاملة للانضمام إلى المسلمين زال الخوف المذكور عن كثير من القبائل، فاستطاع المسلمون أن يستغلوا تلك الفرصة و يقوموا بنشاط تبليغي و دعوة واسعة إلى الاسلام.

(2) 2- إن النتيجة الثانية التي حصل عليها المسلمون من هذه المعاهدة هي زوال الستار الحديدي الذي كان قد ضربه المشركون بين الناس و بين الاسلام، فقد سمح ذلك الصلح بالسفر الى المدينة فكان الناس في سفرهم الى المدينة يحتكون بالمسلمين و يلتقون بهم، فيتعرفون على تعاليم الاسلام السامية.

و لقد أثار نظم المسلمين، و اخلاصهم، و طاعة المؤمنين الكاملة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إعجاب المشركين كما أثارت نظافة المسلمين، في أوقات الصلاة خاصة، و صفوفهم المتلاحمة أثناء هذه العبادة المباركة، و خطب رسول اللّه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:346

صلّى اللّه عليه و آله الرائعة، و اللذيذة، و آيات القرآن الكريم البليغة، و السهلة في نفس الوقت رغبة قوية في نفوس الكفار إلى الاسلام.

(1) هذا مضافا إلى أن المسلمين استطاعوا بعد عقد ذلك الميثاق السفر إلى مكة و شتى نقاط الجزيرة بحجج مختلفة، و الاتصال بذويهم و أقاربهم، و التحدث معهم في أمر الاسلام و تعاليمه المقدسة المحبّبة، و قوانينه و آدابه الرائعة، و ما جاء به من حلال و حرام.

و قد تسبّبت كل هذه الامور في أن يلتحق كثير من رءوس الشرك و الكفر كخالد بن الوليد و عمرو بن العاص بالمسلمين، و يعتنقوا ذلك الدين قبل فتح مكة، و أن تساعد هذه المعرفة بحقائق الاسلام، و الاطّلاع على مزاياه و فضائله على تسهيل عملية فتح مكة، و انهيار صرح الوثنية فيها

من دون أيّة مقاومة من أهل مكة، بحيث سيطر المسلمون عليها بسهولة و أقبلت أفواج الناس تدخل في دين اللّه راغبة كما ستعرف تفاصيل ذلك في حوادث السنة الثامنة.

إن هذا الانتصار العظيم كان نتيجة الاتصالات التي اجراها المسلمون مع ذويهم و أصدقائهم في مكة خلال تردّدهم المتكرر بعد زوال الخوف و الحصول على الحرية في الدعوة بفضل صلح الحديبية.

(2) 3- إن الاتصال برءوس الشرك أثناء عقد اتفاقية السّلام مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحديبية، ساعد على ازالة كثير من العقد النفسية التي كانوا يعانون منها تجاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأن أخلاق النبي الرفيعة، و حلمه و صبره أمام تعنت قادة المشركين و تصلبهم و عتوهم، و سعيه الحثيث و حرصه الصادق على تحقيق السلام، أثبت لهم بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معدن عظيم من معادن الخلق الانساني الكريم.

فبالرغم من أنه صلّى اللّه عليه و آله قد أصيب على أيدي قريش بخسائر فادحة، و ناله منهم أذى كثير، إلا أن فؤاده كان طافحا بمشاعر اللطف، و الحب و الحنان على الناس.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:347

(1) لقد رأت قريش بام عينيها كيف أنه صلّى اللّه عليه و آله خالف في عقد ميثاق الصلح آراء جماعة من أصحابه، المعارضة لبعض بنود الاتفاقية رغبة منه في تحقيق السلام، و كيف آثر الحفاظ على حرمة المسجد الحرام على هواه، و رغبته الشخصية.

إن هذا النوع من السلوك أبطل مفعول جميع الدعايات السيئة التي كانت تروّج ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مواقفه و خلقه، و أفكاره و اثبتت للجميع أنه حقا رجل سلام، و داعية خير للبشرية، و أنه

حتى لو سيطر على مقاليد الجزيرة العربية، لما عامل أعداءه الّا بالحسنى و اللطف، لأنه لم يكن مشكوكا فيه بأنه لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخوض حربا ضد قريش في ذلك اليوم لغلبها و هزمها شر هزيمة كما يصرح بذلك القرآن الكريم أيضا اذ يقول:

«وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً» «1».

(2) و مع ذلك أبدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تسامحا كبيرا، و أعلن عن عطفه، و حنانه للمجتمع العربيّ، و بذلك أبطل كل الدعايات التي كانت تروّج ضدّه، و ضدّ دعوته العظيمة المباركة.

من هنا نهتدي إلى مغزى ما قاله الامام الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن أهمية هذا الصلح حيث قال:

«و ما كان قضية أعظم بركة منها» «2».

إن الحوادث اللاحقة أثبتت أن اعتراض عدد ضئيل من صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و في مقدمتهم عمر بن الخطاب على هذا الصلح كان باطلا و لا مبرر له.

و قد أدرج أرباب السير و التاريخ جميع هذه الاعتراضات، كما تنقل ردّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليها، و يمكن للوقوف عليها مراجعة السيرة النبوية

______________________________

(1) الفتح: 22.

(2) الكافي: ج 8 ص 326.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:348

لابن هشام، و امتاع الاسماع و غيرهما ان قيمة هذه المعاهدة تتجلى من ان النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يصل الى المدينة حتى نزلت سورة الفتح التي وعدت المسلمين و بشّرتهم بالانتصار و يمكن اعتبار هذا العمل مقدمة لفتح مكة كما يقول تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» «1».

(1)

قريش تصرّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة:

لم يمض زمان طويل حتى أجبرت الحوادث المرّة قريشا على أن تبعث إلى رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله من يطلب منه إلغاء المادة الثانية من معاهدة صلح الحديبية، و هي المادة التي أغضبت بعض صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و أثارت سخطهم، و قبل بها رسول اللّه تحت إصرار من «سهيل» ممثل قريش في مفاوضات الحديبية.

تلك المادة التي تقول: على الحكومة الاسلامية أن تعيد كل مسلم هارب من مكة إلى حكومة مكة، و لكن لا يجب على قريش أن تعيد كل هارب من المسلمين إلى مكة، إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قد أثارت هذه المادة- المجحفة في الظاهر- سخط البعض و اعتراضهم، و لكن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لابي جندل في وقته:

«إنّ اللّه جاعل لك و لمن معك من المستضعفين فرجا و مخرجا».

(2) ثم إن مسلما آخر يدعى «أبو بصير» كان قد حبسه المشركون ردحا طويلا من الزمن استطاع أن يفرّ من محبسه و يصل الى المدينة، و قد وصلها سعيا على قدميه، فكتب شخصيتان من شخصيات قريش هما: «أزهر» و «الأخنس» كتابا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يطلبان منه إعادة أبي بصير إلى قريش

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 263 نقلا عنن اعلام الورى، و زاد المعاد في هدى خير العباد: ج 2 ص 126.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:349

و يذكّر انه بالمعاهدة و أرسلاه مع رجل من بني عامر يرافقه غلامه، فدفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «أبا بصير» إلى الرجلين عملا بالمعاهدة قائلا:

«يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت (أي من العهد) و لا تصلح لنا في ديننا الغدر و إن اللّه جاعل لك و لمن معك من المسلمين فرجا و مخرجا»

«1».

(1) فقال أبو بصير: يا رسول اللّه تردّني إلى المشركين؟!

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثانية:

«انطلق يا أبا بصير، فان اللّه سيجعل لك مخرجا».

ثم دفعه إلى العامريّ و صاحبه فخرج معهما باتجاه مكة.

فلما كانوا بذي الحليفة (و هي قرية تبعد عن المدينة بستة أميال يحج منها بعض أهل المدينة) صلّى أبو بصير ركعتين صلاة المسافر ثم مال إلى أصل جدار فاتّكأ عليه، و وضع زاده الذي كان يحمله و جعل يتغدّى و قال لصاحبيه في لهجة الصدّيق: ادنوا فكلا؟ فأكلا معه ثم آنسهم ثم قال للعامري: ناولني سيفك انظر إليه إن شئت أ صارم هو أم لا؟ فناوله العامري سيفه و كان أقرب إلى السيف من أبي بصير، فجرّد أبو بصير السيف و قتل به العامريّ في اللحظة، فهرب الغلام يعدو نحو المدينة خوفا، و سبق أبا بصير الى المدينة، و أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما جرى لسيّده العامريّ، فبينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس في أصحابه و الغلام عنده يقصّ عليه ما جرى إذ طلع أبو بصير، فدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد و قال: وفت ذمّتك، و أدّى اللّه عنك، و قد أسلمتني بيد العدوّ، و قد امتنعت بديني من أن افتن.

ثم إن أبا بصير بعد أن قال هذا الكلام خرج من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و غادر المدينة، و نزل ناحية على ساحل البحر، على طريق قافلة قريش

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 625.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:350

إلى الشام، تسمى «العيص».

(1) و عرف المسلمون الذين حبسوا بمكة بهذا التطوّر، ففرّ منهم سبعون رجلا، و انضمّوا إلى

أبي بصير و كانوا ممن نالهم على يد قريش أشدّ العذاب و العنت، فلا حياة و لا حرية لهم.

من هنا قرّروا أن يتعرضوا لقافلة قريش التجارية و يغيروا عليها، أو يقتلوا كل من وقعت يدهم عليه من قريش.

و قد لعبت هذه الجماعة دورها بصورة رائعة جدا بحيث أقلقت بال قريش، و سلبت منها الرقاد إلى درجة أنهم كتبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يطلبون منه إلغاء هذه المادة (أي المادة الثانية). بموافقة الطرفين و قد أعلنوا موافقتهم على إلغائها، و اعادة أبي بصير و جماعته إلى المدينة و الكف عن التعرض لتجارة قريش.

فوافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على إلغاء تلك المادة، و طلب من المسلمين في منطقة «العيص» القدوم الى المدينة.

و بهذا توفّرت فرصة طيبة لجميع المسلمين، كما عرفت قريش أنها لا تستطيع سجن المؤمن، و حبسه في القيد، و ان تقييده و حبسه أخطر بكثير من إطلاق سراحه، لأنه سيفرّ ذات يوم و هو يحمل روح الانتقام على سجّانه.

(2)

النساء المسلمات لا يسلّمن إلى قريش:

بعد أن تم الاتفاق و التوقيع على معاهدة صلح الحديبية هاجرت «أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط» في تلك المدة، فخرج أخواها «عمارة» و «الوليد» ابنا عقبة حتى قدما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يسألانه أن يردّ اختهما عليهما بالعهد الذي بينه و بين قريش في الحديبية، فلم يفعل ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال لهما:

«إن اللّه نقض العهد في النساء» «1».

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 631، السيرة النبوية: ج 2 ص 323.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:351

و قد نزل قوله تعالى يوضح حكم هذا الامر:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ

اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» «1».

كانت هذه قصّة «الحديبية»، و قد استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ظلّ الهدوء و الأمن اللذين تحققا بسبب معاهدة الحديبية أن يراسل قادة العالم و زعماءه، و أن يبلّغ نبأ دعوته إلى مسامع شعوبهم، و ستقف على مفصل هذا القسم من تاريخ الاسلام المشرق في الفصل القادم.

______________________________

(1) الممتحنة: 10.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:352

(1)

حوادث السنة السابعة من الهجرة

43 النبيّ يعلن عن رسالته العالمية

اشارة

لقد أراحت معاهدة الحديبية بال رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله من ناحية الجنوب (أي مكة)، و قد آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لبّى دعوته في ظل الهدوء و الأمن و الاستقرار الحاصل بسبب هذا الصلح جماعة من زعماء العرب. و رجالها البارزين.

و اغتنم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذه الفرصة ففتح على ملوك العالم و زعماء القبائل، و رجال الدين المسيحي يومذاك باب المراسلة، فكاتبهم و وجّه إليهم رسائل كثيرة عبر رسله و سفرائه، و قد عرض فيها عليهم رسالته و دعوته التي كانت يومذاك لا تخرج عن صورة العقيدة البسيطة و كان في مقدورها أن تضم تحت لواء التوحيد، و في اطار التعاليم الاخلاقية و الانسانية كل البشرية.

و قد كانت هذه هي الخطوة الاولى التي خطاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد 19 عاما من الصراع مع قريش العاتية.

(2) و لو أن الاعداء الداخليين لم يشغلوه بالصراعات و الحروب لاستطاع رسول الاسلام ان يقوم بتوجيه دعوته الى شعوب العالم آنذاك قبل هذا الوقت، و لكن الحملات الظالمة و المضايقات الشديدة التي قام بها العرب الوثنيون الجهلة

طوال ما يقرب من عقدين من عمر الرسالة أجبرت رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله على أن يصرف قسما عظيما من أوقاته الغالية في ترتيب شئون الدفاع عن حياض الاسلام و كيان المسلمين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:353

(1) إن الرسائل التي وجّهها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى الامراء و السلاطين، و إلى رؤساء القبائل، و الشخصيات الدينية و السياسية البارزة داخل الجزيرة العربية و خارجها لدعوتهم إلى الاسلام تكشف عن طريقته في الدعوة و التبليغ، و الارشاد و الهداية.

و بين أيدينا الآن نصوص 185 «1» رسالة و كتاب من مكاتيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رسائله التي دعا فيها من أرسلها إليهم، إلى الإسلام، أو كتبه التي تشكّل معاهداته و مواثيقه صلّى اللّه عليه و آله التي أعطاها أو عقدها مع الاطراف المختلفة و قد جمعها، و ضبطها أرباب السير و كتّاب التاريخ و هي تكشف برمتها عن أن اسلوب الاسلام في الدعوة و التبليغ يعتمد على المنطق و البرهان، لا على السيف و القهر و على الاقناع لا الاكراه.

فيوم اطمأن بال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمن جانب قريش و حلفائها، وجّه نداءه الالهي إلى مسامع البشرية في العالم و ذلك عن طريق ارسال الرسائل، أو بعث المبلغين و الدعاة إلى شتى أنحاء العالم.

(2) إن نصوص هذه الرسائل، و الاشارات الموجودة في خلالها، و نصائحه التي كان يوجّهها صلّى اللّه عليه و آله إلى الناس، و التسامح الذي كان يبديه من نفسه خلال عقد الاتفاقيات و إبرام المعاهدات مع الاجانب، تشكّل برمتها شواهد قاطعة، و دامغة ضدّ نظرية المستشرقين الذين أرادوا مسخ وجه الاسلام

______________________________

(1) لقد اجتهد علماء

الاسلام في جمع و احصاء رسائل النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و كتبه قدر المستطاع، و إن أكمل المصادر الحاضرة من حيث الاستقصاء وسعة التتبع كتابان يتسمان بأهمية كبرى في هذا المجال و هما:

أ- الوثائق السياسية تأليف البرفيسور محمّد حميد اللّه حيدرآبادي، الاستاذ بجامعة باريس.

ب- مكاتيب الرسول تأليف العلّامة المحقق المحترم الشيخ علي الاحمدى.

و الكتاب الأخير يمتاز بتحقيقات و تحليلات أدبية، و تاريخيه و سياسية إسلامية في غاية الأهمية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:354

المشرق، بكيل الاتهامات الباطلة له، و الزعم بأن تقدّم الاسلام و انتشاره كان بفعل القهر، و بقوة السيف، و تحت عامل الفرض و الاجبار و اننا لنأمل أن نوفّق ذات يوم لدراسة و تقييم تلك الرسائل و الكتب و استجلاء هذه النقاط المذكورة و استخراج خطوط السياسة النبوية و معالم الدعوة المحمدية. من ثنايا تلكم الرسائل و الكتب التاريخية الخالدة لنستطيع من خلال هذا العمل بيان اسلوب الاسلام في نشر دينه في شتى نقاط العالم.

(1)

الرسالة المحمّدية كانت عالمية: «1»

اشارة

ينظر بعض الجهلة إلى مسألة عالمية الرسالة المحمّدية بنظر الشك و الترديد، و هم يتبعون في مثل هذه النظرة الجاهلة ما يروّجه بعض الكتاب العملاء، و في مقدمة هؤلاء المغرضين مستشرق معاد للإسلام هو «السير ويليم موير» الذي يقول: إن موضوع عالمية الرسالة المحمّدية قد ظهر و تبلور في ما بعد، و أن محمّد اقتصر في دعوته من بدء رسالته إلى لحظة وفاته على العرب، و لم يكن «محمّد» يعرف أي مكان غير الجزيرة العربية.

و لقد اتّبع هذا المستشرق نهج أسلافه الإنجليز، و حاول التعتيم على الحقيقة في مقابلة الآيات الكثيرة التي تشهد- بجلاء- بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يدعو البشر عامة إلى التوحيد

و الاعتقاد برسالته و قال: انّ محمّدا كان يقتصر في دعوته على العرب خاصة.

(2) و نحن هنا ندرج بعض الآيات التي تشهد بأن رسالة الاسلام، و أن الدعوة المحمّدية كانت منذ بداية ظهورها دعوة عالمية، و يمكن مراجعة كتب التفسير و العقائد للوقوف على المزيد من التوضيح في هذا المجال.

______________________________

(1) هاهنا مسألتان يجب التمييز بينهما:

أ- عالميّة الرسالة المحمّدية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:355

آيات تدل على عالمية الرسالة المحمّدية:

1- «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً» «1».

2- «وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» «2».

3- «لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا» «3».

4- هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» «4».

(1) و الآن نسأل هذا الكاتب الإنجليزي: كيف تقول- مع هذه الدعوة العالمية- أن موضوع عالمية الرسالة الاسلامية قد ظهر و تبلور في ما بعد.

فهل مع وجود هذه الآيات و نظائرها و مع وجود سفراء رسول اللّه و مبعوثيه الى المناطق النائية، و البلاد البعيدة، و إلى نصوص الرسائل التي بقيت مسجلة في صفحات التاريخ عن رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و خاصة ما بقي منها محفوظا بعينه الى الآن في المتاحف العالمية الكبرى يبقى مجال لأن يشك أحد في عالمية رسالته.

(2) و العجيب أن الكاتب المذكور يكتب بكل وقاحة قائلا: ان محمّدا لم يكن

______________________________

ب- خاتمية الرسالة المحمّدية.

و في الاولى تعالج مسألة عالميّة رسالة النبيّ محمّد، و عدم عالميتها و انه صلّى اللّه عليه و آله هل كان مبعوثا لخصوص سكان الجزيرة العربية أم لعموم البشر، و للنّاس كافة، في حين أن المحور في المسألة الثانية هو أنه صلّى اللّه عليه و آله هل هو آخر نبي أو لا على انه يمكن ان يقول

البعض ان دينه كان عالميا إلّا أن نبوته لم تكن خاتمة النبوات بل سيأتي بعده نبي آخر و شريعة اخرى.

من هنا لا بد من البحث- في النبوة الخاصة- حول كلتي المسألتين بصورة مستقلة، و قد بحثنا المسألتين في الجزء الثالث من مفاهيم القرآن بصورة موسعة.

(1) سبأ: 28.

(2) القلم: 52.

(3) يس: 70.

(4) التوبة: 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:356

يعرف غير الحجاز، في حين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سافر يوم كان في ربيعه السادس عشر مع عمه أبي طالب الى الشام كما سافر الى الشام في تجارة خديجة في سنّ الخامسة و العشرين، مع قافلة قريش التجارية.

حقا ان من العجيب العجاب أننا كلّما قرأنا في التاريخ أن شابا يونانيا (هو الاسكندر المقدوني) كان يريد أن يسيطر على العالم، أو نسمع أن ناپليون بونابرت كان يفكر في أن يكون امبراطور العالم الوحيد لم يبعثنا كل ذلك على الاستغراب و الدهشة و لكن كلما يسمع فريق من المستشرقين بأن قائد المسلمين الأعلى وجّه دعوة الاسلام- و بأمر اللّه- الى زعماء عصره العالميّين الذين كان بينهم و بين قومه علاقات تجارية عريقة انكروا ذلك و بوقاحة، و اعتبروه أمرا محالا.

(1)

رسل الاسلام الى المناطق النائية:

اشارة

طرح رسول الاسلام قضية دعوة الملوك و الامراء الى الاسلام على شورى كبيرة من أصحابه كغيرها من المسائل المهمة فقال:

«أيها الناس ان اللّه قد بعثني رحمة و كافّة فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم».

فقال أصحابه: و كيف اختلف الحواريون يا رسول اللّه؟ قال:

«دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي و سلم و اما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه و تثاقل».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اختار ستة

أشخاص من خيرة أصحابه و كتب معهم كتبا إلى الملوك تضمنت دعوته العالمية، و بعثهم إلى مختلف نقاط الأرض.

و هكذا توجّه سفراء الهداية و رسل الدعوة المحمّدية في يوم واحد إلى إيران، و الروم، و الحبشة، و مصر و اليمامة، و البحرين، و الحيرة، (الاردن) و سوف نقرأ معا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:357

مفصل ما احتوته رسائله صلّى اللّه عليه و آله «1».

(1) و عند ما فرغ من كتابة الرسائل المذكورة قال بعض ذوي الاطلاع و العلم بأحوال بلاطات الملوك آنذاك قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا رسول اللّه:

إن الملوك لا يقرءون كتابا إلّا مختوما، فاتخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ خاتما من فضة، فصّه منه، نقشه ثلاثة أسطر: محمّد رسول اللّه، في الاعلى لفظة الجلالة و تليه كلمة رسول ثم يليه اسمه الشريف، و ختم به الكتب.

و لم يكتف بهذا بل ختم تلك الرسائل بالشمع أو الطين إمعانا في السرية، و الحفاظ عليها من التزوير «2».

(2)

أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية:

كانت الامبراطوريتان (الرومية و الفارسية) تقتسمان آنذاك قيادة العالم، و كانت الحروب قائمة بين ذينك المعسكرين على قدم و ساق، و منذ زمن بعيد.

فلقد بدأ الصراع على النفوذ بين إيران و الروم منذ عهد الهخامنشيين، و استمرّ حتى عصر الساسانيين ملوك ايران.

فكان الشرق تحت النفوذ الايراني، كما كانت العراق و اليمن و شي ء من آسيا الصغرى تعدّ من توابع الامبراطورية الإيرانية و مستعمراتها.

و أمّا الامبراطورية الرومية فقد كانت منقسمة يومذاك إلى معسكرين شرقي و غربي لأن «تئودوز الكبير» امبراطور الروم قسم بلاده في سنة (395) ميلادية بين ولديه، و من هنا ظهرت الروم الشرقية و الروم الغربية.

(3) و قد انقرضت الروم الغربية على أيدي متوحشي

و برابرة شمال اوربا، و لكن

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 606، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 264، السيرة الحلبية: ج 3 ص 241- 242، بحار الأنوار: ج 20 ص 382.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 240 و 241.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:358

الروم الشرقية التي كان مركزها يومذاك «القسطنطنية» و كانت تسيطر على الشام و مصر، فكانت تسيطر أبان ظهور الاسلام على قدر كبير من مقاليد السياسة العالمية إلى أن فتحت القسطنطنية عام (1453) على يد السلطان محمّد الثاني «محمّد الفاتح»، و بذلك غربت شمس دولة الروم الشرقية، و اضمحلّت نهائيا.

(1) و قد كانت أرض الحجاز محاصرة بين هذين القطبين و محاطة بهاتين القوتين العظيمتين، و لكن حيث أن أراضي الحجاز لم تكن أراض خصبة، و كان أهلها في الأغلب من الرحّل المتفرقين في البراري و القفار، لذلك لم تبد كلتا الامبراطوريتين رغبتهما في الاستيلاء على تلك الأراضى، فقد كانت النخوة و الظلم، و الحروب التي اتسمت بها طبيعة و حياة تينك الدولتين تمنعهما من الاطلاع على أي تغيير اجتماعي أو تحول سياسي يقع في هذه المنطقة من العالم.

فهم لم يكونوا يتصوّرون قط أن يتمكن شعب- كان بعيدا عن روح الحضارة و المدنية- من وضع نهاية لإمبراطوريّتهم، بفضل ما أوتوا من ايمان، و إنارة النقاط التي كانت ترزح في ظلام جور السلطات الرومية و ظلمها بنور الإسلام المشرق، و لو كانوا يعرفون شيئا عن هذه النهضة المشرقة و هذا الانفجار المعنوي العظيم في بدء حدوثه لقضوا عليه في أوّل الأمر، و لم يتركوه يمتد إلى ملكهم، و يقلب كل شي ء رأسا على عقب.

(2)

رسول النبي صلّى اللّه عليه و آله في أرض الروم:
اشارة

كان قيصر الرّوم قد عاهد اللّه إذا غلب الفرس أن يسير الى بيت المقدس

من عاصمته: «القسطنطنية» مشيا على القدم للزيارة، شكرا للّه، و قد وفى بنذره هذا بعد انتصاره على إيران، و سار مشيا على القدم إلى بيت المقدس.

فكلّف «دحية الكلبي» بإيصال كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى قيصر، و كان دحية قد سافر مرارا الى الشام، و كان عارفا بمناطقها و عاداتها معرفة كاملة، و كان إلى ذلك جميل الصورة حسن السيرة، و لهذا كان جديرا بتحمل هذه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:359

المسئولية الخطيرة لائقا لها.

(1) و قد توجّه إلى «القسطنطنية» رأسا بعد أن كلّفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بايصال كتابه إلى قيصر، و لكنه ما أن وصل إلى بصرى (من مدن الشام) إلّا و بلغه أن قيصرا قد فارقها قاصدا بيت المقدس و لهذا بادر الى الاتصال بحاكم بصرى «1»: «الحارث بن أبي شمر» و اخبره بالمهمة الخطيرة التي جاء من اجلها.

يقول مؤلف الطبقات الكبرى: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دحية بن خليفة الكلبي الى قيصر يدعوه إلى الاسلام، و كتب معه كتابا، و أمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر، (و لعل النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يعرف بمغادرة قيصر لعاصمة ملكه أو لعل ذلك الأمر كان مراعاة لامكانيات دحية المحدودة، و كون السفر الى قسطنطنية كان يتطلب جهدا كبيرا أو لا يخلو من محاذير).

فدفعه عظيم بصرى إليه و هو يومئذ بحمص، و ذلك بان استدعى عدي بن حاتم و وجهه مع سفير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليوصل كتابه إلى قيصر، فذهب به إليه، و لما أراد الدخول على قيصر قال قومه لدحية: اذا رأيت الملك فاسجد له، ثم لا ترفع رأسك حتى

يأذن لك.

فقال دحية: لا افعل هذا أبدا، و لا أسجد لغير اللّه! (أي انني قد جئت لتحطيم هذه السنن الجاهلية المقيتة فكيف أخضع لها، انما جئتكم من قبل نبي لا بلّغ ملككم بأن عهد عبادة البشر قد انقضى و انتهى و أنه لا يحق السجود إلّا للّه وحده، فكيف يمكنني ذلك و أنا أحمل هذه الرسالة التوحيدية إليكم؟!) «2».

(2) و لقد أعجب قوم قيصر بمنطق دحية القوي، و موقفه الصلب، فقال له رجل منهم: أنا أدلك على أمر يؤخذ فيه كتابك، و لا تسجد له، ضع صحيفتك تجاه

______________________________

(1) كانت بصرى مركز محافظة حوران التي كانت تعدّ من مستعمرات قيصر. و كان الحارث بن أبي شمر- و بصورة عامة- جميع ملوك بني غسان، من ولاة قيصر على تلك المناطق.

(2) الطبقات الكبرى، ج 1 ص 259.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:360

المنبر فان أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو، ثم يدعو صاحبها فشكر دحية الرجل، و أخذ بنصيحته، و فعل ما اشار به.

فلما أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فاذا فيه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم. من محمّد بن عبد اللّه إلى هرقل عظيم الرّوم سلام على من اتبع الهدى.

أمّا بعد فانّي أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلم يؤتك اللّه اجرك مرّتين.

فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين «1» و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم، ألّا نعبد إلّا اللّه و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه، فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بانّا مسلمون محمّد رسول اللّه».

(1)

قيصر يحقّق حول النبي:

احتمل حاكم الروم اللبيب أن يكون كاتب هذه الرسالة هو: «احمد الموعود» الذي بشرت به الانجيل و التوراة، و لهذا قرّر

أن يحقق حول شخصيته، و يتعرف على خصوصيات حياته، الدقيقة.

فبعث أحدا إلى الشام فورا ليأتي له بقريب لمحمّد، أو من يعرف شيئا عنه.

حتى يسأله عن شخصية رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله فاتفق أن كان أبو سفيان بن حرب يومذاك بالشام للتجارة في ركب من قريش، فأخذهم

______________________________

(1) بين العلماء في تفسير هذه اللفظة خلاف، فيقول ابن الاثير: قيل هم الخدم و الخول و قال بعض:

هم الاكّارون (أي الفلاحون) لأن اكثر الناس يومذاك كانوا من الفلاحين، و هم اطوع الناس للحاكم.

و يؤيد هذا الرأي الاخير أنه جاء في بعض النسخ (الكامل: ج 2 ص 145) كلمة الأكارين بدل الاريسيين و الاكار هو المزارع، و احتمل البعض أن يكون الاريسيون طائفة كانت تعيش في الروم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:361

صاحب شرطة «قيصر» إلى بيت المقدس، فادخلهم على «قيصر» في مجلسه و حوله عظماء الروم.

فقال قيصر: أيّكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟.

فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبا.

فقال قيصر: أدنوه منّي، و قرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه:

قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فان كذّبني فكذّبوه.

(1) ثم طرح قيصر على أبي سفيان الاسئلة التالية:

1- كيف نسب محمّد فيكم؟

هو فينا ذو نسب.

2- فهل قال هذا القول منكم أحد قبله؟

لا.

3- فهل كان في آبائه من ملك؟

لا.

4- فأشراف الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟

بل ضعفاؤهم.

5- أ يزيدون أم ينقصون؟

بل يزيدون.

6- فهل يرتدّ منهم أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟

لا.

7- فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

لا.

8- فهل يغدر؟

لا.

9- فهل قاتلتموه؟

سيد المرسلين ،ج 2،ص:362

نعم.

10- فكيف كان قتالكم ايّاه؟

الحرب بيننا و بينه سجال، ينال منّا، و ننال منه.

11- فما ذا يأمركم؟

اعبدوا اللّه وحده، و لا تشركوا به شيئا، و

اتركوا ما يقول آباؤكم، و يأمرنا بالصلاة و الصدقة و العفاف و الصلة، و يأمرنا بالوفاء بالعهد و أداء الأمانة.

(1) فقال قيصر للترجمان قل لأبي سفيان و من معه: إن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين فهذه صفة نبيّ، و قد كنت اعلم أنه خارج لم اكن أظنّه منكم، فلو أنّي أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاه، و لو كنت عنده لغسلت قدميه!!

فاعترض ابن أخي قيصر على كتاب رسول اللّه و قال لعمه: قد ابتدأ بنفسه و سمّاك صاحب الروم.

فقال قيصر: و اللّه انك لضعيف الرأي. أ ترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الاكبر، و هو أحق أن يبدأ بنفسه، و لقد صدق أنا صاحب الروم، و اللّه مالكي، مالكه.

(2) قال أبو سفيان: فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الاصوات عنده، و كثر اللغط، فأمر بنا فاخرجنا قال: قلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، أنه ليخافه ملك بني الأصفر.

و روى أيضا أن أبا سفيان قال: لما سألني قيصر عن رسول اللّه جعلت ازهّد له شأنه، و اصغّر له أمره و اقول له: أيها الملك، ما يهمّك من أمره، إن شأنه دون ما يبلغك، و جعل قيصر لا يلتفت إلى ذلك، ثم قال: أنبئني عما أسألك من شأنه «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 384- 386، تاريخ الطبري: ج 2 ص 290 و 291.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:363

(1)

أثر رسالة النبي إلى قيصر:

لم يكتف قيصر بالمعلومات التي حصلها من أبي سفيان حول رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله بل كتب إلى أحد علماء الروم و أساقفتهم يسألهم عن هذا الأمر.

فأجابه ذلك الاسقف: هذا النبي الذي كنا ننتظره، بشرنا به عيسى بن مريم.

فعمد قيصر إلى خطة

ليجسّ بها نبض قومه، و يختبرهم و يعرف ما اذا كانوا يرضون باسلامه أولا، فجمع عظماءهم في صومعة له بحمص فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح و الرشد، و ان يثبت لكم ملككم و تتبعون ما قال عيسى بن مريم.

فقالت الروم: و ما ذاك أيها الملك؟

قال: تتبعون هذا النبي العربي.

فثاروا في وجهه، و رفعوا الصليب، فلما رأى منهم ذلك يئس من اسلامهم و خافهم على نفسه و ملكه، فسكنهم ثم قال: إنما قلت لكم ما قلت اختبركم لأنظر كيف صلابتكم في دينكم، فقد رأيت منكم الذي احبّ. فسكنوا و رضوا عنه.

ثم أمر باكرام دحية، و كتب جوابا على رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و أرسله مع دحية و ارسل بهدية الى النبي صلّى اللّه عليه و آله. «1».

(2)

سفير النبيّ في البلاط الإيراني:
اشارة

يوم توجّه سفير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكتابه إلى البلاط الإيراني

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 259- 260، السيرة الحلبية: ج 3 ص 245- 246، الكامل في التاريخ ج 2 ص 144، بحار الأنوار: ج 20 ص 379.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:364

كان الملك الذي يحكم هذه الأرض الواسعة هو «خسروا برويز» ثاني ملك بعد انوشيروان، الذي جلس على العرش الملكي الإيراني مدة 32 عاما قبل الهجرة النبوية المباركة.

و قد واجهت حكومة هذا الملك خلال مدة سلطانه أنواعا عديدة من الحوادث المرة و الحلوة، و كانت مكانة ايران في عهده تعاني من الاضطراب، و عدم الاستقرار بشكل ملحوظ.

(1) و قد امتدّ النفوذ الإيراني ذات يوم حتى شمل آسيا الصغرى، و امتدّ الى مشارف القسطنطنية، و أتى بصليب عيسى الذي كان أقدس شي ء عند النصارى إلى طيسفون (المدائن)، فطلب سلطان الروم الصلح و بعث

سفيرا من قبله الى البلاط الإيراني لعقد معاهدة الصلح.

بيد أنّ سوء تدبير الملوك في تلك الدولة العظمى، و انغماسهم في اللذة و المجون أكثر من المتعارف تسبب في أن تصبح ايران على حافة السقوط و الانهيار في أواخر العهد الساساني، فقد خرجت المستعمرات من تحت النفوذ الإيراني الواحدة تلو الاخرى، و اجتاح العدو الروميّ الاراضي الايرانية إلى الاعماق، و وصل الأمر بخسروبرويز امبراطور ايران الى أن يهرب من وجه الروم الغزاة، و قد أثار هذا الهروب الخانع و هذه الهزيمة المنكرة سخط الشعب يومذاك، فقتل بيد ابنه «شيرويه».

(2) و يعزي محلّلوا التاريخ القديم تخلّف إيران و ضياع قوتها إلى غرور قادتها و حكامها و ميلهم الى البذخ و الترف، و بلهنية العيش و رغد الحياة، و الزينة و اللذة. و لو كان ذلك الملك يتلقى رسالة السلام التي عرضها الاسلام بالصورة اللائقة لبقيت عظمة إيران على حالها في ظل هذا السلام دون أن يصيبها ما أصابها.

و لو أن رسالة رسول الاسلام لم تترك أثرا حسنا في نفس «خسروا برويز» يومذاك فان ذلك لم يكن لتقصير أو عيب في تلك الرسالة أو في سلوك حاملها

سيد المرسلين ،ج 2،ص:365

الى البلاط الايراني، بل كان لنفسيّة ذلك الحاكم المغرور، المنحرفة، و أنانيته الطاغية، التي لم تسمح له بالتفكير بعض اللحظات في كتاب رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله كما فعل «قيصر»، أو غيره. بل لم يمهل المترجم حتى ينتهي من قراءة كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إنما صاح به في تلك الاثناء، و أخذ منه رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و مزّقها بوقاحة بالغة، و اسلوب بالغ في الجفاف، و سوء الادب.

و إليك تفصيل

الحادث:

(1) في مطلع السنة الهجرية السابعة بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله احد فرسانه الشجعان و هو «عبد اللّه بن حذافة السهمي»، الى ايران و كتب معه كتاب إلى «خسروا پرويز» ملك ايران يومذاك يدعوه فيه الى الاسلام و امره أن يدفع الكتاب الى كسرى نفسه و إليك نص هذه الرسالة:

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس.

سلام على من اتبع الهدى و آمن باللّه و رسوله، و اشهد أن لا إله الّا اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله. أدعوك بدعاية اللّه، فإني أنا رسول اللّه كافة لا نذر من كان حيّا، و يحقّ القول على الكافرين أسلم تسلم، فان أبيت فعليك اثم المجوس».

(2) فلما دخل سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله على «خسروا برويز» أمر بأن يؤخذ منه كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن عبد اللّه بن حذافة قال: لا حتى أدفعه إليك كما امرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثم دنا و سلّم الكتاب فدعى كسرى بمترجمه ليقرأ الكتاب، فلما قرأه، فاذا فيه: من محمّد رسول اللّه الى كسرى عظيم فارس أغضبه حين بدأ رسول اللّه بنفسه، و صاح، و أخذ الكتاب، فمزّقه قبل أن يعلم ما فيه و قال: يكتب إليّ بهذا.

ثم أمر باخراج حامل الكتاب من قصره، فاخرج عبد اللّه بن حذافة السلمي، و لما رأى ذلك قعد على راحلته و سار حتى وصل إلى النبي صلّى اللّه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:366

عليه و آله، فاخبره الخبر، فغصب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من موقف كسرى فدعا عليه قائلا: اللّهم مزّق ملكه «1».

(1)

نظرية اليعقوبي:

و يختلف

ابن واضح الاخباري المعروف باليعقوبي في تاريخه- مع عامة المؤرخين-: قرأ كتاب النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم كتب كتابا إليه جعله بين سرقتي حرير و جعل فيهما مسكا، فلما دفعه الرسول إلى النبي فتحه فاخذ قبضة من المسك فشمّه، و ناوله أصحابه، و قال: لا حاجة لنا في هذا الحرير، ليس من لباسنا، و قال: لتدخلنّ في أمري أو لآتينّك بنفسي و من معي، و أمر اللّه اسرع من ذلك. «2»

و لكن هذا رأي ينفرد به اليعقوبي و لا يوافقه عليه أحد من أرباب السير إلّا احمد بن حنبل الذي يقول: أهدى كسرى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقبل منه «3».

(2)

أوامر «خسرو» إلى واليه على اليمن:

تقع أرض اليمن الخصبة في جنوب مكة، و كان ملوكها و حكامها ولاة منصوبين من قبل البلاط الايراني بأجمعهم، و كان الذي يحكم اليمن يوم مراسلة النبي لقادة العالم و ملوكه رجل يدعى «باذان» فكتب طاغية ايران المغرور «خسرو» بعد أن مزّق رسالة النبيّ إلى عامله باليمن (باذان):

بلغني أن في أرضك رجلا يتنبّأ فاستتبه، فان تاب و الّا فابعث به إليّ.

فبعث «باذان» رجلين من فرسانه يدعى أحدهما: «فيروز» و الآخر «خرخسره» و كتب معهما كتابا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأمره فيه أن

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 260.

(2) تاريخ اليعقوبي: ج 1 ص 66.

(3) مسند احمد بن حنبل: ج 1 ص 96.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:367

ينصرف معهما إلى كسرى أو أن يجبراه على الرجوع الى دين آبائه و ان أبى قتلوه و أرسلوا برأسه الى الملك حسب رواية ابن حجر في الاصابة.

(1) إن رسالة كسرى إلى «باذان» يكشف عن جهل هذا الحاكم، و عدم معرفته بما كان يجري

في بلاده و مستعمراته، فقد بلغ من جهله أنه لم يكن يعلم أن هذا الرجل الذي يدّعي النبوة «1» قد مضى على ادعائه النبوة أكثر من 19 عاما.

ثم إن الذي ادعى النبوة في منطقة نائية، و انتشر دينه، و أصبح من القوة و الشوكة بحيث يجرأ على مراسلة الامبراطور، و دعوته إلى دينه لا يمكن أخذه و احضاره إلى اليمن بواسطة رجلين. و أن الأمر- بالتالي- لن يتم بمثل هذه السهولة، و البساطة، التي تصورها.

و على كل حال لما قدم مبعوثا «باذان» المدينة و دخلا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قدّما رسالة «باذان» إليه صلّى اللّه عليه و آله و قالا: لقد بعثنا «باذان» إليك لتنطلق معنا، فان فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك، و يكف عنك به، و إن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك و مهلك قومك و مخرب بلادك.

(2) و كانا قد دخلا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد حلقا لحاهما و أطلقا شواربهما، فاستمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى كلامهما، و قبل أن يجيب على مطلبهما دعاهما إلى الاسلام، و قد كره النظر إليهما لما كانا عليه من الهيئة فقال لهما: من أمركما بهذا؟! قالا: أمرنا بهذا ربّنا (يعنيان كسرى) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لكنّ ربّي أمرني بإعفاء لحيتي و قصّ شاربي» «2».

فأرعبتهما هيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جلال محضره، بحيث أخذا

______________________________

(1) حسب تعبير كسرى.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 146.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:368

يرتجفان عند ما عرض رسول اللّه الاسلام عليهما.

ثم قال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ارجعا حتّى

تأتياني غدا».

(1) و في هذه الاثناء أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخبر من السماء أن اللّه عزّ و جلّ قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا و كذا و كذا لكذا، و كذا من الليل.

فلما حضر الرجلان (مبعوثا باذان) عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غد قال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّ ربّي قد قتل ربّكما ليلة كذا و كذا من شهر كذا و كذا. بعد ما مضي من الليل كذا و كذا سلّط عليه شيرويه فقتله» «1»

و كانت الليلة التي ذكرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هي ليلة الثلاثاء العاشر من شهر جمادى الاولى سنة سبع من الهجرة.

فاستغرب الرجلان لخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا. فنكتب بها عنك و نخبر الملك (أي باذان).

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«نعم أخبراه ذلك عنّي و قولا له: إن ديني و سلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، و ينتهي إلى منتهى الخفّ و الحافر، و قولا له: إن أسلمت اعطيتك ما تحت يديك، و ملكتك على قومك».

(2) ثم أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لخرخسرة منطقة (أي حراما) فيها ذهب و فضة كان أهداها له بعض الملوك، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان باليمن و اخبراه الخبر.

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 260، بحار الأنوار: ج 20 ص 382.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:369

فقال باذان: و اللّه ما هذا بكلام ملك و إني لأرى الرجل نبيا كما يقول، و لننظر ما قد قال، فلئن كان

ما قد قال حقا فانه لا ريب نبي مرسل، و إن لم يكن فسنرى فيه رأينا.

فلم يلبث أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد فاني قد قتلت كسرى و لم اقتله الّا غضبا لفارس، لما كان استحل من قتل أشرافهم، فاذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، و انظر الرجل الذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.

و قد تسبّب كتاب «شيرويه» هذا في أن يعتنق «باذان» الاسلام هو و جميع رجال دولته و كانوا من الفرس، و كتب إلى رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله يخبره بإسلامه و اسلام أعضاء حكومته «1».

(1)

سفير النبيّ في أرض مصر:
اشارة

تعتبر «مصر» مهد الحضارات و المدنيات العريقة، و مركز سلطان الفراعنة، و موضع سيادة الاقباط.

و يوم أشرقت شمس الاسلام على أرض الحجاز كانت «مصر» قد فقدت استقلالها، و قوتها، و كان المقوقس قد فوض إليه حكم «مصر» من قبل قيصر الروم لقاء 19 مليون دينار يدفعها الى قيصر.

و كان «حاطب بن أبي بلتعة»- و كان فارسا بارعا و له قصة في تاريخ الاسلام سيأتي ذكرها في حوادث السنة الثامنة- احد الستة الذين كلّفوا بابلاغ كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الملوك و الرؤساء يومذاك و قد أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بايصال كتابه إلى المقوقس حاكم «مصر».

و إليك نص كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المقوقس:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 391.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:370

(1) «بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمّد بن عبد اللّه إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى.

أما بعد فإني أدعوك بدعاية الاسلام، أسلم تسلم، و أسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين، فإن

تولّيت فإنّما عليك إثم القبط «و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد الّا اللّه و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون» «1».

فخرج «حاطب» بكتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى قدم «مصر»، و أراد الدخول على حاكمها، «المقوقس» علم بأنه يسكن في أحد قصوره الشامخة على ضفاف النهر، في الإسكندرية، فركب زورقا، نقله إلى قصر «المقوقس».

(2) فلما وصل «حاطب» إلى قصر «المقوقس» أكرمه و أخذ كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قرأه، و فكّر في مضمونه بعض الوقت، ثم قال لسفير النبي صلّى اللّه عليه و آله: ما منعه إن كان نبيّا أن يدعو على من خالفه (أي من قومه) و أخرجوه من بلده إلى غيرها أن يسلّط عليهم.

فقال حاطب و كان حكيما فهيما: أ لست تشهد أن عيسى بن مريم رسول اللّه؟

فماله حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم اللّه تعالى حتى رفعه اللّه إليه؟

فأعجب المقوقس- الذي لم يكن يتوقع أن يجابه بهذا المنطق القوى المفحم- برد حاطب و قال له: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم «2».

(3) فتجرأ حاطب لما رأى هذا الموقف الخاضع من ملك مصر و قال: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى (يعني فرعون) فأخذه اللّه نكال الآخرة

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 249، الدر المنثور: ج 1 ص 40، أعيان الشيعة: ج 1 ص 244.

(2) اسد الغابة: ج 1 ص 362.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:371

و الاونى، فانتقم به، ثمّ انتقم منه فاعتبر بغيرك، و لا يعتبر غيرك

بك، ان هذا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعا الناس فكان أشدّهم عليه قريش، و أعداهم له اليهود، و أقربهم منه النصارى و لعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة و السلام إلّا كبشارة عيسى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و ما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلّا كدعائك أهل التوراة إلى الانجيل، و كل نبي أدرك قوما فهم امّته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فانت ممّن أدرك هذا النبيّ، و لسنا ننهاك عن دين المسيح عليه السّلام و لكنا نأمرك به.

و هو يقصد بكلامه الأخير أن الاسلام هو الصورة الاكمل لدين المسيح.

(1) انتهى الحوار بين حاطب سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله و المقوقس حاكم مصر إلّا أن المقوقس لم يعطه جوابا قاطعا في ذلك المجلس، فكان على حاطب أن يلبث في مصر مدة حتى يتلقى جواب كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

ثم طلب المقوقس حاطبا ذات يوم و انفرد به في قصره، و سأله عن ما جاء به رسول اللّه و إلى م يدعو؟ فقال له حاطب: إلى أن نعبد اللّه وحده، و يأمر بالصلاة، خمس صلوات في اليوم و الليلة و يأمر بصيام رمضان، و حج البيت، و الوفاء بالعهد، و ينهى عن أكل الميتة و الدم .. و ... و ...

فقال له المقوقس: صفه لي.

قال حاطب: فوصفت فأوجزت.

فقال المقوقس: مصدّقا ما ذكره حاطب من أوصاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هذه صفته، و كنت أعلم أن نبيّا قد بقي، و كنت اظن أن مخرجه بالشام و هناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب، في أرض جهد و بؤس، و القبط

لا تطاوعني في اتّباعه، و سيظهر على البلاد، و ينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه، حتى يظهروا على ما هاهنا.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 250.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:372

ثم طلب المقوقس من حاطب أن يكتم أمر هذا الحوار الذي دار بينه و بين حاطب عن قومه قائلا: و أنا لا أذكر للقبط من هذا حرفا واحدا، و لا أحب أن يعلم بمحادثتي (أو بمحاورتي) إياك «1».

ثم إنه اكرم حاطبا مدة اقامته بمصر إكراما بالغا، و أحسن قراه، و ضيافته «2».

(1)

المقوقس يكتب كتابا الى النبيّ:

ثم إنّ حاكم «مصر» المقوقس دعا كاتبه العربيّ، و أمره أن يكتب كتابا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا نصه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم. لمحمّد بن عبد اللّه من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد فقد قرأت كتابك، و فهمت ما ذكرت فيه، و ما تدعو إليه، و قد علمت أن نبيا قد بقي، و قد كنت أظن أنه يخرج بالشام و قد أكرمت رسولك، و بعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، و بثياب، و أهديت إليك بغلة لتركبها و السلام عليك «3».

إن الاحترام الذي أبداه «المقوقس» في رسالته المذكورة، و تقديم اسم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على اسمه و كذا هداياه التي بعثها إلى رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و تكريم سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله كلها تحكي عن أنّ المقوقس قبل دعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله في سرّه و لكن حبّه في البقاء في السلطة منعه من التظاهر بايمانه و إسلامه، و من الانقياد العمليّ و العلني للاسلام.

خرج «حاطب» بصحبة جماعة من الحرس المحافظين و هو يحمل الهدايا التي بعثها المقوقس

من عند المقوقس و لما وصل الى الشام أذن للمحافظين بالانصراف ثم واصل هو سفره ضمن قافلة إلى المدينة، و لما قدم المدينة على رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) سيرة زيني دحلان: ج 3 ص 71.

(2) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 260.

(3) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 260.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:373

اللّه عليه و آله سلّم إليه كتاب المقوقس و هداياه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

«ضنّ بملكه، و لا بقاء لملكه» «1».

(1)

المغيرة بن شعبة في البلاط المصري:

توجه المغيرة بن شعبة الذي كان معروفا بحكمه و عقله و دهائه، و الذي اصبح في ما بعد من رجال السياسة العرب و دهاتها المعروفين.

توجّه في جمع من قبيلة ثقيف إلى البلاط المصري، فسألهم كبير المصريين (المقوقس):

كيف خلصتم إليّ، و بيني و بينكم محمّد و أصحابه.

فقال: لصقنا بالبحر.

قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟

قالوا: ما تبعه منّا رجل واحد.

قال: فكيف صنع قومه؟

قالوا: تبعه أحداثهم، و قد لاقاه من خالفه في مواطن كثيرة.

قال: فالى ما ذا يدعو؟

قالوا: إلى أن نعبد اللّه وحده، و نخلع ما كان يعبد آباؤنا، و يدعو إلى الصلاة، و الزكاة، و يأمر بصلة الرحم، و وفاء العهد، و تحريم الزنا، و الربا، و الخمر.

(2) فقاطعهم المقوقس قائلا: هذا نبي مرسل إلى الناس كافة، و لو أصاب القبط، و الروم لا تبعوه، و قد أمرهم بذلك عيسى، و هذا الذي تصفون منه نعت الأنبياء من قبله، و ستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد، و يظهر دينه إلى منتهى الخفّ و الحافر.

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 260 و غيره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:374

(1) فاستاء رجال ثقيف من هذا الكلام و قالوا بكل صلافة و وقاحة: لو دخل الناس كلّهم معه ما دخلنا معه.

فهزّ المقوقس

رأسه ساخرا بهم و قال: أنتم في اللعب «1». بيد ان هذه الرواية لا توافق بقية المصادر التاريخية لان النبي صلّى اللّه عليه و آله كاتب ملوك العالم و قادته في السنة السابعة من الهجرة، على حين كان المغيرة في معركة الخندق قد آمن، و كان في الحديبية في صفوف المسلمين، حتى أنه كان بينه و بين مندوب قريش المفاوض عروة بن مسعود الثقفي مشاجرة مر ذكرها عند استعراض قصة الصلح.

و على فرض صحة هذه الرواية لا بد من القول بأن المغيرة لم يكن في وفد ثقيف.

(2) و في الختام ينبغي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أن الواقدي نقل نص رسالة النبي إلى عظيم القبط بصورة اخرى.

و لكن أسلوب الرسالة و عباراتها تدل على أن هذه الصورة لا أساس لها من الصحة، لانها تتضمن تهديدا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعظيم القبط بالحرب و الغزو اذ جاء فيه: «و أمرني (أي اللّه) بالإعذار و الانذار، و مقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني» «2».

و ممّا لا شك فيه أن هذا غير صحيح لأن امكانيات المسلمين في ذلك اليوم لم تكن لتسمح لهم بمقاتلة المكيين فكيف يغزو «مصر» و هي منطقة نائية جدا.

هذا مضافا إلى أن صدور مثل هذا الكلام عن النبي في أول دعوة له إلى الاسلام لا يتلاءم و نفسية و خلق ذلك الرجل العظيم الذي كان يقدّر الظروف آنذاك أفضل من غيره.

______________________________

(1) السيرة الدحلانية: ج 3 ص 70.

(2) فتوح الشام: ج 2 ص 23.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:375

(1)

سفير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أرض الذكريات «الحبشة»:
اشارة

تقع «الحبشة» في آخر إفريقيا الشرقية و تبلغ مساحتها 1800 كيلومترا مربعا، و عاصمتها اليوم: أديس أبابا.

و لقد تعرّف الشرقيون على هذه الأرض قبل ظهور

الاسلام بقرن، و ذلك على أثر هجوم الجيش الايراني الذي تمّ في عهد حكومة الملك الفارسي «انوشيروان»، و بلغ هذا التعرّف و التردد ذروته في هجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة (الهجرة الأولى و الهجرة الثانية).

و يوم قرر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبعث ستة من خيرة رجاله الشجعان إلى نقاط مختلفة، و نائية من العالم لإبلاغ نداء رسالته العالميّة كلّف:

«عمرو بن اميّة الضميري» بأن يأخذ كتابه إلى الحبشة، و يسلّمه إلى النجاشيّ ملكها العادل الطيب.

على أن الكتاب الذي ستقرأ نصّه قريبا ليس هو الكتاب الوحيد الذي بعثه رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله إلى النجاشي، بل سبق أن كتب صلّى اللّه عليه و آله إليه قبل هذا يوصيه بالمهاجرين المسلمين، و يطلب منه فيه أن يلطف بهم، و يرعاهم، و لا يزال نصّ هذين الكتابين موجودا في المصادر التاريخية الاسلامية «1».

(2) و ربما حصل اشتباه بين هذين الكتابين (الرسالة التي بعثها النبي لابلاغ دعوته العالمية، و الرسالة التي أوصى فيها النجاشي بالمهاجرين) فخلط بعض المؤرخين بين عبارتيهما.

و يوم قدم سفير النبي بكتاب الدعوة إلى الاسلام، الحبشة على النجاشي كان بعض المهاجرين المسلمين لا يزالون في أرض الحبشة، يعيشون في كنف

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 294.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:376

النجاشي و حمايته، بينما عاد بعضهم من قبل إلى المدينة، و هم يحملون أجمل الذكريات و الخواطر عن عدل حاكمها الطيب «النجاشي»، و لطفه، و حسن وفادته.

(1) من هنا كانت أرض الحبشة في نظر المسلمين تعتبر أرض الذكريات الجميلة و الخواطر الحلوة، و كانوا يمدحون حاكمها و يصفونهم بالعدل و الاستقامة. و لو اننا لا حظنا في كتاب النبي صلّى اللّه عليه و

آله إليه نوعا من اللطف، و اللين في القول فان ذلك مردّه إلى معرفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسية النجاشي و خلقه و حسن موقفه.

فانك لا تجد لتهديدات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كتبه و رسائله الاخرى إلى الملوك و الزعماء، بالعقاب الالهي إن رفضوا القبول بدعوته، و حمّلهم مسئولية شعوبهم في عبارات صريحة و قاطعة، أيّ أثر في هذا الكتاب.

(2) فقد كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى النجاشي ما يلي:

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول اللّه إلى النجاشي ملك الحبشة.

سلام عليك، أحمد اللّه الذي لا إله إلّا هو الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن، و أشهد أن عيسى بن مريم روح اللّه و كلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة الحصينة فحملت بعيسى، حملته من روحه، و نفخه، كما خلق آدم بيده، و إني أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له و الموالاة على طاعته، و أن تتبعني و توقن بالذي جاءني، فإني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّي أدعوك و جنودك و قد بلّغت و نصحت فاقبلوا نصيحتي و السلام على من اتبع الهدى» «1».

لقد بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتابه بالتسليم على حاكم الحبشة و أرسل إليه بتحياته الشخصية، و لكنه لم يفعل هذا في كتاب غيره، فلم يرسل بتحياته الشخصية الى «كسرى» و «قيصر» و «المقوقس» حكّام إيران و الروم

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 248، إعلام الورى: ص 45 و 46.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:377

و مصر، بل بدأ كتبه إليهم بالسلام العام حيث قال: «السلام على من اتبع الهدى».

(1) و لكنه صلّى اللّه عليه و آله سلّم في

كتابه هذا، على النجاشي نفسه، و قال: «السلام عليك»، و بهذا خصّه دون غيره من الزعماء و الملوك باحترام و تكريم خاصّين.

و لقد أشار صلّى اللّه عليه و آله في هذا الكتاب الى جملة من صفات اللّه البارزة التي تدلّ جميعها على تنزهه سبحانه، و عظمته و جلاله.

ثم أشار إلى مسألة ألوهية المسيح (التي هي من ولائد التفكير الكنسي المنحطّ) و ردّ على ذلك باستدلال قويّ خاصّ مستلهم من القرآن الكريم. حيث قايس ولادة المسيح عليه السّلام بخلقة آدم، و أثبت ان ولادة شخص من دون أب لو كان دليلا على ألوهيّته، أو كونه ابنا للّه، لصحّ ذلك في حق آدم، الذي خلق من غير أب و لا أمّ، و لكن لا يرى أحد فيه مثل هذا الرأي.

ثم ختم صلّى اللّه عليه و آله كتابه هذا باخراج دعوته في لباس النصح و الموعظة، تجنبا من إظهار نفسه بمظهر الآمر.

(2)

محاورة سفير النبيّ و حاكم الحبشة:

لما مثل سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله أمام النجاشيّ قال للنجاشي:

يا أصحمة إنّ عليّ القول، و عليك الاستماع، إنّك كأنّك في الرقّة علينا منا، و كأنّا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيرا قط إلّا نلناه، و لم نحفظك على شرّ قطّ إلّا أمنّاه، و قد أخذنا الحجة عليك من قبل آدم، و الانجيل بيننا و بينك شاهد لا يردّ، و قاض لا يجور، و في ذلك موقع الخير، و اصابة الفضل، و إلّا فأنت في هذا النبي الامّي كاليهود في عيسى بن مريم، و قد فرّق رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له، و أمنك على ما خافهم عليه لخير سالف، و أجر ينتظر.

فقال النجاشي: أشهد باللّه أنه للنبي الذي

ينتظره أهل الكتاب، و إنّ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:378

بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، و انه ليس الخبر كالعيان، و لكنّ أعواني من الحبشة قليل، فانظرني حتى أكثر الأعوان، و أليّن القلوب و لو استطيع أن آتيه لأتيته «1».

(1)

رسالة النجاشي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

ثم كتب كتابا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا نصه:

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم؛ إلى محمّد رسول اللّه من النجاشي، سلام عليك يا نبي اللّه و رحمة اللّه و بركاته، الذي لا إله إلّا هو، الذي هداني إلى الإسلام.

أما بعد، فقد بلغني كتابك يا رسول اللّه فيما ذكرت من أمر عيسى، فو ربّ السماء و الأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقا «2» إنه كما قلت و قد عرفنا ما بعثت به إلينا، و قد قرّبنا ابن عمك و أصحابك، و أشهد أنّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد بايعتك و بايعت ابن عمك و أسلمت على يديه للّه ربّ العالمين، و قد بعثت إليك يا نبيّ اللّه فان شئت أن آتيك لفعلت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإنّي أشهد أنّ ما تقول حق و السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته» «3»

ثم إن النجاشي بعث بهدايا خاصّة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كتب إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد ذلك كتابين آخرين أيضا، و كان في كلّ مرة يحترم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقبّله و يضعه على عينيه.

(2)

تقييم سريع لمراسلة النبي صلّى اللّه عليه و آله قادة العالم:

ربما تصوّر بعض العارفين بأحوال الساسة في ذلك اليوم أن دعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لحكّام و شعوب العالم يومذاك كان أمرا خارج المألوف و عملا

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 248، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 259.

(2) الثفروق: الاقماع التي تلزق بالبسر.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 294، بحار الأنوار: ج 20 ص 392.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:379

غير متعارف، و لكنّ مضيّ الزمان

أثبت أنّ ذلك العمل كان من وظائف النبيّ و مهامّه الاساسية.

(1) أولا: ان إرسال ستة سفراء في يوم واحد إلى أنحاء العالم، محمّلين برسائل قوية مبرهنة أغلق كل باب للشكّ في وجه المخالفين في المستقبل، فلا مجال لأن يشك أحد هذا اليوم و هو يرى هذا العمل العظيم في عالميّة الرسالة المحمّدية، فمضافا إلى الآيات الواردة في هذا الصعيد يعدّ إرسال السفراء بنفسه دليلا قاطعا و كبيرا على عالمية الرسالة الاسلامية.

(2) ثانيا: لقد تأثّر جميع الزعماء و الملوك و القادة الذين راسلهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما عدا «خسروا برويز» ملك إيران الذي كان طاغية مستبدا متكبرا، برسائل النبي صلّى اللّه عليه و آله و دعوته، و أكرموا سفراءه.

كما أن قضية ظهور النبيّ العربي قد أصبح حديث الاوساط و المحافل الدينية بسبب هذا العمل.

لقد أيقظت هذه الرسائل و الكتب بمحتوياتها و مضامينها القوية المبرهنة العقول الغافية، و هزّت الغافلين بشدّة، و أثارت مشاعر الشعوب العالميّة المتحضرة، و دفعتهم إلى البحث و التحقيق حول من بشّر به التوراة و الانجيل، كما تسبب في أن يجري العلماء و الاساقفة و القساوسة غير المغرضين باتصالات بمن ينتسب إلى هذا الدين، و يقيموا ارتباطا مع هذه العقيدة بشكل و آخر.

و من هنا و لأجل هذا تسابقت أفواج و فرق كبيرة من رجال الدين من الشرائع الدينية المختلفة التي كانت سائدة آنذاك في الايام الاخيرة لحياة رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و بعدها إلى القدوم على المدينة لدراسة أوضاع الدين الجديد، و التعرف على ماهيته و منطقه.

و لقد شرحنا في الفصول الماضية و بشكل مفصّل نوع و مدى التأثير الذي تركته رسائل النبي و سفراؤه في

نفوس حكّام الرّوم و مصر و الحبشة، و ها نحن نواصل بيان بقية التأثيرات التي تركتها مراسلة النبي صلّى اللّه عليه و آله لحاكم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:380

الحبشة العادل، و ملكها البار: اصحمة النجاشي.

(1) فقد عمد النجاشيّ بعد تقديم الهدايا إلى سفير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، إلى ارسال ثلاثين رجلا من القساوسة و الاساقفة الاحباش إلى أرض المدينة للتحقيق في أمر الإسلام، و نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ليروا من كثب حياته الزاهدة البسيطة، و لا يتصوروا أنه يعيش كما كان يعيش الملوك و الجبابرة في ذلك العصر.

و لما قدم مبعوثو النجاشي المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سألوه عن نظريته حول السيّد المسيح عليه السّلام فبيّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عقيدته حول ذلك النبيّ العظيم بقراءة الآية التالية:

«إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» «1».

و قد كان لهذه الآيات أثر عجيب في نفوس اولئك القساوسة و الأساقفة حتى أنهم بكوا عند سماعها من دون اختيار.

(2) و بعد التحقيق الدقيق في دعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عاد هذا الفريق من علماء الدين المسيحي إلى الحبشة، و أخبروا النجاشيّ بما سمعوه و شاهدوه، فبكى هو أيضا

لما سمع من اولئك الرجال «2».

و قد نقل ابن الاثير في «الكامل» و «اسد الغابة» قصة هذا الوفد بصورة اخرى إذ كتب بعد ذكر ما مرّ من رسالة النجاشي باضافة قوله: «و بعثت

______________________________

(1) المائدة: 110.

(2) اعلام الورى: ص 46.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:381

إليك بابني أرمى بن الاصحم» فخرج ابن النجاشي في ستين نفسا من الحبشة (قاصدين المدينة) في سفينة في البحر، فلما توسطوا البحر غرقوا كلهم.

و لكن وصول الرسالة التي اشار إليها ابن الاثير إلى الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله شاهد على أنه لم تحدث مثل هذه الحادثة لمبعوثي النجاشي «1».

(1)

كتاب رسول اللّه الى أمير الغساسنة (بالشام):

الغساسنة فرع من قبيلة «الازد» القحطانيين الذين سكنوا «اليمن» مدة طويلة، و كانت أراضيهم تسقى من سدّ مأرب، فلما انهدم ذلك السدّ اضطروا إلى الرحيل عن «اليمن» و نزلوا بالشام. فسيطروا على جزء من أراضيها و حكموا فيها، و انتهى بهم الامر الى تشكيل دولة الغساسنة. التي كانت تحكم تلك الديار تحت نفوذ قياصرة الروم و سيادتهم، فلما جاء الإسلام أزال نظامهم، و انتهت حكومتهم، بعد أن حكم منهم، اثنان و ثلاثون ملكا في مناطق «الجولان»، و «اليرموك»، و «دمشق» «2».

و قد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «شجاع بن وهب» و هو أحد السفراء الستة الذين بعثهم صلّى اللّه عليه و آله لابلاغ الرسالة الاسلامية إلى العالم- إلى أرض الغساسنة، و قد حمّله كتابا إلى ملكها يومذاك «الحارث بن أبي شمر الغساني»، فخرج شجاع بكتاب النبي إلى الشام لتسليمه الى ملك الغساسنة فانتهى إليه و هو بغوطة دمشق و هو مشغول باعداد المقدمات لاستقبال «قيصر» الذي كان في طريقه إلى زيارة بيت المقدس وفاء للنذر الذي نذره للانتصار على ايران كما

مر.

(2) و لهذا لم يستطع «شجاع» من الوصول إلى الأمير الغساني إلّا بعد انتظار دام

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 1 ص 62، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 145.

(2) راجع معجم البلدان، و مروج الذهب و غيرهما.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:382

ثلاثة أيام، فاستغلّ «شجاع» هذه الفرصة و صادق فيها حاجب الأمير الغساني فكان يحدّثه عن صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخلاقه و ما يدعو إليه من العقيدة الطاهرة، فأثّرت كلمات «شجاع» تأثيرا عجيبا في نفس ذلك الحاجب الذي كان روميّا حتى أنه رقّ و غلبه البكاء و قال: إنّي قرأت الإنجيل و أجد صفة هذا النبي بعينه، و أنا أومن به و اصدّقه، و أخاف من «الحارث» أن يقتلني اذا عرف باسلامي و كان يكرم سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله و يحسن ضيافته طوال تلك المدة، و يقول إن الحارث يخاف قيصر أيضا.

(1) ثم لما خرج «الحارث» ذات يوم و جلس على عرشه أذن لسفير النبي صلّى اللّه عليه و آله بالدخول عليه، فلما مثل بين يديه دفع إليه كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقرأه و كان نصّه كالتالي:

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول اللّه إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، و آمن به و صدّق، و إني أدعوك أن تؤمن باللّه وحده لا شريك له يبقى ملكك».

فانزعج الحارث ممّا قرأ في آخر الكتاب و رمى به جانبا، و قال: من ينتزع مني ملكي؟ أنا سائر إليه، و لو كان باليمن جئته، عليّ بالناس.

و بهذا أمر بإعداد العسكر حالا ليستعرض قوته العسكرية أمام سفير النبي إرعابا و تخويفا له. و لاجل أن يظهر نفسه

بمظهر المدافع عن ملك قيصر بادر إلى كتابة رسالة الى «قيصر» يخبره فيها بما عزم عليه من غزو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله!!

(2) و اتفق أن وصلت رسالة الامير الغساني إلى «قيصر» في الوقت الذي كان فيه «دحية الكلبي» سفير النبي إلى الروم في مجلس قيصر، و كان «قيصر» يحاوره، و يسأله عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عن صفته و دينه، فانزعج «قيصر» من مبادرة الحاكم الغساني العجولة و كتب إليه يمنعه عن السير إلى رسول الاسلام طالبا منه أن يلتقي به في مدينة «ايليا».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:383

فغيّر موقف «قيصر» الايجابي هذا موقف عميله: الحاكم الغساني السلبي تبعا للمثل القائل «الناس على دين ملوكهم» فبادر من فوره إلى إكرام سفير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و منحه هدايا ثمينة، و وجّهه نحو المدينة معززا مكرّما و قال له: «اقرأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منّي السلام».

و لكن النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يرض بهذا الموقف الدبلوماسي الذي لم يكن ينمّ عن واقع صادق فقال: باد ملكه. أي سيزول ملكه عما قريب. فمات «الحارث» في السنة الهجرية الثامنة أي بعد عام واحد من هذه القضية «1».

(1)

سادس السفراء في أرض اليمن:

سادس سفراء النبي هو المبعوث الى أرض اليمامة (و هي من نجد)، و هو سليط بن عمرو.

فقد خرج سليط هذا بكتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى «هوذة بن علي» الحنفي ملك اليمامة يدعوه الى الإسلام و لما قدم عليه سلّم الكتاب إليه و فيه.

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول اللّه إلى هوذة بن علي. سلام على من اتّبع الهدى و اعلم أن ديني سيظهر إلى

منتهى الخفّ و الحافر (أي يعمّ الشرق و الغرب) فأسلم تسلم و اجعل لك ما تحت يديك».

(2) و حيث أن ملك اليمامة (هوذة) كان نصرانيا لذلك بعث إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سليطا و كان ممن عاش مدة من الزمن في أرض الحبشة عند ما هاجر إليها فريق من المسلمين فرارا من اضطهاد و فتنة قريش لهم، و عرف بتقاليد النصارى و منطقهم، و كانت تعاليم الاسلام، و كذا اختلاطه بمختلف الفئات في رحلاته و أسفاره قد صنعت منه رجلا شجاعا قويا و ذكيا و قد استطاع بما اوتي

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 255 و 256، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 261

سيد المرسلين ،ج 2،ص:384

من قوة المنطق، و الشجاعة أن يقنع بكلامه و حديثه ملك اليمامة عند ما قال له: يا هوذة أنه سوّدتك «1» أعظم حائلة (أي بالية) و ارواح في النار، و انما السيّد من متّع بالإيمان ثم زوّد بالتقوى. ان قوما سعد برأيك فلا يشقون به، و إني آمرك بخير مأمور به، و أنهاك عن شي ء منهيّ عنه.

آمرك بعبادة اللّه، و أنهاك عن عبادة الشيطان، فان في عبادة اللّه الجنة، و في عبادة الشيطان النار، فان قبلت نلت ما رجوت و آمنت ما خفت، و ان ابيت فبيننا و بينك كشف الغطاء و هو المطّلع.

(1) كانت ملامح ملك اليمامة المتغيرة المتأثرة توحي بحسن تأثير كلمات سليط سفير النبيّ في نفس ذلك الملك، و لهذا طلب من سليط أن يمهله مدة حتى يفكر في أمر النبي و دعوته، و كان من الملوك العقلاء.

و صادف أن قدم اليمامة عليه في ذلك اليوم اسقف كبير من كبار أساقفة الروم، فتحدث معه «هوذة»

في قضية النبي، و دعوته، و إليك ما دار بينهما من الحوار.

قال هوذة للاسقف: جاءني كتاب من النبي يدعوني إلى الإسلام فلم اجبه.

فقال الاسقف: لم لا تجيبه.

قال هوذة: ضننت بديني و أنا أملك قومي، و لئن اتبعته لا أملك.

قال: بلى و اللّه لئن اتبعته ليملّكنك، و ان الخير لك في اتباعه، و أنه للنبيّ العربي الذي بشّر بن عيسى بن مريم عليه السّلام. و انه لمكتوب عندنا في الانجيل:

محمّد رسول اللّه.

(2) فتركت نصيحة الاسقف و كلماته أثرا عميقا و قويا في نفس ملك اليمامة «هوذة» فاستدعى سفير النبي صلّى اللّه عليه و آله و كتب إلى النبي صلّى اللّه

______________________________

(1) يقصد أنّه سوده كسرى و هو في النار.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:385

عليه و آله كتابا هذا نصه: «ما أحسن ما تدعو إليه و أجمله، و أنا شاعر قومي و خطيبهم و العرب تهاب مكاني فاجعل إليّ بعض الأمر اتبعك (أي أنه كان يطلب أن يجعله النبي خليفة له من بعده).

و لم يكتف «هوذة» بهذا بل بعث وفدا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزعامة «مجاعة بن مرارة» ليبلّغ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رسالته و يقول له صلّى اللّه عليه و آله: ان جعل الأمر له من بعده أسلم و سار إليه و نصره، و إلّا قصد حربه.

فلما قدم الرسول على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بما جرى و قرأ الكتاب على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا و لا كرامة، لو سألني سيابة من الارض ما فعلت اللهم اكفنيه» «1». سيد المرسلين ج 2 385 سادس السفراء في أرض اليمن: ..... ص : 383

1)

رسائل اخرى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

هذا و ان الرسائل

و الكتب التي بعثها رسول اللّه لغير من ذكرناه من القادة و الزعماء و الشخصيات الدينية و السياسية اكثر من ما أدرجناه هنا، و قد استطاع العلماء المحققون أن يجمعوا و يثبتوا في كتب خاصّة صورة 29 رسالة من رسائل الدعوة الى الاسلام التي بعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تركنا إدراجها هنا رعاية للاختصار «2».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 254، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 146، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 262 و سيابة من الأرض أي قطعة من الأرض.

(2) راجع مكاتيب الرسول للعلامة الاحمدي، و غيره من المؤلفات في هذا المجال.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:386

(1)

44 قلعة خيبر أو بؤرة الخطر [غزوة خيبر]

اشاره

يوم طلع نجم الاسلام في أرض المدينة حقدت اليهود على رسول اللّه، و المسلمين اكثر من قريش، و عملت بمختلف الطرق و الحيل من اجل القضاء على الاسلام و الإيقاع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه.

و لقد ابتلي يهود المدينة و ما حولها بمصير سيّئ نتيجة أعمالهم و تصرّفاتهم السيئة، فقتل فريق منهم، و اجلي آخرون مثل قبيلة بني قينقاع و بني النضير من أرض المدينة فسكنوا «خيبر» و «وادي القرى» أو نزلوا باذرعات الشام.

و كانت خيبر منطقة واسعة و خصبة تقع على بعد اثنين و ثلاثين فرسخا من المدينة كان قد سكنها اليهود قبل بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بنوا فيها سبع قلاع و حصون قوية لتحصنهم و تحفظهم.

و حيث إن التربة و المناخ في تلك المنطقة كانت قد جعلت من تلك المنطقة مكانا جيدا و صالحا للزراعة جدا، لذلك كان سكانها اليهود قد حصلوا على مهارة كبرى في امور الزراعة و جمع الثروات، و تهيئة وسائل الدفاع و

القتال، و إعداد السلاح و القوة.

و كان عدد نفوسها يقارب عشرين الف نسمة بينهم عدد كبير من المقاتلين الشجعان «1».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 36، تاريخ الطبري: ج 2 ص 46.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:387

(1) إن أكبر ذنب اقترفه يهود «خيبر» هو أنهم شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الاسلامية و القضاء عليها، و استطاع جيش الاحزاب المشرك بمساعدة يهود «خيبر» أن يتحركوا في يوم واحد من مختلف مناطق الجزيرة العربية لاجتياح المدينة و استئصال المسلمين في أكبر تحالف عسكرى و اتّحاد نظاميّ من نوعه في ذلك العصر كما سبق و أن عرفت في قصة «معركة الأحزاب» و لكن هذا الجيش المعتدي الظالم تفرّق بفعل تدابير رسول الاسلام الحكيمة و أصحابه بعد شهر من الانتظار خلف الخندق، و تقهقر و عادت أحزابه و من جملتهم يهود خيبر متشتتة متفرقة إلى أوطانها تجرّ أذيال الخيبة و الخسران، و استعادت عاصمة الإسلام استقرارها و أمنها.

(2) إن خيانة، و خباثة و لؤم يهود خيبر حملت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن يقضي على بؤرة المؤامرة و مركز الفساد و الخطر هذا، و أن يجرّد سكانها جميعا من السلاح، لأنه كان يخشى أن يعود هذا الشعب المعاند الخبيث- ببذل الأموال الطائلة- إلى تأليب العرب الوثنيين مرة اخرى ضد المسلمين و يعيدوا قصة الأحزاب مرة اخرى. و خاصة أن تعصّب اليهود لدينهم و معتقدهم كان أشدّ من تعصّب قريش للوثنية، و لهذا التعصب كان يسلم ألف مشرك وثنيّ و لا يدع يهودي واحد دينه، و معتقده!!

(3) ثم إنّ عاملا آخر حمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على تحطيم قدرة الخيبريين و شوكتهم، و انتزاع السلاح

منهم و رصد تحريكاتهم بواسطة فرسانه و رجاله، أنه راسل الملوك و السلاطين، و دعاهم جميعا و بشكل قوي الى الاسلام، فلم يكن من المستبعد أن يستغل «كسرى» و «قيصر» يهود خيبر فيتعاونوا جميعا للقضاء على الاسلام و النهضة الاسلامية في مهدها، أو تحرك اليهود ذينك الملكين ضدّ الاسلام كما حرّكت من قبل المشركين ضدّ هذا الدين، و تسبّبت في وقوع مشاكل.

خاصة أن الشعب اليهودي كان ضليعا في الحروب التي دارت بين الروم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:388

و الفرس في تلك العصور، و كان اليهود يتعاونون مع أحد الطرفين.

من هنا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان من الحكمة بل و من الضرورة بمكان أن يطفئ شرارة الخطر هذه إلى الأبد.

(1) و كانت هذه الفرصة أفضل الفرص لهذا العمل، لأنّ بال النبيّ كان قد فرغ من ناحية الجنوب (أي قريش) بعد صلح الحديبية، و كان يعلم أنه لو أقدم على عمل ضد اليهود لم تمتد يد من جانب قريش لمساعدتهم، و لكي يمنع من وصول أيّة مساعدات و امدادات لهم من ناحية قبائل الشمال مثل «غطفان» الذين كانوا أصدقاء ليهود خيبر و المتعاونين معهم في معركة «الأحزاب» نفذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطة سيأتي تفصيلها مستقبلا.

لهذه الاسباب و العوامل و الاعتبارات أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسلمين بالتهيّؤ لغزو خيبر آخر مركز من مراكز اليهود في الجزيرة العربية. و قال:

«لا تخرجوا معي إلّا راغبين في الجهاد أما الغنيمة فلا».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استخلف على المدينة «نميلة بن عبد اللّه الليثي»، و دفع راية بيضاء الى «عليّ بن أبي طالب» عليه السّلام و أمر بالتوجه إلى

خيبر، و لكي تسرع الابل في سيرها اذن لعامر بن الاكوع أن يحدو بالابل لان الابل تستحثّ بالحداء، فأخذ يرتجز قائلا:

و اللّه لو لا اللّه ما اهتديناو لا تصدّقنا و لا صلّينا

إنّا إذا قوم بغوا عليناو إن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة عليناو ثبت الأقدام إن لاقينا (2) و قد عكست هذه الأبيات الجميلة جانبا من هدف هذه الغزوة، فهي تفيد أن اليهود ظلمونا، و أشعلوا نيران الفتنة و قد خرجنا لاطفائها، و تحملنا في سبيل ذلك عناء هذا السفر.

و لقد سرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمضامين هذه الابيات فدعا لابن الاكوع، و قال: «يرحمك اللّه» و قد استشهد ابن الاكوع هذا في هذه الغزوة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:389

(1) هذا و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يراعي مبدأ الاستتار في جميع تحركاته العسكرية، فقد كان يحب أن لا يعرف العدوّ بمسيره و مقصده حتى يفاجئ العدو و يباغته، و يحاصره قبل أن يستطيع فعل شي ء، هذا مضافا إلى ناحية اخرى و هي أن يظن حلفاء العدوّ الذي يقصده بأنه يقصدهم و يسير إليهم، فيغلقوا على أنفسهم أبواب منازلهم و لا ينضم بعضهم الى بعض.

و ربما تصوّر البعض في هذه الغزوة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقصد منطقة الشمال (شمال المدينة) لتأديب قبائل غطفان و فزارة الذين تعاونوا مع اليهود في معركة الاحزاب، لما وجدوه متوجها نحو الشمال.

(2) و لكنه عند ما وصل إلى منطقة «الرجيع» عرج بجيشه صوب «خيبر» و بهذا قطع الطريق على أية إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر، بقطع خطّ الارتباط بين قبائل غطفان و فزارة و يهود خيبر، فمع ان حصار خيبر طال

مدة شهر واحد تقريبا لم تستطع القبائل المذكورة ان تمدّ حلفاءها اليهود بأي شي ء «1».

و لقد خرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى خيبر ما يقرب من ألف و ستمائة مقاتل، بينهم مائتا فارس «2».

و عند ما أشرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على خيبر قرأ الدعاء التالي الذي يكشف عن نيته الحسنة:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 330.

(2) الامالى للطوسي: ص 164، يذهب ابن هشام في سيرته: ج 2 ص 328 إلى ان خروج النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى خيبر كان في المحرّم، و بينما ذهب ابن سعد في الطبقات الكبرى: ج 2 ص 77 إلى انه كان في جمادى الثانية من السنة السابعة، و حيث ان ارسال الرسل الى الملوك و الامراء تم في شهر محرم من هذه السنة ذاتها لذلك يكون الرأي الثاني أقرب إلى الصحة، و خاصة أن مهاجري حبشة التحقوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خيبر بعد وصول رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى النجاشي بوساطة «عمرو بن أميّة» لان ذهاب رسول النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى الحبشة و عودته مع المهاجرين الى المدينة ثم خيبر بحاجة إلى زمان، و حيث ان توجه الرسل و السفراء كان في شهر محرم لذلك يجب ان يكون قتال الخيبريين في الاشهر التالية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:390

اللهمّ ربّ السماوات و ما اظللن

و ربّ الارضين و ما اقللن

و ربّ الشياطين و ما اضللن

و ربّ الرياح و ما أذرين

فإنا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها، و خير ما فيها و نعوذ بك من شرها و شر أهلها و شر ما فيها».

(1) إن هذا

الدعاء و ما رافقها من حالة التضرع، و ذلك أمام أعين ألف و ستمائة من الجنود الشجعان الذين كان كل واحد منهم شعلة متقدة من الشوق الى القتال في سبيل اللّه يكشف عن أن النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يكن يهدف من مسيره إلى هذه الأرض الاستعمار أو الانتقام بل جاء من أجل ان يقضي على بؤرة الخطر التي كان من المحتمل أن يتحول في كل لحظة إلى قاعدة انطلاق للمشركين الوثنيين، حتى لا تهدّد النهضة الاسلامية من هذه الناحية فيما بعد.

و سترى أنت أيّها القارئ الكريم كيف أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد فتح القلاع و الحصون اليهودية، و انتزاع السلاح من سكانها المتآمرين المشاغبين فوض إليهم اراضيهم، و اكتفى منهم بأخذ الجزية في مقابل المحافظة على أموالهم و أنفسهم، و بعد أن ربطهم بمعاهدة قوية ملزمة.

(2)

احتلال النقاط و الطرق الحساسة ليلا:

كان لكل حصن من حصون خيبر السبعة اسم خاص يعرف به فهى عبارة عن: «ناعم» و «القموص» و «الكتيبة» و «النطاة»، و «شقّ» و «سطح»، و «سلالم»، و ربما سمّي بعض هذه الحصون باسم زعيم الحصن و سيّده، مثل حصن مرحب.

كما أنه كانوا قد بنوا عند كل حصن من تلك الحصون برجا للمراقبة، و لرصد كل التحركات خارج الحصن، و لأجل أن ينقل الحراس و المراقبون المستقرون في هذه الأبراج الأخبار إلى داخل الحصن.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:391

و قد كانت تلك البروج و الحصون قد شيّدت بحيث يسيطر سكانها على خارج الحصن سيطرة كاملة و كانوا يستطيعون- عن طريق المجانيق «1» و غيرها من آلات الرمي- إبعاد أي عدو، و افشال أيّة محاولة للاقتراب الى الحصن، و ذلك برميه بالاحجار و ما شابهها.

(1) و

قد كان بين سكان هذه الحصون البالغ عددهم عشرين ألفا، ألفان من الفرسان الشجعان و الصناديد الابطال الذين توفرت لهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام و الشراب، و الذين اعدت لهم في المخازن كل ما يحتاجون إليه من الاسلحة و العتاد.

و كانت هذه الحصون من الإحكام و القوة بحيث كان من المستحيل إحداث أيّة ثغرة في حيطانها أيضا، و من أراد الاقتراب إليها رمي بالاحجار فجرح بها أو قتل، فكانت تعدّ هذه الحصون- في الحقيقة- متاريس قوية لمقاتلي اليهود.

لقد واجه المسلمون في هذه الغزوة مثل هذا العدوّ المسلح، المتمنع بمثل هذه المتاريس القوية، فكان لا بدّ لفتح هذه القلاع من استخدام تكتيك عسكري دقيق.

و لهذا فان أوّل عمل قام به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه في هذا السبيل هو احتلال كل النقاط و الطرق الحساسة ليلا.

و قد تم هذا العمل بسرية و سرعة بالغة جدا بحيث لم يعرف به حتى مراقبو الابراج اليقظون أيضا.

(2) و لما كان صبيحة تلك الليلة خرج عمّال خيبر غادين إلى مزارعهم و بساتينهم و هم يحملون مساحيهم و مكاتيلهم و اذا بهم يفاجئون بجنود الاسلام الابطال و قد احتلوا بقوة الايمان جميع النقاط الحساسة و سدّوا جميع الطرق عليهم بحيث لو قدّموا شبرا لقبض عليهم، فأفزعهم ذلك و خافوا خوفا شديدا، فأدبروا

______________________________

(1) و هي أجهزة حديدية بدائية تقذف الحجر او الحديد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:392

هرابا و هم يقولون: محمّد و الجيش معه. و بادروا فورا إلى إغلاق أبواب الحصون و إحكامها، و عقدوا شورى عسكرية في داخل حصنهم المركزي.

(1) و عند ما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مساحي اليهود و مكاتيلهم و غيرها من

أدوات الهدم قال متفائلا:

«اللّه أكبر خربت خيبر أنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».

و كانت نتيجة الشورى العسكرية اليهودية في هذه الغزوة هي أن يجعلوا الأطفال و النساء في أحد الحصون، و يجعلوا الذخيرة من الطعام في حصن آخر، و يستقر المقاتلون الشجعان على الأبراج و يدافعوا عن كل قلعة و حصن بالأحجار، و يخرج الابطال الصناديد من كل حصن و يقاتلوا المسلمين خارجه.

كانت هذه هي خطة اليهود لمواجهة جنود الاسلام، و قد أصروا على تنفيذها حتى آخر لحظة من القتال و لهذا استطاعوا أن يقاوموا في وجه الجيش الاسلامي مدة شهر واحد تقريبا بحيث كانت محاولة فتح كل حصن من تلك الحصون تستغرق عشرة أيام دون نتيجة.

(2)

متاريس اليهود تتهاوى:

كانت هناك نقطة لا تحظى بأهمية تذكر من الناحية العسكرية و كان مقاتلو اليهود يسيطرون عليها سيطرة كاملة، و لم يكن فيها أي مانع من استهداف مخيم المسلمين و رميها من جانب العدو.

و لهذا جاء أحد المقاتلين المسلمين الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو «محمّد بن مسلمة» و قال له:

يا رسول اللّه صلّى اللّه عليك، إنك نزلت منزلك هذا فان كان عن أمر (الهي) امرت به فلا نتكلم فيه، و ان كان الرأي تكلمنا؟ يا رسول اللّه دنوت من الحصن، و إن أهل النطاة مرتفعون علينا و هو أسرع لانحطاط نبلهم فتحوّل يا رسول اللّه الى موضع بري ء من النخل و البناء حتى لا ينالنا نبلهم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:393

(1) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يراعي واحدا من مبادئ الاسلام العظيمة (الشورى) و احترام الآخرين: «بل هو الرأي، انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم، بريئا من الوباء نأمن فيه

بياتهم»، فطاف محمّد حتّى انتهى إلى الرجيع (و هو واد بقرب خيبر) ثم رجع الى النبي صلّى اللّه عليه و آله ليلا فقال: وجدت لك منزلا، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فحولت خيمة القيادة عند المساء إلى ذلك المكان الاكثر أمانا من بيات اليهود و غدرهم فكان النبي يغدو كل يوم فيقاتل أهل النطاة يومه إلى الليل ثم إذا أمسى رجع الى الرجيع حيث غرفة القيادة، و كان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام «1».

على أنه لا يمكن البتّ في تفاصيل واقعة خيبر و لكن المستفاد من المصادر التاريخية هو أن جنود الاسلام حاصروا القلاع و الحصون حصنا تلو حصن، و حاولوا قطع ارتباط الحصن المحاصر ببقية الحصون تم فتحه، ثم محاصرة حصن آخر.

(2) و لقد تم فتح هذه الحصون ببطء لأنها كانت مرتبطة ببعضها بارتباط سرّي، أو كان المقاتلون يدافعون عنها دفاعا مستميتا، و لكن الحصون التي كان الرعب و الخوف يسيطر على مقاتليها و حرّاسها، أو التي ينقطع ارتباطها بالخارج بصورة كاملة كان يتم السيطرة عليها بسهولة، و تسفك فيها دماء أقلّ، و يتقدم العمل فيها بسرعة اكبر.

(3) و ان أول حصن فتح على أيدي المسلمين بعد شي ء كبير من الجهد- كما يذهب إليه جمع من المؤرخين- هو حصن «ناعم». و لقد استشهد في فتح هذا الحصن أحد المقاتلين المسلمين البارزين، يدعى «محمود بن مسلمة» الانصارى، و جرح خمسون رجلا من مقاتلي الإسلام، فقد استشهد الفارس المذكور بعد أن رماه اليهود بصخرة كبيرة من فوق الحصن فقتل من فوره، و قيل إنه توفي بعد ثلاثة أيام- حسب رواية ابن الاثير في اسد الغابة «2» و

نقل الجرحى الخمسون إلى

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 39.

(2) اسد الغابة: ج 4 ص 334.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:394

منطقة اخرى من المعسكر خصصت لغرض التضميد «1»، كما انه سمح لبعض نساء بني غفار بأن يأتين الى «خيبر» لمساعدة المسلمين و تضميد الجرحى و تقديم غير ذلك من الخدمات التي يليق بهن في المعسكر، و قد أظهرت تلك النسوة من أنفسهن تفانيا، و تضحية عجيبة «2».

(1) و لقد رأت الشورى العسكرية الاسلامية أن يعمد المقاتلون المسلمون- بعد فتح حصن «ناعم» إلى فتح حصن «القموص» الذي كان يرأسه أبناء «أبي الحقيق»، و لقد فتح هذا الحصن بفضل تفاني جنود الاسلام، و أسرت منه «صفية بنت حيي بن أخطب» التي صارت فيما بعد من زوجات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد قوّى هذان الانتصاران العظيمان معنوية الجنود المسلمين و ألقى رعبا شديدا في نفوس اليهود و لكن المسلمين وقعوا في مخمصة شديدة بسبب قلّة المواد الغذائية بحيث اضطروا إلى أن يأكلوا من بعض الانعام المكروهة اللحم، و قد كان هناك بين حصون اليهود حصن مملوء طعاما الّا أن المسلمين لم يظفروا به حتى ذلك الحين.

(2)

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة:

في مثل هذه الحالة التي كان قد استولى فيها جوع شديد على المسلمين، اضطروا معه إلى تناول لحوم ما كره أكله من الأنعام أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله راع أجير لليهود يرعى لهم غنمهم، و رسول اللّه محاصر لبعض حصون خيبر فقال: يا رسول اللّه اعرض عليّ الاسلام، فعرضه عليه، فأسلم، و كان رسول اللّه لا يحقّر أحدا أن يدعوه إلى الاسلام و يعرضه عليه- فلما أسلم قال: يا رسول اللّه اني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم و هي

أمانة عندي فكيف أصنع بها؟ فقال له رسول اللّه

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 40.

(2) السيرة النبوية: ج 3 ص 342.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:395

صلّى اللّه عليه و آله أمام عيون المئات من جنوده الجياع:

«أخرجها من العسكر ثم صح بها و ارمها بحصيات فإنّ اللّه عزّ و جلّ سيؤدّي عنك أمانتك».

ففعل الراعي ما أمره به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خرجت الغنم إلى صاحبها حتى دخلت الحصن كأنّ سائقا يسوقها، و قد قاتل ذلك اليهودي إلى جانب المسلمين حتى استشهد «1».

(1) أجل لم يكتسب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقب «الامين» من قومه في فترة شبابه فقط بل كان أمينا في جميع الحالات و الظروف و هو القائل:

«ما من شي ء كان في الجاهلية إلّا هو تحت قدمي إلا الامانة فانها مؤداة إلى البر و الفاجر» «2»، و قد بقي تردد القطعان حرا طوال مدة الحصار و لم يفكر و لا واحد من المسلمين بأخذ غنم منها لأنهم تعلّموا الأمانة و التقوى و الصدق و الورع من معلّمهم الاكبر «محمّد» الصادق الأمين صلّى اللّه عليه و آله.

نعم غلب الجوع الشديد على العسكر ذات يوم حتى كادوا أن يهلكوا فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن تؤخذ شاتان من غنم اليهود اضطرارا، و اطلق البقية لتدخل الحصن بامان «3»، و لو لا ذلك الاضطرار الذي يباح معه المحذور بقدره لما سمح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك، و لما رأى جوع أصحابه و تضوّرهم من شدّة السغب دعا قائلا:

«اللّهم انّك قد عرفت حالهم و ان ليست بهم قوة، و ان ليس بيدي شي ء اعطهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم

غناء، و أكثرها طعاما» «4».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 344 و 345. امتاع الاسماع: ج 1 ص 312- 313.

(2) مجمع البيان: عند تفسير قول اللّه تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ...».

(3) السيرة النبوية: ج 1 ص 335- 336.

(4) السيرة النبوية: ج 2 ص 322.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:396

و لم يكن يأذن لاحد من المسلمين بأن يأخذ شيئا من اموال الناس ابدا.

(1) في ضوء كل هذا تتضح دسائس جماعة من المستشرقين في تاريخنا المعاصر فهم يصرّون على القول بأن غزوات الاسلام و معاركه كانت للإغارة و جمع الغنائم و مصادرة الأموال و السيطرة عليها و ان جنوده لم يكونوا يتقيّدون خلال تلك المعارك بمبادئ العدالة و الامانة، و ذلك كيد منهم للاسلام، و محاولة بغيضة للحط من قيمة الاهداف الاسلامية العليا، و تشويهها.

و لكن النموذج المذكور هنا، و أمثاله ممّا يعدّ بالعشرات في صفحات التاريخ الاسلامي تشهد بكذبهم، فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يأذن و هو في أشدّ الظروف و أصعبها و جنوده الاوفياء قد غلبهم الجوع و دنوا من الهلاك، بأن يخون راع في أغنام كان يرعاها ليهودي، بل أمره بردّها إلى صاحبه و هو في قتال مع اليهود على حين كان يمكنه مصادرتها جملة واحدة.

(2)

فتح الحصون الواحد تلو الآخر:

بعد فتح القلاع المذكورة حمل جنود الإسلام على حصن الوطيح، و سلالم، و لكنهم واجهوا مقاومة عنيفة من اليهود الذين كانوا يدافعون عنها خارجها، من هنا لم يستطع جنود الاسلام الأبطال رغم كل التضحيات التي ذكرها كاتب السيرة المعروف ابن هشام في موضع خاص من سيرته- ان يحرزوا انتصارا بل ظلوا يجالدون مقاتلي اليهود أكثر من عشرة أيام، و لكنهم كانوا يعودون في كل

يوم إلى مقرّهم من دون نتيجة.

و ذات يوم بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر و اعطاه رايته البيضاء على رأس جماعة من المقاتلين المسلمين لفتح بعض حصون خيبر، و لكنه رجع و لم يكن فتح و كل من الامير و الجنود يلقي باللوم على الآخر، و يتهمه بالجبن و الفرار.

(3) فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في يوم آخر «عمر بن الخطاب» على

سيد المرسلين ،ج 2،ص:397

رأس جماعة اخرى فكان كرفيقه إذ رجع و لم يحقق فتحا، بل عاد- حسب ما يروي الطبري- «1» فزعا مرعوبا و هو يصف شجاعة مرحب و قوّته البالغة، فأغضب هذا العمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فرسان الاسلام الابطال و قادة الجيش الاسلامي، فجمع رسول اللّه صناديد جيشه و قال:

«لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله يفتح على يديه ليس بفرّار» أو: «كرار غير فرار» حسب نقل الطبري و الحلبي «2».

(1) و قد أثارت هذه الجملة الخالدة الحاكية عن فضيلة و شجاعة و تفوّق ذلك الفارس الذي قدر أن يكون الفتح على يديه و تميّزه المعنوي على غيره موجة من الفرح الممزوج بالاضطراب بين أفراد الجيش و قادته الشجعان.

فقد بات كل واحد منهم يتمنى أن يكون هو صاحب هذا النوط الخالد و العظيم، و ان تصيب القرعة اسمه.

و لما بلغ عليا عليه السّلام مقالة النبي صلّى اللّه عليه و آله هذه و هو في خيمته قال:

«اللهم لا معطي لما منعت و لا مانع لما أعطيت» «3».

(2) غطّى ظلام الليل كل مكان، و ذهب جنود الاسلام إلى أماكن نومهم، و بينما بقي الحراس يتحارسون طوال الليل، و

يرصدون أوضاع العدوّ الغادر

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 300.

(2) مجمع البيان: ج 9 ص 120، السيرة الحلبية: ج 2 ص 37، السيرة النبوية: ج 3 ص 334 أمتاع الاسماع: ج 1 ص 314 و لقد انزعج المؤرخ الاسلامي المعروف ابن أبي الحديد من فرار هاتين الشخصيتين فقال في ضمن قصيدة له:

و ما أنس لا أنس اللّذين تقدّماو فرّهما و الفرّ قد علما حوب

و للراية العظمى و قد ذهبا بهاملابس ذلّ فوقها و جلابيب

يشلّهما من آل موسى شمر دل طويل نجاد السيف أجيد يعبوب (الغدير: ج 7 ص 201 اقتباسا من القصائد العلويات).

(3) السيرة الحلبية: ج 2 ص 35.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:398

و تحركاته.

و عند الصباح و مع طلوع الشمس التي شقت بأشعتها رداء الظلام، و أضاءت السهل و الجبل، تجمّع قادة الجيش الاسلامي و صناديده و أبطاله و غيرهم من الرجال و فيهم الاميران المنهزمان بالأمس حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم يريدون بشوق بالغ أن يعرفوا من سيعطيه الراية اليوم، و قد تطاول لها أبو بكر و عمر «1».

(1) و لم يطل هذا الانتظار، فقد كسر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جدار الصمت هذا عند ما قال: «اين علي»؟!

فقيل يا رسول اللّه به رمد، و هو راقد بناحية.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ائتوني بعليّ» «2»

إنّ هذه العبارة تكشف عن أن ما أصاب عليا عليه السّلام من الرمد كان من الشدة بحيث سلبه القدرة على المشي، و عاقه عن الحركة.

فأمرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يده الشريفة على عيني علي عليه السّلام و دعا له بخير، فعوفي من ساعته، و استعادت عيناه عليه السّلام سلامتها افضل ممّا

كانت بحيث لم يرمد عليه السّلام حتى آخر حياته بفضل تلك المسحة النبوية المباركة.

(2) ثم دفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اللواء إلى عليّ عليه السّلام و دعا له بالنصر كما أنه أمره بأن يبعث إلى اليهود قبل قتالهم من يدعو رؤساء الحصون الى الاسلام، فإن أبوا اعتناق الاسلام أخبرهم بوظائفهم في ظل الحكومة الاسلامية و أن عليهم أن يسلّموا أسلحتهم إلى الحكومة الاسلامية، و يعيشوا بحرية و أمان

______________________________

(1) هذه هي عبارة الطبري: ج 2 ص 300، كنز العمال: ج 6.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 28 و 29، تاريخ الخميس: ج 2 ص 49.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:399

تحت ظل هذه الحكومة شريطة أن يدفعوا الجزية «1».

و اذا رفضوا ذاك و هذا قاتلهم، ثم قال لعلي الذي أوكل إليه قيادة تلك المجموعة:

«لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم» «2».

أجل إن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله يفكّر في هداية الناس حتى في أشد لحظات الحرب، و هذا يفيد بأن جميع حروب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت لهداية الناس لا غير.

(1)

الانتصار الكبير في خيبر:

عند ما كلّف عليّ (عليه السّلام) من جانب النبي صلّى اللّه عليه و آله بفتح قلعتي سلالم و الوطيح (و هما الحصنان اللذان عجز عن فتحهما الأميران السابقان و وجها بفرارهما ضربة لا تجبر إلى شرف الجيش الاسلامي)، ارتدى درعا قويا و حمل معه سيفه الخاص ذا الفقار و راح يهرول بشجاعة منقطعة النظير نحو القلعتين المذكورتين، و الجند خلفه، حتى ركز الراية التي أعطاها له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الأرض تحت الحصن.

و لما رأى اليهود انه دنا من الحصن خرج

إليه كبار صناديدهم.

و كان أول من خرج إليه أخو مرحب و يدعى «الحارث» فتقدم إلى عليّ و صوته يدوي في ساحة القتال بحيث تأخر من كان خلف عليّ من شدة الفزع «3».

و لكن لم يمض زمان حتى سقط الحارث على الارض جثة هامدة بضربة قاضية من علي عليه السّلام.

______________________________

(1) صحيح مسلم: ج 5 ص 195، صحيح البخاري: ج 5 ص 18.

(2) السيرة الحلبية: ج 2 ص 37.

(3) امتاع الاسماع: ج 1 ص 314 قال: فانكشف المسلمون و ثبت علي.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:400

(1) فغضب مرحب بطل خيبر المعروف لمقتل أخيه الحارث و خرج من الحصن و هو غارق في السلاح، فقد لبس درعا يمانيا، و وضع على رأسه خوذة منحوتة من حجارة خاصة، و تقدم الى عليّ عليه السّلام كالفحل الصؤول يرتجز و يقول:

قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب

إن غلب الدهر فاني أغلب و القرن عندي بالدما مخضّب «1» فأجابه علي عليه السّلام مرتجزا و قد أظهر للعدو شخصيته العسكرية في رجزه:

أنا الّذي سمّتني امّي حيدرةضرغام آجام و ليث قسورة

عبل الذراعين غليظ القيصرةكليث غابات كريه المنظرة (2) و بعد أن انتهى الطرفان من إنشاد رجزهما تبادلا الضربات بالسيوف و الرماح، فألقت قعقعة السيوف و صوت الرماح رعبا عجيبا في قلوب المشاهدين، و فجأة هبط سيف بطل الاسلام القاطع على المفرق من رأس «مرحب» بطل اليهود قدّت خوذته نصفين و نزلت على رأسه و شقته نصفين الى أسنانه!!

و لقد كانت هذه الضربة من القوة بحيث افرعت أكثر من خرج مع «مرحب» من أبطال اليهود و صناديدهم ففروا من فورهم، و لجئوا إلى الحصن، و بقي جماعة فقاتلوا عليا منازلة فقاتلهم حتى قتلهم جميعا، ثم لاحق الفارين منهم

حتى باب الحصن، فضربه عند الحصن رجل من اليهود فطاح ترسه من يده فتناول عليه السّلام بابا كان على الحصن و انتزعه من مكانه، فترس به عن نفسه فلم يزل ذلك الباب في يده و هو يقاتل حتى فتح اللّه على يديه ثم القاه من يده حين فرغ، و قد حاول ثمانية من أبطال الاسلام و منهم أبو رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقلبوا ذلك الباب أو يحركوه من مكانه فلم يقدروا على ذلك «2».

______________________________

(1) يروى ابن هشام في سيرته أشعار مرحب بصورة اخرى: ج 2 ص 332.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 94، سيرة ابن هشام: ج 2 ص 349، تاريخ الخميس: ج 2 ص 47- 50.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:401

و هكذا فتحت القلعة التي عجز عن فتحها المسلمون عشرة أيام، في مدة قصيرة على يد بطل الاسلام الأول «علي بن أبي طالب» عليه السّلام.

(1) و يقول اليعقوبي في تاريخه: ان الباب الذي قلعه علي عليه السّلام كان من الصخر و كان طوله أربعة اذرع و عرضه ذراعين «1».

و يقول الشيخ المفيد في ارشاده بسند خاص عن امير المؤمنين قصة قلعه ذلك الباب:

«لما عالجت باب خيبر جعلته مجنّا لي فقاتلتهم به، فلما أخزاهم اللّه وضعت الباب على حصنهم طريقا ثم رميت به في خندقهم، و لما قال له رجل: لقد حملت منه ثقلا قال عليه السّلام:

«ما كان إلّا مثل جنّتي التي في يدي في غير ذلك المقام» «2».

و قد نقل المؤرخون قضايا عجيبة حول قلع باب خيبر هذا و خصوصياته و مواصفاته، و عن بطولات علي عليه السّلام في فتح هذا الحصن، و جميعها لا تتمشى و لا تتيسر مع القدرة

البشرية المتعارفة، و لا يمكن أن تصدر منها.

و يقول علي عليه السّلام نفسه في هذا الصدد ما يرفع كل شك و إبهام قد يعترض المرء في هذا المجال:

«ما قلعتها بقوّة بشريّة و لكن قلعتها بقوة إلهية و نفس بلقاء ربّها مطمئنة رضية» «3».

(2)

تحريف الحقائق:

لو أننا أردنا أن نلتزم بحدود الحق و الانصاف لوجب أن نقول انّ «ابن هشام» في سيرته و «الطبري» في تاريخه ذكرا قصة مبارزة علي عليه السّلام في يوم

______________________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 46.

(2) الارشاد: ص 62- 65.

(3) بحار الأنوار: ج 21 ص 40.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:402

خيبر بصورة مفصلة، و نقلوا تفاصيلها بصورة دقيقة، و لكنهما ذكرا في نهاية بحثهما التاريخي قصة خيالية لا أساس لها و هي و ان مرحبا قتل على يدي «محمّد بن مسلمة» و قالوا: و يرى البعض أن مرحبا اليهودي قتله محمّد بن مسلمة انتقاما لأخيه الذي قتل عند فتح حصن «ناعم» على أيدي اليهود، فقد كلّفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتال مرحب فبرز إليه، فقتله.

إن هذا الاحتمال من الوهن و البطلان بحيث لا يقاوم التاريخ الاسلاميّ المسلم و المتواتر، (1) هذا مضافا إلى أن هذه الاسطورة التاريخية تعاني من اشكالات، و مؤاخذات نذكرها للقارئ الكريم:

(2) 1- ان محمّد بن مسلمة لم يكن بذلك الرجل الشجاع، و البطل الصنديد الذي تؤهله شجاعته لأن يكون فاتح خيبر و قاتل بطلها الاكبر، فإن التاريخ لا يذكر عنه نموذجا بارزا من بطولته و شجاعته، إنما كلّف في السنة الثالثة من جانب النبي صلّى اللّه عليه و آله فقط بأن يغتال «كعب بن الاشرف» الذي حرّك المشركين و الهم ضد الاسلام و المسلمين بعد معركة بدر الكبرى، و

قد بقي ثلاثة أيام بلياليها لا يطعم شيئا خوفا، فأنكر عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خوفه و سأله عن سبب ذلك فقال: يا رسول اللّه قلت لك قولا لا أدري هل أفينّ به أم لا؟

فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منه ذلك أرسل معه أربعة رجال آخرين ليعينوه في هذه المهمّة، و يتخلصوا من «كعب» الذي كان يريد إعادة القتال بين المسلمين و المشركين.

فخرجوا إليه في منتصف الليل و قتلوا عدوّ اللّه كعبا وفق خطة خاصة و لكن «محمّد بن مسلمة» جرح أحد رفاقه من شدة الخوف و الوحشة التي اصابته، و لا شك أن صاحب مثل هذه النفسية لا يمكنه أن يبارز صناديد «خيبر» المعروفين و ينازلهم.

(3) 2- ان فاتح «خيبر» لم يقاتل مرحبا و يقتله وحده، بل قاتل بعد مصرع مرحب من كانوا قد جاءوا معه إلى ساحة القتال من شجعان اليهود فلاحق

سيد المرسلين ،ج 2،ص:403

الفارّين، و نازل الذين بقوا و لم يفرّوا.

و إليك أسماء من بقوا في ساحة القتال و قاتلوا عليا عليه السّلام بعد قتله مرحبا:

1- داود بن قابوس.

2- ربيع ابن أبي الحقيق.

3- أبو البائت.

4- مرة بن مروان.

5- ياسر الخيبري.

6- ضحيج الخيبري.

و كل هؤلاء كانوا من صناديد اليهود و ابطالهم، و كانوا يقاتلون خارج حصن خيبر و يمنعون من أية محاولة لفتح قلاع اليهود في هذه الوقعة.

إن هؤلاء الستة قتلوا على يد علي بن أبي طالب عليه السّلام و هم يرتجزون في ساحة القتال و يطلبون المبارز و المناجز «1».

فمن يكون و الحال هذه فاتح «خيبر» و قاتل مرحب؟

إذا كان «محمّد بن مسلمة» فانه لا يمكن أن يعود بعد قتل مرحب إلى معسكر المسلمين و يتجاهل

اولئك الأبطال خلف مرحب بل لا بد أن يقاتلهم، في حين اتّفقت كل السير و التواريخ على أن هؤلاء قتلوا جميعا على يد علي بن أبي طالب عليه السّلام.

(1) 3- ان هذه الاسطورة التاريخية تتنافى مع الحديث المنقول عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانه صلّى اللّه عليه و آله قال في حق علي عليه السّلام:

«يفتح اللّه على يديه» مع العلم بأن المانع الاكبر من فتح خيبر كان هو مرحب الذي أجبرت شجاعته الأميرين السابقين على الفرار، فاذا كان قاتل مرحب هو

______________________________

(1) ناسخ التواريخ: ج 2 ص 282- 286.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:404

«محمّد بن مسلمة» لزم أن يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جملته هذه في حق «محمّد بن مسلمة» لا في حق «علي» عليه السّلام الذي أعطاه الراية بعد أن قال تلك الجملة: «يفتح اللّه على يديه».

(1) يقول الحلبي كاتب السيرة المعروف: قيل: القاتل له (اي لمرحب) علي كرم اللّه وجهه و به جزم مسلم رحمه اللّه في صحيحه. قال بعضهم: و الاخبار متواترة به و قال ابن الاثير: الصحيح الذي عليه أهل السير و الحديث أن عليا قاتله كرم اللّه وجهه «1».

و لقد وقع الطبري في تاريخه، و ابن هشام في سيرته في شي ء من الاضطراب و الفوضى و كتبا قصة هزيمة و رجوع الرجلين اللذين كلّفا قبل علي عليه السّلام بفتح قلاع اليهود بصورة لا تتفق مع مفهوم الجملة التي قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حق علي عليه السّلام.

فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حقه: «و ليس بفرّار» «2» يعني أن الذي سوف يعطيه الراية لا يفر أبدا، و مفهوم هذه الجملة

هو أن عليا عليه السّلام لا يفرّ و لا يجبن أمام العدوّ كما فر القائدان السابقان، و هذا يعني أن القائدين السابقين فرّا أمام العدوّ، و أخليا الساحة، في حين أن الكاتبين المذكورين لا يذكران مسألة فرار القائدين المذكورين، و إنما يكتبان رجوعهما كما لو أنهما قد أدّيا وظيفتهما القتالية و العسكرية على الوجه الكامل، و لكنّهما لم يوفقا للفتح «3».

(2)

ثلاث نقاط مشرقة في حياة علي عليه السّلام:

و نختم هذا البحث بذكر ثلاث فضائل لفاتح خيبر ذكرها أحد خصومه لها ارتباط بموقفه عليه السّلام في خيبر:

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 38، و راجع زاد المعاد: ج 2 ص 134 و 135.

(2) المغازي: ج 2 ص 653.

(3) السيرة النبوية: ج 3 ص 349.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:405

أمر معاوية سعد بن أبي وقاص يوما فقال: ما منعك ان تسبّ أبا التراب؟

فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلن أسبّه لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.

ثم أخذ سعد في عدّ تلك المناقب فقال:

(1) 1- سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم يقول له خلّفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء و الصبيان؟

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم.

«أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنه لا نبوة بعدي» «1».

(2) 2- و سمعته يقول يوم خيبر:

لاعطين الراية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبه اللّه و رسوله. قال فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي عليا. فاتي به أرمد فبصق في عينه، و دفع الراية إليه، ففتح اللّه عليه «2».

(3) 3- و لما نزلت هذه الآية «فقل تعالوا ندع ابناءنا

و ابناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل ...» دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم عليّا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال:

«اللهم هؤلاء أهل بيتي» «3» «4».

(4)

عوامل الانتصار:

اشارة

فتحت حصون «خيبر»، و استسلم اليهود للمسلمين بشروط خاصة، و لكن يجب أن نرى ما هي العوامل التي ادت إلى هذا الانتصار، فهذا هو في الحقيقة

______________________________

(1) و هي اشارة إلى واقعة تبوك.

(2) و هي اشارة إلى واقعة خيبر.

(3) و هي اشارة إلى قصة مباهلة النبي نصارى نجران.

(4) صحيح مسلم: ج 7 ص 120.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:406

النقاط الهامة في هذا القسم.

إن انتصار المسلمين الساحق في هذه الغزوة يعود إلى عوامل يمكن الاشارة إليها على نحو الاجمال ثم شرحها بالتفصيل في ما بعد.

1- التخطيط العسكري و التكتيك الحربي الدقيق.

2- تحصيل المعلومات و معرفة أسرار العدو الداخلية.

3- تفاني الامام علي بن أبي طالب، و بطولته النادرة. و هنا نحن ندرس هذه الامور الثلاثة على وجه التفصيل:

(1)

1- التخطيط و التكتيك العسكري الدقيق:

لقد هبط الجيش الاسلامي في منطقة قطع بها المسلمون ارتباط اليهود باصدقائهم القدامى (قبائل غطفان).

و قد كان بين قبائل غطفان فرسان كثيرون، و لو استطاعوا أن يعينوا اليهود في هذه الموقعة لما أمكن فتح حصون خيبر.

فان «غطفان» لما سمعت بمسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى خيبر خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، و لكنهم ما أن سمعوا الشائعة التي مفادها أن أصحاب محمّد قد قصدوهم من طريق آخر ظنوا انهم سيهاجمون أموالهم و أهليهم فرجعوا من منتصف الطريق على أعقابهم، و أقاموا في أهليهم و أموالهم و خلّوا بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين «خيبر».

يقول المؤرخون: إن هذه الشائعة كانت نتيجة نداء غيبيّ سمعه رجال غطفان فظنوا أن المسلمين داهموا أهليهم «1» و لكنه ليس من المستبعد أن تكون هذه الشائعة من فعل المسلمين المتسترين من قبائل غطفان، و الذين امروا بأن يتظاهروا بالكفر، و يبقوا في قبائلهم

حتى يعينوا إخوانهم المسلمين في اللحظات

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 651- 653.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:407

المناسبة.

فخططوا لهذه الموقعة بمهارة كبيرة و كانوا في ذلك ناجحين جدا الى درجة أنّه تسبب في أن تعدل إمدادات غطفان العسكرية لليهود من مواصلة مسيرها إلى «خيبر»، و العودة إلى أهليهم و ترك اليهود و شأنهم.

و قد سبق لهذا نظير في معركة «الاحزاب» يوم امتنعت قبائل غطفان عن نصرة اليهود بسبب شائعة بثها بينهم رجل من المسلمين من بني غطفان يدعى «نعيم بن مسعود»، و تفرّق على أثره جماعة الاحزاب، و انفرط عقدهم.

(1)

2- تحصيل المعلومات حول العدوّ:

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما أسلفنا مرارا يولي تحصيل المعلومات و معرفة أسرار العدو، أهمية كبيرة.

و لهذا بعث قبل محاصرة «خيبر» طليعة من المسلمين و أمّر عليهم «عبّاد بن بشر» و وجّههم إلى «خيبر»، فالتقوا بيهودي قرب حصون «خيبر»، و بعد التحقيق معه تبين أنه عين لليهود يتجسّس لهم الاخبار فأخذوه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسأله عن أوضاع اليهود في حصون «خيبر».

فقال: أ فتؤمنني يا أبا القاسم على أن اصدقك؟ فأمّنه عباد.

فقال اليهودي: القوم مرعوبون منكم خائفون و جلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب.

ثم قال: خرجت من حصن «النطاة» من عند قوم ليس لهم نظام تركتهم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة الى «الشق» و قد رعبوا منك حتى أنّ أفئدتهم لتخفق، فاذا دخلت الحصن غدا و أنت تدخله، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن شاء اللّه، قال اليهودي إن شاء اللّه أوقفك على حصن اليهود الذي فيه منجنيق مفلكة و دبابتان و سلاح من دروع و بيض و سيوف، فانصب المنجنيق على حصن الشق و

تدخل الرجال تحت الدّبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:408

يومك «1».

إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و إن لم يستخدم هذه الادوات التخريبية إلّا أن المعلومات التي وقف عليها من ذلك اليهودي الأسير كانت مهمة لأنّها أوضحت نقطة الحملة غدا، و عرف النبي صلّى اللّه عليه و آله أن التغلّب على حصن «النطاة» لا يحتاج الى قوة كبيرة، و أنه لا بدّ من رعاية المزيد من الحيطة و الحذر عند فتح حصن «الشق».

(1) نموذج آخر: عند فتح إحدى القلاع أتى يهودي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بعد ثلاثة أيام مضت على محاصرتها و قال- و لعلّه لتخليص نفسه-: إنك لو اقمت شهرا ما بالوا، لهم جدول تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمنعون منك، فان قطعت مشربهم عليهم ضجهم.

و في رواية أن النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يوافق على قطع الماء عن العدو «2».

و في اخرى؛ قطع عليهم مشاربهم موقتا فلم يطيقوا المقام على العطش «3».

(2)

3- تفاني امير المؤمنين:

و لقد ذكرنا تغاني علي بن أبي طالب، و بطولته في هذه الموقعة بصورة مجملة، و ها نحن ننقل عبارة قالها هو عليه السّلام عن هذه المسألة:

وردنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خيبر على رجال من اليهود و فرسانها من قريش و غيرها، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل و الرجال و السلاح، و هم في أمنع دار و أكثر عدد، كل ينادي و يدعو و يبادر إلى القتال، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى احمرّت الحدق، و دعيت إلى النزال، و أهمّت كل امرئ نفسه، و التفت بعض أصحابي إلى بعض و كل يقول:

يا أبا الحسن انهض.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 35.

(2) ناسخ التواريخ: ج 2 ص 299. المصدر السابق ص 40.

(3) الخصال: ص 369.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:409

فأنهضني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى دارهم فلم يبرز إليّ أحد منهم إلا قتلته، و لا يثبت لي فارس إلّا طحنته، ثم شددت عليهم شدّة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدّدا عليهم فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها، و أسبي من أجد من نسائها حتى افتتحتها وحدي و لم يكن لي فيها معاون إلّا اللّه وحده «1».

(1)

الرحمة في ساحة القتال:

عند ما افتتح حصن «القموص» سبيت «صفيّة بنت حيي بن أخطب» و امرأة اخرى، فمر بهما «بلال» على القتلى فصاحت صفية صياحا شديدا جزعة ممّا رأت، فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما صنع بلال و قال صلّى اللّه عليه و آله:

«أذهبت منك الرحمة؟ تمر بجارية حديثة السنّ على القتلى؟».

فقال بلال: يا رسول اللّه ما ظننت أنك تكره ذلك، و أحببت أن ترى مصارع أهلها «2».

و لم يكتف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذا القدر من تطييب خاطر «صفيّة» بل احترمها، و عيّن لها مكانا خاصا للاستراحة في المعسكر، و اختارها زوجة لنفسه، و بهذا الطريق أزال آثار ذلك الصنيع السيئ الذي قام به بلال.

لقد تركت أخلاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تعامله الانساني الرفيع مع «صفية» أثرا حسنا في نفسها، فقد صارت في ما بعد من أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله الوفيّات المخلصات، و قد حزنت عند وفاته، و بكت له أكثر من بقية ازواجه «3».

______________________________

(1) الخصال: ص 369 باب

السبعة.

(2) المغازي: ج 2 ص 673، تاريخ الطبري: ج 3 ص 302.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 302.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:410

(1)

مصرع كنانة بن الربيع:

منذ أن أجلي «بنو النضير» عن المدينة و سكنوا «خيبر» أحدثوا صندوقا لجمع الأموال لإدارة شئونهم العامة، و لسد نفقات الحروب، و لإعطاء دية كل من كان يقتل من بني النضير.

فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن هذا الكنز و هذه الأموال قد أودعت عند «كنانة بن الربيع» زوج «صفية»، فلما افتتح صلّى اللّه عليه و آله خيبر طلب الربيع و سأله عن كنز اليهود، فأنكر ذلك فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحبسه، ثم عرف بعد التحقيق من اليهود، بمكان ذلك الكنز، و قد كان بخربة، إذ قال له يهودي إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة أيام الحرب فأمر رسول اللّه بالخربة فحفرت فاخرج منها بعض ذلك الكنز، فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «كنانة» عما بقي فأبي أن يؤديه أو يخبر بموضعه، فدفعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى محمّد بن مسلمة فضرب عنقه قصاصا لأخيه الذي قتل في وقع خيبر «محمود بن مسلمة» و الذي قتله اليهود بالقاء رحى من حجر من فوق حصونهم على رأسه، و انما قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كنانة بضرب عنقه، لتواطئه ضدّ الاسلام، و كتمانه مثل هذا الأمر، و تأديبا لغيره من اليهود حتى يتورعوا عن حبك المؤامرات ضد رسول الاسلام و ضدّ أصحابه، و ضدّ الحكومة الاسلامية، و كان «كنانة» آخر من قتل من يهود خيبر «1».

(2)

تقسيم غنائم الحرب:

بعد افتتاح حصون «خيبر»، و تجريد العدو من كل أسلحته، و جمع الغنائم أمر

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 3 ص 337، بحار الأنوار: ج 21 ص 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:411

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن

تجمع الغنائم كلها في مكان واحد، ثم أمر صلّى اللّه عليه و آله رجلا بأن ينادي في الناس:

«أدّوا الخيط و المخيط، فانّ الغلول عار و شنار و نار يوم القيامة» «1».

(1) و لقد شدّد قادة الاسلام و ائمته الحقيقيون على أهميّة الامانة تشديدا بالغا حتى أنهم اعتبروا ردّ الامانة- مهما صغرت و دقت- من علائم الايمان، و الخيانة و عدم ردّها من علائم النفاق.

من هنا عند ما عثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رحل مسلم من المقاتلين شيئا من أموال الغنيمة لم يردّها إلى بيت المال لم يصلّ على جنازة ذلك الرجل عند ما استشهد، و إليك تفصيل هذه الحادثة.

لما انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه من خيبر و مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غلام له، يقوم له بشئونه، و فيما كان ذلك يضع رحل النبي صلّى اللّه عليه و آله إذ أتاه سهم لا يعلم راميه فأصابه فقتله، فقال المسلمون:

هنيئا له الجنة.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«و الّذي نفس محمّد بيده إنّ شملته «2» الآن لتحترق عليه في النار، كان قد غلّها من في ء المسلمين يوم خيبر»!!

(2) فسمع رجل من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا الكلام فأتاه و قال:

يا رسول اللّه، أصبت شراكين لنعلين لي فقال صلّى اللّه عليه و آله «يقدّ لك مثلهما في النار» «3».

و هذه القصة تفضح أيضا دسائس بعض المستشرقين، لأنهم كانوا يصفون حروب الاسلام و معاركه العادلة بأنها كانت من أجل الاغارة على أموال الناس

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج باب جهاد النفس الحديث 4، المغازي: ج 2 ص 681.

(2) الشملة كساء غليظ يلتحف به.

(3) السيرة

النبوية: ج 2 ص 339، امتاع الاسماع: ج 1 ص 323 و 324.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:412

و مصادرتها كما يفعل قطاع الطرق، متجاهلين عمدا و كيدا الأهداف الإنسانية و الالهية العليا لهذه المعارك و الغزوات، و الحال أن مثل هذه الانضباطية و النظم و الورع ممّا لا يمكن تصوره في قوم همهم الاغارة و النهب و السلب.

إن قائد شعب أو قوم هذا هو همهم و هذه هي همتهم لا يمكن أبدا أن يعتبر ردّ الامانة من واجبات الدين و من علائم الايمان، كما لا يمكنه أن يربي أتباعه و أصحابه بمثل هذا التربية الرفيعة، بحيث يجعله يجتنب عن سرقة صغيرة جدا مثل غلّ شراكي نعلين لا قيمة لهما تذكر.

(1)

قافلة من أرض الذكريات:

قبل أن يتوجّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمسلمين الى «خيبر» بعث «عمرو بن أميّة» إلى البلاط الحبشي لغرض إيصال رسالته إلى ملك الحبشة النجاشيّ، و ليطلب منه أن يهي ء المقدمات اللازمة لترحيل المسلمين المهاجرين من الحبشة الى المدينة.

فهيّأ النجاشي سفينتين لأولئك المهاجرين بعد أن جهزهم بجهاز حسن و امر لهم بكسوة، فسارت بهم حتى وصلت إلى السواحل القريبة من المدينة.

و لما علم المسلمون بمسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى «خيبر» توجّهوا من فورهم الى «خيبر» فقدموا مع «جعفر بن أبي طالب» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم «خيبر» بعد أن افتتحت جميع حصون اليهود و قلاعهم.

فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جعفر مشى في استقباله (12) خطوة ثم قبّل ما بين عينيه و التزمه و قال:

«ما أدري بأيّهما أنا اسرّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟».

و في رواية اخرى قال صلّى اللّه عليه و آله:

«لا أدري بأيّهما

أنا أشدّ فرحا بقدومك يا جعفر أم بفتح اللّه على أخيك خيبر».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لجعفر:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:413

«يا جعفر ألّا امنحك؟ أ لا اعطيك أ لا أحبوك؟».

فظن الناس أنه يعطيه ذهبا أو فضة، فتشوّف الناس لذلك. فقال له:

أني اعطيك شيئا إن أنت صنعته في كل يوم كان خيرا لك من الدنيا و ما فيها».

ثم علمه صلّى اللّه عليه و آله الصلاة المعروفة بصلاة جعفر الطيار «1».

(1)

حجم الخسائر و عدد القتلى:

لم يتجاوز عدد قتلى المسلمين في هذه الغزوة 20 شخصا و لكن قتل من اليهود أكثر من هذا بكثير، و قد سجل التاريخ أسماء 93 رجلا منهم «2».

(2)

العفو بعد الانتصار:

المؤمنون باللّه و اصحاب المروءات من البشر يعاملون العدو المنهزم المقهور عند الغلبة عليه و الظفر به باللطف و الحب، و يعفون عنه و يتناسون روح الانتقام، أجل إنهم يشملون العدو منذ استسلامه بعطفهم و حنانهم و تلك هي حقيقة اثبتتها وقائع التاريخ الحية.

و كذلك فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ما تغلب على يهود خيبر فقد عاملهم بعد الانتصار معاملة حسنة، و شملهم بعفوه، و لطفه رغم كل ما ارتكبوه في حق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ظلم و جناية و تأليب للعرب الوثنيين ضدّ الاسلام، و اشعال حروب كادت أن تودي بالحكومة الاسلامية و تستأصل المسلمين، و تقضي على جهود رسول الإسلام.

فقد قبل بطلب اليهود بأن يسكّنهم في خيبر كما كانوا، و أن يترك أراضيهم

______________________________

(1) فروع الكافي: ج 1 ص 129 و 130، الخصال: ج 2 ص 82 و 83، امتاع الاسماع: ج 1 ص 325.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 32.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:414

و بساتينهم بأيديهم، على أن يكون له نصف محاصيلها سنويا.

بل إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله- كما يروي ابن هشام- هو الذي اقترح هذا الأمر على اليهود، و ترك لهم حرية التصرف في مزارعهم و أراضيهم ليغرسوا أو يزرعوا ما يريدون من الشجر «1».

(1) لقد كان في مقدور النبي صلّى اللّه عليه و آله، كأيّ فاتح آخر، أن يريق دمهم جميعا، أو أن يجليهم برمتهم من أراضيهم، أو يجبرهم على اعتناق الاسلام، و لكنّه- خلافا

لتصور زمرة مغرضة من المستشرقين، و طلائع الاستعمار الثقافي الذين يتصوّرون و يزعمون بأن الاسلام دين القهر و القوة، و ان المسلمين أجبروا الامم و الأقوام المغلوبة على ترك عقائدها، و اعتناق الاسلام لم يفعل مثل هذا العمل قط، بل تركهم أحرارا في ممارسة شعائرهم، و البقاء على ما كانوا يعتقدونه من اصول دينهم و فروعه.

(2) و لم يحارب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه يهود «خيبر» إلّا لأنّ «خيبر» قد تحوّلت إلى بؤرة خطرة للمؤامرة، و الكيد بالاسلام و المسلمين، فقد كانوا يمدّون المشركين بكل ما يريدون للقضاء على الحكومة الاسلامية الحديثة التأسيس، و لهذا اضطر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مقاتلتهم، و تجريدهم من أسلحتهم، حتى يعيشوا تحت ظل الحكومة الاسلامية بمنتهى الحرية، و يشتغلوا بمشاغلهم في الزراعة، و يقيموا شعائرهم الدينية من دون أن يجدوا فرصة للمشاغبة و التآمر ضدّ رسالة التوحيد الكبرى، اذ كانوا يسببون مشاكل كبيرة للمسلمين- في غير هذه الصورة- و يمنعون من تقدّم الاسلام و انتشاره.

(3) و أما الجزية «2» فقد كان لقاء دفاع الحكومة الاسلامية عنهم، و حمايتهم من الأعداء، و توفير الأمن لهم، إذ كان حماية أموالهم و أنفسهم من وظائف المسلمين.

ثم ان المحاسبة الدقيقة تقودنا إلى أن ما كان يدفعه المسلمون إلى الحكومة

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 337.

(2) الجزية ما يؤخذ من أهل الذمّة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:415

الإسلاميّة من الضرائب الاسلامية كان أكثر بكثير ممّا كان يدفعه اليهود.

و النصارى إلى الحكومة الاسلامية بعنوان الجزية.

فقد كان يتوجب على كلّ مسلم أن يدفع الى الحكومة الاسلامية الخمس و الزكاة و ربما توجب عليه ان يدفع شيئا من أصل ماله لسدّ نفقات و

احتياجات الحكومة الاسلامية بينما كان اليهود و النصارى الذين كانوا يعيشون في ظلّ الحكومة الاسلامية في أمن و أمان و يتمتعون بجميع الامتيازات و الحقوق الاجتماعية الفردية يدفعون إلى الحكومة الاسلامية الجزية بدل ما كان يدفعه المسلمون، فالجزية شي ء و الأتاوة شي ء آخر، على خلاف ما يروّجه بعض الكتاب المغرضين.

(1) و لقد كان عامل الجباية الذي كان يزور خيبر بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لتقدير حجم المحاصيل فيها، ثم تنصيفها رجلا عادلا ورعا إلى درجة أن اليهود أنفسهم أعجبوا بعدله، و اعترفوا بانصافه، و هو «عبد اللّه بن رواحة» الذي استشهد فيما بعد، في موقعة «مؤتة».

فقد كان «ابن رواحة» يخمّن نصيب المسلمين من محاصيل خيبر، و ربما تصوّر اليهود أنه أخطأ في التخمين و الخرص، و خمّن أكثر ممّا هو الحق فقالوا له:

تعديت علينا!

فكان عبد اللّه يقول: إن شئتم فلكم و إن شئتم فلنا.

فتقول اليهود- معجبة بهذا الانصاف العظيم و العدل الكبير الذي كان يتحلى به مخرّص الحكومة الاسلامية-: بهذا قامت السماوات و الارض «1».

و لقد حصل المسلمون أثناء جمع غنائم «خيبر» على قطعة من التوراة، فطلبت اليهود من النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يعيدها إليهم، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مسئول بيت المال باعادتها إليهم «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 354.

(2) المغازي: ج 2 ص 680، امتاع الاسماع: ج 1 ص 323.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:416

و هذا يكشف عن احترام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للشرائع الاخرى.

(1)

سلوك اليهود المتعجرف:

في قبال كلّ هذه الألطاف لم تكف اليهود عن خيانتها و كيدها، بل ظلّت تخطّط- في الخفاء- للايقاع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، و

الحاق الاذى بهم.

و لنقف فيما يأتي على نموذجين من هذا الأمر:

(2) 1- لما اطمأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قرّرت جماعة من اليهود في الخفاء أن تقضي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدس سمّ إليه. فأهدت له «زينب بنت الحارث» زوجة «سلام بن مشكم اليهودي» شاة مشويّة و قد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقيل لها الذراع، فاكثرت فيها من السمّ، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. تناول الذراع، فلاك منها مضغة فلم يسغها، و معه «بشر بن البراء بن معرور» قد أخذ منها كما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأما بشر فقد ابتلعها، و أما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد لفظها و عرف بأنها مسمومة، و مات بشر من أكلته التي أكل ثم دعا زينبا، و قال لها: سمّمت الذراع؟ فاعترفت. فقال لها: ما حملك على ذلك، قالت: قتلت أبي و عمّي و زوجي، و نلت من قومي ما نلت فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، و ان كان نبيّا فسيخبر.

فعفا عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لم يلاحق من تواطئوا معها «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 337 و 338 و المغازي: ج 2 ص 677 و 678. و امتاع الاسماع: ج 1 ص 323. هذا و المعروف أن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال في: مرضه الذي مات فيه: إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت بخيبر، فإن النبيّ، و ان كان

لفظ-

سيد المرسلين ،ج 2،ص:417

(1) لا شك لو أن مثل هذه الحادثة حدثت لغير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من القادة و الزعماء لصبغوا الارض بدماء من ظنوا أنه قصد قتلهم، أو ملأوا السجون بهم و حبسوهم، أعواما مديدة او اخضعوهم لاشد انواع التعذيب الجسدي و النفسي كما يحدّثنا بذلك التاريخ القديم و الحديث.

إن هذه المؤامرة الدنيئة التي قامت بها امرأة من اليهود جعلت الكثير من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يسيئون الظن بصفية اليهودية التي أصبحت في عداد ازواج النبي صلّى اللّه عليه و آله.

فقد باتوا يتصوّرون أنها ربما أقدمت في ليلة من الليالي على اغتيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لهذا عند ما أعرس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بها بخيبر أو في أثناء الطريق بات «أبو أيّوب الانصاري» يحرس قبّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التي دخل بها بصفية ليلة عرسه بها، و بقي يطوف بالقبة حتى أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلما رأى أبا أيوب قال: مالك يا أبا أيوب؟

قال: يا رسول اللّه خفت عليك من هذه المرأة، و كانت امرأة قد قتلت أباها و زوجها و قومها و كانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك. فشكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و دعا له بخير «1».

(2) 2- و النموذج الثاني من جفاء اليهود، و كيدهم حتى بعد عفو النبي عنهم، و لطفه بهم أنّ «عبد اللّه بن سهيل» الذي كلّف من جانب النبي صلّى اللّه عليه و آله في إحدى السنين بخرص محاصيل خيبر و تقديرها و حمل نصيب المسلمين منها إلى المدينة قتله جماعة مجهولة من

اليهود أثناء قيامه بواجبه في خيبر و قد كسروا

______________________________

المضغة إلّا ان بقايا السمّ اختلط ببزاقه الشريف، و أثر في جسمه المبارك حتى أودي بحياته المقدسة بعد حين.

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 339 و 340، بحار الأنوار: ج 21 ص 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:418

عنقه و ألقوه في بئر، فقدم جماعة من زعماء اليهود المدينة و دخلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبروه بهذه العملية الغادرة المجهول فاعلها، و تقدم الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أيضا «عبد الرحمن» اخو عبد اللّه بن سهل و ابنا عمّه و كان عبد الرحمن من أحدثهم سنا و كان صاحب الدّم فلما تكلّم قبل ابني عمّه قال رسول اللّه: الكبر الكبر (أي قدّموا الاكبر للكلام إرشادا إلى الأدب في تقديم الأسنّ و هو خلق يدعو إليه الاسلام).

فذكروا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قتل صاحبهم و طلبوا القصاص فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أ تسمّون قاتلكم، ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فنسلّمه إليكم».

(1) و حمل هذا التعليم النبوي أولياء الدم على أن يجعلوا التقوى و الورع نصب أعينهم و لم يستسلموا لثورة العاطفة فقالوا: يا رسول اللّه ما كنّا لنحلف على ما لا نعلم.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أ فيحلفون (أي يحلف اليهود) باللّه خمسين يمينا ما قتلوه، و لا يعلمون له قاتلا، ثم يبرءون من دمه؟».

قالوا يا رسول اللّه ما كنا لنقبل أيمان اليهود، ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم.

فكتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى يهود خيبر كتابا فيه: انه قد وجد قتيل بين أبياتكم فدوه (أي أعطوا ديته).

فكتبوا إليه يحلفون

باللّه ما قتلوه، و لا يعلمون له قاتلا.

فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن المشكلة قد وصلت إلى طريق مسدودة وداه بنفسه من عنده مائة ناقة «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 354- 356.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:419

و هكذا اثبت النبي صلّى اللّه عليه و آله لليهود مرة اخرى بأنه ليس داعية حرب و لا طالب قتال و سفك دماء، و لو كان كغيره من الزعماء و السياسيين لاتخذ من قصة مقتل عبد اللّه ذريعة للقضاء على حياة تلك الزمرة المعتدية، المشاغبة المخلّة بالأمن «1»

إن النبي صلّى اللّه عليه و آله كما يصرّح بذلك القرآن الكريم و يصفه: نبي الرحمة، فهو لا يحتكم الى السيف ما لم يبلغ الامر مداه.

(1)

حيلة مجازة:

كان في خيبر تاجر يدعى الحجّاج بن علاط السلمي له تجارة مع أهل مكة، و كان ممّن حضر يوم خيبر. و شاهد لطف النبي و رحمته فأسلم طائعا راغبا.

و لما فرغ المسلمون من أمر «خيبر» أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:

يا رسول اللّه إن لي بمكة مالا متفرقا في تجار مكة فاذن لي يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن احتال لأخذها، فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك ليستنقذ أمواله من المشركين و غيرهم في مكة.

فقدم مكة، فرآه رجال قريش اجتمعوا حوله و أخذوا يسألونه عن أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يكونوا علموا بإسلامه فأجابهم قائلا: لقد هزم محمّد بخيبر هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، و قتل أصحابه قتل لم تسمعوا بمثله قط، و اسر محمّد اسرا، و قالت اليهود: لا نقتله حتى نبعث إلى أهل مكة فيقتلوه بين

______________________________

(1)

لم تنحصر تعديات اليهود و تجاوزاتهم على ما ذكرناه فلطالما خطّطوا و دبّروا الحيل لالحاق الأذى و الضرر بالمسلمين، و من جملة ذلك حادث عبد اللّه بن عمر الذي ذهب إلى خيبر في عهد الخليفة الثاني لعقد اتفاقية مع أهلها فاعتدوا عليه بالضرب فلما عرف بذلك عمر رأى أن يجليهم من خيبر لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان» فقال لصحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله من كان له حق عند اليهود فليأخذه ثم أجلاهم من خيبر جزاء كيدهم و تآمرهم المستمر. (المصدر).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:420

أظهرهم انتقاما لمن أصاب من رجالهم.

(1) ففرح سادة قريش لهذا الخبر الكاذب فرحا شديدا، ثم قال الحجاج لهم.

أعينوني على جمع مالي بمكة و على غرمائي فإني أريد أن اقدم خيبر فأصيب من محمّد و أصحابه قبل أن يسبقني التجار الى ما هنا لك فجمعوا له ماله كاسرع ما يكون.

فلما سمع «العباس بن عبد المطلب» هذا الخبر جاء الى الحجاج و قال يا حجاج ما هذا الخبر الذي جئت به، فأشار الحجاج إلى العباس بأنّه سيخبره بحقيقة الأمر، ثم التقى العباس خفية و أخبره بأنه ماكر أهل مكة، و أنّ النبي ظفر بيهود خيبر، و طلب من العباس أن يكتم ذلك حتى يغادر مكة، و ينجو بنفسه و ماله.

فلما فرغ من جميع ماله كله غادر مكة بسرعة فائقة. (2) فلما مضى على ذلك ثلاثة أيام و اطمأنّ العباس من نجاة الحجاج لبس حلة جميلة، و تعطر و أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فتعجبت قريش لذلك، و ظنت أنه فعل ذلك تجلّدا، فقالت للعباس: يا أبا الفضل هذا و اللّه التجلّد لحرّ المصيبة، قال:

كلا، و اللّه الذي حلفتم به، لقد افتتح «محمّد» خيبر، و ترك عروسا على بنت ملكهم، و أحرز أموالهم و ما فيها، و أصبحت له و لأصحابه.

فقالوا: من جاءك بالخبر.

فقال: الذي جاءكم بما جاءكم (و يعني الحجاج الذي احتال عليهم). و لقد دخل عليكم مسلما، فأخذ ماله، و انطلق ليلحق بمحمّد و أصحابه، فيكون معه.

فغضبت قريش لهذه المكيدة و انزعجت انزعاجا شديدا، و لكن بعد فوات الأوان، و لم يلبثوا أن جاءهم خبر انتصارات المسلمين الساحقة على اعدائهم «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 34، زاد المعاد: ج 2 ص 140، و السيرة النبوية: ج 2 ص 345 و 346.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:421

(1)

45 قصّة فدك

اشارة

كانت «فدك» منطقة خصبة، كثيرة الخير، قرب خيبر، و هي تبعد عن المدينة بما يقرب من (140) كيلومترا، و كانت تعتبر بعد حصون خيبر النقطة الهامة التي يعتمد عليها يهود الحجاز «1».

و قد ملأت القيادة الاسلامية- بعد أن هزم اليهود في خيبر و وادي القرى و تيماء الفراغ الذي حصل في شمال المدينة- بالقوة العسكرية الاسلامية.

و لأجل أن تنهي الوجود السياسي اليهودي في هذه المنطقة التي كانت بمثابة منبع خطر، و بؤرة شغب ضدّ الاسلام، بعثت القيادة الاسلامية سفيرا الى سادة فدك و زعمائها، لمعرفة موقفهم فآثر «يوشع بن نون» الذي كان يرأس سكان تلك المنطقة، الصلح و السلام على الحرب و القتال، و تعهّد بأن يسلّم كل سنة نصف محاصيل فدك الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «2».

و أن يعيش هو و قومه من الآن تحت راية الحكومة الاسلامية، و لا يشاغب و لا يتآمر ضدّ المسلمين، على أن تتعهد الحكومة الاسلامية- في مقابل هذا المبلغ- بتوفير الأمن في المنطقة.

______________________________

(1)

راجع كتاب «مراصد الاطلاع» ج 3 ص 1020 ماده فدك.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 353، امتاع الاسماع: ج 1 ص 331، فتوح البلدان: ص 42.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:422

حكم الاراضي المفتوحة بلا قتال:

(1) و من الجدير بالذكر هنا أن الأراضي التي يسيطر عليها المسلمون بالحرب و القتال تعود ملكيتها الى عامة المسلمين و يكون إدارتها بيد القائد الأعلى للامة.

أما الاراضي التي لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب و لم يسيطر عليها المسلمون بالقتال فتكون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الامام من بعده خالصة، فهو يتصرف فيها كما يشاء و يرى، فله أن يهبها، و له أن يؤجّرها، و من جملة ماله أن يفعل فيها هو أن يهبها لأقربائه فيسدوا بها حاجتهم، و يديروا بها معيشتهم «1».

و على هذا الاساس وهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدكا لابنته الطاهرة فاطمة الزهراء، و قد أريد من إيهاب هذه الارض لها- كما تشهد بذلك القرائن- أمران:

(2) 1- انّ قيادة الامة كانت بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما صرّح النبي بذلك مرارا، ل: «علي بن أبي طالب»، و مثل هذه المسئولية الثقيلة تحتاج و لا شك الى ميزانية كبيرة، فكان لعليّ عليه السّلام أن يصرف من أموال فدك و عائداتها اذا صارت تحت تصرفه اكبر قدر ممكن ليحفظ به ذلك المنصب، و يستطيع القيام بمتطلباته.

و كأنّ جهاز الخلافة- بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدرك هذه الحقيقة، و لهذا عمد منذ الايام الاولى لوفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى انتزاع فدك من أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(3) 2- لقد كان من الواجب أن تعيش ذرية

النبي صلّى اللّه عليه و آله التي كان يتمثل مصداقها الكامل في وحيدة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاطمة الزهراء،

______________________________

(1) و قد طرحت هذه المسألة في الآية 6 و 7 من سورة الحشر و عولجت في الكتب الفقهية في باب الجهاد تحت عنوان «الفي ء» «و الأنفال».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:423

و ابنيها الحسن و الحسين عليهما السّلام بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بصورة تليق بمقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شرفه، و مكانته السامية.

و لهذا الهدف وهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدكا لابنته فاطمة الزهراء عليها السّلام.

(1) يقول المفسرون و المحدّثون الشيعة و بعض علماء السنة انه لما نزل قوله تعالى:

«وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ» «1».

دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ابنته فاطمة و فوّض إليها فدكا «2»، و قد روى هذا الأمر ابو سعيد الخدري و هو من كبار صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و يعترف جميع المفسرين، سنة و شيعة، بان هذه الآية نزلت في حق أقرباء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ابنته الزهراء اظهر و أقوى مصاديق «ذي القربى»، حتى انه كان على بن الحسين السجاد في الشام بعد واقعة كربلاء، و سأله بعض الشاميين عن نسبه، فتلا عليه السّلام الآية المذكورة للتعريف بنفسه، و حيث إن مفاد الآية و المراد بها كان معلوما عند المسلمين كافة قال الشامي متعجبا: و انكم للقرابة الذي أمر اللّه أن يؤتى حقه «3».

(2) و خلاصة القول ان ثمة اتفاقا بين علماء السنة و الشيعة في أن هذه الآية قد نزلت في شأن الزهراء و

ابنيها، نعم هناك خلاف في ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وهب ساعة نزول هذه الآية فدكا لابنته فاطمة، أم لا، و لقد اتفق علماء الشيعة على الشق الأول، و ذهبوا إلى ان النبي صلّى اللّه عليه و آله وهب فدكا عند نزول الآية لفاطمة و وافقهم على ذلك جمع من علماء السنة.

و قد أراد المأمون العباسى (لسبب ما) اعادة فدك إلى بني الزهراء فكتب

______________________________

(1) الاسراء: 26.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 411، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 268، الدر المنثور: ج 4 ص 177.

(3) الدّر المنثور: ج 4 ص 176.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:424

الى المحدث المعروف «عبد اللّه بن موسى» و طلب منه أن يرشده في هذا الامر، فكتب إليه عبد اللّه بن موسى الحديث المذكور الذي يوضح شأن نزول هذه الآية، فاعاد المأمون فدكا الى أبناء الزهراء، و ذريتها «1» فكتب الخليفة العباسي إلى واليه على المدينة يومذاك بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وهب فدكا لابنته فاطمة الزهراء، و هذا أمر مسلم، و لا خلاف فيه بين ابناء الزهراء.

(1) و قد جلس المأمون ذات يوم على كرسي خاص للاستماع إلى مظالم الناس و شكاياتهم، فكانت أول ما أعطي له، رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنه يدافع عن الزهراء، فقرأ المأمون الرسالة و بكى مدة، ثم قال: من هو المحامي عن الزهراء؟ فقام شيخ كبير، و قال: أنا هو ذا، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء الى مجلس حوار و مناظرة بين المأمون و بين ذلك الشيخ، و أخيرا وجد المأمون نفسه مغلوبا محجوجا فأمر رئيس ديوانه بان يكتب كتاب ردّ فدك إلى ابناء الزهراء، فكتب ذلك

الكتاب، و وشحه المأمون بتوقيعه، و في هذه المناسبة قام دعبل الذي حضر ذلك المجلس و أنشأ شعرا هذا مطلعه:

أصبح وجه الزمان قد ضحكابردّ مأمون هاشم فدكا «2» (2) و ليس الشيعة بحاجة- في اثبات ان فدكا كان ملكا طلقا و خالصا للزهراء فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الدلائل المذكورة، لأن الصدّيق الاكبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام قد صرّح بمالكيته بفدك في إحدى رسائله الى واليه على البصرة عثمان بن حنيف اذ قال:

«بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم، و سخت عنها نفوس قوم آخرين و نعم الحكم اللّه» «3».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 411 عند تفسير قوله تعالى: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الاسراء: 27 فتوح البلدان ص 46

(2) شرح ابن أبي الحديد: ج 16 ص 217.

(3) نهج البلاغة: الكتاب 45.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:425

(1)

قصة فدك بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

لقد حرمت ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله العزيزة فاطمة من ملكها الخالص (فدك) بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأغراض سياسية خاصة، و أخرجوا عمالها من تلك الارض، فعمدت إلى إثبات حقّها و استرداد ملكها من جهاز الخلافة عن طريق القانون.

ففي الدرجة الأولى كانت قرية فدك في يدها، و اليد دليل الملك، و لكن جهاز الخلافة طلب منها مع ذلك دليلا على كون فدك ملكها، خلافا لكلّ الموازين القضائية الاسلامية.

إذ لا يطلب من أيّ واحد له يد على شي ء (أي يكون ذلك الشي ء تحت تصرفه) أن يقيم دليلا على ملكيته لذلك الشي ء، و لكن الخلافة لم تعر ليد الزهراء على «فدك» أهمية، بل طالبتها بان تأتي بشاهد على

ملكيته.

و لهذا اضطرت فاطمة الزهراء عليها السّلام إلى ان تأتي للشهادة على ذلك بشخصيّة ذات مكانة هامة كعليّ عليه السّلام و امرأة تدعى أمّ أيمن التي شهد لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأنها من نساء الجنة «1».

(2) و بعتيق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «رباح» حسب رواية البلاذري «2»، و لكن جهاز الخلافة لم يعر اهتماما لشهادة هؤلاء الشهود، و حرم ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ملكها الذي وهبه اياها والدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد كانت «الزهراء» و «علي» و ابناهما الحسن و الحسين عليهم السّلام مطهرين من كل رجس كما صرح بذلك قوله تعالى:

«إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «3».

______________________________

(1) الاصابة: ج 4 ص 432.

(2) فتوح البلدان: ص 44.

(3) الاحزاب: 33، راجع كتاب: آية التطهير في احاديث الفريقين: ج 1 و 2.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:426

و لو أن هذه الآية شملت نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله لكانت فاطمة الزهراء من أوضح مصاديقها قطعا و يقينا، و لكن الخلافة تجاهلت- مع الأسف- حتى هذا الدليل، و اعتبر الخليفة ادعاءها ادعاء غير مشروع.

(1) و في المقابل يرى علماء الشيعة أن الخليفة الاول أذعن في نهاية الأمر لصحة رأى الزهراء و صحة ادّعائها و شرعيّته، و كتب كتابا يصرّح بأن فدكا ملك خالص للزهراء و أعطاها ذلك الكتاب، و لكن رفيق الخليفة و صاحبه لما صادف الزهراء في اثناء الطريق و عرف بأنها حصلت على اعتراف صريح من الخليفة بملكيتها لفدك أخذ منها ذلك الكتاب و اتى به الى الخليفة الاول و قال معترضا على شهادة علي عليه السّلام

و أم أيمن لها: ان عليا يجرّ إلى نفسه و أم أيمن امرأة.

ثم عمد إلى الكتاب فمحاه و خرقه «1».

هذا و يروي الحلبي في سيرته هذه الحادثة بصورة اخرى اذ يكتب قائلا: ان ابا بكر كتب لفاطمة بفدك و دخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها، فقال: ممّا ذا تنفق على المسلمين و قد حاربتك العرب كما ترى، ثم اخذ عمر الكتاب فشقه «2».

(2) ما قاله أحد متكلمي الشيعة، و هو ان أبي الحديد يقول: قلت لمتكلم من متكلمي الاماميّة يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل: و هل كانت فدك إلّا نخلا يسيرا و عقارا ليس بذلك الخطير! فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت جليلة جدا، و كان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، و ما قصد ابو بكر و عمر بمنع فاطمة عنها إلا ألّا يتقوّى عليّ بحاصلها و غلّتها على المنازعة في الخلافة، و لهذا اتبعا ذلك بمنع فاطمة و علي و سائر بني هاشم و بني المطّلب حقّهم في الخمس، فإنّ الفقير الذي لا مال له تضعف همته، و يتصاغر عند نفسه، و يكون مشغولا بالاحتراف و الاكتساب عن طلب الملك و الرئاسة «3».

______________________________

(1) شرح ابن أبي الحديد: ج 16 ص 374.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 391.

(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 236.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:427

(1) و يكتب هذا الكاتب في موضع آخر من كتابه أيضا: سألت علي بن الفارقيّ مدرّس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أ كانت فاطمة صادقة؟ قال:

نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك و هي عنده صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاما

لطيفا مستحسنا مع ناموسه و حرمته و قلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجأت إليه غدا، و ادّعت لزوجها الخلافة، و زحزحته عن مقامه، و لم يكن يمكنه الاعتذار و الموافقة بشي ء، لانه يكون قد اسجل على نفسه على أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة و لا شهود. و هذا كلام صحيح، و ان كان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل «1».

لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأول، و بعد ان قضى علي عليه السّلام و تسلّم معاوية زمام الامر، وزع فدكا بين ثلاثة هم: (مروان بن الحكم و عمرو بن عثمان، و ابنه يزيد).

(2) و لما ولي الأمر «مروان» سيطر على فدك بصورة كاملة، و وهبها لابنه عبد العزيز، و اعطاها عبد العزيز لولده «عمر بن عبد العزيز» «2».

و حيث انه كان حاكما معتدل السيرة بين خلفاء بني أميّة لهذا فان أول بدعة أزاحها كان هو اعادة فدك إلى بني فاطمة، ثم انتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من ايدي بني هاشم، و كانت بأيديهم حتى يوم انقرضت فيه حكومة الامويين.

(3) و قد اضطرب أمر فدك اضطرابا عجيبا ايام الخلافة العباسية، فلما ولي أبو العباس السفاح ردّها على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن، ثم قبضها ابو جعفر من بني حسن، ثم ردّها محمّد المهدي ابنه، على ولد فاطمة عليها السّلام، ثم قبضها موسى الهادي بن المهدي و هارون أخوه، لاسباب سياسيه خاصة، حتى وصل الدور إلى المأمون فردها على الفاطميين اصحابها الشرعيين ضمن تشريفات

______________________________

(1) شرح ابن أبي الحديد: ج 16 ص 284.

(2) شرح ابن أبي الحديد: ج 16 ص 278.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:428

خاصة

و بصورة رسمية.

ثم اضطرب امر فدك من بعده أيضا فربما سلبت من أصحابها و ربما ردّت إليهم. و هكذا تراوحت بين السلب و الرد.

و لقد استغلّت فدك في عهد الامويين و العباسيين في أغراض سياسية بحتة قبل أن تستغلّ في أغراض اقتصادية.

فلقد كان الخلفاء في صدر الاسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية، مضافا إلى انهم انتزعوها من يد عليّ لغرض سياسي و لكن في العصور المتأخرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء و زادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك، و لهذا فان عمر بن عبد العزيز لما أعاد فدكا إلى بني فاطمة احتج عليه بنو أميّة و اعترضوا قائلين: هجّنت فعل الشيخين، و إن أبيت إلّا هذا فامسك الأصل و أقسم الغلّة «1».

(1)

فدك في محكمة التاريخ:

إن دراسة و تقييم ملفّ «فدك» تثبت بوضوح أن منع ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حقها المشروع كان عملا سياسيا بحتا، أي إنه ما كان يستند إلى أي مبرر شرعي مطلقا، و ان المسألة كانت أوضح من أن تخفى على خليفة العصر.

و قد أوضحت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السّلام هذه الحقيقة في خطابها الساخن البليغ اذ قالت:

هذا كتاب اللّه حكما عدلا و ناطقا فصلا يقول: و يرثني و يرث من آل يعقوب «2» و ورث سليمان داود «3» و بيّن عزّ و جلّ في ما وزّع من الأقساط و شرع من الفرائض و الميراث» «4».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 16 ص 278.

(2) مريم: 6.

(3) النمل: 16.

(4) الاحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 145.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:429

إن البحث حول دلالة الآيتين على وراثة أبناء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنه، و الحديث الذي

رواه الخليفة وحده يوجب اطالة الكلام، و في امكان من يحبّ التوسع ان يراجع كتب التفسير المفصلة.

(1)

السيطرة على وادي القرى:

ان النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يضع نهاية لنشاط القوى المضادة للاسلام في هذه المنطقة (خيبر) فقط بل رأى ان يتوجه الى وادي القرى التي كان يشكل مركزا آخر من مراكز اليهود. فحاصر بنفسه حصونهم عدة أيام، حتى فتحها، ثم عقد بعد الفتح معاهدة مع أهلها على غرار معاهدة «خيبر».

و بهذا طهرت أرض الحجاز من فتنة اليهود الاوغاد، و قد جرّدوا من اسلحتهم و وضعوا تحت حماية المسلمين و مراقبتهم الدقيقة «1».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 150.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:430

(1)

46 عمرة القضاء «1»

اشارة

كان يحق للمسلمين بعد التوقيع على معاهدة صلح الحديبية أن يدخلوا بعد عام واحد من تاريخ يوم التوقيع مكة، ثم يغادروها بعد ثلاثة ايام يقيمون فيها شعائر العمرة و كان عليهم بموجب الاتفاق أن لا يحملوا معهم إلّا سلاح الراكب: السيف في القرب، ليس غير.

و الآن مضى عام واحد على يوم التوقيع على المعاهدة المذكورة، و آن الاوان ليستفيد المسلمون من هذه المادة في تلك الاتفاقية، و ان يتوجه المسلمون المهاجرون الذين مضى عليهم سبعة أعوام ابتعدوا فيها عن بيوتهم و وطنهم و مسقط رءوسهم، و رجّحوا الحياة في الغربة، و تحمل متاعبها على العيش في الوطن للمحافظة على عقيدة التوحيد.

يتوجه مثل هؤلاء مرة اخرى إلى زيارة بيت اللّه الحرام و لقاء الاحباب و الأقرباء و تفقّد المنازل و البيوت التي ولدوا فيها و ترعرعوا في رحابها.

______________________________

(1) العمرة أعمال خاصة و مناسك معينة يمكن للمرء الاتيان بها طوال اشهر السنة على العكس من أعمال الحج التي يجب أداؤها فقط في شهر ذي الحجة و قد توجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مكة في يوم الاثنين السادس من شهر ذي

القعدة من السنة الهجرية السابعة. و سميت هذه العمرة عمرة القضاء لانها كانت بدلا عن العمرة التي منع النبيّ و المسلمون عنها في عام الحديبية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:431

(1) و لهذا عند ما أعلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بان يستعد من حرم من العمرة في العام الماضي للعمرة، دب شوق عجيب في نفوس المسلمين، و اغرورقت دموع الفرح في عيونهم، فخرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألفا شخص بدل ألف و ثلاثمائة و هم عدد الذين خرجوا معه في السنة الماضية.

و كان بين الخارجين مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع كبير من شخصيات المهاجرين و الأنصار البارزة الذين كانوا يلازمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طول سيره ملازمة الظل لصاحب الظل.

و ساق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه العمرة ستين بدنة و قد قلّدها «1»، و أحرم من مسجد المدينة و اتبعه الآخرون، و خرج ألفان و هم يلبّون مرتدين أثواب الاحرام يقصدون مكة.

و لقد كان هذا الموكب العظيم من الجلال و المغزى المعنوي بحيث لفت نظر الكثير من المشركين إلى حقيقة الاسلام و معنويته الرائعة.

(2) و لو قلنا: ان هذا السفر كان- في حقيقته- سفرا تبليغيا، و ان المشتركين فيه كانوا- في حقيقة الامر- طلائع التبليغ و الدعوة لما قلنا جزافا، فان آثار هذا السفر المعنوى ظهرت للتو فقد انبهر بمنظر سلوكهم و عبادتهم و نظامهم الد أعداء الاسلام أمثال «خالد بن الوليد» بطل معركة أحد و عمرو بن العاص داهية العرب فرغبوا في الاسلام، و أسلموا بعد قليل.

و حيث ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن آمنا من

غدر قريش فقد كان يحتمل أن يباغتوه و يباغتوا أصحابه في أرض مكة، و يسفكوا دماء جماعة

______________________________

(1) البدنة الناقة تنحر بمكة و الجمع بدن و تقليد البدنة أن يجعل في عنقها نعلا فيعلم أنها هدي.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:432

منهم و هم لا يحملون معهم إلّا سلاح الراكب اذ لم يكن مسموحا للمسلمين- حسب المعاهدة- أن يأخذوا معهم سلاحا غير ذلك.

(1) من هنا عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحسبا لأي طارئ إلى تكليف مائتي رجل من المسلمين بالتسلح الكامل، و أمرّ عليهم «محمّد بن مسلمة» و حملهم على مائة فرس سريع، و أمرهم بالتوجه صوب مكة أمام القافلة الكبرى، و الاستقرار في منطقة «مرّا لظهران» قرب الحرم، ينتظرون ورود رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من معه.

فعرف عيون قريش الذين كانوا يراقبون تحركات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقضية الفرسان المسلّحين المائتين، و استقرارهم في وادي «مرّ الظهران»، و أخبروا سادة قريش بالأمر.

(2) فبعثت قريش «مكرز بن حفص» الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليكلموه في هذا الإجراء فاتى مكرز الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّمه اعتراض قريش و انه تعهّد- قبل ذلك- أن لا يدخل مكة إلّا بسلاح المسافر.

فأجابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

«لا ندخلها إلّا كذلك و لكن يكون هؤلاء قريبين منا».

و قد أفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكرزا بهذه العبارة بأن قريش لو استغلّت عدم حمل النبي و اصحابه للسلاح الثقيل فباغتتهم أدركتهم هذه القوة الاحتياطية المسلحة القوية المستقرة على مقربة من الحرم، و مدّوهم بالسلاح و العتاد.

فعاد «مكرز» و اخبر قريشا بما سمع من رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله فادركت قريش حنكة رسول الاسلام و بعد نظره، و حسن تقديره للامور،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:433

ففتحت أبواب مكة في وجه المسلمين، و خرج رءوس المشركين و أهلوهم و من تبعهم الى رءوس الجبال، و خلّوا مكة، و قالوا: لا ننظر إلى محمّد و لا إلى اصحابه، و لكنهم كانوا يراقبون المشهد من بعيد!! «1»

(1)

النبي يدخل مكة:

دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو على راحلته القصواء و أصحابه متوشحو السيوف محدقون به يلبّون و هم ألفان، فدوّى صوتهم الموحّد بالتلبية في أرجاء مكة، و كانت نغمة هذه التلبية الكبرى من الجلال و الجمال بحيث بهرت كل سكان مكة، و سحرت قلوبهم و عطفها نحو المسلمين، و في نفس الوقت أرعب اتّحاد المسلمين، و نظامهم، و التفافهم حول النبي قلوب المشركين، و لم يقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تلبيته حتى استلم الركن.

فلما انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى البيت و هو على راحلته و ابن رواحة آخذ بزمامها و قد صف له المسلمون حين دنا من الركن حتى انتهى إليه، استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه على راحلته انشد عبد اللّه بن رواحة يقول:

خلّوا بني الكفّار عن سبيله إني شهدت أنه رسوله

حقا و كل الخير في سبيله نحن قتلناكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله

و يذهل الخليل عن خليله «2»

(2) و طاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالبيت المعظم على راحلته، و هنا أمر

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 337 و 338.

(2) زاد المعاد: ج 2 ص 152.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:434

صلّى اللّه عليه و آله ابن رواحة ان يردّد هذا الدعاء بلحن و نغم خاص؛

و ان يتبعه المسلمون:

«لا إله إلّا اللّه وحده وحده، صدق وعده، و نصر عبده و اعز جنده، و هزم الاحزاب وحده».

(1) كانت مكة بجميع مشاعرها في ذلك اليوم تحت تصرف المسلمين، المسجد، الكعبة، الصفا، المروة، و غيرها. و قد كانت هذه الشعارات التوحيدية الساخنة في مكان كان طوال سنين مديدة مركزا للوثنية، و الشرك توجّه ضربات روحية قوية إلى نفسيّة سادة المشركين، و أتباعهم، ممّا كان يوحي بغلبة «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله على كل أرجاء الجزيرة العربية حتما و يقينا.

و لما قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نسكه دخل البيت فلم يزل فيه حتى حان الظهر، فصعد بلال الذي طالما عذّب في هذا البلد بسبب اسلامه فوق ظهر الكعبة بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و اذّن لصلاة الظهر.

و لقد كان لهذا المنظر مردود عجيب في نفوس المشركين فبلال واقف في نقطة طالما عدّت فيها الشهادة بالتوحيد و برسالة محمّد، ذنبا لا يغتفر، و جريمة لا ينجو صاحبها من العذاب، يردد و يردد معه المسلمون ما يردّد من فصول الأذان فصلا فصلا في خشوع و روحانية بالغة.

(2) لقد أزعج أذان بلال المشركين و اعداء التوحيد، حتى قال «صفوان بن أميّة»: الحمد للّه الذين أذهب أبي قبل أن يرى هذا، و قال خالد بن اسيد:

الحمد للّه الذي أمات أبي و لم يشهد هذا اليوم، و لم يسمع هذا العبد الحبشيّ يقول ما يقول.

و اما «سهيل بن عمرو» فانه لما سمع تكبير بلال غطّى وجهه بمنديل.

إنهم لم ينزعجوا من صوت «بلال» بل أحرجتهم مضامين فصول الأذان التي كانت ضدّ ما يحملونه من المعتقدات الباطلة الموروثة، و جعلتهم يعانون بسبب

سيد المرسلين ،ج 2،ص:435

ذلك

من عذاب روحي شديد.

(1) ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين أراد السعي بين الصفا و المروة سمع بأن قريشا تحدثت بينها أن محمّدا و أصحابه في عسرة و جهد و شدة، و ان الذين هاجروا معه الى المدينة مرضى، و أنهم صفّوا له عند دار الندوة لينظروا إليه و إلى أصحابه، فهرول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هرولة في المكان المعلّم الآن في المسعى، و تبعه المسلمين و قد قال لهم قبل ذلك.

«رحم اللّه امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة» «1».

و ذلك ليبطل ما اشاعته قريش حول المسلمين المهاجرين من الضعف و الهزال بسبب ظروف المهجر. و هذا إن دل على شي ء فانما يدل على امرين:

أولا: جواز القيام بالأعمال السياسية في موسم الحج.

ثانيا: ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان حذرا جدا فكان يبطل كل خطط العدو أولا بأول.

يقول صاحب زاد المعاد: أمر النبي بذلك ليرى المشركون جلدهم و قوتهم، و كان يكايدهم (أي يبطل كيدهم) بكل ما استطاع «2».

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن فرغ من السعي نحر البدن، ثم قصّر من شعره، ثم خرج من إحرامه، و تبعه المسلمون في كلّ ما فعل.

ثم أمر صلّى اللّه عليه و آله مائتين من أصحابه بعد أن طافوا بالبيت و انتهوا من مناسك العمرة ان يذهبوا إلى أصحابه بمرّ الظهران فيقيموا على السلاح فيأتي الآخرون فيقضوا مناسكهم، ففعلوا.

(2) انتهت أعمال العمرة و نسكها، و ذهب المهاجرون إلى منازلهم التي هجروها قبل سبعة أعوام، ليجدّدوا اللقاء بذويهم و أقربائهم بعد طول فراق، و استضافوا

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 309 و راجع نظيره في زاد

المعاد: ج 2 ص 152.

(2) زاد المعاد: ج 2 ص 152. و لنا مقال مفصل في هذا المجال تحت عنوان الحج عبادة و سياسة نشر في مجلة الشهيد فراجع.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:436

جماعة من الأنصار في بيوتهم وفاء لجميلهم و تقديرا لخدماتهم حين قدموا عليهم المدينة بعد الهجرة، فأسكنوهم و اكرموهم في منازلهم و خدموهم سنينا عديدة.

(1)

النبي يغادر مكة:

تركت أحوال المسلمين و أوضاع الاسلام و جلال الموكب النبوي و عظمته أثرا بليغا و عجيبا في نفوس سكان مكة المشركين، فقد تعرفوا على نفسية المسلمين النبيلة الطيبة في هذه الزيارة اكثر من أي وقت مضى و كاد ذلك أن «يفعل» فعلته، و يحدث انقلابا روحيا في تلك البيئة.

و لما رأى زعماء المشركين أن توقف النبي و أصحابه في مكة سيؤثر في عقائد أهل مكة و يضعف تمسكهم بوثنيتهم، و يوجد علاقات المحبة بينهم و بين المسلمين، لهذا بعثوا أحدهم و هو حويطب الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- بعد انقضاء المدّة المقرّرة للاقامة في مكة في المعاهدة- ليطلب منه مغادرة مكة قائلا:

انه قد انقضى اجلك فاخرج عنا.

فانزعج بعض أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله من مقالة مبعوث قريش هذا، و لكن النبي لم يكن بالذي يخالف ما تعهّد به، و لهذا أمر بأن ينادى في المسلمين بالرحيل فترك هو و المسلمون مكة فورا.

(2) و لقد تأثرت «ميمونة» اخت أمّ الفضل زوجة العباس، بما شهدت من مشاعر المسلمين و روحانيتهم فأرسلت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن طريق عمّها العباس أنها ترغب في الزواج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فوافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1» و تزوجها، و بهذا

قوّى علاقاته مع قريش.

ان رغبة فتاة في الزواج بمن يكبرها بسنين عديدة لدليل واضح على مدى التأثير الروحي و المعنوي الذي تركه النبي و المسلمون في النفوس حتى أن النبي

______________________________

(1) حياة محمد: ص 401.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:437

صلّى اللّه عليه و آله لما طلب من مبعوث قريش بأن يمهلوه بعض الوقت ليعرس بين أظهرهم، و يصنع لهم طعاما يحضروه، أبوا امهاله خوفا من تعاظم تأثيره في النفوس، و قالوا له: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا «1».

(1) فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يخرج المسلمون من مكة في منتصف النهار و لم يبق بمكة إلى وقت الظهر، و خلّف ابا رافع ليحمل إليه زوجته «ميمونة» حين يمسي، فأقام أبو رافع حتى أمسى، فخرج بميمونة و من معها فلقوا عناء من سفهاء المشركين، و لاموا «ميمونة» على فعلها، و لكن كلامهم لم يؤثر قط في نفسها، فقد رغبت في الزواج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدافع الرغبة في خلقه و سموّ أخلاقه.

و هكذا تحققت رؤيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الصادقة التي رآها قبل سنة واحدة بأنه دخل البيت، و حلق راسه، و نزلت بعد هذه الوقائع الآية 27 من سورة الفتح تتحدث عن تحقق هذا الوعد حيث أخبرت ضمنا عن فتح قريب،- هو فتح مكة- الذي تحقق في السنة الثامنة من الهجرة اذ يقول سبحانه:

«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 372، تاريخ الخميس: ج 2 ص 62- 65. سيد المرسلين

ج 2 437 النبي يغادر مكة: ..... ص : 436

(2) الفتح: 27.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:438

(1)

احداث السنة الثامنة من الهجرة

47 معركة مؤتة

اشارة

انقضت السنة الهجرية السابعة، و استطاع المسلمون بفضل معاهدة صلح الحديبية ان يزوروا معا بيت اللّه المعظم و يعتمروا في أمان، و يردّدوا في مركز حكومة الوثنيين شعارات قوية لصالح عقيدتهم التوحيدية إلى درجة انهم استطاعوا ان يستميلوا نحو الاسلام قلوب جماعة من سراة قريش و زعماء المشركين امثال «خالد بن الوليد»، «و عمرو بن العاص» «1» و «عثمان بن طلحة»، فلم يلبثوا أن جاءوا طائعين راغبين الى المدينة، و اعتنقوا الاسلام و قطعوا علاقاتهم بحكومة مكة الوثنية المشركة التي لم يبق منها إلّا جسم من دون روح، و هيكل من دون حياة «2».

(2) و ذكر بعض المؤرخين اسلام خالد او ابن العاص في السنة الخامسة من الهجرة.

و لكن هذا غير صحيح قطعا لأن «خالدا» كان يقود في الحديبية مائتين من فرسان قريش، و نحن نعلم أن اسلام هذين الرجلين تمّ في وقت واحد.

كان ثمت أمن نسبيّ يسود اكثر مناطق الحجاز في أوائل السنة الثامنة، و كان نداء الاسلام قد وصل إلى اكثر النقاط و لم يبق من نفوذ اليهود شي ء، و لم

______________________________

(1) لقد ذكر الواقدي في مغازيه: ج 2 ص 743 و 745 علة اسلام عمرو بصورة اخرى.

(2) الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 4 ص 252- 261.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:439

تعد قريش تهدّد المسلمين من ناحية الجنوب، و لهذا فكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أن يركز دعوته على سكان المناطق الحدودية للشام، و يستميل الى الاسلام قلوب اولئك الاقوام التي كانت في تلك الايام تعاني من ظلم السلطات الروميّة.

(1) و لهذا الغرض وجّه «حارث بن عمير الازدي» مع كتاب

إلى «الحارث بن أبي شمر الغساني» ملك «بصرى» الذي كان حاكم الشامات المطلق يومذاك، و كان يحكم من جانب قيصر.

فلما نزل مبعوث النبي «مؤتة» عرف به شرحبيل و كان حاكم المناطق الحدودية، فقبض عليه، و حقق معه، فاعترف له بانه يحمل كتابا من جانب رسول الاسلام إلى حاكم الشامات المطلق (الحارث الغساني)، فأمر بان يوثق و قدمه و ضرب عنقه صبرا مخالفا بذلك كل الأعراف العالمية القاضية باحترام السفراء و حصانتهم.

فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك و غضب لمقتل رسوله بشدّة و ندب الناس فأخبرهم بمقتل سفيره و من قتله، و دعا المقاتلين المسلمين الى الخروج للاقتصاص من قاتل «الحارث».

(2)

حادثة أفجع من السابقة:

و اتفق أن وقعت في نفس الايام حادثة اخرى افجع من الأولى، أكّدت عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على تأديب سكان المناطق الحدودية الشامية الذين سلبوا دعاة الاسلام حرية العمل و الدعوة، و قتلوا دون رحمة، و عذرا سفير النبي، و جماعة الدعوة و التبليغ و إليك مفصل الحادثة الثانية:

بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شهر ربيع الاول سنة ثمان من الهجرة على رأس خمسة عشر رجلا إلى منطقة «ذات أطلاح» من ارض الشام، خلف وادي القرى لدعوة الناس الى الاسلام، فخرجوا حتى انتهوا إلى تلك

سيد المرسلين ،ج 2،ص:440

المنطقة فدعوا أهلها إلى الاسلام فلم يستجيبوا لهم، و رشقوهم بالنبل فلما رأى أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله ذلك قاتلوهم اشدّ القتال، حتى قتلوا مؤثرين عز الشهادة على ذل الأسر، و افلت منهم رجل جريح من القتلى، فلما جنّ الليل تحامل حتى اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاخبره الخبر فشق ذلك على رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله.

(1) فتسبّب العدوان على دعاة الاسلام و قتلهم في ان يصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرا بالخروج إلى الجهاد في شهر جمادى، و وجّه جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لتأديب المتمردين، و مزاحمي دعاة الاسلام.

فتجمع ثلاثة آلاف بعد الاذان بالجهاد في معسكر خارج المدينة يدعى «الجرف» فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه الى ذلك المعسكر، و خطب في المقاتلين خطابا، هذا نصه:

«اغزوا بسم اللّه ادعوهم الى الاسلام فإن فعلوا فاقبل منهم و اكفف عنهم و الّا فقاتلوا عدوّ اللّه و عدوّكم بالشام، و ستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين الناس، فلا تعرضوا لهم، و ستجدون آخرين للشيطان في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، و لا تقتلنّ امرأة و لا صغيرا مرضعا و لا كبيرا فانيا، لا تغرقنّ نخلا و لا تقطعنّ شجرا، و لا تهدموا بيتا» «1».

(2) ثم قال: جعفر بن أبي طالب أمير الناس، فان قتل فزيد بن حارثة، فان اصيب زيد فعبد اللّه بن رواحة فإن اصيب عبد اللّه بن رواحة فليرتضى المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم.

ثم امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المقاتلين بالتحرك نحو الهدف، و خرج فشيّعهم مع جماعة من اصحابه حتى «ثنية الوداع» و هناك ودّعهم و كان المسلمون المشيعون يقولون: دفع اللّه عنكم وردكم سالمين غانمين، صالحين.

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 757 و 758.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:441

و لكن ابن رواحة أجابهم قائلا:

لكنّني أسأل الرحمن مغفرةو ضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حرّان مجهزةبحربة تنفذ الاحشاء و الكبدا

حتى يقال إذا مرّوا على جدثي يا أرشد اللّه من غاز و قد رشدا «1».

(1) و أنت أيها القارئ الكريم يمكنك أن

تعرف من خلال هذه الابيات عمق ايمان هذا الفارس القائد و حبه للشهادة في سبيل اللّه.

ثم ان الناس رأوا عبد اللّه بن رواحة لما ودع من ودع بكى، فقالوا ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما و اللّه ما بي حب الدنيا، و لا صبابة بكم و لكني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقرأ آية من كتاب اللّه عزّ و جلّ يذكر فيها النار:

«وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» «2».

فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود «3».

(2)

خلاف حول من هو الامير الاول؟

لقد كتب بعض المؤرخين: أن الامير الاول كان هو زيد بن حارثة ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالتبني، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد اللّه بن رواحة، و لكن محققي الشيعة يرون عكس هذا فهم يعتبرون جعفر بن أبي طالب قائد الجيش و زيدا و عبد اللّه معاونين أو خليفتين له على الترتيب فيجب ان نرى أي الرأي يوافق الحقيقة.

لتحصيل الحقيقة في هذا المجال هناك طريقان:

(3) 1- ان زيد بن حارثة لم يكن يعادل من ناحية التقوى و العلم و المكانة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 60، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 128.

(2) مريم: 71.

(3) السيرة النبوية: ج 2 ص 374.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:442

الاجتماعية جعفر بن أبي طالب (جعفر الطيار).

يقول ابن الاثير عنه: جعفر بن أبي طالب كان اشبه الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خلقا و خلقا، أسلم بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. روي أن أبا طالب رأى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و عليا رضي اللّه عنه يصليان و عليّ عن يمينه، فقال لجعفر: صل جناح ابن عمك و صلّ عن يساره «1».

(1)

و جعفر رأس المهاجرين إلى الحبشة الذين هاجروا إليها حفاظا على دينهم و عقيدتهم من الفتنة و هو الذي استمال قلب النجاشي بما تكلم به عنده من الحجة وقرا عليه آيات من القرآن عن المسيح عليه السّلام و أمه مريم، و اثبت كذب مبعوثي قريش لاستعادتهم إلى ارض الحجاز، و هو الذي وفق لأن يخطب ودّ النجاشي و يكسب حمايته للمهاجرين الملاحقين إلى درجة أنه طرد مندوبي قريش «2».

ان جعفرا هو الشخصية البارزة التي لما رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم خيبر و قد عاد من الحبشة مشى إليه (12) خطوة و عانقه و ضمه و قبّل ما بين عينيه و بكى من فرط الشوق إليه و قال في حقه:

«بايهما اسرّ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر».

(2) إنه هو ذلك الرجل العظيم الذي كان يذكر عليّ عليه السّلام، بعد استشهاده شجاعته و بسالته، فعند ما سمع عليّ عليه السّلام بمبايعة عمرو بن العاص لمعاوية، و تقرّر أن يوكل معاوية حكومة مصر إلى عمرو إذا غلبا عليا، غضب عليّ عليه السّلام من هذا الامر و تذكر شجاعة عمّه حمزة و أخيه جعفر و قال:

لو أنّ عندي يا ابن حرب جعفرااو حمزة القرم الهمام الازهرا

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 1 ص 287.

(2) اسد الغابة: ترجمة جعفر بن أبي طالب، و غيره من المصادر في هذا المجال.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:443 رأت قريش نجم ليل ظهرا «1». فهل مع هذه المواصفات و الجهات التي نقلنا قسما منها هنا فقط يجيز العقل أن يفوّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قيادة القوات إلى زيد و يجعل جعفر معاونه او خليفته الاول.

(1) 2- ان الأشعار التي انشدها شعراء الاسلام

الافذاذ في رثاء هؤلاء القادة بعد استشهادهم حاكية عن ان القائد الاعلى في هذه المعركة الكبرى (مؤتة) كان «جعفر» و كان أمر المعاونة و الخلافة يرتبط بالرجلين الآخرين، فهذا «حسان» شاعر عصر الرسالة انشد شعرا بعد أن بلغه استشهاد اولئك القادة بصورته المفجعة قال فيه:

فلا يبعدن اللّه قتلى تتابعوابمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

و زيد و عبد اللّه حين تتابعواجميعا و أسباب المنية تخطر «2» فكلمة تتابعوا تشهد بجلاء على أن مقتل هؤلاء القادة الذين ذكرهم تمّ على النحو الذي جاء ذكرهم، يعنى أن جعفرا كان اول الشهداء ثم تلاه في قيادة الجيش الاسلامي ثم الشهادة زيد، ثم ابن رواحة.

(2) و ان اوضح الادلة على ذلك قصيدة «كعب بن مالك» في رثاء شهداء مؤتة، التي يصرح فيها بان جعفر كان هو القائد الأول، و قد كان صاحب هذه الأبيات ممن شاهد تفويض أمر القيادة العليا للجيش من جانب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى جعفر.

يقول كعب في قصيدته:

إذ يهتدون بجعفر و لوائه قدّام أوّلهم فنعم الأول «3» إن هذه القصائد الرثائية التي انشدت في أعقاب استشهاد اولئك القادة، و سلمت من يد التحريف اقوى شاهد على ان ما كتبه مؤرّخو السنّة حول هذا

______________________________

(1) وقعة صفين: ص 49.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 384.

(3) السيرة النبوية: ج 2 ص 386.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:444

المطلب يخالف الحقيقة، و أن الرواة اختلقوا هذا الترتيب لدوافع و أغراض سياسية لا مجال لذكرها، و بيانها هنا، و قد تبعهم في ذلك كتّاب السيرة و ادرجوه في كتبهم من دون تمحيص و تحقيق.

و العجب أن ابن هشام الذي نقل كل هذه الابيات و القصائد قال: ان جعفر كان المعاون الأول لزيد بن حارثة،

و ليس القائد الأعلى للجيش، و هو كما ترى تناقض مكشوف «1».

(1)

جيشا الروم و الاسلام يتواجهان:

كانت «الروم» قد اصيبت يومذاك- نتيجة الحروب العديدة و الطويلة مع منافستها ايران- بالفوضى، و الهرج و المرج الشديدين.

فمع ان قادة الروم كانوا سكارى من نشوة الانتصار على ايران إلّا أنهم قد بلغهم شي ء كثير عن شجاعة المسلمين و بسالتهم النابعة من إيمانهم و التي كسبوا عن طريقها أمجادا عظيمة، و كانوا يراقبون على الدوام تحرك جنود الاسلام و نشاطاتهم العسكرية.

و لهذا لما بلغ هرقل قيصر الروم بموعد توجه جنود الاسلام الى ناحية الشام لتاديب عميله شرحبيل الغساني، أرسل جيشا عظيما و قويا لمواجهة جنود الاسلام البالغ عددهم ثلاثة آلاف.

و قد اعدّ «شرحبيل» حاكم ارض الشام وحده مائة ألف فارس من مختلف القبائل القاطنة في الاراضي الشامية و وجهه الى حدود الشام لإيقاف تقدم الجيش الاسلامي، و قد أعدّ قيصر قبل ذلك مائة ألف جندي رومي فنزل في منطقة تدعى «مآب» من مدن البلقاء، و استقرّ هناك كقوة احتياطيّة تتدخل عند اللزوم «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 380.

(2) المغازي: ج 2 ص 760، السيرة النبوية: ج 2 ص 375.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:445

(1) و لقد كان تجميع هذا القدر الهائل من الجنود و المقاتلين لمواجهة جيش يقلّ عددا بكثير عن هذا القدر نابعا من الانباء التي بلغت قادة الروم و الشام عن فتوحات المسلمين و انتصاراتهم الساحقة، و عن الوقوف على شجاعتهم و بسالتهم التي ذاع صيتها، و إلّا فان عشر هذا العدد، (أي عشرون ألف) يكفي لمواجهة ثلاثة آلاف مقاتل مهما كانت شجاعة هؤلاء.

كما أنه لدى المقارنة بين العسكرين كان الجيش الاسلامي أضعف من جيش الروم بكثير، سواء من ناحية العتاد، أو من

ناحية المعرفة بفنون القتال و تكتيكاته العسكرية، لان القادة العسكريين الروم كانوا قد كسبوا خبرة حربية واسعة نتيجة المشاركة في الحروب العديدة و الطويلة التي دارت بين الروم و بين ايران، و عرفوا بالتالي مفاتيح الانتصار، بينما كانت معلومات الجيش الاسلامي الناشئ معلومات بدائية و بسيطة في هذا المجال.

هذا مضافا إلى عدم وجود التكافؤ بين الجيش الاسلامي و الجيش الروماني في نوعية المعدّات الحربية و الاجهزة القتالية و وسائل النقل و ما شابه ذلك.

و فوق هذا و ذلك فان القوّة الاسلامية كانت تحارب في أرض غريبة عليها، و تقوم بدور المهاجم، بينما كان الرومان يقاتلون في بلادهم دفاعا و هم يتمتعون بجميع مستلزمات القتال و متطلبات الحرب.

و في مثل هذه الحالة يجب ان تكون القوة المهاجمة قوية جدا، بحيث يمكنها ملاقاة سلبيات الظروف غير المساعدة.

و مع هذا فإننا سنرى عما قريب كيف أن قادة الجيش الاسلامي قاوموا و آثروا الصمود و القتال على الهروب و الفرار مع انهم كانوا يرون الموت على بعد أقدام معدودة منهم، و بهذا أضافوا إلى أمجادهم أمجادا اخرى، و سطروا اسطرا اخرى في سجلّ بطولاتهم.

(2) منذ أن ورد المسلمون المناطق الحدودية للشام عرفوا باستعدادات العدوّ العريضة، و حجم قدراته العسكرية الواسع فشكّلوا من فورهم شورى عسكرية

سيد المرسلين ،ج 2،ص:446

فقال البعض: نكتب الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنخبره الخبر، فإما يردنا و إما يزيدنا رجالا. و كاد هذا الرأى ان يلقى قبولا من المشاورين الآخرين لو لا أن «عبد اللّه بن رواحة» الذي طلب ساعة خروجه من المدينة من اللّه ان يرزقه الشهادة كما اسلفنا، شجعهم على الصمود و قال: «و اللّه ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، و

لا بكثرة سلاح، و لا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا اللّه به، انطلقوا، و اللّه لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلّا فرسان، و يوم احد فرس واحد، و إنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم، فذلك ما وعدنا اللّه و وعدنا نبينا، و ليس لوعده خلف، و إما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان».

(1) فقوّت هذه الخطبة الحماسية الصادقة معنويات المقاتلين المسلمين و بثت فيهم روح البسالة و المقاومة.

ثم تواجه الجيشان في منطقة تدعى «مشارف» و لكن جنود الاسلام تأخروا و انسحبوا قليلا لبعض العلل، و نزلوا في مؤتة. فقسم جعفر بن أبي طالب قائد الجيش، جنود الاسلام إلى اقسام: مختلفة، و أمّر على كل قسم اميرا، ثم بدأت المبارزة الفردية على نحو ما كان متعارفا في حروب العرب، فكان على جعفر ان ياخذ اللواء بيده و يوجّه صفوف المقاتلين المسلمين، و يقاتل في نفس الوقت.

ثم اننا نكتشف مدى الشجاعة الروحية و ثبات الارادة لتحقيق الهدف من خلال الرجز الذي أنشده «جعفر» خلال القتال فقد أخذ يرتجز و يقول:

يا حبّذا الجنة و اقترابهاطيبة و باردا شرابها

و الروم روم قد دنا عذابهاكافرة بعيدة أنسابها

عليّ إذ لاقيتها ضرابها «1»

(2) و لقد قاتل قائد الجيش الاعلى (جعفر) قتالا عظيما، فلما حاصره الأعداء في ساحة القتال و أيقن بالشهادة وثب الى الارض ثمّ عقر فرسه في الحال لكي

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 378.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:447

لا ينتفع به العدوّ و اخذ يقاتل، و هو آخذ باللواء بيمينه، فقطعت يمينه فاخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى لا يسقط لواء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الأرض حتى قتل و قد وجد به ثمانون جراحة او

تزيد!! «1».

فلما قتل «جعفر» أخذ الراية «زيد بن حارثة» معاونه الاول فقاتل ببسالة عظيمة حتى قتل برماح القوم.

فاخذ الراية «عبد اللّه بن رواحة» معاونه الثاني، ثم تقدّم بها و هو على فرسه، فجعل يقاتل و يرتجز، فاحسّ بالجوع أثناء القتال، و ألحّ عليه، فاتاه رجل بعرق من لحم ليزيل به جوعه و يشدّ به صلبه، فلم يأكل منه شيئا حتى سمع صوت هجوم العدوّ، فالقى الطعام من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.

(1)

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة:

و هنا بدأت حيرة المقاتلين المسلمين، فقد قتل القائد الأعلى للجيش و معاوناه و على الترتيب الذي ذكر.

و لكن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان قد تحسّب لهذه الحالة، و ترك أمر اختيار القائد في مثل هذا الوضع إلى الجنود انفسهم، فأخذ الراية «ثابت بن أقرم» و قال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح على «خالد بن الوليد» الذي كان حديث عهد بالاسلام آنذاك.

و لقد كانت الساعة التي انيط فيها القيادة الى خالد ساعة خطيرة و حساسة جدا، حيث قد تغلّب الخوف و الرعب على المسلمين كافة.

فعمد القائد الجديد إلى استخدام تكتيك عسكري لم يعرف له مثيل، فقد

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 761. و قد اثابه اللّه بذلك جناحين في الجنة يطير بهما في الجنة و سمى في ما بعد بجعفر الطيار، راجع السيرة النبوية: ج 2 ص 378.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:448

امر بالعسكر إذا جنّ الليل أن يحدث بعض التغييرات في صفوفه من دون ضجيج فتنتقل الميسرة الى الميمنة، و الميمنة الى الميسرة، و تتأخر المقدمة الى مكان القلب، و يتقدم القلب الى موضع المقدمة. ففعل المسلمون ذلك، و استمرّت هذه التغييرات

حتى طلوع الفجر.

(1) كما أنه امر جماعة من المسلمين المقاتلين أن يخرجوا من الجيش ليلا، و يذهبوا إلى مكان بعيد فاذا اسفر الصبح التحقوا بالمسلمين سريعا و هم يكبّرون حتى يظن العدوّ وصول امدادات عسكرية بشرية جديدة الى المقاتلين المسلمين و قد تسبب هذا التكتيك بنفسه في أن يحجم الجيش الكافر عن مهاجمة المسلمين و استئصالهم، بعد ان قتل خيرة قادتهم.

فلما كان الصبح و رأى العدو وجوها جديدة، كما رأوا إمداد المسلمين بمجموعة عسكرية جديدة قالوا: قد جاءهم مدد. فرعبوا و انهزموا فقاتلهم المسلمون، و قتلوا منهم مقتلة عظيمة، و قتل في هذا الاثناء أحد الجنود المسلمين.

ثم ساد الموقف صمت رهيب، فاستفاد من هذا الصمت و الأمن الذي كان يخيم على الجيش فرجعوا من حيث اتوا.

إن اكبر انتصار للمسلمين هو ان قوة قليلة محدودة واجهت جيشا عظيما منظما ثلاثة أيام، و بالتالي نجوا بأنفسهم، و كان تدبير الامر الجديد تدبيرا حكيما خلّص المسلمين من موت محتم، فعادوا سالمين إلى المدينة، و كان هذا ممّا يشكرون عليه، و يستحقون الثناء و الثناء «1».

(2)

الجنود يعودون الى المدينة:

و قبل ان يقدم جنود الاسلام من «مؤتة» المدينة كانت قد وصلت إلى المسلمين أنباء انسحابهم و انباء سيئة عن وضع الجيش، من هنا ذهب المسلمون الى

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 381 و 388 و 389.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:449

منطقة الجرف لاستقبالهم.

و مع ان عمل القائد الجديد كان تكتيكا حكيما الّا ان مثل هذا الصنيع حيث انه كان يتنافى مع ما حققه المسلمون من أمجاد مشرقة و تنافي مشاعرهم و بسالتهم الذاتية و الاصيلة لذلك استقبلوهم بشعارات نابية و انتقادات جارحة و القوا بالتراب و الحجارة في وجوه المقاتلين العائدين، و قالوا: يا فرّار،

فررتم في سبيل اللّه؟

و قد كانت ردة فعل بعض المسلمين قويّة جدا الى درجة انه اضطر بعض الشخصيات التي شاركت في تلك المعركة إلى ان يقعد في بيته، و لا يظهر في الملأ، فكان الناس- إذا خرجوا- يشيرون إليهم بالاصابع و يقولون: ألا تقدمت مع أصحابك؟ «1».

و لقد كانت ردة فعل المسلمين تجاه عملية انسحاب جنود الاسلام الزكية، كاشفة عن روح الشهامة و الجهاد التي أوجدها الايمان باللّه و الايمان بيوم القيامة في نفوسهم بحيث صاروا يعدّون القتل و الشهادة في سبيل اللّه، أفضل من الانسحاب و التأخر.

(1)

اسطورة بدل التاريخ الصحيح:

حيث إن الامام علي بن أبي طالب عليه السّلام قد اشتهر بين المسلمين بأسد اللّه، لذلك أراد البعض أن ينحتوا تجاه هذا القائد قائدا آخر، و يمنحونه لقب سيف اللّه، و لم يكن ذلك إلّا خالد بن الوليد من هنا قالوا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقب خالد بن الوليد بعد رجوعه من معركة «مؤتة» بسيف اللّه «2»

و لو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منح مثل هذا اللقب لخالد في مناسبة

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 765.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 382، السيرة الحلبية: ج 2 ص 79.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:450

اخرى لما كان للبحث و النقاش مجال.

(1) و لكن الاوضاع بعد معركة «مؤتة» ما كانت توجب بل و لا تسمح بأن يعطيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مثل هذا اللقب، فهل من يرأس فريقا يسميه المسلمون الفرّار، و يحثون في وجوههم التراب يحسن أن يعطي في مثل هذه المناسبة لقب سيف اللّه؟ أجل؛ لو أنّ خالدا كان مظهرا لسيف اللّه في غزوات و معارك اخرى امكن القبول بذلك، أما في

هذه العركة فلم يكن مظهرا لسيف اللّه، و لم يصدر منه بعد تقليده إمارة الجيش إلّا تكتيك نظاميّ حكيم، و لما وصف هو و من معه بالفراريون، خاصة ان ابن سعد يكتب قائلا: فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، و انكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين «1».

إن مختلفي هذه الاسطورة أضافوا لتاكيد مطلبهم هذه الجملة أيضا: قال خالد: لقد اندق يومئذ (أي يوم مؤتة) في يدي سبعة أسياف فما ثبت بيدي إلا صفيحة يمانية «2».

ان مختلق هذه الكذبة غفل تماما عن أن خالدا و جنوده لو كانوا ابدوا في هذه المعركة مثل هذه البسالة و لو انجزوا في هذه الحرب مثل هذا العمل العظيم فلما ذا سمّاهم أهل المدينة بالفرّار؟ او لما ذا حثوا التراب في وجوههم؟ و لما وقع الناس في خالد بعينه «3»، إذ كان من اللازم في هذه الصورة أن يزرعوا طريقهم بالورود، و يقربوا بين أيديهم القرابين ابتهاجا بعودتهم الظافرة و اعجابا بعملهم الجبار!!

(2)

النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر:

لقد بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مقتل ابن عمه «جعفر» بشدة

______________________________

(1) الطبقات: ج 2 ص 129، امتاع الاسماع: ج 1 ص 349.

(2) اسد الغابة: ج 2 ص 94.

(3) السيرة الحلبية: ج 3 ص 68 و غيره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:451

و لكي تعرف زوجته اسماء بنت عميس بمصرع زوجها دخل عليها، فقال لاسماء:

ايتيني ببني جعفر.

فجاءت بهم إليه فضمّهم و شمهم، ثم ذرفت عيناه ثم بكى، فعرفت أسماء بمصرع زوجها فصاحت و بكت ثم خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى اهله و قال:

«لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما، فإنّهم قد شغلوا بأمر صاحبهم».

و كان

كلما تذكر جعفرا و زيد بن حارثة بكى «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 54، المغازي: ج 2 ص 766 و السيرة الحلبية: ج 3 ص 68، و امتاع الاسماع: ج 1 ص 351.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:452

(1)

48 غزوة ذات السلاسل

اشارة

منذ أن هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، و أصبحت «المدينة» مركز الإسلام و قاعدته، و موضع تمركز المسلمين و عاصمتهم، ظلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يراقب أوضاع أعداء الاسلام، و يرصد تحركاتهم، و مؤامراتهم، و كان يولي مسألة تحصيل المعلومات المفصّلة عن المتآمرين من المشركين و غيرهم اهتماما كبيرا، و يعمد دائما إلى اختيار أفضل العناصر لإرسالهم- بمختلف الحجج- إلى نواحي مكة، و بثّهم في القبائل المشركة المختلفة لتجسس أخبارهم، و التعرف على نواياهم، و تدابيرهم.

و لقد استطاع النبي صلّى اللّه عليه و آله بفضل الاطّلاع المبكّر و الدقيق على المؤامرات التي كانت تحاك ضدّه أن يفشّل الكثير من خططهم.

فقد كان صلّى اللّه عليه و آله يباغت العدوّ، و يحاصره قبل أن يتحرك من مكانه، عن طريق المجموعات العسكرية التي كان يقودها بنفسه، أو التي كان يؤمّر عليها أحد أركان جيشه و يوجّهها صوب مكان تجمع العدو، فيفرّقون جمعهم، و يشتتون شملهم، و يقضون على المؤامرة في مهدها، و بهذا كان الكيان الاسلامي في أمن من خطر الأعداء، و كان هذا العمل و هذا التدبير يجنّب الطرفين المزيد من إراقة الدماء، و إزهاق الأرواح.

(2) إنّ الاطّلاع المبكّر على أسرار العدوّ العسكرية، و معرفة حجم طاقاته، و مبلغ استعدادته، و اكتشاف خططه، و تكتيكاته يعدّ من العوامل الجوهرية، و المؤثرة في

سيد المرسلين ،ج 2،ص:453

الظفر و الانتصار.

فللدّول الكبرى اليوم أجهزة طويلة و عريضة، و

تشكيلات واسعة، و معقّدة لإعداد و تخريج الجواسيس البارعين، و إرسالهم إلى النقاط و المراكز المطلوب اكتشاف أسرارها، و التعرف على أوضاعها و خصوصياتها، و ترصد هذه الدول ميزانيات ضخمة لهذا الغرض «1».

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوّل من ابتكر في تاريخ الاسلام هذا العمل في صورته المنظّمة، و تبعه في ذلك الخلفاء الذين جاءوا من بعده، و بخاصّة الامام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي كان يستعين بجواسيس و عيون كثيرين في مجالات مختلفة، عسكرية، و إدارية.

فكان عليه السّلام إذا نصب واليا على بلد، جعل عليه عينا يراقب أعماله و تصرّفاته، و يخبر الإمام بها أوّلا بأوّل، فكان الإمام يكتب إلى ذلك الوالي، و يوبّخه على تصرفاته و انحرافاته إن بلغه شي ء من ذلك «2».

(1) و لقد كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة الثانية ثمانية رجال من المهاجرين، بالتوجّه تحت إمرة «عبد اللّه بن جحش» إلى موضع معين، و النزول فيه، للتعرف على نشاطات قريش، و مؤامراتهم.

و قد كان عدم مفاجأة قريش للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في معركة «احد» و خروجه المبكّر من المدينة بقواه، و جنوده، و النزول في منطقة مناسبة عسكريا خارجها، و حفره المبكّر أيضا للخندق المعروف في شمال المدينة، و الذي منع العدو (جيش الأحزاب) من اقتحام المدينة المنوّرة، كل ذلك كان نابعا من معرفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسبقة و الدقيقة بأسرار العدوّ، و نواياه،

______________________________

(1) راجع: كتاب: المخابرات و العالم و غيره.

(2) راجع: نهج البلاغة قسم الرسائل و الكتب، رقم 33 و 45 و كتاب الغارات.

هذا و قد بحثنا موضوع الاستخبارات و التجسس في النظام

الاسلامي بصورة مسهبة في كتابنا: معالم الحكومة الاسلامية، فراجع.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:454

و حجم قواته، و بالأرض، و ذلك عن طريق عيونه و جواسيسه الاذكياء اللبقين، اليقظين الذين كانوا يرصدون- بدقة و باستمرار- أوضاع العدوّ، و تحركاته، و ينقلون معلوماتهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بذلك كانوا يقومون بواجبهم الديني في مجال الحفاظ على عقيدة التوحيد، و صيانتها من خطر السقوط.

(1) إنّ هذا التدبير الذكيّ، و الطريقة الحكيمة التي ابتكرها و أخذ بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تعتبر أكبر درس للمسلمين اليوم، و دائما.

و لهذا يتوجب على قادة المسلمين المخلصين أن يعرفوا بكل ما يحاك- في بلاد الاسلام او في غيرها من بلاد العالم- من مؤامرات ضدّ المسلمين، و ما يدبّر من خطط لتقويض دعائم الاسلام، و يبادروا إلى إطفاء شرارات الفتن في مهدها، و قبل اشتعالها، و أن يسلكوا نفس المسلك الذي سلكه رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله ليحصلوا على ذات النتيجة، و لا شك أنّ مثل هذا العمل لا يتيسّر من دون أجهزة مناسبة، و من دون تشكيلات خاصّة.

و لقد استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة «ذات السلاسل» الذي هو موضوع بحثنا الآن، أن يطفئ نار الفتنة عن طريق استخدام المعلومات الدقيقة التي حصل عليها عن العدوّ.

و لو أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أغلق على نفسه هذا الباب لتحمّل خسائر لا تجبر، و لتعرّضت الكثير من جهوده المباركة في سبيل نشر الدعوة الاسلامية لخطر الفشل و الإخفاق.

تفاصيل هذه الغزوة:

(2) لقد أبلغ العيون و عناصر المخابرات الاسلامية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن آلافا من الناس قد تحالفوا و

تعاقدوا في ما بينهم في منطقة تدعى ب: «وادي اليابس» على التوجّه إلى المدينة المنوّرة للقضاء على الاسلام بكل ما لديهم من قوة، فإمّا أن يقتلوا في هذا السبيل، أو يقتلوا «محمّدا» أو فارسه البطل الفاتح

سيد المرسلين ،ج 2،ص:455

«علي بن أبي طالب»!!

(1) و يقول علي بن إبراهيم في تفسيره: «نزل جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بقصتهم، و ما تعاقدوا عليه و تواثقوا» «1».

غير أنّ شيخ الشيعة و محققهم الكبير المرحوم «الشيخ المفيد» (المتوفى عام 413 ه) يقول: بأنّ أعرابيا جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أخبره باجتماع قوم من العرب بوادي الرمل «2» للتآمر عليه، و على الاسلام، (و اضاف) بأنهم يعملون على أن يبيّتوه بالمدينة «3».

فرأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يطلع المسلمين على هذا الأمر، فأمر مؤذنه بان ينادي: الصلاة جامعة و هي جملة كان يراد منها اجتماع الناس للصلاة و استماع أمر مهمّ و ذي بال.

فعلا مؤذن النبي صلّى اللّه عليه و آله مكانا مرتفعا و نادى: الصلاة جامعة، فسارع المسلمون إلى الاجتماع في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم رقى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المنبر و قال في ما قال:

«أيّها الناس، إنّ هذا عدوّ اللّه و عدوّكم قد عمل على أن يبيّتكم فمن لهم؟».

(2) فانتدب جماعة أنفسهم لهذا الأمر، و أمّر عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر، فتوجه أبو بكر بتلك المجموعة إلى قبيلة «بني سليم»، و لما سار بهم مسافة واجه أرضا خشنة و كانت قبيلة «بني سليم» تسكن في شعب واسع، فلمّا أراد المقاتلون المسلمون ان ينحدروا إلى الشعب عارضهم بنو سليم

و قاوموهم، فلم ير قائد المجموعة بدّا من الانسحاب بمجموعته و الرجوع بهم من حيث أتى!!

______________________________

(1) تفسير علي بن ابراهيم: ج 2 ص 334 سورة العاديات.

(2) يحتمل أن يكون وادى الرمل هو وادى اليابس نفسه. و ذلك للمناسبة بين الوصفين.

(3) الارشاد: ص 86.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:456

(1) يقول علي بن إبراهيم في تفسيره: قالوا (أي بني سليم لابي بكر): ما أقدمك علينا؟

قال: أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أعرض عليكم الاسلام فان تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون لكم ما لهم، و عليكم ما عليهم، و إلّا فالحرب بيننا و بينكم.

فهدّده زعماء تلك القبيلة- و هم يباهون بكثرة رجالهم و مقاتليهم- بقتله و قتل من معه، فارعب لتهديدهم و عاد بجماعته إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رغم أن أفراده كانوا يصرّون على مقاتلة بني سليم تنفيذا لأوامر النبي صلّى اللّه عليه و آله!!

و لقد أزعجت عودة الجيش الاسلامي بهذه الصورة المهينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأمر عمر بن الخطاب أن يتولى قيادة تلك المجموعة و يتوجه بها إلى «وادي اليابس»، ففعل عمر ذلك.

(2) و لكن العدوّ كان قد ازداد- هذا المرة- يقظة و تحسبا فكمن عناصره عند فم الوادي، و اختبئوا وراء الاحجار و الاشجار بحيث يرون المسلمين، و لا يراهم من المسلمين أحد.

و لهذا خرجوا على المسلمين بغتة عند ما حلّ الجيش الاسلامي بذلك الوادي، و قابلوهم ببسالة و شجاعة، فأمر قائد المجموعة الاسلامية أفراده بالانسحاب، و عاد بهم إلى المدينة مهزوما مذعورا كسابقه، فلقي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما لقيه صاحبه من قبل من الاستياء، و الكراهية.

(3) و هنا قال عمرو بن العاص

و كان من دهاة العرب و ساسته الماكرين، و قد كان يومئذ قريب عهد بالاسلام: ابعثني يا رسول اللّه إليهم، فإن الحرب خدعة، فلعلّي أخدعهم!

فانفذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع جماعة و وصّاه فلما صار إلى الوادي خرج إليه بنو سليم فهزموه، و قتلوا من أصحابه جماعة!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:457

(1)

الامام عليّ ينتدب لقيادة العملية:

اشارة

هذه الهزائم المتلاحقة أزعجت المسلمين و أحزنتهم بشدة فعمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى تنظيم مجموعة جديدة و اختار لقيادتها «عليّ بن أبي طالب»، و أعطاه راية.

و طلب عليّ عليه السّلام من زوجته «فاطمة» بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن تأتي له بالعصابة التي كان يشدّها على جبينه في اللحظات الصعبة، فتعصّب بها، فحزنت «فاطمة» لمنظر زوجها و هو يتوجه بمثل هذه الصورة إلى «وادى اليابس» للقيام بأمر خطير، و بكت إشفاقا عليه، فسلّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هدّأها، و مسح الدموع عن عينيها «1».

ثم انّه صلّى اللّه عليه و آله شيّع عليّا حتى بلغ معه مسجد الأحزاب، و عليّ راكب على فرس أبلق، و قد لبس بردين يمانيّين، و حمل رمحا هنديا بيده.

ثم توجّه عليّ عليه السّلام بأفراده نحو الهدف، إلّا أنه سلك طريقا غير الطريق المعروفة ليعمّي على العدوّ، حتى أن الذين خرجوا معه تصوّروا أنه يقصد العراق، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في علي عليه السّلام حينما وجّهه لهذه المهمة:

«أرسلته كرارا غير فرّار».

إن تخصيص «عليّ» عليه السّلام بهذه الجملة يكشف عن أن القادة الذين سبقوه في هذه الحادثة لم ينسحبوا فقط، بل كان انسحابهم مقرونا بالهزيمة القبيحة.

(2)

عوامل انتصار الامام عليّ في هذه الموقعة:

هذا و يمكن أن نلخّص عوامل انتصار الامام عليّ عليه السّلام في هذه الموقعة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 81، الارشاد: ص 87.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:458

في ثلاثة امور اساسية هي:

(1) 1- أنه عليه السّلام أخفى مسيره و وجهته على العدوّ، فلم يشعر العدوّ بوجهته و مقصده، لأنّه غيّر مسيره حتى لا يعرف العدو به بواسطة الأعراب من سكان البادية.

(2) 2- أنه

عليه السّلام اتّبع مبدءا هامّا من مبادئ العمل العسكري، و استخدم تكتيكا مهمّا من التكتيكات الحربية و هو: مبدأ الكتمان و التستّر، فقد كان عليه السّلام يسير بأفراده ليلا، و يكمن نهارا، يستريح خلاله.

و هكذا حتى دنا من ارض العدوّ، و قبل أن يصل فم الوادي أمر جنوده بالنزول و الاستراحة لاستعادة نشاطهم من جهة، و لكي لا يحسّ العدو بمجيئهم من جهة اخرى.

و لهذا السبب الأخير نفسه أمر عليه السّلام جنوده بان يكمّوا أفواه خيولهم حتى لا يشعر العدوّ بوجودهم بصهيلها.

و عند الفجر صلّى «عليّ» عليه السّلام بجنوده صلاة الصبح، ثم صعد بهم الجبل حتى وصل إلى القمة، ثم انحدر بهم- بسرعة فائقة- إلى الوادي حيث يسكن «بنو سليم» فاحاطوا بهم و هم نيام، فلم يستيقظوا إلّا و قد حاصرهم المسلمون، فاسروا منهم فريقا، و فرّ آخرون.

(3) 3- شجاعة «عليّ» عليه السّلام و بسالته النادرة فهو الذي قتل الشجعان الاربعة المعروفين في تلك الموقعة فارعب العدو إرعابا شديدا فقد معه القدرة على المقاومة في وجه عليّ عليه السّلام ففرّ تاركا وراءه شيئا كثيرا من الغنائم «1».

و لقد عاد بطل الاسلام الظافر إلى المدينة بفتح لا سابق له، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جماعة من أصحابه لاستقباله، و استقبال من معه من جنود الاسلام.

______________________________

(1) تفسير فرات الكوفى: ص 222- 226، مجمع البيان: ج 10 ص 538.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:459

و ما أن وقعت عينا القائد الفاتح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى ترجّل من فرسه فورا، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يربت على كتفه:

«اركب فانّ اللّه و رسوله عنك راضيان».

(1) و في هذه اللحظة

بالذات اغرورقت عينا «عليّ» عليه السّلام بالدموع استبشارا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شأن «عليّ» عليه السّلام قولته المعروفة:

«يا عليّ لو لا أنّي اشفق أن تقول فيك طوائف من امتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملإ من الناس إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك» «1».

و لقد بلغت تضحية «عليّ» عليه السّلام و بسالته، و شجاعته في هذه الواقعة من الأهمية بحيث نزلت فيها سورة كاملة هي سورة العاديات التي يقول سبحانه فيها:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً».

إن القسم بخيول الغزاة المغيرين صبحا، و المشعلين بحوافرها شرارات الفتح و الانتصار.

إنّ هذا القسم الحماسيّ الجميل لهو تكريم رائع لبطولات جنود الاسلام في هذه العملية الظافرة، و اكبار بروحهم القتالية العالية.

(2)

اعتراض و جواب

هذا و لقد اعترض بعض الملحدين ذات مرّة على هذا النوع من الأيمان

______________________________

(1) الارشاد: ص 84- 86.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:460

و الأقسام في القرآن الكريم و قال ساخرا: و ما ذا يعني القسم بالخيول الضابحة، العادية، و الشرارات المنقدحة من حوافرها؟!

و لقد غاب عن هذا الملحد أن القسم بخيول الغزاة المجاهدين أو القسم بالشرارات المنقدحة من حوافرها بسبب احتكاكها بالصخور في أرض المعركة إنما إشعار بأهمية الجهاد ضدّ الظالمين أعداء البشرية.

(1) إنّ مثل هؤلاء الجنود البواسل ليسوا وحدهم الذين يحظون- في نظر الاسلام- بمنزلة رفيعة و مكانة عالية، بل خيولهم التي تحملهم في هذا الجهاد المقدّس، و كذا الشرارات التي تنقدح من حوافرها تحظى بالقداسة و الأهمية أيضا.

و أية قيمة- ترى- أعلى من محاربة الظالمين الجائرين، و انقاذ البشرية من براثن ظلمهم و جورهم، و من حيفهم و

عسفهم؟؟

إنّ مثل هؤلاء و ما يمكّنهم من أهدافهم من الأدوات، و الوسائل مقدّسون جميعا، لأنهم يحررون- بجهادهم- الانسان من قيود الطغاة، الظالمين، و يمهّدون لحاكمية اللّه في الأرض، و اى هدف أعلى و اعظم قدسية من هذا الهدف؟

و لقد دعا القرآن الكريم المؤمنين- من خلال تقديس خيول المجاهدين و ضبحهم و عدوهم و شرارات حوافرهم- إلى العناية بالجهاد دائما، و إلى تجميع قواهم، و الاستعداد لكسر القيود التي ترزح على أيدي البشرية و أرجلها و عقولها، و الى تحطيم القلاع التي ضربها الطغاة على الشعوب المغلوب على أمرها.

أجل؛ إن فرق التحرير و الجهاد الاسلامية لا تستحق وحدها التقديس و الاكبار بل تستحق خيولها و مراكبها، و شرارات حوافرها التقديس كذلك.

و لقد استبدلت تلك الخيول هذا اليوم بالدبّابات و الطائرات فهي مقدسة أيضا، كما كانت خيول الغزاة و المجاهدين في عصر الرسالة، كما و أن أزير محركاتها، هو الآخر يحظى بالتقديس كما كانت أنفاس الخيول تحظى بالتقديس في عصر الرسالة لأنها تحقق ذات الهدف، و نفس الغاية المقدسة و هي: تحرير الانسان من براثن الظلم و الطغيان.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:461

(1) هذا هو ملخص غزوة «ذات السلاسل» التي سجّلها و ضبطها مفسّرو الشيعة، و مؤرّخوهم، و رووها بإسناد صحيحة.

غير أن مؤرّخي أهل السنة كالطبري «1» روى هذه الواقعة بنحو آخر يختلف عما ذكرناه هنا، اختلافا شاسعا.

و لا يبعد أن يكون «ذات السلاسل» اسما لغزوتين نقل كل واحد من الفريقين: «السنّة و الشيعة» واحدة منها، و اعرض عن ذكر الاخرى لأسباب خاصة.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 315، السيرة الحلبية: ج 3 ص 190 و 191، و المغازي: ج 2 ص 769- 774.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:462

(1)

49 فتح مكّة

اشارة

قصة «فتح مكّة» من

قضايا التاريخ الاسلامي الجديرة بالمطالعة و التأمل، لما تنطوي عليه هذه الحادثة من دروس و عبر، و لكونها تعكس- بصدق و جلاء- أهداف رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله المقدّسة، كما تكشف عن أخلاقه العالية، و سيرته الحسنة، و اسلوبه الانساني مع الصديق، و العدوّ.

ففي هذا الفصل من التاريخ يتجلّى ما كان يتحلى به خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله من صدق و وفاء، كما يتبيّن صدق أصحابه، و وفاؤهم، و احترامهم لكلّ ما تعهدوا، و التزموا به للخصم في معاهدة «صلح الحديبية»، بينما يتضح من جانب آخر نفاق المشركين من قريش، و خيانتهم في تنفيذ بنود اتفاقية الصلح، و بالتالي نقضهم للعهد و بالتالي عدم احترامهم لأيّ شي ء من الالتزامات!!

(2) إنّ دراسة هذا الفصل تثبت لنا حنكة النبي، و حسن تدبيره، و سياسته الحكيمة في فتح أصعب و آخر قلعة من قلاع العدوّ الكافر، المتصلب في شركه، و كفره، و المتمادي في عناده و تعسّفه، و كأنّ هذا الرجل الالهيّ قد أمضى شطرا من حياته في إحدى المعاهد العسكرية العليا، فهو يخطط افضل من أي قائد محنّك قدير، للفتح، و يكون تخطيطه من الدقة و المتانة، و العمق و الحكمة، بحيث يصيب المسلمين فتحا عظيما بأقلّ قدر من المتاعب و المشاكل.

و بالتالي يتجلى في هذا القسم من التاريخ الاسلامي الوجه الانسانيّ الرحيم الذي كان يتسم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي كان يحرص على دماء

سيد المرسلين ،ج 2،ص:463

أعداء الرسالة الالداء، و أموالهم، و يسعى إلى حفظها و صيانتها، كما لو كانوا أصدقاء لا أعداء.

فهو يعفو بمروءة كبيرة، و بعد مدى واسع، و رؤية مستقبليّة عميقة عن قريش، و يغفر لهم

جرائمهم و أذاهم و يصدر عفوا عامّا لم يعرف له تاريخ الفاتحين نظيرا في أسبابه، و علله، و في ظروفه و ملابساته.

و إليك تفاصيل هذه الحادثة الكبرى من بدايتها إلى نهايتها.

تفاصيل فتح مكّة:

(1) لقد قرأنا في ما مضى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عقد في السنة السادسة معاهدة صلح مع قريش، نصّت المادة الثالثة منها على: أنّ لكل من قريش و المسلمين أن يتحالفوا مع من شاءوا من القبائل، فتحالفت «خزاعة» مع المسلمين، و تعهّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لخزاعة في هذا التحالف بان يدافع عن أرضهم و أموالهم و أنفسهم كلما تعرّضوا لخطر، و طلبوا ذلك.

و تحالفت قبيلة «بني كنانة»- و كانوا من أعداء خزاعة التقليديين- مع قريش.

و لقد تم كل هذا في ضوء عقد معاهدة صلح مدتها عشر سنوات تعهّد فيها الطرفان بالحفاظ على الأمن الاجتماعي، و السلام الشامل في كافة أرجاء الجزيرة العربية.

و لقد تعهّد الطرفان- في هذه المعاهدة- بأن لا يقوم أي واحد منهما بعمليات عسكرية و تحركات عدائية، لا ضدّ الآخر، و لا ضدّ حليف الطرف الآخر، كما لا يحرّك حليفه ضد حليف الطرف الآخر.

و لقد انقضت سنتان من تاريخ التوقيع على هذه المعاهدة، و عاش الجانبان في هذه الفترة في سلام و رفاه، و أمن و استقرار إلى درجة أنّ المسلمين استطاعوا- بعد مضيّ سنة واحدة من التوقيع على تلك المعاهدة، أن يزوروا- بكامل

سيد المرسلين ،ج 2،ص:464

حريتهم- بيت اللّه الحرام، في مكة المكرمة، و يؤدوا مناسك العمرة أمام عيون الآلاف من أعدائهم الوثنيين و هي العمرة التي سميّت بعدئذ بعمرة القضاء كما عرفت.

(1) و لقد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شهر

جمادى الاولى من السنة الثامنة للهجرة كتيبة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة ثلاثة فرسان من أركان جيشه، إلى تخوم الشام و حدودها، لمعاقبة و تأديب المتمردين و الجناة من ولاة الروم و عمّالهم فيها، و بالضبط أولئك الذين قتلوا دعاة الاسلام- الذين ابتعثهم صلّى اللّه عليه و آله للدعوة و التبليغ- من دون ذنب أو جرم.

و الجيش الاسلامي و إن استطاع أن ينجو بنفسه من هذه المعركة، و يخرج منها بسلام، من دون أن تكلّفه تلك المواجهة خسائر كبرى في الأرواح سوى ثلاثة هم قادة الجيش- على ما مر في قصة غزوة مؤتة- إلّا أنه ما عاد بانتصار باهر كان يأمله جنود الاسلام المجاهدون، بل كانت العملية في هذه المعركة اشبه ما تكون بعملية الكرّ و الفرّ.

و قد أوجب انتشار هذا النبأ جرأة سادة قريش و سراتها، فقد تصوروا أن المسلمين تضاءلت فيهم (أو انعدمت) روح الفروسية و الاقدام، و روح الشجاعة و البسالة.

(2) من هنا قرّرت قريش أن تخلّ بالأمن و الهدوء اللّذين استتبّا بعد اتّفاقية الحديبية، فبادرت- أوّلا- إلى توزيع الاسلحة على قبيلة «بني بكر» من كنانة، و إلى تحريضهم على أن يبيّتوا «خزاعة» المتحالفين مع المسلمين، فيغيروا عليهم ليلا، و يقتلوا فريقا، و يأسروا آخرين!!

بل لم تكتف قريش بهذا، إنما اشترك جماعة من رجالها في هذا العمل الغادر بصورة مباشرة، و بذلك نقضوا عهدهم الذي أعطوه في الحديبية، و أخلّوا عمليا بالأمن و السلام، و أحلّوا الفوضى و القتال، مكان الاستقرار و الهدوء اللذين سادا الجزيرة خلال عامين في أعقاب عقد معاهدة الحديبية!

سيد المرسلين ،ج 2،ص:465

(1) أجل، لقد حملت «بنو بكر» و من ساعدهم من رجال قريش بتحريك من زعامة مكة على «خزاعة»

ليلا، و كان بعضهم نياما، و البعض الآخر يتهجد و يعبد اللّه ليلا، فقتلوا من خزاعة جماعة، و أسروا آخرين، و غادر- منهم- فريق منازلهم تحت جنح الظلام، و لجئوا إلى مكة التي كانت للعرب يومئذ منطقة أمن لا يجيزون الاعتداء فيها على لاجئ إليها، و دخل الذين لجئوا إلى الحرم دار «بديل بن ورقاء» «1» و شكوا إليه ما حلّ بهم على ايدي رجال قريش، و حلفائهم من بني كنانة ليلا، من قتل و أسر و تشريد!!

(2) كما وعد المظلومون من خزاعة إبلاغ مظلمتهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فارسلوا رئيسهم: «عمرو بن سالم» فقدم المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوقف عليه و هو صلّى اللّه عليه و آله جالس في المسجد بين ظهرانيي الناس، و أخبره بما لحق بحلفائه من خزاعة على أيدي بني بكر من كنانة بتحريك و تحريض من قريش، و أنشد أبياتا يستغيث فيها برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذ قال:

يا ربّ إني ناشد محمّداحلف أبينا و أبيه الا تلدا

فانصر هداك اللّه نصرا أعتداو ادع عباد اللّه يأتوا مددا

فيهم رسول اللّه قد تجرداإن سيم خسفا وجهه تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبداإنّ قريشا اخلفوك الموعدا

و نقضوا ميثاقك المؤكّداو جعلوا لي في كداء رصدا

هم بيتونا بالوتير هجّداو قتلونا ركّعا و سجّدا و قد كان «ابن سالم» يعيد البيت الأخير و يكرّره إثارة لمشاعر المسلمين، و يكرّر عبارة: قتلنا و قد أسلمنا.

______________________________

(1) كان بديل من شخصيات «خزاعة» من ذوي السن و الشرف فيهم، و كان يعيش في مكة، و كان له من العمر آنذاك 97 عاما (أمالي الطوسي: ص 239).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:466

(1) فانزعج رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قريش لغدرها و نقضها للعهد، و وعد «خزاعة» بالنصرة، و قال:

«نصرت يا عمرو بن سالم».

و قد أفاض هذا الوعد القاطع و القوي حالة من الطمأنينة على قلب مبعوث خزاعة: «عمرو بن سالم» اذ قد تيقّن أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سينتقم لخزاعة ممن غدروا بها و بيتوها، و فتكوا بأبنائها، و بخاصة من قريش التي حرّضت بني بكر على خزاعة، و اشعلت شرارة هذه الفتنة، و بالتالي كانت السبب الحقيقي وراء هذه الجريمة النكراء، و لكن ابن سالم ما كان يظن أن هذه المسألة ستنتهي بفتح مكة، و تقويض دعائم الحكومة الوثنية الجاهلية، و القضاء عليها إلى الأبد!!

و لم يلبث أن قدم المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «بديل بن ورقاء» في جماعة من «خزاعة»، و أخبروه بما فعلته قريش و بنو بكر من قتل فتيان خزاعة، ثم عادوا قافلين إلى مكة.

(2)

قريش تتوجس خيفة من ردّ النبيّ:

ندمت قريش بشدّة على ما صنعت من تأليب بني بكر على خزاعة و مساعدتهم العملية في العدوان على الأخيرة، و أدركت للتوّ، بأنّ هذا الذي صنعته هو نقض للمدّة و العهد الذي بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لن يدع هذه الجريمة النكراء تمرّدون ردّ قاطع و حاسم، و لهذا بادرت إلى إيفاد زعيمها «أبي سفيان بن حرب بن أميّة» إلى المدينة المنورة لتطييب خاطر النبي صلّى اللّه عليه و آله، و تسكين غضبه و تاكيد احترام قريش لمعاهدة الصلح.

فتوجّه أبو سفيان إلى المدينة، و التقى في «عسفان» بديل بن ورقاء الخزاعيّ و هو عائد من المدينة،

فسأله: هل كان في المدينة؟ و هل أخبر محمّدا بما أصاب

سيد المرسلين ،ج 2،ص:467

خزاعة؟

فقال بديل: لا، و لكني سرت في بلاد كعب و خزاعة في قتيل كان بينهم، فأصلحت بينهم.

قال هذا، و واصل سيره باتجاه مكة.

(1) و لكن أبا سفيان عمد- لمعرفة ما إذا كان بديل عائدا من المدينة أولا- إلى أبعاد لإبل «بديل» و جماعته، ففتّها فوجد فيها نوى من تمر المدينة فايقن بأن القوم كانوا في المدينة و أنهم جاءوا محمّدا، و أخبروه بما جرى.

قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته «أم حبيبة» زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما أراد أن يجلس على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طوته أم حبيبة عنه، فقال: يا بنيّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عنّي؟!

قالت: بل هو فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنت رجل مشرك نجس، و لم أحبّ أن تجلس على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و في امتاع الاسماع أن ابا سفيان لما دخل على ابنته أم حبيبة ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فطوته دونه و قالت: أنت امرؤ نجس مشرك!

فقال: يا بنيّة! لقد أصابك بعدي شرّ.

قالت: هداني اللّه للاسلام، و أنت يا أبتي سيد قريش و كبيرها، كيف يسقط عنك دخولك في الاسلام و أنت تعبد حجرا لا يسمع و لا يبصر!!

قال: يا عجباه! و هذا منك أيضا! أ أترك ما كان يعبد آبائي، و اتّبع دين محمّد!؟

(2) أجل هذا هو منطق ابنة رجل حاك مؤامرات عديدة و قاد جيوشا ضد الاسلام طيلة عشرين عاما تقريبا، و كانت تربطه بام حبيبة رابطة

الابوة و البنوة الوثيقة، و لكن حيث إن تلك المرأة ترعرعت في مهد الاسلام، و نشأت في مدرسة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:468

التوحيد حصل لها مشاعر دينية قوية جدا حتى أنها رجحت المشاعر الدينية على المشاعر العاطفية الشخصية مقاومة في هذا السبيل رغباتها الذاتية، و ميولها الشخصية.

(1) لقد أنزعج أبو سفيان من سلوك ابنته التي كان يتصور أنها ملجئوها و ملاذها الوحيد في المدينة، فخرج من منزلها فورا، حتى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكلّمه حول تجديد العهد، و استمراره، فلم يرد عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كناية عن عدم اعتنائه به.

فذهب إلى بعض أصحابه صلّى اللّه عليه و آله يطلب منهم ان يشفعوا له عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أن يقنعوه بتجديد ميثاق الصلح، و لكن دون جدوى.

و أخيرا دخل على «علي بن أبي طالب» و عنده فاطمة الزهراء عليها السّلام و الحسن و الحسين و هما آنذاك غلامان يدبّان بين أيديهما فقال: يا علي، أنك أمسّ القوم فيّ رحما، و إني جئت في حاجة فلا أرجعنّ كما جئت خائبا فاشفع لي إلى رسول اللّه.

فقال عليّ عليه السّلام: ويحك يا أبا سفيان، و اللّه لقد عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه.

فالتفت إلى فاطمة- و هو يحاول إثارتها عاطفيّا- فقال: يا ابنة محمّد هل لك أن تأمري بنيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟

(2) و لما كانت فاطمة (عليها السّلام) تعرف بنوايا أبي سفيان الشريرة لذلك قالت: ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّهما صبيان و ليس مثلهما يجير «1».

فقال أبو سفيان:

يا أبا الحسن إني أرى الامور قد اشتدت عليّ، فانصحني.

فقال علي عليه السّلام: ما أجد لك شيئا أمثل من أن تقوم فتجير بين

______________________________

(1) امتاع الأسماع: ج 1 ص 359.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:469

الناس (أي تعطي الأمان للمسلمين) ثم الحق بأرضك.

(1) فقال أبو سفيان: أ و ترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟ قال: لا و اللّه، ما أظنّه، و لكني لا أجد لك غير هذا.

فقام أبو سفيان في المسجد، و كان يثق بصدق عليّ في نصيحته، فقال: أيها الناس؛ إني قد أجرت بين الناس.

ثم ركب بعيره، و أنطلق راجعا إلى مكّة، و أخبر سادة قريش بما صنع، و ذكر نصيحة «عليّ» إياه، فقال: إنّ عليّا نصحني أن اجير الناس، فناديت بالجوار.

فقالوا: فهل أجاز ذلك محمّد؟

قال: لا.

قالوا: ويلك و اللّه ما زاد الرجل (و يقصدون عليّا) على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت، لأن النبي لم يجز أمانه، و ما لا يجيزه الطرفان لا قيمة له في ميزان العهود.

ثم إنّ سادة قريش عقدوا مجلسا من فورهم للتشاور في ما يطفئ غضب المسلمين، و يثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن عزمه «1».

(2)

جاسوس يكتشف!

إنّ تاريخ رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله يكشف عن انه صلّى اللّه عليه و آله كان يسعى دائما الى أن يقنع العدوّ بالحق، و يجعله يستسلم لمنطق الدين، و لم يكن يهدف قط الانتقام من العدوّ و أبادته.

ففي الكثير من الغزوات و المعارك التي شارك فيها صلّى اللّه عليه و آله بنفسه أو السرايا التي بعثها كان الهدف الأساسي هو القضاء على مؤامرة العدو، و إفشالها، و تشتيت شمله، و تفريق اجتماعه قبل ان يقوم بعمل يضر بالاسلام

______________________________

(1) الغازي: ج 2 ص

780- 794، السيرة النبوية: ج 2 ص 389- 397، بحار الأنوار: ج 21، ص 102.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:470

و المسلمين، فقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يعرف جيدا أنه لو ازيلت الموانع و رفعت عن طريق الدعوة الاسلامية لترك منطق الدين الحنيف أثره في المجتمع الحرّ، و كان يعلم بأن الذين يعقدون الاجتماعات، و يقيمون التحالفات النظامية ليحولوا دون تقدم الاسلام، و انتشاره، لو جرّدوا من أسلحتهم، و انهيت حالة الحرب بينهم و بين الاسلام، و تركوا فكرة التغلب على الاسلام عن طريق القوة العسكرية، و سمعوا منطق الاسلام في جوّ بعيد عن صخب القتال، لانجذبوا إلى عقيدة التوحيد بدافع الفطرة و هدايتها، و لاستجابوا لنداء الضمير، و صاروا من أنصار الاسلام، و مؤيديه المخلصين الأوفياء.

(1) و لهذا السبب كانت الجماعات و الاقوام التي يتغلب عليهم جنود الاسلام، ثم يتسنى لهم مناخ التفكير الحرّ في العقيدة و التعاليم الاسلامية السامية في جوّ بعيد عن الضوضاء و الصخب، تنجذب إلى الاسلام، و ترغب فيه، و تعتنق بل تشمّر عن ساعد الجدّ لنشر العقيدة الاسلامية التوحيدية.

و قد تجلّت هذه الحقيقة في موضوعنا الراهن و هو فتح مكة بصورة أكمل و أقوى، فقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدرك جيّدا لو أنّه فتحت مكة، و جرّد العدوّ من السلاح و وفرت أجواء حرة آمنة بعيدة عن الكبت و الاضطهاد فانه لم يلبث أن يصبح هذا الفريق المعادي و المناهض للاسلام بشدة، من أنصار هذا الدين، و من المجاهدين الصادقين، الساعين في نشره.

و لهذا يجب التغلب على هذا العدوّ، و كسر شوكته، و لكن يجب عدم إفنائه و إبادته، بل ينبغي تجنب إراقة الدماء، و ازهاق

الارواح ما أمكن.

(2) و لأجل الوصول إلى هذه الغاية المقدسة (الغلبة على العدوّ من دون إراقة الدماء) استخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اسلوب مباغتة العدوّ.

فقبل أن يفكّر العدوّ في الدفاع عن نفسه، و يجمع قواه، و يستعدّ للمواجهة، كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يحاصر العدوّ في أرضه، و يجرّده من سلاحه، و يجهض محاولته، و مؤامرته.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:471

(1) على أنّ مبدأ «مباغتة العدو» إنما يمكن الاستفادة منه إذا بقيت جميع الاسرار العسكرية للجانب المباغت طى الكتمان، و تمت الترتيبات اللازمة في سرية كاملة، بحيث لم يعرف بها العدوّ، بل لا يعرف العدو أساسا هل ينوي النبي صلّى اللّه عليه و آله الهجوم عليه، أو لا، و على فرض أنه ينوي ذلك لا يخبر أحدا شيئا عن موعد تحرك الجيش الاسلامي، و وجهته، إذ في غير هذه الصورة لا يمكن الاستفادة من مبدأ «مباغتة العدو».

و لقد أعلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن التعبئة العامة لفتح مكة، و تحطيم أقوى قلعة من قلاع الوثنية و ازالة حكومة قريش الظالمة التي كانت تمثّل أقوى مانع في طريق تقدم الدعوة الاسلامية، و انتشارها و توسعها، و قد طلب من اللّه سبحانه في دعائه أن يعمّي على عيون قريش و جواسيسهم فلا يعرفوا بشي ء عن حركة المسلمين و مقصدهم اذ قال:

«اللّهم خذ العيون و الأخبار من قريش حتى نباغتها في بلادها».

أو قال:

«اللّهم خذ على قريش أبصارهم، فلا يروني إلّا بغتة، و لا يسمعون بي إلّا فجأة» «1».

(2) فاجتمع في مطلع شهر رمضان ناس كثيرون من مختلف المناطق خارج المدينة، و داخلها.

و يذكر المؤرخون جدولا تفصيليا بالطوائف و القبائل التي شاركت في هذا

الفتح العظيم، و إليك ما ذكروه:

المهاجرون: سبعمائة مع ثلاثمائة من الخيل و ثلاثة ألوية.

الأنصار: أربعة آلاف مع سبعمائة من الخيل، و ألوية كثيرة.

قبيلة مزينة: ألف مع مائة فرس، و مائة درع، و لواءان.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 397، المغازي: ج 2 ص 796.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:472

قبيلة جهينة: ثمانمائة مع خمسين فرسا، و أربعة ألوية.

قبيلة بني كعب: خمسمائة مع ثلاثة ألوية.

و كان بقية الجيش من قبائل غفار، و اشجع، و بني سليم «1».

(1) و يقول ابن هشام: كان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف من بني سليم سبع مائة، و يقول بعضهم: ألف، و من بني غفار أربع مائة، و من أسلم أربع مائة، و من مزينة ألف و ثلاثة مائة نفر، و سائرهم من قريش، و الأنصار و حلفاءهم و طوائف العرب من تميم، و قيس و أسد «2».

و لتحقيق مبدأ المباغتة و الكتمان وضعت جميع الطرق المؤدية إلى مكة تحت المراقبة الشديدة من قبل عناصر الحكومة الاسلامية، كما روقب بشدة تردّد المارة و المسافرين بواسطة الحرس «3».

و بينما كان جيش الاسلام يتهيأ للتحرك باتجاه مكة، نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بأنّ أحد البسطاء من المسلمين أقدم على إرسال كتاب إلى قريش، يخبرهم فيه بتوجّه النبي و أصحابه إلى مكة، و أنّه أعطى ذلك الكتاب إلى امرأة تدعى «سارة»- و كانت مغنية من مغنيات مكة- لتوصله إلى مكة لقاء مال تقبضه.

(2) و لقد كانت «سارة»- كما أسلفنا- مغنية بمكة، تغنّي لأهل مكة، و ربما شاركت في مجالس العزاء في قريش أيضا، و قد تعطّل عملها بعد معركة «بدر»، و مقتل جماعة من رجال قريش، و

دخول الحزن في كل بيوت مكة، فلم تعد تستطيع أن تغنّي و تطرب، من ناحية، و من ناحية اخرى كان أبو سفيان قد أمر الناس بأن لا يبكوا، و لا يقيموا المآتم و المناحات على قتلى بدر حتى لا يذهب

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 800، امتاع الاسماع: ج 1 ص 364.

(2) السيرة النبوية: ج 4 ص 63.

(3) بحار الأنوار: ج 21 ص 130. و امتاع الاسماع: ج 1 ص 361.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:473

غيضهم على «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه الذين قتلوا رجالا من قريش في بدر.

(1) من هنا تركت «سارة» مكة بعد عامين و قدمت المدينة، و عند ما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمجيئها إلى المدينة سألها: هل أسلمت؟ فقالت:

لا، فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و لما أتيت إلى المدينة؟ فقالت: إنّي مولاتكم، و قد أصابني جهد، و أتيتكم أتعرّض لمعروفكم «1».

فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكسيت و حملت و جهّزت.

و مع أن هذه المرأة قد شملها الاسلام بلطفه و رحمته و لكنها خانت النبي و المسلمين عند ما تطوّعت للقيام بعملية جاسوسية ضد الاسلام و المسلمين بأخذ كتاب «حاطب بن بلتعة» و اخفائه في شعر رأسها لتبلغه الى قريش لقاء عشرة دراهم، مفشية بذلك سرّا للمسلمين، تضيع- على أثره- جهود النبي صلّى اللّه عليه و آله و تفشل خطته!!

(2) و لما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذا الأمر إثر خبر من السماء بعث ثلاث رجال من فرسانه الاشاوس هم علي و المقداد و الزبير، ليدركوا المرأة الخائنة، على طريق مكة و يأخذوا منها ذلك الكتاب الذي يحذّر قريشا

ممّا أجمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليه.

فخرج الرجال الثلاثة في طلبها مجدّين حتى أدركوها في منطقة تدعى «روضة الخاخ» «2» فاستنزلوها، و فتشوا عن الكتاب في رحلها فلم يجدوا شيئا، فسألوها عنه فانكرت فقال لها علي عليه السّلام.

«إني أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا كذبنا، و لتخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك» «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 136، امتاع الاسماع: ج 1 ص 362 و 363.

(2) و قال ابن هشام: فادركوها بالخليقة (ج 2 ص 399).

(3) السيرة النبوية: ج 4 ص 41، و ذكر مؤلف الامتاع شخصين فقط هما الامام على و الزبير (ج 1 ص 362).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:474

(1) و لما رأت تلك المرأة هذا الجدّ من علي عليه السّلام و كانت تعرف أن عليّا لا يتركها حتى ينفّذ أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قالت: أعرض، فأعرض عليّ، فحلّت ضفائر شعرها فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه، فأتى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فانزعج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لفعل «حاطب» و كان من المسلمين السابقين، فدعاه من فوره و قال له عاتبا و مستفهما: يا حاطب ما حملك على هذا؟

فحلف حاطب باللّه و برسوله أنه لم يقصد شرا، و قال: يا رسول اللّه، أما و اللّه إني لمؤمن باللّه و رسوله، ما غيّرت و لا بدّلت، و لكنّي كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل و لا عشيرة، و كان لي بين أظهرهم ولد و أهل فصانعتهم عليه!!

(2) و يستفاد من اعتذار حاطب هذا أن أسياد قريش كانوا يضغطون على من تخلّف في مكة من أقارب

المهاجرين و عوائلهم، و يؤذونهم، و لا يتركون أذاهم إلّا إذا حصلوا منهم على أسرار المسلمين بالمدينة.

و هذا الاعتذار و ان كان غير وجيه، لأن ذلك لا يبرر إفشاء أسرار المسلمين لأعدائهم الحاقدين، غير أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصفح عنه، و خلى سبيله لمصالح معينة منها: سابقة «حاطب» في الإسلام.

إلّا أنّ «عمر بن الخطاب» طلب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يضرب عنقه، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله:

«و ما يدريك يا عمر لعلّ اللّه اطّلع يوم بدر على أصحاب بدر فقال: أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «1».

و لكي لا يتكرر مثل هذا العمل الخطر و الاثيم أنزل اللّه سبحانه قرآنا بهذا الشأن في عدة آيات اذ يقول:

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 363 و غيره.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:475

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ

إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1».

النبي يتحرك باتجاه مكة:

(1) أخذا بمبدإ «المباغتة» كتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله موعد الحركة، و وجهتها، فلم يكن أحد يعرف أين يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على وجه التحديد «2».

______________________________

(1) الممتحنة: 1- 6، راجع السيرة النبوية: ج 2 ص 399، مجمع البيان: ج 9 ص 269 و 270.

(2) المغازي: ج 2 ص 802، الامتاع: ج 1 ص 362 قال: و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس بالجهاز و طوى عنهم الوجه الذي يريد، فظانّ يظنّ أنه يريد الشام و ظان يظنّ ثقيفا و ظان يظن هوازن.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:476

و في اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة أصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوامره بالخروج، و كان قد أصدر أوامره للمسلمين كافة من قبل بالاستعداد و التهيؤ للخروج.

(1) ثم إنه استخلف على المدينة

رجلا من بني غفار يدعى «أبا رهم» ثم استعرض جيشه خارج المدينة على عادته.

ثم لما كان صلّى اللّه عليه و آله بمكان يدعى «الكديد» طلب شيئا من الماء امام المسلمين، و افطر به في تلك الساعة من النهار، و امر الجند بان يفطروا اقتداء به هم أيضا.

فافطر اكثر المسلمين، و أمسك البعض و لم يفطر ظنا بأن الجهاد في حالة الصوم أفضل، و اكبر أجرا، و لم يعرف هؤلاء السذّج غير المفطرين، بان النبي صلّى اللّه عليه و آله الذي أمر بالافطار في شهر رمضان في تلك الحال، هو نفسه الذي أمر بالصوم أيضا

فاذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائد حق و دليل سعادة فانه- في كلتا الحالتين- يريد سعادة الناس، و ينشد خيرهم، فلا معنى إذن لأن يطاع في أمره، و لا يطاع في نهيه.

و هذا غضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لامتناع ثلة من المسلمين عن الإفطار كما أمر و قال عنهم: «اولئك العصاة»!! «1».

و أمرهم بأن يفطروا قائلا: «إنكم مصبحوا عدوّكم، و الفطر أقوى لكم».

(2) إنّ مثل هذا التقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تجاهل أمره ما هو في الحقيقة إلّا نوع من الانحراف عن الحق، و هو يكشف عن ضعف في ايمان الجماعة العاصية، المتمردة عن أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و لهذا نزل فيه قرآن يلومهم، و يوبّخهم على عصيانهم إذ قال سبحانه:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 7 ص 124، السيرة الحلبية: ج 3 ص 90، المغازي: ج 2 ص 802.

(2) الحجرات: 1.

سيد

المرسلين ،ج 2،ص:477

(1) هذا و قد كان «العباس بن عبد المطلب» من المسلمين الذين بقوا في مكة بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليتجسس له الأخبار، و يطلعه على نوايا قريش، و خططهم أوّلا بأوّل.

و قد تظاهر العباس- بعد فتح خيبر- بإسلامه، و لكنه بقي محافظا على علاقاته بسادة قريش و زعمائها، فقرّر أخيرا أن يكون آخر من يهاجر من بيوت المسلمين، فغادر مكة متوجها إلى المدينة، و صادف خروجه مسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مكة، فالتقى ببعض الطريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد كان بقاء العباس بن عبد المطلب في مكة بعد هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مفيدا للجانبين: (قريش و المسلمين) فلو لم يكن العباس، و نشاطاته السياسية، الذكيّة، لما تيسّر فتح مكة من دون مقاومة قريش، و من دون إراقة دماء و إزهاق نفوس.

من هنا لا يبعد أن يكون خروج العباس من مكة في تلك اللحظات و الظروف الخطيرة قد كان هو الآخر بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لكي يستطيع القيام بدوره الإصلاحي، الذي سنأتي على ذكره قريبا.

(2)

العفو عند المقدرة:

لقد كانت سوابق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المشرفة، و اخلاقه الحميدة، و صدقه و أمانته، طوال حياته من الامور الواضحة المعلومة عند أقربائه، و أبناء عشيرته.

فقد كان الجميع يعلم بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يرتكب طيلة حياته الشريفة إثما، و لم يفكر في ذنب، و لم ينو الاعتداء على أحد، و لم يقل بلسانه سوءا و لا قبيحا، و لا خان في امانة، و لا افشى سرا و لا تخلف عن فضيلة.

و لهذا

استجاب لدعوته- في الايام الاولى من دعوته العامة- الاكثرية الساحقة من قبيلته (بني هاشم)، و التفّوا حوله، و تحمّلوا الدفاع عنه، و دعم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:478

مواقفه.

(1) و لقد اشار أحد المستشرقين المنصفين إلى هذه الحقيقة، و اعتبرها دليلا على طهارة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صدقه و نزاهته، فهو يقول: مهما كان المرء متكتّما متسترا على أعماله و أفكاره فانه لا يستطيع بحال أن يخفي تفاصيل حياته عن ذويه و أقربائه، و لو كان لمحمد حالات نفسية أو أفعال سيئة لما خفيت على أقربائه، و لما كانوا ينقادون إليه بمثل هذه السرعة «1».

نعم يستثنى من بني هاشم عدة أشخاص أحجموا عن الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الاستجابة لدعوته، و يمكن الاشارة- في هذا المجال- بعد أبي لهب المعروف بل و المصرح بعداوته في القرآن- إلى «أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب» و «عبد اللّه بن أبي أميّة بن المغيرة» اللذين خاصما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عارضا دعوته بشدة، و لم يكتفيا بعدم الايمان برسالته، بل منعا من انتشار الحق، و آذيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اشدّ الأذى و ألّبا عليه اكثر من أي شخص آخر.

(2) و لقد كان أبو سفيان هذا ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخاه من الرضاعة، و كان يألف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة، و لكنه اختلف مع النبي بعد ابتعاثه بالرسالة، و بنى على مخالفته و معاداته «2».

و أما عبد اللّه بن أبي اميّة فهو أخو أمّ سلمة ابنة عاتكة عمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و ابنة عبد المطلب.

و لقد حدى انتشار الاسلام في كل أنحاء الجزيرة العربية بهذين الرجلين إلى أن يخرجا من مكة و يلتحقا بالمسلمين.

(3) فقد خرجا قبيل الفتح من مكة، فلقيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه في أثناء الطريق- و على وجه التحديد في نقطة تدعى بثنية العقاب،

______________________________

(1) الأبطال: لكارليل الانجليزى.

(2) المغازي: ج 2 ص 806 و 807.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:479

و النبي قاصد مكة، فاستأذنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليدخلا عليه، و أصرّا على ذلك، فابى النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يأذن لهما.

(1) و قد وسّطا أمّ سلمة، و طلبا منها بلهجة عاطفية أن تشفع لهما عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى يرضى عنهما، فكلّمته فيهما، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبى و قال:

«لا حاجة لي بهما، أما ابن عمّي فهتك عرضي و أما ابن عمّتي و صهري فهو الذي قال بمكة ما قال» «1».

و لما كان «عليّ» عليه السّلام أعرف الناس بنفسيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخلاقه، و بطريقة استعطافه، فقد كلّمه أبو سفيان في الأمر، فعلّمه علي بن أبي طالب عليه السّلام أن يأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قبل وجهه فيقول:

«قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» «2».

فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيجيبه بما قاله يوسف لاخوته اذ قال لهم:

«قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» «3».

لأنه صلّى اللّه عليه و آله لا يرضى بأن يتفوق عليه أحد في حسن القول.

(2) ففعل أبو سفيان هذا ما أشار عليه الامام علي

عليه السّلام و دخل من الطريق الذي بيّنه له، فعفا عنه رسول اللّه كما فعل يوسف باخوته، فانشد أبو سفيان قصيدة أراد بها أن يكفّر عما سبق منه، قال فيها:

______________________________

(1) فهو ممن اقترح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكة امورا غير معقولة، و قد جاء ذكر هذه المقترحات في الآيات: 90- 93 من سورة الاسراء راجع مجمع البيان: ج 6 ص 439 و اسد الغابة: ج 5 ص 213 و 214.

(2) يوسف: 91.

(3) يوسف: 92.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:480 لعمرك إني يوم أحمل رايةلتغلب خيل اللات خيل محمّد

فكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين اهدى فأهتدي «1» (1) و يكتب «ابن هشام» في سيرته قائلا: قال أبو سفيان و معه ابنه، لما أعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنه و أبى أن يأذن له: و اللّه ليقبلنّي، أو لأخذت بيد ابني هذا فلأذهبنّ في الارض حتى أهلك عطشا و جوعا و أنت أحلم الناس مع رحمي بك» «2».

و قد سبق أن قالت أمّ سلمة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد كلّمته في أبي سفيان: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه أ لم تقل: أنّ الاسلام يجبّ ما كان قبله؟ فرقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهما، و أذن لهما، فدخلا، و قبل اسلامهما «3».

(2)

تكتيك رائع لجيش الاسلام:

تقع «مرّ الظهران» على بعد عدة كيلومترات من مكة المكرمة، و قد قاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جيشه العظيم (و قوامه عشرة آلاف) حتى مشارف مكة بمهارة بالغة.

و مع أنّ عيون قريش و جواسيسها كانت تتجسّس الأخبار و كان هناك من يعمل لصالح قريش، و لكنّهم مع ذلك لم يستطيعوا أن

يعرفوا شيئا عن نوايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هدفه.

و لما وصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مشارف مكّة عمد- لإرعاب أهل مكة حتى يتركوا مقاومة المسلمين عند دخول مكة و فتحها، و يتسنّى لهم تحطيم صرح الوثنية من دون إراقة الدماء- إلى إصدار أمر لجنوده باشعال النيران

______________________________

(1) الاصابة: ج 4 ص 90، و اسد الغابة: ج 5 ص 213 و 214.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 402.

(3) بحار الأنوار: ج 21 ص 114 و 115.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:481

فوق الجبال و التلال، و للمزيد من تخويف سكان مكة و الإظهار بمظهر القوة أمر بأن يشعل كل واحد من الجنود النار وحده، في شريط طويل على الأرض.

(1) كانت قريش و حلفاؤها يغطّون في نوم عميق آنذاك من جهة، بينما كانت النيران من جهة اخرى قد غطت كلّ المرتفعات المشرفة على مكة فلم تستيقظ إلا على منظر أرعب قلوبهم، و لفت أنظارهم.

و في هذا الاثناء كان بعض سادة قريش ك: «أبي سفيان بن حرب» و «حكيم بن حزام» و غيرهما قد خرجا من مكة يتجسّسون الأخبار.

ففكّر «العباس بن عبد المطلب» الذي لازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من منطقة الجحفة، فكر في نفسه بأنه إذا ما اتفق أن واجه جنود الاسلام مقاومة من قريش عند دخول مكة لادّى ذلك إلى ان يقتل جمع كبير من قريش، و لهذا فان من الأفضل أن يقوم بدور عمليّ لصالح الطرفين، و يقنع قريشا بالتسليم، و عدم المقاومة.

(2) فركب بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله البيضاء و توجه صوب مكة ليخبر قريشا بمحاصرة مكة من قبل جنود الاسلام، و يخبرهم بكثرة عددهم،

و بمبلغ شجاعتهم و إصرارهم على تحقيق أهداف النبي صلّى اللّه عليه و آله و يقنعهم بأنه لا مناص من التسليم للأمر الواقع.

فبينما هو كذلك إذ سمع صوت أبي سفيان و بديل بن ورقاء يتحادثان في جوف الليل فيقول أبو سفيان: ما رأيت كالليلة نيرانا قط و لا عسكرا، فيقول بديل: هذه و اللّه خزاعة حمشتها الحرب.

فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلّ و أقلّ من ان تكون هذه نيرانها و عسكرها.

فصاح العباس بأبي سفيان و قال: يا أبا حنظلة.

فقال أبو سفيان: يا لبيك، أبو الفضل ما لك؟

فقال العباس: هذا رسول اللّه في عشرة آلاف من المسلمين.

فارتعد أبو سفيان لما سمعه من العباس حول عظمة القوة الاسلامية، فقال و هو

سيد المرسلين ،ج 2،ص:482

يرتجف، و تصطكّ اسنانه من الفزع: فما الحيلة فداك أبي و أمي؟

(1) فقال العباس: اركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستأمنه لك.

فركب أبو سفيان خلف العباس، و رجع صاحباه (حكيم و بديل) إلى مكة.

و لقد كان مسعى العباس- كما ترى- في مصلحة الاسلام كله، فقد أرعب شيطان قريش، و زعيمها و عقلها المدبّر أبا سفيان، و كان موفقا في هذه الخطوة جدا بحيث لم يعد يفكر أبو سفيان إلّا في التسليم، و إلقاء السلاح و الكفّ عن المقاومة، بل و منعه العباس من العودة إلى مكة، في نفس الليلة (ليلة فتح مكة) و أخذه معه إلى معسكر المسلمين بغية تقييده، و منعه من العودة مكة، إذ كان من المحتمل جدا أن يقع فريسة أفكار المتطرفين في الزعامة المكية فيدبّرون معا خطة لمواجهة جيوش الاسلام، فيقع- حينئذ- ما لا يحمد عقباه، من سفك الدماء، و ذهاب الأنفس و

الارواح.

(2)

العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي:

دخل العباس- و هو على بغلة بيضاء و قد اردف خلفه أبا سفيان- في معسكر المسلمين، و هو يقصد خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من خلال نيران المسلمين التي أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بإشعالها، و كان كلّما مرّ بنار من نيرانهم قالوا: عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلا يمنعون من مروره، حتى اذا لقيا عمر بن الخطاب في الاثناء و رأى عمر أبا سفيان خلف العباس على عجز البغلة همّ بقتله في المكان، و لكن عمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أجار أبا سفيان في الحال، و منع بذلك عمر من إلحاق الأذى به، و هو في جواره.

و أخيرا وصل العباس برفقة أبي سفيان الى خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فترجّلا، فاستأذن العباس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للدخول مع أبي سفيان عليه فاذن لهما، فوقعت مشادة كلامية شديدة بين العباس و عمر بين

سيد المرسلين ،ج 2،ص:483

يدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حول أبي سفيان و كان عمر يقول: أبو سفيان عدوّ اللّه فلا بد أن يقتل، و لكن العباس كان يقول: يا رسول اللّه إنّي قد أجرته، فقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دابر هذه المناقشة عند ما قال:

«اذهب يا عبّاس إلى رحلك، فاذا أصبحت فاتني به».

فذهب العباس بأبي سفيان إلى رحله، فبات عنده ليلته كما أمر، فلما أصبح غدى به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1)

أبو سفيان بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

لما مثل أبو سفيان عند الصباح بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خيمته قال له النبي صلّى اللّه عليه و آله:

«ويحك يا أبا

سفيان؛ أ لم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلّا اللّه؟».

فقال أبو سفيان: بأبي أنت و أمي ما أحلمك، و أكرمك، و أوصلك و اللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه آله غيره، لقد أغني عنّي شيئا بعد.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ويحك يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه»؟

قال: بأبي أنت و أمي ما أحلمك، و أكرمك، و أوصلك، أما و اللّه فإنّ في النفس منها حتى الآن شيئا!!

فغضب العباس من شك أبي سفيان، و لجاجته و عناده فقال له: ويحك، أسلم و اشهد أن لا إله الّا اللّه، و أن محمّدا رسول اللّه قبل أن يضرب عنقك.

فشهد أبو سفيان شهادة الحق، فاسلم و دخل في عداد المسلمين.

(2) أن إسلام أبي سفيان الذي حصل في جوّ من الرعب و التهديد و إن لم يكن بالاسلام الذي كان يريده رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و يطلبه دينه الحنيف، و لكنّ مصالح معيّنة كانت توجب أن يدخل أبو سفيان في عداد المسلمين كيفما كان ليرتفع بذلك اكبر سدّ، و ينزاح اكبر مانع من طريق الدعوة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:484

الاسلامية، لأنّ رجالا مثل «أبي سفيان» و «أبي جهل» و «عكرمة» و «صفوان بن أميّة» و غيرهم، كانوا قد أوجدوا جوّا من الرعب و الخوف في مكة استمرّ أعواما عديدة، فلم يكن يجرأ أحد من المكيّين في مثل هذا الجوّ المشحون بالخوف أن يفكّر في الاسلام، أو يظهر رغبته في اعتناقه، و الانضواء تحت لوائه.

(1) فإذا لم يكن إسلام أبي سفيان الظاهريّ و السطحيّ مفيدا من حيث الواقع، و لكنه كان مفيدا جدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله، و للذين كانوا تحت سيطرة أبي سفيان و نفوذ زعامته من جماهير مكة، و بالتالي لمن كانت له علاقات قربى معه.

و مع ذلك لم يسمح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بإخلاء سبيل أبي سفيان لأنه لم يكن آمنا- و حتى مع إظهاره الاسلام- من جانبه قبل أن يتمّ فتح مكّة، و لهذا أمر صلّى اللّه عليه و آله عمّه العباس بأن يحبسه بمضيق الوادي عند ممرّ الجنود ليبصر عظمة القوات الاسلامية، و كثافتها قائلا:

«يا عبّاس احبشه بمضيق الوادي عند خطم الجبل (أي انفه) حتى تمرّ به جنود اللّه فيراها».

ثم إن العباس قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه إنّ أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا.

(2) و استجاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهذا الطلب، و مع أن أبا سفيان كان قد عادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الّب ضدّه طيلة عشرين عاما، و أثار في وجه دعوته الحروب و الفتن الكثيرة، و وجّه بذلك ضربات كثيرة إلى الاسلام و المسلمين، فمنحه- رغم ذلك و لمصالح خاصة- مقاما، و قال كلمته التاريخية في حقه ... تلك الكلمة التي تكشف عن عظمة أخلاق رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و سمو روحه، و عمق حكمته اذ قال:

«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:485

و من أغلق بابه فهو آمن.

و من دخل المسجد فهو آمن.

و من طرح السلاح فهو آمن» «1».

(1)

مكة تستسلم من دون إراقة دماء:

تقدّم جيش التوحيد العظيم نحو مكة، حتى أصبح على مقربة منها.

و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عازما على أن يفتح مكة من دون إراقة دماء، و

إزهاق أرواح، و أن يسلّم العدوّ من دون أيّة شروط.

و كان من العوامل التي ساعدت على تحقيق هذه الغاية- مضافا إلى عامل التكتم و التستّر و مبدأ المباغتة- أنّ العباس عمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله توجّه إلى مكة كداعية صلح و وسيط سلام بين قريش و النبي صلّى اللّه عليه و آله فكان أن أتى بأبي سفيان الى معسكر الاسلام كما أسلفنا، و بذلك توصّل إلى تحييد أبي سفيان، و لم يكن في مقدور سادة قريش أن يتخذوا قرارا حاسما من دون أبي سفيان.

(2) و عند ما خضع أبو سفيان أمام عظمة رسول الاسلام الفريدة و أظهر الاسلام، رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستفيد منه لإرعاب المشركين اكثر قدر ممكن، فأمر العباس بأن يحبسه عند مضيق الجبل ليرى بام عينيه حشود المجاهدين من المسلمين- كما أسلفنا- في وضح النهار مع كامل عدّتهم و اسلحتهم، و نظامهم و قوتهم، فيخبر قريشا بذلك، فيزيدهم خوفا و رهبة، فينصرفوا عن فكرة مقاومة الجيش الاسلامي عند دخوله الى مكة.

و فعل العباس ما أمره الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله فحبس أبا سفيان

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 400 و 404، مجمع البيان: ج 10 ص 554- 556، المغازي: ج 2 ص 816- 818، شرح نهج البلاغة الحديدي: ج 17 ص 268.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:486

حيث أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله.

(1) فمرّت القبائل مع راياتها أمام أبي سفيان، و كانت بعض قطعات الجيش الاسلامي على النحو التالي:

(2) 1- كتيبة قوامها ألف مقاتل من بني سليم بقيادة خالد بن الوليد، و فيها لواءان، أحدهما مع «عباس بن مرداس»، و الآخر مع «المقداد».

(3) 2- فوجان

قوامهما خمسمائة مقاتل بقيادة «الزبير بن العوام» الذي كان يحمل معه لواء أسودا، و كان اكثر أفراد هذا الفوج من المهاجرين.

(4) 3- فوج قوامه ثلاثمائة مقاتل من بني غفار بقيادة «أبي ذر الغفاري» و كان لواؤه معه.

(5) 4- فوج قوامه اربعمائة مقاتل من بني سليم بقيادة «يزيد بن الخصيب» و معه لواؤه.

(6) 5- فوجان قوامهما خمسمائة مقاتل من بني كعب بقيادة «بشر بن سفيان» و رأيته معه.

(7) 6- كتيبة قوامها ألف مقاتل من بني مزينة، فيها ثلاثة ألوية، لواء مع النعمان بن مقرن، و لواء مع بلال بن الحارث، و لواء مع عبد اللّه بن عمر.

(8) 7- كتيبة قوامها ثمانمائة مقاتل من جهينة، فيها أربعة ألوية، لواء مع «معبد بن خالد» و «سويد بن صخرة» و «رافع بن مكيث» و «عبد اللّه بن بدر».

(9) 8- فوجان قوامهما مائتا مقاتل من بني كنانة، و بني ليث و ضمرة، بقيادة «أبي واقد الليثي»، و كان لواؤهما معه.

(10) 9- فوج قوامه ثلاثمائة، مقاتل من بني أشجع، و فيها لواءان أحدهما بيد «معقل بن سنان» و الآخر مع «نعيم بن مسعود» «1».

______________________________

(1) لقد سجّل المؤرخ الاسلامي الشهير «الواقدي» عدد أفراد هذه القطعات في تاريخه «المغازي»:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:487

(1) و عند ما كانت هذه القبائل و القطعات تمرّ، سأل أبو سفيان العباس عن اسمها، و خصوصياتها، فكان العباس يوضح له كل ذلك.

و الذي كان يزيد هذا الجيش المنظم جلالا و عظمة أن قادة هذه الافواج و الكتائب كانوا اذا مرّوا على العباس و أبي سفيان كبّروا ثلاثا بأعلى أصواتهم و بشكل منظّم، و كبّر من ورائهم جنودهم بصوت واحد و منظم أيضا كأكبر شعار اسلامي.

و لقد كان لهذه التكبيرات الهادرة التي

كانت تدوّي في وديان مكة، و تردّدها الجبال و الوديان، أكبر الاثر في نفوس الاصدقاء و الاعداء، فكانت تزيد بهيبتها و جلالها من محبة الاصدقاء للنظام الاسلامي العظيم، بينما ترهب أعداء اللّه، و تغرقهم في خوف و رعب شديدين.

هذا و كان أبو سفيان ينتظر بفارغ الصبر عبور الكتيبة التي فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لهذا كان يسأل العباس كلما مرّت قطعة من قطعات الجيش الاسلامي: أ فيها محمّد؟ أو ما مضى بعد محمّد؟!

(2) فيقول العباس: لم يمض بعد، لو رأيت الكتيبة التي فيها محمّد صلّى اللّه عليه و آله رأيت الحديد و الخيل و الرجال و ما ليس لأحد به طاقة.

و بينما هما كذلك إذ طلعت كتيبة عظيمة قوامها خمسة آلاف مقاتل، فيها ألفا دارع فقط، فيها الرايات و الألوية الكثيرة، فيها المهاجرون و الانصار، مع كل بطن و قبيلة من قبائل الأنصار راية و لواء، و كانت تسمى كتيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخضراء لأن أفرادها كانوا في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، و قد ركبوا الخيول العربية الاصيلة، و الحمر من الإبل، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وسطها راكب على ناقته القصوى، و قد أحدق به كبار الشخصيات من

______________________________

- ج 3 ص 800 و 801 و ص 819 بشكل دقيق، و قد نقلها عنه ابن أبي الحديد في ج 17 ص 270 و 271.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:488

المهاجرين و الانصار، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحدّثهم.

فارعبت عظمة هذه الكتيبة أبا سفيان، بشدة، حتى أنه قال للعباس من دون اختيار: ما لأحد بهؤلاء قبل و لا طاقة يا أبا الفضل! و اللّه

يا ابا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما.

فقال له العباس- بنبرة موبّخة-: ويحك يا أبا سفيان ليس بملك إنّها النبوّة.

فليس هذه العظمة و الجلال من أثر الملك المادّي الدنيوي إنما هو هو فعل الرسالة الالهية، إنه جلال النبوة، و انه بالتالي من فضل اللّه عزّ و جلّ الذي أدخل الاسلام في قلوب هذه الجماهير المؤمنة، و هذه الجموع المجاهدة في سبيل اللّه.

(1)

أبو سفيان يرجع إلى مكة:

إلى هنا قام العباس بدوره على أفضل صورة، فقد أرعب أبو سفيان من قوة الاسلام العسكرية الكبرى، و لهذا رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يخلّى سبيله ليذهب إلى مكة قبل دخول جنود الاسلام فيها، فيخبر أهلها بعظمة و قوة الجيش الاسلامي القادم إليهم، و يحذّرهم من مغبة المقاومة و المواجهة، و يدلهم على طريق الخلاص و النجاة، و هو التسليم للأمر الواقع، و القاء السلاح، و الاستسلام من دون قتال و مقاومة، و من دون قيد و شرط، لأن بمجرد تخويف أهل مكة من دون إرشادهم إلى طريق الخلاص ما كان ليتحقق هدف النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله، و هو الفتح من دون دماء.

(2) فدخل أبو سفيان مكة، و قد بات الناس ليلتهم في رعب شديد، و ترقّب رهيب حتى أصبحوا، و لم يكن بامكانه أن يقرّروا شيئا من دونه، فلما رأوه قادما أحاطوا به، فاخذ يشير الى ناحية المدينة، و قد اصفرّ وجهه، و انهارت قواه و صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، أو قال:

هذا محمّد في عشرة آلاف فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. و من ألقى السلاح فهو آمن، و من دخل المسجد

فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:489

على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكتف بهذا بل أضاف إلى الأماكن الثلاثة التي أعلنها للجوء الناس إليها حتى يأمنوا من القتل، موضعا آخر، حيث عقد لابي رويحة «عبد اللّه بن عبد الرحمن الخثعمي» لواء و أمره أن ينادي:

«من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن» «1».

(1) و قد تسبّب أبو سفيان بندائه في إضعاف المعنويات عند أهل مكة بشدة حتى أنهم انصرفوا عن فكرة المقاومة، لو كانت، و أثمرت جهود العباس و مساعيه في الليلة الفائتة، و أصبح فتح مكة من دون مقاومة في نظر أهل الرأي و عند من ينظر الى واقع الامور، أمرا مسلّما و قطعيا.

ففزع الناس، و تفرّقوا، و لجأ بعضهم إلى دورهم، و البعض الآخر الى المسجد، و أسدى أعدى أعداء الرسالة و نعني أبا سفيان، و نتيجة لتدبير رسول اللّه الحكيم، أكبر خدمة لجنود الاسلام، حيث مهّد لهم- بما أوجده في نفوس المكيين و قلوبهم من هزيمة نفسية- طريق الفتح العظيم بسلام، و من دون مشاكل تذكر، اللّهم إلا «هند» زوجة أبي سفيان التي كانت تحرّض الناس على المقاومة، و راحت تشتم زوجها و تسبّه باقذع الشتائم و السباب، و تتهمه بالجبن و الذل.

بيد أنّ الأمر كان قد قدر، و لم تعد تنفع أيّة محاولة معاكسة، و لم تكن تلك الكلمات و الأعمال المعارضة سوى هباء في شبك!

(2) و نظير هذا الذي فعلته هند، ما فعله و قام به بعض الزعماء المتطرفين مثل «صفوان بن أميّة» و عكرمة بن أبي جهل» و «سهيل بن عمرو» ممثّل قريش في صلح الحديبية، الذين تحالفوا فيما بينهم على أن

يعملوا على منع قوات الاسلام من دخول مكة، و انخدع بهم فريق من البسطاء و المغفلين، فشهروا السلاح في وجه أول قطعة من قطعات الجيش الاسلامي، و سدّوا بذلك الطريق عليها في محاولة

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 379.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:490

يائسة لتحقيق مآربهم.

(1)

القوات الاسلامية تدخل مكة:

و قبل ان تدخل قوات الاسلام مكة كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد دعا جميع قادة و امراء جيشه و قال لهم بانه يريد ان يفتح مكة من دون إراقة أيّة دماء، و لهذا امرهم ان لا يقاتلوا إلّا من قاتلهم، إلّا أنه أمر بقتل عشرة و ان وجدوا تحت أستار الكعبة و هم: «عكرمة بن أبي جهل» و «هبار بن الاسود» و «عبد اللّه بن أبي سرح» و «مقيس بن حبابة الكندي» و «الحويرث بن نقيذ» و «عبد اللّه بن خطل» و «صفوان بن أميّة» و «وحشي بن حرب» قاتل حمزة.

و «عبد اللّه بن الزبعرى» و «حارث بن طلالة» و اربع نسوة و كان كل واحد من هؤلاء قد قتل أحدا او ارتكب جناية أو شارك في مؤامرة او حرب ضدّ الاسلام و المسلمين «1».

و قد بلغ الأمراء و القادة هذا الأمر إلى جنودهم كافة، و مع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعرف مسبّقا بمعنويات المكيين المنهارة، و عدم قدرتهم على المقاومة، إلا أنه- مع ذلك- لم يترك جانب الاحتياط و الحذر الذي يفرضه العمل العسكري، عند دخول مكة، حيث رسم لدخولها خطة دقيقة.

(2) فقد وصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بجيشه كله إلى «ذي طوى» (و هو موضع مرتفع كانت ترى منه بيوت مكة و منازلها) و هو في كتيبة قوامها

خمسة آلاف، فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منازل مكة اغرورقت عيناه بدموع الشوق و الحنين، فانحنى تواضعا للّه تعالى و شكرا، حتى رأى ما رأى من فتح اللّه، و كثرة المسلمين حتى مسّت لحيته الشريفة واسطة الرجل أو يقرب منه.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 410، تاريخ الخميس: ج 2 ص 90- 94 و قد ذكر صاحب تاريخ الخميس تفاصيل ما ارتكبه هذه الجماعة المهدورة دماؤها و ما آل إليه أمرهم بعد فتح مكة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:491

(1) و مراعاة لجانب الحذر و الاحتياط فرّق صلّى اللّه عليه و آله جنوده فأمر البعض بأن يدخلوا مكة من أسفلها، و أمر البعض بأن يدخلوها من أعلاها، و لم يكتف بهذا بل أمر وحدات من الجيش بان تدخل من جميع المداخل و الطرق المؤدية إلى داخل مكة.

فدخلت جميع وحدات الجيش الاسلامي و قطعاته و كتائبه و فرقه مكة من دون قتال و من دون ان تلقى من أهلها مقاومة، فقد كانت جميع الأبواب مفتحة في وجوههم الّا المدخل الذي دخل منه «خالد بن الوليد» بفرقته، فقد عمد جماعة من المكيين بتحريض من «عكرمة» و «صفوان» و «سهيل» على شهر أسلحتهم في وجوه المسلمين، و رموا بالنبل لمنعهم من دخول مكة، و وقع قتال بين الجانبين، و لكن محرّضي هذه الجماعة اختفوا بعد شي ء من القتال و المقاومة، و فرّ الآخرون بعد أن قتل منهم المسلمون اثنى عشر أو ثلاثة عشر شخصا «1».

(2) و مرة اخرى قام أبو سفيان و من حيث لا يشعر بعمل آخر لصالح الاسلام في هذه الحادثة، فانه كان لا يزال مرعوبا ممّا رأى من كثرة الحشود العسكرية الاسلامية و قوتها و

كان يعلم ان المقاومة لا تجدي نفعا و لا تجرّ على أهل مكة إلّا الضرر، و لهذا نادى بأعلى صوته- حقنا للدماء-: يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمن، و من وضع السلاح فهو آمن ... فلا يدفع محمّدا شي ء، فضعوا اسلحتكم، و ادخلوا في بيوتكم، و اغلقوا عليكم أبوابكم او ادخلوا المسجد، تسلموا.

(3) فكان لنداء أبي سفيان هذا أثره في نفوس الناس فجعلوا يقتحمون الدور، و يغلقون عليهم، و يطرحون السلاح في الطرقات حتى يأخذها المسلمون، بينما لجأ بعضهم إلى المسجد.

و لما ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على «ثنية أذاخر» نظر إلى لمعان

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 408، و حسب المغازي: ج 2 ص 825- 826 قتل ثمان و عشرون رجلا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:492

السيوف و هي تصعد و تهبط فقال: «ما هذه البارقة؟ أ لم أنه عن القتال»؟

فقيل: يا رسول اللّه، خالد بن الوليد قوتل، و لو لم يقاتل ما قاتل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «قضى اللّه خيرا».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل مكة من ناحية أذاخر، و هي أعلى نقطة في مكة في موكب عظيم جليل، فضرب له قبة من أدم بالحجون (عند قبر عمّه العظيم أبي طالب) ليستريح فيها، و قد أصرّوا عليه صلّى اللّه عليه و آله بأن ينزل في بعض بيوت مكة فأبى صلّى اللّه عليه و آله «1».

(1)

كسر الاصنام و غسل الكعبة:

لقد استسلمت مكة التي كانت مركزا رئيسيا للشرك و الوثنية طوال أعوام عديدة و مديدة، أمام قوات التوحيد الظافرة، و سيطر جنود الاسلام على جميع نقاط تلك المدينة المقدسة.

و لقد استراح رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله في الخيمة التي ضربوها له في الحجون بعض الوقت.

ثم انه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن اطمأنّ و اغتسل ركب راحلته «القصواء» و توجّه الى المسجد الحرام لزيارة بيت اللّه المعظم و الطواف به، بينما كان يحمل معه السلاح، و المغفر على رأسه، و تحيط به هالة من العظمة و الجلال، و يحدق به المهاجرون و الانصار، و قد صفّ له الناس من المسلمين و المشركين، بعض يغمره الفرح و السرور، و آخرون يكادون ينفجرون من الغيظ.

(2) و لما انتهى صلّى اللّه عليه و آله إلى الكعبة فرآها و معه المسلمون تقدّم على راحلته، و لم يترجّل منها لأسباب خاصة فاستلم الركن بمحجنه بدل استلامه بيده، و كبّر فكبّر المسلمون لتكبيره، و رجّعوا التكبير حتى ارتجّت مكة لتكبيرهم

______________________________

(1) الامتاع: ج 1 ص 380.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:493

و دوّى صوتهم في الجبال و الوهاد، و سمعه المشركون الذين كانوا قد تفرّقوا فوق الجبال ينظرون إلى ذلك المشهد و قد بلغ من هياج المسلمين، و هم يطوفون بالبيت من شدة سرورهم جدا كاد أن يمنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الطواف بالبيت بفكر هادئ فاشار إليهم صلّى اللّه عليه و آله أن اسكتوا، فسكت الجميع بأمره، و ساد الصمت كل أرجاء المسجد الحرام، فطاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالبيت على راحلته، و قد أخذ بزمامها «محمّد بن مسلمة» و فيما احتبست الاصوات في الصدور، و اتجهت الأبصار إليه صلّى اللّه عليه و آله فوقعت عيناه الشريفتان- في الشوط الأول من طوافه- على الاصنام الكبرى «هبل» و «اساف» و «نائلة» منصوبة فوق الكعبة، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

كلّما مرّ بصنم منها يشير بقضيب في يده و يقول: «جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا» فيقع الصنم لوجهه.

(1) و أمر صلّى اللّه عليه و آله بهبل اكبر أصنام المشركين فحطم و كسر في مرأى من المشركين، و لقد كان هذا الصنم الكبير يهيمن على عقول الجاهليين في الجزيرة العربية، و يسيطر على أفكارهم أعواما عديدة.

و لما كسر المسلمون ذلك الصنم قال الزبير لأبي سفيان و كان ينظر إلى ذلك المشهد: يا أبا سفيان لقد كسر هبل، أما إنك قد كنت منه يوم «احد» في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم.

فقال أبو سفيان: دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمّد غيره لكان غير ما كان.

(2) و لما انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من طوافه بالبيت انصرف فجلس ناحية من المسجد، و الناس حوله، ثم أرسل بلالا إلى «عثمان بن طلحة» يأتيه بمفتاح الكعبة، و كان عثمان يومذاك سادن الكعبة، و قد كانت السدانة تتوارث جيلا بعد جيل.

فجاء بلال إلى عثمان فقال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأمرك أن

سيد المرسلين ،ج 2،ص:494

تأتي بمفتاح الكعبة، فاستجاب عثمان، إلّا أنّ امّه منعته عن ذلك، و كان المفتاح يومئذ عندها و قالت له: اعيذك باللّه أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه.

(1) فقال لها عثمان: فو اللّه لتدفعنّه إليّ، أو ليأتينّك غيري فيأخذ منك، فسلّمته إياه. سيد المرسلين ج 2 494 كسر الاصنام و غسل الكعبة: ..... ص : 492

تح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله به باب الكعبة و دخل البيت، و دخل من بعده صلّى اللّه عليه و آله اسامة بن زيد

و بلال و عثمان و سادتها، ثم أمر النبيّ باغلاق باب الكعبة، و وقف خالد بن الوليد على الباب يذبّ الناس عن الباب.

و كانت جدران الكعبة من الداخل مغطّاة بصور الأنبياء و الملائكة و غيرهم، فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمحوها جميعا، و غسلها بماء زمزم.

(2)

عليّ عليه السّلام على كتف النبيّ:

يقول المحدّثون و المؤرّخون: لقد كسرت بعض الأصنام الموضوعة في الكعبة على يد «عليّ بن أبي طالب» و ذلك عند ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام:

«اجلس».

فجلس إلى جنب الكعبة ثم صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على منكبي ثم قال: انهض بي إلى الصنم ... فحاول أن ينهض فلم يطق.

فلما رأى النبي ضعفه تحته، قال:

«اجلس».

فجلس عليّ عليه السّلام ثم نزل النبي صلّى اللّه عليه و آله عنه، ثم جلس صلّى اللّه عليه و آله ثم قال:

«يا عليّ اصعد على منكبي».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:495

(1) فصعد عليّ عليه السّلام على منكبه، ثم نهض به فالقى صنم قريش الاكبر، و كان من نحاس، ثم ألقى بقيّة الاصنام إلى الارض و حطّمها.

و قد أنشد شاعر الحلة الشهير بابن العرندس، و هو من شعراء القرن التاسع الهجريّ قصيدة ذكرها فيها هذه الفضيلة بقوله:

و صعود غارب أحمد فضل له دون القرابة و الصحابة أفضلا «1» ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر بان يفتح باب الكعبة فوقف على الباب، و أخذ بعضادتى الباب فاشرف على الناس بطلعته المنيرة و محياه الجميل و قال:

«الحمد للّه الّذي صدق وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده».

(2) و لقد كان اللّه سبحانه قد وعد نبيّه الكريم في آية من آيات الكتاب العزيز بأن يعيده الى مسقط راسه

اذ قال: «إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد قل ربّي اعلم من جاء بالهدى و من هو في ضلال مبين» «2».

و قد أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله بحمده هذا عن تحقّق وعد اللّه له، و برهن مرة اخرى على صدقه، و صحة دعواه.

و في ما كان الصمت يخيّم على أرجاء المسجد الحرام، و في ما كانت الانفاس محتبسة في الصدور، و تجول في رءوس الحاضرين و انفسهم أفكار مختلفة، و خواطر شتى، و يتذكر أهل مكة المشركون ما ألحقوه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اتباعه من الأذى و العذاب الشديد، فتذهب بهم تصوراتهم مذاهب شتى!!

(3) إن الذي سبق لهم أن اشعلوا حروبا كثيرة ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قتلوا خيرة شبابه و أصحابه، بل و تمادوا في غيهم و عدوانهم حتى أنهم تآمروا

______________________________

(1) مسند احمد بن حنبل: ج 1 ص 84 باسناد صحيح، السيرة الحلبية: ج 3 ص 86. تاريخ الخميس:

ج 2 ص 86 و 87، مستدرك الحاكم: ج 2 ص 367، و راجع بقية المصادر في موسوعة الغدير: ج 7 ص 10- 13.

(2) القصص: 85.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:496

لاغتياله بالهجوم عليه في منزله ليلا، و تقطيعه بالسيوف إربا إربا، ها هم الآن يرون أنفسهم أسرى في قبضته، و هو صلّى اللّه عليه و آله قادر على أن ينتقم منهم كيفما شاء!!

(1) إن من الطبيعي أن يتحدث أهل مكة في أنفسهم و هم يتذكّرون معاداتهم الشديدة و الطويلة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جرائمهم الكبرى بحقه، و بحق دعوته و يقول بعضهم: أنه سيقتلنا حتما، أو يقتل فريقا منا، و يحبس آخرين، و

يسبي ذريتنا و نساءنا، جزاء ما فعلنا.

و بينما كانوا- في تلك اللحظات- فريسة هذه الافكار و التصورات الشيطانية، كسر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جدار الصمت الرهيب الذي يخيم على أرجاء المسجد الحرام و قال سائلا:

«ما ذا تقولون ... و ما ذا تظنون؟!».

فقال أهل مكة: و قد تملّكتهم حيرة شديدة، و خوف عظيم و هم قد عرفوا رحمة النبي و رأفته، و لطفه لطفه، و خلقه العظيم: نقول خيرا، و نظن خيرا، أخ كريم، و ابن أخ كريم، و قد قدرت.

فقال رسول اللّه و نبي الرحمة صلّى اللّه عليه و آله، و قد سمع هذه العبارات العاطفية:

فاني أقول لكم كما قال أخي يوسف «قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم و هو أرحم الراحمين» «1».

(2) و كان أهل مكة قد اطمأنّوا إلى عفو النبي و صفحه قبل ذلك نوعا ما عند ما رأوا ردّ فعله الشديد على أحد قادة جيشه عند ما أخذ ينادي حين دخول مجموعته العسكرية مكة من احدى مداخلها:

اليوم يوم الملحمةاليوم تسبى الحرمة

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 835، بحار الأنوار: ج 21 ص 107 و 132 و الآية المذكورة هي 92 من يوسف.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:497

فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهذا الشعار و قال ردا عليه:

«اليوم يوم المرحمة» «1» (1) كما أنه أمر- لغرض تأديب من أطلق هذا الشعار- بأخذ اللواء منه، و أعطاه إلى شخص آخر، و قيل إنّه صلّى اللّه عليه و آله عزله عن قيادة المجموعة، و أمرّ ابنه مكانه، و كان هذا الأمير هو سعد بن عبادة رئيس الخزرج.

و قد دفع هذا النوع من اللطف و الموقف الايجابي الذي لاحظه أهل مكة

المشركون أن يأمل الناس المغلوبون في العفو العامّ إلى درجة كبيرة، خاصّة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد أمّن من دخل المسجد الحرام أو بيت أبي سفيان، أو ألقى السلاح، أو أغلق على نفسه باب منزله.

كل هذه الامور كانت قد فتحت على أهل مكة بصيصا من الأمل في العفو الشامل.

(2)

النبي يعلن عن العفو العام:

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعلن عن العفو العام عن جميع أهل مكة بقوله:

«ألا لبئس جيران النبيّ كنتم، لقد كذّبتم، و طردتم، و أخرجتم، و آذيتم، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني اذهبوا فانتم الطلقاء» «2».

(3)

بلال يرفع الأذان على سطح الكعبة:

ثم حان وقت صلاة الظهر، فعلا مؤذن الاسلام «بلال» الحبشي سطح الكعبة المعظمة، و رفع في الحاضرين و بصوت عال نداء التوحيد و الرسالة

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 821 و 822.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 106، السيرة النبوية: ج 2 ص 412.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:498

(الأذان)، فكان كل واحد من المشركين يقول كلاما، غضبا و حنقا على بلال.

فمنهم من قال: الحمد للّه الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا البوم!!

و قال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا، لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء!! «1».

(1) إن هذا العجوز الخرف المعاند الذي لم يشرق في قلبه نور الإسلام حتى آخر لحظة من حياته، خلط بين مسألة الاطلاع على الغيب، و تلقّي الحقائق عن طريق الوحى، و بين مسألة التجسس الذي يعتمده جبابرة العالم و طغاته.

إن مسألة اطلاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على قضايا الغيب أمر يحصل بطرق غير عادية و لا متعارفة، في حين تحصل معرفة جبابرة العالم بمجريات الامور في بلادهم عن طريق استخدام عناصر بشرية، أو من يسمّون برجال المخابرات و الأمن.

و على كل حال فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى بالمسلمين صلاة الظهر ثم دعا «عثمان بن طلحة» و ردّ إليه مفتاح الكعبة، و قال له:

«هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر و وفاء» «2».

و روي أنه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«خذوها يا بني أبي طلحة

تالدة خالدة لا ينزعها منكم أحد إلّا ظالم» «3».

(2) و لم يكن غير هذا بمتوقع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فإن النبي الذي بعثه اللّه سبحانه إلى الناس ليدعوهم إلى أداء الامانة- فيما يدعوهم إليه- و ليبلّغهم قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» من المسلّم أن يكون أول من يلتزم بهذا التعليم الالهي، فيعيد مثل تلك الامانة الكبرى إلى صاحبها.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 413.

(2) و (3) السيرة النبوية: ج 2 ص 412، المغازي: ج 2 ص 838 الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 137.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:499

إنه لم يكن بالذي يهضم حقوق الناس و يدوسها، في ظل ما أوتي من قوة، و يقول للناس بكل صراحة: «خذوها يا بني أبي طلحة، تالدة خالدة لا ينزعها أحد منكم إلا ظالم».

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألغى جميع مناصب الكعبة التي كانت في الجاهلية إلّا ما كان نافعا للناس كالسدانة و الحجابة (و هي القيام بشئون أستار الكعبة) و سقاية الحجيج «1».

(1)

النبي يتحدث إلى أقاربه:

و لكي يعرف أقرباء النبي صلّى اللّه عليه و آله أن وشيجة القربى التي تربطهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا ترفع عن كاهلهم أيّة مسئولية من المسئوليات، بل تزيد من مسئوليتهم ألقى فيهم خطابا خاصا بيّن فيه أن رابطة القربى مع النبي صلّى اللّه عليه و آله لا تبرّر لأحد من أقربائه بأن يتجاهل قوانين الحكومة الاسلامية، و يتخذ من انتسابه إلى زعيم هذه الحكومة ذريعة و غطاء لارتكاب ما لا يحل للآخرين كما هو الحال في أنظمة الحكم البشرية.

و لقد شجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خطابه

هذا الذي خطبه في اجتماع ضمّ رجال بني هاشم و بني عبد المطلب، كل تمييز، و تفضيل غير صحيح، و دعا إلى لزوم العدل و مراعاة المساواة، بين جميع الطبقات اذ قال:

(2) «يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب إنّي رسول اللّه إليكم، و إنّي شفيق عليكم، لا تقولوا: إنّ محمّدا منّا، فو اللّه ما أوليائي منكم و لا من غيركم إلّا المتقون فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم و يأتي الناس يحملون الآخرة.

ألا و إني قد أعذرت فيما بيني و بينكم، و فيما بين اللّه عزّ و جلّ و بينكم و إن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21، ص 132.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:500

لي عملي و لكم عملكم» «1».

(1)

خطاب النبي التاريخي في المسجد الحرام:

اشارة

كان الاجتماع الذي شهده المسجد الحرام يوم فتح مكة اجتماعا عظيما جدا.

المسلمون و المشركون، و الصديق و العدو حضروا بأجمعهم في ذلك الاجتماع، و كانت تجلل هالة من عظمة الاسلام و عظمة نبيه الكريم صلّى اللّه عليه و آله رحاب ذلك المكان المبارك، و كان الصمت و الهدوء، و حالة من الانتظار و الترقب، تخيم على اجواء مكة.

لقد آن الأوان- الآن- لأن يكشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للناس عن الملامح الحقيقية لدعوته المباركة و يوقف ذلك الحشد الهائل المتعطش على معالم رسالته العظمى، و مبادى دينه الحنيف، و بالتالي أن يكمل حديثه الذي بدأه قبل عشرين عاما و لكنّه لم يوفق لإتمامه بسبب مضايقات المشركين، و معارضتهم، و بسبب ما أوجدوه من عقبات و عراقيل في طريقه.

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ابن تلك المنطقة، و تلك البيئة، و لهذا كان عارفا- تمام المعرفة- بأمراض المجتمع العربي، و أدوائه،

و علاج تلك الأدواء و دوائها.

(2) لقد كان يعرف صلّى اللّه عليه و آله علل انحطاط المجتمع المكيّ و اسباب تخلفه عن ركب الحضارة و المدنية، و عن اللحاق بقافلة التكامل البشري الصاعد.

من هنا رأى أن يضع يده على مواضع الداء في ذلك المجتمع المريض، و أن يعالج امراض البيئة العربية بشكل كامل، و كأي طبيب حاذق، و حكيم ماهر.

و نحن هنا ندرج أبرز المقاطع في الخطاب التاريخي الذي ألقاه سيد المرسلين

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 111.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:501

صلّى اللّه عليه و آله على الحشود الكبيرة المتجمعة في ذلك اليوم عند بيت اللّه المعظم.

تلك المقاطع التي يعالج كل واحد منها مرضا اجتماعيا خاصا من أمراض المجتمع في ذلك العصر و حتى في عصرنا الحاضر.

(1)

1- التفاخر بالنسب:

كان التفاخر بالنسب و القبيلة و العشيرة من الامراض المستحكمة المتجذرة في البيئة العربية الجاهلية، و كان من اكبر أمجاد المرء أن ينتسب إلى قبيلة معروفة، و يتفرع نسبه عن عشيرة بارزة كقريش مثلا:

و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خطابه المذكور لإبطال هذه السنّة الجاهلية المقيتة.

«أيّها الناس إنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تفاخرها بآبائها.

ألا إنّكم من آدم، و آدم من طين.

ألا إنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه».

لقد عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خطابه- لإفهام العالم البشري بأن ملاك الشخصية و التفوق انما هو (التقوى) و الورع فقط- إلى تصنيف الناس الى صنفين لا ثالث لهما، و اعطى الفضيلة و المنزلة لأهل التقوى و الورع خاصة.

و بهذا التصنيف الواقعي في ملاكاته أبطل جميع المعايير الخيالية و الملاكات و المقاييس المصطنعة إذ قال:

«إنما الناس رجلان:

مؤمن تقي كريم على اللّه.

و فاجر

شقيّ هين على اللّه».

(2)

2- التفاضل بالقومية العربية:

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعلم جيدا أن هذه الجماعة من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:502

البشر تعتبر (العربية) و الانتساب الى العرق العربي من المفاخر الكبرى، و كانت النخوة العربية قد ترسخت في قلوب تلك الجماعة و عروقها كداء دفين و مرض مزمن، فقال في خطابه لمعالجة هذا الداء الخبيث و تحطيم هذا الصرح الموهوم:

«إن العربية ليست بأب والد، و لكنه لسان ناطق، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه».

و هل نجد كلاما أعمق مغزى، و أوضح مرادا، و أقوى وقعا في النفوس من هذا الكلام؟!

(1)

3- لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض:

لقد قال داعية الحرية الحقيقية، و رائد حقوق الانسان الواقعي بهدف تقوية و دعم مبدأ المساواة بين الافراد و الجماعات البشرية:

«إنّ الناس من آدم الى يومنا هذا مثل اسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، و لا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى».

و قد ألغى رسول الانسانية الاعظم بهذا البيان الصريح كل انواع التمييز الظالمة، و كل ألوان التشدد مع الآخرين، و فعل و بيّن في ذلك العصر ما لم يفعله و لم يبينه ميثاق حقوق الانسان مع كل هذه الضجة الاعلامية التي نشهدها في عالمنا الحاضر.

(2)

4- الحروب الطويلة و الاحقاد القديمة:

لقد نشأت الاقوام العربية- نتيجة اشتغالها المستمر بالحروب الداخلية المتلاحقة و الطويلة- على الحقد و الضغينة.

فقد كانت نيران الحروب مشتعلة في المجتمعات العربية على قدم و ساق و من دون انقطاع.

و لقد واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد سيطرته الكاملة على الجزيرة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:503

العربية هذه المشكلة.

فقد كان يتوجب عليه- بغية إقرار الأمن و الهدوء و الحفاظ عليهما في البيئة الاسلامية- أن يبادر الى وضع نهاية لهذه المعضلة، و أن يعالج هذا الداء المزمن فلم يجد دواء لهذا الداء إلّا أن يطلب من الناس كافة أن يتنازلوا عمّا لهم من دماء في أعناق الآخرين سفكت في العهد الجاهلي، و أن تعتبر جميع ملفات العهد القديم باطلة، و منتهية، ليمكن عن هذا الطريق الحيلولة دون إراقة الدماء التي تعرض المجتمع الاسلامي الناشئ للخطر، و حتى ينتزع من أذهانهم و نفوسهم فكرة الاغارة و القتل العشوائي الذي كان يتم بحجة القصاص في حين كان من الممكن ان يتم بشكل القصاص الحقيقي العادل، فقال صلّى اللّه عليه و آله للوصول إلى مثل هذه الغاية السامية.

ألا إن كلّ مال و مأثرة

و دم في الجاهلية تحت قدميّ هاتين».

(1)

5- الاخوة الاسلامية:

و لقد ارتبط قسم من خطاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك الحشد العظيم بمسألة اتحاد المسلمين و وحدة كلمتهم، و حق المسلم على اخيه المسلم.

و قد كان مقصوده صلّى اللّه عليه و آله من بيان هذه الحقوق المتبادلة بين المسلمين التي تعتبر من مميزات الدين الاسلامي الحنيف، هو أن يرغّب غير المسلمين في الاسلام إذا هم سمعوا و رأوا مثل هذه الحقوق، و مثل هذه العلاقات المتينة بين المسلمين.

فقد قال في هذا الصعيد:

«المسلم أخو المسلم، و المسلمون إخوة و هم يد واحدة على من سواهم، نتكافؤ دماؤهم، ليسعى بذمتهم أدناهم» «1».

______________________________

(1) لقد نقلنا هذه المختارات من: روضة الكافي: ص 246، السيرة النبوية: ج 2 ص 412، المغازي:

ج 2 ص 836، بحار الأنوار: ج 21 ص 105، شرح ابن أبي الحديد: ج 17، ص 281.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:504

(1)

معاقبة المجرمين:

اشارة

ليس من شك في أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان مظهرا كاملا للانسانية و الرحمة و مثلا أعلى في العفو و الصفح، فهو رغم مشاعر بعض المتطرفين الملتهبة، أصدر عفوه العام عن أهل مكة كافة.

بيد أنه كان هناك بين المكيين عدة أشخاص تجاوزوا الحد في معاداتهم للنبي و معارضتهم للرسول، و ارتكبوا في هذا السبيل جرائم لا تغتفر، فلم يكن من الصالح- مع كل ما تسبّبوه من فجائع و فضائع- أن يعيشوا بين المسلمين في أمان و راحة، إذ كان من الممكن أن يسيئوا استخدام العفو النبويّ فيعودوا إلى مشاغبتهم، و تآمرهم ضدّ الاسلام مرة اخرى و يتسببوا في ظهور مشاكل أمنية جديدة لا يعرف مداها، و تبعاتها.

و قد قتل بعض هؤلاء المجرمين على أيدي المسلمين في الطرقات، و لجأ اثنان منهم

إلى بيت «أم هاني» بنت أبي طالب اخت الامام علي عليه السّلام، فلاحقهما «علي» و هو غارق في الحديد لا يعرف، فدخل بيت أمّ هانئ يطلبهما «1» فواجهت أم هانئ فارسا لا يعرف فقالت: أنا امرأة مسلمة و قد أجرت هذين، و جوار المسلمة محترم.

و في اكثر المصادر أنها قالت: يا عبد اللّه أنا أم هاني ابنة عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اخت علي بن أبي طالب، انصرف عن داري.

(2) و هنا عمد الامام علي عليه السّلام إلى الكشف عن هويته لتعرفه، فنزع المغفر عن رأسه، و اسفر عن وجهه.

فما أن وقعت عينا أم هاني على أخيها «علي» بعد فراق طال سنينا عديدة

______________________________

(1) يقول ابن هشام إن الرجلين هما: «الحارث بن هشام» و «زهير بن أبي أميّة بن المغيرة (السيرة النبوية: ج 2 ص 411).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:505

و مديدة إلا و انحدرت منهما دموع الشوق و الفرحة، و اعتنقت أخاها، ثم توجها معا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليعطي رأيه في أمانها، و جوارها فامضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جوار تلك المرأة المسلمة، و أمانها قائلا:

«قد أجرنا من أجرت و أمّنّا من أمّنت فلا يقتلهما» «1».

و قد كان عبد اللّه بن أبي سرح الذي أسلم ثم ارتدّ عن الاسلام احد العشرة الذين أمر النبي بقتلهم، و لكنه نجا من القتل بشفاعة عثمان له.

(1)

قصّة عكرمة و صفوان:

و لقد فرّ «عكرمة بن أبي جهل» أحد كبار مثيري الحروب و مشعلي الفتن ضد الاسلام و المسلمين، إلى اليمن، إلا أنّه نجا من القتل هو الآخر بشفاعة زوجته، في قصة مفصلة.

و أمّا «صفوان بن اميّة» فانه مضافا إلى جرائمه الفادحة، كان قد

قتل مسلما انتقاما لأبيه «أميّة بن خلف» الذي قتل على أيدي المسلمين في بدر، و ذلك عند ما صلبه أمام حشد كبير من أهل مكة في وضح النهار، و لهذا أهدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دمه، فعزم ان يخرج من الحجاز عن طريق البحر فرارا من القتل، و بخاصة عند ما علم بأنه من جملة العشرة الذين أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتلهم و أهدر دمهم.

(2) فطلب «عمير بن وهب» من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يعفو عنه، فقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شفاعته، و أعطاه عمامته ليدخل بها مكة كعلامة أمان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يصطحب معه إلى مكة «صفوان بن أميّة»، فذهب عمير إلى جدّة، و أخبر صفوان بذلك، و قدم به مكة

______________________________

(1) الارشاد: ص 72 إعلام الورى بأعلام الورى: ص 110، السيرة النبوية: ج 2 ص 411، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 144 و 145.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:506

على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلما وقعت عينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على كبير المجرمين بل اكبرهم يومئذ قال له ردّا عليه لما سأله قائلا: أن عمير يزعم أنك قد أمنتني؟

«صدقت، انزل أبا وهب».

ثم دعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى الاسلام فقال: اجعلنى بالخيار شهرين، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أنت بالخيار فيه أربعة أشهر» «1».

و بهذا أمهله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعة أشهر كفرصة يفكّر فيها في الاسلام، و دعوة النبي.

(1) إن دراسة اجمالية و سريعة لهذا الموقف تكشف القناع عن حقيقة مسلّمة في

الاسلام و في تاريخه العظيم يحاول المستشرقون المغرضون إنكارها و إخفاءها، و هو أن رءوس الشرك كانوا أحرارا في اختيار العقيدة الاسلامية و اعتناقها.

فهم اختاروها و اعتنقوها بمحض إرادتهم من دون إكراه أو إجبار، و لا إرعاب أو تخويف، بل كانت القيادة الاسلامية تسعى دائما إلى أن يتم اعتناق عقيدة التوحيد عن طريق التدبر و التفكير الصحيح، لاعن طريق الارعاب و التخويف.

هذا هو أبرز حوادث فتح مكة و اكثرها عبرة، و بقي أن نتعرض لذكر حادثتين جديرتين بالاطلاع و التأمل استكمالا لهذه الدراسة.

و تانك الحادثتان هما:

(2)

1- مبايعة النبي نساء مكة:

بعد بيعة «العقبة» كانت هذه هي المرة الاولى التي اخذ رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 418 المغازي: ج 2 ص 854.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:507

اللّه عليه و آله البيعة من النساء بشكل ظاهريّ و رسميّ، و لقد بايعنه على الامور التالية:

1- أن لا يشركن باللّه شيئا.

2- و لا يسرقن.

3- و لا يزنين.

4- و لا يقتلن أولادهن.

5- و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهنّ.

6- و لا يعصين النبي في معروف.

(1) و لقد تمت هذه البيعة بالكيفية التالية و هي: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر بقدح من ماء ثم ألقى في الماء شيئا من الطيب و العطر ثم ادخل يده فيه و تلا الآية «1» التي وردت فيه الامور المذكورة ثم نهض من مكانه و قال صلّى اللّه عليه و آله للنساء:

«من أرادت أن تبايع فلتدخل يدها في القدح فاني لا اصافح النساء» «2».

و كانت العلّة في أخذ مثل هذه البيعة- الخاصة في موادها و بنودها- من نساء مكة هي وجود عدد كبير من النسوة الفاسدات بينهن، فلو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله لم يقدم على أخذ مثل هذه البيعة منهن لكان من المحتمل أن تستأنف تلك النسوة الفاسدات عملهنّ القبيح حتى في السرّ.

(2) و كانت «هند» زوجة أبي سفيان بن حرب، و أمّ معاوية ذات السوابق السوداء و الفاضحة من بين تلك النسوة.

و قد كانت هذه المرأة لفضاضة في طبعها و خشونة، في سلوكها، تهيمن على عقلية زوجها أبي سفيان، و لطالما فرضت عليه آراءها، حتى أنها يوم قرّر أبو سفيان الاستسلام للأمر الواقع، و رغّب أهل مكة في السلام حرّضت الناس على القتال

______________________________

(1) الممتحنة: 12.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 113.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:508

و سفك الدماء و مواجهة جنود الاسلام.

(1) إن تحريضات هذه المرأة بالذات هي التي أشعلت نيران الحرب في «احد»، تلك النيران التي كلّفت، رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبعين شهيدا كان أبرزهم «حمزة» الذي بقرت تلك المرأة الفاسدة الفاجرة الحاقدة و بمنتهى القسوة و الفضاضة بطنه، و شقّت صدره، و استخرجت كبده، و قطعته بأسنانها نصفين.

لم يكن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدّ من أخذ هذا النوع من البيعة من هذه المرأة و أمثالها في مرأى و مسمع من الناس.

و قد تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما نزل من قوله تعالى من شروط البيعة عليهن، فلما بلغ إلى قوله: «و لا يسرقن» نهضت هند- و كانت آنذاك متنقبة متنكرة- و قالت: إنّ أبا سفيان رجل ممسك و اللّه إني كنت لأصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة و ما كنت أدري أ كان ذلك حلالا أم لا؟

(2) فنهض أبو سفيان و قال: ما أصبت من مالي فيما مضى و فيما غبر فهو لك حلال.

فعرف

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من خلال هذا الحوار بين هند و أبي سفيان أن المتكلمة هي «هند» بنت عتبة فقال صلّى اللّه عليه و آله لها سائلا: «و انك لهند بنت عتبة»؟!

قالت: نعم، فاعف عما سلف عفا اللّه عنك!

و لما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى قوله تعالى: «و لا يزنين» نهضت هند مرة اخرى و ذكرت و هى تبرّئ نفسها من هذه الوصمة، و ذكرت جملة كشفت عن خبيئة نفسها من دون شعور.

فلقد قالت: يا رسول اللّه أو تزني الحرة؟!

لقد كان هذا الدفاع يعدّ- من منظار علم النفس- نوعا من كشف القناع عما في السريرة و الافصاح عما في الضمير. و حيث إن هندا كانت تعرف أنها كانت فيما مضى تفعل مثل هذا، و كانت واثقة من ان الناس عند سماع هذه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:509

العبارة سيلتفتون بانظارهم إليها لذلك لهذا سارعت فورا- و يهدف صرف الأنظار عن نفسها- إلى القول: و هل تزني إلّا الأمة دون الحرة.

و من الصدف انه كان من الرجال في ذلك المجلس بعض من سبقت له معها علاقات غير مشروعة في العهد الجاهلي فتعجب من إنكارها، فضحك حتى استغرق في الضحك، و تسبّب دفاع هند عن نفسها في المزيد من افتضاحها «1».

(1)

هدم بيوت الاصنام بمكة و ما حولها:

كانت في مكة و ضواحيها بيوت عديدة و كثيرة للاصنام التي كانت تقدّسها، و تحترمها القبائل المختلفة القاطنة في تلك المناطق، و حتى يقضي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على جذور الوثنية في أرض مكة قام بارسال فرق عسكرية متعددة إلى تلكم المناطق لهدم تلك المعابد، و البيوت، و إزالة الاصنام و الاوثان.

كما أنّه صلّى اللّه عليه و آله أعلن في

مكة نفسها أن من كان في بيته صنم فليكسره، و في هذا السياق أرسل «عمرو بن العاص» لتحطيم صنم «سواع» و سعد بن زيد لهدم صنم «منات».

و توجه «خالد بن الوليد» على رأس فرقة عسكرية الى «تهامة» لدعوة قبيلة «جذيمة بن عامر» إلى الاسلام، و هدم صنم «عزى»، و قد نهاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين كلّفه بهذه المهمة عن القتال و إراقة الدماء و بعث معه «عبد الرحمن بن عوف» ليعينه على ذلك.

و كانت قبيلة بني جذيمة قد قتلت عمّ خالد بن الوليد «2» و والد عبد الرحمن لدى رجوعهما من اليمن في ايام الجاهلية و صادرت أموالهما، و لهذا كان «خالد»

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 5 ص 276.

(2) هو الفاكه بن المغيرة بين عبد اللّه بن عمر بن مخزوم راجع للوقوف على اصل هذه الواقعة السيرة النبوية: ج 4 ص 74 و تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 61.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:510

يحقد عليهم.

(1) فلما التقى «خالد» بني جذيمة في أرضهم، وجدهم قد أخذوا السلاح، و تهيّأوا لقتاله فأمّنهم و قال لهم: ضعوا السلاح فان الناس قد أسلموا.

فرأى زعماء القوم ان يضع الناس السلاح، و يسلّموا لجنود الاسلام، و لكن رجلا من القوم أدرك بفطنته سوء نية خالد، فقال لزعماء القبيلة: و اللّه لا أضع سلاحي أبدا، فما بعد وضع السلاح إلا الإسار، و ما بعد الإسار الّا ضرب الاعناق!

و لكن بني جذيمة رفضت قوله، و أخذت برأي أسيادها فوضعت السلاح، و امّن الناس، فأمر خالد جنوده فورا بان يكتّفوا رجال القبيلة، و باتوا في وثاق.

فلما كان في السحر أمر بأن يقتل فريق منهم، و أطلق سراح آخرين.

(2) و عند ما بلغ رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله نبأ هذه الجريمة النكراء غضب صلّى اللّه عليه و آله على خالد غضبا شديدا، و دعا عليا من فوره، و أعطاه مبلغا كبيرا من المال و أمره بالتوجه الى بني جذيمة، و ان يدفع دية من قتل أو جرح خالد من رجالهم، و ثمن كل ما خسروه أو فقدوه من أموالهم بدقة و عناية كاملتين.

فودى علي عليه السّلام لهم كل ما أصاب خالد، حتى أنه ليدي ميلغة الكلب (و هي الاناء الذي يلغ فيه الكلب) حتى اذا لم يبق شي ء من دم و لا مال إلّا ودّاه بقيت معه بقية من المال، فدعا رؤساء تلك القبيلة المنكوبة و قال لهم: هل بقي لكم من دم أو مال لم يود لكم؟

فقالوا: لا.

فقال عليه السّلام: فاني اعطيكم هذه البقية من المال احتياطا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّا يعلم و لا تعلمون.

ففعل ثم رجع الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاخبره الخبر فقال صلّى اللّه عليه و آله:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:511

«أصبت و احسنت».

(1) ثم قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و استقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى انه ليرى ممّا تحت إبطيه و قال:

«اللّهم إنّي أبرأ ممّا صنع خالد بن الوليد».

قالها ثلاث مرات «1».

لقد تلافى علي عليه السّلام جميع الخسائر المادية و الروحية التي لحقت ببني جذيمة، و قد أعطى شيئا من ذلك المال لمن ارتاع، و فزع من صنع خالد و جنوده، و طيّب خواطرهم و قال: و هذه لروعة القلوب.

و عند ما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بصنيع عليّ عليه السّلام و إجراءاته العادلة و الانسانية مع بني جذيمة المنكوبين قال في

حقه:

«و اللّه ما يسرّني يا عليّ أنّ لي بما صنعت حمر النعم «2» ... أرضيتني رضي اللّه عنك ... يا عليّ أنت هادي أمّتي، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبّك و أخذ بطريقتك، ألا إن الشقيّ كل الشقيّ من خالفك و رغب عن طريقتك إلى يوم القيامة ...» «3».

(2)

جرائم اخرى لخالد:

لم تقتصر جرائم خالد التي ارتكبها طيلة حياته الاسلامية في ظاهرها على ما ذكر بل لقد ارتكب جريمة اخرى في أيام حكومة «أبي بكر» اكبر و افضع ممّا مرت، و إليك خلاصة هذه الواقعة:

لقد ارتدّت بعض القبائل- بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أو

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 420، الكامل لابن الاثير: ج 1 ص 173 و 174 امتاع الاسماع: ج 1 ص 400.

(2) الخصال: ص 562.

(3) مجالس ابن الشيخ: ص 318.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:512

بالاحرى و في الحقيقة رفضت الاعتراف بخلافة أبي بكر، و امتنعت عن أداء الزكاة إليه، فبعث أبو بكر فرقا عسكرية مختلفة لقمع تلك الجماعات المتمردة.

(1) و بعث خالد بن الوليد على رأس فرقة عسكرية الى قبيلة «مالك بن نويرة» لمقاتلتها بحجة الارتداد، و كان «مالك» و جميع أفراد قبيلته على استعداد للقتال، و كانوا يقولون: نحن مسلمون، فلا معنى لمقاتلتنا.

فمكر بهم خالد على نحو مكره ببني جذيمة في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أمّنهم، و طلب منهم إلقاء اسلحتهم، فلما وضعوا أسلحتهم، أمر بحبسهم، ثم قتلهم و قتل زعيمهم المسلم الصالح «مالك بن نويرة» و اعتدى على زوجته في نفس الليلة «1».

فهل يصح أن يوصف هذا الرجل- على هذه السوابق السوداء، و مع هذا الملفّ المخزي- بسيف اللّه، و أن يعدّ من امراء الاسلام

المجاهدين الصالحين؟!! «2».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 3 ص 149، أسد الغابة: ج 4 ص 295 تاريخ ابن عساكر: ج 5 ص 105، 112 تاريخ ابن كثير: ج 6 ص 321، تاريخ الخميس: ج 1 ص 233.

(2) لقد ورد ذكر هذه الحادثة في كتب التاريخ في حوادث السنة الأولى من حكومة «أبي بكر» بصورة مفصلة و قد ذكرناها ملخصة.

و للوقوف على تحليل هذه القضية المؤسفة راجع كتاب النص و الاجتهاد ص 61- 75.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:513

(1)

50 معركة حنين

اشارة

كانت طريقة رسول للّه صلّى اللّه عليه و آله عند فتح أيّة منطقة من المناطق هي أن يقوم بنفسه بادارة شئونها السياسية و الدينية ما دام هو فيها، فإذا أراد أن يغادرها عيّن أفرادا صالحين للقيام بتلك الأمور، و شغل تلك المناصب لأن الناس في تلك المناطق كانوا قد اعتادوا على النظام المباد، و لم يكن لهم معرفة بالنظام الجديد، هذا من جهة، و من جهة اخرى فإن الاسلام دين متكامل، و نظام سياسي، اجتماعي، أخلاقي، و معنوي يستمد قوانينه من منبع الوحي الطاهر، و يحتاج إيقاف الناس على تلكم القوانين و التعاليم، و تطبيقها العملي إلى أفراد صالحين متمرسين و مدرّبين على التثقيف و التطبيق الصحيحين، ليمكنهم إيقاف الناس في تلك المناطق على مبادئ الاسلام و اصوله الصحيحة، و تنفيذ البرنامج السماوي الاسلامي في حياتهم على النحو الصحيح.

(2) و قد فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا عند فتح مكة، فانه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن قرر مغادرة مكة و المسير إلى قبيلتي «هوازن» و «ثقيف» عيّن «معاذ بن جبل» ليعلّم الناس القرآن، و أحكام الاسلام، و «عتاب بن أسيد» الذي كان رجلا مؤهّلا، لادارة

الامور، و الصلاة بالناس جماعة، ثم غادر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة بأصحابه بعد أن مكث فيها خمسة عشر يوما متوجها إلى أرض هوازن «1».

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 137، و المغازي: ج 3 ص 889.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:514

(1)

جيش قليل النظير:

كان الجيش الذي ساربه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى هوازن يبلغ (12) ألفا من الجنود المسلحين: عشرة آلاف هم الذين صحبوه من المدينة، و شاركوا في فتح مكة، و ألفان من رجال و شباب قريش الذين أسلموا بعد الفتح، و قد أوكل النبي صلّى اللّه عليه و آله قيادتهم إلى أبي سفيان «1».

و لقد كان مثل هذا الجيش العظيم و الجمع الكبير قليل النظير، و نادر المثيل في تلك العصور، و قد صارت هذه الكثرة ذاتها سببا في هزيمته في مبدأ الأمر، فقد أعجب أفراد هذا الجيش بكثرتهم- على خلاف ما مضى- فتجاهلوا التكتيكات النظامية الدقيقة، و غفلوا عن خطط العدو و نواياه فكان ذلك داعيا إلى هزيمتهم!! فقد قال أبو بكر لما رأى كثرة المسلمين: لو لقينا بني شيبان ما بالينا، لن نغلب اليوم من قلة «2».

و لكنه لم يكن يعرف أن الانتصار ليس هو بكثرة الافراد و ضخامة الجيش، بل ان هذا العامل غير مهمّ بالقياس إلى بقية العوامل.

و لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة اذ قال تعالى:

«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» «3».

(2)

تحصيل المعلومات العسكرية:

بعد فتح مكة دبّت حركة خاصة في قبائل هوازن و ثقيف، و جرت اتصالات مكثفة بينها، و كان حلقة الاتصال، و المدبر الحقيقي لهذه التحركات شاب عرف

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 139، المغازي: ج 3 ص 889.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 150، المغازي: ج 3 ص 889.

(3) التوبة: 25.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:515

بالفروسية و الشجاعة يدعى «مالك بن عوف النصري».

(1) و قد تقرّر بعد سلسلة من

الاتصالات و المداولات بين زعماء هوازن و ثقيف أن تبادر القبيلتان المذكورتان الى توجيه ضربة قوية الى جيش الاسلام عبر خدعة عسكرية، قبل أن يغزوها جنود الاسلام في عقر دورها.

فقد اختارت لقيادة هذه المهمة شابا متهورا في العقد الثالث من عمره هو مالك بن عوف النصرى الذي أشرنا إليه عما قريب، و اشترك في هذه الغزوة جميع قبائل هوازن و ثقيف بصورة موحّدة.

فكان من تدبير هذا القائد أن اقترح على جيشه أن يجعلوا النساء و الاطفال و الاموال وراء ظهورهم و عند ما سألوه عن علة ذلك الاجراء قال: اردت من جعل كل رجل أهله و ماله و ولده و نساءه خلفه حتى يقاتل عنهم «1».

فقبل المشتركون في تلك العملية بأمر قائدهم هذا بالاجماع، و جعلوا أموالهم و أهليهم خلفهم.

(2) و قد خالف شيخ مجرب حنّكته الحروب منهم يدعى «دريد بن الصمة» هذه الخطة عند ما سمع رغاء البعير، و ثغاء الشاء، و خوار البقر، و بكاء الصغير، و جادل فيها مالكا، و اعتبرها خطة فاشلة من الناحية العسكرية و قال للناس:

يا قوم إن هذا فاضحكم في عورتكم، و ممكّن منكم عدوّكم، و هل يرد المنهزم شي ء؟

و لكن مالكا لم يعر كلام هذا الشيخ و نصيحته اهتماما و قال:- و هو يتهمه بالجهل بفنون القتال الحديثة-: أنك قد كبرت، و كبر علمك، و حدث بعدك من هو أبصر بالحرب منك.

و لقد اثبت المستقبل صحة ما قاله ذلك الشيخ المحنّك فان إشراك النساء و الاطفال و الانعام في الحرب، و إخراجهم إلى ساحة القتال أحدث لمقاتلي

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 897.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:516

ثقيف و هوازن مشاكل كثيرة، فيما بعد.

(1) ثم إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله لما سمع بتحركات هاتين القبيلتين بعث «عبد اللّه بن حدرد الأسلمي»، و أمره أن يدخل في هوازن و ثقيف فيقيم فيهم حتى يعرف بنواياهم و خططهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق الرجل إليهم ثم عاد الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأخبارهم.

و كان «مالك بن عوف» قائد هوازن و ثقيف قد بعث بدوره ثلاثة جواسيس ليتجسسوا له على المسلمين، و يأتوه بأخبارهم، فعادوا بأجمعهم فزعين ممّا شاهدوه من قوة المسلمين و كثرتهم.

فقرر قائد العدوّ أن يجبر ضعف جنوده و قلتهم باستخدام الخدع العسكرية، و التوسل باسلوب المباغتة ليفرق- بهجوم مفاجئ- صفوف المسلمين، و يهدم نظامهم و انسجامهم، و يصيبهم بالهرج و المرج، و الفوضى و الحيرة ليختلّ باختلال الجيش أمر القيادة، فلا تتمكن من ضبط الامور، و تحقيق انتصار على المسلمين.

(2) و لتحقيق هذا الهدف هبط «مالك بن عوف» بجيشه في واد ينحدر الى منطقة «حنين»، و أمر بأن يختفي الجنود و المقاتلون خلف الصخور و الاحجار، و في شغاف الجبال، و كل ما ارتفع من ذلك الوادي و نشز، حتى إذا انحدر جنود الاسلام في هذا الوادي في غفلة من هذا التدبير خرج رجال هوازن و ثقيف من مكامنهم، و كمائنهم، و رموا المسلمين الغافلين عن خطة العدو، بالحجارة و النبل، ثم يخرج إليهم فريق في أسفل الوادي و يضربونهم بالسيوف!!

(3)

تجهيزات المسلمين:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عارفا بقوة العدوّ و عناده فدعى «صفوان بن أميّة» قبل مغادرة مكة، و استعار منه مائة درع بأداتها كاملة عارية مضمونة، و لبس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه درعين كما لبس المغفر و البيضة، و ركب بغلته البيضاء و

سار خلف جيشه و سار حتى دنوا جميعا من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:517

الوادي فاستراحوا ليلتهم عند فم الوادي، و مع غلس الصبح انحدرت كتيبة «بني سليم» بقيادة «خالد بن الوليد» في وادى «حنين»، و بينما دخل اكثر جنود الاسلام ذلك الوادي حمل عليهم رجال هوازن من كمائنهم في مضيق الوادي و شعابه حملة رجل واحد، و أخذوا يرشقونهم بالاحجار و النبال، فالقت أصوات الاحجار و النبال فزعا شديدا في قلوب المسلمين الذين مطروا بالسهام و النبال و الاحجار من جانب، بينما احتوشهم فريق آخر من هوازن بسيوفهم و وقعوا فيهم ضربا و قتلا.

(1) أجل لقد فعلت مكيدة هوازن فعلتها في قلوب المسلمين، فقد أوحشتها، و أصابت المسلمين بالفوضى، و خلخلت صفوفهم فلاذوا بالفرار من دون اختيار، و قد أخلّوا هم بنظامهم أكثر من ما فعله العدوّ بهم.

ففرح المنافقون في جيش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهذا الحادث، و سروا به سرورا عظيما حتى قال أبو سفيان شامتا: لا ينتهي هزيمتهم دون البحر، و قال آخر: الا بطل السحر اليوم، و قال ثالث: لا يجتبرها محمّد و أصحابه، و عزم رابع على اغتيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك الوضع المضطرب و إطفاء شعلة رسالته المقدسة «1».

(2)

استقامة النبي و من ثبت من أصحابه:

لقد ازعج فرار المسلمين الذي كان نابعا- في الدرجة الاولى من الفزع و الفوضى التي أصابتهم، رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أدرك صلّى اللّه عليه و آله بأنه لو تأخّر لحظة واحدة عن فعل ما يجب أن يفعله لتغيّر وجه التاريخ و لتبدّل مسار البشرية، و لحطّم جيش الشرك جيش التوحيد.

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 909- 910، السيرة النبوية: ج 2 ص 443،

امتاع الاسماع: ج 1 ص 411 و 412.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:518

من هنا صاح بأعلى صوته و هو على بغلته:

«يا أنصار اللّه و انصار رسوله أنا عبد اللّه و رسوله».

(1) قال هذا و اندفع ببغلته الى ساحة القتال في المكان الذي جعله «مالك» و جنوده مسرحا لمهاجمة المسلمين و مباغتتهم و قتالهم، و مشى معه من لازمه في تلك اللحظات و ثبتوا معه كعلي بن أبي طالب عليه السّلام و العباس بن عبد المطلب، و الفضل بن العباس، و أبي سفيان بن الحارث الذي لم يغفلوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منذ بدء القتال لحظة واحدة، و امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمّه العباس الذي كان صاحب صوت عظيم أن ينادي في المسلمين الذين كانوا يواصلون فرارهم، و لا يلوون على شي ء:

«يا معشر الانصار، يا معشر السمرة» «1».

و يقصد من السمرة الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان، فكان هذا النداء تذكيرا بتلك البيعة التي تعهدوا فيها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بان ينصروه حتى الموت.

(2) فبلغت صرخات العباس مسامع المسلمين فثارت حميتهم، و أخذوا يثوبون الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم يقولون: لبيك لبيك.

لقد أوجبت نداءات العباس المتلاحقة التي كانت تخبر و تنبئ في الحقيقة عن سلامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن تعود الجماعات الهاربة من ساحة القتال الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي نادمة على فرارها ندما شديدا، و نظّموا صفوفهم أمام العدو من جديد أفضل ممّا مضى، ثم حملوا حملة رجل واحد على العدوّ الغادر بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لغسل ما لحق

بهم من عار الفرار، و استطاعوا في أقصر مدة من الوقت ان يجبروا العدوّ على الانسحاب و الفرار و الرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله يقول تشجيعا لهم، و تقوية لمعنوياتهم:

______________________________

(1) و لقد ذكر المغازي في ج 3 ص 902 جانبا من بطولات علي عليه السّلام و تضحياته في هذه الموقعة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:519

«أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب».

(1) و قد تسبّب استخدام هذا التدبير العسكري الحكيم في إرعاب رجال هوازن و من ساعدهم من ثقيف المقاتلين، بشدة بحيث انهزموا أمام هجوم المسلمين هذا هزيمة قبيحة و منكرة، تاركين وراءهم اموالهم و نساءهم و صبيانهم الذين أتوبهم الى ساحة المعركة، و جعلوهم خلف ظهورهم بناء على أوامر قائدهم مالك- كما أسلفنا، و فروا بعد أن قتل منهم جماعة إلى منطقة أوطاس و نخلة، و قلاع الطائف.

(2)

غنائم الحرب:

لقد بلغت خسائر المسلمين من الارواح في هذه المعركة ثمانية أشخاص في مقابل أسر ستة آلاف نفر من العدو.

كما و أن المسلمين غنموا في هذه الواقعة أربعة و عشرين ألف بعير، و أربعين ألف رأس غنم، و أربعة آلاف اوقية «1» من الفضة.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر بأن يؤخذ الاسرى و الغنائم الى منطقة تدعى الجعرانة (و هي ماء بين الطائف و مكة) و كلّف أشخاصا معيّنين بحراستها و حفظها و جعل الأسرى في بيوت خاصة، كما أمر بأن تحفظ الغنائم من دون أن يتصرف فيها أحد في ذلك المكان، ريثما يرى فيها رأيه، بعد ان يلاحق فلول العدو الذي فرّ الى أوطاس و نخلة و الطائف «2».

لقطتان من الخلق النبوي العظيم:

و ينبغي ان نشير هنا إلى قصتين تدلان على سمو الاخلاق النبوية، و عمق

______________________________

(1) الرطل 2564 غرام و الاوقية 12/ 1 من الرطل فعلى هذا تكون الاوقية 213 غراما، و أربعة آلاف أوقية تساوى 852 كيلو غراما.

(2) كتب ابن هشام في سيرته أن عدد القتلى في هذه المعركة كان أربعة أشخاص، و لكن معركة واسعة مثل هذه يتوقع أن يكون قتلاها اكثر من هذا العدد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:520

الرحمة الاسلامية:

1- بعد أن أعاد النبي المسلمين الهاربين إلى ساحة المعركة فكرّوا على هوازن و هزموهم هزيمة قبيحة، قالت أمّ سليم بنت ملحان للنبي صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه! ما رأيت هؤلاء الذي أسلموا و فرّوا عنك و خذلوك!! لا تعف عنهم اذا أمكنك اللّه منهم، تقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين!

فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا أم سليم! قد كفى اللّه، عافية اللّه أوسع «1».

و هكذا نجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله يعفو عن أصحابه الهاربين الذين خذلوه في تلك الموقعة.

2- حنق المسلمون على المشركين في وقعة حنين فقتلوهم حتى اخذوا في قتل الذرية، فلما بلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرية! ألا لا تقتل الذرية.

فقال اسيد بن الحضير: يا رسول اللّه أ ليس إنما هم أولاد المشركين!

فقال: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟! كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، و أبواها يهوّدانها أو ينصّرانها «2».

______________________________

(1) و (2) امتاع الاسماع: ج 1 ص 409.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:521

(1)

51 غزوة الطائف

اشارة

«الطائف» من مصايف الحجاز و من المناطق الخصبة، الكثيرة الزرع فيها، و تقع الطائف في الجنوب الشرقي من مكة على بعد (12) فرسخا منها، و قد كانت و لا تزال بسبب مناخها اللطيف، و بساتينها المثمرة، و نخيلها الكثيرة مقصدا بل مركزا و موطنا لطلاب اللذة و الراحة من أهل الحجاز.

و قد كانت قبيلة ثقيف التي كانت تعدّ من القبائل العربية القوية الكثيرة العدد تسكن في هذا البلد.

و كانت أعراب ثقيف من الذين شاركوا في معركة «حنين» ضدّ الاسلام و المسلمين، ثم لجئوا بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بهم على أيدي جنود الاسلام الظافرين إلى بلدهم الذي كان لهم آنذاك فيه حصن قويّ و منيع.

و لتكميل الانتصار الاسلامي أمر الرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله بملاحقة الهاربين المنهزمين في معركة حنين.

(2) من هنا كلّف صلّى اللّه عليه و آله أبا عامر الأشعري و أبا موسى الأشعري و فريقا من جنود الاسلام بملاحقة من لجأ منهم إلى «أوطاس» فقتل القائد الأوّل في هذه الواقعة، و استطاع الثاني أن يحرز انتصارا كبيرا على العدو و يفرق

جمعه «1».

و أما النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه فقد توجه بالبقية من جيشه الى

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 915 و 916.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:522

الطائف «1»، و مرّ في طريقه على حصن مالك بن عوف النصرى مثير فتنة «حنين» و رأس المؤامرة، فهدمه و سوّاه بالأرض.

على أن تهديم حصن «مالك» لم يكن بدافع انتقاميّ بل كان لأجل ان لا يترك وراءه نقطة اعتماد و ملجأ للعدوّ.

(1) تحركت أعمدة الجيش الاسلامي الواحدة تلو الاخرى، و استقرت حول مدينة الطائف.

كان حصن الطائف حصنا منيعا، مرتفع الجدران، قوي البنيان، فيه أبراج للمراقبة مسيطرة على خارج الحصن سيطرة كاملة.

و منذ أن استقرّ الجيش الاسلامي خارج الطائف بدأ حصاره لها، غير أنّ الحصار لم يتكامل بعد حتى عمد العدو إلى رمي المسلمين للحيلولة دون تقدّمهم نحو المواقع المرسومة لها، فقتل بهذا جماعة من المسلمين في بداية هذه الواقعة.

فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الجيش بالانسحاب و التراجع التكتيكي الى نقطة بعيدة عند مرمى العدوّ، و التمركز فيها ريثما تصدر الاوامر الجديدة

و هنا اقترح «سلمان الفارسي» الذي سبق له أن اقترح حفر الخندق في معركة الاحزاب، و كان ذا خبرة بفنون القتال، اقترح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يرمي الحصن بالمنجنيق «2»، و كان هذا الجهاز الذي كان يستخدم في حروب تلك الأعصر يؤدى نفس دور الدبابة في الحروب الراهنة.

فقام امراء الجيش الاسلامي بنصب المنجنيق بارشاد و توجيه من سلمان، و أخذوا يرمون الحصن المذكور و أبراجها الشاهقة بالحجارة طوال عشرين يوما متوالية.

و لكن العدوّ لم يسكت تجاه هذه العمليات القوية التي بدأها المسلمون،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 163.

(2) امتاع الاسماع: ج 1 ص

417.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:523

فزاد من رميه و استمر في ذلك، فوقعت بين المسلمين بعض الاصابات نتيجة ذلك «1».

(1) و الآن يجب أن نرى كيف حصل المسلمون على جهاز المنجنيق، هذا؟

يرى البعض أن سلمانا هو الذي صنع هذا الجهاز و علّم المسلمين كيفية استخدامه في هذه الغزوة «2».

و يرى آخرون ان المسلمين حصلوا على هذا الجهاز و غنموه من اليهود في خيبر عند فتح قلاعهم و حصونهم و اصطحبوه معهم إلى الطائف و استخدموه في غزوها.

و لا يبعد أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قد ادخل بعض التحسينات على ذلك الذي جلبه المسلمون من خيبر، و علّم المسلمين كيفية نصبه و استخدامه في القتال، فانه يستفاد من التاريخ أن المنجنيق لم يكن منحصرا في المنجنيق الذي حصل عليه من يهود خيبر، لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث الطفيل بن عمرو الدوسي لتحطيم أصنام لقبيلة «دوس» في وقت متزامن مع خروجه الى معركة حنين ثم الطائف فعاد الطفل فاتحا مع من خرجوا تحت إمرته من جنود الاسلام الاربعمائة، و كانوا برمتهم من أبناء قبيلته، فقد قدم الطائف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع عدد واحد من جهاز المنجنيق و عربتين حربيتين خاصتين، و قد استخدمت هذه الآليات في غزوة الطائف.

(2)

شدخ جدار الحصن بالمنجنيق:

كان لا بدّ لاخضاع العدو و دفعه إلى الاستسلام من القيام بحملات واسعة و من مختلف الاطراف و النواحي، و لهذا تقرر أن يقوم جنود الاسلام، مضافا إلى

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 158.

(2) السيرة النبوية: ج 4 ص 126، و ابن هشام يرى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو اول من أستخدم المنجنيق في الجزيرة العربية.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:524

رمي الحصن بالمنجنيق،

إيجاد ثغرة في الجدار واجه مشكلة كبرى، لأن السهام و الاحجار، و النيران كانت تنصبّ على رءوس المقاتلين المسلمين كالمطر، و لم يكن في مقدور أحد منهم الاقتراب و الدنوّ من جدار الحصن، فكان أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو استخدام الدبابة التي كانت في جيوش العالم الكبرى في تلك العصور في صورتها البدائية.

و كانت الدبابة آنذاك تصنع من الخشب و تغطى بجلود البقر، و يدخل تحتها جماعة من الجنود الاقوياء ثم تتحرك نحو الحصن حتى تدنو إليه، و يقوم الجنود بعملية إيجاد ثغرة او نقب في جدار الحصن، فاستخدم نفر من جنود الاسلام الشجعان الاشداء هذا الجهاز بالطريقة المذكورة، بيد أن العدو قد حال دون هذا العمل إذ ألقى على الدبابة سكك الحديد المحماة بالنار فاخرب سقفها، و اضطرّ أفرادها الى الخروج منها، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت منهم رجلا واحدا و لم ينتج هذه التكتيك القتالي، و لم يتحقق أي نجاح في هذا المجال، فانصرف المسلمون عن استخدامه «1».

(1)

ضغوط اقتصادية و نفسية:

إن تحقيق الانتصار لا ينحصر في مجرد استخدام الطرق و التكتيكات العسكرية، بل للقائد الحكيم أن يستخدم- لاضعاف قوة العدو و كسر صموده- الضربات و الضغوط الاقتصادية و يجبره على الاستسلام.

و قد تكون الضربة النفسية و الاقتصادية اقوى مفعولا بدرجات أى إن أثرها تفوق بمراتب عديدة أثر الضربة العسكرية، و الإضرار البدني الذي يلحق بجنود العدو و أفراده.

و لقد كانت أرض الطائف أرض زراعة، و نخيل و أعناب، و كانت معروفة

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 928.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:525

في الحجاز بخصبها، و كثرة محاصيلها و خيراتها، لأن أهلها كانوا يجهدون كثيرا في تنمية نخيلهم و أعنابهم و رعايتها، و يولون الحفاظ عليها اهتماما كبيرا، و يعطون

هذا الأمر القسط الاكبر من جهودهم.

(1) فأعلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لتهديد المتمردين اللاجئين إلى الحصن، و المعتصمين به، بأنه سيعمد إلى قطع أعناب ثقيف، و إفناء مزارعها إذا واصل المعتصمون بالحصن مقاومتهم و لم يسلموا للمسلمين.

فلم يكترث العدو بهذا التهديد لأنه لم يك يتصور أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- و هو النبي الذي عرف برحمته و رافته- يستخدم مثل هذه الطريقة.

و فجأة وجدت «ثقيف» أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصدر أوامره بقطع الأعناب، و اتلاف المزارع و تحريقها، فوقع المسلمون فيها يقطعون و يحرقون.

فعجّت «ثقيف» لذلك و ضجّت، و استغاثت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أقسمت عليه بالرحم و القرابة أن يكف عن ذلك، فتركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله احتراما لوشيجة القربى التي كانت بينه و بين «ثقيف».

(2) ان المعتصمين بحصن الطائف و ان كانوا من مثيرى معركة حنين و الطائف، و تانك الغزوتان اللتان كلّفتا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الكثير من الخسائر و المتاعب غير أنه صلّى اللّه عليه و آله قبل مع ذلك التماس العدو و طلبه هذا، فابدى و للمرة الاخرى وجه الاسلام الرحيم و كشف عن إنسانيته في التعامل مع العدوّ اللدود في ميدان القتال، و أمر أصحابه بالكف عن قطع الاعناب و تحريقها.

ثم إن مع ما نعرفه و نعهده من أخلاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أساليبه الانسانية في مجال التعامل مع العدوّ، يمكننا أن ندرك بسرعة أن الامر بقطع الاعناب و تحريق المزارع كان مجرد تهديد و محاولة ضغط على العدو بحيث إذا لم تنجح هذه الطريقة

معه لكفّ عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتما.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:526

(1)

آخر محاولة لفتح حصن الطائف:

كانت قبيلة «ثقيف» جماعة ثريّة، و ذات مال كثير، و عبيد و إماء كثيرين، و لكي يحصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على معلومات دقيقة عن الاوضاع في داخل الحصن، و يعرف بالتالي حجم امكانات العدو و مدى استعداداته من جهة، و يوجد الاختلاف في صفوفه من جهة اخرى أمر أن يعلن عن القرار التالي: و ينادى: أي عبد نزل من الحصن و خرج إلينا فهو حرّ.

و نفعت هذه الطريقة إلى حدّ ما، فقد خرج من الحصن بطريقة ماهرة حوالي بضعة عشر رجلا من عبيد ثقيف و رقيقهم، و التحقوا بصفوف المسلمين فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من خلال التحقيق معهم أنّ المعتصمين بالحصن لا ينوون الاستسلام، و أنهم مستعدون للمقاومة حتى لو طال الحصار عاما واحدا، فإنهم قد أعدّوا لمثل هذا الحصار الطويل الطعام الكافي، و لن يقعوا في أزمة بسبب طول الحصار.

(2)

جيش الاسلام يعود الى المدينة:

استخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الغزوة جميع الاساليب و التكتيكات العسكرية المادية و النفسيّة ضدّ العدوّ، و قد اثبتت التجربة أن فتح الحصن يحتاج إلى مزيد من الصبر و العمل على حين لم تكن ظروف الجيش الاسلامي و امكاناته- يومذاك- لتسمح بذلك القدر من الصبر و الترقب، و الانتظار و التوقف، اكثر ممّا توقف و مكث في تلك المنطقة و ذلك:

(3) أولا: لأنه قتل في اثناء هذه المحاصرة (13) مسلما سبعة منهم من قريش، و أربعة من الانصار، و رجل واحد من قبيلة اخرى.

هذا مضافا إلى من استشهد من المسلمين في وادي «حنين» إثر هجوم العدوّ الغادر، و انفراط صفوف الجيش الاسلامي، و الذين لم يذكر التاريخ مع

سيد المرسلين ،ج 2،ص:527

الأسف أسماءهم،

و خصوصياتهم، و لهذا كان قد دبّ نوع من التعب في نفوس جنود الإسلام لم يكن من الصالح تجاهله.

(1) و ثانيا: أن شهر شوال قد انتهى، و بدأ شهر ذي القعدة الذي كان معدودا عند العرب من الاشهر الحرم و قد أيّد الاسلام فيما بعد هذه السنّة، و أكّد حرمة الاشهر الحرم.

من هنا كان من الضروري- حفاظا على هذه السنّة- «1» إنهاء الحصار في أقرب وقت لكي لا تتّهم عرب ثقيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمخالفة السنّة الصالحة و خرقها.

أضف إلى ذلك دنوّ حلول موسم الحج، مع العلم بأن إدارة ذلك الموسم و مناسكه كانت في ذلك العام للمسلمين، بعد أن كانت- قبل ذلك- تدار بواسطة المشركين و برعايتهم.

(2) و لا شك أن موسم الحج الذي كان سببا لحصول اجتماع بشريّ عظيم من سكان الجزيرة العربية كان يوفّر اكبر و افضل فرصة لتبليغ الاسلام، و بيان حقيقة التوحيد، و كان على النبي صلّى اللّه عليه و آله ان يستغل هذه الفرصة العظيمة التي اتيحت له لأوّل مرة، في مجال الدعوة، و يستفيد منها اكثر قدر ممكن و يولي اهتمامه لقضايا اخرى اكثر أهميّة و خطورة من فتح حصن واقع في منطقة نائية.

مع أخذ هذه الظروف بنظر الاعتبار ترك الرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله حصار الطائف و عاد بجيشه إلى الجعرّانة التي جعلها محلا لحفظ أسرى حنين و غنائمها.

______________________________

(1) و يدلّ على هذا الأمر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ترك مكة متوجها إلى الطائف في الخامس من شهر شوال و استغرقت مدة الحصار عشرين يوما، و صرفت بقيّة الايام (و هي خمسة) في المسير إلى حنين، و في

المعركة.

و قولنا بأن الحصار طال عشرين يوما يستند إلى رواية نقلها ابن هشام، إلّا أن ابن سعد ذكر مدة الحصار أربعين يوما (الطبقات الكبرى ج 2 ص 158).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:528

(1)

حوادث ما بعد الحرب:

اشارة

انتهت حوادث معركة «حنين» و «الطائف» و عاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من دون تحقيق نتيجة قطعية الى «الجعرانه» لتقسيم غنائم معركة «حنين».

و الغنائم التي حصل عليها المسلمون في معركة «حنين» كانت من اكبر الغنائم التي غنموها طوال المعارك الاسلامية كلّها، لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم قدم «الجعرّانة» كان هناك ستة آلاف أسير و (24) ألف من الإبل و اكثر من (40) ألف رأس غنم و (852) كيلو غرام من الفضة يحافظ عليها في مركز الغنائم «1» و كان من الممكن أن تسدّد القيادة من هذه الغنائم قسما كبيرا من ميزانية الجيش الاسلامي.

لقد مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في «الجعرّانة» ثلاثة عشر يوما، و في هذه المدة قسّم تلك الغنائم بطريقة خاصة ملفتة للنظر و جديرة بالتأمل و الدراسة.

(2) فقد خلّى سبيل بعض الأسرى، و تركهم لذوبهم، و خطّط لاخضاع (او بالاحرى إسلام) مالك بن عوف النصري مثير معركة حنين و الطائف الهارب، كما أظهر تقديره و شكره لمواقف الاشخاص في هاتين الغزوتين و خدماتهم، و جذب بسياسته الحكيمة افئدة أعداء الاسلام، و رغّبها في عقيدة التوحيد الشريفة، و أنهى نقاشا حدث بينه و بين جماعة الأنصار حول طريقة تقسيم الغنائم بخطبة جميلة.

و إليك تفصيل الكلام في المواضيع المذكورة:

(3) 1- لقد دأب رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله على احترام حقوق الأفراد، و تثمين جهودهم مهما ضؤلت و دقّت، و على أن لا يبخس

أحدا عمله، فإذا أحسن

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 152.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:529

إليه أحد قابل إحسانه بما يزيد عليه أضعافا مضاعفة. و كان ذلك من أبرز صفاته و أخلاقه صلّى اللّه عليه و آله.

فقد رضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ترعرع في قبيلة بني سعد التي هي من قبائل هوازن، و قد ارضعته امرأة من هذه القبيلة تدعى «حليمة السعدية»، و قد بقي في تلك القبيلة خمسة أعوام.

(1) و قد شاركت قبيلة بني سعد في معركة حنين ضدّ الاسلام فسبيت بعض نسائهم و أطفالهم على أيدي المسلمين، كما وقعت بعض أموالهم بأيديهم أيضا، و قد ندمت على فعلها ندما شديدا.

و قد كانوا يعلمون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نشأ و ترعرع فيهم، و رضع بلبن نسائهم هذا من ناحية، و من ناحية اخرى كانوا يعرفون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مل ء قلبه الرحمة و المروءة و معرفة الجميل، فاذا سنح لهم أن يذكّروه بذلك لأطلق أسراهم حتما.

فقدم أربعة عشر رجلا من رؤسائهم الذين كانوا قد أسلموا جميعا «الجعرانة» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد أمّروا على أنفسهم شخصيتين من رجالهم أحدهما هو «زهير بن صرد» و الآخر عم للنبي صلّى اللّه عليه و آله من الرضاعة، فقالوا: يا رسول اللّه إنّما في هذه الأسرى من يكفلك من عماتك و خالاتك، و حواضنك، و قد حضنّاك في حجورنا و ارضعناك بثدينا، و لقد رايتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك، و رأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك، و رأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك، و قد تكاملت فيك خلال الخير، و نحن

مع ذلك أهلك و عشيرتك فامنن علينا منّ اللّه عليك.

و قال زهير بن صرد: يا رسول اللّه إنّما في هذه الحظائر عماتك و خالاتك و حواضنك اللاتي كنّ يكفلنك، و لو أننا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه و عائدته علينا و أنت خير المكفولين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:530

(1) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم:

«إن أحسن الحديث أصدقه، و عندي من ترون من المسلمين، فابناؤكم و نساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم»؟

قالوا: يا رسول اللّه خيّرتنا بين أحسابنا و أموالنا و ما كنّا نعدل بالأحساب شيئا، فردّ علينا أبناءنا و نساءنا.

فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«أما ما لي و لبني عبد المطلب فهو لكم و اسأل لكم الناس و إذا صلّيت الظهر بالناس فقولوا: إنا لنستشفع برسول اللّه الى المسلمين، و بالمسلمين الى رسول اللّه فاني سأقول: لكم ما كان لي و لبني عبد المطّلب فهو لكم و سأطلب لكم إلى الناس».

فلما صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الظهر بالناس قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنا نستشفع برسول اللّه الى المسلمين و بالمسلمين إلى رسول اللّه.

(2) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أما ما كان لي و لبني عبد المطلب فهو لكم.

و بهذا وهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم نصيبه من الاسرى.

فقال المهاجرون: أمّا ما كان لنا فهو لرسول اللّه.

و قال الانصار: ما كان لنا فهو لرسول اللّه.

و هكذا وهب الانصار و المهاجرون نصيبهم من الاسرى تبعا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يتأخر عن ذلك

إلّا قليلون مثل «الاقرع بن حابس» و «عيينة بن حصن» فقد امتنعا عن أن يهبا نصيبهما، و يطلق سراح ما عندهم من السبايا، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين و قد استأنيت بهم، فخيّرتهم بين النساء و الأبناء، و الأموال، فلم يعدلوا بالأبناء و النساء، فمن كانت عنده منهنّ شي ء فطابت نفسه أن يردّه فليرسل،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:531

و من أبى منكم و تمسك بحقه فليردّ عليهم، فله بكل انسان ست فرائض (أي سوف أعطيه بدل الواحد ستا) من أول ما يفي ء اللّه به علينا «1».

(1) فكان لعمل النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا أثر عظيم في نفوس المسلمين حيث خلّوا سبيل جميع من كان في أيديهم من الاسرى و السبايا إلا امرأة عجوز امتنع «عيينة» من ردّها إلى ذوبها.

و هكذا أثمر عمل صالح غرست شتيلته- قبل ستين عاما- في أرض قبيلة بني سعد على يدى حليمة السعدية، فاتت اكلها بعد مدة طويلة، و اطلق بفضل ذلك العمل الصالح سراح جميع الاسرى و السبايا من هوازن «2».

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعا اخته من الرضاعة «الشيماء» «3» و بسط لها رداءه ثم قال: اجلسي عليه، و رحّب بها، و دمعت عيناه، و سألها عن امّه و ابيه من الرضاعة، فاخبرته بموتهما في الزمان، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله لها:

«إن أحببت فأقيمي عندنا محبّبة مكرّمة و إن أحببت أن امتّعك و ترجعي الى قومك فعلت».

فقالت: بل تمتّعني و تردّني إلى قومي، فمتّعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ردّها الى قومها، بعد أن أسلمت طوعا و رغبة، و أعطاها رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثة أعبد و جارية «4».

و قد قوّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باخلائه سبيل جميع أسرى هوازن و سباياها من رغبة هوازن في الاسلام، فاسلموا من قلوبهم، و هكذا فقدت

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 949- 953.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 153 و 154، السيرة النبوية: ج 2 ص 490، و الحادثة التاريخية هذه جسّدت مضمون قول اللّه تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (النحل: 97).

(3) هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى.

(4) البداية و النهاية: ج 2 ص 363 و 364، الامتاع: ج 1 ص 413.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:532

«الطائف» آخر حليف من حلفائها.

(1)

2- اسلام مالك بن عوف:

في هذا الأثناء اغتنم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الفرصة ليعالج مشكلته مع «مالك بن عوف النصري» مثير حرب حنين، عن طريق وفد بني سعد و ذلك بترغيبه في الاسلام، و عزله عن حليفه: «ثقيف».

و لهذا سألهم عن مالك ما فعل؟ فقالوا يا رسول اللّه هو بالطائف مع ثقيف.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أخبروا مالكا أنّه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله و ماله و أعطيته مائة من الابل».

فبلّغ وفد هوازن مالكا كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمانه المشروط، فقرّر مالك الذي كان يرى بامّ عينيه تعاظم أمر الاسلام، و اشتداد أزره كما رأى رحمة النبي و لطفه، أن يخرج من الطائف، و يلتحق بالمسلمين، و لكنه كان يخشى أن تعرف «ثقيف» بنيته فتحبسه في الحصن، و لهذا عمد الى خطة خاصة للفرار، فقد أمر باعداد راحلته فهيّئت له، و أمر

بفرس له فأتي به إلى الطائف، فركب فرسه و ركّضه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس فركبها، فلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فادركه بالجعرانة أو بمكة، فردّ عليه النبي صلّى اللّه عليه و آله أهله و ماله، و أعطاه مائة من الابل كما وعد من قبل، و اسلم فحسن إسلامه، ثم استعمله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على من أسلم من قومه و قبائل «ثمالة» و «سلمة» و «فهم».

(2) و قد انشد «مالك بن عوف» أبياتا عند ما أسلم يصف فيها خلائق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الكريمة، و يمدحه أجمل مديح اذ يقول:

ما إن رأيت و لا سمعت بمثله في الناس كلّهم بمثل محمّد

أوفى و أعطى للجزيل إذ اجتدي و متى تشأ يخبرك عما في غد

سيد المرسلين ،ج 2،ص:533 و إذا الكتيبة عرّدت أنيابهابالسمهريّ و ضرب كلّ مهنّد

فكأنّه ليث على أشباله وسط الهباءة خادر في مرصد و صار يقاتل بتلك القبائل ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلّا أغار عليه حتى ضيّق عليهم لما حصل عليه من مكانة و عزة في الاسلام، و بعد أن أدرك قبح موقف «ثقيف» «1».

(1)

3- تقسيم الغنائم:

كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يلحّون عليه أن يسرع في تقسيم غنائم الحرب، و لكي يدلّل النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله على حياده الكامل في تقسيم الغنائم قام إلى بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال:

«أيّها الناس و اللّه مالي في فيئكم و لا هذه الوبرة إلّا الخمس، و الخمس مردود عليكم، فادّوا الخياط و المخيط فإن الغلول (أي الخيانة في بيت المال) يكون على أهله عارا، و

نارا، و شنارا يوم القيامة».

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قسّم أموال بيت المال بين المسلمين، و اما الخمس الذي هو حقه الخاص به فقد وزّعه بين أشراف قريش الحديثي العهد بالاسلام يتألّفهم، و يتألف بهم قومهم، فأعطى من هذا المال ل: أبي سفيان بن حرب، و ابنه معاوية، و حكيم بن حزام، و الحارث بن الحارث، و الحارث بن هشام، و سهيل بن عمرو، و حويطب بن عبد العزى، و العلاء بن جارية و صفوان بن أميّة، و غيرهم ممّن كانوا يعادونه الى الأمس القريب من رءوس الشرك و رموز الكفر، لكلّ واحد منهم مائة بعير «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 491 و عرّدت أي عوّجت.

(2) راجع المحبّر: ص 473، المغازي: ج 3 ص 944- 948، السيرة النبوية: ج 3 ص 493، امتاع الاسماع: ج 1 ص 423.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:534

(1) و قد كان لهذا العطاء السخيّ أثره الطيب و البالغ في نفوس تلك الجماعة التي شملها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برحمته، و لطفه، و عنايته، و كرمه، و اشتدت رغبتهم في الاسلام.

و هذا الفريق هم من يصطلح عليهم في الفقه الاسلامي بالمؤلفة قلوبهم، و هم يشكّلون إحدى مصارف الزكاة بنص القرآن الكريم.

و يقول ابن سعد في الطبقات الكبرى بعد ان ذكر قصة هذا التقسيم الخاص للغنائم: و أعطى ذلك كله من الخمس و هو أثبت الاقاويل عندنا «1».

و لقد شق هذا النوع من الاسلوب في تقسيم الغنائم و هذا النمط من البذل الذي مارسه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، شقّ على بعض المسلمين، و بخاصة الانصار و قد جهلوا بالمصالح التي كان يراعيها، و الأهداف

العليا التي كان يتوخّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هذا النوع من البذل و العطاء (و هو تخصيص حديثي العهد بالاسلام باكثر الغنائم).

لقد كانوا يتصورون ان التعصب القبلي هو الذي دفع بالرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله إلى أن يقسم خمس الغنيمة بين أبناء قبيلته حتى أن احدهم (و هو ذو الخويصرة التميمي) قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكل وقاحة: يا محمّد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، لم أرك عدلت!!

(2) فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كلامه هذا و قال:

«ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون»؟!

فطلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يأذن له بقتله، فلم يأذن له النبي و قال صلّى اللّه عليه و آله:

«دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين (أي يتتبّعون أقصاه) حتى

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 3 ص 153.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:535

يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة» «1».

(1) و قد كان هذا الرجل- كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زعيم فرقة الخوارج في عهد حكومة الإمام عليّ عليه السّلام، فهو الذي قاد تلك الفرقة الخطرة، غير أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يقدم على عقوبته على ما بدر منه فيما بعد لأن القصاص أو العقاب قبل الجناية يخالف قواعد الإسلام.

و لقد رفع «سعد بن عبادة» شكوى الأنصار حول كيفية تقسيم الخمس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله لسعد: اجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة.

(2) فجمع سعد الانصار في تلك الخطيرة، فلما اجتمعوا دخل عليهم

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليه جلال النبوة، و هيبة الرسالة، فحمد اللّه و اثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال:

«يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم و جدة وجدتموها في أنفسكم؟ أ لم آتكم ضلّالا فهداكم اللّه وعالة فاغناكم اللّه، و أعداء فألّف اللّه بين قلوبكم»؟

قالوا: بلى اللّه و رسوله أمنّ و افضل!

قال:

أ لا تجيبوني يا معشر الانصار»؟

قالوا: و ما ذا نجيبك يا رسول اللّه و لرسول اللّه المنّ و الفضل؟

قال:

«أما و اللّه لو شئتم قلتم فصدقتم أتيتنا مكذّبا فصدّقناك و مخذولا فنصرناك

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 496، السيرة الحلبية: ج 3 ص 122، و في المغازي: ج 3 ص 948 أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال فيه: «دعه إنّ له أصحابا يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم، و صيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ... يخرجون على فرقة من المسلمين». و راجع امتاع الاسماع: ج 1 ص 425 و جاء في السيرة الحلبية انه أصل الخوارج.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:536

و طريدا فآويناك و عائلا فآسيناك! «1» وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شي ء من الدّنيا تألّفت به قوما ليسلموا و وكلتكم إلى إسلامكم، أ فلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة و البعير، و ترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم؟

و الذي نفس محمّد بيده لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، و لو سلك الناس شعبا و سلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار».

(1) ثم ترحّم على الأنصار و على أبنائهم و على أبناء أبنائهم فقال:

«اللّهم ارحم الأنصار و أبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار».

و قد كانت كلمات النبي

صلّى اللّه عليه و آله هذه من القوة و العاطفيّة بحيث أثارت مشاعر الأنصار، فبكوا بعد سماعها بكاء شديدا حتى اخضلّت لحاهم و ابتلّت بالدموع و قالوا: رضينا يا رسول اللّه حظّا و قسما!!!

ثم انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تفرّقوا «2».

ان هذه القصة تكشف عن عمق حكمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و عن حنكته السياسيّة البالغة، و كيف أنه كان يعالج المشاكل باساليب مناسبة و بروح الصدق و اللطف.

(2)

رسول اللّه يعتمر:

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج من الجعرانة معتمرا، بعد ان قسم الغنائم، فلما فرغ من عمرته انصرف راجعا الى المدينة، فقدم المدينة في اواخر شهر ذي القعدة، أو أوائل شهر ذي الحجة.

______________________________

(1) إن هذا يفيد ان النبي صلّى اللّه عليه و آله ما كان ينسى فضل أحد عليه و ان كان هو صلّى اللّه عليه و آله صاحب الفضل الاكبر على الناس اجمعين.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 498 و 499، المغازي: ج 3 ص 957 و 958.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:537

(1)

52 لاميّة كعب بن زهير المعروفة «بانت سعاد ...»

اشارة

فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منتصف شهر ذي القعدة، من السنة الثامنة للهجرة من قسمة غنائم حنين في الجعرانة، و كان موسم الحج على الأبواب، و كانت هذه السنة هي السنة الاولى التي كان يتوجب على الحجيج العرب، مسلمين و مشركين، أن يقوموا بمناسك الحج تحت رعاية الحكومة الاسلامية.

و كان اشتراك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الشعائر يزيد الحج عظمة و جلالا، و كان من الممكن- و بفضل قيادته الحكيمة- أن تتم في ذلك الحشد الهائل و الاجتماع العظيم دعوة صحيحة و قوية و واسعة إلى الاسلام، بينما كانت ثمة مسئوليات في المدينة تنتظر عودة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد مضى على مفارقته المدينة ما يقرب من ثلاثة أشهر، و كانت الأعمال التي يجب أن يقوم بها هو بنفسه قد تعطّلت طوال هذه المدة.

(2) و بعد دراسة هذه المسألة من جوانبها المختلفة رأى الرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله أن يكتفي بعمرة، يغادر بعدها مكة ليصل الى المدينة في أقرب وقت ممكن.

و لكنه صلّى اللّه عليه و

آله رأى أنه لا بدّ أن يعيّن شخصا صالحا لادارة الامور السياسية و الدينية في المنطقة الحديثة العهد بالفتح الاسلامي (نعني مكة) حتى لا تحدث في غيابه أزمة فيها، و حتى تجري الامور على النسق الصحيح و المطلوب.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:538

(1) من هنا استخلف النبي صلّى اللّه عليه و آله «عتّاب بن اسيد» على مكة، و كان عتاب شابا لبيبا يتسم بالصبر و الجلد، و كان له من العمر اذ ذاك عشرون سنة، و قد قرّر له النبي راتبا قدره درهم واحد كل يوم.

و بهذا العمل (أي تعيين شاب حديث العهد بالاسلام و الايمان في مقتبل العمر، و لكن كفؤ لتسيير الامور في مكة، و تفضيله على كثير من الشيوخ و كبار السنّ) حطّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سدّا خياليا، و مفهوما باطلا في مجال التوظيف و التأمير.

فان جماعة من الناس لما أمّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «عتابا» على أهل مكة قالوا: إن محمّدا لا يزال يستخفّ بناحتى ولّى علينا غلاما حدث السنّ ابن ثمانية عشر سنة، و نحن مشايخ ذو و الاسنان فاجابهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله في كتاب كتبه لعتاب:

«لا يحتجّ محتجّ منكم في مخالفته بصغر سنّه، فليس الاكبر هو الأفضل بل الأفضل هو الاكبر و هو الاكبر في موالاتنا و موالاة أوليائنا و معاداة أعدائنا فلذلك جعلناه الأمير عليكم و الرئيس عليكم فمن أطاعه فمرحبا به و من خالفه فلا يبعد اللّه غيره» «1».

(2) و بهذا أثبت صلّى اللّه عليه و آله عمليا أن حيازة المناصب الاجتماعية إنما تدور فقط حول معيار الأهلية و الجدارة، و الكفاءة، و أنّ صغر السنّ لا يمنع

من ذلك اذا كان صاحبه يتمتع بكفاءة عالية.

ثم ان «عتّابا» قام فخطب في الناس فقال: أيّها الناس أجاع اللّه كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله درهما كل يوم، فليست بي حاجة إلى أحد «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 122 و 123. امتاع الاسماع: ج 1 ص 432 و 433.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 500.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:539

(1) و أحسن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الاختيار أيضا عند ما عيّن «معاذ بن جبل» ليعلّم الناس القرآن و يفقههم في الدين، فقد كان معاذ ممن عرف بالفقه، و المعرفة باحكام القرآن بين أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما بعثه للقضاء، الى اليمن سأله صلّى اللّه عليه و آله: بم تقضي إن عرض قضاء فقال: أقضى بما في كتاب اللّه.

قال: فان لم يكن في كتاب اللّه؟

قال: أقضي بما قضى به الرسول.

قال: فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟

قال: أجتهد رأيي و لا آلو.

فضرب النبي صلّى اللّه عليه و آله صدره، و قال:

«الحمد اللّه الّذي وفّق رسول رسول اللّه لما يرضى رسول اللّه» «1».

(2)

قصة كعب بن زهير بن أبي سلمى:

كان «زهير بن أبي سلمى» من شعراء العرب البارعين في العهد الجاهلي، فهو صاحب إحدى المعلّقات السبع التي بقيت منصوبة في الكعبة المعظّمة حتى قبيل نزول القرآن الكريم، و كانت تفتخر بها العرب، و تبدأ معلّقته تلك بقوله:

أ من أمّ أوفى دمنة لم تكلّم بحومانة الدرّاج فالمتثلّم و قد توفي «زهير» قبل عصر الرسالة، و خلّف ولدين هما: «بجير»، و «كعب» و كان الأول ممّن آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و نصره، و أحبّه، بينما عادى الثاني (كعب) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بشدّة، و حيث أنه كان ذا قريحة شعرية موروثة قوية، لهذا كان يهجو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قصائده

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 347 و 348، و يكتب الجزري في اسد الغابة: (ج 3 ص 358) كان عتاب رجلا خبيرا صالحا فاضلا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:540

و أشعاره و يؤلّب الناس ضدّ الإسلام.

(1) و لما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة في الرابع و العشرين من شهر ذي القعدة كان «بجير» قد شارك مع النبي صلّى اللّه عليه و آله في فتح مكة، و حصار الطائف، و قد شاهد عن كثب كيف هدّد النبي صلّى اللّه عليه و آله بالقتل بعض الشعراء الذين كانوا يهجون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يؤلّبون الناس ضدّ الإسلام، و أهدر دماءهم.

فكتب بهذا إلى أخيه (كعب) و نصحه في آخر كتابه قائلا: إن كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانه لا يقتل أحدا جاءه تائبا.

فاطمأنّ كعب بكلام أخيه، و توجّه من فوره إلى المدينة فدخل المسجد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتهيأ لصلاة الصبح، فصلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأوّل مرّة ثم جلس إليه، و وضع يده في يده، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يعرفه، فقال: يا رسول اللّه إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم.

قال: أنا يا رسول

اللّه كعب بن زهير «1».

(2) ثم أخرج كعب قصيدته اللاميّة العصماء التي مدح فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التي كان قد أنشأها من قبل، و انشدها بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد ليتلافى بها ما سبق أن بدر منه من هجاء و طعن في سيد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله «2».

______________________________

(1) روي أنه وثب على كعب- في تلك الحال- رجل من الانصار فقال: يا رسول اللّه دعني و عدوّ اللّه أن أضرب عنقه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: دعه عنك فانه قد جاء تائبا نازعا (عما كان عليه) السيرة النبوية: ج 2 ص 501.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 242.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:541

(1) و هذه القصيدة الرائعة هي من أفضل قصائد كعب و قد اعتنى المسلمون بحفظها و نشرها منذ أن أنشدها الشاعر المذكور بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد، و قد شرحها علماء الإسلام كثيرا، و عدد ابيات هذه اللامية (أي التي تنتهي قوافيها باللام المضمومة) 58 بيتا و مطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيّم إثرها لم يغد مكبول لقد بدأ كعب قصيدته هذه- على عادة شعراء العهد الجاهلي (الذين كانوا يبدءون قصائدهم بمخاطبة محبوبتهم او مخاطبة الاطلال)- بذكر سعاد زوجته و ابنة عمه، و لقد خصّها بالذكر لطول غيبته عنها، لهروبه من النبي صلّى اللّه عليه و آله فيقول: فارقتني سعاد فراقا بعيدا فقلبي اليوم أسقمه الحبّ، و أضناه، فهو ذليل لغيبتها لم يخلص من الأسر و القيد.

(2) ثم يمضي في هذه النمط من الكلام حتى يصل إلى أن يعتذر من صنيعه السيّئ فقال:

نبّئت أنّ رسول اللّه أوعدني و

العفو عند رسول اللّه مأمول

مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ و تفصيل

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة و لم اذنب و لو كثرت فيّ الأقاويل إلى أن قال:

إن الرسول لنور يستضاء به مهنّد من سيوف اللّه مسلول «1» «2»

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 501- 514.

(2) يقال: إن كعبا عند ما فرغ من إنشاء قصيدته كساه النبي صلّى اللّه عليه و آله بردة كانت عليه، فلما كان زمن معاوية أرسل الى كعب أن بعنا بردة رسول اللّه، فقال: ما كنت لاوثر بثوب رسول اللّه أحدا، فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم و هي البردة التي كان يلبسها الخلفاء الامويون و العباسيون (راجع الكامل في التاريخ ج 2 ص 276). و جاء في ناسخ التواريخ الجزء الثالث من المجلد الثاني ان كعبا لما قال «ان النبي لسيف يستضاء به» قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «إن النبي لنور».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:542

(1)

حزن قارن فرحا:

في أواخر السنة الثامنة للهجرة فقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كبرى بناته: «زينب»، و قد تزوّجت زينب قبل البعثة بابن خالتها أبي العاص، و آمنت بأبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد البعثة من دون تأخير، و لكنّ زوجها ظلّ على شركه، و شارك في «بدر» ضدّ الإسلام و المسلمين، و أسر في تلك المعركة فخلّى رسول اللّه سبيله، شريطة أن يبعث بابنته «زينب» إلى المدينة.

و فعل ابن العاص ذلك فجهّز زوجته «زينب» و بعثها برفقة أخيه إلى المدينة، غير أن سادة قريش عرفوا بذلك، فكلّفوا من يعيدها إلى مكة، فلحق بها الرجل في أثناء الطريق، فضرب هودجها برمحه ففزعت زينب ابنة رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و اسقطت حملها من شدّة الفزع، و لكنها لم تنصرف عن الذهاب الى المدينة، فقد واصلت سيرها حتى قدمت المدينة و هي عليلة، و قضت بقية عمرها مريضة حتى توفّيت في أواخر السنة الثامنة من الهجرة.

و لكنّ هذا الحزن قارنه فرح و سرور فقد رزق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أواخر نفس ذلك العام ولدا اسماه «ابراهيم» من زوجته «مارية القبطية» (و هي الجارية التي أهداها المقوقس حاكم مصر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله).

و الجدير بالذكر أنه عند ما بشّرت سلمى (المولّدة) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك، أعطاها هدية ثمينة، و عقّ له في اليوم السابع من ولادته، و حلق شعره، و تصدّق بوزن شعره، فضة في سبيل اللّه «1».

______________________________

(1) تاريخ الخميس: ج 2 ص 131.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:543

(1)

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

53 علي بن أبي طالب في أرض طيّ (2) إسلام عديّ بن حاتم:

اشارة

انقضت السنة الهجرية الثامنة بكل حوادثها المرّة و الحلوة، فقد سقطت اكبر قاعدة من قاعدة الوثنية و الشرك في أيدي المسلمين، و عاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة ظافرا منتصرا على أعداء الإسلام انتصارا كاملا، و قد هيمنت ظلال القوة العسكرية الإسلامية على اكثر أنحاء الجزيرة العربية و نقاطها.

كما أخذت القبائل العربية المتمرّدة التي لم تكن تتصور إلى ذلك اليوم أن يتحقق مثل هذه الانتصارات لدين التوحيد، أخذت تفكّر شيئا فشيئا في التقرب الى المسلمين و قبول معتقداتهم، و اعتناق دينهم.

من هنا كانت وفود القبائل العربية المختلفة، و أحيانا مجموعة من أفراد قبيلة ما بقيادة رئيسها تقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تعلن عن إسلامها، و قبولها للرسالة المحمدية.

و قد ازداد قدوم وفود القبائل هذه على عاصمة

الإسلام (المدينة المنورة) في هذا العام حتى سمّى بعام الوفود «1».

______________________________

(1) لقد سجّل المؤرخ المعروف محمّد بن سعد- في كتابه- خصوصيات و اسماء هذه الوفود و تفاصيل القسم الاكبر من تفاصيل ما دار بينها و بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما خصّهم به رسول

سيد المرسلين ،ج 2،ص:544

(1) و عند ما قدم وفد من قبيلة «طيّ» و فيهم سيدهم «زيد الخيل» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تحادث مع النبي صلّى اللّه عليه و آله أعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعقل زيد و حكمته و وقاره فقال عنه:

«ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلّا رأيته دون ما يقال فيه إلّا زيد الخيل، فانه لم يبلغ كل ما كان فيه».

ثم سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زيد الخير «1».

إن دراسة قصة الوفود، و الإمعان و التدبر في ما دار بينهم و بين رسول الاسلام يفيد بوضوح و جلاء ان الاسلام انتشر في شبه الجزيرة العربية عن طريق الدعوة و التبليغ.

(2) على أن طواغيت ذلك العصر أمثال أبي سفيان و أبي جهل كانوا يحاولون الحيلولة دون انتشار هذا الدين، فكانت لأجل ذلك حروب النبي صلّى اللّه عليه و آله فمضافا إلى أن اكثرها كان لإفشال تلك المؤامرات، كان الهدف منها

______________________________

الاسلام من الطف لا يسع المجال لذكره هنا، و قد ذكر اسماء ثلاثة و سبعين وفدا من تلك الوفود التي وفدت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طوال السنة التاسعة من الهجرة او ما قبلها بقليل (الطبقات الكبرى: ج 1 ص 291- 359).

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 577. هذا و ينبغي الاشارة هنا

و بالمناسبة إلى أنه كان من سيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يغيّر الأسماء القبيحة التي اعتاد الجاهليّون على تسمية أبنائهم بها ايثارا للاسم الحسن و لأن الاسم يورث الاحساس بالشخصية لدى صاحبه على العكس من الاسم القبيح، و قد ثبت هذا نفسيا، بل ربما غيّر الاسماء التي قد يشعر معها الانسان بالعظمة، و الفخر و الزهو منعا من أن تحدث لأصحابها مثل ذلك. فعن الامام جعفر بن محمّد الصادق عن ابيه عليهما السّلام: إنّ رسول اللّه كان يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال و البلدان (قرب الاسناد ص 45) و لهذا غيّر أسماء كثيرة لرجال و نساء فغيّر اسم ابنة لعمر كانت يقال لها عاصية فسماها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جميلة (صحيح مسلم: ج 6 ص 173) و غيّر اسم غافل بن البكير فسمّاه عاقلا، و قد روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إن أوّل ما ينحل احدكم ولده الاسم الحسن» (بحار الأنوار: ج 23 ص 122). سيد المرسلين ج 2 545 53 علي بن أبي طالب في أرض طي(2) إسلام عدي بن حاتم: ..... ص : 543

سيد المرسلين ،ج 2،ص:545

هو قمع أولئك الطواغيت الذين كانوا يصدّون عن سبيل اللّه و يمنعون من دخول مجموعات الدعوة و التبليغ الاسلامية إلى مناطق الحجاز و نجد و غيرها.

(1) إنّ من البديهيّ أن لا يتيسّر انتشار أيّ دين، و تطبيق أي برنامج إصلاحي من دون تحطيم الطواغيت، و إزالة الأشواك من طريقه.

و من هنا نرى أنّ جميع الأنبياء و الرسل، و ليس رسول اللّه فقط كانوا يجتهدون قبل أي شي ء في تحطيم الطواغيت و إزالة السدود و الموانع، من طريق الدعوة.

و

يتحدث القرآن الكريم في سورة خاصة عن قدوم هذه الوفود على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ما حققه الإسلام من فتح و انتصار ساحق اذ يقول:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ. وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» «1».

(2) و بالرغم من هذا الإقبال المتزائد على الإسلام لدى القبائل و قدوم الوفود المتلاحق على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد قام في السنة التاسعة من الهجرة ببعث عدة سرايا، و وقعت غزوة واحدة، و كانت السرايا هذه لأجل إفشال المؤامرات التي كانت تحاك ضدّ الاسلام و المسلمين، و كانت في الأغلب لهدم الأصنام الكبيرة التي كانت لا تزال القبائل العربية المشركة تقدسها و تعبدها، و من جملة هذه السرايا سرية علي بن أبي طالب عليه السّلام التي وجّهت إلى أرض «طيّ» بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من بين ما وقع في السنة التاسعة يمكن الاشارة إلى غزوة «تبوك».

ففي هذه الغزوة غادر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة متوجها إلى أرض تبوك، و لكنه لم يلق فيها أحدا، فعاد من غير قتال، إلّا أنّه مهّد الطريق لفتح البلاد الحدودية لمن يأتي في المستقبل.

______________________________

(1) النصر: 1- 3.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:546

(1)

هدم بيوت الاصنام:

لقد كانت الوظيفة الاساسية الاولى من وظائف النبي صلّى اللّه عليه و آله هي: نشر عقيدة التوحيد، و اجتثاث جذور كل نوع من أنواع الشرك، و قد كان صلّى اللّه عليه و آله يسلك- لتحقيق هذه الغاية، و لارشاد الضالّين و الوثنيين- طريق المنطق و الاستدلال، قبل أي شي ء فكان يلفت أنظارهم بالأدلة الواضحة

و البراهين الساطعة إلى بطلان الشرك و الوثنية، فاذا لم يجد معهم المنطق المبرهن، و الارشاد المستدلّ، و لجّوا في كفرهم و شركهم سمح لنفسه بأن يتوسّل بالقوة، و يداوي أولئك المرضى روحا و فكرا و الذين يمتنعون عن استعمال الدواء و بمحض اختيارهم، بالمعالجة الجبرية.

فانّه إذا شاع داء الكوليرا في بلد من البلدان مثلا، و امتنع فريق من الناس عن قبول تلقيحهم بالمصل اللازم لمكافحة ذلك المرض، فإنّ المسئول في ذلك البلد يرى لنفسه الحق في أن يجبر تلك الجماعة الضيّقة التفكير التي تعرّض سلامة نفسها و سلامة غيرها للخطر من حيث لا تشعر على الرضوخ لعملية التلقيح المذكورة.

(2) لقد أدرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ضوء تعاليم الوحي أنّ الوثنية أشبه شي ء بجرثومة «الكوليرا» تهدم فضائل الانسان، و شرفه، و تقضي على مكارم الاخلاق، و تحطّ من مكانة الانسان الرفيعة، و تجعله كائنا حقيرا أمام الطين و الحجر و الموجودات المنحطّة.

و على هذا الاساس امر من جانب اللّه تعالى بأن يجتثّ جذور الشرك من كيان ذلك المجتمع الموبوء، و يزيل كل مظاهر الوثنية، و كل أنواعها و أشكالها، و اذا ما قاومت جماعة هذا العمل، و عارضت هذا الاجراء حطّم مقاومته بالقوة العسكرية، و القبضة الحديدية.

إنّ التفوّق العسكري أعطى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرصة بعث

سيد المرسلين ،ج 2،ص:547

الفرق العسكرية لتحطيم و هدم كل بيوت الأصنام، و أن لا يبقوا في منطقة الحجاز صنما إلّا هدّموه.

(1)

علي في أرض طيّ:

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعرف من قبل، أن في قبيلة طيّ صنما كبيرا يقدّس إلى الآن و من هنا بعث صلّى اللّه عليه و آله بطل جيشه

الشجاع علي بن أبي طالب عليه السّلام على رأس مائة و خمسين فارس إلى أرض طيّ، و أمره بأن يحطّم صنم طيّ، و يهدم بيته.

و قد أدرك قائد هذه السرية أن القبيلة المذكورة ستقاوم جنود الاسلام، و أنّ الأمر لن يتمّ من دون قتال، و لهذا حمل بأفراده على موضع ذلك الصنم، عند الفجر و الناس نيام، فاستطاع أن يأسر جماعة من تلك القبيلة ممن قاوم، و ان يعود بهم و بالغنائم الى المدينة و قد فرّ «عديّ بن حاتم الطائي» الذي انضمّ فيما بعد الى صفوف المسلمين، المجاهدين في سبيل اللّه، و كان يرأس تلك القبيلة، حين سمع بتوجه على عليه السّلام نحوها.

(2) و لنستمع إلى عديّ الطائي نفسه و هو يقصّ علينا قصة هروبه.

يقول عديّ: ما من رجل كان أشدّ كراهية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين سمع به، منّي.

أمّا أنا فكنت امرأ شريفا، و كنت نصرانيا، و كنت اسير في قومي بالمرباع (أي آخذ الربع من الغنائم لأني سيدهم) فكنت في نفسي على دين، و كنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي. فلما سمعت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كرهته، فقلت لغلام كان لي عربيّ، و كان راعيا لابلي: لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا، فاحتبسها قريبا منّي، فاذا سمعت بجيش لمحمد قد وطى ء هذه البلاد فآذنّي؛ ففعل؛ ثم أنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عديّ ما كنت صانعا اذا غشيتك خيل محمّد، فأصنعه الآن، فاني قد رأيت رايات، فسألت

سيد المرسلين ،ج 2،ص:548

عنها، فقالوا: هذه جيوش محمّد. قال: فقلت: فقرّب إليّ أجمالي فقرّبها، فاحتملت بأهلي و ولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى

بالشام فسلكت الجوشية «1» و قد تركت أختي في قومي.

(1) ثم تغزو خيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قومي فتصيب (اختي) ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سبايا من طيّ، و قد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هربي الى الشام.

فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيه، فمرّ بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقامت إليه اختي و كانت امرأة جزلة، فقالت:

يا رسول اللّه هلك الوالد، و غاب الوافد، فامنن عليّ منّ اللّه عليك.

قال: و من وافدك؟

فقالت: عديّ بن حاتم.

قال: الفارّ من اللّه و رسوله؟

(2) ثم مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تركني حتى إذا كان من الغد مرّ بي، فقلت له مثل ذلك، و قال لي مثل ما قال بالأمس، حتى إذا كان من الغد مرّ بي و قد يئست منه، فاشار إليّ رجل من خلفه أن قومي فكلّميه، فقامت إليه، و قالت: يا رسول اللّه هلك الوالد، و غاب الوافد، فامنن عليّ منّ اللّه عليك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني».

تقول اختي: فسألت عن الرجل الذي أشار إليّ أن أكلمه فقيل: علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه.

(3) ثم إن أختي أقامت حتى قدم ركب من بلّي او قضاعة قالت: و أنما اريد أن

______________________________

(1) الجوشية: جبل للضباب قرب ضرية. من أرض نجد.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:549

آتي أخي بالشام. قالت: فجئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت:

يا رسول اللّه قد قدم رهط

من قومي لي فيهم ثقة و بلاغ.

قالت: فكساني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حملني، و اعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.

(1) قال عديّ: فو اللّه إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة (و هي المرأة في هودجها) تصوّب إليّ تؤمنا قال: فقلت ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي، فلما وقفت عليّ أخذت في اللوم تقول: القاطع الظالم، احتملت أهلك و ولدك، و تركت بقيّة والدك عورتك.

فقلت: أي أخيّة، لا تقولي إلّا خيرا، فو اللّه ما لي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت، ثم نزلت فاقامت عندي فقلت لها، و كانت امرأة حازمة: ما ذا ترين في أمر هذا الرجل؟

قالت: أرى و اللّه أن تلحق به سريعا، فان يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، و ان يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن، و أنت أنت. فقلت: و اللّه إنّ هذا الرأي.

(2) قال عديّ: فخرجت حتى أقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة فدخلت عليه، و هو في مسجده، فسلّمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عديّ بن حاتم، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانطلق بي إلى بيته، فو اللّه إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلّمه في حاجتها. فقلت في نفسي: و اللّه ما هذا بملك.

ثم مضى بى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى إذا دخل بي بيته تناول و سادة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إليّ، فقال: اجلس على هذه، فقلت: بل أنت فاجلس عليها فقال: بل أنت، فجلست عليها، و جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالأرض (و هو عظيم الحجاز) فقلت

في نفسي: و اللّه ما هذا بأمر ملك ثم قال: إيه يا عديّ بن حاتم، أ لم تك ركوسيّا (و هو دين بين دين النصارى

سيد المرسلين ،ج 2،ص:550

و الصابئين)؟

قلت: بلى.

قال: أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟

قلت: بلى.

قال: فان ذلك لم يحل لك في دينك.

(1) قلت: أجل و اللّه، و عرفت أنه نبي مرسل، يعلم ما يجهل، ثم قال: لعلّك يا عديّ إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فو اللّه ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، و لعلّك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم و قلة عددهم، فو اللّه ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف، و لعلّك إنما يمنعك من دخول فيه أنّك ترى أنّ الملك و السلطان في غيرهم و أيم اللّه ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم.

قال عديّ: فاسلمت.

و كان عديّ يقول: قد مضت اثنتان و بقيت الثالثة و اللّه لتكوننّ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، و قد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحجّ هذا البيت، و أيم اللّه لتكونن الثالثة، ليفيضنّ المال حتى لا يوجد من يأخذه «1».

(2) و لقد نقل العلامة الطبرسي في تفسير قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» «2» اللقاء الذي تمّ بين عدي و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقول: قال عديّ انتهيت إلى رسول اللّه و هو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ...) حتى فرغ منها،

______________________________

(1) المغازي: ج 2

ص 988 و 989، السيرة النبوية: ج 2 ص 578- 581، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الامامية: ص 352- 354، امتاع الاسماع: ج 1 ص 445.

(2) التوبة: 31.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:551

فقلت له: انّا لسنا نعبدهم، فقال: أ ليس يحرّمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه، و يحلّون ما حرّم اللّه فتستحلّونه، فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم «1».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 24.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:552

(1)

54 غزوة تبوك

اشارة

كانت القلعة القويّة، الرفيعة الجدران المقامة عند عين ماء على الشريط الحدودي السوري في طريق «حجر» و «الشام» تسمّى تبوكا.

و كانت سورية آنذاك من مستعمرات إمبراطورية الروم الشرقية، التي كان عاصمتها القسطنطنية.

و كان جميع سكان المناطق الحدودية للشام نصارى على دين المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام و كان أكثر زعمائها ولاة منصوبين من قبل حاكم الشام الذي كان يمثّل هو بدوره إمبراطور الروم، و يمتثل أوامره.

و لقد كان لانتشار الاسلام السريع في شبه الجزيرة العربية و فتوحات المسلمين المشرقة في الحجاز صداه في خارج الحجاز ينعكس بالوسائل الموجودة في ذلك اليوم، و كان ذلك يرعب الأعداء، و يدفعهم إلى التفكير في حيلة.

(2) و لقد دفع سقوط حكومة «مكة» الوثنية، و اعتناق زعماء الحجاز الكبار للدين الاسلامي، و بطولات جنود الاسلام الباهرة و بسالتهم و تفانيهم الفريد في طريق عقيدتهم، بامبراطور الرّوم إلى أن يحشد جموعا كبيرة، و يتهيّأ لمهاجمة المسلمين و غزوهم بغتة، لأنّه كان يرى تزلزل سلطانه مع انتشار الاسلام المطّرد، و كانت مخاوفه تزداد يوما بعد يوم و هو يرى تعاظم القوة الاسلامية العسكرية، و انتشار نفوذه السياسيّ.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:553

(1) كانت الروم- آنذاك- المنافسة الوحيدة، و القوية لإيران، و كانت تملك أعظم قوة عسكرية، و كانت مغترّة أشدّ الغرور بنفسها،

لما أصابته من فتوحات و انتصارات في معاركها الكبرى مع إيران، و ما ألحقته من هزائم نكراء بإيران في تلك العصور.

و قد كان جيش الروم يتألّف من أربعين ألف فارس و راجل، و كان مجهّزا بأحدث أسلحة و تجهيزات ذلك العصر، و قد استقرّ هذا الجيش على الشريط الحدوديّ لأرض الشام، و التحقت به قبائل عديدة تسكن الحدود مثل قبيلة «لخم» «عاملة» «غسان» «جذام»، و تقدمت طلائع ذلك الجيش حتى منطقة «البلقاء».

(2) و لقد بلغ نبأ استقرار فريق من جنود الروم على الشريط الحدودي للشام إلى مسامع النبي صلّى اللّه عليه و آله عن طريق القوافل التجارية التي تعمل على طريق الحجاز- الشام فلم ير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بدّا من أن يردّ على هؤلاء المعتدين، بجيش عظيم، و يحافظ بذلك على الدين الّذي قام بفضل الدماء الزكية التي اريقت من أصحابه، و بفضل تضحياته هو صلّى اللّه عليه و آله و هو الآن على أبواب أن يعمّ العالم نوره و هداه، من ضربات العدوّ المفاجئة.

و لقد بلغ هذا الخبر المقلق أهل المدينة، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم، و الناس في زمان عسرة، و شدة من الحرّ، و جدب من البلاد، و قد طابت الثمار، و الناس يحبّون المقام في ثمارهم و ظلالهم، و يكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه.

و لكن الدوافع المعنوية، و روح الحفاظ على الأهداف المقدّسة، و الجهاد في سبيل اللّه مقدّم- عند عباد اللّه المؤمنين الصالحين- على كل تلك الامور.

(3)

تعبئة المقاتلين و تهيئة نفقات الحرب:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعرف على نحو الاجمال مدى و حجم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:554

استعدادات

العدوّ، و طاقاته، و قدرته على القتال.

من هنا كان مطمئنا إلى أن الانتصار في هذه المعركة بحاجة- مضافا إلى الخلفية المعنوية القوية و هي الايمان باللّه و القتال ابتغاء لمرضاته- الى قوة عسكرية كبيرة جدا و لهذا بعث رجالا إلى مكة، و نواحي المدينة يدعون المسلمين إلى المشاركة في الجهاد في سبيل اللّه، و يحثّون أهل الغنى و الثروة، على تهيئة نفقات الجهاد في سبيل اللّه من الزكاة.

و أخيرا أعلن ثلاثون ألفا من المسلمين استعدادهم للمشاركة في هذه الغزوة و اجتمعوا في معسكر عند «ثنية الوداع» و تهيّأ قدر كبير من نفقات القتال عن طريق الزكاة، و كان الجيش الاسلاميّ يتألف من عشرة آلاف فارس، و عشرين الف راجل.

و قد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن تتخذ كل قبيلة راية لنفسها.

(1)

المتخلّفون عن القتال:

كانت غزوة «تبوك» خير محكّ لمعرفة المجاهدين الصادقين و تمييزهم عن غير الصادقين من أدعياء الإيمان و المنافقين لأن التعبئة العامّة لهذه الغزوة اعلنت في وقت كان الناس يستعدّون فيه للحصاد من جهة، و كان الحرّ على أشدّه من ناحية اخرى، فكشف تخلّف البعض- بالأعذار و الحجج المختلفة- القناع عن وجههم الحقيقي و نزلت آيات في ذمّهم جميعها في سورة البراءة.

لقد تخلّف البعض عن المشاركة في هذه الغزوة للاسباب و العلل التالية:

(2) 1- عند ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للجدّ بن قيس،- و كان من الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة-:

«أبا وهب هل لك العام تخرج معنا»؟

فقال: يا رسول اللّه أو تأذن لي، و لا تفتنّي «1» فو اللّه لقد عرف قومي ما أحد

______________________________

(1) أي أخشى الافتتان ببنات الروم فلا تفتني بهنّ يا رسول اللّه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:555

اشدّ عجبا

بالنساء مني، و اني لأخشى إن رأيت بنات بني الأصفر (الروم) لا أصبر عليهنّ.

فاعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن سمع منه ذلك العذر الصبياني، و قد نزل فيه قول اللّه تعالى:

«وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» «1».

(1) 2- المنافقون: إن جماعة ممن تظاهروا بالإسلام و الإيمان و هم منه خلو، أخذوا يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة تبوك، و ربما تحجّجوا بشدة الحرّ فقالوا: يغزو محمّد بني الأصفر مع جهد الحال و الحرّ، و البلد البعيد، إلى ما قبل له به، يحسب محمّد أن قتال بني الاصفر اللعب، فنزل فيهم قول اللّه تعالى:

«وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» «2».

و قد كان بعض المنافقين يخوّفون المسلمين من المشاركة في هذه الغزوة، و كانوا يقولون في هذا الصدد: تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم، و اللّه لكأنّا بكم غدا مقرّنين في الحبال؟! «3».

(2)

اكتشاف شبكة جاسوسيّة في المدينة:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما أسلفنا يولي مسألة تحصيل المعلومات عن العدو و تحركاته اهتماما كبيرا، و كان اكثر انتصاراته تعود إلى حسن استخدامه لهذه الوسيلة و بالتالي لمعرفته الدقيقة بتحرّكات العدو و نشاطاته، و على

______________________________

(1) التوبة: 49.

(2) التوبة: 81 و 82.

(3) امتاع الاسماع: ج 1 ص 450.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:556

هذا الاساس كان يقضي على الكثير من المؤامرات في مهدها.

(1) و لقد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت «سويلم» اليهودي، و يخطّطون

لتثبيط المسلمين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الغزوة، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «طلحة بن عبيد اللّه» في نفر من أصحابه لإرهاب اولئك المتآمرين حتى يكفّوا عن التآمر، و أمره بأن يحرّق عليهم بيت «سويلم». ففعل طلحة ذلك إذ اقتحم البيت بغتة، و هم يخطّطون، و يدبّرون مؤامرة، و احرق البيت، ففرّوا وسط ألسنة اللهب، و أعمدة الدخان، و افلتوا، و انكسرت رجل أحدهم حين الفرار.

و قد كان هذا الاجراء مفيدا في ردع المنافقين المشاغبين عن العودة إلى مثلها حتى قال أحد رءوسهم و هو «الضحّاك بن خليفة»:

كادت و بيت اللّه نار محمّديشيط بها الضحّاك و ابن أبيرق

و ظلت و قد طبّقت كبس سويلم أنوء على رجلي كسيرا و مرفقي

سلام عليكم لا أعود لمثلهاأخاف و من تشمل به النار يحرق «1» (2) 3- البكّاءون: لقد أتى رجال من المسلمين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانوا يرغبون في الخروج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى هذه الغزوة، و طلبوا منه ما يحملهم عليه من دابّة فقد كانوا أهل حاجة فقراء، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لا أجد ما أحملكم عليه».

فتولوا و أعينهم تفيض من الدمع حزنا، ألّا يجدوا ما ينفقون.

فاذا كان بين أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رجال نافقوا، و تركوا الخروج مع رسول اللّه متعلّلين بالأعذار السخيفة، فقد كان إلى جانب ذلك أيضا من كان يبكي بكاء مرّا لعدم تمكّنه من المشاركة في الجهاد المقدس حتى عرفوا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 517.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:557

في التاريخ الاسلامي بالبكائين، و نزل فيهم قرآن اذ يقول تعالى:

«وَ لا عَلَى الَّذِينَ

إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» «1».

(1) 4- المتخلفون: و لقد أبطأ بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الخروج، و تخلّفوا لا عن شكّ و ارتياب، أو رغبة عن الجهاد في سبيل اللّه، و قد كانوا أهل صدق لا يتّهمون في إسلامهم، إنّما تخلّفوا حتى يلتحقوا بركب النبي صلّى اللّه عليه و آله بعد أن يفرغوا من الحصاد و القطاف و هم (المخلّفون) الثلاثة حسب تعبير القرآن الكريم الذين فاتتهم غزوة تبوك، فوبّخهم اللّه تعالى و عاقبهم على تخلّفهم ليكون في ذلك عبرة لمن سواهم كما ستعرف تفصيل ذلك عمّا قريب.

(2) 5- المجاهدون الصادقون: الذين لبّوا نداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تهيّأوا من فورهم للخروج معه في شوق بالغ، و رغبة عظيمة في الجهاد.

(3)

عدم مشاركة «عليّ» في غزوة تبوك:

لقد كان من أبرز فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنه شارك في جميع المعارك، و لازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جميع غزواته،- و كان هو حامل لوائه في تلك المعارك و الغزوات- ما عدا تبوك حيث بقي في المدينة بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يشارك في هذا الجهاد المقدس لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يدرك جيّدا أن بعض المنافقين و المتربّصين، و المتحينين الفرص من رجال قريش سيستغلّون فرصة غيبة النبي القائد عن المدينة (مركز الدولة الاسلامية) فيثيرون فيها فتنة، و يجهزون على الحكومة الاسلامية الفتية بانقلاب أو ما شابه ذلك، و أن مثل هذه الفرصة انما تسنح لهم إذا قصد رسول اللّه

صلّى

______________________________

(1) التوبة: 92.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:558

اللّه عليه و آله مكانا نائيا، و انقطع ارتباطه بعاصمة الاسلام (المدينة)!!

(1) و لقد كانت «تبوك» أبعد نقطة خرج إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جميع غزواته، فكان يحدس- بقوة- أن تقوم القوى المضادّة للاسلام بقلب الاوضاع في غيابه، و يجمعوا من يروا رأيهم و يذهب مذهبهم من شتى أنحاء الحجاز، و يتحدوا لضرب الدولة الاسلامية و القضاء عليها من الداخل.

و لهذا- رغم أنه استخلف «محمّد بن مسلمة» على المدينة- قال للامام «علي بن أبي طالب»:

«أنت خليفتي في أهل بيتي و دار هجرتي و قومي.

يا علي إنّ المدينة لا تصلح إلّا بي و بك».

(2) و لقد أزعج بقاء عليّ عليه السّلام في المدينة، المنافقين الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر، و يتحيّنون الفرصة، و يفكرون في انقلاب في غيبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأنهم كانوا يعرفون أنهم لن يعودوا يستطيعون مع وجود عليّ عليه السّلام في المدينة، و مراقبته الدقيقة لتحرّكاتهم و نشاطاتهم فعل أي شي ء ممّا كانوا ينوون القيام به، و لهذا أرجفوا به، و بثّوا شائعات خبيثة حوله، بغية إجباره على مغادرة المدينة فقالوا: ما خلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا إلّا استثقالا له، و تخفّفا منه، أو: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعاه إلى الخروج لتبوك، و لكن عليا امتنع من الخروج بحجّة الحرّ الشديد، و بعد الطريق و إيثارا للدعة و الراحة و الرفاهية!!

(3) و لإبطال هذه الشائعة الخبيثة، و تكذيب هذا الكلام، أخذ علي عليه السّلام سلاحه، و خرج حتى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو نازل بالجرف (و هو موضع على

ثلاثة أميال من المدينة) فقال:

«يا نبي اللّه، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني و تخفّفت منّي».

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حينئذ كلمته التاريخية الخالدة التي تعتبر

سيد المرسلين ،ج 2،ص:559

من أبرز الادلة و أقواها و أوضحها على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و خلافته بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بلا فصل:

«كذبوا، و لكنّني خلّفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي و أهلك أ فلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» «1».

فرجع عليّ عليه السّلام الى المدينة المنورة، و مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على سفره «2».

(1)

جيش الاسلام يتحرك نحو تبوك:

لقد دأب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ خرج لتأديب قوم يكيدون بالاسلام، و يمنعون من تقدمه و انتشاره أو يقصدون الهجوم على المدينة و اجتياحها، أو إيجاد فتن فيها، على أن لا يبوح بمقصده و وجهته لجنوده و امراء جيشه، و أن يسير بالجيش في طريق آخر غير الوجه الذي ينويه باطنا، حتى لا يعرف به العدو فيهيّأ لمواجهته، و بذلك يتسنى له صلّى اللّه عليه و آله أن يباغت العدوّ، و يحقّق الانتصار الساحق عليه «3»

غير أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عدل عن هذه السيرة في قضية غزو الروميّين الذين اجتمعوا في حدود الشام و هم يتأهّبون للهجوم على عاصمة الاسلام.

فقد بيّن للناس- منذ أعلن التعبئة العامة- الوجهة التي يقصدها، و كان السرّ في ذلك هو أن يعرف المجاهدون أهمية هذا السفر و صعوبته، و أن يحملوا الزاد الكافي و العدة اللازمة.

______________________________

(1) امتاع الاسماع: ج 1 ص 449 و 450.

(2) السيرة النبوية:

ج 2 ص 520، بحار الأنوار: ج 21 ص 207 و 208، و للوقوف على دلالة هذا الحديث على امامة امير المؤمنين عليه السّلام راجع كتب العقائد و الكلام.

(3) المغازي: ج 3 ص 990.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:560

(1) هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان مضطرّا- لتقوية الجيش الاسلامي- إلى أن يستعين بقبائل «تميم» و «غطفان» و «طيّ» التي كانت تسكن في مناطق بعيدة عن المدينة.

و قد عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهذا الغرض إلى مراسلة زعماء تلك القبائل، و ساداتها كما كتب إلى «عتّاب بن اسيد» أمير مكة الشاب دعا فيه رجال تلك القبائل، و فتيان مكة إلى المشاركة في هذا الجهاد المقدس «1».

و مثل هذا النوع من الدعوة الصريحة العامة لا ينسجم مع الكتمان و السريّة، لأنه كان لا بدّ أن يخبر صلّى اللّه عليه و آله رؤساء القبائل في هذا الموضوع، و يذكر لهم أهميّته، ليحملوا معهم الزاد و العدة اللازمة الكافية.

(2)

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يستعرض جيشه:

و لما حان موعد تحرك الجيش استعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جيشه في معسكر المدينة العظيم، المؤلّف من المؤمنين الفدائيين الغيارى على الإسلام، و الذين فضّلوا المشقة و الموت في سبيل الهدف على الاستراحة في الظلال، و التجارة، و كسب المال و اكتناز الثروة، و خرجوا يستقبلون الموت في سبيل الدين بقلوب تفيض إيمانا و يقينا.

لقد كان هذا المشهد جميلا و رائعا جدا، و كان له أثر قوي في نفس المتفرجين.

و في هذه المناسبة ألقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطبة مهمة، لتقوية معنويات المجاهدين، قد شرح فيها هدفه من هذه التعبئة العامة الواسعة.

فبعد أن حمد اللّه و أثنى

عليه بما هو أهله قال:

«أيّها الناس! أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب اللّه و أوثق العرى كلمة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 244.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:561

التقوى و خير الملل ملة إبراهيم عليه السّلام و خير السنن سنن محمّد و أشرف الحديث ذكر اللّه و أحسن القصص هذا القرآن و خير الامور عواقبها و شرّ الامور محدثاتها و أحسن الهدى هدي الأنبياء و أشرف القتل قتل الشهداء».

إلى آخر الخطبة التي وردت بكاملها في المصادر التاريخية و التي ادرج فيها مجموعة كبرى و هامّة من التعاليم الاسلامية الهامة فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1» ثم أصدر رسول اللّه أوامره للجنود بالتوجه الى ثغور الشام من الطريق الذي عيّنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1)

قصة مالك بن قيس:

رجع مالك بن قيس «ابو خيثمة» بعد أن سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أياما إلى أهله في يوم حار، فوجد المدينة فارغة، و عرف بمسير جنود الإسلام ثم دخل في عريش له، فوجد امرأتين له قد رشّتا الماء في العريش، و بردّتا له ماء، و هيأتا له طعاما، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، و ما صنعتا له، و فكّر في ما فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه من الحال، و قد انطلقوا إلى جهاد العدوّ في شدّة الحرّ فقال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الشمس و الريح و الحرّ، و أبو خيثمة في ظل بارد، و طعام مهيّأ، و امرأة حسناء في ماله مقيم؟

ما هذا بالنصف.

ثم قال: لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله و أصحابه المجاهدين فهيئا لي زادا، ففعلتا ثم قدّم بعيره فارتحله، ثم خرج في طلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى أدركه حين نزل تبوك، و قد لقي في أثناء الطريق أبا خيثمة «عمير بن وهيب الجمحى» و هو يطلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «2».

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 1016 بحار الأنوار: ج 21 ص 210- 212.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 520 و قد ذكر الواقدي هذه القصة باختلاف يسير و نسبها الى عبد اللّه بن خيثمة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:562

(1) لقد كان هذا الرجل ممّن لم يوفّق- في بداية الامر- لمرافقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا أنه التحق بركبه المقدس و نال السعادة العظمى بحسن اختياره الذي يستحق الاكبار و التقدير، و لم يكن مثل اولئك الذين طلبتهم السعادة و لكنهم رفضوها، و ابتعدوا عنها، و آثروا البقاء في ضلالهم و شقائهم.

فهذا «عبد اللّه بن ابي» رئيس المنافقين و كبيرهم الذي عزم على أن يشارك مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الغزوة أقام خيمته في معسكر المسلمين، و لكنه لخبث سريرته، و عدائه الشديد للاسلام و نبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بدّل رأيه ساعة رحيل الجيش الاسلامي، و عاد الى المدينة مع أصحابه ليقوم بالشغب، و حيث إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان على علم بنفاقه، و خبث سريرته و كان يدرك جيدا أن مشاركة هذا العنصر المنافق و جماعته في ذلك الجهاد لن تعود على المسلمين بفائدة، لذلك لم يهتم صلّى اللّه عليه و آله بانفصاله عن الجيش الاسلامي و رجوعه الى المدينة.

(2)

مصاعب الطريق:

لقد واجه

جيش الاسلام في أثناء الطريق متاعب و مشاق كثيرة، و لهذا سمّي هذا الجيش بجيش «العسرة» و لكن ايمانهم العميق باللّه، و حبّهم الشديد للهدف المقدس سهّل لهم تلك المصاعب، و هوّن عليهم تلك المشاق، التي استقبلوها بصدور رحبة.

و عند ما وصل جيش الاسلام إلى أرض ثمود غطّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجهه بثوبه، و استحثّ راحلته و مرّ على بيوتهم، و أطلالهم بسرعة و قال لأصحابه:

«لا تدخلوا بيوت الّذين ظلموا إلا و أنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم».

و هو بذلك يحث أصحابه على التدبر في أحوال من مضى من الاقوام

سيد المرسلين ،ج 2،ص:563

و الشعوب، و التفكّر في مصائرهم و ما آلوا عليه بسبب عتوّهم و عنادهم، و تمرّدهم على الحق، فان ضلال الموت التي كانت تخيّم على تلك الربوع، و الأطلال الصامتة خير عبرة للاجيال و الاقوام الاخرى.

(1) ثم نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس عن أن يشربوا من مائها شيئا، و أن لا يتوضئوا به للصلاة، و أن لا يحاس به حيس، و لا يطبخ به طعام، و أن العجين الذي عجن به، أو الحيس الذي فعل به يعلف الإبل، و أن الطبيخ الذي طبخ به يلقى، و لا يأكلوا منه شيئا «1».

ففعل الناس ما أمرهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم ان الناس ارتحلوا من تلك المنطقة حتى إذا مضى من الليل بعضه وصلوا إلى البئر التي كان يشرب منها ناقة صالح النبي عليه السّلام، فنزلوا عليها بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(2)

تعليمات احتياطيّة:

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعرف بالرياح الشديدة و السامّة و العواصف

القوية التي كانت تهبّ في تلك الأرض بين الحين و الآخر، و تبلغ من الشدة و القوة بحيث ربما تحتمل البعير بصاحبه، و تلقيه في واد آخر.

و لهذا أصدر صلّى اللّه عليه و آله إلى أصحابه تعليمات احتياطية مشدّدة فأمرهم بأن يعقلوا آبالهم و لا يخرج أحد منهم في تلك الليلة وحده، بل يخرج من خبائه مع صاحبه.

و قد اثبتت التجارب و الاحداث فيما بعد أن التعليمات الاحتياطية النبوية المذكورة كانت مفيدة جدا، لأن شخصين من بني ساعدة من الّذين كانوا في ركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تجاهلا هذه التعليمات فخرجا منفردين من

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 521 و 522، السيرة الحلبية: ج 3 ص 134 و 135.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:564

خبائهما ليلا، فاختنق أحدهما لشدة الرياح، بينما احتملت الريح الرجل الآخر، و ضربت به الجبل، و لما علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك انزعج بشدّة و قال:

«أ لم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلّا و معه صاحبه» «1».

(1) هذا و قد استعمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على حرس العسكر «عباد بن بشر» فكان يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم اصبح الناس و لا ماء معهم، و حصل لهم بسبب العطش ما كاد يقطع رقابهم، حتى حمل ذلك بعضهم على نحر إبلهم ليشقوا اكراشها، و يشربوا ماءها، بينما صبر آخرون، و انتظروا حصول الماء على ظمأ شديد، و قلوب ملتهبة عطشا.

و لقد أعان اللّه تعالى الذي كان قد وعد نبيّه الكريم بالنصر أصحابه المسلمين الأوفياء، مرة اخرى إذ أرسل سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس، و احتملوا ما يحتاجون إليه.

(2)

علم رسول اللّه بالمغيّبات:

لا شك في أن في مقدور رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله أن يطلع على الغيب ممّا يخفى على الناس، و يخبر به كما يصرح القرآن الكريم بذلك، إلّا أنّ هذا العلم لا ريب محدود، و يحتاج إلى تعليم اللّه سبحانه. يقول تعالى:

«عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» «2».

من هنا يمكن أن تخفى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض الاحايين، أبسط الامور، كأن يفقد مفتاحا، أو يضيّع مالا و لا يعرف بمكانه و مصيره، بينما يقدر صلّى اللّه عليه و آله أن يعلم بأخفى الامور الغيبية و اشدها غموضا فيثير حيرة

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 134، السيرة النبوية: ج 2 ص 522.

(2) الجن: 26 و 27.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:565

الناس و دهشتهم و عجبهم.

و السبب في كل ذلك هو ما ذكرناه، فان مشيئة اللّه سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشي ء من عالم الغيب و يخبر به علم و أخبر، و إلّا كان صلّى اللّه عليه و آله كغيره من أفراد البشر العاديين.

و في ضوء هذا البيان لا بد أن ننظر الى القصة التالية:

(1) لما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، فقام أحد المنافقين، و قال: أ ليس محمّد يزعم أنه نبي، و يخبركم عن خبر السماء، و هو لا يدري أين ناقته؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يكشف النقاب ببيانه الرائع:

«إن رجلا قال: هذا محمّد يخبركم أنه نبيّ و يزعم أنه يخبركم بأمر السماء، و هو لا يدري أين ناقته؟ و إني و اللّه ما أعلم إلّا ما علّمني اللّه، و قد دلّني اللّه عليها و هي

في هذا الوادي في شعب كذا و كذا و قد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها».

فذهب بعض الصحابة من فورهم، و جاءوا بها «1».

(2)

إخباره بمغيّب آخر:

لقد تخلّف أبو ذر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ أبطأ به بعيره، فانتظره المسلمون ريثما يقوم بعيره، و لكن دون جدوى فترك أبو ذر البعير، و أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ماشيا، و نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض منازله و نزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت، و فجأة لاح من بعيد رجل، فلما نظر إليه ناظر من المسلمين قال:

يا رسول اللّه هو و اللّه أبو ذر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 523، امتاع الاسماع: ج 1 ص 456.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:566

«رحم اللّه أبا ذر يمشي وحده و يموت وحده و يبعث وحده» «1».

(1) و قد كشف المستقبل عن صحة هذه النبوءة، فقد توفي أبو ذر في صحراء «الربذة»، و عنده ابنته بعيدا عن الناس في حالة مأساوية «2».

لقد تحققت نبوءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في معركة تبوك بعد ثلاثة و عشرين عاما، فقد نفي هذا الصحابي المجاهد الصادق إلى الشام ثم الى الربذة لا لشي ء إلّا لأنّه جهر بالحق، و طالب بالعدل، و فقد قواه و طاقاته البدنية شيئا فشيئا حتى غدى طريح الفراش، في تلك المنطقة الوعرة.

و فيما كان يمضي الدقائق الاخيرة من حياته الحافلة بالاحداث و التطورات، و امرأته جالسة عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب و قد عرق جبينه، و هي تمسح بيدها العرق و تبكي قال لها:

ما يبكيك؟

فقالت: أبكي أنه لا يد لي بتغييبك (أي ليس لي من يعيننى على دفنك، أ و ليس عندي ثوب يسعك كفنا)!

فارتسمت على شفتي أبي ذر ابتسامة مرّة و قال: لا تبكي عليّ، فاني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم و أنا عنده في نفر يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين (ثم قال:) فكلّ من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة و قرية، فلم يبق منهم غيري، و قد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق، فانك سوف ترين ما أقول لك فاني و اللّه ما كذبت و لا كذبت.

قال هذا و فاضت روحه المباركة «3».

(2) و لقد صدق أبو ذر، فقد كانت ثمة قافلة من المسلمين تضم شخصيات

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 525.

(2) المغازي: ج 3 ص 1000 و 1001.

(3) اسد الغابة: ج 1 ص 302، الطبقات الكبرى: ج 4 ص 223، حلية الاولياء: ج 1 ص 302.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:567

كبرى مثل «عبد اللّه بن مسعود» و «حجر بن عدي» و «مالك الاشتر» تتقدم نحو تلك المنطقة.

رأى «عبد اللّه» من بعيد مشهدا عجيبا ... مشهد جسد بلا روح على قارعة الطريق، و عند ذلك الجسد امرأة و صبيّ و هما يبكيان.

فعطف «عبد اللّه» زمام راحلته نحو ذينك الشخصين و تبعه من معه في القافلة أيضا، و ما أن وقعت عينا عبد اللّه على ذلك الجسد حتى عرف صاحبه، فهذا هو رفيقه و أخوه في الاسلام أبو ذر!!

فاغرورقت عيناه بالدموع، و وقف عند جثمان أبي ذر، و تذكّر نبوءة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله في غزوة تبوك و قال: رحم اللّه أبا ذر يمشي

وحده، و يموت وحده، و يبعث وحده».

(1) ثم صلى ابن مسعود على أبي ذر، ثم واراه الثرى، و بعد أن فرغ من دفنه، وقف مالك الاشتر عند قبره و قال:

اللّهمّ إنّ هذا صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عبدك في العابدين، و جاهد فيك المشركين، لم يغيّر و لم يبدّل لكنّه رأى غريبا منكرا فغيّره بلسانه و قلبه، حتى جفي و نفي و حرم و احتقر ثم مات وحيدا غريبا «1».

و قد اشار السبكى في ابيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية:

و عاش أبو ذر كما قلت وحده و مات وحيدا في بلاد بعيدة

______________________________

(1) ذكر المؤرخون قصة وفاة أبي ذر و دفنه بصور مختلفة، فيستفاد من بعض المصادر التاريخية أن أبا ذر كان على قيد الحياة عند ما قدمت القافلة المذكورة و تحدث مع رجالها، و لكن بعض المصادر الاخرى تنص على أنه مات قبل قدوم تلك القافلة الى تلك المنطقة كما أنه صرح البعض أن زوجة أبي ذر و ابنه حملا جثمانه إلى قارعة الطرق بينما قال آخرون أن زوجته و ابنه جلسا على قارعة الطريق و دلّا القافلة على محل جثمانه الطاهر، راجع للوقوف على ذلك الطبقات الكبرى:

ج 4 ص 34- 232، و الدرجات الرفيعة: ص 53.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:568

(1)

جيش الإسلام في أرض تبوك:

حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك، و لكن دون أن يرى أثرا عن جيش الروم، و كأنّ جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الاسلام، و بشهامتهم و تضحيتهم النادرة التي شهدوا نموذجا منها عن كثب في معركة «مؤتة» رأوا من الصالح ان ينسحبوا إلى داخل بلادهم و لا يواجهوا المسلمين، و يثبتوا بذلك

عمليّا نبأ اجتماعهم ضدّ المسلمين، و يتظاهروا بأنه لم تراودهم فكرة الهجوم على المسلمين قط، و أن هذا النبأ لم يكن إلّا شائعة لا أكثر، فيثبتوا من هذا الطريق حيادهم بالنسبة للحوادث و الوقائع التي تحدث في الجزيرة العربية «1».

(2) في هذه اللحظة جمع رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله قادة جيشه الكبار، و تبعا للاصل الاسلامي «و شاورهم في الأمر» تحادث معهم حول التقدّم في أرض العدوّ أو الرجوع إلى المدينة و شاورهم في ذلك.

فكانت نتيجة التشاور هي أنّ على الجيش الاسلامي الذي تحمّل مشاق كثيرة في هذه السفرة، أن يعود إلى المدينة، ليستعيد نشاطه، و قواه، هذا مضافا إلى أن المسلمين حققوا هدفهم السامي من هذه السفرة و هو تفريق جيش الروم و تبديد اجتماعهم بعد القاء الرعب الشديد في قلوبهم، و قد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدة مديدة بحيث يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين، و هذا القدر من النتيجة التي من شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحا من الزمن تكفي للمسلمين فعلا حتى يقضي اللّه ما يقضي في المستقبل.

______________________________

(1) يكتب الواقدي في المغازي: ج 3 ص 1014 و 1015 أقام رسول اللّه بتبوك عشرين ليلة و هكذا يقول: إن النبي بعد أن صلى الفجر ذات يوم جمع الناس، فخطب فيهم خطبة بليغة ضمّنها مواعظ و تعاليم عظيمة كثيرة ثم ادرج نص الخطبة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:569

(1) و لقد اضاف كبار المشيرين- حفاظا على مكانة الرسول القائد، و إشعارا بان رأيهم هذا قابل للأخذ و الرد- قائلين: إن كنت امرت بالسير فسر «1».

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لو امرت به ما استشرتكم فيه».

و

هكذا احترم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله آراء مشاوريه و رضى بالعودة إلى المدينة «2».

و حيث كان هناك حكام و ولاة يعيشون في المناطق الحدودية السورية و الحجازية لهم نفوذ كبير في قبائلهم و مناطقهم، و كانوا جميعا نصارى، و لهذا كان من المحتمل بقوة أن يستغل الروم قواهم ضد الاسلام، و يحملوا بمساعدتهم على الحجاز.

(2) و لهذا كان يتعين أن يعقد معهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معاهدة عدم اعتداء، ليأمن جانبهم و يحصل على أمن أوسع، فأجرى صلّى اللّه عليه و آله اتصالات مباشرة مع اولئك الحكّام و الولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك و عقد معهم معاهدات عدم تعرض و اعتداء بشروط خاصة كما أرسل مجموعات إلى النقاط النائية عن تبوك ليحقق بذلك مزيدا من الأمن للمسلمين.

لقد اتصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شخصيا بزعماء «أيلة» و «أذرح» و «الجرباء»، و تمّ عقد معاهدة عدم تعرّض و اعتداء بين الجانبين. و «أيلة» مدينة ساحلية تقع على ساحل البحر الأحمر، و لا تبعد عن الشام كثيرا، و كان زعيم تلك المنطقة هو «يوحنا بن رؤبة»، فهو يوم اتي به إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و عليه صليب من ذهب على عادة النصارى، قدّم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 1019.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 142.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:570

و آله فرسا أبيضا، و أعلن عن طاعته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فاحترمه النبي و اكرمه، و صالحه، و كساه بردا يمينا.

(1) و قد قبل «يوحنا» هذا أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها

ثلاثمائة دينار سنويا و على أن يحسن إلى من يمرّ على أيلة من المسلمين و كتب له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتاب أمان وقّعه الطرفان، و إليك نص الكتاب المذكور:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا أمنة من اللّه و محمّد النبيّ رسول اللّه ليوحنا بن رؤبة و أهل أيلة لسفنهم و سياراتهم في البرّ و البحر، لهم ذمة اللّه و ذمة محمّد رسول اللّه و لمن كان معهم من أهل الشام و أهل اليمن و أهل البحر، و من أحدث حدثا، فانه لا يحول ماله دون نفسه، و أنه طيّبة لمن أخذه من الناس و انه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه و لا طريقا يريدونه من برّ و بحر.

هذا الكتاب يكشف عن قاعدة مهمّة في السياسة الاسلامية و هي أن أيّ شعب أراد أن يسالم المسلمين و فرّ الاسلام له كل أمن و سلام «1».

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صالح بقية الحكام الحدوديين مثل سادة أقوام «أذرح» و «جرباء» التي كانت تتمتع باهمية استراتيجية، و بذلك ضمن أمن المنطقة الاسلامية من ناحية الشمال.

(2)

بعث خالد إلى دومة الجندل:

على طريق تبوك كانت تقع منطقة عامرة خضراء ذات أشجار و زروع و مياه جارية تضم حصنا منيعا، و تبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخا، تسمى «دومة الجندل» «2» و كان يحكمها يومذاك رجل مسيحي يدعى «اكيدر بن

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 526، السيرة الحلبية: ج 3 ص 141، بحار الأنوار: ج 21 ص 160.

(2) يقول الواقدي في المغازي: ج 3 ص 1025 تقع دومة الجندل على عشرة اميال من المدينة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:571

عبد الملك».

(1) و حيث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله كان يخشى هجوما آخر من الروم، و الاستعانة بحاكم دومة المسيحي و بهذا يعرّضون أمن الحجاز للخطر، لذلك رأى صلّى اللّه عليه و آله أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن فبعث مجموعة من المقاتلين بقيادة خالد بن الوليد الى المنطقة المذكورة لتطويعها و تطويع حاكمها.

فتوجه خالد مع فرسانه الى دومة الجندل حتى اقتربوا إلى حصنها، و كمنوا قريبا منه.

و في تلك الليلة خرج «اكيدر» و أخوه «حسان» من الحصن و معه نفر من اهل بيته للصيد فلما ابتعدوا عن الحصن حاصرهم خيل خالد و أسروا «اكيدرا» بعد قليل من القتال و المواجهة، و قتل اخوه «حسان» و لجأ البقية إلى الحصن، و اعتصموا به، فصالح خالد «اكيدرا» على أن يطلب له و لقومه الأمان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقاء أن يفتح أبواب الحصن في وجوه المسلمين و يلقي أهلها الاسلحة.

(2) فأمر اكيدر الذي كان يثق بصدق المسلمين و احترامهم لوعودهم و عهودهم، أمر قومه أن يفتحوا أبواب الحصن و يسلّموا للمسلمين، و يلقوا اسلحتهم و يتركوا القتال، و كانت الاسلحة تبلغ أربعمائة درع، و أربعمائة رمح و خمسمائة سيف ثم توجه خالد باكيدر و قومه و ما حصل عليه من الغنائم الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فخلبت منظر الديباج المخوّص بالذهب عيون جماعة من طلاب الدنيا.

فاخذوا يتلمسونه بأيديهم و يتعجّبون منه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو لا يكثرث بتلك الثياب:

«فو الّذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن من هذا».

لقد حضر «اكيدر» عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و امتنع عن قبول الاسلام إلّا أنه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين،

و صالحه النبي صلّى اللّه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:572

عليه و آله على ذلك و كتب له كتابا، ثم أهدى له صلّى اللّه عليه و آله هدية و استعمل على حرسه «عباد بن بشر» ليوصله الى دومة الجندل سالما «1».

(1)

تقييم إجمالي لغزوة تبوك:

إن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و إن لم يلق في هذا السفر الشاق كيدا و لم يواجه العدوّ، و لم يقاتل إلّا أنّ هذه السفرة عادت عليه بسلسلة من الفوائد المعنوية و الروحية هي:

(2) أولا: صعود مكانة و سمعة الجيش الاسلاميّ، فقد زاد من عظمته و قوته في قلوب سكان الحجاز، و حكّام المناطق الحدودية السورية، و عرف الصديق و العدوّ أن المقدرة العسكريّة الاسلاميّة بلغت من القوة و العظمة بحيث أصبح في مقدورها أن تواجه اكبر القوى العالمية و تقارعها، و تلقي الرعب و الخوف في قلوبها.

إن انتشار هذا الموضوع بين القبائل العربية التي عجنت جبلّتها بروح التمرّد و الطغيان أوجب أن تتخلى عن فكرة الطغيان و المعارضة، و التآمر ضدّ الاسلام ردحا من الزمن، و أن لا تفكّر في هذه الامور.

و لهذا السبب أخذت وفود القبائل التي لم تخضع للاسلام حتى ذلك اليوم تفد تباعا على رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله بعد رجوعه من تبوك الى المدينة، و تظهر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طاعتها و خضوعها حتى سمّي ذلك العام بعام الوفود لضخامة عدد تلك الوفود و البعثات التي قدمت المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(3) ثانيا: ضمن المسلمون عن طريق عقد المعاهدات المختلفة المتعدّدة مع حكّام المناطق الحدودية الحجازية و السورية أمن هذه المنطقة، و اطمأنوا بسببها إلى أنهم سوف لن يتعاونوا مع جيش

الروم، و لن يدخلوا مع تلك الدولة في مؤامرة ضدّ

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 166، بحار الأنوار: ج 21 ص 246.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:573

الاسلام و المسلمين.

(1) ثالثا: مهّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذا السفر الشاق الطريق لفتح الشام، فقد عرف قادة جيشه طرق هذه المنطقة و مشاكلها، و علمهم كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى في ذلك العصر، من هنا كانت الشام و سورية هي أوّل منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(2) رابعا: تميّز المؤمن عن المنافق في هذه التعبئة العامة و حصلت عملية تصفية و فرز كبيرة و عميقة في جماعة المسلمين.

(3)

المنافقون يخطّطون لاغتيال النبي:

أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مدة بضع عشرة يوما في تبوك «1» و بعد أن بعث خالد إلى «دومة الجندل» توجه بالمسلمين الى المدينة. ولدى العودة تآمر (12) منافقا ثمانية منهم من قريش و الباقي من أهل المدينة لاغتيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أثناء الطريق و قبل أن يصل إلى المدينة، و ذلك بتنفير ناقة النبي صلّى اللّه عليه و آله في عقبة بين المدينة و الشام ليطرحوه في واد كان هناك. و عند ما وصل الجيش الاسلامي إلى بداية تلك المنطقة (العقبة) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم».

(4) فأخذ الناس بطن الوادي، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ طريق العقبة فيما يسوق «حذيفة بن اليمان» ناقة النبي، و يقودها «عمار بن ياسر» فبينما هم يسيرون إذ التفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى خلفه، فرأى في

ضوء

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 527 و ذهب ابن سعد في الطبقات انه مكث بتبوك عشرين يوما (ج 2 ص 168).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:574

ليلة مقمرة فرسانا متلثمين لحقوا به من ورائه لينفّروا به ناقته، و هم يتخافتون، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و صاح بهم و أمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلا: اضرب وجوه رواحلهم.

(1) فأرعبهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بصياحه بهم إرعابا شديدا، و عرفوا بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علم بمكرهم و مؤامرتهم، فاسرعوا تاركين العقبة حتى خالطوا الناس.

يقول حذيفة: فعرفتهم برواحلهم و ذكرتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قلت: يا رسول اللّه أ لا تبعث إليهم لتقتلهم؟ فاجابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في لحن ملؤه الحنان و العاطفة:

«إن اللّه أمرني أن اعرض عنهم، و اكره أن يقول الناس أنّه دعا اناسا من قومه و أصحابه إلى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم حتى ظهر على عدوّه ثمّ أقبل عليهم فقتلهم و لكن دعهم يا حذيفة فانّ اللّه لهم بالمرصاد» «1».

و قد أنزل اللّه سبحانه إثر هذه الحادثة الآية 65 من سورة التوبة التي قال تعالى فيها: «و لئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض و نلعب» «2».

(2)

النية تقوم مقام العمل:

ليس ثمة مشهد أعظم جلالا من مشهد جيش فاتح يعود إلى أحضان الوطن، كما ليس هناك أمر ألذّ و أهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدوّ، التي تحفظ أمجاده، و تضمن بقاء كيانه، و سلامته، و قد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الاسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخل الجيش الاسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوى المسافة

______________________________

(1) المغازي: ج

3 ص 1042- 1045، مجمع البيان: ج 3 ص 46 بحار الأنوار: ج 21 ص 247، الدرجات الرفيعة: ص 298 و 299 و امتاع الاسماع: ج 1 ص 477.

(2) راجع مجمع البيان: ج 3 ص 46.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:575

بين «تبوك» و «المدينة»، و كانت تغمر جنود الاسلام فرحة كبيرة، و تظهر على كلماتهم و أعمالهم أمارات الاعتزاز لما أحرزوه من غلبة على العدوّ، و من أداء لحق الجندية، و كان السبب واضحا لأنّهم أرعبوا دولة قويّة سبق لها أن هزمت الامبراطورية الايرانية، فهم أخافوا الروم التي انسحبت من تبوك قبل وصول المسلمين إليها، و هم طوّعوا حكّام و زعماء المدن و المناطق الحدودية السورية و الحجازية، و أخضعوهم للدولة الاسلامية.

(1) لا شكّ أنّ الغلبة على العدوّ فخر عظيم أصاب هذا الجيش، و كان طبيعيا أن يفتخر أفراد هذا الجيش و يتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر، و لكن حيث أن مثل هذا النمط من التفكير و هذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجد غرورا لدى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا فيها لعذر و قلوبهم مع جنود الاسلام، و يشاركونهم بافئدتهم في أفراحهم، و أتراحهم لهذا التفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم على مشارف المدينة و قد توقّفوا خارج المدينة بعض الوقت:

«إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم سيرا و لا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم».

قالوا يا رسول اللّه: و هم بالمدينة؟

قال: «نعم، حبسهم العذر» «1».

أجل أنهم كانوا يتشوّقون إلى الجهاد هذا الواجب الاسلامي الكبير، و لكن العذر منعهم من الاشتراك فيه.

(2) إن النبي الاكرم بهذه العبارة المقتضبة اشار- في الحقيقة- إلى واحد من البرامج الاسلامية

التربوية، و ذكّر بأن النية الطيبة و الفكر الصالح يقوم مقام العمل الصالح الطيب، و أن الذين يحرمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الامكانيات يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 163، بحار الأنوار: ج 20 ص 219.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:576

ثواب العمل الصالح اذا نووا ذلك، و اشتاقوا إليه قلبيا.

إذا كان الاسلام يهتمّ باصلاح الظاهر، فانه يهتمّ أكثر باصلاح القلب و الفكر، باصلاح الباطن و السريرة، لأن اصلاح العقيدة و طريقة التفكير هو منبع جميع الاصلاحات، و أعمالنا كلها وليدة أفكارنا و نوايانا.

إذا خفّف النبي الاكرم بقوله هذا من غلواء المجاهدين و غرورهم، و حفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوان إلّا أنه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلفين من دون عذر و يلقّنهم درسا لن ينسوه، و للنموذج ننقل هنا قصة ثلاثة من المتخلّفين.

(1)

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ:

يوم اعلن في المدينة عن التعبئة العامة تخلّف ثلاثة من المسلمين في المدينة هم: «هلال بن أميّة»، و «كعب بن مالك» و «مرارة بن الربيع» فقد حضر هؤلاء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لدى خروجه إلى تبوك و اعتذروا إليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد، فاعتذر أحدهم، بأن الوقت هو وقت إدراك الثمر، و أنهم سيلتحقون بجيش الاسلام إذا فرغوا من الحصاد و القطاف.

إن هؤلاء و امثالهم ممن يريدون الدين و الدينار، و تهمّهم مصالحهم المادية الشخصية و الاستقلال السياسي معا يعانون من نظرة ضيقة و قصيرة تعادل اللذائذ الماديّة العابرة بالحياة الانسانية الشريفة، التي تتحقق تحت لواء الاستقلال الفكريّ و السياسيّ و الثقافي، بل ربما رجّحوا الاولى على الثانية.

و لهذا كان على النبي صلّى اللّه عليه و

آله- بعد العودة- أن يؤدب مثل هذه العناصر حتى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.

(2) إنهم لم يتخلّفوا عن هذا الجهاد فحسب، بل لم يعملوا بالعهد الذي أعطوه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أيضا، فإنهم انشغلوا بالتجارة، و جمع المال حتى فوجئوا بعودة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المظفّرة إلى المدينة فبادروا عند

سيد المرسلين ،ج 2،ص:577

ذلك لملاقاة ما بدر منهم من تخلّف إلى الحضور عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للتسليم عليه و تقديم التهاني إليه كما فعل الآخرون.

إلّا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعرض بوجهه عنهم و لم يكترث بهم، و عند ما تحدث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح و الابتهاج كان أوّل ما قاله هو:

«لا تكلمنّ أحدا من هؤلاء الثلاثة».

(1) و مع أن عدد المتخلفين كان يقارب التسعين شخصا، إلا أن اكثرهم حيث كانوا من المنافقين، و لم يكن يتوقع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدوّ لهذا تركّز ثقل هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهم سبق منه أن اشترك في غزوة بدر مثل «مرارة» و «هلال»، و كانت لهم شخصية و مكانة بين المسلمين!!

و لقد تركت سياسة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحكيمة التي كانت جزء لا ينفك من دينه أثرا عجيبا، فقد تعطّلت التجارة و الأخذ و العطاء مع المتخلفين، و كسدت بضائعهم، و لم يشترها أحد، و قطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم و علاقتهم مع المخلفين المذكورين اتّباعا لأوامر النبي صلّى اللّه عليه و آله، و تركوا حتى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلفين

فعلتها، و ضغطت عليهم نفسيا بشدة حتى ضاقت عليهم الأرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم.

«حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» «1».

(2) و لكن هؤلاء الثلاثة المقرون بفراسة كاملة أدركوا أن العيش في البيئة الاسلامية لا يمكن إلا بالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين، و أنه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الاكثرية القاطعة، و بخاصة اذا كانت الأقلية تتألف من

______________________________

(1) التوبة: 118، و تذكر التفاسير كيفية توبتهم و إنابتهم على وجه التفصيل فليراجعها من يريده.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:578

جماعة مشاغبة و مغرضة.

هذه المحاسبات من جانب، و الانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعت بهؤلاء المخلفين إلى العودة إلى حظيرة الايمان الواقعي، و أن يظهروا ندمهم على فعلهم القبيح بالتوبة الى اللّه، و الانابة إليه، و قبل اللّه تعالى توبتهم، و أخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من فوره إلى الاعلان عن عفوه و رفع المقاطعة عنهم «1».

(1)

قصة مسجد الضّرار:

كانت «المدينة» و «نجران» تعتبران بالنسبة إلى أهل الكتاب منطقتين واسعتين و مركزيتين في شبه الجزيرة العربية، فقد كانوا يتمركزون في هاتين المنطقتين اكثر من أي مكان آخر، و لهذا اعتنق فريق من عرب الأوس و الخزرج الدين المسيحي و اليهودي.

و يبدو أن «ابا عامر» والد «حنظله غسيل الملائكة» المستشهد في غزوة احد، كان قد رغب في الدين المسيحي في العهد الجاهلي، فانسلك في صفوف الرهبان، فلمّا ظهر نجم الاسلام من افق المدينة بعد هجرة النبي إليها، و احتوى الدين الجديد الأديان الاخرى انزعج «أبو عامر» من هذه الظاهرة بشدة، فشرع بصدق في التعاون مع منافقي الأوس و الخزرج. و قد عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

بخططهم التخريبية، و أراد اعتقاله، فخرج «أبو عامر» من المدينة الى مكة، و من مكّة الى الطائف، و هرب من الطائف بعد سقوطها إلى الشام، و اخذ يقود من هناك شبكة تجسّسيّة لحزب المنافقين.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 165، بحار الأنوار: ج 10 ص 119 و هذا النوع من المحاربة التي سلكها النبي مع المخلفين علّم المسلمين درسا كبيرا و مفيدا في مقابل الاقليات الصغيرة، و هو لا يحتاج إلّا إلى الاخلاص و الاتحاد و العزم هذا و يذكر الواقدي في المغازي: (ج 3 ص 1049- 1056) قصة هؤلاء المخلفين بصورة اكثر تفصيلا ممّا ذكرناه هذا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:579

(1) و قد كتب الى المنافقين في المدينة في إحدى رسائلهم ان استعدّوا و ابنوا مسجدا في قباء في مقابل مسجد المسلمين و صلّوا فيه في أوقات الصلاة ليمكنكم- تحت غطاء أداء الفرائض- التحدث حول الامور المتعلقة بالاسلام و المسلمين، و كيفية تنفيذ المؤامرات الحزبية ضدهم.

لقد كان «ابو عامر» على غرار أعداء الاسلام في العصر الحاضر يرى أن أفضل وسيلة لهدم و استئصال الدين في بلد يسوده الدين هو الاستفادة من نفس سلاح الدين، و من المعلوم أنه يمكن توجيه الضربة إلى الدين باسم الدين أكثر من أيّ عامل أو وسيلة اخرى.

لقد كان «ابو عامر» يعلم أن النبي صلّى اللّه عليه و آله لا يسمح لحزب المنافقين بإقامة مركز لهم مطلقا إلّا إذا كان لذلك صبغة دينية، و كان تحت عنوان مسجد.

(2) عند ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتجهّز إلى «تبوك» أتاه جماعة من المنافقين و طلبوا منه ان يسمح لهم ببناء مسجد في محلتهم بقباء بحجة أن ذوي العلة و الحاجة لا

يمكنهم أن يقطعوا المسافة بين قباء و مسجد النبي للصلاة معه صلّى اللّه عليه و آله في الليلة المطيرة و الليلة الشاتية، فأوكل النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر النظر في طلبهم الى ما بعد العودة من تبوك «1».

غير أن حزب النفاق بادروا الى اختيار نقطة من الأرض في قباء، و اسرعوا في اقامة مركز لهم تحت غطاء المسجد و لما عاد النبي صلّى اللّه عليه و آله من تبوك حضروا عنده و طلبوا منه أن يصلي فيه ركعتين ليسبغوا بذلك الشرعيّة على مركزهم، و في هذا الاثناء نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بحقيقة هذا الأمر، و سمّاه في آيات نزل بها على النبي بمسجد الضرار، و وصفه بأنه مركز بني لايجاد الفرقة بين المسلمين، و التآمر عليهم إذ يقول تعالى:

______________________________

(1) المغازي: ج 3 ص 1046.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:580

«وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» «1».

(1) فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله فورا بإحراق ذلك المسجد و تسويته بالأرض فحرّق و هدّم و سوّي بالأرض و تحوّل مكانه إلى مزبلة فيما بعد «2».

إن تحريق و هدم مسجد الضرار كانت ضربة قاضية لحزب النّفاق فمنذئذ تلاشت و شائج و روابط ذلك الحزب الخبيث، و هلك حاميهم الوحيد عبد اللّه بن أبي بعد شهرين من غزوة تبوك.

و لقد كانت غزوة تبوك

آخر الغزوات الاسلامية التي شارك فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ لم يشارك صلّى اللّه عليه و آله بعدها في أي قتال.

______________________________

(1) التوبة: 107 و 108.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 530، بحار الأنوار: ج 20 ص 253.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:581

(1)

55 وفد ثقيف في المدينة

اشارة

انتهت غزوة تبوك بكل مشاكلها، و متاعبها الكثيرة و عاد جنود الاسلام المجاهدون الى المدينة بابدان متعبة من وعثاء السفر، و بعد الطريق، و لم يلق جنود الاسلام كيدا و لم تحصل بينهم و بين الجيش الرومي اية مواجهة كما و لم يواجهوا عدوا طوال ذلك الطريق، و لم يغنموا غنيمة. من هنا اعتبر بعض السذّج من المسلمين تسيير هذا الجيش الضخم عملا لغوا و عبثا، و ذلك لأنهم لم يعرفوا بالآثار و النتائج غير المرئية لهذه الحركة العسكرية الواسعة، و لم يمض وقت كبير إلّا و اتضحت نتائجها، فقد أسلمت على أثر هذه المناورة العسكرية العظمى أشد القبائل عداء و عنادا للاسلام، و خضعت لسلطان المسلمين، بايفاد مندوبيها و وفودها إلى المدينة، و إظهار الطاعة و الاسلام عن طريقها، كما أنها عمدت الى فتح أبواب حصونها الحصينة في وجه المسلمين ليحطّموا أصنامها و أوثانها، و ينصبوا على حطامها ألوية التوحيد.

(2) ان الجماعات السطحية التفكير القصيرة النظر تهتم- عادة- بالنتائج المرئية الحاضرة، فمثلا إذا واجه جنود الاسلام خلال الرحلة عدوّا، و قاتلوه و قضوا عليه، و غنموا غنائم من أمواله قالت هذه الجماعة: لقد حققت هذه العملية العسكرية نتائج باهرة!!

و لكن أصحاب الرؤية العميقة و النظرة البعيدة يحلّلون الامور على غير هذا النمط، فهم يمتدحون أي عمل يخدم الهدف و النتيجة النهائية و يعتبرونه نجاحا باهرا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:582

(1) و من حسن الاتفاق

أن غزوة تبوك خدمت هدف النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو اجتذاب الاقوام العربية الى الاسلام- خدمة كبرى-، لأنه قد شاع في جميع انحاء الجزيرة العربية أن الروميين (الذين غلبوا الايرانيين الذين طالما سادوا نصف المعمورة في ذلك الوقت و حكموا حتى اليمن و ما حولها في آخر حروبهم، و استعادوا منهم صليبهم و اعادوه إلى بيت المقدس) ارعبوا بالقوة الاسلامية الكبرى، و انصرفوا عن مقابلة جنود الاسلام.

لقد دفع هذا النبأ اشدّ القبائل عنادا، و التي كانت حتى يوم أمس غير مستعدة للتعايش مع الاسلام و الخضوع له، دفعها إلى أن تغيّر من مواقفها المتعنتة المتصلبة، و تفكّر في التعاون و التعايش مع المسلمين، و لكي تسلم من عدوان القوى الكبرى في ذلك اليوم (إيران و الروم) انضوت تحت لواء الاسلام، و اعلنت عن انتمائها إليه. و إليك فيما يلي نموذج من هذه التطورات التي حدثت في مواقف تلك القبائل العربية المعادية للاسلام.

(2)

وقوع الفرقة و الاختلاف في قبيلة ثقيف:

كانت قبيلة ثقيف معروفة بطغيانها و عنادها العجيب بين القبائل العربية، و لقد قاوموا حصار الجيش الاسلامي لهم مدة شهر واحد معتصمين بحصونهم في الطائف و لم يسلّموا «1».

هذا و كان «عروة بن مسعود الثقفي» و هو أحد سادة ثقيف قد علم بانتصار المسلمين الكبير في أرض تبوك، فقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يدخل المدينة، و أسلم على يديه و استأذنه في أن يذهب إلى الطائف، ليدعو قبيلته إلى دين التوحيد فحذره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مخاطر هذا العمل لأنه صلّى اللّه عليه و آله كان يعرف أنّ فيهم نخوة الامتناع الذي كان

______________________________

(1) المغازي: ج 2 ص 922- 938.

سيد المرسلين

،ج 2،ص:583

منهم.

و قال له: انهم قاتلوك.

فقال عروة: يا رسول اللّه أنا أحبّ إليهم من أبكارهم، (أو من أبصارهم)، و كان فيهم كذلك محبّبا مطاعا.

و لقد كان قوم عروة و سائر قادة ثقيف لم يدركوا بعد ما أدركه عروة من عظمة الاسلام، و كان فيهم نخوة و كبر يمنعانهم من الخضوع للحق.

و لهذا قررّت أن ترشق بالنبال و السهام أول داعية أتاها ليدعوها إلى الاسلام ... و هكذا رشقوا بالنبال «عروة» في الوقت الذي كان يدعوهم إلى الاسلام، فقال و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة: كرامة اكرمني اللّه بها، و شهادة ساقها اللّه إليّ «1».

(1)

وفد ثقيف:

ندم رجال ثقيف- بعد مقتل عروة- على فعلهم هذا بشدة و عرفوا بأن الحياة لم تعد ممكنة و ميسّرة لهم في قلب الحجاز الذي رفعت على جميع مناطقه ألوية التوحيد و خاصّة بعد أن أصبحت جميع المراعي و الطرق التجارية تحت رحمة المسلمين، فقرّروا في ندوة مشاورة عقدت لدراسة مشكلاتهم أن يبعثوا مندوبا من قبلهم إلى المدينة ليتفاوض مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يعلن له عن استعداد قومه لاعتناق دين التوحيد ضمن شروط معيّنة، و اتفقوا على إيفاد «عبدياليل» إلى المدينة و ابلاغ رسالتهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن عبد ياليل رفض القيام بهذه المهمّة و قال: لست فاعلا ذلك حتى ترسلوا معي رجالا، لأنه كان لا يثق بثبات رأيهم، و كان يخشى أن يصنعوا به ما صنعوا بعروة بن مسعود. فاتفقوا ان يبعثوا معه خمسة رجال من ثقيف ليقوموا جميعا بالقدوم

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 537 و 538.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:584

على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التفاوض معه.

(1) توجه هذا

الوفد السداسيّ إلى المدينة، و نزلوا بعد طيّ مسافة خارج المدينة عند قناة فألفوا عندها المغيرة بن شعبة الثقفي يرعى خيولا لأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلما رأى المغيرة زعماء قبيلته و عرف هدفهم وثب يشتد الى المدينة ليبشّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن ترك الخيول عند الثقفيين، و ليخبره بقرار قبيلة ثقيف التي طال عنادها، فلقيه أبو بكر قبل أن يدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاخبره المغيرة عن ركب ثقيف، فرجاه أبو بكر أن يسمح له بتبشير النبي صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يحدثه المغيرة بالأمر ففعل المغيرة فدخل أبو بكر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بقدومهم عليه و أنهم جاءوا ليعتنقوا الاسلام بشروط، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باكرامهم، و ضرب لهم قبة في ناحية مسجده، و كلّف خالد بن سعيد بالقيام بشئون ضيافتهم.

ثم حضر وفد ثقيف عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مع أن المغيرة كان قد علّمهم كيف يحيّون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانهم حيّوه بتحية الجاهلية تكبّرا منهم و غرورا ثم أخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برأي ثقيف و أضافوا أنهم مستعدون لاعتناق الاسلام ضمن شروط خاصة، سوف يعرضونها عليه في جلسة تالية.

و استمرت مفاوضات وفد ثقيف مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عدة أيّام، و كان «خالد بن سعيد» هو الذي يمشي بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه المفاوضات.

(2)

شروط وفد ثقيف:

قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كثيرا من شروط ثقيف حتى انه

ضمن لاهل الطائف- ضمن ذلك العهد- أمن منطقة الطائف و ما يرتبط بالطائفيين من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:585

أراض، و لكن بعض شروطهم كانت غير صحيحة، و وقحة الى درجة أن النبي صلّى اللّه عليه و آله غضب بسببها، و لا بأس بأن نتعرض لذكر بعض هذه الشروط:

قال وفد ثقيف: ان قبيلة ثقيف مستعدة لان تعتنق الاسلام شريطة أن يترك بيت أصنامهم على حاله، و أن يعبدوا «اللات» و هو صنم القبيلة الاكبر مدة ثلاث سنين فأبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فلما رأوا غضب النبي و اباءه أخذوا يتنازلون عن المدة التي ذكروها سنة سنة و هو يأبى عليهم حتى سألوا شهرا واحدا، فابى عليهم أن يدعها و لا يوما.

(1) و لقد كان مثل هذا الطلب من النبي صلّى اللّه عليه و آله الذي كان نشر التوحيد، و هدم بيوت الاصنام، و تحطيم الاوثان يشكل هدفه الاساسي كان طلبا مخجلا جدا، و لقد كان مثل هذا الطلب يكشف عن أنهم كانوا يريدون إسلاما لا يضر بمصالحهم الماديّة و ميولهم الباطنية، أما إذا كان غير هذا فلن يقبلوه و لن يرضوا به.

و لهذا عند ما عرف وفد ثقيف بقبح مطلبهم هذا بادروا إلى التعلل و الاعتذار بأنهم إنما أرادوا بذلك إرضاء نسائهم و ذراريهم و سفهاء قبيلتهم، حيث إنهم يكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الاسلام، فاذا أبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليهم ذلك فليبعث معهم شخصا من غير قبيلتهم ليهدمها، فوافق النبي صلّى اللّه عليه و آله على هذا الشرط، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يريد محو و ازالة جميع المعبودات الباطلة عن الحياة البشرية سواء أتمّ هذا على

أيدي الطائفيين أم على أيدي غيرهم.

(2) و الشرط الآخر هو أن يعفيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الصلاة.

فلقد كانوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمكنه التصرّف في الأحكام الإلهية كما يفعل قادة أهل الكتاب، حسب زعمهم، حيث كانوا يكلّفون جماعة بهذه الاحكام، بينما يعفون جماعة اخرى منها، و ذلك غفلة منهم عن

سيد المرسلين ،ج 2،ص:586

أنّه صلّى اللّه عليه و آله يتبع الوحي الالهيّ، و لا يمكنه التغيير فيه قيد شعرة.

(1) إن هذا الشرط كان يكشف عن انه لم يكن قد ترسّخت في أفئدتهم روح التسليم المطلق بعد، و أنّ اعتناقهم للاسلام كان نتيجة ظروف ساقتهم إلى اسلام ظاهريّ سطحيّ، و إلّا فلا داعي و لا مبرّر للايمان ببعض ما جاء في الاسلام دون بعض، فيقبلوا شيئا و يرفضوا شيئا آخر.

إن الاسلام، و الايمان باللّه إن هو إلّا نوع من التسليم الباطني الروحيّ، و الخضوع القلبي الذي يقبل المرء في ظلّه جميع التعاليم و الدساتير الإلهية عن طواعية و رغبة، و في مثل هذه الحالة لا غير لا تجد فكرة التبعيض في التعاليم الإلهية طريقا إلى روح إنسان و مخيّلته.

و لأجل هذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جوابهم:

«لا خير في دين لا صلاة فيه» «1».

إن المسلم الذي لا يسجد و لا يركع للّه تعالى في اليوم و الليلة و لامرة واحدة، و لا يذكر ربّه لا يكون مسلما بالمعنى الصحيح.

(2) هذا و عند ما اتفق الطرفان على شروطهما نظمت معاهدة تشمل المواد و الشروط المتّفق عليها، وقّع عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و حينئذ أذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لوفد

ثقيف بالعودة إلى قومهم، و اختار منهم أحدثهم سنا و هو «عثمان بن أبي العاص» الذي كان أحرصهم على التفقه في الإسلام، و تعلّم القرآن خلال وجوده بالمدينة فأمّره عليهم، و جعله نائبا دينيا، و سياسيا عنه في قبيلة ثقيف و أوصاه- فيما أوصاه- بأن يصلّي بالناس جماعة مراعيا أضعفهم قائلا له:

«يا عثمان تجاوز «2» في الصلاة و أقدر الناس بأضعفهم فانّ فيهم الكبير

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 317.

(2) تجاوز: أي خفف الصلاة و أسرع بها.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:587

و الصغير و الضعيف و ذا الحاجة».

(1) ثم كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «أبا سفيان بن حرب»، و «المغيرة بن شعبة» بالتوجّه الى الطائف مع وفد ثقيف لهدم الاصنام فيها، أجل إن أبا سفيان الذي كان و حتى يوم أمس من حفظة الأصنام و هو الذي أراق في سبيلها أنهرا من الدّماء، يمشي الآن إلى الطائف و هو يحمل فأسه و معوله لتحطيم الأصنام فيها، و يحوّلها الى تلّ من الحطب، و يبيع ما يتعلق بها من ذهب و فضّة و حليّ ليقضى بأموالها ديون «عروة» و «الأسود» حسب اوامر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 537- 543، السيرة الحلبية: ج 3 ص 216- 218، و لقد وردت قصة وفد ثقيف في كتاب «اسد الغابة»: ج 1 ص 216 و ج 3 ص 406 أيضا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:588

حوادث السنة التاسعة من الهجرة (1)

56 إعلان البراءة من المشركين في منى

اشارة

في أواخر السنة التاسعة من الهجرة نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعدة آيات من سورة التوبة (سورة البراءة)، و كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن

يبعث بها رجلا إلى مكّة ليتلوها مع عهد ذي أربعة بنود في موسم الحج.

و لقد رفع الأمان في هذه الآيات عن المشركين، و الغيت جميع العهود (إلّا العهود و المواثيق التي التزم بها أصحابها و لم ينقضوها)، و ابلغ إلى رءوس الشرك و أتباعهم أن عليهم أن يوضحوا مواقفهم من الحكومة الاسلامية التي تقوم على اساس التوحيد- و ذلك خلال أربعة أشهر، و إذا لم يتركوا الشرك و الوثنية خلال هذه الأشهر الاربعة نزعت منهم الحصانة، و رفع عنهم الأمان.

(2) عند ما ينتهي المستشرقون إلى هذه القصة و هذا الفصل من التاريخ الاسلامي يصوبون رماح حملاتهم إلى الاسلام و يعتبرون هذا الموقف الحاسم و الحكيم مخالفا لمبدإ الحريّة الاعتقادية، و لكنهم اذا طالعوا صفحات التاريخ الاسلامي من دون أيّ تعصب و انحياز، و درسوا الدوافع الحقيقية وراء هذا الاجراء، و التي ذكرت في هذه السورة، و في النصوص التاريخية لسلموا من كثير من هذه الاخطاء، و لصدّقوا و اعترفوا بأن هذا العمل لا ينافي حرية العقيدة التي يحترمها عقلاء العالم، أبدا و إليك فيما يأتي الدوافع وراء صدور هذا العهد (البراءة).

(3) 1- كان التقليد السائد عند العرب في العهد الجاهلي هو أن على زائر

سيد المرسلين ،ج 2،ص:589

الكعبة ان يعطي الثوب الذي يدخل به الى مكة المكرمة للفقير و يطوف بثوب آخر، و اذا لم يكن له ثوب آخر، فان عليه أن يستعير ثوبا و يطوف به حتى لا يضطرّ إلى الطواف عريانا، و إن لم يمكنه ان يستعير ثوبا طاف بالبيت المعظم عاريا، بادي السوأة.

و قد دخلت امرأة ذات جمال كبير، ذات يوم المسجد الحرام، و حيث أنّها لم تك تملك ثوبا آخر، لذلك اضطرّت تبعا

لذلك التقليد الجاهليّ الخرافي أن تطوف عارية بالبيت المعظّم، و من الواضح أنّ مثل الطواف الفاضح أي الطواف بالجسد العاري في أقدس بقعة من بقاع العالم على مرأى من جموع الطائفين بالبيت ينطوى على نتائج سيّئة بالغة السوء.

(1) 2- لقد نزلت الآيات الاولى من سورة التوبة بعد أن انقضت عشرون سنة على بعثة النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و في هذه المدة كان منطق الاسلام القوي حول المنع من الوثنية و الشرك قد بلغ الى مسامع المشركين في شبه الجزيرة العربية فاذا كانت جماعة قليلة منهم لا يزالون يصرّون على الشرك و الوثنية لم يكن ذلك إلّا عن عصبية و عناد.

من هنا كان الوقت قد جان لأن يستخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله آخر علاج لإصلاح ذلك المجتمع المنحرف، و أن يستعين بمنطق القوّة لضرب كل مظاهر الوثنيّة، و أن يعتبرها نوعا من العدوان على الحقوق الالهية و الإنسانية، و بهذه الطريقة يقضي على منبع و منشأ مئات العادات السيئة في المجتمع.

(2) و لكن المستشرقين الذين اعتبروا هذا العمل مخالفا لمبدإ حرية الاعتقاد الذي هو أساس الدين الاسلامي و قاعدة المدنية الراهنة، قد غفلوا عن هذه النقطة لأن مبدأ حرية العقيدة محترم ما دام لا يضرّ بسلامة الفرد و المجتمع، إذ في غير هذه الصورة يجب مخالفتها حتما بحكم العقل و سيرة جميع المفكّرين.

فإذا كان في أورپا اليوم مثلا جماعة من الشباب المنحرفين ينادون بحرية العري انطلاقا من افكار منحرفة فاسدة و قاموا- على أساس أن إخفاء بعض

سيد المرسلين ،ج 2،ص:590

الأقسام من الجسد يثير الفضول و يوجب تحريك الغريزة و يسبب فساد الاخلاق- بتشكيل نوادي العري السرية، فهل يسمح الفكر الانساني الرشيد

بأن يسمح لمثل هذه الجماعة بأن تفعل ما تريد تحت قناع حرية العقيدة، و يقول: إن الاعتقاد أمر محترم، أو أن العقل يقضي بان نحارب مثل هذه الفكرة الحمقاء حفاظا على سعادة تلك الجماعة نفسها، و سعادة المجتمع و هذا الموقف ممّا لا يتخذه الاسلام فحسب بل هو موقف جميع العقلاء في العالم من جميع الاتجاهات و الحركات الهدامة التي تهدّد مصالح المجتمع بالخطر، فهم يحاربونها بلا هوادة، و هذه الحرب هي في الحقيقة هي محاربة المعتقدات الحمقاء لدى الجماعات المنحطة.

إن الوثنية ليست سوى حفنة من الأوهام و الخرافات التي تستتبع مئات العادات الدنيئة، و قد بذل رسول الاسلام جهودا كبرى و كافية في سبيل هدايتهم، و بعد أن انقضى اكثر من عشرين عاما من دعوته كان الوقت قد حان لاستئصال جذور الفساد باستخدام القوة العسكرية كآخر وسيلة.

(1) 3- و من جانب آخر فان الحج هو أكبر العبادات و الشعائر الاسلامية و لم تكن الصراعات و المواجهات التي وقعت بين الاسلام و رءوس الشرك لتسمح حتى يوم نزول هذه السورة بأن يعلّم الرسول الكريم المسلمين مناسك الحج على الوجه الصحيح و بعيدا عن أيّ نوع من أنواع الشوائب و الزوائد.

من هنا كان يتوجب أن يقوم النبي الكريم بنفسه بالمشاركة في هذا المؤتمر الاسلامي العظيم، و يعلّم المسلمين هذه العبادة الكبرى بصورة عمليّة، و لكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله انما كان يمكنه المشاركة في هذه المراسم و المناسك اذا خلّت منطقة الحرم الإلهي و نواحيها من كافة المشركين الذين أعطوا مقام العبودية و العبادة للأصنام الخشبية، و الحجرية، و يطهّرها من كل معالم الشرك و الوثنية، و يصبح الحرم الإلهي خالصا للموحدين و العباد

الواقعيين.

(2) 4- إن جهاد النبي لم يك له أيّ ارتباط بحرية العقيدة، فالعقيدة ليست شيئا يمكن أن يفرض على أحد، و يوجد او يمحى بالقهر. إن روح الانسان و نفسه

سيد المرسلين ،ج 2،ص:591

هو مركز الاعتقاد و مقرّه، و ظرفه و مكانه، و هو لا يخضع لأي قهر أو تسخير، و إن ظهور العقائد في منطقة الضمير يتوقف على سلسلة من المقدمات و الأوليّات التي توجب حصول العقيدة، و ظهور العقيدة و حصولها من دون تلك المقدمات أمر محال.

و على هذا الأساس فإن مسألة الاعتقاد لا تخضع للقهر، و لا تقبل الفرض، بل كان نضال النبي ينحصر في النضال ضدّ مظاهر هذه العقيدة و هي عبادة الاوثان.

من هنا هدم كل بيوت الاصنام، و حطّم الأوثان بينما ترك الانقلاب في العقائد و الضمائر لعامل الزمن الذي كان مروره يستتبع- لا محالة- مثل هذا التطور و التحول و الانقلاب.

(1) ان العوامل الاربعة المذكورة دفعت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أن يستدعي أبا بكر ثم يعلّمه الآيات الاولى من سورة التوبة و يأمره بأن يذهب برفقة اربعين رجلا من المسلمين «1» الى مكة، و يتلو هذه الآيات التي تتضمن البراءة من المشركين في يوم الأضحى على مسامع الناس.

فتهيأ أبو بكر للقيام باداء هذه المهمة، و توجه نحو مكة، إلّا أنه لم يلبث أن نزل أمين الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برسالة من اللّه سبحانه و هي:

«إنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك».

(2) و لهذا استدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا و أخبره بالخبر ثم قال له:

اركب ناقتي العضباء و الحق أبا بكر فخذ براءة من يده، و امض

بها الى مكة و انبذ بها عهد المشركين إليهم، أي اقرأ على الناس الوافدين إلى منى من شتى انحاء الجزيرة العربية براءة بما فيها النقاط الاربعة التالية:

______________________________

(1) و قد ذكر الواقدي انهم كانوا ثلاثمائة (المغازي: ج 3 ص 1077).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:592

1- أن لا يدخل المسجد مشرك.

2- أن لا يطوف بالبيت عريان.

3- أن لا يحجّ بعد العام مشرك.

4- أنّ من كان له عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهد فهو له إلى مدته، أي إنّه محترم ميثاقه و ماله و نفسه إلى يوم انقضاء العهد، و من لم يكن له عهد و مدة من المشركين فإلى أربعة أشهر فإن أخذناه بعد أربعة أشهر قتلناه، و ذلك بدءا من هذا اليوم (العاشر من شهر ذي الحجة).

أي إن على هذا الفريق من المشركين أن يحددوا موقفهم من الحكومة الاسلامية، فإمّا أن ينضووا الى صفوف الموحدين، و ينبذوا وراء ظهورهم كل مظاهر الشرك و يحطموها، و إما أن يستعدوا للقتال مع المسلمين «1».

(1) فخرج علي عليه السّلام على ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله العضباء مع جماعة منهم «جابر بن عبد اللّه» الأنصاري حتى ادرك أبا بكر في الجحفة فأبلغه أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله فدفع أبو بكر آيات البراءة إلى علي عليه السّلام.

و يروي محدّثو الشيعة و جماعة من محدّثي السنّة أن الامام علي بن أبي طالب قال لأبي بكر: أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن اخيّرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه فرجّح أبو بكر العودة الى المدينة على المسير مع علي عليه السّلام الى مكة ...:

بل أرجع إليه، و عاد إلى النبي صلّى اللّه عليه و

آله، فلما دخل عليه قال: يا رسول اللّه إنك أهلتني لأمر طالت الاعناق إليّ فيه، فلمّا توجهت له رددتني عنه، ما لي أنزل فيّ قرآن؟!

فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله: لا و لكنّ الأمين جبرئيل هبط إليّ عن اللّه عزّ و جلّ بأنّه لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك، و عليّ منّي، و لا يؤدّي عنّي إلّا عليّ» «2».

______________________________

(1) فروع الكافي: ج 1 ص 326.

(2) الارشاد: ص 37.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:593

(1) إلّا أن بعض روايات أهل السنّة تفيد أنّ أبا بكر أنيط إليه امارة الحجيج في ذلك العام، بينما كلّف علي عليه السّلام وحده بمهمة قراءة آيات البراءة و النقاط الاربعة المذكورة على الناس يوم الحج الاكبر بمنى «1».

دخل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام مكة و في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، صعد على جمرة العقبة و قرأ على الناس الآيات الثلاث عشرة من صدر سورة التوبة (البراءة) و أذان رسول اللّه المتضمن للنقاط الاربعة، رافعا صوته به، بحيث يسمعه جميع من حضر، و ذلك بمنتهى الشجاعة و الجرأة، و أخبر المشركين الذين لا عهد و لا مدة لهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله بأن لهم أن يسيحوا في الارض أربعة أشهر ابتداء من يوم قراءة ذلك الاعلان، فاذا انقضت هذه المدة قتلوا اذا وجدوا على الشرك، فعليهم أن يبادروا خلال هذا الأجل المضروب إلى تطهير بيئتهم من كل أنواع الوثنية و إلّا سلبت عنهم الحصانة، و رفع عنهم الأمان.

لقد كان أثر هذه الآيات و هذا الأذان النبويّ هو أنه لم يمض على قراءتهما أربعة اشهر إلّا و أقبل المشركون على اعتناق عقيدة التوحيد أفواجا افواجا،

و هكذا استأصلت جذور الوثنية في شبه الجزيرة العربية في أواسط السنة العاشرة من الهجرة.

(2)

تعصّب بغيض في تحليل هذا الحدث:

لا ريب أن عزل أبي بكر عن مقام إبلاغ آيات البراءة، و تنصيب علي بن أبي طالب مكانه لأداء تلك المهمة بأمر اللّه تعالى يعدّ من ابرز فضائل علي و مناقبه المسلّمة التي لا تقبل الانكار و الشك، و لكن جماعة من الكتّاب المتعصبين وقعوا في الخطأ و الانحراف مع ذلك عند تحليل و دراسة هذه الحادثة.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 546 و راجع للوقوف على المصادر العديدة لهذه القضية الغدير: ج 6 ص 338- 350.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:594

فهذا «الآلوسي البغدادي» يكتب في تفسيره عند دراسة و تحليل هذه الحادثة: النكتة في نصب الامير كرم اللّه تعالى وجهه مبلّغا نقض العهد في ذلك المحفل ان الصّديق رضي اللّه تعالى عنه لما كان مظهرا لصفة الرحمة و الجمال كما يرشد إليه ما تقدم في حديث الاسراء و لما كان علي كرم اللّه وجهه و الذي هو أسد اللّه و مظهر جلاله فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال و صفات القهر «1».

(1) إن هذا التفسير النابع من منبع التعصّب لا ينسجم مع كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنه قال عند الإجابة على أبي بكر: «إنّ هذه الآي لا يؤدّيها إلّا أنا أو رجل منّي» أي لا يصلح لأدائها غير هذين الرجلين و ليس في هذا الكلام أي اشارة إلى الرأفة و الشجاعة.

هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المظهر الكامل للرحمة و الرأفة و بناء على ما قاله الآلوسي يجب أن لا يكلف حتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

بابلاغ هذه الآيات، على حين أن الوحي قال: هذه الآيات لا يؤديها إلّا أنت أو رجل منك».

(2) و لقد برّر جماعة اخرى هذا المطلب بنحو آخر فقالوا: لقد كان التقليد المتّبع عند العرب في نقض العهود مهما كانت هو ان يقدم نفس الموقّع على العهد أو أحد أنسبائه على نبذ العهد و نقضه، اذ في غير هذه الصورة كان المتعارف عندهم أن يبقى العهد على حاله، و حيث إن علي بن أبي طالب كان من اقرباء النبي لهذا كلّف بإبلاغ هذه الآيات التي تضمنت نبذ العهد.

(3) و لكن هذا التفسير و التوجيه غير مقنع، لأنه كان ثمة بين أقرباء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هو أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مثل عمّه العباس، فلما ذا لم يكلّف بابلاغ آيات البراءة، و نبذ العهد الى المشركين.

______________________________

(1) روح المعاني: ج 10 ص 45 تفسير سورة التوبة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:595

ثم لما ذا لم يتبع النبي صلّى اللّه عليه و آله هذه العادة من أول الأمر و هو العارف بتقاليد مجتمعه؟

إذا أردنا أن نقضي في هذه القضية التاريخية بالقضاء المحايد المنصف وجب أن نقول: إن علة هذا العزل، و النصب لم يكن لا دافع الرغبة في المقام، و الطموح الى السلطة، و لا وشيجة القربى مع علي عليه السّلام بل كان الغرض من هذا التغيير هو الكشف عمليا عن أهليّة أمير المؤمنين علي عليه السّلام و صلاحيّته للقيام بالمهامّ المتعلّقة بالحكومة الاسلامية، و ليعلم الناس أنه عديل النبي صلّى اللّه عليه و آله في الجوانب الروحية، و في مجال الأهليّة، و الصلاحية.

(1) و انه اذا ما غابت شمس الرسالة بعد حين وجب أن

تسلّم مقاليد الحكم، و ازمّة التصرّف في المسائل و الامور المتعلّقة بشئون الخلافة الى عليّ عليه السّلام إذ لا يصلح لهذا العمل الخطير سواه، و انه يجب أن لا يقع المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الإشكال و التشتت، و الاختلاف و الحيرة في هذا الأمر، لأنهم قد رأوا بام عينهم كيف نصب «علي» من جانب النبي بأمر اللّه تعالى لنبذ العهود مع المشركين، الذي هو من صلاحيات و اختيارات، الحاكم الاسلامي و شئونه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:596

(1)

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

57 في رثاء الولد العزيز

اشارة

«يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من اللّه شيئا إنّا بك لمحزونون تبكي العين و يحزن القلب و لا نقول ما يسخط الربّ، و لو لا أنّه وعد صادق و موعود جامع فانّ الآخر منّا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجدا شديدا ما وجدناه» «1».

هذه العبارات قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رثاء ولده العزيز «إبراهيم» في اللحظات التي كان يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة في حجر أبيه الرحيم، و بينما كان الوالد العظيم واضعا شفتيه على خدّ ابنه، و يودّعه بروح ملؤها المشاعر و العواطف، من جانب، و راضية بالتقدير الإلهي.

إنّ حبّ الأولاد و الأبناء من أرفع و أظهر تجلّيات الروح الانسانية، كما انه خير دليل على سلامة الروح و لطافتها.

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول دائما: «اكرموا أولادكم» «2» و ذهب إلى أبعد من ذلك إلى درجة أنّه اعتبر مودّة الأبناء و العطف عليهم من مكارم أخلاقه و محاسن سجاياه «3».

(2) ففي السنين و الأعوام الماضية واجه النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله مصيبة

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 311 بحار الأنوار: ج 22

ص 157.

(2) بحار الأنوار: ج 104 ص 95 عن مكارم الاخلاق.

(3) المحجة البيضاء: ج 3 ص 366.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:597

افتقاد ثلاثة من أولاده هم: «القاسم و الطاهر، و الطيب» «1» و ثلاث من بناته و هن: «زينب» و «رقيّة» و «أمّ كلثوم» و لقد حزن لفقدهم حزنا شديدا و كانت «فاطمة» هي البنت الوحيدة التي بقيت له من زوجته الكريمة خديجة.

(1) لقد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة السادسة من الهجرة سفراء إلى البلاد المختلفة خارج الجزيرة العربية و كان من جملة الكتب التي أرسلها إلى الامراء و الملوك هي رسالته إلى حاكم مصر يدعوه فيها إلى الاسلام، و إلى عقيدة التوحيد، و هذا الحاكم و إن لم يلبّ نداء النبيّ في الظاهر، و لم يقبل دعوته إلّا أنه اجاب على كتاب النبي باجابة حسنة مضافا إلى أنه أرسل إليه صلّى اللّه عليه و آله هدايا منها جارية تدعى «مارية».

و لقد نالت هذه الجارية فيما بعد شرف تزوج النبي الكريم بها و ولدت له ابنا سماه «إبراهيم» أحبّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حبّا شديدا.

و لقد خفّفت ولادة إبراهيم الكثير من الاحزان التي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعاني منها بسبب افتقاده لأولاده الستة، و اشعلت في نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله بصيصا من الأمل، و لكن هذا البصيص من الأمل سرعان ما غاب بعد ثمانية عشر شهرا، و انطفأ.

(2) لقد خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بيته ذات يوم لعمل، و عند ما عرف بتدهور خطير في صحة ولده الحبيب الوحيد «إبراهيم» عاد من فوره الى منزله، و اخذ ابنه من

حضن أمه، و فيما كانت تعلو ملامحه علامات الغم و الاضطراب نطق بهذه العبارات.

إن حزن النبي صلّى اللّه عليه و آله و بكاءه في موت ابنه «إبراهيم» دليل حيّ على عاطفته الانسانية التي استمرت حتى بعد وفاة ذلك الولد الحبيب، و إن إظهار تلك العواطف و الإعراب عن الحزن و الأسى كان يكشف عن روح

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 166، و لكن بعض علماء الشيعة قالوا: أولاده الذكور من خديجة اثنان فقط راجع ج 22 ص 151 من بحار الأنوار.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:598

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله العاطفية التي كانت تبرز من دون اختيار فيما دلّ تجنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التكلم بما يسخط اللّه في هذه المصيبة المؤلمة على إيمانه و رضاه بالتقدير الالهيّ الذي لا مفرّ لأحد منه.

(1)

اعتراض غير وجيه:

استغرب عبد الرحمن بن عوف الأنصاري من بكاء النبيّ على ولده «إبراهيم»، فاعترض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أو لم تكن نهيت عن البكاء، و أنت تبكي؟

إن هذا المعترض لم يكن جاهلا بمبادئ الاسلام و قواعده الرفيعة فحسب، بل كان غافلا حتى عن العواطف و المشاعر الانسانية الخاصّة التي أودعتها يد الخالق في ضميره أيضا.

إن جميع الغرائز الانسانية خلقت في الكيان البشري لأهداف خاصة و يجب ان يتجلى كل واحد منها في وقته المناسب و موقعه اللازم، فالشخص الذي لا يحزن لفقد أحبّائه و أعزّائه و لا يغتم لفراقهم، و لا تدمع عيناه لذلك، و بالتالي إذا لم يظهر من نفسه أية ردة فعل عند فراقهم لم يكن سوى قطعة من الصخر، و لا يستحق اسم الانسانية.

(2) و لكن ثمة نقطة مهمة و جديرة بالانتباه، و هي

أنّ هذا الاعتراض و ان كان اعتراضا غير موجّه، إلّا أنه يكشف عن وجود حرية كاملة، و ديمقراطية حقيقية في المجتمع الإسلامي الحديث التأسيس إلى درجة أنّ شخصا عاديّا من الناس تجرّأ على أن ينتقد عمل قائده بمطلق الحريّة و من دون خوف أو وجل، و سمع الجواب.

و من هنا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«لا، إنّما هذا رحمة، و من لا يرحم لا يرحم» «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 151.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:599

او قال:

«لا، و لكن نهيت عن خمش وجوه و شقّ جيوب و رنة شيطان» «1».

و لقد كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «2» بتجهيز «إبراهيم» و غسله و كفنه و تحنيطه، ثم إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله شيّعه مع جماعة من أصحابه، و مضى حتى انتهى به إلى قبره في البقيع.

ثم إن النبي صلّى اللّه عليه و آله رأى في قبر «إبراهيم» خللا فسوّاه بيده ثم قال:

«إذا عمل أحدكم عملا فليتقن» «3».

(1)

مكافحة الخرافات:

عند ما مات إبراهيم بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انكسفت الشمس فتصوّر البعض ممن جهل سنن الطبيعة و قوانين العالم الطبيعيّ أن الشمس انكسفت لموت إبراهيم.

و لا شك أنّ مثل هذا التصور الباطل و ان كان قضية خيالية و وهما سخيفا إلّا أنه كان من شأنه أن ينفع النبي، و يعزّز مكانته في المجتمع الذي طالما آمن بالخرافة و عشقها.

و لو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قائدا عاديا و ماديّا لكان من الجائز أن يؤيّد صحّة هذا التصور ليكتسب من وراء ذلك عظمة و قوة.

و لكن النبي صلّى اللّه

عليه و آله على عكس هذه التوقّع رقى المنبر، و أطلع الناس على حقيقة الأمر و قال:

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 310 و 311.

(2) بحار الأنوار: ج 22 ص 156، و روي في السيرة الحلبية ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّف الفضل بن العباس (ابن عم النبي) بتجهيز إبراهيم.

(3) بحار الأنوار: ج 22 ص 157.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:600

«أيّها الناس إن الشمس و القمر آيتان من آيات اللّه تجريان بأمره مطيعان له فلا ينكسفان لموت أحد و لا لحياته» «1».

(1) إن النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله على عكس ما يفعله النفعيون الوصوليون الذين لا يكتفون بتفسير الحقائق و تجييرها لمصالحهم، و استخدامهم لمآربهم، بل طالما يحاولون استغلال جهل الناس و نزعهم إلى الخرافات لصالحهم.

إنّ رسول الاسلام على عكس هذه الجماعة لم يكتم الحقيقة، و لم يستفد من جهل الناس و غفلتهم لصالح نفسه.

و لو أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يسبغ في ذلك اليوم لباس الصحة على مثل هذه الفكرة الباطلة و هذا التصور الخيالي لم يمكنه أن يطرح نفسه قائدا خالدا للبشرية و رسولا مختارا من جانب خالق الطبيعة، و المؤسس الحقيقي لقوانين العالم الماديّ، في العالم الراهن الذي كشف فيه القناع عن اسرار الطبيعة، و اتضحت فيه قوانين العالم الماديّ و نواميسه، و علل الكسوف و الخسوف و غيرهما من تفاعلات الطبيعة.

(2) إن دعوة النبي الاكرم لم تكن مختصة بجماعة العرب كما أنها لا تخضع لحدود زمانية أو مكانية، فلو أنه كان نبي الاقوام و الاجيال الغابرة، فهو كذلك نبيّ عصر الفضاء، و قائد عصر اكتشاف أسرار الطبيعة و رموزها.

إن احاديث هذا النبي العظيم، و كلماته من

القوة، و المتانة و من الصحة، و الاتصاف بالواقعية بحيث لم يتطرق إليها أي إشكال حتى مع التطورات العلمية الاخيرة التي قلبت كثيرا من معارف البشر القديمة رأسا على عقب.

______________________________

(1) المحاسن: ص 313، السيرة الحلبية: ج 3 ص 310 و 311.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:601

(1)

58 وفد نجران في المدينة

اشارة

تقع «نجران» بقراها السبعين التابعة لها، في نقطة من نقاط الحجاز و اليمن الحدودية، و كانت هذه المنطقة في مطلع ظهور الاسلام المنطقة الوحيدة التي غادر أهلها الوثنية لأسباب معيّنة و اعتنقوا المسيحية «1» من بين مناطق الحجاز.

و قد كتب رسول الاسلام كتابا إلى اسقف نجران «2» «أبو حارثة» يدعو أهلها فيه الى الاسلام يوم كتب كتبا إلى ملوك العالم و رؤسائه.

و إليك مضمون هذا الكتاب:

«بسم إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب من محمّد رسول اللّه إلى أسقف نجران و أهل نجران إن أسلمتم فإنّي أحمد إليكم اللّه إله إبراهيم و اسحاق «3» و يعقوب أمّا بعد فإني أدعوكم الى عبادة اللّه من عبادة العباد، و أدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد، فان أبيتم فالجزية، فان أبيتم فقد آذنتكم بحرب و السلام».

(2) و اضافت بعض المصادر التاريخية الشيعية أن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله كتب في ذلك الكتاب الآية المرتبطة بأهل الكتاب «4» و التي تدعوهم إلى عبادة اللّه الواحد القهار.

______________________________

(1) ذكر الياقوت الحموي في معجم البلدان: ج 5 ص 266- 277 علل اعتناقهم للمسيحية.

(2) الاسقف معرب كلمة يونانية هي ايسكوپ و تعني الرقيب و المناظر و هو اليوم منصب اعلى من منصب القسيس.

(3) بحار الأنوار: ج 21 ص 285.

(4) المراد من تلك الآية هو قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا

نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ «شَيْئاً» (آل عمران: 64. الاقبال: ص 494).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:602

قدم سفير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نجران و سلّم كتابه المبارك الى أسقف نجران، فقرأ ذلك الكتاب بعناية و دقة متناهية، ثم شكّل جماعة للمشاورة و تداول الأمر و اتخاذ القرار مكوّنة من الشخصيات البارزة الدينية و غير الدينية، و كان أحد أعضاء هذه المجموعة «شرحبيل» الذي عرف بعقله و نبله، و تدبيره و حكمته، فقال في معرض الاجابة على استشاره الاسقف اياه: قد علمت ما وعد اللّه ابراهيم في ذرية اسماعيل من النبوّة، فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل، ليس لي في النبوة رأي، لو كان أمر من امور الدنيا أشرت عليك فيه و جهدت لك.

(1) فقرر المتشاورون ان يبعثوا وفدا إلى المدينة للتباحث مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و دراسة دلائل نبوته، فاختير لهذه المهمة ستون شخصا من أعلم أهل نجران و أعقلهم، و كان على رأسهم ثلاثة اشخاص من اساقفتهم هم:

1- «أبو حارثة بن علقمة» اسقف نجران الأعظم و الممثل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز.

2- «عبد المسيح» رئيس وفد نجران المعروف بعقله و دهائه، و تدبيره.

3- «الأيهم» و كان من ذوي السن و من الشخصيات المحترمة عند أهل نجران «1»

قدم هذا الوفد المسيحي المدينة و دخلوا المسجد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم يلبسون أزياءهم الكنسيّة و يرتدون الديباج و الحرير، و يلبسون خواتيم الذهب و يحملون الصلبان في اعناقهم، فأزعج منظرهم هذا و خاصة في المسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فشعروا بانزعاج النبي و لكنّهم لم يعرفوا سبب ذلك، فسألوا «عثمان بن عفان»

و «عبد الرحمن بن عوف» و كانت بينهم صداقة قديمة، فقال الرجلان لعلي بن أبي طالب: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

قال: أرى أن يضعوا حللهم هذه و خواتيمهم ثم يعودون إليه.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 211 و 212.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:603

(1) ففعلوا ذلك ثم دخلوا على النبي صلّى اللّه عليه و آله فسلّموا عليه فرد عليهم السّلام، و احترمهم، و قبل بعض هداياهم التي أهدوها إليه صلّى اللّه عليه و آله، ثم إن الوفد- قبل ان يبدءوا مفاوضاتهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله قالوا: إن وقت صلاتهم قدحان و استأدنوه في أدائها، فاراد الناس منعهم و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذن لهم و قال للمسلمين: دعوهم فاستقبلوا المشرق، فصلّوا صلاتهم «1».

و بذلك اعطى النبي صلّى اللّه عليه و آله درسا في التسامح الديني يدفع افتئات اعداء الاسلام على هذا الدين.

(2)

مفاوضات وفد نجران مع النبي:

لقد نقل طائفة من كتّاب السيرة، و المحدثين الاسلاميين نصّ الحوار الذي دار بين وفد نجران المسيحي و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لكن المرحوم السيد ابن طاوس نقل نص هذا الحوار و قضية المباهلة بنحو أدقّ و اكثر تفصيلا ممّا ذكره الآخرون من المحدثين و المؤرخين.

فقد ذكر جميع خصوصيات المباهلة من البداية الى النهاية نقلا عن كتاب المباهلة لمحمد بن المطلب الشيباني «2». و كتاب عمل ذي الحجة للحسن بن اسماعيل «3»، غير أن نقل جميع تفاصيل هذه الواقعة التاريخية الكبرى التي قصّر حتى في الاشارة إليها اشارة عابرة بعض أصحاب السير أمر خارج عن نطاق هذا الكتاب، و لهذا فاننا نكتفى بنقل جانب من هذا الحوار الذي نقله رواه الحلبي في

______________________________

(1)

السيرة الحلبية: ج 3 ص 212.

(2) هو محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عبيد اللّه بن البهلول بن همام بن المطلب المولود عام 297 ه و المتوفى عام 387 ه.

(3) من اراد الوقوف على خصوصيات هذه الواقعة التاريخية فليراجع كتاب الاقبال للمرحوم السيد ابن طاوس ص 496- 513.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:604

سيرته «1». سيد المرسلين ج 2 604 مفاوضات وفد نجران مع النبي: ..... ص : 603

1) عرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على وفد نجران و تلا عليهم القرآن، فامتنعوا و قالوا: قد كنّا مسلمين قبلك.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كذبتم، يمنعكم من الإسلام ثلاث:

عبادتكم الصليب، و أكلكم لحم الخنزير، و زعمكم أنّ للّه ولدا.

فقالوا: المسيح هو اللّه لأنه أحيا الموتى، و أخبر عن الغيوب، و أبرأ من الأدواء كلها، و خلق من الطين طيرا.

فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله هو عبد اللّه و كلمته ألقاها الى مريم.

فقال أحدهم: المسيح ابن اللّه لأنّه لا أب له.

فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنهم فنزل الوحي بقوله تعالى:

إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب» «2».

(2) فقال وفد نجران: إنا لا نزداد منك في أمر صاحبنا إلّا تباينا، و هذا الأمر الذي لا نقرّه لك، فهلمّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحق فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين «3».

فانزل اللّه عزّ و جلّ آية المباهلة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» «4».

فدعاهم إلى المباهلة، فقبلوا، و اتفق الطرفان على ان

يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 239.

(2) آل عمران: 59.

(3) بحار الأنوار: ج 21 ص 320، و لكن آية المباهلة، و كما يستفاد من السيرة الحلبية تفيد ان النبي هو الذي اقترح المباهلة ابتداء كما تفيد عبارة «تعالوا ندع ابناءنا ...».

(4) آل عمران: 61.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:605

(1)

خروج النبي للمباهلة:

تعتبر قصة مباهلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع وفد نجران من حوادث التاريخ الإسلاميّ المثيرة و الجميلة، و هي و إن قصّر بعض المفسّرين و المؤرخين في رواية تفاصيلها، و تحليلها، إلّا أنّ ثلة كبيرة، من العلماء كالزمخشري في الكشاف «1» و الإمام الفخر الرازي في تفسيره «2» و ابن الاثير في الكامل «3» أعطوا حق الكلام في هذا المجال و ها نحن ننقل هنا نصّ ما كتبه الزمخشري في هذا المجال:

حان وقت المباهلة ... و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و وفد نجران قد اتفقا على أن يجريا المباهلة خارج المدينة، في الصحراء ... فاختار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المسلمين و من عشيرته و أهله أربعة أشخاص فقط و قد اشترك هؤلاء في هذه المباهلة دون غيرهم، و هؤلاء الاربعة لم يكونوا سوى على بن أبي طالب عليه السّلام و فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الحسن و الحسين لأنه لم يكن بين المسلمين من هو أطهر من هؤلاء نفوسا، و لا أقوى و أعمق إيمانا.

(2) طوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسافة بين منزله، و بين المنطقة التي تقرر التباهل فيها في هيئة خاصة مثيرة، فقد غدا محتضنا الحسين «4» آخذا بيد الحسن و فاطمة تمشي خلفه

و علي خلفها، و هو يقول: إذا دعوت فأمّنوا.

كان زعماء وفد نجران و رؤساؤهم قد قال بعضهم لبعض- قبل أن يغدو

______________________________

(1) ج 1 ص 382 و 383.

(2) مفاتيح الغيب: ج 2 ص 471 و 472.

(3) ج 2 ص 112.

(4) جاء في بعض الروايات أن النبي غدا آخذا بيد الحسن و الحسين تتبعه فاطمة و بين يديه عليّ (بحار الأنوار: ج 21 ص 338).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:606

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المباهلة: انظروا محمّدا في غد، فإن غدا بولده و أهله فاحذروا مباهلته، و إن غدا بأصحابه فباهلوه فانه ليس على شي ء. و هم يقصدون أن النبي إذا جاء إلى ساحة المباهلة محفوفا بابهة مادية، و قوة ظاهرية، تحف به قادة جيشه و جنوده فذلك دليل على عدم صدقه، و إذا أتى بولده و أبنائه بعيدا عن أيّة مظاهر مادية و توجه إلى اللّه بهم و تضرع الى جنابه كما يفعل الأنبياء دلّ ذلك على صدقه لأنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله و استيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته، و أفلاذ كبده، و أحبّ الناس إليه لذلك، و لم يقتصر على تعريض نفسه له، و على ثقته بكذب خصمه.

(1) و فيما كان رجال الوفد يتحادثون في هذه الامور اذ طلع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الاغصان الاربعة من شجرته المباركة بوجوه روحانية نيّرة فاخذ ينظر بعضهم إلى بعض بتعجب و دهشة، كيف خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بابنته الوحيدة، و أفلاذ كبده و كبدها المعصومين للمباهلة، فادركوا أن النبي صلّى اللّه عليه و آله واثق من نفسه و دعوته وثوقا عميقا، اذ ان المتردد غير

الواثق بدعوته لا يخاطر بأحبائه و اعزته و يعرضهم للبلاء السماوي.

و لهذا قال اسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لازاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة «1».

______________________________

(1) يروى العالم الشيعي الكبير السيد ابن طاوس في كتاب «الاقبال»: أقبل الناس من أهل المدينة من المهاجرين و الأنصار، و غيرهم من الناس في قبائلهم و شعاراتهم من راياتهم و احسن شاراتهم و هيئتهم ... و لبث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حجرته حتى متع النهار ثم خرج آخذا بيد على و الحسن و الحسين أمامه، و فاطمة عليها السّلام من خلفهم فاقبل بهم حتى أتى الشجرتين فوقف بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة التي خرج بها من حجرته، ثم أرسل الى وفد نجران ليباهلهم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:607

(1)

انصراف وفد نجران عن المباهلة:

لما رأى وفد نجران هذا الأمر (و هو خروج النبي باحبّته و اعزته) و سمعوا ما قاله اسقف نجران تشاوروا فيما بينهم ثم اتفقوا على عدم مباهلة النبي صلّى اللّه عليه و آله، معلنين عن استعدادهم لدفع الجزية للنبي كل سنة، لتقوم الحكومة الاسلامية في المقابل بالدفاع عن أنفسهم و أموالهم، فقبل النبي صلّى اللّه عليه و آله بذلك، و تقرّر أن يتمتع نصارى نجران بسلسلة من الحقوق في ظل الحكومة الإسلامية لقاء مبالغ ضئيلة يدفعونها سنويا، ثم قال النبي صلّى اللّه عليه و آله:

«أما و الّذي نفسي بيده لقد تدلّى العذاب على أهل نجران، و لو لاعنوني لمسخوا قردة و خنازير و لأضرم الوادي عليهم نارا و لاستأصل اللّه تعالى نجران و أهله».

عن عائشة: إن رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله خرج (أي يوم المباهلة) و عليه مرط «1» مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن فادخله ثم جاء الحسين فادخله، ثم فاطمة، ثم عليّ، ثم قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «2».

ثم يقول الزمخشري في نهاية هذا الكلام: و فيه دليل لا شي ء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (عليهم السّلام)، و فيه برهان على صحة نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله، لأنه لم يرو أحد من موافق و لا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

(2)

صورة العهد النبويّ لأهل نجران:

سأل وفد نجران النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يكتب مقدار الجزية التي اتفق على دفعها من قبل أهالى نجران الى النبي صلّى اللّه عليه و آله في كتاب، و أن

______________________________

(1) كساء.

(2) الاحزاب: 33.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:608

يضمن النبي صلّى اللّه عليه و آله أمن نجران في ذلك الكتاب، فكتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بأمر النبي كتابا هذا نصه:

(1) «بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما كتب النبي محمّد رسول اللّه لنجران و حاشيتها، إذ كان له عليهم حكمة في كل ثمرة و صفراء و بيضاء و سوداء و رقيق فأفضل عليهم و ترك ذلك لهم: ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة، و في كل صفر ألف حلة، كل حلة أوقية، و ما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، و ما نقصوا من درع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب، و عليهم في كل حرب كانت باليمن ثلاثون درعا، و ثلاثون فرسا، و ثلاثون بعيرا عارية مضمونة لهم بذلك، و على أهل نجران مثواة رسلي (و استضافتهم) شهرا فدونه، و لهم

بذلك جوار اللّه و ذمة محمّد النبي رسول اللّه على أنفسهم و ملتهم و ارضهم و اموالهم و بيعهم و رهبانيتهم على أن لا يعشّروا و لا يأكلوا الربا و لا يتعاملوا به فمن أكل الربا منهم بعد ذلك فذمّتي منه بريئة» «1».

(2)

اكبر فضيلة:

تعتبر واقعة المباهلة و ما نزل فيها من القرآن أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة على مر التاريخ. لأن ألفاظ الآية النازلة في المباهلة و مفرداتها تكشف عن مكانة و مقام من باهل بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الذين يتخذهم الشيعة قادة لهم.

فهذه الآية اعتبرت الحسن و الحسين ابناء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فاطمة الزهراء المرأة الوحيدة التي ترتبط برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يصدق عليها عنوان «نسائنا». و قد عبّر عن عليّ عليه السّلام بانفسنا فكان علي عليه السّلام تلك الشخصية العظيمة بحكم هذه الآية بمنزلة نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ترى أية فضيلة أعظم و أسمى من أن ترتفع مكانة المرء من

______________________________

(1) فتوح البلدان: ص 76، امتاع الاسماع: ص 502 و اعلام الورى: ص 78 و 79.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:609

الناحية المعنوية ارتفاعا و تسمو سموا عظيما حتى أنه يوصف صاحبها بانه بمنزلة نفس النبي «1».

أ ليست هذه الآية شاهد صدق على أفضلية أمير المؤمنين علي عليه السّلام على جميع المسلمين.

لقد ذكر الفخر الرازي الذي عرف الجميع اسلوبه في الابحاث الكلاميّة و مواقفه من القضايا المرتبطة بالإمامة، ذكر استدلال الشيعة بهذه الآية ثم أورد على هذا الاستدلال اعتراضا قليل الأهمية ممّا لا يخفى جوابه على أرباب العلم و أهل المعرفة.

هذا و يستفاد من الأحاديث الواردة عن ائمة أهل البيت

أنّ المباهلة لا تختص بالنبي الاكرم بل يجوز أن يتباهل كل مسلم في القضايا الدينية مع من يخالفه و يجادله فيها، و قد جاءت طريقة المباهلة و الدعاء المخصوص بها في كتب الحديث، و للوقوف على هذا الامر يراجع كتاب «نور الثقلين» «2».

______________________________

(1) و قد استند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى هذه الآية في قوله: «علي مني كنفسي».

(2) نور الثقلين: ج 1 ص 291 و 292، و راجع أيضا الكافي ج 2 كتاب الدعاء باب المباهلة، و قد اشار العلامة الطباطبائي في احدى رسائله إلى هذه الموضوع أيضا، و يعتبره من معاجز الاسلام الخالدة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:610

(1)

59 تأريخ المباهلة عاما و شهرا و يوما

اشارة

إن حادثة المباهلة من قضايا التاريخ الاسلامي المعروفة المتواترة التي جاء ذكرها في كتب التفسير، و التاريخ و الحديث بصورة مبسوطة و مفصّلة لمناسبة و اخرى، و تتلخص هذه القصة فيما يلي:

لقد كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- يوم راسل ملوك العالم و امراءه يدعوهم الى الاسلام- كتب كتابا الى اسقف نجران «ابو حارثة» دعا فيه أهل نجران إلى الاسلام و لما تسلّم أبو حارثة كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شاور جماعة من اصحابه، فاشاروا عليه بأن يبعثوا وفدا يمثلون أهل نجران إلى المدينة، ليتفاوضوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن كثب.

و فعلا قدم الوفد المذكور المدينة، و التقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بعد مداولات و مفاوضات كثيرة اقترح النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله على ذلك الوفد المباهلة بأمر اللّه سبحانه، بأن يخرج الجميع (الطرفان) إلى الصحراء، و يدعو كل واحد من الجانبين على الآخر فرضوا باقتراح رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله، و لكنّهم أحجموا عن المباهلة لما شاهدوا ما عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حالة معنوية، و روحانية عظيمة، حيث أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اصطحب معه إلى المباهلة أربعة انفار من أفضل أحبته و أعزته، و تقرّر أن ينضوي نصارى نجران تحت مظلة الحكومة الاسلامية و هم على دينهم شريطة أن يدفعوا جزية (و هي مبلغ ضئيل).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:611

هذه هي خلاصة قضية المباهلة التي لا يستطيع انكارها و إخفاءها أي مفسّر أو مؤرخ على النحو الذي ذكر، و الآن يجب أن نرى متى و في أي يوم و شهر و عام وقعت هذه الحادثة الاسلامية الكبرى.

(1)

عام المباهلة حسب المشهور:

يقول مؤلف كتاب مكاتيب الرسول في هذا الصدد: لا خلاف عند المؤرخين ان كتاب الصلح كتب سنة عشرة من الهجرة، فيكون سنة المباهلة نفس هذه السنة أيضا، لان كتاب الصلح هذا انما كتب عند ما أحجم الوفد النجراني النصراني من مباهلة النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و قد ادرج نص كتاب الصلح هذا في مصادر عديدة نذكر بعضها في الهامش «1».

(2)

الشهر و اليوم الذي وقعت فيه المباهلة:

إن المشهور بين العلماء هو أن المباهلة وقعت في اليوم الخامس و العشرين من شهر ذي الحجة، و ذهب المرحوم الشيخ الطوسي إلى أنها وقعت في اليوم الرابع و العشرين من ذلك الشهر، و روى في كتابه دعاء خاصا في هذه المناسبة «2».

و اما المرحوم السيّد ابن طاوس فقد نقل حول يوم المباهلة أقوالا ثلاثة، و ذكر بأن أصح تلك الأقوال و الروايات هو القائل بان يوم المباهلة هو الرابع و العشرون من شهر ذي الحجة، و قد ذهب البعض إلى أنه اليوم الواحد و العشرون بينما ذهب آخرون إلى أنه اليوم السابع و العشرون «3».

______________________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 65، الدر المنثور: ج 2 ص 38.

(2) مصباح المتهجد: ص 704.

(3) الإقبال: ص 743.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:612

(1) ثم انه رحمه اللّه روى في آخر كتابه «1» قصة المباهلة بصورة مفصّلة لم ترد في أي كتاب أو مؤلّف آخر، و نوّه بأن محتويات هذا الباب اقتبست من الكتابين التاليين:

1- كتاب المباهلة تأليف أبي المفضل محمّد بن عبد المطلب الشيباني «2».

2- كتاب عمل ذي الحجة تصنيف الحسن بن اسماعيل بن أشناس «3».

إلى هنا اتضح أن يوم المباهلة على المشهور هو اليوم الرابع و العشرون أو الواحد العشرون أو الخامس و العشرون أو السابع و العشرون من

شهر ذي الحجة.

و أمّا رأينا حول التاريخ الدقيق لهذه الواقعة من حيث العام و السنة.

إن خلاصة القول هي أنّ هذه الأقوال و الآراء حول عام و يوم المباهلة لا توافق النقول التاريخية الاخرى التي يتسم بعضها بطابع القطعية إلى حدّ بعيد، و إليك ادلتنا على ذلك فيما يلي:

(2)

رأينا حول عام المباهلة:

(3) 1- لقد جاء في ختام الكتاب الذي بعثه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الى اسقف نجران عبارة: «و إن أبيتم فالجزية»، و قد جاءت لفظة الجزية في القرآن الكريم

______________________________

(1) الاقبال: ص 743.

(2) لم ينقل المرحوم السيد نسبه بصورة صحيحة، فقد ذكر النجاشي نسبه على النحو التالي: محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عبد اللّه بن بهلول بن الهمام بن المطلب و على هذا الاساس يكون جده المطلب و ليس عبد المطلب كما انه يكون المطلب جده الخامس. و ينبغي الاشارة هنا إلى أن لمحمّد بن عبد اللّه- حسب ما يرى النجاشي- فترتين من الحياة، كان في إحداهما موثوقا به، و في الاخرى غير موثوق به و هذا يقول: اجتنب الرواية عنه الّا عند ما يروى الثقات عنه ايام استقامته و صلاحه (راجع فهرست النجاشي ص 281- 282).

(3) جاء ذكره في اسناد الصحيفة السجادية و هو من مشايخ الطائفة الامامية و قد توفي عام 460 ه و قد نقل احاديث المباهلة (راجع الذّريعة ج 15 ص 344).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:613

في سورة التوبة و الظاهر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استخدم هذه الجملة و اللفظة في الكتاب المذكور اتباعا للآية المذكورة، و قد نزلت سورة التوبة قبيل غزوة تبوك بقليل، و قد وقعت هذه الغزوة بعد شهر رجب من السنة التاسعة.

و بناء على هذا

يبعد أن يكون رسول اللّه قد كتب لأهل نجران كتابا، بعثوا بجوابه إليه صلّى اللّه عليه و آله بعد عام و نصف العام على يد وفدهم.

إن هذه الواقعة التاريخية تحكي عن أن هذه الحادثة قد وقعت في السنة العاشرة من الهجرة.

(1) 2- اتفق كتّاب السيرة على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث عليّا عليه السّلام إلى اليمن للقضاء و تعليم الاحكام الدينية، و قد مكث علي عليه السّلام هناك ردحا من الزمان لأداء مهامّه المخوّلة إليه، و عند ما علم بتوجه النبي صلّى اللّه عليه و آله الى مكة للحج، خرج هو أيضا إلى مكة على رأس جماعة من أهل اليمن، فلقي النبيّ بمكة، و قدّم إليه الف حلة من البز كان قد أخذها من أهل نجران من باب الجزية التي فرضت و كتبت عليهم في معاهدة الصلح «1».

إن هذه القضية التاريخية تفيد ان واقعة المباهلة و كتابة العهد لا ترتبط بالسنة العاشرة من الهجرة، و ذلك لأن أهل نجران تعهدوا في وثيقة الصلح أن يدفعوا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كل سنة ألفي حلة (مخيّطة و غير مخيّطة)، الف حلة منها في شهر رجب، و الف حلة اخرى في شهر صفر «2».

(2) فاذا سلّمنا بأن وثيقة الصلح كتبت في شهر ذي الحجة وجب أن نقول ان المقصود منه هو شهر ذي الحجة من الاعوام السابقة على السنة العاشرة.

لأنه كيف يمكن أن نقول بأن كتابة وثيقة الصلح، و تنفيذها بواسطة الامام

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 602 و 603، الارشاد: ص 89.

(2) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 348، و الارشاد: ص 92.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:614

علي عليه السّلام قد تمّا

معا في السنة العاشرة.

و إذا ارتضينا القول المشهور حول اليوم و العام الذي كتبت فيهما وثيقة الصلح، امكن في هذه الصورة أن يكون عقد الصلح قد تمّ في السنة العاشرة، و لكن يجب أن نرجع تاريخ كتابته إلى ما قبل شهر رجب لأن الفرض هو أن الامام عليا عليه السّلام قد استلم أول قسط من الجزية المقررة في شهر رجب في السنة العاشرة.

(1) و الخلاصة أنه مع ملاحظة هذه القضية التاريخية (و هي أن الامام عليا استلم القسط الاول من الجزية من أهل نجران في شهر رجب و سلمه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مكة في شهر ذي الحجّة) وجب أن نختار احد القولين التاليين:

الف: إذا سلّمنا بان يوم و شهر تنظيم وثيقة الصلح هو شهر ذي الحجة وجب ان نقول إن المقصود منه هو أشهر ما قبل السنة العاشرة.

باء: إذا ترددنا في يوم و شهر كتابة الصلح على نحو التردد في تحديد عامه، أمكن في هذه الصورة ان نقول بان يوم المباهلة و كذا يوم تنظيم وثيقة الصلح يرتبطان باشهر ما قبل شهر رجب من السنة العاشرة للهجرة.

(2)

زمن المباهلة يوما و شهرا:

إلى هنا اتضح انه من غير الممكن ان يكون عام المباهلة هو السنة العاشرة من الهجرة حتما، إلّا في صورة واحدة و هي أن نغيّر رأينا في اليوم و الشهر اللذين تمت فيهما كتابة وثيقة الصلح.

و قد حان الحين الآن لأن نحدّد تاريخ المباهلة من حيث اليوم و الشهر في ضوء الاحداث و الوقائع التاريخية، فنقول: إن الشهر و اليوم اللّذين وقعت فيهما قضية المباهلة هما- حسب ما هو مشهور بين العلماء كما أسلفنا- شهر ذي الحجة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:615

و اليوم الرابع و

العشرون أو الخامس و العشرون، و على قول: الحادي و العشرون، أو السابع و العشرون من ذلك الشهر.

(1) و الآن يجب أن نرى هل تنطبق هذه الاقوال على غيرها من الحوادث التاريخية القطعية أم لا؟

إن الدراسة التالية تثبت لنا أن قضية المباهلة من غير الممكن أن تكون قد وقعت في شهر ذي الحجة من السنة العاشرة مطلقا، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد توجّه الى مكة المكرمة لتعليم مناسك الحج في السنة العاشرة من الهجرة، و في اليوم الثامن عشر من هذا الشهر (و هو يوم الغدير) نصب في منطقة غدير خم التي تبعد عن الجحفة «1» بميلين «2»، عليا خليفة على المسلمين من بعده.

و لم تكن حادثة الغدير بالحادثة التي تنتهي ذيولها في يوم واحد ليتابع النبي سفره الى المدينة فورا لأن النبي- بشهادة التاريخ- أمر بعد نصب علي عليه السّلام للخلافة أن يجلس علي في خيمة، و ان يدخل عليه المسلمون الحاضرون ثلاثة ثلاثة، و يهنئونه بالخلافة و الإمرة و قد استمر هذا العمل حتى الليلة التاسعة عشرة من شهر ذي الحجة، و قد هنّأت «امهات المؤمنين» عليا عليه السّلام في نهاية

______________________________

(1) «الجحفة» على وزن طعمة تقع على بعد ثلاثة منازل من مكة و سبعة منازل من المدينة و تبعد عن البحر الاحمر بستة اميال تقريبا و تقرب من رابغ التي تقع الآن على الطريق بين مكة و المدينة راجع كتاب التحرير للنووى و التهذيب له أيضا، هذا و يقول الياقوت الحموي في مراصد الاطلاع ص 109: ان الجحفة تقع على بعد أربعة أميال من مكة و هي ميقات أهل مصر و الشام، و تبعد عن البحر بستة أميال، و

عن غدير خم بميلين. و هي الآن تبعد عن مكة- حسب المقاييس الحديثة- بمائتين و عشرين كيلومترا و يقول المسعودي في كتابه «التنبيه و الاشراف» ص 221- 222 أيضا:

أن غدير خم يقرب من الماء المعروف بالخرار بناحية الجحفة، و ولد علي رضي اللّه عنه و شيعته يعظمون هذا اليوم.

(2) الميل عبارة عن ثلاثة آلاف ذراع، و الفرسخ عبارة عن تسعة آلاف ذراع و قيل: ان الميل عبارة عن أربعة آلاف ذراع، و الفرسخ عبارة عن اثنى عشر الف ذراع، و على أيّة حال فان الميل ثلث الفرسخ، و ثلاثة اميال تعادل فرسخا كاملا (راجع القاموس مادة: ميل).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:616

مراسيم التهنئة «1».

(1) من هنا لا يمكن القول بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غادر ارض غدير خم في اليوم التاسع عشر، خاصة ان تلك المنطقة كانت المحل الذي تتشعب فيه طرق المدنيين و المصريين و العراقيين، و بناء على هذا لا بدّ أن الجماعات المختلفة الاوطان التي كانت تريد التوجه إلى أوطانها قد ودّعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لا شك أن عملية التوديع هذه قد أوجبت مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أرض الغدير مدة أطول.

و حتى لو فرضنا- افتراضا- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله توجه نحو المدينة في اليوم التاسع عشر، فهل يمكن ان نقول- في ضوء المحاسبات التي نملكها من التاريخ حول مقدار طيّ هذه المسافة- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قدم المدينة في اليوم الرابع و العشرين أو الخامس و العشرين، و اخذ بمقدمات قضية المباهلة ثم كتب وثيقة الصلح بينه و بين أهل نجران؟، كلا حتما، لأن

المسافة بين مكة و الجحفة كما ذكرنا في الهامش المتقدم هي ثلث المسافة بين مكة و المدينة.

(2) و يجب أن نرى الآن كم كان يستغرق من الزمن مجموع سفر القوافل- آنذاك- من مكة المكرمة الى المدينة المنورة؟

لا توجد هنا أيّة وثيقة توضح ذلك إلّا حديث سفر النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله نفسه الذي وضعه التاريخ تحت تصرفنا فان التاريخ يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطع هذه المسافة عند هجرته من مكة الى المدينة في مدة تسعة أيام «2».

______________________________

(1) جاء تفصيل مراسم التهنئة في موسوعة الغدير: الجزء 1 ص 245- 257.

(2) غادر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة مهاجرا الى المدينة في الليلة الرابعة من شهر ربيع، و وصل إلى محلة «قبا» حوالي الظهر في اليوم الثاني عشر من نفس ذلك الشهر، و تدلّ القرائن على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطع هذه المسافة بسرعة بسبب ملاحقة قريش له (السيرة النبوية: ج 2 ص 399، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 135).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:617

كما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطع هذه المسافة في مدة أحد عشر يوما «1».

(1) و سبب التفاوت بين هاتين الرحلتين هو أن النبي صلّى اللّه عليه و آله قطع المسافة المذكورة في الرحلة الاولى برفقة شخصين، بينما قطع تلك المسافة في الرحلة الثانية بصحبة جيش قوامه عشرة آلاف رجل، و من الطبيعي أن تتم الحركة في الصورة الثانية بصورة اكثر بطؤا.

و لنفترض أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غادر أرض «غدير خم» في اليوم التاسع عشر، فاننا إذا اتخذنا تسعة ايام مقياسا لتقييمنا وجب أن نقول أن

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا بدّ أنه قطع المسافة بين الجحفة و المدينة في ستة أيام لأن المسافة بينهما هي ثلثا مجموع المسافة بين مكة و المدينة، و بالتالى دخل المدينة في اليوم الرابع و العشرين.

و اذا اعتبرنا الثاني (أي احد عشر يوما) انه هو المقياس وجب أن يقطع تلك المسافة (أي بين الجحفة و المدينة) في سبعة ايام و نصف اليوم، فيكون- حسب القاعدة- قد قدم المدينة في اليوم السادس و العشرين حوالى الظهر منه.

فهل يمكن القول- في ضوء هذه المحاسبة- بأن قضية المباهلة وقعت في اليوم الرابع و العشرين أو الخامس و العشرين او السابع و العشرين.

(2) إن بطلان هذا القول، و خلوّه عن الصحة يتضح اكثر اذا عرفنا بأن وفد نجران قبلوا بالتباهل بعد سلسلة من المفاوضات و المداولات، و قد انصرفوا عن التباهل في المآل و وقّعوا على وثيقة صلح بينهم و بين النبي صلّى اللّه عليه و آله، تحت شروط خاصة.

فإن أعضاء الوفد المذكور دخلوا المدينة و هم يرتدون ثيابا راقية من الديباج و الحرير، و في أيديهم خواتيم من ذهب، و على صدورهم صلبان من ذهب، و توجه

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 19.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:618

فور قدومهم- و على هذه الهيئة- إلى مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله و لكن النبي واجههم بالكره بسبب الهيئة التي دخلوا بها عليه.

(1) فانتهى هذا اللقاء من دون عمل شي ء و تفرق أعضاء الوفد، و هم في حيرة من موقف النبي صلّى اللّه عليه و آله فالتقى الوفد عليا عليه السّلام و سألوه عن سبب استياء النبي و اعراضه عنهم، فأخبرهم الامام علي عليه السّلام بأن عليهم أن ينزعوا

تلك الثياب و الحليّ عنهم، و يدخلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بثياب عادية حتى يرتاح إليهم النبيّ و يستقبلهم بوجه منبسط.

فعاد أعضاء الوفد و دخلوا على النبي صلّى اللّه عليه و آله ثانية و لكن بثياب عادية خالية عن الزينة و الحليّ، فاستقبلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ببشاشة خاصة، و رحّب بهم ترحيبا كبيرا، ثم سألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يؤدوا صلاتهم في المسجد، فاذن لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك، ثم دخلوا مع النبي صلّى اللّه عليه و آله في مناظرات و مناقشات مفصّلة، و بعد مناظرات مفصلة ذكرها اكثر المفسرين و المؤرخين و منهم ابن هشام في سيرته «1» اتفقوا على أن يحسموا الأمر بالمباهلة، و حدّد يوم المباهلة.

و لما كان ذلك خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك اليوم مع ابنته الزهراء و صهره عليّ بن أبي طالب، و سبطيه الحسن و الحسين، إلى الصحراء للمباهلة مع وفد نجران.

(2) و لكن وفد نجران بعد أن رأوا النبي و من معه و ما هم عليهم من البساطة و الجلال انصرفوا عن الدخول في المباهلة و رضخوا طائعين لدفع جزية سنوية الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فهل هذه الوقائع التي استغرقت- كما يقول بعض المؤرخين- اربعة مجالس يمكن أن تكون قد تمّت في يوم واحد؟

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 575، مجمع البيان: ج 1 ص 410.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:619

(1) إن المحاسبات تقضي و تفيد بأن مراسيم المباهلة، و كتابة وثيقة الصلح من غير الممكن أن تكون قد وقعت في اليوم الواحد و العشرين أو الرابع و

العشرين، أو الخامس و العشرين أو السابع و العشرين من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة.

هذا مضافا إلى أن «نجران» مدينة حدودية بين الحجاز و اليمن، و لا بد أن تردّد القبائل كان من شأنه ان ينقل الى مسامع النجرانيين أنباء وجود رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مكة لاداء مناسك الحج، و لهذا فان من المستبعد ان يكون وفد نصارى نجران قد اقدم على التوجه إلى المدينة للحضور عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل التأكّد الكامل من عودته إلى المدينة و الاستقرار الكامل فيها.

(2)

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟

هنا يمكن أن يقال بأن قضية المباهلة وقعت في شهر ذي الحجة من السنة التاسعة، و قد ذهب إلى هذا الرأي بعض المؤرخين أيضا «1».

و لكن المحاسبات التاريخية تثبت أيضا بطلان هذا الرأى، و ذلك لأن الامام عليا الذي كان من الشاهدين لقضية المباهلة، كما أنه هو الذي كتب وثيقة الصلح بيده الشريفة كان قد كلّف في التاسع من شهر ذي الحجة من هذه السنة (التاسعة) من قبل النبي صلّى اللّه عليه و آله بمهمة إبلاغ آيات البراءة- على

______________________________

(1) جاء ذكر هذا عند تفسير سورة التوبة. نقل صاحب الغدير: في ج 6 ص 318- 321 هذا الرأى من اثنين و سبعين شخصا من علماء السنة، و كأن قضية المباهلة بين النبي و وفد نجران وقعت في آخر هذه الستة (التاسعة)، لأنه ورد أن هذا الأمر قدتم في شهر ذي الحجة بعد فتح مكة، و لا بد ان المراد بذي الحجة ليس هو ذو الحجة من عام حجة الوداع و هي السنة العاشرة التي وقعت فيها قضية الغدير فاذن هو ذو الحجة من السنة السابقة

على عام الغدير و استغرقت اربعة مجالس (بتلخيص).

سيد المرسلين ،ج 2،ص:620

المشركين في يوم الحج الاكبر بمنى، و في الحقيقة كانت السنة الثانية التي كانت قد انيطت امارة الحج و ادارة امر الحجيج إلى المسلمين، و كان قد اختير أمير المؤمنين أميرا على الحج فيها.

(1) و نحن نعلم أن مناسك الحج تنتهى في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة، و لا شك أن شخصية بارزة و مسئولة كالامام علي عليه السّلام الذي كان يرأس الحج في ذلك العام من غير الممكن أن يكون قد غادر مكة في اليوم الثالث عشر و يتوجه الى المدينة و هو الذي كانت له أقرباء و انسباء كثيرون في مكة، هذا مضافا إلى أن حركة الحجيج لم تكن في تلك العصور حركة انفرادية حتى يستطيع كل واحد منهم أن يقطع الفيافي القفراء و الصحاري القاحلة الموحشة بمفرده فكان على من يريدون الحج ان يتوجّهوا بصورة جماعية الى مكة أو يغادروها إلى بلادهم.

و لهذا فان عليّا عليه السّلام مهما اسرع و جدّ في السير قافلا الى المدينة، و قطع المسافة بين مكة و المدينة بسرعة فائقة فانه من غير الممكن أن يكون قدم المدينة قبل اليوم الرابع و العشرين، و لهذا كيف يمكن أن يقوم بارشاد وفد نجران و دلالتهم على ما يجب ان يفعلوه حتى يستقبلهم النبي ببشاشة و يرحّب بهم، و يشهد المباهلة مع المتباهلين.

(2) إن الشواهد و الادلة التاريخية تشهد بان النظرية المشهورة حول زمن المباهلة (يوما و شهرا و عاما) لا تحظى بالاعتبار الكافي، و لا بدّ- لمعرفة زمن هذه الحادثة التي هي من مسلّمات القرآن و التفسير و الحديث- من مزيد التحقيق، و مزيد الدراسة، و التقصّى.

و

هنا يبقى سؤال لا بدّ من الإجابة عليه و هو: كيف اختار المشهورون من العلماء مثل هذه النظرية حول يوم المباهلة و شهرها و عامها.

(3) و الجواب هو: أن المرحوم الشيخ الطوسي اختار هذا القول استنادا الى رواية مسندة نقلها في كتابه و لكن في سند الحديث المذكور رجالا غير ثقات في نظر

سيد المرسلين ،ج 2،ص:621

علماء الرجال، نظراء:

1- محمّد بن أحمد بن مخزوم استاذ التلّعكبريّ في الحديث فهو ممن لم يوثّق «1».

2- الحسن بن على العدويّ و قد ضعّفه العلامة «2».

3- محمّد بن صدقة العنبرى و قد وصفه الشيخ الطوسى بالغلوّ «3».

و قد ذكر المرحوم السيد ابن طاوس في كتاب «الاقبال» امورا تتعلق بالمباهلة نقلا عن كتاب أبي المفضل و قد ذكرنا في الهامش (ص 2073) أن ابا المفضل له فترتان في حياته، فهو موثق في حال و غير موثق في حال آخر، و لا يدرى في أي حال من الحالين كتب أبو المفضل قضايا المباهلة، و اخذها عنه العلماء.

كما ان السيّد استند في كتابه المذكور (ص 743) على حديث مرفوع (و هو ما فيه نقص في رجال سنده)، و ذكر في ضوئه ان يوم المباهلة هو اليوم الرابع و العشرون على حين لا تقوم مثل هذه الرواية باثبات المدعى.

______________________________

(1) و ان حاول المامقاني في تنقيح المقال توثيقه لكونه استاذ حديث.

(2) تنقيح المقال: ج 1 ص 294.

(3) رجال الشيخ الطوسي: ص 39.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:622

60 1- تقييم البراءة من المشركين 2- وفود القبائل في المدينة

اشارة

(1) تركت البراءة القوية التي أعلنها امير المؤمنين علي عليه السّلام في موسم الحج في السنة التاسعة بمنى بامر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التي أعلن فيها بصراحة و بصورة رسمية ان اللّه و رسوله بريئان من المشركين و

الوثنيين، و أن على المشركين أن يضعوا حدّا لشركهم خلال أربعة أشهر فإما أن يسلموا و يكفّوا عن عبادة الاصنام و يهجروها، و إما أن يستعدوا لمواجهة شاملة.

لقد ترك إعلان هذه البراءة الصريحة أثرها العميق و السريع، فقد ارتبكت القبائل العربية القاطنة في شتى أنحاء الجزيرة العربية التي كانت بسبب عنادها و لجاجتها ترفض الخضوع لمنطق القرآن و الاستجابة لنداء التوحيد و تصر على المضي في عاداتها الشنيعة، و العكوف على الاوهام و الخرافات و عبادة الاصنام و الأوثان.

(2) لقد ارتكبت هذه القبائل، على اثر تلك البراءة الصريحة القوية، فعمدت إلى إيفاد وفود و مندوبين من جانبها إلى المدينة عاصمة الإسلام، و قد دار بين كل واحد من هذه الوفود و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حوار خاص.

و قد ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى «1» مواصفات و خصوصيات اثنين

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 291- 330.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:623

و سبعين وفدا من تلك الوفود.

إن توافد هذه البعثات و الوفود العجيب و خاصة في أعقاب إعلان البراءة يكشف عن أن مشركى العرب فقدوا في السنة العاشرة من الهجرة كل حصين يمنعهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الّا لكانوا يلجئون إليه، و يتظاهرون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لم تنته المدة المضروبة (اربعة أشهر) بعد إلّا و دخلت كل مناطق الحجاز و كل أقوامها تحت راية التوحيد، و لم يبق في الحجاز بيت تعبد فيه للاصنام و الاوثان ظاهرا حتى أن فريقا من سكان اليمن و البحرين و اليمامة انتبهوا الى الاسلام فاقبلوا عليه و اعتنقوه.

(1)

محاولة اغتيال النبي:

عرفت قادة بني عامر من بين القبائل العربية- يومئذ- بالشر و

الطغيان، و قد اعتزم ثلاثة اشخاص منهم هم: «عامر» و «أربد» و «جبار» على أن يدخلوا المدينة راس وفد من بني عامر، و يتظاهروا بالتفاوض مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثم يغدروا به في المجلس و يغتالوه.

و كانت الخطة تقضى: بأن يتحدث «عامر» الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يفاوضه، و فيما هو يفعل ذلك يبادر «أربد» الى ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بسيفه.

و لم يخبر بقية اعضاء الوفد بنوايا هؤلاء الثلاثة و خطتهم، و لهذا أعلنوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن رغبتهم الصادقة في الاسلام، و وفائهم لشخص النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لكن «عامرا» احجم عن أي نوع من انواع

سيد المرسلين ،ج 2،ص:624

التظاهر بالإسلام في ذلك المجلس و كان يصرّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يخلو به في مكان آخر ليتحدث معه على انفراد تمهيدا لتنفيذ الخطة المشؤومة و هو ينظر الى أربد و ينتظر منه ما كان أمره به و اتفقا عليه، و لكنه لا يزداد نظرا إلى «اربد» إلّا و يزداد «اربد» حيرة و دهشة هذا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعامر كلما قال: خالّني: لا و اللّه حتى تؤمن باللّه وحده لا شريك له.

(1) فلما أيس «عامر» من «اربد»، و كأنّ «اربدا» كلما عزم أن يجرد سيفه و يهجم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هاب النبي، و منعته عظمته و مهابته، فانصرف عن نيته، قال عامر و هو يترك مجلس النبي صلّى اللّه عليه و آله: أما و اللّه لأملأنّها عليك خيلا و رجالا و هو

بذلك يكشف عن عناده و عتوه.

فقابله رسول اللّه بحلم كبير، و لم يرد على كلامه و تهديده و انما اكتفى بأن دعا عليه و على صاحبه بعد أن غادر مجلس النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد استجاب اللّه لدعاء نبيه سريعا فقد خرج هو و صاحبه راجعين إلى بلادهم حتى اذا كانوا في اثناء الطريق بعث اللّه الطاعون في عنق «عامر» فقتله ذلك المرض الوبي ء في بيت امرأة من بني سلول في صورة فضيعة، و حالة سيئة.

و أما «اربد» فارسل اللّه عليه و على جمله صاعقة و هو في الصحراء فاحرقتهما، و قد تسببت هاتان الحادثتان الفضيعتان اللتان أصابتا عدوّين لدودين من أعداء النبي صلّى اللّه عليه و آله في أن يزداد تعلق بني عامر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يتضاعف حبهم له صلّى اللّه عليه و آله.

(2)

أمير المؤمنين في ربوع اليمن:

لقد مكّن اقبال اهل الحجاز على الاسلام، و أمن النبي صلّى اللّه عليه و آله

سيد المرسلين ،ج 2،ص:625

جانب القبائل العربية، مكّن النبي من العمل على مدّ شعاع الاسلام إلى البلاد المتاخمة للحجاز.

فكان أول ما فعل صلّى اللّه عليه و آله في هذا الصعيد هو بعث أحد أصحابه العلماء و هو «معاذ بن جبل» الى اليمن ليبلّغ إلى اهلها نداء التوحيد و يشرح لهم معالم الاسلام و تعاليمه المقدسة، و قد أوصاه بوصايا كثيرة و مفصلة منها قوله صلّى اللّه عليه و آله.

«يسّر و لا تعسّر و بشّر و لا تنفّر و إنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة: فقل شهادة أن لا إله الّا اللّه وحده لا شريك له».

(1) و يبدو أن معاذا رغم انه كان ملمّا بالكتاب العزيز و

السنة النبوية و تعاليمها و احكامها، إلا انه لما سألته امرأة عن حق الزوج على الزوجة لم يملك لها جوابا مقنعا، و لهذا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يوجه الى اليمن تلميذه المتميز «علي بن أبي طالب» عليه السّلام حتى يتمكن في ضوء دعوته الدائبة، و احاديثه المبرهنة، و ما يمتلك من شجاعة أدبية نادرة، و قوة عقلية متميزة من نشر الإسلام العظيم في تلك الربوع.

هذا مضافا إلى أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان قد بعث «خالد بن الوليد» «1» الى اليمن من قبل ليزيل المشكلات التي كانت تعرقل تقدّم الاسلام في تلك الديار و لكنه لم يوفّق في مدة بقائه لعمل شي ء في هذا المجال «2».

(2) فاستدعا النبي صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام و أخبره بأنه يريد أن يذهب الى اليمن ليدعو أهلها إلى الإسلام، و ليخمّس ركازهم، و يعلّمهم

______________________________

(1) صحيح البخاري: ج 5 ص 163.

(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 264.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:626

الاحكام، و يبين لهم الحلال و الحرام، و إلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم و يقدم عليه بجزيتهم، فقال علي عليه السّلام بتواضع بالغ:

«يا رسول اللّه تبعثني و أنا شاب أقضي بينهم و لا أدري ما القضاء» أي ما فعلته قبل هذا.

فضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده في صدر عليّ عليه السّلام و قال:

«اللّهم اهد قلبه و ثبّت لسانه».

(1) ثم قال صلّى اللّه عليه و آله:

«يا عليّ لا تقاتلنّ أحدا حتى تدعوه و أيم اللّه لئن يهدي اللّه على يديك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس و غربت و لك ولاؤه يا علي».

ثم أوصاه صلّى اللّه عليه و آله

بوصايا أربع هامة إذ قال:

يا علي أوصيك:

1- بالدّعاء فإن معه الإجابة.

2- و بالشكر فانّ معه المزيد.

3- و إيّاك أن تخفر عهدا أو تعين عليه.

4- و أنهاك عن المكر، فانه لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله، و أنهاك عن البغي، فانه من بغي عليه لينصرنه اللّه».

(2) و لقد بقي علي عليه السّلام يقوم بالقضاء طيلة ايام اقامته في اليمن بصورة عجيبة محيّرة، و قد دونت اكثر اقضيته في كتب التاريخ و الحديث.

هذا و يروي «البراء بن عازب» و كان من الذين صحبوا عليا عليه السّلام في سفره هذا الى اليمن انه لما انتهى علي عليه السّلام و من معه إلى أوائل أهل اليمن، و بلغ القوم الخبر، فخرجوا إليه صفّ عليّ عليه السّلام الجنود الذين كانوا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:627

قد استقروا هناك من قبل بقيادة خالد بن الوليد، ثم صلّى بهم صلاة الفجر، ثم دعا قبيلة همدان كلّها، و كانت اكبر القبائل اليمنية، ليقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فحمد اللّه، و اثنى عليه، ثم قرأ على القوم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاسلمت همدان كلها في يوم واحد متأثرة بجلال المشهد، و حلاوة البيان، و عظمة المنطق النبوي، فكتب امير المؤمنين عليه السّلام بذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلمّا قرأ كتابه استبشر و ابتهج و خرّ ساجدا شكرا للّه تعالى ثم رفع رأسه و جلس و قال:

«السلام على أهل همدان. السلام على أهل همدان».

ثم تتابع- على أثر اسلام همدان- أهل اليمن على الاسلام «1».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 305، بحار الأنوار: ج 21 ص 360- 363.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:628

(1)

61 حجة الوداع

اشارة

تعتبر مراسيم الحج و مناسكه من

أعظم العبادات الاسلامية الجماعية التي يؤديها المسلمون، جلالا و ابهة، و ذلك لأنّ أداء مراسيم الحج و مناسكه في كل سنة مرة واحدة يمثّل بالنسبة للامة الإسلامية أكبر مظاهر الاتحاد، و الوحدة و دليلا كاملا على الترفع على المناصب و الدرجات و تكون نموذجا بارزا للمساواة بين جميع أبناء البشر، و سبيلا إلى تقوية أواصر الاخوة المتينة بين المسلمين، فاذا كان المسلمون لا ينتفعون بهذه المائدة الكبرى التي منحها ربهم لهم، و اذا كانوا لا يستفيدون من هذا المؤتمر الاسلامي السنوي العظيم (الذي يمكنه بحقّ أن يجيب و يعالج الكثير من مشكلاتنا الاجتماعية، و يكون نقطة تحول عميق في حياتنا) استفادة كاملة لائقة، فانّ ذلك ليس- و بدون ريب او شك- ناشئا من قصور في القانون الاسلامي، بل هو دليل على قصور قادة المسلمين و تقصير حكامهم الذين لا يولون هذه المراسم و هذا الموسم العظيم اهتماما مناسبا، و لا يفكرون في استغلاله على الوجه المطلوب.

(2) فمنذ أن فرغ إبراهيم الخليل عليه السّلام من اقامة صرح الكعبة المعظّمة و دعا الموحّدين إلى زيارتها، و الحج إليها لم تزل هذه البنية الشريفة كعبة القلوب، و مطاف الشعوب و الاقوام و الجماعات الموحّدة التي تأتي إليها كل عام من شتى نقاط العالم، و من مختلف انحاء الجزيرة العربية، و يؤدّون عندها المناسك التي علّمها إياهم النبي العظيم إبراهيم الخليل عليه و على نبينا السّلام.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:629

(1) و لكن تقادم العهد، و انقطاع شعب الحجاز عن قيادة الأنبياء، و أنانية قريش، و سيادة الوثنية على عقول العرب أوجب أن تتعرض مراسم الحج و مناسكه- من حيث الزمان و المكان- لعملية تحريف و تغيير، و ان تفقد صبغتها الحقيقية

و وجهها الواقعيّ.

لهذه الجهات امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة العاشرة من الهجرة، و من قبل اللّه سبحانه ان يشارك في مراسم الحج شخصيا، و يقوم بتعليم مناسك الحج للناس، و يوقفهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عمليا، كما يقوم بإزالة كلّ ما علق بها من زوائد طيلة السنوات الغابرة، و يعيّن حدود «عرفات» و «منى» و يوم الإفاضة منها و لهذا فانّ السفر كان سفرا ذا طابع تعليمي، قبل أن يكون ذا طابع سياسيّ و اجتماعي.

(2) أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الشهر الحادي من العام العاشر للهجرة (أي شهر ذي القعدة) بأن ينادى في المدنية و بين القبائل بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقصد مكة للحج هذا العام، فاحدث هذا الاعلان شوقا و ابتهاجا عظيمين في نفوس جمع كبير من المسلمين، فتهيّأ عدد هائل منهم لمرافقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ضربت مضارب و خيم كثيرة خارج المدينة المنورة بانتظار حركة النبي صلّى اللّه عليه و آله و توجّهه الى مكة «1».

و في اليوم السادس و العشرين من شهر ذي القعدة خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المدينة متوجها الى مكة و قد استخلف مكانه في المدينة أبا دجانة الانصاري، و قد ساق معه ما يزيد عن ستين بدنة.

و عند ما بلغ الموكب النبوي العظيم إلى «ذي الحليفة» (و هي نقطة فيها مسجد الشجرة أيضا) أحرم بلبس قطعتين عاديتين من القماش الأبيض من مسجد الشجرة، و دخل الحرم، و لبّى عند الاحرام قائلا:

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 3 ص 389.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:630

«لبّيك اللّهم لبّيك لبّيك لا شريك

لك لبّيك إنّ الحمد و النعمة لك و الملك لبّيك لا شريك لك لبّيك».

و هو بذلك يلبي نداء إبراهيم، كما أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يكرّر هذه التلبية كلّما شاهد راكبا، أو علا مرتفعا من الأرض، أو هبط واديا.

و لما شارف مكة قطع التلبية المذكورة.

(1) و في اليوم الرابع من شهر ذي الحجة، دخل صلّى اللّه عليه و آله مكة المكرمة و توجّه نحو المسجد الحرام رأسا، ثم دخله من باب بني شيبة و هو يحمد اللّه و يثني عليه و يصلي على إبراهيم عليه السّلام.

ثم بدأ من الحجر الأسود فاستلمه «1» أولا، ثم طاف سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم و عند ما فرغ من صلاته سعى بين الصفا و المروة «2» ثم التفت إلى حجاج بيت اللّه الحرام و قال:

«من لم يسق منكم هديا فليحلّ و ليجعلها عمرة (أي فليقصّر أي يأخذ من شعره و ظفره فيحلّ له ما حرم عليه بالاحرام) و من ساق منكم هديا فليقم على إحرامه».

(2) و قد كره البعض هذا و اعتذروا بانه يعزّ عليهم (أولا يلذّ لهم) أن يخرجوا من الاحرام فيحلّ لهم ما يحرم على المحرم فيلبسوا الثياب و يقربوا النساء و يتدهنوا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على إحرامه أشعث أغبر.

______________________________

(1) المراد من الاستلام هو مسح الحجر الاسود باليدين قبل الشروع بالطواف و فلسفة هذا العمل هي أن هذا الحجر كان يقف عليه ابراهيم لدى بناء جدران الكعبة و اقامتها و رفعها، و استلامه نوع من تجديد الميثاق مع الخليل عليه السّلام و العمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل ابراهيم.

و لقد اعتمر

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الفترة المدنية مرتين، إحداهما في السنة السابعة و الاخرى في الستة الثامنة بعد فتح مكة، و كانت هذه ثالث عمرة يقوم بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع الحج (الطبقات الكبرى: ج 2 ص 174).

(2) الصفا و المروة جبلان على مقربة من المسجد الحرام و السعي هو المشي بينهما ابتداء من الصفا و انتهاء بالمروة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:631

و ربّما قالوا: لا يصحّ هذا، كيف تقطر رءوسنا من الغسل «1» و نحن زوّار بيت اللّه؟

(1) فالتفت النبي صلّى اللّه عليه و آله الى عمر و كان ممن بقى على احرامه و قال له: ما لي أراك يا عمر محرما؟ أسقت هديا؟

قال عمر: لم أسق.

فقال النبي: فلم لا تحلّ و قد أمرت من لم يسق بالإحلال؟

قال عمر: و اللّه يا رسول اللّه لا أحللت و أنت محرم.

فغضب النبي لموقف الناس المتلكي هذا و قال:

«لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم».

و هو صلّى اللّه عليه و آله يعني: أنني لو كنت أعلم بالمستقبل و لو عرفت بموقف الناس المتردّد و خلافهم هذا من قبل لما سقت الهدي، و لفعلت ما فعلتموه من عدم سوق الهدي، و لكن ما ذا عساي أن أفعل الآن و قد سقت الهدي، و لا يمكنني الإحلال من الإحرام، فيجب عليّ أن أبقى على إحرامي «حتى يبلغ الهدي محلّه» أي أنحر هديي بمنى كما أمر اللّه سبحانه، و أما أنتم فمن لم يسق الهدي منكم فانّ عليه أن يحلّ إحرامه، و احسبوها عمرة، ثم أحرموا للحج مرة اخرى «2».

(2)

الامام علي يعود من اليمن:

لما علم علي عليه السّلام بتوجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

الى مكة

______________________________

(1) هذه العبارة كناية عن مقاربة الازواج و غسل الجناية لان مقاربتهن هي أحد محرمات الحرام و ترتفع هذه الحرمة بالتقصير و هو أخذ شي ء من شعر الرأس أو اللحية أو تقليم الظفر.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 319، و هذه القصة توقفنا على تعنّت فريق من الصحابة و تمرّدهم على تعليمات النبي و أوامره الاكيدة و هم يعلمون أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى و ثمة شواهد و موارد اخرى كثيرة على الموضوع، و قد جمعها المغفور له العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي في كتاب اسماه «النص و الاجتهاد».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:632

للمشاركة في مراسم الحج خرج هو و جنوده و قد ساق معه (34) هديا للمشاركة في الحج، و اصطحب حللا من بزّ اليمن و حريرها قد أخذها من اهل نجران و هي الجزية التي تقرّر دفعها الى النبي صلّى اللّه عليه و آله.

(1) و لقد تعجل عليّ عليه السّلام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و استخلف على جنده الذين خرجوا معه إلى الحج رجلا من أصحابه لقيادتهم حتى مكة، فالتحق برسول اللّه و لقيه على مشارف مكة فسر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله به، و بما أحرزه من نجاحات في مهمته التي بعثه بها إلى أرض اليمن، و قد أخبر بها النبي صلّى اللّه عليه و آله على وجه التفصيل.

فلما فرغ من بيان اخبار سفره قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انطلق فطف بالبيت، و حلّ كما حلّ أصحابك.

فقال علي: يا رسول اللّه إني اهللت كما أهللت.

فسأله النبي صلّى اللّه عليه و آله عن كيفية إهلاله ساعة أحرم للحج

فقال علي عليه السّلام: يا رسول اللّه إني قلت حين أحرمت: اللّهم إني اهلّ بما أهلّ به نبيّك و عبدك و رسولك محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

قال النبي و قد أخبره بانه يشاركه في الحكم ما دام أهلّ بهذه الكيفية: فهل معك هدي؟

قال علي: نعم و هو يشير إلى الهدي الذي ساقه معه من اليمن.

فاشركه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحكم، و ثبت على إحرامه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى فرغا عن الحج و نحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الهدي عن نفسه، كما نحر علي هديه أيضا «1».

(2) ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر عليا عليه السّلام بأن يرجع إلى جنوده الذين فارقهم، و يصطحبهم الى مكة، فلما رجع علي عليه السّلام إليهم

______________________________

(1) الارشاد: ص 92، ان هذا يدل على أن النية الاجمالية كافية و لا يلزم وقوف الناوى على تفاصيل العمل و جزئياته.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:633

وجد أن الرجل الذي استخلفه على اولئك الجنود قد عمد فكسا كلّ رجل من القوم حلة من البزّ الذي كان قد أخذه علي من أهل نجران ليسلّمها الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانزعج من هذا التصرّف غير المشروع و قال له: ويلك ما هذا؟

قال: كسوت القوم ليتجملوا به اذا قدموا في الناس بمكة فقال علي عليه السلام: ويلك! أنزع قبل أن تنتهي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانتزع ذلك الرجل الحلل من الجنود، و ردّها إلى مكانها مع الأشياء الاخرى من جزية أهل نجران.

فانزعج جماعة من اولئك الجنود ممن يزعجهم العدل و النظام دائما و يريدون أن تسير الامور

وفق أهوائهم و مشتهياتهم و ان خالفت سنن الحق و مبادئ العدالة، و أبدوا شكواهم من ما صنع بهم من استرداد الحلل و الثياب.

و لما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكة اشتكوا عليا عليه السّلام فقام رسول اللّه خطيبا في الناس و قال:

«أيّها الناس، لا تشكوا عليا، فو اللّه إنه لأخشن في ذات اللّه (أو في سبيل اللّه) من أن يشكى» «1».

(1)

مراسم الحج تبدأ:

انتهت أعمال العمرة، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يكره أن ينزل و يمكث في دار أحد في المدة التي بين العمرة و الحج و لهذا أمر بأن تضرب له خيمة خارج مكة.

لقد حلّ اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، فخرج زوّار بيت اللّه الحرام في ذلك اليوم من مكة إلى أرض عرفات ليقفوا في اليوم التاسع و هو يوم عرفة من ظهر ذلك اليوم و حتى الغروب منه.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ح 4 ص 603 و في البحار: ج 21 ص 385: أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مناديا أن ينادي في الناس: «ارفعوا ألسنتكم عن عليّ فانه خشن في ذات اللّه غير مداهن في دينه».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:634

و قد قصد النبي عرفات أيضا في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة (الذي يدّعى يوم التروية أيضا) من طريق منى، و توقّف في «منى» إلى طلوع الشمس من اليوم التاسع ثم ركب بعيره، و توجه نحو عرفات، و نزل في خيمة كانت قد ضربت له في مكان يدعى «نمره».

و قد ألقى في ذلك الاجتماع الهائل خطابا تاريخيا هاما و هو على ناقته.

(1)

خطاب النبيّ التاريخي في حجة الوداع:

... في ذلك اليوم الذي كانت عرفات تشهد فيه اجتماعا عظيما و حشدا بشريا هائلا، لم يشهد مثله شعب الحجاز من قبل حتى ذلك اليوم، كان نداء التوحيد و شعار الاسلام يدوّي في ربوع تلك المنطقة التي كانت فيما مضى من الزمان موطن المشركين و مسكن الوثنيين و لكنها قد تحولت الآن إلى قاعدة الموحّدين، و ملتقى عباد اللّه المؤمنين.

في هذه المنطقة بالذات (أي أرض عرفات) نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى الظهر و العصر و هو يؤم

مائة الف، ثم خطب فيهم خطابه التاريخيّ و هو راكب على راحلته، و كان أحد اصحابه- و كان رفيع الصوت قويه- يكرر كلماته صلّى اللّه عليه و آله ليسمعه آخر من في ذلك الحشد.

لقد بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذلك الخطاب هكذا:

«أيّها الناس اسمعوا قولي و اعقلوه فاني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.

أيّها الناس إنّ دماءكم و اموالكم «1» عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم».

و تأكيدا لحرمة أموال المسلمين و دمائهم قال صلّى اللّه عليه و آله لربيعة بن أميّة:

______________________________

(1) في الخصال: ج 2 ص 487 أيضا: و أعراضكم.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:635

(1) «قل يا أيّها الناس إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: هلّا تدرون أيّ شهر هذا»؟

فاجابوا: الشهر الحرام الذي يحرم فيه القتال و اراقة الدماء. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله لربيعة:

«قل لهم: إن اللّه قد حرّم عليكم دماءكم و أموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا».

ثم قال صلّى اللّه عليه و آله لربيعة:

«قل: يا أيّها الناس إن رسول اللّه يقول هل تدرون أيّ بلد هذا؟»

فاجابوا جميعا: البلد الحرام، الذي يحرم فيه القتال و العدوان. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لربيعة:

«قل لهم: إن اللّه قد حرّم عليكم دماءكم و أموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا».

(2) ثم قال صلّى اللّه عليه و آله لربيعة:

«قل لهم: هل تدرون أي يوم هذا؟».

فأجابوا بأجمعهم: يوم الحج الاكبر.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لربيعة:

«قل لهم: إنّ اللّه قد حرّم عليكم دماءكم و أموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا.

أيّها الناس: إن كل دم كان في الجاهلية موضوع، و

إن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث (و كان من أقرباء النبي)».

و هكذا ألغى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عادة الثارات الجاهلية المشؤومة و بدأ بأقربائه.

ثم قال صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم و قد بلّغت فمن كانت

سيد المرسلين ،ج 2،ص:636

عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها.

(1) أيّها الناس إنّ كل ربا موضوع و لكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون و إنّ ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله.

أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، و لكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به ممّا تحقرون من أعمالكم (أو رضي منكم بمحقّرات الأعمال)، فاحذروه على دينكم.

أيّها الناس إن النسي ء «1» زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما و يحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه فيحلّوا ما حرّم اللّه و يحرّموا ما أحلّ اللّه و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات و الأرض و إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية (ذو القعدة و ذو الحجة و شهر المحرم و رجب).

(2) أيّها الناس إن لكم على نسائكم حقا و لهنّ عليكم حقا:

لكم عليهم أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه (أي لا تضيّفن في بيوتكم من تكرهونه).

و عليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلن فان اللّه قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع، و تضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فان انتهين فلهنّ رزقهنّ و كسوتهن بالمعروف و استوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئا، و إنكم انما أخذتموهنّ بأمانة اللّه و استحللتم فروجهنّ بكلمات اللّه فاعقلوا

أيها الناس قولي فاني قد بلّغت و قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا أمرا بيّنا كتاب اللّه و سنة نبيّه «2»

(3) أيها الناس اسمعوا قولي و اعقلوه تعلّمنّ أنّ كل مسلم أخ للمسلم و إنّ

______________________________

(1) شرحنا النسي ء في ص 83 من هذا الكتاب فراجع.

(2) لقد اوصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الامة في هذه الخطبة التاريخية بالكتاب و السنة،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:637

المسلمين إخوة فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمنّ أنفسكم ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم لا نبيّ بعدي و لا أمّة بعدكم «1».

«ألا كل شي ء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوع» «2».

و هنا قطع النبي صلّى اللّه عليه و آله خطابه، و رفع سبّابته نحو السماء (كعلامة على الشهادة) و هو ينكتها الى الناس و قال:

«اللّهم اشهد

اللّهم اشهد

اللّهم اشهد» «3»

(1) و لقد مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عرفات حتى غروب اليوم التاسع، و عند ما اختفى قرص الشمس عن الافق، و اظلمّ الفضاء بعض الشي ء ركب ناقته، و افاض إلى المزدلفة و امضى فيها شطرا من الليل و لم يزل واقفا من الفجر إلى طلوع الشمس في المشعر، ثم توجّه في اليوم العاشر إلى «منى» و أدّى مناسكها من رمي الجمار و الذبح و التقصير ثم توجّه نحو مكة لأداء بقية مناسك الحج.

______________________________

و لكنه أوصى في خطبة الغدير و في اخريات حياته بالكتاب و العترة، و حيث ان هذين الحديثين وردا في واقعتين فلا تنافي بينهما، لانه يصح ان يجعل النبي صلّى اللّه عليه و آله السنة عدلا للكتاب في واقعة، و يوصى بالعترة و الخلفاء من أهل بيته

في موضع آخر و يؤكد على اتباعهم الذي هو أخذ بالسنّة أيضا.

و قد تصور بعض اعلام السنة كالشيخ محمود شلتوت في تفسيره ان النبي صلّى اللّه عليه و آله تحدث بمثل هذا الكلام في واقعة واحدة فقط، و لهذا جعل لفظ «عترة» في الهامش نسخة بدل في حين لا نحتاج الى مثل هذا التصحيح ابدا لانه لا تعارض بين النقلين أساسا ليعالج بهذه الطريقة.

(1) الخصال: ص 487.

(2) بحار الأنوار: ج 21 ص 405.

(3) امتاع الاسماع: ج 1 ص 523 و الطبقات الكبرى: ج 2 ص 184.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:638

(1) و هكذا علّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس مناسك الحج بصورة عملية، و حدّد أو أكّد على مشاعره بصورة دقيقة.

و يطلق على هذه الحجة التاريخية في كتب التاريخ و الحديث «حجة الوداع» تارة، و «حجة البلاغ» اخرى، و «حجة الإسلام» ثالثة، و إنما يطلق كل عنوان من هذه العناوين على هذه الحجة لمناسبة لا تخفى على القارئ البصير «1».

هذا و نلفت نظر القرّاء الكرام في خاتمة هذا الفصل إلى أن المشهور بين المحدثين هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألقى هذا الخطاب التاريخي الخالد في يوم عرفة و لكن يذهب بعض المؤرّخين إلى أن هذه الخطبة القيت في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، و يرى آخرون أن النبي صلّى اللّه عليه و آله خطب خطبا عديدة في هذه الحجة مستغلا كل فرصة سانحة لابلاغ مبادئ رسالته الإلهية.

هذا و قد وقعت في أثناء هذه الرحلة المقدسة قضايا و وقائع لطيفة و جديرة بالدرس و التأمل و التملي، و قد تركنا ذكرها هنا رعاية للاختصار «2».

______________________________

(1) راجع امتاع الاسماع: ج 1 ص

510 هذا و لعلّ الوجه في تسمية هذه الحجة بالوداع لانها آخر حجة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و بالبلاغ هو نزول قوله تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» في أعقابها و بالتمام و الكمال هو نزول قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي».

(2) راجع بحار الأنوار: ج 1 ص 378- 413، امتاع الاسماع: ج 1 ص 510- 534.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:639

(1)

62 إكمال الدين الإسلامي بتعيين الخليفة

اشارة

الخلافة حسب عقيدة علماء الشيعة الإمامية منصب إلهيّ يعطى من قبل اللّه تعالى لأفضل أفراد الامة، و أصلحهم، و أعلمهم، و الفرق الواضح بين الامام و النبيّ هو: أن النبي مؤسس قواعد الشريعة، و هو الذي يوحى إليه، و ينزل عليه الكتاب من السماء، و الامام و ان كان لا يتمتع بأي واحد من هذه الشؤون إلّا أنه مضافا إلى شئون الحكومة و القيادة هو المبيّن لما جاء به رسول اللّه من الدين ممّا لم يوفق- بسبب الظروف المعاكسة او عدم الفرص المناسبة- لبيانه أو اظهاره، و ترك مهمة بيانه على عاتق اوصيائه و خلفائه.

(2) و على هذا الاساس فان الخليفة- من وجهة نظر عقيدة الشيعة الإمامية ليس مجرد حاكم زمنيّ للمسلمين و ليس المطبق لقوانين الشريعة المقدسة و الحافظ للحقوق الاجتماعية، و الحارس لثغور المسلمين و حدود بلادهم المدافع عنها، فحسب بل هو علاوة على كل ذلك الموضح لما خفي من معالم الدين، و المكمّل المبيّن لذلك الجانب من أحكام الشريعة و قوانينها الذي لم يبيّن من قبل مؤسس الشريعة لبعض الاسباب.

أمّا الخلافة في عقيدة أهل السنة فهي منصب عاديّ و ليس الهدف منها إلّا حفظ الكيان الظاهري و الشؤون المادية للامة الإسلامية، و لخليفة

لا ينصب إلّا باختيار الناس و انتخابهم أحدا لشغل منصب الحكم و القضاء و إدارة الامور السياسية و الاقتصادية و ما شابهها، و ذكر تفصيل ما بيّنه صاحب الشريعة من

سيد المرسلين ،ج 2،ص:640

الأحكام على نحو الاجمال.

(1) و أما بيان ما لم يوفق النبي لبيانه لأسباب خاصة فهو يرتبط بعلماء الإسلام و فقهاء المسلمين فهم يعالجون ما يستجدّ للناس من مشكلات فقهية و دينية من هذا النوع عن طريق الاجتهاد، و الرأى.

و على أساس هذا الاختلاف في الموقف من قضية الخلافة و حقيقتها و النظرة إليها انشطرت الامة الاسلامية إلى طائفتين و اتجاهين لا يزالان باقيان إلى هذا اليوم.

و بناء على النظرية الاولى يكون الامام مشاركا للنبيّ في بعض شئونه، فيشترط في الإمام أيضا ما يشترط في النبي. و إليك الشرائط المعتبرة في النبي، التي تشترط في الإمام أيضا:

(2) 1- يجب أن يكون النبي معصوما، يعني أن لا يحوم حول الإثم و المعصية طول حياته أبدا، و لا يزلّ أو يخطأ في بيان أحكام الدين و حقائقه، و عند الاجابة على أسئلة الناس و استفساراتهم الدينية، و يشترط في الامام ذلك أيضا، و الدليل في الموردين واحد.

(3) 2- يجب أن يكون النبي أعلم الناس بالشريعة، و يجب أن لا يخفى عليه شي ء من مسائل الشريعة مطلقا، و هكذا يجب أن يكون الامام اعلم الناس باحكام الدين و مسائله لكونه مكمّلا أو مبينا لما لم يبيّن من مسائل الشريعة في زمن النبي.

(4) 3- إن النبوة منصب تعيينى و ليس منصبا انتخابيا، بمعنى أنّ النبي لا يكون نبيا إلّا اذا عيّنه اللّه و ابتعثه، و نصب في مقام النبوة من جانبه سبحانه، لأنه تعالى دون سواه يميّز المعصوم عن

غير المعصوم، و هو سبحانه دون غيره يعلم من بلغ درجة العصمة عن الخطأ و المعصية في ظل العناية الربانية الغيبية الخاصة، بحيث يعرف كل تفاصيل الدين و جزئياته.

إن هذه الشرائط الثلاثة كما هي معتبرة في النبي، كذلك هي معتبرة و مشترطة في خليفته و القائم مقامه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:641

(1) و لكن بناء على النظرية الثانية لا يشترط أيّ شي ء من هذه الشروط المعتبرة في النبي، في الخليفة فلا تجب العصمة، و لا العدالة، و لا يجب العلم و الاحاطة بالشريعة و لا يشترط فيه التعيين من جانب اللّه، و الارتباط بعالم الغيب، بل يكفي في استحقاق الخلافة أن يكون الشخص قادرا في ظلّ ذكائه، و مشورة المسلمين على حفظ الكيان الاسلاميّ، و قادرا على إقرار الأمن في البلاد بتطبيق قوانين الشريعة الجزائية، كما و يتمكن من توسيع رقعة الأرض الاسلامية في ظل الدعوة الى الجهاد.

و علينا الآن ان نعالج هذه المسألة (أي هل الخلافة و الامامة منصب تنصيصي أو انتخابي و هل على النبي ان يعيّن بنفسه من يخلفه، أو يوكل الامر الى الامة لتختار من تريد). و ندرسها في ضوء المحاسبات الاجتماعية ليلمس القارئ بوضوح أنّ الأحوال و الظروف الاجتماعية كانت توجب أن يقوم النبي صلّى اللّه عليه و آله بتعيين خليفته في حياته و يحلّ بذلك مشكلة الخلافة من بعده، و لا يوكل الأمر إلى الأمة.

و إليك توضيح هذا القسم و بيانه:

(2)

اقتضاء المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة:

اشارة

لا شك في أن الدين الاسلامي دين عالمي، و شريعة خاتمة، و قد كانت قيادة الامة الاسلامية من شئون النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله ما دام على قيد الحياة، و كان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى

أفضل أفراد الامة و اكملهم.

إن في هذه المسألة و هي هل أن منصب القيادة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله هل هو منصب تنصيصي تعييني أو انه منصب انتخابي اتجاهين:

فالشيعة يرون أن مقام القيادة منصب تنصيصي و لا بد أن يتعيّن خليفة النبي من جانب اللّه سبحانه.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:642

(1) بينما يرى أهل السنة أن هذا المنصب منصب انتخابي جمهوري، أي أن على الامة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لادارة البلاد.

إن لكل من الاتجاهين المذكورين دلائل ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية، إلا أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم و دراسة المسألة في ضوء دراسة و تقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة فان هذه الدراسة كفيلة باثبات صحة هذا الاتجاه او ذلك.

إن تقييم الأوضاع السياسية خارج المنطقة الاسلامية و خارجها في عصر الرسالة يقضي بأن خليفة النبيّ كان لا بدّ أن يعيّن من جانب اللّه تعالى و لا يترك الأمر من دون مثل هذا التعيين الالهي، فإن المجتمع الاسلامي كان مهدّدا على الدوام من جانب الخطر الثلاثي (الروم- إيران- المنافقون) بشنّ الهجوم الكاسح، و إلقاء بذور الفساد و الاختلاف بين المسلمين.

كما أن مصالح الامة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي و ذلك بتعيين قائد سياسيّ من بعده، و بذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدوّ في جسم الامة الاسلامية و السيطرة عليها، و على مقدراتها.

و إليك بيان و توضيح هذه المطلب:

(2) لقد كانت الامبراطورية الروميّة احد اضلاع المثلث الخطر الذي يحيط بالكيان الاسلامي و يتهدده من الخارج و الداخل.

و كانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، و كانت تشغل بال النبي القائد على الدوام حتى إن التفكير

في امر الروم لم يغادر ذهنه و فكره حتى لحظة الوفاة، و الالتحاق بالرفيق الأعلى.

و كانت اولى مواجهة عسكرية بين المسلمين، و الجيش المسيحيّ الرومي وقعت في السنة الهجرية الثامنة في أرض فلسطين و قد آلت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة و هم: «جعفر الطيار»، و «زيد بن حارثة» و «عبد اللّه بن رواحة».

سيد المرسلين ،ج 2،ص:643

(1) و لقد تسبّب انسحاب الجيش الاسلاميّ بعد مقتل القادة المذكورة إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرض عاصمة الاسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السنة العاشرة للهجرة على رأس جيش كبير جدا إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية، و قد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة و تجدّد حياته السياسية.

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأعدّ قبيل مرضه جيشا كبيرا من المسلمين و أمّر عليهم «اسامة بن زيد» و كلّفهم بالتوجه إلى حدود الشام، و الحضور في تلك الجبهة.

(2) أما الضلع الثاني من المثلّث الخطير الذي كان يتهدد الكيان الاسلامي فكان الامبراطورية الايرانية (الفارسية) و قد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معاداتها لدعوته أن أقدم امبراطور ايران «خسرو ابرويز» على تمزيق رسالة النبي، و توجيه الاهانة الى سفيره باخراجه من بلاطه و الكتابة إلى واليه و عميله باليمن بان يوجه إلى المدينة من يقبض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أو يقتله ان امتنع!!

و «خسرو» هذا و إن قتل في زمن رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله إلّا أن موضوع استقلال اليمن- التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحا طويلا من الزمان- لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك، و كان غرور اولئك الملوك و تجبّرهم، و كبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة (القوة الاسلامية) لهم.

(3) و الخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين في صورة الطابور الخامس، على تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل إلى درجة أنهم قصدوا اغتيال رسول اللّه، في طريق العودة من تبوك إلى

سيد المرسلين ،ج 2،ص:644

المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه: ان الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رحيله و بذلك يستريح الجميع «1».

(1) و لقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكيدة مشئومة لتوجيه ضربة الى الامة الاسلامية من الداخل، و ذلك عند ما أتى عليا عليه السّلام و عرض عليه ان يبايعه في مقابلة من عيّنه رجال السقيفة، ليستطيع بذلك تشطير الامة الاسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين فيتمكن من التصيّد في الماء العكر.

و لكن الامام عليا عليه السّلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة، فرفض مطلبه و قال له كاشفا عن دوافعه و نواياه الشريرة:

«و اللّه ما أردت بهذه إلّا الفتنة و انك و اللّه طالما بغيت للإسلام شرا ...

لا حاجة لنا في نصيحتك»!! «2».

(2) و لقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي سورة آل عمران، و النساء، و المائدة، و الانفال، و التوبة، و العنكبوت، و الاحزاب، و محمّد، و الفتح، و المجادلة، و الحديد،

و المنافقين، و الحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الاعداء الخطرين و الاقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر، و يتحيّنون الفرص للقضاء عليه يصحّ أن يترك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله امته الحديثة العهد بالاسلام، الجديدة التأسيس من دون ان يعيّن لهم قائدا دينيا سياسيا.

إن المحاسبات الاجتماعية تقول: انه كان يتوجب ان يمنع رسول الاسلام

______________________________

(1) الطور: 30.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 222، العقد الفريد: ج 2 ص 249.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:645

بتعيين قائد للامة، من ظهور أيّ اختلاف و انشقاق فيها من بعده، و ان يضمن استمرار و بقاء الوحدة الاسلامية بايجاد حصن قوى و سياج دفاعى متين حول تلك الامة.

(1) إن تحصين الامة، و صيانتها من الحوادث المشؤومة، و الحيلولة دون حدوث ظاهرة مطالبة كل فريق الزعامة لنفسها دون غيرها، و بالتالي التنازع على مسألة الخلافة و الزعامة لم يكن ليتحقق إلّا بتعيين قائد للامة، و عدم ترك الامور للقدر.

إن المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية «التنصيص على القائد بعد رسول اللّه»، و لعلّ لهذا الجهة، و لجهات اخرى طرح رسول الاسلام مسألة الخلافة في الايام الاولى من ميلاد الرسالة الاسلامية و ظلّ يواصل طرحها و التذكير بها طول حياته حتى الساعات الأخيرة منها حيث عيّن خليفته و نصّ عليه بالنص القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته، و في نهايتها أيضا.

و إليك بيان كلا هذين المقامين:

(2)

1- النبوة و الامامة توأمان:

بغضّ النظر من الأدلة العقلية على صحة المحاسبة الاجتماعية التي تثبت حقانية الرأى الأول بصورة قطيعة هناك أخبار و روايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف و الرأى الذي ذهب إليه علماء الشيعة، و تصدقه، فقد نص النبي صلّى اللّه عليه و آله على خليفته من

بعده في الفترة النبوية من حياته مرارا و تكرارا، و اخرج موضوع الامامة من مجال الانتخاب الشعبى، و الرأى العام.

فهو لم يعيّن (و لم ينص على) خليفته و وصيه من بعده في اخريات حياته فحسب، بل بادر إلى التعريف بخليفته و وصيّه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد سوى بضع عشرات من الاشخاص، و ذلك يوم أمر من جانب اللّه العلي القدير أن ينذر عشيرته الاقربين من العذاب الالهي الاليم، و أن يدعوهم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:646

إلى عقيدة التوحيد قبل ان يصدع برسالته للجميع و يبدأ دعوته العامة للناس كافة.

(1) فجمع أربعين رجلا من زعماء بني هاشم و بني المطلب ثم وقف فيهم خطيبا فقال:

«أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم».

فاحجم القوم، و قام عليّ عليه السّلام، و اعلن مؤازرته و تأييده له، فاخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برقبته و التفت الى الحاضرين و قال:

«إنّ هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم» «1».

و قد عرف هذا الحديث عند المفسرين و المحدثين ب: «حديث يوم الدار، و «حديث بدء الدعوة».

على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته، إنما صرح في مناسبات شتى، في السفر و الحضر، بخلافه علي عليه السّلام من بعده و لكن لا يبلغ شي ء من ذلك في الاهمية و الظهور و الصراحة و الحسم ما بلغه حديث الغدير.

(2)

2- قصة الغدير:
اشارة

لما انتهت مراسيم الحج، و تعلم المسلمون مناسكه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الرحيل عن مكة، و العودة الى المدينة، فأصدر أمرا بذلك.

و

لما بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة «رابغ» «2» التي تبعد عن

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 216، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 62 و 63 و قد مر مفصله في هذه الدراسة فراجع.

(2) رابغ تقع الآن على الطريق بين مكة و المدينة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:647

«الجحفة» «1» بثلاثة أميال نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمنطقة تدعى «غدير خم» و خاطبه بالآية التالية: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» «2».

(1) إن لسان الآية و ظاهرها يكشف عن أن اللّه تعالى ألقى على عاتق النبي صلّى اللّه عليه و آله مسئولية القيام بمهمة خطيرة، و أي أمر اكثر خطورة من أن ينصب عليا عليه السّلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى و مسمع من مائة ألف شاهد.

من هنا أصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمره بالتوقّف، فتوقفت طلائع ذلك الموكب العظيم، و التحق بهم من تأخّر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة، و كان الجو حارا الى درجة كبيرة جدا، و كان الشخص يضع قسما من عباءته فوق رأسه و القسم الآخر منها تحت قدميه، و صنع للنبي صلّى اللّه عليه و آله مظلة و كانت عبارة عن عباءة القيت على أغصان شجرة، (سمرة) و صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالحاضرين الظهر جماعة، و فيما كان الناس قد احاطوا به صعد صلّى اللّه عليه و آله على منبر اعدّ من أحداج الإبل و أقتابها، و خطب في الناس رافعا صوته و هو يقول:

(2) «الحمد للّه و نستعينه و نؤمن به و نتوكّل

عليه و نعوذ به من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن ضلّ و لا مضلّ لمن هدى و أشهد ان لا إله إلّا هو و أن محمّدا عبده و رسوله.

أمّا بعد، أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبي إلّا مثل نصف الذي قبله، و إني أوشك أن ادعى فأجيب و أني مسئول و انتم مسئولون فما ذا انتم قائلون؟

______________________________

(1) من مواقيت الاحرام و تنشعب منها طرق المدنيين و المصريين و العراقيين.

(2) المائدة: 67.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:648

قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت و نصحت و جهدت فجزاك اللّه خيرا (1) قال صلّى اللّه عليه و آله:

«أ لستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا عبده و رسوله و أنّ جنّته حق و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها و أنّ اللّه يبعث من في القبور»؟

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال صلّى اللّه عليه و آله:

«اللّهمّ اشهد».

ثم قال صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدأ».

فنادى مناد: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه، و ما الثقلان؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«كتاب اللّه سبب طرف بيد اللّه و طرف بأيديكم فتمسكوا به و الآخر عترتي و إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فلا تقدموهما فتهلكوا و لا تقصّروا عنهما فتهلكوا».

(2) و هنا أخذ بيد «عليّ» عليه السّلام و رفعها حتى رؤي بياض آباطهما و عرفه الناس اجمعون ثم قال:

«أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من انفسهم؟».

قالوا: اللّه و رسوله أعلم.

فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«إن اللّه مولاى و أنا مولى المؤمنين و أنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه

فعليّ مولاه «1»، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه و انصر من نصره، و اخذل من خذله و احب من احبه و ابغض من ابغضه و ادر الحق معه حيث دار» «2».

______________________________

(1) لقد كرر النبي صلّى اللّه عليه و آله هذه العبارة ثلاث مرات دفعا لأي التباس أو اشتباه.

(2) راجع للوقوف الكامل على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلامة الاميني.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:649

(1)

واقعة الغدير خالدة الى الأبد:

لقد تعلّقت المشيئة الربانية بأن تبقى واقعة الغدير التاريخية في جميع القرون و العصور كتاريخ حيّ يجتذب القلوب و الافئدة، و يكتب عنه الكتّاب الاسلاميون في كل عصر و زمان و يتحدثون حوله في مؤلفاتهم المتنوعة في مجال التفسير و التاريخ و الحديث و العقائد، كما يتحدث حوله الخطباء في مجالس الوعظ و من فوق صهوات المنابر، و يعتبرونها من فضائل الإمام «علي» الذي لا يتطرق إليها أي شك أو ريب.

و لم يقتصر هذا على الكتّاب و الخطباء بل استلهم الشعراء من هذه الواقعة الكبرى التي فجرت بالتفكير حول هذه الحادثة، و بالاخلاص لصاحب الولاية ينابيع التعبير في وجودهم فأنشئوا أروع القصائد، و جادت قرائحهم بأنواع مختلفة من القصيد الجميل، و خلّفوا لمن بعدهم و بلغات مختلفة آثارا أدبية ولائية خالدة.

(2) و لهذا قلّما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامة و في التاريخ الاسلامي و الامة الاسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير، و قلما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدّثين و المفسرين و الكلاميين و الفلاسفة، و الشعراء و الأدباء، و الكتّاب و الخطباء، و ارباب السير و المؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة، و قلّما اعتنوا بشي ء مثلها اعتنوا بها.

إن من أسباب خلود هذه الواقعة الكبرى

و دوام هذا الحديث هو: نزول آيتين من آيات القرآن الكريم فيها «1»، فما دام القرآن الكريم باقيا مستمرا يتلى آناء الليل و أطراف النهار تبقى هذه الحادثة في الاذهان و النفوس و لا تمحو خاطرتها من العقول و القلوب.

______________________________

(1) المائدة: 67 و 3.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:650

(1) و حيث أن المجتمع الاسلاميّ في العصور الغابرة و كذا الطائفة الشيعية كانوا يعتبرون هذا اليوم عيدا كبيرا من الأعياد الدينية، و كانوا يقيمون فيها ما يقيمونه من المراسيم في الاعياد الاسلامية لهذا فان هذه الحادثة التاريخية (حادثة الغدير) قد اتخذت طابع الابديّة و الخلود الذي لا تمحى معه خاطرتها من الأذهان و الخواطر.

هذا و يستفاد من مراجعة التاريخ بوضوح أن اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام كان معروفا بين المسلمين بيوم عيد الغدير و كانت هذه التسمية تخطى بشهرة كبيرة إلى درجة أن ابن خلّكان يقول حول «المستعلي بن المستنصر»: فبويع في يوم غدير خمّ و هو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 487 «1».

(2) و قال في ترجمة المستنصر باللّه العبيدي: و توفي ليلة الخميس لا ثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع و ثمانين و اربعمائة، قلت: و هذه هي ليلة عيد الغدير اعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة و هو غدير خم «2».

و قد عدّه ابو ريحان البيروني في كتابه «الآثار الباقية» ممّا استعمله أهل الاسلام من الأعياد «3».

و ليس ابن خلّكان و ابو ريحان البيروني، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الاعياد، بل هذا الثعالبيّ قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين «4».

إن عهد هذا العيد الاسلامي و جذوره

ترجع إلى نفس يوم «الغدير» لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر المهاجرين و الانصار بل أمر زوجاته و نساءه في ذلك

______________________________

(1) وفيات الأعيان: ج 1 ص 60.

(2) وفيات الأعيان: ج 1 ص 60.

(3) ترجمة الآثار الباقية: ص 395 الغدير: ج 1 ص 267.

(4) ثمار القلوب: ص 511.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:651

اليوم بالدخول على «عليّ» عليه السّلام و تهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن ارقم: كان أول من صافق النبي صلّى اللّه عليه و آله و عليا:

أبو بكر و عمر و عثمان و طلحة و الزبير و باقي المهاجرين و الانصار و باقي الناس «1».

(1)

الدلائل الاخرى على أبديّة الغدير:

و يكفي في أهميّة هذا الحدث التاريخي أنّ هذه الواقعة التاريخية رواها مائة و عشرة صحابيّ، على أن هذه العبارة لا تعني أنّ رواية هذه الواقعة اقتصرت على هؤلاء المائة و العشرة من ذلك الحشد الهائل بل يعني أن هؤلاء جاء ذكرهم في كتب أهل السنّة و مصنفاتهم.

صحيح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألقى خطابه المذكور الذي تضمّن نصب عليّ عليه السّلام للخلافة في مائة الف او يزيدون من الناس و لكن كثيرا منهم كانوا قد أتوا من مناطق نائية من الحجاز و لهذا لم يروعنهم هذا الحديث، كما ان كثيرا من الذين حضروا ذلك المشهد التاريخي العظيم رووا و نقلوا للآخرين هذا الحديث و لكن التاريخ لم يوفق لذكر أسمائهم، أو إذا تمّ ذلك لكن لم يصل إلينا.

(2) ثم إنّه روى هذا الحديث في القرن الثاني الاسلاميّ و هو عصر التابعين تسعة و ثمانون تابعيا.

و قد بلغ عدد من روى حديث «الغدير» في القرون اللاحقة في كتابه من علماء أهل السنة و فضلائهم ثلاثمائة و ستون شخصا،

و صحّحه جمع كبير منهم و اعترفوا بتواتره.

ففي القرن الثالث رواه اثنان و تسعون عالما.

و في القرن الرابع رواه أربعة و اربعون.

______________________________

(1) راجع مصدره في الغدير: ج 1 ص 270.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:652

و في القرن الخامس رواه أربعة و عشرون.

و في القرن السادس رواه عشرون.

و في القرن السابع رواه واحد و عشرون.

و في القرن الثامن رواه ثمانية عشر.

و في القرن التاسع رواه ستة عشر.

و في القرن العاشر رواه أربعة عشر.

و في القرن الحادي عشر رواه اثنا عشر.

و في القرن الثاني عشر رواه ثلاثة عشر.

و في القرن الثالث عشر رواه اثنا عشر.

و في القرن الرابع عشر رواه عشرون عالما.

(1) و لم يكتف البعض بنقل و رواية هذا الحديث في كتبهم و مؤلّفاتهم بل ألّفوا حوله رسائل أو كتبا مستقلة.

و قد ألّف المؤرخ الاسلامي الكبير «الطبري» كتابا في هذا المجال أسماه «الولاية في طرق حديث الغدير» روى فيه هذا الحديث عن النبي بخمس و سبعين سندا.

و لقد روى «ابن عقدة» في رسالة «الولاية» هذا الحديث بمائة و خمسين حديثا.

و روى أبو بكر محمّد بن عمر البغدادي المعروف بالجمعاني هذا الحديث بخمس و عشرين سندا.

كما روى من علماء الحديث هذه الواقعة نظراء:

أحمد بن حنبل الشيباني ب 40 سندا

ابن حجر العسقلاني ب 25 سندا

الجزري الشافعي ب 80 سندا

أبو سعيد السجستاني ب 120 سندا

سيد المرسلين ،ج 2،ص:653

الأمير محمّد اليمني ب 40

النسائي ب 250 سندا

أبو العلاء الهمداني ب 100 سندا

أبو العرفان الحبان ب 30 سندا

(1) و بلغ عدد من ألّف رسالة خاصة أو كتابا مستقلا حول هذه الواقعة و خصوصياتها و تفاصيلها 26 شخصا و لعلّ هناك غيرهم ممن ألّف كتابا أو رسالة مستقلّة حول هذه الحدث التاريخي الهامّ لم يذكر التاريخ أسماءهم،

أو ضاعت مؤلفاتهم مع التطورات التي طرأت على الامة الإسلامية و ضيّعت الكثير من تراثها الفكريّ خلال عمليات الاغارة و النهب أو الهدم و الإحراق (و لقد اقتبسنا كل هذه الاحصاءات من كتاب الغدير الجزء الاول).

و لقد كتب علماء الشيعة كتبا قيمة حول هذه الواقعة أجمعها و اشملها كتاب «الغدير» بقلم العلامة الجليل و الكاتب الاسلامي القدير المرحوم آية اللّه الشيخ الأميني رحمه اللّه، و الذي يقع في أحد عشر مجلدا في ما يقرب من ستة آلاف صفحة، و قد استفدنا كثيرا من تلك الموسوعة في تنظيم الفصل الحاضر.

(2) ثم ان النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يلبث ان نزل عليه قوله تعالى بعد نصبه عليا لإمرة المسلمين في تلك الواقعة:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» «1».

فكبّر النبي صلّى اللّه عليه و آله بصوت عال ثم أضاف قائلا:

«الحمد للّه على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الربّ برسالتي، و ولاية عليّ بن أبي طالب من بعدى».

ثم نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك المنبر المصنوع من حدائج

______________________________

(1) المائدة: 1 و 3.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:654

الابل و أمر امير المؤمنين عليّا عليه السّلام أن يجلس في خيمة و أمر أطباق الناس و كلّ من حضر المشهد من امته و منهم الشيخان و مشيخة قريش و وجوه الأنصار كما أمر امّهات المؤمنين بالدخول على أمير المؤمنين عليه السّلام و تهنئته على تنصيبه لمنصب الامامة و الخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ففعل الناس ذلك و انكبّوا على «علي» عليه السّلام بايديهم و كان أول من صافق و هنأ عليّا أبو بكر و عمر واصفين إياه

بالولاية.

(1) و هنا قام «حسان بن ثابت الأنصاري» شاعر الاسلام و استأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أن ينشد شعرا بهذه المناسبة، فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائلا: قل على بركة اللّه.

فقام حسان و قال:

يناديهم يوم الغدير نبيهم بخم و أسمع بالنبيّ مناديا

و قد جاءه جبريل عن أمر ربّه بأنّك معصوم فلا تك وانيا

و بلّغهم ما انزل اللّه ربهم إليك و لا تخشى هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفّه بكف عليّ معلن الصوت عاليا

فقال فمن مولاكم و وليّكم فقالوا و لم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا و أنت وليّناو لن تجدن فينا لك اليوم عاصيا

فقال له: قم يا عليّ فإنني رضيتك من بعدي إماما و هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللّهم وال وليّه و كن للذي عادى عليّا معاديا

فيا ربّ انصر ناصريه لنصرهم امام هدى كالبدر يجلو الدياجيا (2) و لقد كان هذا الحديث على مدى التاريخ الاسلامي اكبر دليل على أفضلية علي عليه السّلام على جميع صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله كافة، حتى أن أمير المؤمنين عليا عليه السّلام احتج به مرارا فقد احتج به في مجلس الشورى الذي عقد لتعيين الخليفة عقيب وفاة الخليفة الثاني، و في أيام خلافة عثمان و في أيام

سيد المرسلين ،ج 2،ص:655

خلافته عليه السّلام أيضا، كما أن شخصيات كثيرة من وجوه المسلمين احتجوا به على منكري حق عليّ و أفضليته و كان ذلك دأبهم دائما و أبدا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:656

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

63 (1) 1- المتنبئون كذبا «1» [أدعياء النبوة] 2- التفكير في أمر الروم

اشارة

بعد الانتهاء من مراسم تعيين الخليفة في «غدير خم» انفصلت جموع الحجيج المشاركة في مراسم «حجة الوداع» من الوافدين من الشام و مصر، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في

أرض الجحفة و الذين شاركوا في هذه المراسم من «حضرموت» و «اليمن» انفصلوا عنه في هذه النقطة أو في نقطة سابقة و قفلوا راجعين إلى أوطانهم.

و لكنّ العشرة آلاف الذين خرجوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عادوا مع النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، و وصلوها قبل أن تأتي السنة العاشرة من الهجرة على نهايتها.

(2) كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون فرحين جدا لانتشار الاسلام في شتى نقاط الجزيرة العربية، و لانتهاء عهد الحاكمية الوثنيّة و الشرك في كل مناطق الحجاز، و بالتالى لزوال جميع الموانع و العراقيل التي كانت تحول دون نفوذ الإسلام، و انضواء الناس تحت لوائه المبارك.

لم يكن شهر ذي الحجة من السنة العاشرة قد انتهت بعد يوم قدم نفران من «اليمامة» المدينة، و سلّما كتابا من «مسيلمة» الذي عرف فيما بعد ب «مسيلمة

______________________________

(1) كانت مراسلة مسيلمة للنبي صلّى اللّه عليه و آله في نهايات السنة الهجرية العاشرة و كذا ادعاء الاسود العنسي للنبوة، و قد دمجنا ذكرهما في حوادث الفصل الثالث و الستين تقليلا لفصول هذا الكتاب.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:657

الكذّاب» إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ففتح أحد كتاب النبي صلّى اللّه عليه و آله الرسالة و قرأها عليه فكان مضمونها ان شخصا باليمامة يدعى «مسيلمة» يدّعي النبوة و يشرك نفسه مع رسول الإسلام في أمر الرسالة، و يريد من خلال كتابه أن يبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك، و يعرّفه بنبوته.

(1) و قد اثبتت كتب السير و التواريخ الاسلامية نصّ الكتاب المذكور.

و يوحي اسلوب الرسالة المذكورة بأنّ صاحبها اراد تقليد الاسلوب القرآني في البيان و التعبير و لكن محاولته

باءت بالفشل فلم يستطع تقليده، و اتى بعبارات خاوية خالية من روح، يفوقها الكلام العادي في القوة بدرجات.

فلقد كتب «مسيلمة» في كتابه هذا: «1».

أما بعد، فاني قد اشركت في الأمر معك، و ان لنا نصف الأرض، و لقريش نصف الارض، و لكنّ قريشا قوما يعتدون.

و لما وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على مضمون الرسالة، التفت إلى من حملها إليه و قال: «أما و اللّه لو لا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما لأنكما أسلمتما من قبل و قبلتما برسالتي فلم اتبعتما هذا الاحمق و تركتما دينكما».

(2) ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أملى على كاتبه كتابا إلى مسيلمة قصير المحتوى، مفحم المفاد. و إليك نصّ رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم.

من محمّد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب السلام على من اتبع الهدى.

أما بعد فانّ الارض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين» «2».

______________________________

(1) و من شدة جهله أنه لم يبدأ كتابه باسم اللّه، بل و لم يفعل ما فعله حتى المشركون في العهد الجاهليّ.

(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 600 و 601 و تكفي مقارنة بين نص الكتابين في معرفة حقيقة الشخصين.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:658

(1)

لمحة عابرة عن هوية مسيلمة:

كان مسيلمة من الأشخاص الذين وفدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة في السنة العاشرة من الهجرة و أسلم في من اسلم، و لكنه بعد أن عاد إلى موطنه ادّعى النبوة، و أجابه طائفة من السذّج و البسطاء، و ربما من المتعصبين من قومه. و لم يكن نجاح دعوته الباطلة في «اليمامة» دليلا على شخصيته الواقعية، بل التفّ حوله فريق ممن تبعه تعصبا و حمية

مع أنهم علموا بكذبه، و زيف دعوته إذ كانوا يقولون: «كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر» و قد قال هذه العبارة أحد اتباعه لما سأل مسيلمة ذات مرة: من يأتيك؟ قال: رحمان، قال: أ في نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال أشهد أنّك كذاب و أن محمّدا صادق و لكن كذّاب ربيعة احبّ إلينا من صادق مضر «1».

إن من المسلّم أنّ الرجل قد ادعى النبوّة، و تبعه على ذلك فريق من قومه، و لكنه لم يثبت قط أنه تصدّى لمعارضة القرآن، و ما اثر عنه- في النصوص التاريخية- من عبارات و جمل في معارضة القرآن لا يمكن أن تكون من كلام رجل فصيح كمسيلمة لأن عباراته العادية و احاديثه الأخرى في غاية البلاغة و الإتقان، فكيف تصدر منه هذه العبارات الضعيفة.

(2) و لهذا يمكن القول بأن ما نقل عنه- على غرار ما نقل عن معاصره «الاسود بن كعب العنسي» الذي ادعى النبوة معه في اليمن- إنما هي امور نسبت إليه، و الصقت به الصاقا لاسباب خاصّة لان عظمة القرآن و بلاغته الفائقة في حدّ لا يجرأ معها أحد على التفكير في معارضة القرآن و مقابلته، و يعلم كل عربيّ بحكم فطرته الالهية أنّ هذا الاسلوب الجذّاب و أنّ عظمة المعاني القرآنية و سمّوها تجعل القرآن الكريم فوق حدود الطاقة البشرية، فكيف يحاول أحد معارضته و مقابلته.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 508 و يقصد بالاول مسيلمة و بالثاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:659

(1) ثم ان مواجهة المرتدين من العرب كان أول ما قام به الخلفاء بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لهذا حوصرت منطقة «مسيلمة»

من قبل جنود الاسلام، و ضيّق عليه الحصار شيئا فشيئا، حتى اذا اتضحت هزيمة ذلك الكذاب، قال له بعض اتباعه السذج: أين ما كنت تعدنا (من النصر الالهي) فقال مسيلمة: أما الدين فلا، قاتلوا عن أحسابكم.

و لكن الدفاع عن الاحساب و الكرامة لم يجد مسيلمة و لا اتباعه شيئا، فقد قتل هو و فريق منهم في بستان على أيدي المسلمين، و انتهت بذلك خرافة نبوته المدّعاة «1».

إن هذه العبارة القصيرة تكشف عن انه كان رجلا فصيحا و ناطقا بليغا، كما انها تفيد انه لم يكن صاحب تلك العبارات الباردة الخاوية التي نسبت إليه- في التاريخ و السيرة- في معارضة القرآن الكريم.

(2)

التفكير في أمر الروم:

مع أن ظهور مثل هؤلاء المتنبئين الكذبة في شتى مناطق الحجاز كان خطرا على وحدة أهلها الدينية، فان التفكير في أمر الروم الذين كانت الشامات و فلسطين من مستعمراتهم آنذاك- كان يستأثر باهتمام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اكثر من غيره لأنه كان يعلم بأنّ القادة اللائقين في اليمامة و اليمن قادرين على مواجهة المتنبئين، و لهذا قضي على «الاسود العنسي» و هو رجل آخر ادّعى النبوة كذبا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذلك بعد يوم من وفاة النبي على والي اليمن.

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله متيقنا و واثقا من أن الدولة الرومية التي تلاحظ اتساع رقعة النفوذ الاسلامي الصاعد، و التي رأت كيف أن رسول

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 514- 516. سيد المرسلين ج 2 660 التفكير في أمر الروم: ..... ص : 659

سيد المرسلين ،ج 2،ص:660

الاسلام استطاع أن يقتلع جذور اليهودية من الحجاز، و فرض الجزية على فريق النصارى يدفعونها للحكومة الاسلامية،

غاضبة لذلك اشدّ الغضب.

(1) لقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله منذ أمد بعيد يعتبر خطر الروم خطرا جديّا لا يمكن التغاضي عنه و احتقاره، و لهذا السبب نفسه وجه في السنة الثامنة من الهجرة جيشا كبيرا قوامه ثلاثة آلاف بقيادة «جعفر بن أبي طالب» و «زيد بن حارثة» و «عبد اللّه بن رواحة» إلى تخوم الشام حيث يسيطر الروم، و قد استشهد في هذه المعركة القادة الثلاثة، و قفل الجيش الاسلامي راجعا إلى المدينة من دون انتصارات بتدبير من خالد بن الوليد.

و في السنة التاسعة عند ما بلغه نبأ استعداد الروم لمهاجمة الحجاز و هو آنذاك في المدينة خرج صلّى اللّه عليه و آله بشخصه على رأس جيشه قوامه ثلاثون ألفا إلى تبوك، و عاد من دون مواجهة إلى المدينة.

(2) و لهذا كان هذا الخطر جديا في نظر النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و من هنا فانه صلّى اللّه عليه و آله لما عاد من «حجة الوداع» الى المدينة هيّأ جيشا من المهاجرين و الانصار اشرك فيه اشخاصا معروفين بارزين مثل أبي بكر و عمر و أبي عبيدة و سعد بن الوقاص و. و. و أمر بأن يشارك فيه كل من هاجر إلى المدينة خاصة «1».

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لتحريك مشاعر المجاهدين عقد بيده «2» لواء لأسامة بن زيد الذي أمّره على ذلك الجيش. و قال له:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 642، النص و الاجتهاد: ص 12.

(2) يذهب كتّاب السنّة إلى أن النبي عقد اللواء المذكور في 26 صفر، و حيث أن وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله حسب روايتهم كانت في 12 ربيع الاول لهذا

فان من الممكن ان تقع الحوادث التي سيأتي ذكرها مستقبلا تدريجا في مدة 16 يوما، و لكن حيث أن الشيعة يرون تبعا لما رواه عترة النبي أن وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله كانت في 28 صفر لهذا يجب أن يكون عقد اللواء قد تمّ قبل 26 صفر بمدة ليمكن وقوع كل هذه الحوادث الكثيرة في هذه المدة.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:661

«سر الى موضع قتل ابيك فاوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش، فاغز صباحا و شنّ الغارة على أهل ابنى» «1».

فاعطى «اسامة» اللواء الى «بريدة» و عسكر بالجرف «2» ليلتحق به جنود الاسلام أفواجا أفواجا، و ليتحرك الجميع في وقت واحد.

(1) لقد اختار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقيادة هذا الجيش شابا في مقتبل العمر، و أمّره على طائفة كبيرة من شيوخ الانصار و المهاجرين، و لقد أراد صلّى اللّه عليه و آله من فعله هذا أمرين:

أولا: أن يجبر- من خلال ذلك- ما لحق من المصيبة باسامة بسبب مقتل والده «زيد بن حارثة» الذي استشهد في معركة مؤتة مع الروم، و ليرفع من شخصيته.

ثانيا: أراد أن يؤكد قانونه في مجال التوصيف و توزيع المناصب و المسئوليات و يجعل ذلك على اساس الكفاءة و الشخصية القيادية ان المناصب و المسئوليات الاجتماعية لا تحتاج إلى غير الكفاءات و الموهّلات و لا ترتبط بحال بالعمر و السن. لقد فعل النبي ذلك حتى يهيّى الشباب الذين يتمتعون بالموهّلات الكافية لتسلّم المسئوليات الاجتماعية الثقيلة و يحلموا أن المناصب و المهامّ- في النظام الاسلامي- ترتبط ارتباطا مباشرا بالكفاءة و المؤهلات القيادية، لا العمر و السنّ.

(2) ثم ان الاسلام الواقعي هو الانضباطية الشديدة و الانقياد الكامل تجاه التعاليم الالهية السامية، و

المسلم الحقيقي هو من ينقاد لتعاليم اللّه تعالى و اوامره تعاليمه و يقبل بها من كل قلبه كجندي في ساحة القتال، سواء أ كانت له فيها نفع أم لا، و سواء أ كانت تضرّ به أم لا، و سواء أ كانت مطابقة لأهوائه و مطامحه أم لا.

______________________________

(1) «ابنى» من مناطق البلقاء و تقع في الأراضي السورية و قرب مؤتة بين «عسقلان» و «الرملة».

(2) منطقة واسعة على بعد ثلاثة أميال مدينة من جانب الشام.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:662

(1) و لقد بيّن الامام علي عليه السّلام حقيقة الاسلام في عبارة موجزة و لكن بليغة و معبرة اذ قال: «الاسلام هو التسليم» «1».

إن الذين يؤمنون ببعض تعاليم الاسلام دون بعض، كلما واجهوا ما لا يوافق اهواءهم الباطنية منها اعترضوا عليه و حاولوا التملّص من المشاركة في تنفيذه بشتى المعاذير و الحجج.

لا شك أن هذا الفريق يفتقر إلى روح الانضباطية، و التسليم الواقعيّ و الانقياد الكامل الذي يمثل روح الاسلام و أساسه.

لقد كان تأمير قائد شاب يدعى «اسامة بن زيد» الذي لم يكن يتجاوز يومذاك- العشرين عاما «2» شاهد صدق على ما نقول، لأنّ تأميره على لفيف من الصحابة يكبرون عنه في العمر أضعافا شقّ على البعض، لأنهم اعترضوا على الاجراء، و طعنوا في اسامة، و اطلقوا عبارات تكشف جميعها عن افتقارهم لروح الانقياد و الطاعة و التسليم الذي يجب أن يتحلى بها الجندي المسلم تجاه قائد الاسلام الأعلى (النبي)، و اوامره و تعييناته.

و لقد كان محور كلامهم هو أن النبي أمّر شابا صغير السنّ على شيوخ من الصحابة «3».

(2) و لكنهم غفلوا عن المصالح و الأهداف التي توخّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هذا الإجراء، و كانوا

يقدّرون كل عمل بعقولهم الضيقة المحدودة، و يقيسونه بمقايسهم الشخصية.

فرغم أنهم لمسوا من قريب كيف أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يحرص على تعبئة هذا الجيش و بعثه، و لكن عناصر مشبوهة أخّرت حركة الجيش المذكور

______________________________

(1) نهج البلاغة: قصار الحكم 125.

(2) ذهب البعض مثل السيرة الحلبية إلى انه كان في السابعة عشرة من عمره و ذهب آخرون إلى انه كان في الثامنة عشرة من عمره. المهم انهم اتفقوا على انه لم يتجاوز العشرين سنة.

(3) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 190.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:663

من معسكر «الجرف» و توجهه إلى النقطة المطلوبة، و كانت تسعى لعرقلة هذه المهمة.

(1) و بعد يوم من عقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اللواء لاسامة تمرّض صلّى اللّه عليه و آله بشدة و أصابه صداع شديد تركه طريح الفراش و استمر هذا المرض عدة أيام حتى قضى صلوات اللّه عليه.

و قد علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مرضه أنّ هناك من تخلّف عن جيش اسامة و أن هناك من يعرقل توجّهه نحو المنطقة التي عيّنها، و أن هناك بالتالي من يطعن في اسامة فغضب صلّى اللّه عليه و آله لذلك غضبا شديدا، و خرج و هو يلتحف قطيفة، و قد عصّب جبهته بعصابة إلى مسجده ليتحدث إلى المسلمين من قريب، و يحذّرهم من مغبّة هذا التخلّف، فصعد المنبر على ما هو عليه من حمّى شديدة و بعد أن حمد اللّه و اثنى عليه قال:

«أمّا بعد أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميرى اسامة، و لئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله و أيم اللّه كان للإمارة خليقا و إن

ابنه من بعده لخليق للإمارة، و إن كان لمن أحبّ الناس إليّ و انّهما لمخيلان لكل خير، و استوصوا به خيرا فانه من خياركم».

(2) ثم نزل صلّى اللّه عليه و آله و دخل بيته و اشتدت به الحمى، فجعل يقول لمن يعوده من أصحابه:

«أنفذوا بعث اسامة» «1».

و لقد بلغ من إصرار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على بعث جيش اسامة انه كان يقول و هو في فراش المرض:

«جهزوا جيش اسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه» «2».

و قد تسببت هذه التاكيدات في أن يحضر جماعة من المهاجرين و الأنصار

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 190.

(2) الملل و النحل: ج 1 المقدمة الرابعة ص 23.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:664

عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للتوديع و الخروج عن المدينة تلقائيا و الالتحاق بجيش اسامة في معسكره بالجرف.

(1) و فيما كان اسامة يتهيّأ للتوجه بجيشه إلى حيث أمر الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله بلغ بعض الصحابة الحاضرين في الجيش انباء عن تدهور صحة النبي صلّى اللّه عليه و آله فتسببت في عدولهم عن الحركة حتى كان يوم الاثنين، فحضر اسامة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليودّعه فرأى آثار التحسن بادية على ملامح النبي صلّى اللّه عليه و آله.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حاثا اياه على المبادرة و المسارعة في الخروج:

«اغد على بركة اللّه» «1».

(2) فعاد اسامة إلى المعسكر و أمر بالتحرك فورا، و لكن الجيش لم يكن قد غادر «الجرف» بعد، حتى جاء نبأ من المدينة بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحتضر، فعمد من كانوا يبحثون عن حجة للتخلف عن جيش اسامة، و الذين

حاولوا خلال ستة عشر يوما أن يعرقلوا توجهه بشتى المعاذير و الحجج إلى التوسل هذه المرة بقضية احتضار النبي صلّى اللّه عليه و آله و عادوا إلى المدينة فورا، و عاد الجيش برمته هو الآخر إلى المدينة متجاهلين- جميعا- أوامر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالخروج.

و لم يتحقق أحد آمال النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله في أيام حياته بسبب اللاانضباطية التي ابداها فريق من شيوخ القوم و اعيان الجيش.

(3)

الاعذار غير المقبولة:

إن خطأ كبيرا كهذا ارتكبه بعض من تسلّم أمور الخلافة بعد رسول اللّه

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 190.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:665

صلّى اللّه عليه و آله و سموا أنفسهم خلفاء النبي لا يمكن أن يبرّر أبدا.

و لقد أراد بعض علماء السنة أن يبرّروا هذا التخلف بطرق و وجوه مختلفة إلّا أنهم عجزوا- رغم ذلك- أن يخرجوا عذرا مقبولا و دليلا مرضيا لأولئك المتخلفين عن جيش اسامة.

و للاطلاع على ما نحت لذلك من أعذار سقيمة راجع «المراجعات» «1».

و «النص و الاجتهاد» «2».

(1)

الاستغفار لأهل البقيع:

كتب فريق من اصحاب السيرة ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج في الليلة التي توفي في صبيحتها مع أبي مويهبة خادمه إلى البقيع مع ما كان عليه من شدة الحمّى و الوجع ليستغفر لأهل البقيع «3».

و لكن المؤرخين الشيعة يرون أن النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم أحس بالوجع اخذ بيد «عليّ» عليه السّلام و خرج معه إلى البقيع و خرج خلفه جماعة فقال لمن خرج معه:

«إنّي امرت أن استغفر لأهل البقيع».

و عند ما جاء البقيع سلّم على أهل القبور هناك و قال:

«السلام عليكم أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح الناس فيه اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا يتبع آخرها أوّلها».

(2) ثم استغفر و دعا لأهل البقيع طويلا ثم التفت إلى عليّ عليه السّلام و قال: يا عليّ إنّي خيّرت بين خزائن الدنيا و الخلود فيها أو الجنّة فاخترت لقاء ربّي و الجنّة. إن جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة و قد عرضه عليّ العام مرّتين و لا

______________________________

(1) المراجعة 90 و 91.

(2) ص 15- 16.

(3) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 204.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:666

أراه إلّا لحضور

أجلي» «1».

(1) انّ الذين ينظرون إلى الكون من المنظار المادي البحت و يحصرون كل الوجود في أطار المادة و آثارها، فالوجود عندهم يساوق المادة قد يتردّدون في قبول هذا الأمر، و يقولون: كيف يمكن مخاطبة الأرواح؟ و كيف يمكن الاتّصال بهم؟

كيف يمكن أن يعرف المرء بموته و أجله؟

و لكن الذين كسروا جدار المادية هذا و اعتقدوا بوجود الروح المجردة عن البدن المادي العنصري لا ينكرون مسألة الارتباط و الاتصال بالارواح «2»، و يعتبرونه امرا ممكنا و واقعيا.

ثم ان النبي الذي يتحلى بالعصمة في مجال ارتباطه بعالم الوحي و العوالم المجرّدة من المادة، يمكنه- على وجه القطع و اليقين- أن يخبر عن حلول أجله بأمر اللّه و اذنه و إخباره إياه.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 466 و 472، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 204.

(2) طبعا نحن لا نعترف بكل ما يدعيه ادعياء الاتصال بالارواح فان لذلك طريقه الصحيح، و أسلوبه المشروع.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:667

(1)

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة

64 الكتاب الذي لم يكتب

اشارة

تعدّ الايام الاخيرة من حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله من اكثر حقول التاريخ الاسلامي أهميّة و حساسية و دقة.

لقد مرّ الاسلام و المسلمون في تلك الايام بساعات مؤلمة، و حرجة.

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة لاوامر النبي صلّى اللّه عليه و آله و تخلّفهم عن جيش اسامة كل ذلك كان يكشف عن نشاطات سرية تنبئ عن عزمهم المؤكّد على الاستيلاء على زمام الحكومة و الإمارة و القيادة السياسية في المجتمع الاسلامي بعد رحيل النبي صلّى اللّه عليه و آله و إزاحة الخليفة الذي نصبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغدير للإمارة عن مسند الحكم.

(2) و لقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه عارفا بنواياهم على

نحو الاجمال و لهذا كان يصرّ على خروج جميع أعيان الصحابة في جيش اسامة و مغادرة المدينة فورا لمقاتلة الروم، لكي يعطل بذلك خطتهم.

و لكن دهاة السياسة اعتذروا عن الخروج مع اسامة بحجج و معاذير معينة، لكي يستطيعوا من تنفيذ خططهم بل و عرقلوا مسير الجيش المذكور حتى توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فعادوا إلى المدينة- بعد توقّف دام 16 يوما- على أثر تدهور صحة النبي و احتضاره، فلم يتحقق ما كان يريده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تفريغ المدينة منهم، فلا يكون أحد منهم فيها يوم وفاته ليستطيع خليفته المنصوب للامارة

سيد المرسلين ،ج 2،ص:668

يوم غدير خم (نعنى الامام عليا) من تسلم زمام الحكم دون منازع و مزاحم من المعارضين السياسيين.

(1) إنهم لم يكتفوا فقط بالعودة إلى المدينة بل حاولوا أن يحولوا دون أي عمل من شأنه أن يؤدي إلى دعم و تثبيت منصب الامام علي و خلافته لرسول اللّه بلا فصل، فحاولوا منع النبي صلّى اللّه عليه و آله و صرفه عن البحث في هذه المسألة بشتى الوسائل، و السبل.

فعمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي عرف بنشاط بعض زوجاته من بنات بعض اولئك الصحابة، المشين، عمد إلى الخروج إلى المسجد مع ما كان عليه من الحمّى و الوجع، و وقف إلى جانب المنبر و قال للناس بصوت عال سمع خارج المسجد:

«أيّها الناس سعّرت النار، و أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، و إنّي و اللّه ما تمسّكون عليّ بشي ء، اني لم احلّ إلّا ما أحلّ اللّه، و لم احرّم إلّا ما حرّم اللّه» «1».

إنّ هذه العبارة تكشف عن القلق الشديد الذي كان يحمله النبي صلّى اللّه عليه و

آله على مستقبل الاسلام بعد وفاته، فما هو المقصود- ترى- من النار التي سعرت؟

أ ليس هي فتنة الاختلاف و الافتراق التي كانت تنتظر المسلمين، و التي اشتعلت بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تعالى لهيبها، و لا يزال ذلك اللهيب مشتعلا، و تلك النار مستعرة؟!

(2)

ايتوني بقلم و قرطاس:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعرف بما يجرى من نشاطات خارج

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 2 ص 654، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 215 و 216.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:669

منزله للسيطرة على مقاليد الحكم، و لهذا قرر بغرض الحيلولة دون انحراف مسألة الخلافة من محوره الأصلي و الحيلولة دون ظهور الاختلاف و الافتراق- أن يدعم مكانة عليّ و يعزر امارته و خلافته و خلافة أهل بيته، و ذلك بأن يثبت الأمر في وثيقة حيّة و خالدة تضمن بقاء الخلافة في خطها الصحيح.

(1) من هنا يوم جاء بعض الصحابة لعيادته اطرق برأسه إلى الارض ساعة ثم قال بعد شي ء من التفكير و قد التفت إليهم:

«ايتوني بدواة و صحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلون بعده».

فبادر عمر و قال: ان رسول اللّه قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب اللّه «1».

فناقش الحاضرون رأى الخليفة، فخالفه قوم و قالوا: هاتوا بالدواة و الصحيفة ليكتب النبي ما يريد، و ناصر آخرون عمر و حالوا دون الاتيان بما طلبه النبي، و وقع تنازع بينهم و كثر اللغط فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بشدة لتنازعهم و لما وجّه إليه من كلمة مهينة، و قال:

«قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع»

قال ابن عباس بعد نقل هذه الواقعة المؤلمة المؤسفة: «الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا و بين كتاب رسول اللّه» «2».

(2) إن هذه الواقعة

التاريخية قد نقلها فريق كبير من محدثي الشيعة و السنة و مؤرخيهم و تعتبر روايتها- حسب قواعد فنّ الدراية و الحديث- من الروايات المعتبرة الصحيحة غاية ما في الأمران اغلب محدّثي أهل السنة نقلوا كلام «عمر» بالمعنى لا باللفظ، و لم يورد نص الكلمات الجارحة النابية التي نطق بها في ذلك

______________________________

(1) الملل و النحل: ج 1 المقدمة الرابعة ص 22. طبعا لم يكن الهدف من «اكتب» أن يكتب النبي بيده ذلك الكتاب فالنبي لم يكتب شيئا في حياته أبدا كما هو مبحوث في ابحاث أميّة النبي بل المقصود هو الإملاء على كاتب.

(2) صحيح البخاري كتاب العلم: ج 1 ص 22 و ج 2 ص 14، صحيح مسلم: ج 2 ص 14 مسند أحمد: ج 1 ص 325، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 244، الملل و النحل: ج 1 ص 22.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:670

المجلس المقدس.

(1) و لا يخفى أن الإحجام عن نقل نص عبارته ليس لأجل أن العبارات التي تفوه بها تعدّ إهانة لمقام النبوة، بل ان هذا التصرف لأجل الحفاظ على مقام الخليفة و مكانته حتى لا يسي ء الآخرون النظرة إليه اذا عرفوا بما قاله في حق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

من هنا عند ما بلغ أبو بكر الجوهري مؤلف كتاب «السقيفة» في كتابه إلى هذا الموضع من القضية قال عند نقل كلام عمر هكذا: و قال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول اللّه «1».

و لكن بعضا آخر عند ما يريد نقل ما قاله الخليفة لا يصرّح باسمه حفظا لمقامه فيقول: فقالوا: هجر رسول اللّه «2».

إن من المسلّم ان مثل هذه العبارة الجارحة النابية لو صدرت عن أي شخصية مهما كان

مقامها لعدّت ذنبا لا يغتفر لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله بنص القرآن مصون من أي نوع من انواع الخطأ و الاشتباه و الهذيان فهو لا ينطق إلّا بالوحي.

(2) إن اختلاف الصحابة لدى رسول اللّه الطاهر المعصوم صلّى اللّه عليه و آله و في محضره كان عملا سيئا، و مشينا إلى درجة أن احدى أزواجه صلّى اللّه عليه و آله اعترضت على هذه المخالفة و قالت من وراء حجاب: أ لا تسمعون النبي صلّى اللّه عليه و آله يعهد إليكم؟ ائتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحاجته.

فقال عمر: اسكتن فانكن صويحبات يوسف. اذا مرض عصرتنّ اعينكنّ.

و اذا صحّ أخذتنّ بعنقه «3».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة الحديدي: ج 2 ص 20.

(2) صحيح مسلم: ج 1 ص 14، مسند أحمد: ج 1 ص 355.

(3) كنز العمال: ج 3 ص 138، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 244. و في الطبقات: ان النبي قال (في الرد على عمر) هنّ خير منكم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:671

(1) ان بعض المتعصبين و ان التمسوا لمخالفة الخليفة لطلب النبي اعذارا «1» في الظاهر إلّا انّهم خطّئوا كلامه الذي قال فيه «حسبنا كتاب اللّه»، و اعتبروه كلاما غير صحيح، و صرّحوا جميعا بأن الركن الاساسي للاسلام هو السنة النبوية، و لا يمكن أن يغني كتاب اللّه الامة الاسلامية عن احاديث رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله و اقواله.

و لكن الاعجب من كل ذلك أن الدكتور «هيكل» مؤلف كتاب «حياة محمّد» «2» ضمن دفاعه عن الخليفة كتب يقول: ما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنهم أضاعوا شيئا كثيرا بأن لم يسارعوا إلى كتابة ما أراد النبيّ إملاءه. أمّا عمر فظلّ و رأيه أن قال

اللّه في كتابه الكريم: «ما فرّطنا في الكتاب من شي ء» «3».

(2) فلو أنه لاحظ ما قبل هذه الجملة القرآنية و ما بعدها لما فسرها بمثل هذا التفسير، و لما أيّد الخليفة في مقابل نصّ النبي المعصوم المطاع، لأن المقصود من الكتاب في الآية هو الكتاب التكويني، و صفحات الوجود، فان لكل نوع من الانواع في عالم الوجود صفحة من كتاب الصنع، و تشكل كل الصفحات غير المعدودة كتاب الخليقة و الوجود و إليك نص الآية:

«وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» «4».

و حيث أن ما قبل الجملة التي استدل بها يرتبط بخلقة الدواب و الطيور، و يرتبط ما بعدها بموضوع الحشر في يوم القيامة يمكن القول بصورة قاطعة بان المراد من الكتاب في الجملة المستدل بها و الذي لم يفرّط فيه من شي ء هو الكتاب التكويني، و صفحة الخلق.

______________________________

(1) رد العلامة المجاهد السيد شرف الدين في كتاب المراجعات المراجعة 86 جميع هذه الاعذار بصورة رائعة.

(2) حياة محمّد: ص 501.

(3) الانعام: 38.

(4) الانعام: 38.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:672

(1) ثم اننا لو قبلنا بأن المقصود من الكتاب هو القرآن الكريم فان من المسلّم أن فهم هذا الكتاب- و بحكم تصريحه- يحتاج إلى بيان النبي و هدايته كما يقول:

«و أنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم» «1».

تأمل في هذه الآية فانها لا تقول «لتقرأ» بل تقول بصراحة: «لتبيّن».

و على هذا الاساس اذا كان كتاب اللّه كافيا لم نحتج إلى توضيح النبي و بيانه احتياجا شديدا «2».

و لو كان حقا أن الامة الاسلامية لا تحتاج إلى النبي فلما ذا كان حبر الامة و

عالمها الكبير ابن عباس يقول: يوم الخميس و ما ادراك ما يوم الخميس ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خده كأنها نظام اللؤلؤ و قال: قال رسول اللّه ايتونى بالكتف و الدواة أو اللوح و الدواة اكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا ...

فقالوا ... «3».

فمع هذا الحزن الذي كان يبديه ابن عباس، مضافا إلى الاصرار الذي أظهره رسول اللّه كيف يمكن القول بان القرآن يغني الامة الاسلامية من هذه الوصية (أو الكتاب) الذي كان النبي يريد كتابته.

و الآن إذا كان النبي لم يوفق لكتابة الكتاب و املائه فهل يمكن ان نحدس- في ضوء القرائن القطعية- ما ذا كان ينوي النبيّ كتابته في هذه الرسالة؟

(2)

ما ذا كان الهدف من الكتاب؟

إن الطريقة الجديدة و القويمة في تفسير القرآن الكريم التي اصبحت اليوم موضع عناية المحققين و العلماء في هذا العصر هو رفع إبهام الآية و اجمالها في موضوع معين بواسطة آية اخرى تتحدث عن ذلك الموضوع ذاته و لكنها أوضح من الاولى

______________________________

(1) النحل: 44.

(2) ان بيان مدى حاجة القرآن إلى بيان النبي خارج عن نطاق هذه الرسالة، فاطلبه في محله.

(3) مسند احمد: ج 1 ص 355. صحيح البخاري: كتاب الجزية ج 4 ص 65 و 66.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:673

دلالة و مفادا، و بعبارة اخرى الاستعانة في تفسير آية بآية اخرى.

إن هذه الطريقة لا تختصّ بتفسير آيات القرآن بل تنسحب على الأحاديث و الروايات الاسلامية أيضا اذ يمكن رفع الاجمال عن حديث بحديث مشابه، لأن القادة الكبار يتحدثون في موضوع مهمّ و خطير بصورة مؤكدة و مكررة لا تتشابه و لا تتحد في دلالتها، فقد تكون دلالتها على الآية واضحة و قد يكون بيان المقصود فيها بالاشارة و الكناية حسب المقتضيات.

(1)

قلنا ان النبي صلّى اللّه عليه و آله طلب من اصحابه و هو في فراش المرض دواة و صحيفة ليملي عليهم شيئا لا يضلّون بعده أبدا ثم تسبب التنازع الذي حدث بين الحاضرين في ان ينصرف من كتابة ما اراد.

يمكن أن يسأل سائل: ما ذا كان يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتابته في ذلك الكتاب.

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة لأنه مع أخذ الأصل الذي ذكرناه في مطلع البحث بنظر الاعتبار يجب القول بأن هدف النبي لم يكن الّا تعزيز الوصيّة و دعم خلافة الامام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و امرته و التأكيد على لزوم اتباع اهل بيته الذي صرح به النبي صلّى اللّه عليه و آله في الغدير و غيره.

(2) و هذا المطلب يستفاد من حديث الثقلين المتفق عليه بين محدثى السنة و الشيعة، لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال في شأن الكتاب الذي نوى كتابته:

انه يبتغي كتابة شي ء لا يضلون بعده ابدا. و قد جاءت هذه العبارة بعينها في حديث الثقلين اذ يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معتبرا عدم الضلال بعده معلولا لاتباع الكتاب و العترة اذ قال:

«إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي» «1».

______________________________

(1) صحيح الترمذي: ج 5 ص 328 ح 3874 جامع الاصول: ج 1 ص 187 راجع المراجعات:

المراجعة 8.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:674

(1) أ لا يمكن بعد ملاحظة هذين الحديثين و التشابه الموجود بينهما الحدس- بصورة قطعية- بان ما كان يهدفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من طلب الدواة و الصحيفة هو مفاد كتابة حديث الثقلين، أو ما هو أعلى ممّا يفيده

حديث الثقلين و هو تعزيز و دعم ولاية الامام علي عليه السّلام و خليفته مباشرة و بلا فصل و هو الذي عيّنه للإمارة و الخلافة في الثامن عشر من شهر ذي الحجة عند مفترق طرق الحجاج المدنيين و العراقيين و المصريين و الحجازيين و أعلن عن ذلك بصورة شفاهية.

هذا مضافا إلى أن مخالفة من شكّل شورى الخلافة في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رشح رفيقه القديم للخلافة بصورة خاصة بعد رحيل رسول اللّه إلى ربّه، و حصل هو بدوره على اجرته عند موت الأوّل بصورة نقديّة و عينه للخلافة خلافا لجميع القواعد و الاصول، خير شاهد على أن القرائن التي كانت في مجلس النبي و كلامه كانت تكشف عن أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يريد أن يملي علي كاتبه امرا يتعلق بخلافة المسلمين و الامارة و القيادة التي اثبتها لعلي و اهل بيته الطاهرين في احاديثه و خطبه.

و لهذا خالف القوم الحضور هذا المطلب بشدة و حالوا دون الاتيان بالقلم و القرطاس بوقاحة، و خالفوا كتابة شي ء، و إلّا فلما ذا أصرّوا في مخالفتهم ...

و ارتكبوا ما ارتكبوا.

(2)

لما ذا لم يصرّ النبي في كتابة الكتاب؟

كان في إمكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رغم معاكسات جماعة من أصحابه أن يطلب كاتبه و يكتب الكتاب الذي كان يريد، فلما ذا لم يتصرف هكذا، و لم يستغل مكانته القويّة بل امتنع عن ذلك؟

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة: فلو أن النبي كان يصرّ على كتابة الكتاب لأصرّوا في الاساءة الى النبي الذي قالوا عنه انه غلبه الوجع أو هجر،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:675

و لعمد أنصارهم إلى اشاعة و بثّ هذا الأمر الرخيص، و

صنعوا لاثباته الافاعيل فكانت تتسع رقعة الاساءة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الحالة و تستمرّ، فتفقد الرسالة أثرها المنشود.

من هنا عند ما قال البعض للنبي- ملافاة لما لحق به من الأذى- أبعد الذي قلتم؟ فقال:

«أبعد الذي قلتم؟ لا و لكن اوصيكم بأهل بيتي خيرا» «1».

(1)

ملافاة الأمر و تداركه:

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة و إن صرفت النبي عن الكتابة إلّا انه بلّغ مقصوده من طريق آخر، فهو- بشهادة التاريخ- بينما كان يعاني المرض، و الوجع الشديدين، خرج إلى المسجد و هو متوكئ على «علي بن أبي طالب» و «ميمونة» مولاته فجلس على المسجد ثم قال:

«يا أيّها الناس إنى تارك فيكم الثقلين».

و سكت، فقام رجل فقال: يا رسول اللّه ما هذان الثقلان؟ فغضب حتى احمرّ وجهه ثم سكن، قال:

«ما ذكرتهما إلّا و أنا اريد أن أخبركم بهما و لكن ربوت فلم استطع، سبب طرفه بيد اللّه، و طرف بايديكم، تعلمون فيه كذى، ألا و هو القرآن، و الثقل الأصغر أهل بيتى».

ثم قال:

«و أيم اللّه إني لأقول لكم هذا و رجال في اصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم».

ثم قال:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 469 نقلا عن الارشاد و اعلام الورى.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:676

«و اللّه لا يحبّهم عبد إلّا أعطاه اللّه نورا يوم القيامة حتى يرد عليّ الحوض، و لا يبغضهم عبد إلّا احتجب اللّه عنه يوم القيامة» «1».

(1) هذا و قد روى ابن حجر العسقلاني تدارك ما فات بصورة اخرى، و لا تنافي بين الصورتين، اذ يمكن وقوع كليهما.

انه يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لاصحابه و قد امتلأت بهم الحجرة و هو في مرضه الذي قبض فيه:

«أيّها الناس يوشك

أن أقبض قبضا سريعا، فينطلق بي، و قد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلف فيكم كتاب اللّه ربي عزّ و جلّ و عترتي أهل بيتي».

ثم أخذ بيد على عليه السّلام فقال:

«هذا عليّ مع القرآن و القرآن مع علي، خليفتان نصيران، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألهما ما ذا خلّفت فيهما» «2».

(2) فمع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذكر حديث الثقلين «3» قبل مرضه في مواضع متعددة و بألفاظ مختلفة، و لفت نظر الناس إلى أهميّة هذين الثقلين، و لكنه لفت الأنظار مرة اخرى و هو في فراش المرض أمام جمع اصحابه الذين حالوا دون كتابة ما اراد إلى عدم افتراق القرآن و العترة يمكن الحدس بأن الهدف من التكرار هو تدارك ما فات من كتابة الكتاب الذي لم يوفق لكتابته.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 نقلا عن مجالس المفيد.

(2) الصواعق المحرقة: الباب 9 من الفصل الثاني ص 57 و كشف الغمة: ص 43.

(3) حديث الثقلين من الروايات المتفق عليها بين الشيعة و السنة و قد نقل عن الصحابة باكثر من 60 طريقا يقول ابن حجر العسقلاني في الصواعق ص 136: و قد خصص المرحوم مير حامد حسين الهندي قسما من موسوعته «العبقات» بذكر اسناده حديث الثقلين و دلالته. و قد طبعت في ستة أجزاء مؤخرا.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:677

(1)

تقسيم الدنانير:

دأب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مجال بيت المال أن يوزع أمواله في أقرب فرصة سانحة بين الفقراء و المحتاجين.

و عند ما كان في فراش المرض تذكّر أن هناك دنانير عند إحدى زوجاته فطلبها فورا، فاحضرتها عنده فاخذها صلّى اللّه عليه و آله بيده و قال:

«ما ظنّ محمّد باللّه لو

لقي اللّه و هذه عنده؟ انفقيها».

ثم أمر عليا عليه السّلام فتصدّق بها «1».

(2)

غضب النبي من الدواء الذي سقي:

لما كانت أسماء بنت عميس و هي من قريبات «ميمونة» زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله، و التي اقامت ايام الهجرة زمنا في الحبشة تعلّمت من أهلها صنع عقار مركب من النباتات و الاعشاب المختلفة، فلما اشتكى و اغمى عليه تصورت ان الذي دهاه هو داء: «ذات الجنب»، و كانوا في الحبشة يداوون هذا المرض بذلك العقار، فعمدت إلى معالجته بذلك الدواء، بصبّ شي ء منه في فم النبي صلّى اللّه عليه و آله و لما أفاق و عرف بما صنعوا غضب و قال:

«ما كان اللّه ليسلّط عليّ ذات الجنب» «2».

(3)

وداع النبي مع أهله:

خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أيام مرضه إلى مسجده مرارا يصلّي بالناس، و يذكّرهم امورا.

و ذات يوم من أيام مرضه اخرج الى مسجده معصوب الرأس متكئا على

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 238 و 239.

(2) الطبقات: ج 2 ص 235.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:678

«علي» عليه السّلام بيمنى يديه و على الفضل باليد الاخرى فصعد المنبر فحمد اللّه و اثنى عليه ثم قال:

«أما أيها الناس فان قد حان مني خفوق بين اظهركم فمن كانت له عندى عدة فليأتني أعطه اياها، و من كان له عليّ دين فليخبرني به».

(1) فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه ان لي عندك عدة، اني تزوجت فوعدتني ان تعطيني ثلاثة أواقي.

فقال صلّى اللّه عليه و آله انحلها يا فضل ثم نزل و عاد إلى بيته.

فلما كان يوم الجمعة- ثلاثة ايام قبل وفاته- صعد المنبر فخطب و قال فيما قال:

«أيّ رجل كانت له قبل محمّد مظلمة إلّا قام فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رءوس الملائكة و الاشهاد».

فقام إليه رجل يقال له سوادة

بن قيس فقال: انك لما اقبلت من الطائف استقبلتك و أنت على ناقتك العضباء و بيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب و أنت تريد الراحلة فاصاب بطني.

فقال صلّى اللّه عليه و آله لبلال: قم الى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق.

ان طلب النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا بان يقتص منه من له ذلك لم يكن مجرد مجاملة اخلاقية بل كان صلّى اللّه عليه و آله يريدان ينبه الناس إلى أهمية مثل هذه الحقوق جدا «1» و لما أتى بالقضيب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال صلّى اللّه عليه و آله: اين الشيخ؟ قال سوادة: ها انا ذا يا رسول اللّه بابي أنت و أمي فقال صلّى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) هذا مضافا إلى ان ضرب بطن سوادة بالقضيب من قبل النبي لم يكن عمدا و لهذا لم يكن له الحق إلّا في اخذ الدية دون القصاص، مع ذلك أراد النبي أن يلبي طلبه لما قال اريد ان اقتص.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:679

«فاقتصّ منّي حتى ترضى».

فقال سوادة: فاكشف لي عن بطنك.

ثم انه وسط دهشة الصحابة و حزنهم و غمهم و بكائهم تقدم سوادة إلى النبي و قال: أ تأذن لي ان اضع فمي على بطنك؟ فاذن له، فقال اعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه، و قبّل بطن النبي و صدره الشريف. فدعا له رسول اللّه و قال:

اللّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيك محمّد «1».

______________________________

(1) مناقب آل أبي طالب: ج 1 ص 235.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:680

(1)

65 اللحظات الأخيرة

اشارة

كان القلق و الاضطراب يلفّ المدينة المنورة بأسرها فصحابة النبي يحيطون ببيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعيون باكية و قلوب حزينة ليطّلعوا على

صحته، و كانت تخرج من منزله بين الحين و الآخر أخبار عن اشتداد مرضه، و تفاقم وجعه، لتقضي على كل أمل بتحسّن حالته، و تجعل الناس على يقين بانه لم يبق من حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّا سويعات قلائل، و انه سرعان ما تنطفئ الشعلة المقدسة، التي أنارت العالم بضيائها.

كان فريق من الصحابة يودّون أن يزوروا نبيّهم و قائدهم من قريب و لكن تدهور صحته ما كان ليسمح لذلك، فلم يكن من الممكن ان يتردد على غرفته إلّا أهل بيته خاصة.

(2) و لقد كانت ابنته الكريمة و وديعته الوحيدة فاطمة الزهراء عليها السّلام جالسة عند فراش ابيها، تنظر إلى وجهه المشرق كانت ترى كيف ان عرق الموت يتحدر على جبينه و خده مثل حبات اللؤلؤ، فراحت تردد أبياتا من الشعر و قلبها يعتصره الحزن، و يملأ عيونها دموع الاسى و الحزن و يكاد يخنقها الغصة:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للارامل و في هذه اللحظات بالذات فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عينيه و قال لابنته الزهراء بصوت خافت:

يا بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه و لكن قولي:

سيد المرسلين ،ج 2،ص:681

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» «1».

(1)

النبي يتحدث مع ابنته الزهراء:

لقد كشفت التجربة عن ان عواطف الشخصيات الكبرى تجاه ابنائهم تتضاءل اثر تراكم النشاطات و تزايد الاهتمامات و الهموم، لأنّ الاهداف الكبرى، و الاهتمامات العالمية تشغل بالهم و فكرهم إلى درجة لا تترك لهم مجالا لمشاعرهم العاطفية بالظهور و التجلّي، بيد أنّه يستثنى الشخصيات الروحانية

و المعنوية الكبرى من هذه القاعدة فهم مع ما يشغل بالهم من الاهداف الكبرى، و الاهتمامات العالية، و الشواغل اليومية الكثيرة يمتلكون روحا كبرى و نفسية طيبة سامية فلا يمنعهم عمل عن آخر، و لا يشغلهم شغل عن آخر، فلا مكان للضمور العاطفي عندهم، و لا مكان للجمود الاحساسيّ في حياتهم الاجتماعية و العائلية.

إن محبة النبي صلّى اللّه عليه و آله لابنته الوحيدة فاطمة كانت من ابرز التجليات العاطفية الانسانية في شخصية النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله، و لهذا لم يعهد أن يسافر رسول اللّه من دون أن يودع ابنته، كما لم يعهد أن يرجع المدينة من دون ان يزور ابنته قبل أي أحد، كما كان يحترمها عند زوجاته احتراما لائقا بها و يقول لاتباعه:

«فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني» «2».

(2) كما أن رؤية فاطمة كانت تذكرة باشد نساء العالمين طهرا و وفاء، و عطفا و لطفا، (خديجة) التي تحملت في سبيل أهداف زوجها المقدس متاعب كبيرة،

______________________________

(1) آل عمران: 144.

(2) صحيح البخاري: ج 5 ص 21.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:682

و بذلت ثروتها كلها في سبيل تلك الاهداف باخلاص و رغبة.

كانت فاطمة الزهراء عليها السّلام تلازم فراش والدها النبي صلّى اللّه عليه و آله طوال ايام مرضه، و لا تفارقه لحظة واحدة، و فجأة أشار النبي إلى ابنته يطلب منها ان تقرب رأسها إلى فمه ليحدّثها، فانحنت فاطمة حتى صار رأسها قريبا من فمه الشريف ثم راح النبي صلّى اللّه عليه و آله يحادثها بصوت ضئيل و لم يعرف من كان هناك ما ذا قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لابنته الطاهرة في تلك النجوى.

و انما شاهدوا الزهراء تبكي بشدة لما انتهى والدها من

حديثه و سالت دموعها بغزارة، و لكنهم شاهدوا ان النبي اشار إليها مرة اخرى و حدثها بشي ء فسرّت فاطمة و تهلّلت اسارير وجهها، و تبسمت مستبشرة.

(1) فاثارت هاتان الحالتان المتضادتان المتزامنتان الحضور و بعثتهم على التعجب و الدهشة، فلما سألوها عن سرّ ذلك الحزن، و هذه الفرحة، و طلبوا منها ان تذكر لهم علة هاتين الحالتين المتضادتين قالت:

«ما كنت لافشي سرّه».

ثم بعد أن قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كشفت الزهراء عليها السّلام عن الحقيقة بناء على اصرار عائشة و قالت: اخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه قد حضر اجله و انه يقبض في وجعه هذا، فبكيت، ثم اخبرني أني أول اهله لحوقا به فضحكت «1».

(2)

مسواك النبي قبيل وفاته:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يستاك كل ليلة قبل النوم كما كان يستاك بعد ان يستيقظ من نومه و كان مسواك النبي من شجرة الأراك التي تنفع

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 247، الكامل، ج 2 ص 219.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:683

جدا في تقوية اللثة، و إزالة الاوساخ و بقايا الطعام عن الاسنان.

و ذات يوم دخل اخو عائشة عبد الرحمن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليعوده و بيده سواك اخضر فنظر النبي إليه- و هو في يده- نظرا عرف أنه يريده فقال عبد الرحمن: يا رسول اللّه تريد أن أعطيك هذا السواك. فقال نعم، فقدّمه إلى النبي فورا فاخذه صلّى اللّه عليه و آله و استاك به أحسن استياك، و نظف اسنانه به بدقة و عناية بالغة «1».

(1)

وصايا النبي صلّى اللّه عليه و آله قبيل رحيله:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خلال فترة مرضه و وجعه يولي إعطاء التعاليم و التذكير بما فيه هداية الناس اهتماما بالغا، فقد كان يوصي بالصلاة و رعاية الرقيق في الايام الاخيرة من حياته الشريفة و يقول:

«الصّلاة الصلاة و ما ملكت أيمانكم، ألبسوا ظهورهم و أشبعوا بطونهم و ألينوا لهم القول» «2».

و قد سأل كعب الاحبار عمر بن الخطاب بعد وفاة رسول اللّه و في ايام خلافة الأخير ما كان آخر ما تكلّم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال عمر: سل عليّا.

فسأل عليا عليه السّلام:

فقال امير المؤمنين عليه السّلام:

«أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال: الصلاة الصلاة.

فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء و به امروا و عليه يبعثون «3».

و قد فتح النبي صلّى اللّه عليه و آله عينيه في آخر لحظة من حياته الشريفة و قال:

______________________________

(1) الطبقات

الكبرى: ج 2 ص 234، السيرة النبوية: ج 2 ص 654.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 254.

(3) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 262.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:684

«أدعوا لي أخي».

(1) فعرف الجميع بأنه يريد عليا عليه السّلام فدعوا له عليا فقال:

«ادن منّي».

فدنا منه عليّ عليه السّلام فاستند إليه فلم يزل مستندا إليه يكلّمه «1».

فلم يلبث أن بدت عليه صلّى اللّه عليه و آله علامات الاحتضار.

سأل رجل ابن عباس: هل توفّي رسول اللّه في حجر أحد قال: توفي و هو لمستند إلى صدر علي.

فقال السائل: قلت: فان عائشة قالت: توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين سحرى و نحرى.

فكذبها ابن عباس و قال: أتعقل؟ و اللّه لتوفّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنه لمستند إلى صدر عليّ و هو الذي غسّله، و أخي الفضل بن عباس «2».

(2) و قد صرح أمير المؤمنين علي عليه السّلام في إحدى خطبه حيث قال:

«و لقد قبض رسول اللّه و إنّ رأسه لعلى صدري ... و لقد وليت غسله و الملائكة أعواني» «3».

و ينقل بعض المحدثين أن آخر جملة قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في آخر لحظة من حياته الشريفة هي جملة: «لا، إلى الرفيق الأعلى»، و كأنّ ملك الموت خيّره عند قبض روحه الشريفة في أن يصحّ من مرضه و يبقى أو يلبي دعوة ربّه، و يلتحق بالرفيق الأعلى، فعبر بجملته هذه عن رغبته في اللحاق بربه، ليعيش مع الذين أشار إليهم قوله سبحانه:

«فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 263.

(2) المصدر: ج 2 ص 263.

(3) نهج البلاغة: الخطبة 197.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:685

وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ

أُولئِكَ رَفِيقاً» «1».

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا و لفظ أنفاسه الشريفة «2».

(1)

يوم الوفاة:

في منتصف يوم الاثنين الثامن و العشرين من شهر صفر «3» طارت روح النبي الاكرم المقدّسة إلى بارئها، و الى جنان الخلد، فسجّى ببرد يماني، و وضع في حجرته بعض الوقت، و ارتفعت صرخات العيال، و علا بكاء الاقارب فعرف من كان في خارج المنزل أن النبي صلّى اللّه عليه و آله قد قضى، فلم يلبث أن انتشر نبأ وفاته في كل أنحاء المدينة التي تحولت بسرعة إلى مناحة كبرى، و مأتم عظيم.

فصاح الخليفة الثاني خارج البيت و لأسباب خاصّة أنّ النبي لم يمت انما عرج بروحه كما عرج بروح موسى، و انه لا يموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله! و أصرّ على هذا الموقف و هدّد كل من يخالف ذلك، و كاد أن يوافق عليه فريق من الناس لو لا أن أحد الصحابة تلا عليه قول اللّه سبحانه:

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ».

حتى فرغ من الآية، فسحب عمر موقفه، مستغربا من وجود مثل هذه الآية قائلا: هذا في كتاب اللّه؟ «4»

(2) ثم قام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بتغسيل جسد النبي الطاهر و كفنه لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان قد قال: «يغسلنى أقرب

______________________________

(1) النساء: 69.

(2) إعلام الورى: ص 83.

(3) و هو ما اتفق عليه محدثو الشيعة و مؤرخوهم، و نقل في السيرة النبوية ج 2 ص 658 بصورة: قيل.

(4) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 267.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:686

الناس إلىّ» و لم يكن ذلك سوى عليّ عليه السّلام.

و لما فرغ «علي»

من تغسيل النبي صلّى اللّه عليه و آله كشف الازار عن وجهه صلّى اللّه عليه و آله و قال و الدموع تنهمر من عينيه الشريفتين:

«بأبي أنت و أمّي طبت حيّا و طبت ميتا، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممّن سواك من النبوة و الانباء. و لو لا أنّك أمرت بالصبر، و نهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون و لكان الداء مماطلا، و الكمد محالفا و قلّا لك، و لكنّه ما لا يملك ردّه و لا يستطاع دفعه! بأبي أنت و امّي اذكرنا عند ربك، و اجعلنا من بالك؟» «1».

(1) ثم ان الامام أمير المؤمنين «علي بن أبي طالب» عليه السّلام كان أوّل من صلّى على جثمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم صلّى عليه المسلمون جماعة جماعة، ثم تقرر دفنه صلّى اللّه عليه و آله في حجرته المباركة.

فقام أبو عبيدة الجراح و زيد بن سهل بحفر قبر له صلّى اللّه عليه و آله و إعداده ثم دفن صلّى اللّه عليه و آله في تلك الحفرة على يد أمير المؤمنين علي عليه السّلام يساعده في ذلك الفضل و العباس.

و هكذا غربت شمس أعظم شخصية غيّرت مسار التاريخ البشري بتضحياته الكبرى و جهوده المضنية، و اعظم رسول الهي فتح امام الانسانية صفحات جديدة و مشرقة من الحضارة و المدنية.

(2) و لكن ظهرت على الساحة برحيله مشكلات عديدة كان لها أثر في استمرار رسالته، و مواصلة أهدافه التي من أهمها مسألة الخلافة و موضوع القيادة في المجتمع الاسلامي و قد بدت بعض بوادر الاختلاف في الاوساط الاسلامية حتى قبل رحيله.

غير أن هذا القسم و إن كان قسما مهما و خطيرا من تاريخ الاسلام،

فهو

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة رقم 235.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:687

خارج عن اطار بحثنا هذا (و هو دراسة و تحليل الشخصية المحمدية و حياة النبي الرسالية و السياسية و العسكرية).

من هنا فاننا نختم حديثنا هذا بالشكر للّه تعالى على هذه النعمة الكبرى، و الحمد للّه رب العالمين «1».

قم المقدّسة- الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

شعبان المعظم 1390 ه

______________________________

(1) ثم تدوين هذه المحاضرات و توثيقها و تحقيقها في شهر شعبان المعظم عام 1409 هجرية في مدينة قم و الحمد للّه رب العالمين. جعفر الهادي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:689

الفهارس

اشارة

1- فهرس الآيات القرآنية

2- فهرس الاحاديث الشريفة

3- فهرس الأشعار

4- فهرس الأعلام

5- فهرس القبائل و الامم

6- فهرس الكنى و الألقاب

7- فهرس الوقائع و الايام

8- فهرس الاماكن و البلدان

9- فهرس المذاهب و الأديان و نظم الحكم

10- فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة ضمنا

11- فهرس المصادر

12- فهرس المواضيع

سيد المرسلين ،ج 2،ص:691

(1) فهرس الآيات القرآنية

البقرة- 2 الآية/ رقمها/ الصفحة فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ/ 115/ 201

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ/ 142/ 51

وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها/ 143/ 49

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ/ 143/ 50

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ/ 144/ 48

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ/ 207/ 113

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ/ 217/ 40

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ/ 219/ 218

وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما/ 219/ 220

آل عمران- 3 قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ ../ 12/ 122

قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ../ 13/ 96

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ../ 59/ 604

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ../ 61/ 604

فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ ../ 61/ 405

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ/ 64/ 601

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ/ 121/ 151

سيد المرسلين ،ج 2،ص:692

وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ../ 123- 127/ 90

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ/ 144/ 163، 681، 685

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ/ 152/ 163

وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ/ 154/ 162

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ/ 155/ 163

النساء- 4 لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى/ 43/ 219، 221، 223

225

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ/ 51/ 249

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ/ 58/ 498

فَأُولئِكَ

مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ/ 69/ 684

المائدة- 5 الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ../ 1- 3 653

فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا/ 24/ 62

مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً/ 32/ 127

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى/ 51- 53/ 126

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ/ 67/ 647

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ .../ 90/ 219

إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ/ 110/ 380

الأنعام- 6 وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ../ 38/ 677

الأعراف- 7 قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها/ 33/ 230

فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا/ 44/ 783

سيد المرسلين ،ج 2،ص:693

الأنفال- 8 كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ/ 5/ 62

يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ .../ 6/ 62

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ/ 9/ 96

فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا/ 12/ 98

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ .../ 11- 12/ 96

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ/ 13/ 98

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ/ 27/ 287

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا/ 36/ 136

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا/ 42- 43/ 95

وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ/ 42/ 97

وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا/ 44/ 97

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ/ 47/ 98

وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ/ 48/ 98

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى/ 70/ 95

وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ/ 71/ 95

وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ/ 87/ 68

التوبة- 9 أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ/ 19/ 113

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً/ 107- 108/ 580

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي

مَواطِنَ كَثِيرَةٍ/ 25/ 514

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً/ 31/ 550

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى/ 33/ 355

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي/ 49/ 555

سيد المرسلين ،ج 2،ص:694

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ/ 65/ 574

وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ/ 81- 82/ 555

وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ/ 92/ 557

تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ/ 92/ 556

وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا ../ 102/ 287

حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ/ 118/ 577

يوسف- 12 قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا/ 91/ 479

قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ/ 92/ 479 و 496

النحل- 16 وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ/ 44/ 672

وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً/ 67/ 218

مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ/ 98/ 531

وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ/ 126/ 183

الإسراء- 17 وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ .../ 26/ 423

مريم- 19 يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ/ 6/ 428

وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها/ 71/ 428

الحج- 22 أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا/ 39/ 56

النور- 24 إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ/ 11/ 316 و 318

لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ/ 12- 14/ 219

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ/ 32/ 100

سيد المرسلين ،ج 2،ص:695

وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ/ 33/ 313

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ/ 62/ 148 و 254

النمل- 27 وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ/ 16/ 428

القصص- 28 إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ/ 85/ 495

العنكبوت- 29 وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي/ 8/ 17

الروم- 30 يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ/ 31/ 148

الأحزاب- 33 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ .../ 9- 25/

276

بُيُوتَنا عَوْرَةٌ .../ 13/ 287

وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ .../ 26- 27/ 295

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ/ 33/ 425 و 607

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ .../ 36- 37/ 232

وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ/ 37/ 243

فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً/ 37/ 243

ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ .../ 38- 39/ 236 و 244

ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ/ 40/ 236

سبأ- 34 وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ/ 28/ 355

يس- 36 لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ/ 70/ 355

سيد المرسلين ،ج 2،ص:696

الفتح- 48 إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً/ 1/ 348

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ/ 17/ 147

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ/ 18/ 334

وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ/ 22/ 347

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا/ 27/ 437

الحجرات- 49 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ/ 1/ 476

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ/ 6/ 312

الحشر- 59 هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ/ 2/ 214

ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً/ 5/ 212

ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى/ 7/ 213

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ/ 11- 14/ 212

الممتحنة- 60 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي/ 6- 9/ 475

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ/ 10/ 351

أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ/ 12/ 507

القلم- 68 وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ/ 52/ 355

العاديات- 100 وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً/ 1- 2/ 459

النصر- 110 إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ .../ 1- 3/ 545

سيد المرسلين ،ج 2،ص:697

(2) فهرس الأحاديث الشريفة

نصّ الحديث/ القائل/ الصفحة

أبا وهب هل لك

العام تخرج معنا/ (النبي)/ 554

أ تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه/ (النبي)/ 418

أحب الناس الي من الرجال عليّ/ (النبي)/ 120

أخبروا مالكا انه إن اتاني مسلما/ (النبي)/ 532

اخرجوا من بلادي فقد أجلتكم عشرا/ (النبي)/ 209

أخرجها من العسكر ثم صح و ارمها/ (النبي)/ 395

ادعوا لي أخي/ (النبي)/ 684

ادفنوا هذين المتحابين في قبر واحد/ (النبي)/ 184

إذا خطب إليكم كفو فزوجوه/ (النبي)/ 103

اذهب يا عباس الى رحلك/ (النبي)/ 483

اذهبت منك الرحمة/ (النبي)/ 409

ارجعا حتى تأتياني غدا/ (النبي)/ 368

ارجعن يرحمكن اللّه/ (النبي)/ 187

أرسلته كرارا غير فرار/ (النبي)/ 457

اركب فان اللّه و رسوله عنك راضيان/ (النبي)/ 459

استفدت يا أمّ عمارة/ (النبي)/ 177

استوصوا بالاسارى خيرا/ (النبي)/ 87

سيد المرسلين ،ج 2،ص:698

أسندته الى صدري فوضع رأسه على منكبي/ (علي)/ 683

السلام على أهل همدان/ (علي)/ 627

السلام عليكم يا أهل القبور/ (علي)/ 665

اشتدّ غضب اللّه في دم وجه نبيه/ (علي)/ 179

اكرموا اولادكم/ (النبي)/ 596

الصلاة الصلاة و ما ملكت ايمانكم/ (النبي)/ 683

الصلاة يا أهل البيت/ (النبي)/ 109

اطلبوا العلم و لو بالصين/ (النبي)/ 132

اغزوا باسم اللّه و ادعوهم الى الاسلام/ (النبي)/ 440

اغد على بركة اللّه/ (النبي)/ 664

الحمد للّه الذي صدق وعده/ (النبي)/ 495

الحمد للّه الذي وفق رسول اللّه/ (النبي)/ 539

الحمد للّه و نستعينه و نؤمن به/ (النبي)/ 647

ألّا إن كل مال و مأثرة و دم في الجاهلية/ (النبي)/ 503

ألّا ترضون يا معشر الاوس/ (النبي)/ 289

اللّه أعلى و أجل/ (النبي)/ 180

اللّه أكبر ابشروا يا معشر المسلمين/ (النبي)/ 258

اللّه أكبر خربت خيبر/ (النبي)/ 392

اللّه مولانا و لا مولى لكم/ (النبي)/ 181

أ لستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه/ (النبي)/ 648

أ لم أنهكم ان يخرج منكم أحد/ (النبي)/ 564

اللهم ائتني بأحب خلقك إليك/ (النبي)/ 115

اللهم اجمع شملهما و الّف بين قلوبهما/ (النبي)/ 108

اللهم

ارحم الانصار و ابناء الانصار/ (النبي)/ 536

اللهم إن تهلك هذه العصابة/ (النبي)/ 79

سيد المرسلين ،ج 2،ص:699

اللهم انزل عليهم رجسك/ (النبي)/ 186

اللهم إنك اخذت مني عبيده/ (النبي)/ 264

اللهم إنك قد عرفت حالهم/ (النبي)/ 365

اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد/ (النبي)/ 508

اللهم أني اسألك الأمن يوم الخوف/ (النبي)/ 186

اللهم أني اسألك كله/ (النبي)/ 185

اللهم اهد قلبه و ثبت لسانه/ (النبي)/ 626

اللهم بارك لقوم جل آنيتهم الخزف/ (النبي)/ 106

اللهم خذ على قريش أبصارهم/ (النبي)/ 471

اللهم خذ العيون و الاخبار عن قريش/ (النبي)/ 471

اللهم رب السماوات و ما اظللن/ (النبي)/ 390

اللهم هؤلاء اهل بيتي/ (النبي)/ 405

اللهم هذه قريش قد أقبلت/ (النبي)/ 72

اللهم وال من والاه/ (النبي)/ 648

إليّ يا فلان إليّ يا فلان أنا رسول اللّه/ (النبي)/ 146

اليوم يوم المرحمة/ (النبي)/ 497

أما أنت فقد عذرك اللّه/ (النبي)/ 147

أما أيها الناس فانه قد حان خفوق مني/ (النبي)/ 678

أما بعد أيها الناس ما مقالة بلغتني/ (النبي)/ 663

أما و الذي نفسي بيده لقد تدلى العذاب/ (النبي)/ 607

أما ما لي و بني عبد المطلب فهو لكم/ (النبي)/ 530

أما و اللّه لو شتم لقلتم فصدقتم/ (النبي)/ 535

أمك امك اعصب جرحها/ (النبي)/ 177

أحب أهلي إليّ فاطمة/ (النبي)/ 119

ان أحببت فاقيمي عندنا محببة/ (النبي)/ 531

سيد المرسلين ،ج 2،ص:700

أنا أحق بذلك منك/ (النبي)/ 130

أنا النبي لا أكذب .../ (النبي)/ 519

إنا لم نجئ لقتال أحد و لكننا جئنا معتمرين/ (النبي)/ 329

أنا لم نرض/ (النبي)/ 343

أنت بالخيار فيه اربعة عشر/ (النبي)/ 506

أنت خليفتي في أهل بيتي/ (النبي)/ 558

انطلق فطف بالبيت/ (النبي)/ 632

انظروا الى ما امرتكم به/ (النبي)/ 145

ان بالمدينة لا قواما/ (النبي)/ 575

إن حسن التبعل يعدل ذلك كله/ (النبي)/ 176

إن ربي قد قتل ربكما ليلة كذا و كذا/ (النبي)/ 368

إن رجلا

قال هذا محمد يخبركم أنه نبي/ (النبي)/ 565

إن رسول اللّه كان يغير الأسماء القبيحة .../ (الصادق)/ 544

إنكم ستلقون ربكم فيسألكم/ (النبي)/ 635

إن اللّه اختار من أهل الارض رجلين/ (النبي)/ 118

إن اللّه امرني ان اعرض عنهم/ (النبي)/ 574

إنما أنت فينا رجل فخذل عنا/ (النبي)/ 273

إنه لا يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك/ (النبي)/ 591 سيد المرسلين ج 2 700 (2) فهرس الأحاديث الشريفة ..... ص : 697

ها مشية يبغضها اللّه إلّا .../ (النبي)/ 153

إن هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم/ (النبي)/ 646

إني امرت ان استغفر لأهل البقيع/ (النبي)/ 665

إني تارك فيكم الثقلين./ (النبي)/ 648، 673

إني رأيت العرب رمتكم/ (النبي)/ 271

أو ما بلغك ما قال صاحبكم/ (النبي)/ 308

أوحى اللّه تعالى الى رسول اللّه إن أشكر لجعفر/ (الباقر)/ 222

سيد المرسلين ،ج 2،ص:701

اولئك العصاة/ (النبي)/ 476

ايتوني بقلم و قرطاس/ (النبي)/ 668

ايتوني بدواة و صحيفة/ (النبي)/ 669

أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم/ (النبي)/ 29

أيّ عبد نزل من الحصن و خرج إلينا فهو حر/ (النبي)/ 526

أيكم يبرز الى عمرو و أضمن له الجنة/ (النبي)/ 263

أين علي؟ ايتوني بعلي/ (النبي)/ 398

أيها الناس اسمعوا قولي/ (النبي)/ 634

أيها الناس أما بعد فانّ أصدق الحديث/ (النبي)/ 560

أيها الناس إن الشمس و القمر آيتان/ (النبي)/ 600

أيها الناس إن كل ربا موضوع/ (النبي)/ 636

أيها الناس سعرت النار و اقبلت الفتن/ (النبي)/ 668

أيها الناس إن اللّه قد أذهب عنكم نخوة/ (النبي)/ 501

أيها الناس إن اللّه قد بعثني رحمة/ (النبي)/ 356

أيها الناس ان هذا عدو اللّه و عدوكم/ (النبي)/ 455

أيها الناس لا تشكوا عليا/ (النبي)/ 633

أيها الناس و اللّه ما لي في فيئكم/ (النبي)/ 533

أيها الناس يوشك أن اقبض/ (النبي)/ 676

بئس ما جزيتها/ (النبي)/ 302

بارك اللّه في ابنة رسول

اللّه .../ (النبي)/ 108

بارك اللّه عليكم من أهل بيت/ (النبي)/ 178

برز الايمان كله الى الشرك كله/ (النبي)/ 264

بسم إله ابراهيم و اسحاق و يعقوب/ (النبي)/ 601

بل نترفق به و نحسن صحبته/ (النبي)/ 310

بل هو الرأي أنظر لنا منزلا بعيدا/ (النبي)/ 393

سيد المرسلين ،ج 2،ص:702

تآخوا في اللّه/ (النبي)/ 19

تزوجوا فاني مكاثر بكم الامم/ (النبي)/ 101

جهزوا جيش اسامة/ (النبي)/ 662

خذها يا ابن ابي طلحة تالدة/ (النبي)/ 499

خير رجالكم علي بن ابي طالب/ (النبي)/ 115

خير نسائكم فاطمة بنت محمد/ (النبي)/ 115

رأيت الملائكة تغسل حنظلة/ (النبي)/ 149

دعه عنك فانه جاء تائبا/ (النبي)/ 540

دعوها فانها منتنة/ (النبي)/ 305

رحم اللّه ابا ذر يمشي وحده/ (النبي)/ 566

رحم اللّه امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة/ (النبي)/ 435

رحم اللّه سعدا نصرنا حيا .../ (النبي)/ 184

سلمان منا أهل البيت/ (النبي)/ 253

ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين/ (النبي)/ 267

علي أحبهم الي و أحبهم الى اللّه/ (النبي)/ 116

علي خير البشر فمن ابى فقد كفر/ (النبي)/ 116

علي خير من اتركه بعدي/ (النبي)/ 115

علي مني بمنزلة الرأس من بدني/ (النبي)/ 116

علي مني بمنزلتي من ربي/ (النبي)/ 116

علي مني و أنا منه و هو ولي كل مؤمن/ (النبي)/ 116

غيب عني وجهك فلا ارينك/ (النبي)/ 175

فاطمة بضعة مني فمن اغضبها فقد اغضبني/ (النبي)/ 682

فاين البعيران اللذين غيبتهما بالعقيق/ (النبي)/ 311

فان اللّه سيجعل لك مخرجا/ (النبي)/ 349

فاقتص مني حتى ترضى/ (النبي)/ 679

سيد المرسلين ،ج 2،ص:703

فكيف يا عمر اذا تحدث الناس ان محمدا يقتل/ (النبي)/ 307

فلذلك الجمل لا يمضي/ (النبي)/ 189

فلم لا تحل و قد أمرت من لم يسبق/ (النبي)/ 631

فو الذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن/ (النبي)/ 571

قد اجرنا من أجرت و آمنا من أمنت/ (النبي)/ 505

قد استعملتك على هؤلاء النفر/ (النبي)/ 308

قد

علمتم موضعي من رسول اللّه/ (علي)/ 225

قد فعلت فلا تعجلي بخروج/ (النبي)/ 548

قوموا الى سيدكم/ (النبي)/ 290

قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع/ (النبي)/ 668

كنا اذا أحمر البأس اتقينا برسول اللّه/ (علي)/ 72 و 168

كذبتم، يمنعكم من الاسلام ثلاث/ (النبي)/ 604

كذبوا، و لكنني خلّفتك لما تركت/ (النبي)/ 559

كيف ترى يا عمر، اما و اللّه لو قتلته/ (النبي)/ 310

لا امثل به فيمثل اللّه بي و ان كنت نبيا/ (النبي)/ 92

لا اجد ما احملكم عليه// 556

لا إنما رحمه// 596

لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا// 399

لا تخرجوا معي الا راغبين في الجهاد/ (النبي)/ 388

لا تدعوني قريش اليوم الى خطة ../ (النبي)/ 328

لا تغفلوا آل جعفر/ (النبي)/ 451

لا تقتلوه فهذا الاعمى أعمى القلب ../ (النبي)/ 146

لا تكلمن أحدا من هؤلاء/ (النبي)/ 577

لا حاجة لي بهما، اما ابن عمي/ (النبي)/ 479

لا خير في دين لا صلاة فيه/ (النبي)/ 586

سيد المرسلين ،ج 2،ص:704

لا سواء قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار/ (النبي)/ 181

لاعطين الراية غدا/ (النبي)/ 397

لا عليكم ان لا تمنعوه لعل اللّه يرزقه الشهادة/ (النبي)/ 147

لا عيش إلّا عيش الآخرة/ (النبي)/ 252

لكن حمزة لا بواكي له/ (النبي)/ 186

لكن ربي أمرني باعفاء لحيتي و قص شاربي/ (النبي)/ 367

لكنني ما اكره و اللّه ان اهريق دمك/ (علي)/ 264

لا نبرح حتى نتاجر القوم// 334

لا ندخلها إلّا كذلك// 432

لا و لكن نهيت عن خمش وجوه/ (النبي)/ 599

لا يحتج محتج منك في مخالفته/ (النبي)/ 538

لا يذهب بها إلّا رجل مني و انا منه/ (النبي)/ 117

لحمك لحمى و دمك دمى و الحق معك/ (النبي)/ 117

لقد تيب على ابي لبابة/ (النبي)/ 287

لو امرت به ما استشرتكم فيه/ (النبي)/ 569

لو كنت استقبلت من امري ما استدبرت/ (النبي)/ 631

ما انتم باسمع

لما اقول منهم/ (النبي)/ 83

ما أجد لك شيئا أمثل من ان تقوم/ (النبي)/ 468

ما ذا تقولون و ما ذا تظنّون/ (النبي)/ 496

ما ذكر لي رجل بفضل من العرب/ (النبي)/ 544

ما ظن محمد باللّه لو لقي اللّه و هذه عنه/ (النبي)/ 677

ما لي أراك يا عمر محرما/ (النبي)/ 630

ما كان اللّه ليسلّط عليّ ذات الجنب/ (النبي)/ 677

ما لهم و لعمار يدعوهم الى الجنة و يدعونه الى النار/ (النبي)/ 13

ما من نبي إلّا و له نظير في امته/ (النبي)/ 117

سيد المرسلين ،ج 2،ص:705

ما وقفت موقفا قط اغيظ إليّ/ (النبي)/ 182

ما ينبغي لنبي اذا لبس لامته أن/ (النبي)/ 145

المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين/ (النبي)/ 194

من أحب ان يلقى اللّه طاهرا مطهرا/ (النبي)/ 101

من ارادت ان تبايع فلتدخل يدها/ (النبي)/ 507

من جاءهم منا فابعده اللّه/ (النبي)/ 340

من دخل دار ابي سفيان فهو آمن/ (النبي)/ 484

من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن/ (النبي)/ 489

من شاء منكم ان يأخذ بطن الوادي/ (النبي)/ 573

من لم يقل عليّ خير الناس فقد كفر/ (النبي)/ 116

من ياخذ هذا السيف بحقه/ (النبي)/ 153

من محمد رسول اللّه الى كسرى/ (النبي)/ 365

من محمد بن عبد اللّه الى المقوقس/ (النبي)/ 370

من محمد بن عبد اللّه الى ملك الحبشة/ (النبي)/ 376

من محمد رسول اللّه الى الحارث بن ابي شمر/ (النبي)/ 382

من محمد رسول اللّه الى هوذة بن علي/ (النبي)/ 382

من محمد رسول اللّه الى مسيلمة الكذاب/ (النبي)/ 657

نشدتكم باللّه هل فيكم احد قتل/ (علي)/ 156

نصرت يا عمرو بن سالم/ (النبي)/ 466

هاك مفتاحك يا عثمان/ (النبي)/ 498

هذا ما صالح عليه رسول اللّه/ (النبي)/ 336

هذا ما كتب النبي محمد رسول اللّه لنجران/ (النبي)/ 608

هل أخزاكم اللّه و انزل عليكم نقمته/ (النبي)/

283

همت اليهود .../ (النبي)/ 208

هو لكم لا نأكل ثمن الموتى/ (النبي)/ 267

سيد المرسلين ،ج 2،ص:706

و انك لهند بنت عتبة/ (النبي)/ 508

و أيم اللّه اني لأقول لكم هذا/ (النبي)/ 675

وردنا مع رسول اللّه خيبر/ (علي)/ 408

و عندي السيف الذي اعضضته/ (علي)/ 77

و كان مني في ذلك ما على اللّه عز و جلّ ثوابه/ (علي)/ 171

و اللّه لا يحبّهم عبد إلّا أعطاه اللّه/ (النبي)/ 676

و اللّه و ما اردت بهذه إلّا الفتنة/ (علي)/ 644

و اللّه ما أنا أمرت بذلك و لكن اللّه أمر بسدّ ابوابكم/ (النبي)/ 20

و اللّه ما يسرني يا علي أن لي/ (النبي)/ 511

و الذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم/ (النبي)/ 79

و الذي نفس محمد بيده ان شملته/ (النبي)/ 411

و ما يدريك يا عمر لعل اللّه اطلع على اهل بدر/ (النبي)/ 474

و من اغلق بابه فهو آمن/ (النبي)/ 485

و من يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة/ (النبي)/ 177

ويح ابن سمية ... انما تقتلك الفئة الباغية/ (النبي)/ 13

ويحك اذا لم يكن العدل عندي/ (النبي)/ 534

ويحك اسلم و اشهد ان لا إله إلّا اللّه/ (النبي)/ 482

ويحك يا ابا سفيان أ لم يأن لك/ (النبي)/ 482

يا أهل القليب بئس عشيرة النبي/ (النبي)/ 83

يا أنصار اللّه و انصار رسوله/ (النبي)/ 518

يا أيها الناس أوصيكم بما اوصاني اللّه/ (النبي)/ 152

يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين/ (النبي)/ 675

يا علي اصعد على منكبي/ (النبي)/ 494

يا علي أنك أبيت أن تمحو اسمي/ (النبي)/ 338

يا علي لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه الى الاسلام/ (النبي)/ 626

سيد المرسلين ،ج 2،ص:707

يا علي لو لا أني أشفق أن تقول طوائف/ (النبي)/ 459

يا عمرو انك كنت تقول في الجاهلية/ (علي)/ 265

يا من حضر أشهد هذا ان زيدا ابني/ (النبي)/ 231

يا

معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم/ (النبي)/ 535

يا معشر المسلمين اللّه اللّه أ بدعوى الجاهلية/ (النبي)/ 31

يا معشر يهود احذروا من اللّه/ (النبي)/ 122

يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب/ (النبي)/ 327

يسر و لا تعسر و بشر و لا تنفر/ (النبي)/ 625

يفتح اللّه على يديه/ (النبي)/ 403

سيد المرسلين ،ج 2،ص:708

(3) فهرس الأشعار

أ تبكي أن يضلّ لها بعير 91

إذ يهتدون بجعفر و لو أنّه 443

إذا استقبلت وجه أبي تراب 112

إذا متّ فادفنّي الى جنب كرمة 218

أصبح وجه الزمان قد ضحكا 424

أ علي تقتحم الفوارس هكذا 270

اليوم يوم الملحمة 496

الى اللّه أشكو غربتي ثم كربتي 201

امن أم أوفى دمنة تكلم 539

أنا الذي سمّتني أمي حيدرة 400

أنا الذي عاهدني خليلي 154

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول 541

بيضاء تسحب من قيام شعرها 105

حسدوا الفتا اذا لم ينالوا فضله 107

خلّوا بني الكفار عن سبيله 433

سرن بعون اللّه جاراتي 108

فلا يبعدن اللّه قتلي تتابعوا 443

قد علمت خيبر أني مرحب 400

سيد المرسلين ،ج 2،ص:709

كادت و بيت اللّه نار محمد 556

لئن قعدنا و النبي يعمل 12

لا تعجلن فقد أتاك مجيب 264

لا يستوي من يعمر المساجد 13

لعمرك أني يوم أحمل راية 480

لكني أسأل الرحمن مغفرة 441

لو أن عندي يا ابن حرب جعفرا 442

لو كان قاتل عمر و غير قاتله 270

ما أن رأيت و لا سمعت بمثله 532

نحن بنات طارق 157

و ابيض يستسقى الغمام بوجهه 680

و صعود غارب أحمد فضل له 495

و عاش أبو ذرّ كما قلت وحده 567

و ما أنس لا انس اللذين تقدما 397

و لقد بححت من النداء 263

و اللّه لو لا اللّه ما اهتدينا 377

يا حبّذا الجنة و اقترابها 446

يا رب اني ناشد محمدا 465

يا طلح إن كنتم كما نقول 156

يناديهم رسول اللّه لما 84

يناديهم يوم الغدير

نبيهم 654

سيد المرسلين ،ج 2،ص:710

(4) فهرس الأعلام

- أ- اربد (العامري) 623

أزهر 348.

آذرم 569، 570.

آرشه تونك (الدكتور) 216.

ابان بن سعيد بن العاص 333.

ابراهيم بن رسول اللّه (ص) 542، 596، 597، 598، 599.

ابراهيم الخليل (النبي) 49، 315، 322، 325، 561، 599، 602، 628، 630.

ابن أبي أحمد 164.

ابن أبي الحديد 94، 164، 165، 170، 178، 194، 265، 397، 423، 426، 487.

ابن أبي الحقيق 297.

ابن ابي سبرة 162، 164.

ابن الأثير 37، 47، 135، 170، 238، 239، 241، 268، 269، 321، 360، 393، 404، 442، 511، 605.

ابن اسحاق 7، 13، 34، 36، 70، 268.

ابن أمّ مكتوم 128، 192، 211، 300.

ابن بابويه 107.

ابن تيمية (الحراني) 268، 269.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:711

ابن جرير 240.

ابن حجر العسقلاني 322، 367، 652، 676.

ابن حذيفة 76.

ابن الجوزي 20.

ابن خلكان 65.

ابن رواحة 415، 433، 434، 440، 441، 443، 446، 447، 660.

ابن سعد (صاحب الطبقات) 71، 189، 205، 389، 438، 498.

ابن سلامة 450، 527، 534، 573، 622.

ابن سهيل 342، 343، 344.

ابن شماس 214.

ابن طلحة 112.

ابن عباس 155، 669، 671، 672، 684، 686.

ابن عبد ربه 112.

ابن العرندس 495.

ابن عقدة 652.

ابن العوام 493.

ابن كثير الشامي 16، 17، 20، 512.

ابن قميئة الليثي 166، 176.

ابن مزاحم 14.

ابن مسعود 61، 116.

ابن مسلمة (محمد) 43، 133، 164، 209، 392، 402، 404، 410، 432، 493، 558.

ابن هشام 7، 13، 19، 34، 45، 47، 58، 60، 83، 130، 161، 162، 172، 198، 201، 202، 207، 211، 227، 246، 268، 289، 293، 298، 299، 300، 306، 321، 322، 348، 389، 396،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:712

400، 401، 404، 414، 444، 472، 473، 480، 504، 519، 523، 523، 527، 618.

ابن واضح الاخباري 366.

أبيّ بن خلف 165.

أحمد بن حنبل 15، 16، 17، 84، 109، 113، 366،

495، 662، 669، 670، 672.

أحمد بن ابي خيثمة 224.

الاخنس بن شريق 348.

اربد 623، 624.

أرمى بن الاصحم 381.

اساف (صنم) 493.

اسامة بن زيد 115، 145، 319، 494، 643، 660، 661، 662، 663، 664، 665، 667.

اسرافيل (الدكتور) 249.

اسكندر المقدوني 356.

اسماعيل (النبي) 602.

الاسود الثقفي 587.

الاسود بن عبد الاسد المخزومي 75، 76.

الاسود بن كعب 656، 658، 659.

الاسود بن المطلب 90، 91.

اسيد بن حضير 12، 186، 262، 308، 321، 520.

الاقرع بن حابس 530.

أكيدر بن عبد اللّه 570، 571.

أميّة بن خلف 37، 57، 58، 81، 83، 89.

أميّة بن المغيرة 478.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:713

أنس بن مالك 109، 115، 118، 161، 162.

انس بن النضر 161، 162، 163.

أنو شيروان 264، 375.

- (ب)- باذان 366، 367، 368، 369

بجير بن زهير 539، 540.

بديل بن ورقاء 328، 465، 466، 467، 481، 482.

بريدة 115، 116، 304، 661.

البراء بن عازب 626.

بشير بن البراء بن معرور 416.

بشير بن سفيان 486.

بلال بن الحارث 486.

بلال الحبشي 81، 104، 409، 434، 493، 497، 678.

(ت) تئودوز الكبير 357.

(ث) ثابت بن أرقم 447.

ثابت بن قيس 214، 294.

ثمالة الثقفي 532.

(ج) جابر بن عبد اللّه الانصاري 188، 300، 592.

جبار (العامري) 623، 624.

جبرائيل (الملك) 20، 52، 170، 171، 172، 183، 455، 472، 592، 597 647، 665.

جدّ بن قيس 554.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:714

جديمة بن عامر 905.

جعفر بن أبي طالب 108، 222، 298، 412، 413، 441، 442، 443، 446، 447، 450، 451، 642، 660.

جعفر الصادق (الامام) 126، 138، 347، 544.

جميع بن عمير 117.

جندب بن زهير 115.

جهجاه بن مسعود 305.

(ح) الحارث بن ابي شمر الغساني 359، 381، 382، 383، 529.

الحارث بن أبي ضرار 304.

الحارث بن الحارث 533.

الحارث بن زمعة 90، 91.

الحارث بن عمير الازدي 439.

الحارث بن الصمّة 165، 205.

الحارث بن طلال 490.

الحارث بن هلال

504، 523.

الحارث (اخو مرحب) 399.

حاطب بن بلتعة 307، 369، 370، 371، 473، 474.

الحافظ بن حنان 112.

الحباب بن منذر 69، 139.

الحجاج بن علاط السلمي 419، 420.

الحجاج بن يوسف الثقفي 17.

حجر بن عدي 567.

حرب بن أميّة 466.

حذيفة بن اليمان 573.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:715

الحسن بن اسماعيل 603، 613.

الحسن بن علي (الامام) 103، 109، 119، 423، 425، 468، 605، 606، 607، 608، 618.

الحسن بن علي العلوي 621.

الحسن بن موسى 155.

حسان بن ثابت 10، 83، 84، 202، 259، 443، 571، 654.

الحسمان الخزاعي 88.

الحسين بن علي (الامام) 103، 109، 119، 229، 423، 425، 468، 605، 606، 607، 608، 618.

الحكيم بن حزام 74، 76، 231، 481، 482، 533.

الحكيم بن كيسان 39.

الحلس بن علقمة 329، 330.

حمزة بن عبد المطلب 24، 33، 36، 44، 75، 77، 78، 108، 142، 144، 149، 157، 182، 186، 264، 442، 490، 508.

حنظلة بن ابي سفيان 78، 148، 149.

حنظلة (غسيل الملائكة) 578.

حويرث بن نقيذ 490.

حيي بن اخطب 27، 209، 211، 248، 256، 257، 261، 283، 294، 296، 394.

(خ) خالد بن اسيد 434.

خالد بن ثعلب 171.

خالد بن رياح 164.

خالد بن سعيد 584.

خالد بن الوليد 152، 159، 160، 162، 212، 227، 262، 346، 431،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:716

439، 447، 448، 450، 486، 491، 494، 509، 510، 517، 571، 626، 660.

حبيب بن عديّ 199، 200، 201، 205.

خراش بن أميّة 331.

خزيمة بن ثابت 14.

خرخسره 366، 368.

خسرو پرويز 364، 365، 379، 643.

خلاء بن عمرو بن الجموح 188.

خيثمة 56، 142.

(د) داود بن قابوس 403.

دحية الكلبي 256، 359، 360، 362، 382.

دعبل 424.

دعثور 129.

دريد بن الصمة 515.

(ذ) ذو الخويصرة التميمي 534.

ذو الفقار 172، 399.

ذو الكلاع الحميري 14، 15.

(ر) رافع بن مكيث 486.

ربيع بن ابي الحقيق 402.

ربيعة بن الحارث (ابن) 635.

ربيعة

بن عبد شمس 76.

رفيده 290.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:717

(ز) زاذان 224.

الزبير بن باطا 257، 294، 333.

الزبير بن العوام 64، 157، 164، 183، 473، 486، 493، 651.

زهير بن أبي سلمى 539.

زهير بن أبي أميّة 60.

زهير بن صرد 529.

زيد بن أرقم 115، 306، 307، 651.

زيد بن حارثة 37، 90، 131، 229، 231، 232، 233، 235، 237، 239، 240، 242، 244، 294، 387، 388، 389، 407، 441، 444،

447، 451، 642، 660، 661.

زيد بن الخيل 544.

زيد بن دثنة 199، 200.

زيد بن سهيل 200.

(س) السائب 36.

سراقة بن جعشم 58.

سعد بن أبي وقاص 36، 44، 64، 86، 405، 660.

سعد بن معاذ 36، 61، 63، 70، 186، 213، 258، 271، 289، 290، 291، 292، 293، 294، 295، 320، 321، 322.

سعد بن عبادة 36، 144، 213، 214، 258، 271، 320، 321، 497، 535.

سعيد بن خيثمة 56، 143، 561.

سعيد بن زيد 54.

سعيد بن الربيع 184، 185.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:718

سعيد بن زيد الأشهلي 301، 509.

سفيان الثوري 223، 224.

سلمان الفارسي 108، 115، 251، 253، 522، 523.

سلام بن ابي الحقيق 248، 296، 298.

سلام بن مشكم 128، 211، 416.

سلمة بن عمرو بن الاكوع 301.

سليمان بن سحيم 45.

سليط بن عمرو 383.

سليط بن النعمان 131.

سمرة 647.

سنان 305.

سواد بن غزيه 78، 79.

سوادة بن قيس 678، 679.

سواع (صنم) 509.

سويد بن صخرة 486.

سهيل بن حنيف 173، 313.

سهيل بن عمرو 83، 91، 335، 336، 340، 348، 434، 491.

سيد قطب 225.

(ش) شاس بن قيس 30، 288.

شجاع بن وهب 381.

شرحبيل 602.

شيبة بن ربيعة 76، 77، 78، 83، 90، 174.

شيرويه 364، 368، 369.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:719

(ص) صفوان بن أميّة 38، 131، 136، 192، 199، 229، 317، 434، 484، 489، 490، 491، 505، 516، 533.

(ض) الضحاك بن خليفة 556.

ضرار بن الخطاب 263.

ضمضم

بن عمرو الغفاري 57.

(ط) طالب 68.

الطاهر 597.

طلحة بن أبي طلحة 53، 156، 164.

طلحة بن عبد اللّه 54، 161، 173، 556.

طفيل بن عمرو الدوسي 523.

الطيب 597.

(ع) العاص بن هشام 57، 87.

عاصم بن ثابت 173.

عامر بن الحضرمي 74، 75.

عامر بن الطفيل 203، 205.

عامر بن مالك بن جعفر 204.

عباد بن بشير 227، 407، 572.

عبادة بن الصامت 17، 126.

عباس بن عبد المطلب 48، 80، 82، 88، 89، 90، 137، 138، 307، 436، 477، 481، 482، 483، 484، 518، 686.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:720

عباس بن مرداس 486، 488.

عبد الجبار بن احمد 94.

عبد الحسين شرف الدين (السيد) 632.

عبد الرحمن بن عوف 80، 81، 218، 223، 418، 509، 589، 602، 683.

عبد اللّه بن أبي سلول 126، 141، 142، 144، 145، 146، 148، 150، 162، 163، 211، 212، 289، 306، 309، 310، 311، 313، 317، 321، 322، 370، 478، 490، 562.

عبد اللّه بن ابي رافع 135، 338.

عبد اللّه بن أمّ كلثوم 55.

عبد اللّه بن بدر 486.

عبد اللّه بن جحش 38، 39، 44، 74، 453.

عبد اللّه بن جدعان 222.

عبد اللّه بن حارثة 642.

عبد اللّه حبيب 223.

عبد اللّه بن حجل 115.

عبد اللّه بن حدرد الاسلمي 516.

عبد اللّه بن حذافة السهمي 365.

عبد اللّه بن حزام 149.

عبد اللّه بن حسن 427.

عبد اللّه بن حميد 165.

عبد اللّه بن حنظلة 149، 481.

عبد اللّه بن الخزرج 309.

عبد اللّه بن خيبر 150، 151، 158، 159.

عبد اللّه بن رواحة 76، 90، 415، 433، 434، 440، 446، 447.

عبد اللّه بن الزبعرى 490.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:721

عبد اللّه بن سلام 28، 29.

عبد اللّه بن سهيل 417، 418، 419.

عبد اللّه بن شهاب 165.

عبد اللّه بن طارق 199.

عبد اللّه بن العباس 115.

عبد اللّه بن عبد الرحمن الخثعمي 489.

عبد اللّه بن

عمر بن الخطاب 145، 419، 486.

عبد اللّه بن عمرو 183، 188.

عبد اللّه بن عمرو بن حزام 17، 189.

عبد اللّه بن عمرو بن العاص 17.

عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم 509.

عبد اللّه بن قمئة الليثي 22.

عبد اللّه بن كعب المازني 85، 177.

عبد اللّه بن مسعود 567.

عبد اللّه بن موسى 424.

عبد اللّه بن هاشم 115.

عبد العزيز 427.

عبد المطلب 107، 182، 206، 232، 264، 308، 314، 478، 580، 612.

عبد ياليل 583.

عبيد اللّه بن أبي رافع 6.

عبيدة بن الحارث 34، 36، 77.

عبيد اللّه بن بهلول 612.

عتاب بن اسيد 513، 538، 560.

عتبة بن ابي الوقاص 165.

عتبة بن ربيعة 74، 75، 76، 78، 82، 83، 508.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:722

عثمان بن حنيف 424.

عثمان بن أبي العاص 586.

عثمان بن طلحة 438، 492، 498.

عثمان بن عبد اللّه 39.

عثمان بن عفان 12، 13، 88، 165، 333، 334، 335، 505، 602.

عثمان بن مظعون 651.

عدي بن حاتم 115، 359، 547، 549، 550.

عروة بن الزبير بن العوام 6، 135.

عروة بن مسعود الثقفي 330، 331، 374، 582، 583، 587.

عطاء بن السائب 223، 224.

عقبة بن أبي معيط 57، 81.

عقبة بن الحارث 201.

عقيل 90، 108.

عكرمة بن أبي جهل 136، 152، 160، 180، 262، 484، 489، 490، 491، 505.

العلاء بن جارية 533.

علي بن ابراهيم 137.

علي بن أبي طالب عليه السّلام 12، 14، 15، 17، 19، 37، 55، 65، 71، 73، 88، 103، 104، 105، 107، 109، 110، 111، 112، 113، 115، 117، 120، 133، 134، 141، 155، 156، 157، 164، 168، 169، 170، 171، 172، 179، 190، 215، 221، 222، 223، 224، 225، 229، 263، 264، 265، 266، 267، 268، 269، 270، 272، 282، 289، 319، 322، 333، 336، 337، 338، 342، 388،

397، 399، 400، 401 403، 404، 405، 406، 422، 426، 427، 428، 441

سيد المرسلين ،ج 2،ص:723

442، 453، 455، 458، 459، 468، 469، 473، 474، 479، 494، 504، 510، 511، 518، 535، 545، 557، 558، 592،

593، 594، 595، 599، 602، 605، 607، 608، 609، 614، 615، 618، 619، 620، 622، 626، 627، 632، 633، 635، 644، 647، 651، 654، 662، 665، 668، 673، 674، 675، 678، 683، 684، 685، 686.

على الاحمدي (الشيخ) 353، 385.

علي بن تقي 426.

علي بن الحسين (الامام) 423.

علي بن الفارقي 427.

علي بن الهلالي 118.

عمار بن ياسر 12، 13، 14، 15، 16، 20، 37، 105، 227، 228، 573.

عمارة 350.

عمر بن الخطاب 60، 61، 71، 91، 92، 94، 119، 134، 135، 161، 162، 175، 219، 220، 269، 307، 310، 333، 398، 419، 426، 456، 474، 482، 483، 631، 660، 669، 670، 683، 685.

عمر بن عبد العزيز 134، 427، 428.

عمرو بن اميّة 205، 206، 298، 375، 384، 412.

عمرو بن الجموح 147، 149، 179، 183، 188، 189.

عمرو بن جحاش 207.

عمرو بن حزم 15.

عمرو بن الحضرمي 39، 44، 74.

عمرو بن الحمق 115.

عمرو بن سالم 465.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:724

عمرو بن العاص 14، 15، 136، 298، 299، 338، 346، 431، 438، 443، 456، 509.

عمرو بن عبد ود العامري 261، 262، 263، 264، 265، 266، 267، 268، 272.

عمرو بن عثمان 427.

عمير الفارس 74.

عمير الحمام 79. سيد المرسلين ج 2 724 (4) فهرس الأعلام ..... ص : 710

ير بن وهب 73، 161، 505.

عيسى بن مريم (النبي) 263، 264، 370، 371، 376، 377، 378، 384، 551.

العيص 350.

عيينة بن حصن الفزاري 301، 530.

- غ- غالب بن عبد اللّه 128.

غافل بن البكير 544.

- ف- الفاكة بن المغيرة 509.

فرانسيز

فريديناند (الارشيدوق) 124.

الفخر الرازي 238، 241، 605، 609.

فرعون 200، 299، 369، 370.

فيروز 366.

الفضل بن العباس 240، 518، 599، 684، 686.

فهم 532.

- ق- القصواء (الناقة) 492.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:725

القاسم بن رسول اللّه 597.

قيصر 231، 260، 261، 265، 269، 362، 363، 376، 381، 382، 387، 444.

- ك- كارليل (توماس) الانجليزي 478.

كرز بن جابر 37.

كسرى 331، 365، 366، 367، 368، 369، 387.

كعب بن الاسد 27، 256، 258، 291، 467.

كعب بن الاشرف 132، 134، 135، 136، 293، 297، 402.

كعب بن زهير 10، 539، 540.

كعب بن زيد 203.

كعب بن مالك 178، 442، 576.

كنان بن الربيع 410.

- م- المأمون 424، 427.

مالك بن ابي 211.

مالك الاشتر 115، 567.

مالك بن الدخشم 184.

مالك بن عوف 359، 364، 375، 515، 523، 528، 532.

مالك بن قيس 561.

مالك بن نويرة 512.

محمد بن اسحاق 6، 171.

محمد بن ابي بكر 115.

محمد بن احمد المخزومي 621.

محمد بن بشارة 222.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:726

محمد بن جرير 130.

محمد بن عبد اللّه 603، 612.

محمد بن عمر البغدادي 652.

محمد بن سعيد 71، 543.

محمد بن مسلمة 133.

محمد بن المطلب الشيباني 603، 612.

محمد بن صدقة العنبري 612.

محمد بن علي الباقر (الامام) 222.

محمد بن معد العلوي 164، 177.

محمد الثاني (السلطان) 358.

محمد حسين هيكل 671.

محمد حميد اللّه (البروفيسور) 353.

محمد عادل (الاستاذ) 110.

محمد عثمان كريم 111، 118.

محمد الفاتح 358.

محمد اليمني (الامير) 653.

محمد المهدي (العباسي) 427.

محمود شلتوت (الشيخ) 637.

محمود بن سلمة 393، 410.

مجاعة بن مرارة 385.

مجدة بن عمرو 34، 44، 66.

مخرمة بن نوفل 68.

المخيريق 27، 29.

مربع بن قيض 146.

مرحب 400، 401.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:727

مرارة بن الربيع 576، 577.

مرتد بن ابي مرتد 114، 205.

مرة بن مروان 402.

مروان بن الحكم 427.

المستعلى بن المستنصر 650.

مسلمة بن اسلم 260.

مسيلمة الكذاب 656، 657، 659.

مصعب بن عمير 55، 155، 160.

مطعم

بن جبير 137.

مقداد بن عمرو 60، 61، 62، 473، 486.

معاذ بن جبل 513، 539، 625.

معاوية بن ابي سفيان 14، 15، 16، 17، 20، 51، 77، 78، 338، 424، 507،

532، 541.

مقيس بن صبابة الكندي 490.

معبد بن أبي معبد الخزاعي 192، 193.

معبد بن خالد 486.

معقل بن سنان 486.

المغيرة بن شعبة 330، 331، 334، 373، 374، 584، 587.

المقوقس 371، 372، 373، 374، 376، 542.

مكرز بن حفص 329، 432.

مناة (صنم) 509.

منذر بن عمرو 202.

منذر بن محمد 205.

ميسرة 224.

موسى (النبي) 20، 60، 62، 299، 371، 378.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:728

موسى الهادي بن المهدي 427.

- ن- نائلة (صنم) 493.

ناپليون بونابرت 356.

النضر بن الحارث 81، 87.

النعمان بن المقرن 486.

النعمان بن المنذر 529.

نعيم بن مسعود 228، 272، 273، 274، 285، 407، 486.

نميلة بن عبد اللّه الليثي 388.

نوفل بن عبد اللّه 263، 266.

- ه- هارون 427.

هاشم بن عتبة 115.

هبار بن الاسود 490.

هبل (صنم) 167، 180، 493.

هرقل 151.

هبيرة بن وهب 263.

هلال بن أميّة 576، 577.

هوذة بن علي 383، 384، 385.

- و- واقد بن عبد اللّه 39.

وحشي بن حرب 137، 174، 175، 490.

الوليد بن عقبة بن ابي معيط 312.

الوليد بن عتبة 76، 77.

ويليم مويير (السير) 354.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:729

ياسر 15.

يحيى بن عمارة 155.

يحيى بن معين 224.

يزيد بن الخصيب 486.

يزيد 17، 427.

يوحنا بن رؤبة 569.

يوشع بن نون 421.

النساء:.

آمنة بنت وهب 138.

أسماء بنت عميس 451، 677.

جميلة (بنت عمر) 544.

جويرية بنت الحارث بن ابي ضرار 311.

حليمة السعدية 529، 531.

خديجة بنت خويلد 3، 92، 93، 110، 231، 356، 597، 681.

رقية بنت رسول اللّه 103، 110، 118، 597.

زينب بنت جحش 230، 232، 233، 235، 237، 238، 239، 240، 242.

زينب بنت رسول اللّه 92، 94، 104، 109، 110، 118، 542، 597 ..

سلمى 542.

شيماء بنت الحارث

531.

صفية بنت حيي بن أخطب (زوجة النبي) 394، 409، 410، 417.

صفية بنت عبد المطلب (عمة النبي) 183، 259.

عائشة بنت ابي بكر 112، 115، 117، 122، 315، 317، 318، 319، 320، 322، 607، 682، 683، 684.

عاتكة 488.

عاصية 544.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:730

فاطمة بنت أسد 229.

فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه 94، 103، 104، 105، 106، 107، 108، 109، 110، 112، 113، 114، 115، 117، 118، 119، 120، 190، 422، 423، 424، 427، 457، 468، 497، 605، 606، 607، 608، 618، 678، 680، 682.

مارية القبطية (زوجة النبي) 315، 322، 542، 597.

مريم بنت عمران 120، 376، 442.

ميمونة (زوجة النبي) 436، 437، 675، 677.

نسيبة المازنية 165، 176.

هند بنت عتبة 63، 154، 174، 181، 182، 185، 188، 489، 507، 508.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:731

(5) فهرس القبائل و الامم

أذرح (قبيلة) 569.

أسد (قبيلة) 196، 472.

الاوس (قبيلة) 9، 18، 21، 22، 24، 26، 27، 30، 31، 32، 42، 55، 139، 146، 149، 154، 155، 209، 214، 228، 258، 281، 286، 289، 290.

أيلة (قبيلة) 292، 320، 321، 569، 578.

ثمالة (قبيلة) 532.

بنو اسرائيل 60، 62، 257، 294.

بنو أسد 197، 250.

بنو اشجع 250، 486.

بنو الأصفر 362، 555.

بنو أميّة 427، 428، 434.

بنو بكر 59، 131، 139، 465، 466.

بنو ثعلبة 24، 226.

بنو جذيمة 510، 511، 512.

بنو جشم 22، 24.

بنو الحارث 22، 24.

بنو الحجاج 65.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:732

بنو حسن 427.

بنو خزاعة 193، 331، 341، 463، 464، 465، 481.

بنو الزهراء 427.

بنو زهرة 68.

بنو ساعدة 22، 24، 563، 674.

بنو سعد 529، 532.

بنو سلمة 73.

بنو الشطيبة 24.

بنو سليم 128، 250، 254، 303، 455، 456، 458، 472، 485، 517.

بنو شيبان 514.

بنو ضمرة 36، 41.

بنو عامر 203، 204، 205، 270، 349، 623.

بنو العاص 59.

بنو عبد الاشهل 186، 192.

بنو عبد الدار 153، 155، 156،

157.

بنو عبد المطلب 499، 646.

بنو عبد مناة 170.

بنو عدى 333.

بنو عمرو بن عوف 22.

بنو عوف 22، 24، 80.

بنو غسان 359، 553.

بنو غطفان 129، 211، 226، 250، 270، 272، 273، 274، 278، 301، 388، 389، 407، 560.

بنو غفار 138، 301، 394، 472، 476، 486.

بنو فزارة 250، 254، 256، 270، 272، 389.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:733

بنو قريظة 21، 26، 27، 209، 211، 212، 230، 248، 252، 256، 258، 260، 261، 272، 273، 274، 275، 282، 283، 285، 286، 288، 289، 290، 291، 292، 293، 294، 295، 296، 304، 321.

بنو قينقاع 21، 26، 27، 121، 122، 124، 125، 127، 209، 248، 281، 289، 292، 304، 386.

بنو كنانة 58، 137، 170، 263، 341، 463، 464، 465، 486.

بنو كعب 472.

بنو لحيان 299، 300، 304.

بنو ليث 486.

بنو مالك 321.

بنو مدلج 37، 41.

بنو المصطلق 304، 305، 311، 312، 314.

بنو مرة 250، 254.

بنو النبيت 22.

بنو النجار 22، 24، 389.

بنو النضير 21، 26، 27، 128، 132، 206، 207، 209، 210، 211، 214، 215، 247، 248، 281، 288، 289، 293، 304، 386، 410.

بنو مزينة 486.

الخزرج (قبيلة) 9، 18، 21، 27، 30، 31، 32، 42، 55، 139، 214، 245، 258، 279، 281، 289، 292، 302، 321، 387، 389، 497، 578.

بنو وائل 247.

جرباء (قبيلة) 569، 570.

تميم (قبيلة) 472، 560.

ثقيف (قبيلة) 11، 373، 374، 514، 515، 516، 519، 521، 524، 525،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:734

526، 527، 532، 533، 582، 584، 585، 587.

جهينة (قبيلة) 472.

جذام (قبيلة) 553.

خزاعة (قبيلة) 139، 304، 327، 329، 464، 466، 467.

دوس (قبيلة) 523.

ربيعة (كذاب) 658.

سلمة (قبيلة) 532.

سويلم (قبيلة) 556.

طي (قبيلة) 544، 545، 547، 560.

لخم (قبيلة) 553.

فهم (قبيلة) 532.

قريش (قبيلة) 18، 22، 23، 24، 25، 27، 31، 36، 37، 38،

39، 40، 41، 42، 43، 44، 45، 46، 53، 54، 55، 56، 57، 58، 59، 60، 61، 64، 66، 69، 71، 73، 74، 75، 76، 78، 80، 81، 87، 89، 90، 91، 92، 97، 121، 131، 133، 136، 137، 138، 139، 140، 141، 142، 146، 148، 149، 153، 154، 155، 156، 157، 158، 160، 165، 166، 169، 174، 181، 193، 194، 228، 231، 247، 248، 249، 250، 254، 256، 257، 258، 260، 262، 265، 270، 271، 272، 273، 274، 275، 285، 286، 304، 326، 327، 328، 330، 331، 332، 333، 334، 335، 336، 337، 339، 340، 341، 342، 345، 346، 347، 348، 349، 350، 352، 253، 356، 360، 371، 374، 383، 386، 387، 388، 408، 419، 420، 431، 432، 435، 436، 437، 439، 442، 443، 448، 453، 462، 463، 464، 465، 466، 469، 471، 472، 473، 474، 477، 480، 481، 482،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:735

485، 488، 489، 491، 495، 501، 514، 526، 542، 616، 629، 657.

قيس (قبيلة) 472.

بنو هاشم 68، 80، 155، 232، 426، 427، 477، 478، 499، 646.

هوازن (قبيلة) 513، 514، 515، 516، 517، 519، 520، 529، 531، 532.

ولد اسماعيل 257، 325.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:736

(6) الكنى و الألقاب

«الكنى» الرجال:

أبو الاسود الدؤلي 112.

أبو أيوب الأنصاري 118، 417.

أبو البائت 403.

أبو البحتري 88، 155.

أبو البراء العامري 202، 203، 204، 205.

أبو بكر بن أبي قحافة 60، 61، 94، 104، 330، 396، 398، 426، 427، 455، 456، 511، 512، 524، 563، 584، 591، 592، 594، 651، 652، 654، 660.

أبو بكر الجوهري 670.

أبو بكر بن حزم 55، 134.

أبو بصير 348، 349، 350.

أبو تراب 405.

أبو جعفر البصري 94.

أبو جعفر المنصور 427.

أبو جندل 342، 343، 344، 348.

أبو

جهل 33، 34، 68، 69، 83، 88، 136، 173، 174، 263، 484، 544.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:737

ابو جهم العبيدي 162.

ابو حاتم 224.

ابو حارثة 601، 602، 610، 680.

ابو الحسن 94، 104، 408.

ابو الخير الحاكمي 114.

ابو العقيق 394.

ابو حمراء بن سفيان 171.

ابو الخير 265.

أبو دجانة الانصاري 153، 154، 157، 165، 173، 179، 213.

ابو ذر الغفاري 486، 565، 567.

ابو رافع 89، 90، 115، 135، 170، 437.

ابو ريحة 489.

ابو سعيد بن خيثمة 148.

ابو سعيد السجستاني 652.

ابو سفيان بن الحارث 478، 518.

ابو سفيان 15، 36، 37، 53، 57، 61، 66، 68، 89، 90، 91، 128، 129، 131، 136، 138، 139، 149، 152، 153، 157، 162، 163، 164، 174، 180، 181، 192، 193، 200، 228، 229، 266، 273، 274، 275، 307، 333، 338، 360، 361، 362، 466، 467، 469، 472، 478، 479، 480، 481، 482، 483، 484، 485، 486، 487، 488، 489، 491، 492، 497، 498، 508، 514، 517، 518، 533، 544، 587، 644.

ابو سلمة 37، 197.

ابو الشعثاء بن سفيان 171.

ابو طالب 90، 333، 356، 442، 485، 492، 504.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:738

ابو طلحة 118.

ابو العاص 82، 93، 94، 109، 118، 542.

ابو عامر 148، 154، 250، 578، 579.

ابو العباس السفاح 428.

ابو عبيدة الجراح 165، 169، 686.

ابو العرفان الحبان 653.

ابو عزيز 87.

ابو عزه الجمحي 82، 194.

ابو عمرة 115.

ابو العلاء الهمداني 652.

ابو الفضل 481، 488، 612.

ابو لبابة 55، 286، 287، 288.

ابو لهب 57، 89، 478.

ابو المفضل 621.

ابو موسى الاشعري 521.

ابو نائلة 133، 134، 135.

ابو واقد الليثي 486.

ابو الوليد 74، 76.

النساء:

ابنة حاتم الطائي 549.

أم أنس (بن مالك) 111.

أم أيمن 425، 426.

أم حبيبة 467.

أمّ سلمة 108، 117، 287، 278، 479، 480.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:739

أمّ سليم بن ملحان 520.

أم عامر 173.

أمّ

الفضل 89، 436.

أمّ كلثوم بنت رسول اللّه 597.

أمّ كلثوم بنت عقبة 350.

أم هاني 504.

«الألقاب» الآلوسي 238، 241، 594.

ابن طاوس (السيد) 603، 606، 611، 621.

الافندي صاحب كشف الظنون 6.

الاميني 111، 120، 648، 653.

البحراني (المحدث) 323.

البخاري 318، 320، 321، 322.

البختري 80، 81.

البروجردي (السيد) 216.

الترمذي (الحافظ) 112.

التلعكبري 621.

الثعالبي 650.

الجزري الشافعي 652.

الحلبي 397، 426، 603.

الحموي (الياقوت) 601.

الحميدي 224.

الخجندي (الحافظ) 109.

الدولابي 107.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:740

الدينارية (المرأة) 187.

الرضي (السيد) 72.

الزمخشري 605، 607.

السيوطي 6.

شرف الدين 671.

الطباطبائي (العلّامة) 216، 243، 609.

الطبري 52، 60، 61، 71، 239، 337، 404، 652.

الطوسي (الشيخ) 7، 137، 611، 620، 621.

كعب الاحبار 683.

القندوزي 19.

العامري 349.

العاملي (الحرّ) 52، 138.

العراقي (الحافظ) 112.

العقاد (عباس محمود) 118.

المامقاني 621.

المجلسي (العلّامة) 54، 73، 148، 157.

المسعودي 615.

المطهري (الاستاذ) 7.

المفيد (الشيخ) 155، 214، 290، 401، 455.

المقريزي 60، 131، 167، 214، 215، 254.

النجاشي 231، 298، 299، 375، 376، 377، 378، 380، 412، 442،

612.

النسائي 653.

الهيثمي 118.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:741

الواقدي (صاحب السيرة المتوفى 151) 7، 61، 63، 137، 138، 151، 162، 164، 165، 207، 263، 278، 286، 291، 374، 438، 561.

الواقدي (صاحب الطبقات المتوفى 230) 7.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:742

(7) فهرس الوقائع و الايام

الاحزاب (معركة) 230، 231، 245، 261، 270، 271، 275، 276، 279، 282، 283، 285، 293، 296، 299، 522.

بيعة العقبة 45، 59، 506، 507.

بنو المصطلق (غزوة) 315، 321.

تبوك (غزوة) 404، 445، 554، 555، 558، 561، 565، 566، 569، 570، 572، 573، 575، 576، 579، 580، 581، 582، 613.

حجة الوداع (البلاغ) 619، 638، 656.

حمراء الاسد 192، 193، 194، 195.

الخندق (معركة) 251، 252، 253، 254، 255، 260، 261، 262، 263، 266، 268، 269، 270، 274، 275، 276، 290، 293، 295، 304، 387، 522.

خيبر 35، 121، 175، 213، 247، 270، 283، 296، 297، 386، 387، 388، 389، 391،

394، 396، 400، 402، 404، 405، 406، 407، 408، 410، 411، 412، 413، 414.

ذات الرقاع (غزوة) 226.

ذات السلاسل (سرية) 416، 454.

صفين (معركة) 14، 15، 443.

قرقرة الكدر (غزوة) 128.

مؤتة (معركة) 439، 443، 449، 450، 468.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:743

(8) فهرس الأماكن و البلدان

آسيا الصغرى 357، 364.

احد 90، 132، 135، 138، 139، 140، 145، 146، 147، 148، 149، 150، 151، 155، 158، 162، 163، 164، 165، 168، 171، 172، 173، 176، 177، 179، 181، 183، 184، 187، 188، 189، 190، 191، 194، 196، 203، 206، 228، 251، 254، 261، 265، 267، 293، 303، 345، 453، 493، 508، 578.

آديس آبابا 375.

الاردن 265.

الاسكندرية 360.

أبنى 661.

أوربا 357.

أوطاس 521.

إيران 132، 216، 266، 267، 281، 353، 356، 357، 358، 363، 364، 365، 444، 445، 642.

بئر معونة 203، 204، 563.

باريس 352.

البحر الأحمر 64، 67، 569، 615.

البحرين 356، 623.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:744

بدر 32، 38، 43، 45، 53، 55، 56، 57، 63، 65، 66، 67، 68، 69، 71، 80، 82، 84، 86، 87، 88، 89، 92، 97، 121، 128، 143، 144، 149، 201، 228، 229، 269، 293، 303، 402، 472، 505، 542 ...

بصرى 359.

البصرة 414.

بغداد 113، 116، 164، 427.

البقيع 134، 135.

بكين (عاصمة الصين) 3.

بلجيكا 118.

البلقاء 553.

بيت اللّه الحرام 41، 49، 329، 339، 430، 438، 464، 492، 589، 631، 633.

بيت المقدس 42، 47، 48، 49، 50، 51، 347، 354، 361، 381، 582.

تبوك 552، 643، 660.

تهامة 509.

ثنية أذاخر 491.

ثنية المرة 17.

ثنية الوداع 301، 440، 554.

الجزيرة العربية 4، 18، 21، 41، 48، 49، 121، 217، 226، 250، 324، 341، 342، 345، 347، 353، 354، 360، 371، 372، 374، 387، 388، 434، 463، 478، 493، 503، 523، 527، 543، 544، 552، 559، 568، 578، 582، 589،

591، 593، 597، 622، 628، 642، 656.

الجحفة 327، 617، 647، 656.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:745

الجرف 440، 558، 663، 664.

الجعرانة 528، 529، 532، 536، 537.

الجندل 570، 571، 572، 573.

الجولان 381.

الحبشة 137، 144، 156، 174، 298، 356، 375، 376، 378، 380، 381، 383، 388، 412، 442، 677.

الحجاز 42، 298، 300، 356، 358، 369، 438، 442، 505، 521، 525، 545، 547، 549، 552، 553، 558، 568، 569، 571، 572، 575، 601، 602، 619، 623، 624، 625، 629، 634، 651، 656، 659، 660، 674.

حجر 552.

الحجر الاسود 620.

الحديبية 118، 327، 344، 345، 346، 348، 350، 351، 352، 374، 388، 430، 462، 464، 483، 489.

حضرموت 656.

حراء (غار) 3.

حنين 516، 517، 520، 521، 522، 523، 525، 526، 528، 529، 532.

الحيرة 356.

خيبر 35، 393، 401.

دار الندوة 345.

دمشق 155، 156، 381.

ذو الحليفة 326، 629.

ذو طوى 490.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:746

الربذة 566.

الرملة 661.

رابغ 646.

الرجيع 389، 393.

روضة الخاخ 473.

زمزم (بئر) 83، 494.

سطح (قلعة) 390.

سقيفة بني ساعدة 674.

سورية 569، 572، 573، 575، 661.

الشام 14، 15، 16، 37، 41، 47، 50، 53، 55، 56، 67، 68، 120، 125، 136، 139، 162، 165، 175، 213، 247، 300، 301، 338، 339، 350، 356، 358، 359، 360، 386، 423، 433، 439، 440، 444، 445، 464، 475، 548، 549، 552، 553، 566، 569، 570، 573، 578، 615، 643، 656، 660، 661.

الشق (حصن) 390، 407، 408.

الصفا (جبل) 434، 435، 630.

الصفراء 87.

صفين 14، 338.

الصين 126.

الطائف 38، 41، 44، 175، 519، 520، 522، 523، 524، 527، 528، 532، 540، 578، 583، 584، 587، 678.

طهران 7.

طيسفون 364.

الظهران 432، 480.

العراق 15، 125، 136، 357، 616، 674.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:747

عرفات 629، 636.

عسفان 300.

عسقلان 616.

العقبة 573.

عكاظ (سوق) 231.

فدك 94، 246، 421، 424، 425، 426،

427، 428.

فرنسا 126.

فلسطين 642، 659.

القادسية 550.

القاهرة 241.

قبا 579، 616.

قسطنطنية 358، 359، 364، 553.

قم 131، 216.

القموص (حصن) 390، 394، 409.

الكديد 426.

كربلاء 423.

الكعبة المعظمة 47، 50، 51، 53، 201، 324، 434، 493، 494، 495، 497، 498، 499، 539، 589، 630.

الكوفة 426.

لبنان 7.

لندن 7.

المدائن 364.

المدينة 5، 6، 9، 10، 11، 12، 18، 21، 23، 24، 25، 26، 31، 32، 34، 36، 37، 39، 40، 42، 47، 48، 49، 51، 52، 54، 55، 56، 57، 58، 59، 60، 67، 68، 69، 71، 77، 87، 88، 89، 91،

سيد المرسلين ،ج 2،ص:748

93، 121، 122، 126، 127، 128، 129، 131، 132، 133، 134، 135، 136، 139، 140، 141، 142، 144، 145، 146، 148، 150، 151، 154، 155، 156، 171، 174، 175، 176، 185، 186، 188، 189، 191، 192، 193، 196، 197، 199، 200، 201، 202، 203، 204، 205، 206، 207، 208، 211، 213، 227، 228، 246، 248، 250، 251، 254، 255، 256، 259، 260، 271، 272، 278، 279، 281، 282، 286، 288، 289، 292، 293، 296، 298، 300، 301، 302، 304، 306، 308، 313، 314، 315، 317، 318، 325، 327، 339، 344، 345، 348، 349، 350، 358، 372، 376، 379، 380، 381، 382، 383، 386، 387، 389، 410، 412، 418، 421، 424، 431، 435، 436، 438، 440، 446، 448، 450، 452، 453، 454، 455، 456، 458، 466، 467، 468، 473، 476، 477، 488، 492، 514، 522، 536، 537، 540، 542، 543، 545، 547، 549، 553، 554، 557، 558، 559، 560، 561، 562، 565، 568، 569، 572، 573، 575، 576، 578، 579، 581، 583، 584، 589، 592، 602، 605، 606، 610، 615، 616، 617،

619، 620، 623، 629، 643، 644، 646، 656، 660، 661، 664، 667، 674، 680، 681، 686.

المروة (جبل) 434، 435، 630.

المسجد الاقصى 113.

المسجد الحرام 47، 48، 50، 119، 325، 326، 434، 492، 493، 495، 496، 497، 628.

مسجد الأحزاب 457 ..

مسجد الشجرة 629.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:749

مسجد ضرار 148، 569.

مسجد العريش 67.

مصر (بلاط) 339، 356، 358، 369، 370، 371، 373، 374، 377، 379، 442، 542، 615، 616، 647، 656، 674.

مكة المكرمة 3، 8، 9، 33، 34، 37، 38، 39، 40، 41، 44، 47، 49، 53، 55، 56، 57، 58، 65، 67، 68، 81، 82، 88، 90، 91، 92، 121، 128، 133، 135، 136، 137، 140، 150، 174، 175، 180، 181، 191، 193، 194، 199، 200، 213، 228، 229، 231، 247، 248، 250، 257، 293، 300، 303، 307، 324، 325، 326، 327، 331، 332، 333، 334، 335، 339، 342، 343، 344، 345، 346، 348، 349، 352، 366، 419، 420، 429، 430، 431، 432، 433، 434، 436، 437، 438، 452، 464، 465، 467، 469، 470، 471، 472، 473، 474، 475، 477، 478، 479، 480، 481، 484، 485، 487، 488، 489، 490، 491، 492، 495، 496، 497، 500، 504، 505، 506، 507، 509، 513، 514، 516، 519، 521، 537، 538، 540، 542، 552 554، 560، 578، 588، 589، 591، 613، 614، 615، 616، 619، 620، 629، 630، 631، 632، 633، 646.

منى 620، 630، 634، 637.

ناعم (حصن) 390، 392، 394، 402.

نجد 203، 204، 250، 294، 383، 445، 548.

نجران 405، 578، 601، 602، 603، 604، 605.

النطاة (حصن) 407، 408، 606، 607، 610، 611، 612، 613، 614، 616، 617، 619، 620، 626، 633، 636.

الهند 111.

سيد

المرسلين ،ج 2،ص:750

وادي الرمل 455.

وادي ذفران 57، 58.

وادي القرى 35، 121، 139، 386، 418، 421، 439.

وادي اليابس 454، 455، 456، 457.

يثرب 9، 17، 21، 22، 25، 27، 42، 66، 73، 121، 140، 209، 251، 247، 248.

اليرموك 381.

اليمامة 356، 384، 623، 657، 658.

اليمن 175، 335، 357، 366، 367، 368، 381، 382، 505، 509، 539، 549، 601، 613، 619، 623، 624، 625، 626، 632، 637، 643، 656، 659.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:751

(9) فهرس المذاهب و الأديان و نظم الحكم

الامامية (الشيعة) 172، 612، 660.

الروم (الامبراطورية الرومية) 21، 93، 356، 357، 358، 360، 361، 362، 363، 364، 369، 373، 376، 379، 381، 382، 387، 431، 444، 445، 446، 464، 552، 553، 554، 555، 568، 571، 572، 581، 582، 602، 632، 642.

الساسانيون 357، 364.

السنة (أهل) 172، 423، 659، 660، 661، 667.

الصابئون 550.

العباسيون 427، 428، 541.

الغساسنة 382، 383.

الفاطميون 118، 338، 427.

الفرس 93، 357، 358، 575، 643.

القياصرة (الروم) 643.

المستشرقون 42، 43، 46، 110، 147، 160، 203، 230، 238، 341، 353، 354، 356، 396، 411، 414، 478، 506، 588، 589.

النصارى (المسيحيون) 4، 28، 120، 239، 240، 304، 352، 364، 371، 380، 405، 415، 442، 547، 552، 559، 571، 578، 602، 603، 604، 606، 607، 610، 619، 629، 642، 643.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:752

اليهود 18، 21، 22، 23، 24، 25، 26، 28، 29، 30، 31، 39، 43، 45، 47، 48، 49، 50، 82، 88، 121، 122، 123، 124، 125، 126، 132، 135، 139، 142، 145، 146، 206، 207، 208، 209، 210، 211، 212، 214، 215، 247، 249، 250، 252، 255، 257، 259، 260، 270، 272، 273، 282، 284، 285، 286، 287، 288، 289، 290، 291، 292، 297، 298، 304، 321، 377، 387، 388، 389، 390،

391، 392، 393، 394، 395، 396، 398، 399، 400، 402، 404، 405، 406، 407، 413، 414، 415، 416، 417، 418، 419، 421، 429، 438، 442، 523، 556، 578، 660.

سيد المرسلين ،ج 2،ص:753

(10) فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة ضمنا

1- مميزات النهضة الالهية و خصائصها 3

2- دور المساجد في الاسلام 9

3- خطأ المستشرقون في تفسير المناورات العسكرية 42

4- كرامة علمية لرسول اللّه في مسألة القبلة 51

5- اهمية الزواج في الاسلام و مشاكل الزواج المعاصرة و علاجها 100

6- المستشرقون و الاساءة الى النبي (ص) في قصة زينب 237

7- عالمية الرسالة المحمدية 354

8- فدك و حكم الاراضي المفتوحة بلا قتال 422

9- نوعية علم رسول اللّه (ص) بالمغيبات 564

10- مكافحة الاسلام للخرافة 599

11- الخلافة من منظار السنة، و الشيعة 639

12- الارتباط بالارواح في ضوء مكالمة أهل البقيع 665

سيد المرسلين ،ج 2،ص:754

(11) فهرس المصادر

1- الآثار الباقية/ للبيروني

2- الأبطال/ لتوماس كارلايل

3- ابو طالب مؤمن قريش/ للخنيزي

4- الإتحاف/ للشبراوي

5- الاحتجاج/ للطبرسي

6- إحياء العلوم/ للغزالي

7- أخبار أصفهان/ لابي نعيم الاصفهاني

8- الاخبار الطوال/ للدينوري

9- الارشاد/ للمفيد

10- إرشاد الساري/ للقسطلاني

11- از پرويز تا جنكيز/ لتقي زاده

12- الاستغاثة/ لأبي القاسم الكوفي

13- الاستيعاب/ لابن عبد البر

14- اسد الغابة/ لابن الاثير الجزري

15- الاسفار الاربعة/ لصدر الدين الشيرازي

16- اسلام و جاهليت (بالفارسية)/ للنوري

17- الاشارات و التنبيهات/ لابن سينا

18- الإصابة في تمييز الصحابة/ لابن حجر

سيد المرسلين ،ج 2،ص:755

19- أصالة روح (بالفارسية)/ لصاحب الدراسة سيد المرسلين ج 2 755 (11) فهرس المصادر ..... ص : 754

- الاصنام/ للكلبي

21- اعلام النساء/ لكحالة

22- إعلام الورى بأعلام الورى/ للطبرسي

23- أعيان الشيعة/ للسيد محسن العاملي

24- الأغاني/ للراغب الاصفهاني

25- الاقبال/ لابن طاوس

26- الامالي/ للطوسي

27- الامالي/ للصدوق

28- الامامة و السياسة/ لابن قتيبة

29- إمتاع الاسماع/ للمقريزي

30- الاحوال/ لابن سلام

31- الانجيل/

32- أنيس الاعلام/ لفخر الاسلام

33- اوائل المقالات/ للمفيد

34- ايران در عهد ساسانيان (بالفارسية)/ ارتو كريستن سن

(ب) 35- بحار الانوار/ للمجلسي

36- البداية و النهاية/ لابن كثير

37- برهان رسالة (بالفارسية)/ صاحب الدراسة

38- بلوغ الادب في معرفة احوال العرب/ للآلوسي

(ت) 39- التاج الجامع للاصول/ لناصف

40-

تاريخ اجتماعي ايران (بالفارسية)/ لجماعة من المؤلفين

41- تاريخ الامم و الملوك/ للطبري

سيد المرسلين ،ج 2،ص:756

42- تاريخ بغداد/ للبغدادي

43- تاريخ تمدن ايران در عهد ساسانيان (بالفارسية)/ لذبيح اللّه صفا

44- تاريخ الخلفاء/ للسيوطي

45- تاريخ الخميس/ للديار بكري

46- تاريخ سني ملوك الارض و الأنبياء/ لحمزة الاصفهاني

47- تاريخ العرب/ لفيلب

48- تاريخ علوم و ادبيات در ايران (بالفارسية)/ لصفا

49- تاريخ القرآن/ للزنجاني

50- تاريخ اليعقوبي/ لليعقوبي

51- تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام/ للصدر

52- تحرير الاحكام/ للعلامة الحلي

53- التحرير/ للنووي

54- تحف العقول/ لابن شعبة الحراني

55- تحفة الأجلة في معرفة القبلة/ للكابلي

56- تذكرة الخواص/ لسبط ابن الجوزي

57- التراتيب الدراية/ للكتاني

58- الترغيب و الترهيب/ للمنذري

59- تفسير ابو الفتوح الرازي/

60- تفسير البرهان/ للبحراني

61- تفسير التبيان/ للطوسي

62- تفسير روح المعاني/ للآلوسي

63- تفسير صحيح آيات مشكلة (بالفارسية)/ صاحب الدراسة

64- تفسير الدر المنثور/ للسيوطي

65- تفسير الطبري/ للطبري

66- تفسير مفاتيح الغيب/ للفخر الرازي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:757

67- تفسير الكشاف/ للزمخشري

68- تفسير العياشي/ للعياشي

69- تفسير فرات الكوفي/ لفرات الكوفي

70- تفسير في ظلال القرآن/ لسيد قطب

71- تفسير القرطبي/ للقرطبي

72- تفسير القمي/ للقمي

73- تفسير مجمع البيان/ للطبرسي

74- تفسير المنار/ لعبده- رشيد رضا

75- تفسير الميزان/ للطباطبائي

76- تفسير نور الثقلين/ للحويزي

77- التقريب/ للحافظ العراقي

78- تقييد العلم/ للبغدادي

79- التنبيه و الاشراف/ للمسعودي

80- تنقيح المقال/ للمامقاني

81- التوراة/

82- تهذيب الاصول/ لصاحب الدراسة

83- تهذيب الاسماء و اللغات/ للنووي

84- تهذيب التهذيب/ للعسقلاني

(ث) 85- ثمار القلوب/ للثعالبي

(ج) 86- جغرافياى كشورهاى اسلامي (بالفارسية)/ الفقيهي

87- جمهرة خطب العرب/ لصفوة

88- جهان بيني اسلامي (بالفارسية)/ للشهيد المطهري

سيد المرسلين ،ج 2،ص:758

(ح) 89- حجة الذاهب الى ايمان ابي طالب/ لفخار بن معد

90- حلية الاولياء/ لابي نعيم الاصفهاني

91- حياة محمد/ لهيكل

(خ) 92- الخرائج و الجرائح/ للراوندي

93- الخصائص/ للنسائي

94- الخصال/ للصدوق

(د) 95- دائرة المعارف/ وجدي

96- در مكتب وحي/ لصاحب الدراسة

97- الدرجات الرفيعة/ للسيد علي خان

المدني

98- الذريعة الى تصانيف الشيعة/ لآغا بزرك الطهراني

99- ديوان أبي طالب/

(ذ) 100- ذخائر العقبى/ للطبري

(ر) 101- بزرك رسالت (بالفارسية)/ لصاحب الدراسة

102- رجال الشيخ الطوسي/

103- الروض الانف/ للسهيلي

104- روضة الكافي/ للكليني

105- روضة المتقين/ للمجلسي

106- الرياض النضرة/ لمحبّ الدين الطبري

(ز) 107- زاد المعاد/ لابن القيم

سيد المرسلين ،ج 2،ص:759

(س) 108- سفينة البحار/ للقمي

109- السقيفة (كتاب)/ لابي بكر الجوهري

110- سنن البيهقي/ للبيهقي

111- سيرة الملائي/ لعمر بن محمد

112- السيرة النبوية/ لابن هشام

113- السيرة النبوية/ لدحلان

114- السيرة الحلبية/ للحلبي

(ش) 115- شرح نهج البلاغة/ لابن أبي الحديد

(ص) 116- صحيح البخاري/ للبخاري

117- صحيح الترمذي/ للترمذي

118- صحيح مسلم/ لمسلم

119- الصحيفة السجادية/ للامام السجاد (ع)

120- الصواعق المحرقة/ للهيثمي

(ط) 121- الطبقات الكبرى/ لابن سعد

(ع) 122- عبقات الانوار/ لمير حامد

123- عدة الاصول/ للطوسي

124- العقد الفريد/ لابن عبد ربه

125- علل الشرائع/ للصدوق

126- عمدة الطالب/ لابن المهنا

127- عيون اخبار الرضا/ للصدوق

سيد المرسلين ،ج 2،ص:760

128- عيون الاثر/ لابن سيد الناس

129- عيون المجالس/

(غ) 130- الغارات/ للثقفي

131- الغدير/ للاميني

(ف) 132- فتوح البلدان/ للبلاذري

133- فتوح الشام/ للواقدي

134- فرائد السمطين/ للجويني

135- الفصول المهمة/ لابن الصباغ

136- الفهرست/ للنجاشي

137- الفهرست/ لابن النديم

(ق) 138- القاموس المحيط/ للفيروزآبادي

139- قرب الاسناد/ للحميرى

140- قرة العيون المبصرة/ للحنفي

(ك) 141- الكامل في التاريخ/ لابن الاثير

142- الكافي اصولا و فروعا/ للكليني

143- كشف الظنون/ لخليفة

144- كشف الغمة/ للاربلي

145- كشف المراد/ للعلّامة الحلي

146- كشف اليقين/ للعلّامة الحلي

147- كفاية الطالب/ للكنجي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:761

149- كنز الفوائد/ للكراجكي

150- كنوز الحقائق/ للمناوي

151- كنوز الدقائق/ للمناوي

(ل) 152- اللئالى المصنوعة/ للسيوطي

153- لسان الميزان/ لابن حجر

154- اللوامع الالهية/ للفاضل المقداد

(م) 155- ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين/ للندوي

156- المباهلة (كتاب)/ لابي المفضل الشيباني

157- المبدأ و المعاد/ للملا صدرا

158- المحجة البيضاء/ للفيض

159- مجالس ابن الشيخ/ للطوسي

160- المجالس/ للمفيد

161- المحاسن و المساوى/ للبيهقي

162- المحبّر/ لمحمد بن

حبيب

163- مروج الذهب/ للمسعودي

164- المراجعات/ لشرف الدين

165- المسند/ لابن حنبل

166- المستدرك على الصحيحين/ للحاكم النيسابوري

167- مصباح الظلام/ للدمياطي

168- مصباح المتهجد/ للطوسي

169- معالم العترة/ للجنابذي

170- معجم البلدان/ للحموي

171- المفصل في تاريخ العرب/ للدكتور جواد علي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:762

172- مقتل الخوارزمي/ للخوارزمي

173- المغازي/ للواقدي

174- مفاهيم القرآن/ لصاحب الدراسة

175- مقاتل الطالبيين/ لابي الفرج الاصفهانى

176- مقدمة ابن خلدون/

177- مكاتيب الرسول/ للأحمدي

178- مكارم الاخلاق/ للطبرسي

179- الملل و النحل/ للشهرستاني

180- من لا يحضره الفقيه/ للصدوق

181- مناقب آل أبي طالب/ لابن شهرآشوب

181- المناقب/ للخوارزمي

182- مناهل العرفان/ للزرقاني

183- المنتقى/ لابن تيمية

184- منهاج السنة/ لابن تيمية

185- المواهب اللدنية/ للقسطلاني

186- المواقف/ للايجي

187- الموسوعة العربية الميسرة/ لجماعة من المؤلفين

188- ميزان الاعتدال/ للذهبي

(ن) 189- ناسخ التواريخ/ لسپهر

190- نزهة المجالس/ للصفوري

191- النص و الاجتهاد/ للسيد شرف الدين

192- النهاية/ لابن الاثير

193- نهج البلاغة/ للشريف الرضي

194- نور الابصار/ للشبلنجيّ

سيد المرسلين ،ج 2،ص:763

(و) 195- الوثائق السياسية/ للبروفيسور حميد اللّه

196- وسائل الشيعة/ للحر العاملي

197- فاء الوفاء/ للسمهودي

198- وفيات الأعيان/ لابن خلكان

199- وقعة صفين/ لابن مزاحم

200- الولاية في طرق حديث الغدير/ للطبري

(ه) 201- الهدى الى دين المصطفى/ للبلاغي

(ي) 202- ينابيع المودة/ للقندوزي

سيد المرسلين ،ج 2،ص:764

(12) فهرس المواضيع

26- أول عمل ايجابي للنبي في المدينة وقائع السنة الاولى من الهجرة 9- 32 عقد ميثاق تعايش بين المسلمين و غيرهم 9

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبوي 12

ضئر أرأف من والدة 16

التآخي أو أعظم معطيات الايمان 18

منقبتان عظيمتان 19

منقبة اخرى لعلي 20

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين و يهود يثرب 21

أعظم معاهدة تاريخية 22

ممارسات اليهود الاجهاضية 27

خطة اخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية 29

27- مناورات عسكرية و استعراضات حربية وقائع السنة الثانية من الهجرة 33- 46 تهديد خطوط قريش التجارية 34

النبي (ص) يلاحق قريشا بنفسه 36

ما ذا كان الهدف من المناورات

العسكرية 41

سيد المرسلين ،ج 2،ص:765

نظرية المستشرقين حول هذه المناورات 42

28- تحويل القبلة من بيت المقدس الى الكعبة 47- 52 كرامة علمية لرسول اللّه (ص) 51

29- معركة بدر 53- 99 النبي (ص) يتوجه الى ذفران 55

المشكلة التي كانت تواجهها قريش 58

النبي (ص) يعقد شورى عسكرية 59

اخفاء الحقائق و كتمانها 59

قرار الشورى الحاسم أو رأي زعيم الأنصار 62

تحصيل المعلومات حول العدو 62

كيف هرب ابو سفيان 65

معرفة المسلمين بافلات قافلة قريش 68

اختلاف قريش في القتال 68

العريش او غرفة القيادة 70

نظرة الى مسألة العريش 70

تحرك قريش باتجاه بدر 72

قريش تتشاور في القتال 72

اختلاف قادة قريش في القتال 74

ما الذي حتّم القتال؟ 75

المبارزات الفردية أولا 76

أي القولين هو الأصح حول المبارزين؟ 77

الهجوم العام 78

سيد المرسلين ،ج 2،ص:766

رعاية الحقوق 80

مصرع أميّة بن خلف 80

خسائر بدر في الأرواح و الاموال 81

ما انتم باسمع منهم 82

الشعر يخلّد هذه القصة 83

بعد معركة بدر 85

قتل أسيرين في اثناء الطريق 87

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم 88

بشائر النبي الى المدينة 88

اشتراك العبّاس عم النبي (ص) في بدر 89

المنع من النوح و البكاء في مكة 90

القرار الأخير حول مصير الأسارى 91

رسول الاسلام و مكافحة الأميّة 93

كلام لابن ابي الحديد في المقام 94

القرآن يتحدث عن بدر 95

30- زواج سيدة النساء 100- 120 مشاكل الزواج في العصر الحاضر 101

رسول الاسلام يكافح هذه المشاكل عمليا 102

جهاز فاطمة 105

مراسم الزواج تقام ببساطة 107

31- جرائم بني قينقاع (اليهود) 121- 131 لهيب الحرب ينطلق من شرارة 123

تقارير جديدة تصل الى المدينة 127

سيد المرسلين ،ج 2،ص:767

غزوات في هذه السنة 127

1- غزوة قرقرة الكدر 128

2- غزوة السويق 128

3- غزوة ذي أمر 129

قريش تغير مسير تجارتها 131

32- الدفاع عن الحرية (أو معركة احد) حوادث السنة الثالثة من الهجرة 132- 195 سرية

محمد بن مسلمة لاغتيال كعب بن الأشرف 132

اغتيال مفسد آخر 135

قريش تتكفل نفقات الحرب 135

الاستخبارات ترفع تقريرا الى النبي (ص) 137

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة 138

منطقة احد 139

المشاورات في كيفية الدفاع 140

الاقتراع من أجل الشهادة 142

حصيلة الشورى 144

النبي (ص) يخرج من المدينة 145

جنديان فدائيان 146

العسكران يصطفّان 150

رفع معنويات الجنود و تقوية عزائمهم 151

العدو ينظم صفوفه 152

الإثارة النفسية و إلهاب الحماس 153

القتال يبدأ 154

المقاتلون بدافع الشهوات 157

سيد المرسلين ،ج 2،ص:768

الهزيمة بعد الانتصار 158

شائعة حول مقتل النبي (ص) 160

هل يمكن ان ينكر أحد فرار البعض 161

القرآن يكشف عن بعض الحقائق 162

التجارب المرة 164

خمسة يتحالفون على قتل النبي (ص) 165

الدفاع الموفق أو النصر المجدد 169

حمزة بن عبد المطلب 173

العدو يحاول استغلال الفرصة 179

نهاية المعركة 181

آخر ما نطق به سعد بن الربيع 184

النبي يعود الى المدينة 185

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة 187

نموذج آخر من النسوة المجاهدات 187

لا بد من ملاحقة العدو 190

حمراء الأسد 192

لا يخدع المؤمن مرّتين 194

ميلاد الامام الحسن السبط 195

حوادث السنة الرابعة من الهجرة 33- فاجعة فريق المبلّغين 196- 205 خطة ماكرة للفتك بالمبلغين 197

الغدر بالدعاة الى الاسلام و قتلهم 198

دور حزب النفاق أيضا 201

جريمة بئر معونة 202

سيد المرسلين ،ج 2،ص:769

كيد المستشرقين 203

المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين 204

34- غزوة بني النضير 206- 215 بما ذا يجب ان تقابل هذه الجريمة 208

المستشرقون و دموع التماسيح 210

مزارع بني النضير تقسّم بين المهاجرين فقط 213

35- تحريم الخمر غزوة ذات الرقاع، غزوة بدر الصغرى 216- 229 1- تحريم الخمر 216

وقفة عند «البيان الشافي» في الخمر 220

رواية مختلفة 221

2- عزوة ذات الرقاع 225

مواقف خالدة في هذه الغزوة 227

الحراس الصامدون 227

3- غزوة بدر الصغرى 228

ولادة الحسين السبط الاصغر لرسول اللّه (ص) 229

36- من أجل

تحطيم التقاليد الخاطئة حوادث السنة الخامسة من الهجرة 230- 245 زواج النبي (ص) بمطلقة دعيّه زيد 230

من هو زيد بن حارثة 231

زيد يتزوج ببنت عمة النبي (زينب بنت جحش) 232

زيد يطلّق زوجته زينب 233

سيد المرسلين ،ج 2،ص:770

زواج النبي بمطلّقة متبناه لإبطال سنة جاهلية 334

المستشرقون و قضيّة تزوج النبي بزينب 237

توضيح الحقيقة و ردّ الشبهة 239

37- غزوة الأحزاب بعض غزوات السنة الخامسة 246- 280 1- غزوة دومة الجندل 246

2- غزوة الخندق (الأحزاب) 247

استخبارات القيادة ترفع تقريرا للقيادة 250

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان 253

مقاتلو العرب و اليهود يحاصرون المدينة 254

العدد الدقيق لقوات الطرفين 254

خطر البرد و تناقص الغذاء، و العلف 255

النبي (ص) يعرف بنقض بني قريظة للعهد 258

تجاوزات بني قريظة الأوّلية 259

الايمان في مواجهة الكفر 260

أبطال من العرب يعبرون الخندق 262

تصاول البطلين 266

ضربة عليّ (ع) لعمرو و قيمة هذه الضربة 267

لما ذا التنكّر لهذا الموقف؟ 267

مروءة عليّ (ع) و شهامته 269

جيش العرب يتفرق في موقفه 270

العوامل التي فرّقت كلمة الاحزاب 272

مبعوثون من قريش يمشون الى بني قريظة 274

آخر العوامل وراء هزيمة الكفار 275

سيد المرسلين ،ج 2،ص:771

القرآن الكريم و معركة الاحزاب 276

38- سقوط آخر اوكار الفساد و المؤامرة 281- 295 قوات الاسلام تحاصر بني قريظة 282

اليهود يتشاورون حول الموقف 283

خيانة أبي لبابة 286

الى أيّ مدى ذهب الطابور الخامس في مشاغبته؟ 288

حكم سعد في بني قريظة و تقييم ما استند إليه 290

39- أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة حوادث السنة السادسة من الهجرة 296- 302 أهل الرأي من قريش يهاجرون الى الحبشة 298

الوقاية من تكرار التجارب المرة 299

النذر غير المشروع 302

40- تمرّد بني المصطلق 303- 312 غزوة بني المصطلق 304

منافق حاول إشعال الموقف 306

صراع بين الأيمان و العاطفة 309

41- قصة الإفك

313- 323 الفاسق يفتضح 313

المنافقون يتهمون شخصا نقي الجيب 314

أبرز النقاط في آيات الإفك 317

الزوائد في هذه القصة 318

سيد المرسلين ،ج 2،ص:772

منافاتها لمقام النبوّة و العصمة 318

سعد بن معاذ توفي قبل حادثة الإفك 320

42- رحلة سياسية دينيّة 324- 351 مندبوا قريش عند النبي 328

رسول اللّه (ص) يبعث مندوبا الى قريش 331

النبي (ص) يبعث سفيرا آخر الى قريش 332

سهيل بن عمرو يفاوض رسول اللّه (ص) 335

التاريخ يعيد نفسه 337

نصّ صلح «الحديبية» 339

نشيد الحرية 340

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح 341

و القضية التالية تشهد بما نقول 342

تقييم عاجل لصلح الحديبية 344

قريش تصرّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة 348

النساء المسلمات لا يسلّمن الى قريش 350

43- النبيّ يعلن عن رسالته العالمية حوادث السنة السابعة من الهجرة 352- 385 الرسالة المحمدية كانت عالمية 354

آيات تدلّ على عالمية الرسالة المحمدية 355

رسل الإسلام الى المناطق النائية 356

أوضاع العالم إبان ابلاغ الرسالة الاسلامية العالمية 357

رسول النبي في أرض الروم 358

سيد المرسلين ،ج 2،ص:773

قيصر يحقق حول النبي (ص) 360

أثر رسالة النبي (ص) الى قيصر 363

سفير النبي (ص) في البلاط الايراني 363

أوامر خسرو برويز الى واليه على اليمن 366

سفير النبي (ص) في أرض مصر 369

المقوقس يكتب كتابا الى النبي (ص) 372

سفير النبي (ص) في أرض الذكريات «الحبشة» 375

محاورة سفير النبي و حاكم الحبشة 377

تقييم سريع لمراسلة النبي (ص) قادة العالم 378

كتاب رسول اللّه (ص) الى امير الغساسنة بالشام 381

سادس السفراء في أرض اليمن 383

رسائل اخرى لرسول اللّه (ص) 385

44- قلعة خيبر أو بؤرة الخطر 386- 420 احتلال الطرق و النقاط الحساسة ليلا 390

متاريس اليهود تتهاوى 392

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة 394

فتح الحصون الواحد تلو الآخر 396

الانتصار الكبير في خيبر 399

تحريف الحقائق 401

ثلاث نقاط مشرقة في حياة الامام

علي (ع) 404

عوامل الانتصار 405

1- التخطيط العسكري الدقيق 406

2- تحصيل المعلومات حول العدو 407

3- تفاني الامام علي (ع) 408

سيد المرسلين ،ج 2،ص:774

الرحمة في ساحة القتال 409

مصرع كنانة بن الربيع 410

تقسيم غنائم الحرب 410

قافلة من أرض الذكريات (الحبشة) 412

حجم الخسائر و عدد القتلى 413

العفو بعد الانتصار 413

سلوك اليهود المتعجرف 416

حيلة مجازة 419

45- قصة فدك 421- 429 حكم الأراضي المفتوحة بلا قتال 422

قصة فدك بعد رسول اللّه (ص) 425

فدك في محكمة التاريخ 428

السيطرة على وادي القرى 429

46- عمرة القضاء 430- 437 النبي (ص) يدخل مكة 433

النبي (ص) يغادر مكة 436

47- معركة مؤتة السنة الثامنة من الهجرة 438- 451 حادثة أفجع من سابقتها 439

خلاف حول من هو الامير الأول 441

جيشا الروم و المسلمين يتواجهان 444

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة 447

سيد المرسلين ،ج 2،ص:775

الجنود المسلمون يعودون الى المدينة 448

اسطورة بدل التاريخ الصحيح 449

النبي (ص) يبكي بشدة لمقتل جعفر 450

48- غزوة ذات السلاسل 452- 461 تفاصيل هذه الغزوة 454

الامام علي (ع) ينتدب لقيادة العملية 457

عوامل انتصار الامام علي (ع) في هذه الموقعة 457

اعتراض و جواب 459

49- فتح مكة 462- 512 تفاصيل فتح مكة 463

قريش تتوجس خيفة من ردّ النبي 466

جاسوس يكتشف 469

النبي (ص) يتحرك باتجاه مكة 475

العفو عند المقدرة 477

تكتيك رائع للجيش الاسلامي 480

العباس يصطحب ابا سفيان الى خيمة النبي (ص) 482

ابو سفيان بين يدي رسول اللّه (ص) 483

مكة تستسلم من دون إراقة دماء 485

ابو سفيان يرجع الى مكة 488

القوات الاسلامية تدخل مكة 490

كسر الأصنام و غسل الكعبة 492

علي عليه السّلام على كتف النبي (ص) 494

النبي (ص) يعلن عن العفو العام 497

سيد المرسلين ،ج 2،ص:776

بلال يرفع الأذان على سطح الكعبة 497

النبي (ص) يتحدث الى أقاربه 499

خطاب النبي التاريخي في المسجد الحرام 500

التفاخر

بالنسب 501

التفاضل بالقومية 501

لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض 502

الحروب الطويلة و الاحقاد القديمة 502

الاخوة الاسلامية 503

معاقبة المجرمين 504

قصة عكرمة و صفوان 505

مبايعة نساء مكة مع النبي (ص) 506

هدم بيوت الأصنام بمكة و ما حولها 509

جرائم اخرى لخالد 511

50- معركة حنين 513- 520 جيش قليل النظير 514

تحصيل المعلومات العسكرية 514

تجهيزات المسلمين 516

استقامة النبي و من ثبت من أصحابه 517

لقطتان من الخلق النبويّ العظيم 519

51- غزوة الطائف 521- 536 شدخ جدار الحصن بالمنجنيق 523

ضغوط اقتصادية و نفسية 524

آخر محاولة لفتح حصن الطائف 526

سيد المرسلين ،ج 2،ص:777

الجيش الاسلامي يعود الى المدينة 526

حوادث ما بعد الحرب 528

اسلام مالك بن عوف 532

تقسيم الغنائم 533

رسول اللّه يعتمر 536

52- لامية كعب بن زهير المعروفة 537- 542 حزن قارن فرحا 542

53- عليّ بن أبي طالب في أرض طيّ حوادث السنة التاسعة من الهجرة 543- 551 اسلام عدي بن حاتم الطائي 543

هدم بيوت الأصنام 546

عليّ في أرض طيّ 547

54- غزوة تبوك 552- 580 تعبئة المقاتلين و تهيئة نفقات الحرب 553

المتخلّفون عن القتال 554

اكتشاف شبكة جاسوسية في المدينة 555

عدم مشاركة علي (ع) في غزوة تبوك 557

الجيش الاسلامي يتحرك نحو تبوك 559

النبي (ص) يستعرض جيشه 560

قصة مالك بن قيس 561

متاعب الطريق 562

تعليمات احتياطية 563

سيد المرسلين ،ج 2،ص:778

علم رسول اللّه (ص) بمغيبات و اخباره بها 564

الجيش الاسلامي في أرض تبوك 568

بعث خالد الى دومة الجندل 570

تقييم إجمالي لغزوة تبوك 572

المنافقون يخططون لاغتيال النبي 573

النية تقوم مقام العمل 574

اخذ المتخلفين بالعقاب النفسي 576

قصة مسجد «ضرار» 578

55- وفد ثقيف في المدينة 581- 587 وقوع الفرقة و الاختلاف في قبيلة ثقيف 582

شروط وفد ثقيف 584

56- إعلان البراءة من المشركين في منى 588- 595 تعصّب بغيض في تحليل هذا الحدث 593

57-

في رثاء الولد العزيز حوادث السنة العاشرة من الهجرة 596- 600 اعتراض غير وجيه 598

مكافحة الخرافات 599

58- وفد نجران في المدينة 601- 609 مفاوضات بين وفد نجران و بين النبي (ص) 603

خروج النبي (ص) للمباهلة 605

انصراف وفد نجران عن المباهلة 607

سيد المرسلين ،ج 2،ص:779

صورة العهد النبوي لوفد نجران 607

أكبر فضيلة 608

59- تأريخ المباهلة عاما و شهرا و يوما 610- 621 عام المباهلة حسب المشهور 611

الشهر و اليوم الذي وقعت فيه المباهلة 611

رأينا حول عام المباهلة 612

زمن المباهلة يوما و شهرا 614

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟ 619

60- تقييم البراءة من المشركين وفود القبائل في المدينة 622- 627 محاولة اغتيال النبي (ص) 623

أمير المؤمنين علي (ع) في ربوع اليمن 624

61- حجة الوداع 628- 638 الامام علي (ع) يعود من اليمن 631

مراسم الحج تبدأ 633

خطاب النبي التاريخي في حجة الوداع 634

62- إكمال الدين الاسلامي بتعيين الخليفة 639- 655 اقتضاء المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة 641

الوقائع التاريخية تؤيد المحاسبات 645

النبوة و الامامة توأمان 645

قصة الغدير 646

سيد المرسلين ،ج 2،ص:780

واقعة الغدير خالدة الى الأبد 649

الدلائل الاخرى على ابدية الغدير 651

63- المتنبئون كذبا التفكير في أمر الروم 656- 666 لمحة عن مسيلمة الكذاب 658

التفكير في أمر الروم 659

الأعذار غير المقبولة 664

الاستغفار لأهل البقيع 665

64- الكتاب الذي لم يكتب حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة 667- 679 ايتوني بقلم و قرطاس 668

ما ذا كان الهدف من الكتاب؟ 672

لما ذا لم يصرّ النبي (ص) على كتابة الكتاب؟ 674

ملافاة الأمر و تداركه 675

تقسيم الدنانير 677 سيد المرسلين ج 2 780 (12) فهرس المواضيع ..... ص : 764

ب النبي (ص) من الدواء الذي سقي 677

وداع النبي (ص) مع أهله 677

65- اللحظات الأخيرة 680- 687 النبي (ص)

يتحدث مع ابنته الزهراء (ع) 681

وصايا النبي (ص) قبيل رحيله 683

يوم الوفاة 685

الفهارس 689

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.