سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله المجلد1

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : سیدالمرسلین صلی الله علیه و آله/ تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر : [قم]: الجماعه المدرسین فی الحوزه العلمیه بقم، موسسه النشر الاسلامی ، 1412ق. = 1370 -

فروست : موسسه النش ر الاسلامی التابعه لجماعه المدرسین بقم المشرفه ؛ 390 ، 391.

شابک : دوره 964-470-396-0 : ؛ 28000 ریال : ج.1 964-470-716-8 : ؛ 45000 ریال (ج.1، چاپ دوم)

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : ج.1 (چاپ دوم: 1427ق. = 1385).

یادداشت : کتابنامه.

شناسه افزوده : جامعه مدرسین حوزه علمیه قم. دفترانتشارات اسلامی

رده بندی کنگره : BP22/9 /س 2س 9 1370

رده بندی دیویی : 297/93

شماره کتابشناسی ملی : م 71-1146

الجزء الاول

[المقدمات]

[مقدمة الناشر]

بسم اللّه الرحمن الرحيم لم تزل السيرة المحمّدية العطرة في جميع أبعادها موضع اهتمام الامة الاسلاميّة من لدن بزوغ فجر الاسلام العظيم، و منذ الأيام الأولى من البعثة النبوية الشريفة.

و لا غرو فقد كان الرسول الأكرم محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله يجسد بسيرته المثلى قيم الدين و يمثل بأخلاقه السامية أخلاق القرآن، و يعكس بمواقفه الرشيدة و بإدارته الحكيمة لشؤون الامة طريقة الاسلام في إداره دفة الحياة.

هذا مضافا إلى أنه كان القدوة التي أمر اللّه تعالى المسلمين بالاقتداء بها، و اقتفاء أثرها، كما أنه كان الظاهرة الفريدة الباهرة في الأدب الرفيع و الانسانية الشفافة و العاطفة الصادقة و الرحمة و اللطف، و غيرها ممّا كانت تفتقر بيئة ظهور الاسلام الاولى إليه و تتعطش إلى مثله.

من هنا أخذ المسلمون يهتمّون بكل حركات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سكناته، و يتأمّلون في جميع أعماله و تصرّفاته فاذا رأوا منه خلقا بادروا إلى تكراره في سلوكهم، و اذا شاهدوا منه عملا أسرعوا إلى فعله في حياتهم، و عمدوا

في المال إلى تسجيل كل صغيرة و كبيرة في هذا المجال، و ضبط كل دقيقة و جليلة في هذا الصعيد.

و فعلا كانت هذه السيرة الطيّبة العطرة المقدّسة هي المنهج العملي للمسلمين، و هي سرّ تقدّمهم، و هي رمز عظمتهم و سموّهم، و علوّ شأنهم و شأوهم.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:4

و لا تزال هذه السيرة المشرفة اليوم قادرة على أن تكون ضوء المسيرة، و مشعل الطريق، و منهج العمل و مفتاح الانتصار في معركتنا ضدّ قوى الشرّ و الطغيان.

و حيث إن امورا أقحمت في هذه السيرة، كما أنّ تطور الزمن و كيفية الدراسات اقتضيا إخراج دراسات في مجال السيرة تتناول البعد الذاتي و الرساليّ و السياسيّ و القياديّ و العسكريّ لسيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله بالتحقيق و التحليل، و تتناسب مع حاجة العصر و لغته، لهذا رأت مؤسسة النشر الإسلامي أن تقدّم للجيل الحاضر خاصة و للمسلمين عامة هذه الدراسة القيامة في سيرة خاتم الأنبياء محمّد صلّى اللّه عليه و آله لا تسأمها بكثير من هذه المواصفات.

و الدراسة هي مجموعة محاضرات للاستاذ المحقّق الشيخ جعفر السبحاني الذي عرف في الأوساط الاسلامية بتحقيقاته العميقة في الكتاب و السنّة و العقيدة و التاريخ.

و في الوقت الذي تقوم به المؤسسة- و للّه الحمد- بطبع هذه الدراسة القيامة و نشرها بعد مقابلتها تقدّم جزيل شكرها و امتنانها لسماحة الاستاذ الألمعي الشيخ جعفر الهادي لما بذله من جهود وافرة من تعريبها و استخراج النصوص من مصادرها سائلة اللّه سبحانه له و لسماحة الشيخ المحاضر و لها المزيد من التوفيق، كما و تدعو المولى عزّ و علا أن يتقبّل منا جميعا و أن تشملنا شفاعة الرسول الأعظم و آله الأطهار عليهم السّلام

في يوم الحشر إنه خير موفّق و معين.

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:5

[مقدمة المترجم]

السيرة المحمّدية مدرسة الأجيال

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» القرآن الكريم

النبيّ الأكرم «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله اسوة للمسلمين ... اسوة يقتدون بها في جميع مناحي حياتهم: الفردية و الاجتماعية، و السياسية ... اسوة إلى الأبد ... في كل زمان و مكان، في كل عصر و مصر، لجميع المسلمين من كل لون و لغة.

و لكن كيف يتأسّى المسلمون- في مختلف الأجيال و الأدوار- برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كيف يقتدون بسيرته المثلى، و يهتدون بهديه العظيم؟

إنّ هذا لا يتسنّى إلّا إذا كانت حياة رسول الإسلام بجميع خصوصياتها، و تفاصيلها، و في جميع مجالاتها و نواحيها، مدوّنة مسجّلة، بل و محلّلة تحليلا دقيقا و عميقا.

من هنا فان الضرورة تقضي بوجود تاريخ مدوّن، مشفوع بالتحليل الدقيق، و الدراسة الموضوعية لشخصية و سيرة سيد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله في كافة مجالاتها الشخصية و الرسالية و السياسية و العسكرية.

حقا إن في حياة رسول الإسلام العظيم «محمّد بن عبد اللّه» صلّى اللّه عليه و آله- كما هو واضح لمن تتبع و تصفح- امورا دقيقة، و لكن بالغة العظمة في مداليلها و معانيها، بالغة الأهميّة في معطياتها و دروسها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:6

فرسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلم هو خاتم الأنبياء، و رسالته و شريعته خاتمة الرسالات و الشرائع و نهضته هي النهضة الكبرى التي مهّد لها الأنبياء السابقون، و قد فتحت هذه النهضة الالهية صفحة جديدة في حياة البشرية، و غيّرت مسار التاريخ الإنساني تغييرا جذريا، و أسست حضارة كبرى لا تزال أمواجها- رغم مرور أربعة عشر قرنا-

حية نابضة، فاعلة، تهز الضمائر، و تتفاعل مع العقول.

و لهذا فإنّ السيرة المحمّدية مشحونة بالمناهج و الدروس، زاخرة بالبصائر و العبر، بقدر ما هي مليئة بالدقائق و الحقائق، و اللطائف و الاسرار.

حقا إن حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله بحاجة إلى تعمق جديد كلما تجدّد الزمن، و كلما تقدمت العلوم و المعارف، و تطورات الحياة، و انفتحت أمام البشرية آفاق جديدة في شتى الأصعدة و المجالات.

و لا شك أنّ هذه المهمة ليست عملا بسيطا و مهمّة سهلة، و خاصة مع ما عليه الكثير من المصادر التاريخية الاولى من تصحيف او تحريف او تشويه للحقائق، او تغيير للامور.

فان هذه المهمة تحتاج- في ما تحتاج إليه- إلى ثلاثة أشياء أساسية:

1- عقلية متفتحة، متدبرة، نافذة متأنية.

2- جهود كبيرة، و تتبع واسع، و تمييز للصحيح عن السقيم، و الدخيل عن الاصيل.

3- معرفة بجوانب تتصل بالسيرة المحمّدية اتصالا وثيقا كالمعرفة بمكانة سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله في القرآن الكريم.

فمع توفّر هذه الشروط يمكن الحصول على صورة نقيّة، و مفيدة للسيرة المحمّدية المباركة، صورة تتفق مع روح القرآن، و تلتقي مع الواقع، و تصلح للاتساء، و الاقتداء، و الاهتداء و الاقتفاء.

و لقد توفرت هذه الشروط- و للّه الحمد- في استاذنا العلامة الحجّة المحقّق سماحة الشيخ جعفر السبحاني، حفظه اللّه.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:7

فهو المعروف بسلسلته القرآنية «مفاهيم القرآن» التي تكشف عن إحاطة كبيرة بكتاب اللّه العزيز، و إلمام قليل النظير بمفاهيمه.

كما عرف بأعماله الفكرية الناضجة المتنوعة الكاشفة عن عقلية متفتحة، واعية و معاصرة.

و لهذا كان خير من قام في عصرنا الحاضر بدراسة السيرة المحمّدية الطاهرة العبقة، فكان هذا العمل التاريخي المبارك الذي توفّرت فيه المستلزمات الثلاثة الآنفة الذكر: العقلية المتفتحة،

و المعرفة الواسعة بالقرآن الكريم و خاصة في ما يتّصل بالرّسول الأكرم، إلى جانب التتبع الواسع و الاستقصاء الكبير لمواقع العبرة و الاسوة في حياة خاتم الأنبياء و سيّد المرسلين.

و لا أجدني- في هذا التقديم العابر- بحاجة إلى ذكر نقاط القوة الكثيرة في هذه الدراسة المستوعبة لشخصية و حياة رسول الإسلام، بل أرى أن يحاول القارئ الكريم بنفسه الاطلاع على ذلك حتى لا يفوته شي ء ممّا لا يفوّت، و سيقف بنفسه أيضا على جسامة ما بذل في هذه الدراسة من جهد، و روعة ما ضمّنت من تحليل، و أهمية ما احتوته من حقائق.

و في الختام اسأل اللّه العلي القدير ان يتقبل منا جميعا هذا الجهد، و يجعله ذخرا ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون، انه خير معين.

قم جعفر الهادي 30 شعبان 1409 هجرية

سيد المرسلين ،ج 1،ص:9

مقدّمة المحاضر
التاريخ في أعظم حماساته

* مختبر «الحياة» العظيم.

* «لقد عمّرت مع أولهم الى آخرهم!».

* حياة العظماء، و الخالدين.

* عند ما يلتقى العالم الحاضر بالعالم الغابر.

* التاريخ بين التسجيل

* أخطاء المستشرقين العجيبة.

(1) يحاول الإنسان دائما أن ينظر إلى كل قضيّة من القضايا من نافذة الحس، و إن يدرسها من خلال المنظار الحسي المادي، لأنّ أوثق المعلومات لديه هي تلك التي تتألف من هذه «المعلومات الحسية» و لهذا فإن المسائل التي تحظى بأدلة حسّية اكثر تكسب في العادة قسطا اكبر من ثقة الانسان، و تصديقه.

و على هذا الاساس عمد العالم اليوم الى تأسيس آلاف المختبرات الضخمة للتحقيق في شتى القضايا العلمية، و يعكف العلماء في هذه المختبرات على دراسة و تحليل الامور المتنوعة باسلوب خاص و طريقة معينة.

و لكن هل يمكن- ترى- أن تدخل المسائل و القضايا الاجتماعية في نطاق التجربة المختبرية، و تخضع

للمجهر و الميكرسكوب، ليمكن الحكم في هذه المجالات من خلال ذلك؟!

فمثلا؛ هل يمكن أن نعرف عن طريق التجارب المختبرية ما يؤدّي إليه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:10

الاختلاف و التشرذم في المجتمع الواحد، و ما يصيب شعبا من الشعوب أو أمة من الامم من هذا الطريق؟

أم هل يمكن تقييم ما تنتهي إليه جهود المستعمرين، أو ما يؤول إليه الظلم و الحيف، من خلال تجربة حسية؟

أم هل يمكن الوقوف على نتائج «الاختلاف الطبقيّ»، و «التمييز العنصريّ» في المجتمع عن طريق التجربة المختبرية؟

(1) في الاجابة على كل هذه الاسئلة يجب أن نقول: كلا مع الاسف.

و ذلك لأنّه لا توجد للقضايا الاجتماعية- رغم أهميتها القصوى- مثل هذه المختبرات، و حتى لو أمكن توفير مثل هذه المختبرات المناسبة لتحليل و تقييم و دراسة القضايا الاجتماعية، فان إنشاءها و إيجادها يكلّف نفقات باهضة، و تستدعي جهودا عظيمة.

و لكنّ الأمر الذي في مقدوره أن يقلّل من حجم هذا النقص إلى حدّ كبير هو أننا نملك اليوم شيئا يسمى ب: «تاريخ الماضين» و الذي يشرح لنا ما كان عليه البشر- أفرادا و جماعات- طوال آلاف السنين من الحياة على هذه الارض، كما و يعكس مختلف الذكريات و الخواطر عنهم، من انتصارات و هزائم،.

و نجاحات و انتكاسات، و يوقفنا بالتالي على كل ما وقع في حياة الامم و الشعوب من حوادث مرة او حلوة.

إنّ التاريخ يذكر لنا: كيف وجدت الحضارات المشرقة و المدنيات العظمى في العالم، و كيف سلكت- بعد مدة- طريق السقوط و الانقراض، حتى أنها قد محيت عن صفحة الوجود بالمرّة، و اصبحت خبرا بعد أثر، و بالتالي ما هي العوامل التي كانت وراء سيادة الشعوب ثم اندحارها.

إنّ حياة الماضين و تاريخهم يحتفظ لنا في

صفحاته بقسط كبير و مهمّ جدا من هذه الحوادث، و لهذا صح أن يقال: «التاريخ مختبر الحياة العظيم»، فبمعونة التاريخ يمكن تقييم مختلف القضايا الاجتماعية، و دراستها و استخلاص النتائج و العبر المفيدة منها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:11

(1) و إنّ من حسن الحظ أننا لم نكن أول من حطّ قدمه على هذا الكوكب، فهذه الارض بسهولها و شعابها العريضة، و تلك السماء بنجومها و كواكبها الساهرة شهدتا ملايين الملايين من البشر الذين سكنوا الارض من قبلنا، و شهدتا افراحهم و اتراحهم، همومهم و غمومهم، حروبهم، و مصالحاتهم، و كل ما رافق و اكتنف حياتهم من حبّ و بغض و ظلمات و أنوار، و ارتقاء و هبوط، إلى غير ذلك من شئون و شجون الحياة البشرية التي يزخر بها تاريخ الشعوب و الاقوام و الامم.

صحيح أنهم قد اختلفوا مع الكثير من أسرار حياتهم، و غابوا جميعا- أشخاصا و أسرارا- في بحر من النسيان و انسدل عليهم الستار، إلّا أن قسطا ملفتا للنظر و جملة يعتد بها من تلك الامور إما أنها قد دوّنت بأيدي أصحابها، أولا تزال طبقات الارض و بطون التلال تحتفظ بها في ثناياها و طياتها، كما و لا تزال ذات الاطلال الصامتة- في ظاهرها- تشكل أضخم متحف، و اغنى معرض، و اكبر مختبر، يعيد لنا شريط التاريخ و يحكي وقائعه و أحداثه، و يشرح رموزه و أسراره.

إنّ مطالعة تلكم الصفحات من تاريخ الامم الغابرة في الكتب، او في الاطلال العظيمة، أو في ما يعثر عليه المنقّبون في بطون التلال، و ثنايا الارض تعلّمنا امورا كثيرة، و تضيف إلى عمرنا عمرا جديدا و زمنا اضافيا، لا يستهان به و ذلك بما تقدم لنا من الخبرة و

العبرة، و الهدى و البصيرة.

أ ليست حصيلة العمر ما هي إلّا ما استفاده المرء من تجارب؟ أ لا يجعل التاريخ خلاصة أفضل التجارب تحت تصرفنا؟

(2) و لقد اشار الإمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام في وصية لولده الى هذه الحقيقة حيث قال:

«أي بنيّ! إنّي و إن لم اكن عمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم و فكّرت في أخبارهم و سرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأنّي بما انتهى إليّ من امورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم» «1».

______________________________

(1). نهج البلاغة، قسم الرسائل. رقم 31.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:12

(1) و لكنّ المؤسف أن كتب التاريخ الموجودة الآن تعاني من نقص كبير من حيث الاشارة الى العبر و الدروس الاجتماعية المفيدة، لأن هذه المصنفات لم تدوّن لأجل هذا الغرض، و لهذا اغفل فيها- في الاغلب- كل ما هو مؤثر في كشف الحقائق التاريخية، و إبراز العلل الكامنة وراء الحوادث المتنوعة و الوقائع المختلفة، و بالتالي فقد تجاهلت تلك الكتب و الدراسات ما هو المفتاح الطبيعيّ لحلّ الرموز الكبرى في مسيرة التاريخ البشري، و اعتنت- بدلا عن ذلك- بالقضايا التافهة.

لقد تصدّى كثير من المؤرّخين لتدوين و تسجيل القضايا التاريخية، تارة بهدف التسلية و اخرى بدافع إبراز الفضل لأقوامهم او طوائفهم، و اظهار تفوقها على الاقوام و الطوائف الاخرى، و ثالثة بدافع الحب و البغض، او التعصب لهذا أو ذاك و لهذا عجزت هذه المؤلفات و الكتب عن حل أية مشكلة، و تبديد أية حيرة، بل هي تزيد المرء ضلالا إلى ضلال، و حيرة الى حيرة!

و لكن رغم كل هذا يستطيع اولو النباهة و البصيرة، و اصحاب الفهم و التحقيق ان يتوصلوا- من خلال

مطالعة هذه المؤلفات التاريخية على ما فيها من عيوب و نقائص، و مع ما فيها من أساطير عن الشعوب المختلفة- إلى ما يساعدهم على كشف الكثير من اسرار و خلفيات القضايا و الامور المتعلقة بالشعوب الماضية، تماما كما يفعل الطبيب الحاذق، او القاضي البارع الذي يمكنهما من خلال الوقوف على القرائن الجزئية المتفرقة، التوصّل إلى اكتشاف نوع «المرض» أو حالة «المتهم» الحقيقية، و ما يعاني منه في واقعه النفسي.

(2) إنّ أعظم صفحات التاريخ قيمة هي تلك التي تعكس لنا حياة العظماء و سيرة الرجال الخالدين، و تبحث عنها بصدق و امانة و موضوعية.

إنّ لحياتهم أمواجا خاصة، كما أنها زاخرة بانواع الحوادث.

لقد كانوا عظماء حقا، و كذلك كان كل ما يرتبط بهم، و من ذلك تاريخهم، إنه شي ء عظيم يستحق التأمّل و التدبر، فهو يتسم بلمعان يلفت الأنظار، و يخلب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:13

الالباب و إنّه غني بالعظات و العبر، زاخر بالبصائر و الدروس و الى درجة لا توصف.

إنهم معجزة الخليقة بلا ريب، و إن حياتهم لهي- في الحقيقية- ملحمة التاريخ الكبرى، و ساحة البطولات الخالدة، و مسرح الحماسات العظمى، الحية النابضة على مر العصور، و الايام.

لقد كان اولئك العظماء يعيشون في الاغلب على خط الثورات و التغييرات الاجتماعية الاول (و بعبارة أصح) كانت الثورات و التحولات الاجتماعية تجد مصداقيتها في حياتهم و تتجسد في مواقفهم، و لهذا كانوا يشكلون- في واقع الأمر- حلقة الاتصال بين الدنياوات المختلفة المتناقضة، و كانت حياتهم الحافلة بالاحداث شاهدة للألوان المختلفة و المشاهد المثيرة المتنوعة.

(1) و على رأس اولئك الرجال التاريخيين و العظماء الخالدين رسول الإسلام العظيم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانه لم تتسم حياة أحد- من حيث

و فرة الاحداث، و عظمة الأمواج، كما اتسمت به حياته صلّى اللّه عليه و آله و لا اتصفت شخصية بمثل ما اتصف به ذلك النبي العظيم.

فلم يستطع احد سواه أن يؤثّر في بيئته، ثم في جميع العالم، و ينفذ إلى أعماق الاعماق بمثل السرعة و السعة التي حصلت له صلى اللّه عليه و آله.

و لم يوجد أيّ واحد منهم قط من مجتمعة المنحطّ المتخلّف، حضارة بتلك العظمة و الشموخ، كما فعله رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله- و تلك حقيقة يقرّبها كل مؤرخي الشرق و الغرب.

إنّ مطالعة عميقة لسيرة و حياة هذا الإنسان العظيم، قادرة على أن تعلمنا الكثير الكثير، و أن توقفنا على مشاهد متنوّعة في غاية النفع و منتهى الفائدة.

إن مشاهد عجيبة مثل الأيام الاولى من بناء الكعبة المعظمة، و استيطان اسلاف النبي الكريم «مكة» و هجوم عسكر الفيل الفاشل لهدم بيت اللّه المعظم، و الاحداث و الملابسات المرافقة لمولد النبي صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:14

كما و إن مشاهد محزنة مثل وفاة «عبد اللّه» و «آمنة» والدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في مطلع حياته الشريفة بتلك الكيفية المؤلمة.

و مشاهد عظيمة و مهيبة و حافلة بالاسرار مثل الايام الاولى من نزول الوحي، و ما جرى في جبل «حراء» و ما تبعه من مواقف الاستقامة و المقاومة التي ابداها و اتخذها رسول اللّه و اصحابه المعدودون طيلة ثلاثة عشر عاما، في سبيل نشر الدين الاسلامي في مكة، و مكافحة الوثنية و الجاهلية.

و كذا مشاهد مثيرة و ساخنة و حماسية مثل وقائع السنة الاولى من الهجرة المباركة و ما عقبتها من حوادث و مواقف.

(1) و لقد الّفت حول حياة رسول

الإسلام أعظم قادة البشرية على الاطلاق كتب و رسائل و دراسات كثيرة بحيث لو أتيح لنا أن نجمعها في مكان واحد لشكلت مكتبة عظيمة و ضخمة.

و يمكن القول- بشكل قاطع- بأنه ليس ثمة من عظيم استقطب اهتمام التاريخ و المؤرخين و المفكرين العالميين الكبار، كما ليس ثمة شخصيّة من شخصيّات العالم كتب حولها المؤلفون و الباحثون هذا القدر الهائل من المؤلفات و المصنفات، و الرسائل و الكتب، كما حصل لرسول الإسلام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(2) إلّا أن أكثر هذه الكتب و المؤلفات تعاني من أحد إشكالين: إما أن الكتاب جاء على نسق التسجيل المجرد للحوادث، أو النصوص التاريخية، من دون أن يتصدى فيه مؤلفه لتحليلها، و دراسة خلفياتها و نتائجها، و إصدار الحكم اللازم فيها، بل إن البعض قد تجنب عن بيان علل الوقائع الإسلامية و اسبابها، و ثمارها و معطياتها كذلك.

أو أن المؤلّف- في بعضها الآخر- عمد إلى طائفة من الآراء الحدسية، و الاجتهادات الباطلة، العارية عن الدليل و اثبتها في مؤلّفه على أنها الحكم الحق،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:15

و خلط هذه الاحكام مع بيان الحوادث، و من ثم اخرج كتابه ذاك الى الجمهور المتعطش الى تاريخ الإسلام، على أنّه التاريخ المحقّق، الممخّص.

(1) إن الإشكال الذي يرد على الطائفة الاولى هو: أن الهدف من التاريخ ليس هو مجرّد تسجيل الحوادث التاريخية و ضبطها و تدوينها، إنما هو كتابة صفحات التاريخ، و قضاياه و أحداثه من المصادر الصحيحة الموثوق بها، و إبراز عللها و اسبابها، و ثمارها و نتائجها، و التاريخ بهذا الشكل أعظم كنز تركه الأقدمون لنا، و مثل هذا النوع من الدراسة التاريخية لم تدوّن- أو أنه قلّما دوّنت- حول أعظم

قادة البشر، محمّد صلّى اللّه عليه و آله فقد تجنب اكثر كتاب السيرة النبوية عن اظهار الرأي في الحوادث، او القيام باي تحليل للوقائع، بحجة الحفاظ على اصول الحوادث و نصوصها.

(2) في حين أنّ هذا العذر، و هذه الحجة غير كافية لتبرير هذا الموقف، لأنه كان في مقدور اولئك المؤرخين- للحفاظ على ما ذكروه- أن يؤلفوا نوعين من الكتب، نوعا يختص بسرد الوقائع و النصوص التاريخية على ما هي عليه من دون ابداء رأي، او تحليل و دراسة، و نوعا آخر يعتني بذكر الحوادث و القضايا التاريخية مع تحليلها و دراستها بصورة موضوعية صحيحة أو ان يتم كلا الأمرين في كتاب واحد بأن تفرز الحوادث التاريخية عن التحليل و الرأي.

(3) على كل حال قلما نجد بين قدماء الكتّاب المسلمين من تصدى للسيرة النبوية المحمّدية الطاهرة بهذه الصورة، و قلما يوجد هناك كتاب يتناول حياة خاتم الأنبياء و سيّد المرسلين بالتحليل المذكور.

بل لا بدّ من القول بان السيرة النبوية الطاهرة ليست هي وحدها التي حرمت من مثل هذا النمط من التأليف و الكتابة، بل شمل هذا الحرمان اكثر الحوادث التاريخية التي وقعت على مر العصور الإسلامية فهي إدراجات في الكتب من دون دراسة موضوعية و تقييم دقيق.

(4) نعم إن أول من فتح هذا الطريق على وجه عامة المؤلفين و الكتاب هو:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:16

العلامة المغربي «ابن خالدون» «1» فقد أسس في مقدمته المعروفة باسم مقدمة ابن خالدون نمط التاريخ التحليلي بنحو من الانحاء.

(1) و أما الطائفة الثانية من تلك الكتب فهي و إن الفت على نمط التاريخ التحليلي و اتسمت بصفة التحقيق و الدراسة و لكن حيث ان بعضهم لم يتجشم عناء التتبع و الاستقصاء، أو أنه

اعتمد في تحليله للحوادث على المصادر غير المتقنة و غير الصحيحة، فقد تورط في أخطاء فضيعة محيّرة، و أكثر مؤلفات المستشرقين- التي لم تكتب في الأغلب بهدف التوصل الى الحقيقة- من هذا النمط، و من هذه القماشة.

و لقد دأب في هذه الدراسة- بعد ملاحظة هذه الاشكالات- على ان يقدم إلى القراء جهد امكانه كتابا يخلو عن عيوب و نقائص كلتا الطائفتين.

(2)

مزايا هذا الكتاب:

قد لا يكون من الضروري بيان مزايا هذا الكتاب، و استعراض امتيازاته في مقدمته، فذلك أمر ينبغي أن يقف عليه القارئ الكريم بنفسه ضمن مطالعته لهذه الدراسة، إلّا انه إلفاتا لنظر القارئ نشير الى مزيتين هامتين هما:

(3) أولا: أنّنا عمدنا في هذا الكتاب الى تناول و بيان الحوادث و الوقائع المهمة التي تنطوي على قدر، اكبر من الفائدة، و العبرة، و أعرضنا صفحا عن ذكر الاحداث الجزئية، و الوقائع الصغيرة مثل الكثير من السرايا.

ثم إننا أخذنا الحوادث التاريخية هذه من المصادر الأصيلة، و الأولية، التي دوّنت في القرون الإسلامية المشرقة الاولى، فقد استخلصنا الحادثة من مجموعة تلك المصادر، ثم أشرنا إلى مصدر أو مصدرين من المصادر التي ذكرت الحادثة

______________________________

(1) هو القاضي عبد الرحمن بن محمّد الحضرمي المالكي المتوفى عام 808 هج، و مقدمته و تاريخه- على ما فيهما من أخطاء فضيعة في التحليل معدود ان من الكتب الجيدة المفيدة، و هما مبتكران في نوعهما.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:17

بصورة اكثر تفصيلا و دقة.

و ربما يظن بعض القرّاء الكرام أننا اكتفينا في نقل الحوادث و الوقائع بمراجعة مصدر أو مصدرين ممّا ذكرناه في أقصى الصفحة (أي الهامش) في حين أن الواقع هو غير هذا، فنحن قد راجعنا حتى في نقل الحوادث الصغيرة مهما صغرت، اكثر المصادر الأصيلة المعروفة،

و بعد التحقق و التشبث منها لخصناها و ذكرناها في هذا الكتاب.

و لو أننا أشرنا- في جميع الحوادث و الوقائع- الى جميع المصادر التي مررنا بها لاستأثر جدول المصادر بقسم كبير من صفحات هذا الكتاب، و هو أمر من شأنه أن يبعث على الملل عند القرّاء، فلكي لا يحسّ القرّاء بأيّ تعب أو ملل من جانب، و لأجل أن نحافظ على وثائقية الكتاب و أصالة أبحاثه و إتقانها من طرف آخر اكتفينا بذكر القدر اللازم من المصادر و تجنبنا تحشيدها بتلك الصورة المملّة.

(1) و أما المزية الثانية: فإننا أشرنا- ضمن الدراسات اللازمة- إلى الاعتراضات و الاشكالات، بل و أحيانا إلى مواطن الاساءة التي قام بها المستشرقون المغرضون و أجبنا على جميع الانتقادات و الاعتراضات غير المبرّرة و غير الصحيحة بأجوبة مقنعة و قاطعة و صحيحة، و جرّدناهم من الاسلحة التي شهروها في وجه الإسلام و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- كما يقول المثل، و تلك حقيقة يقف عليها القارئ الكريم بنحو أجلى في محلّها.

و على هذا الاساس عمدنا إلى ذكر رأي المؤلّفين الشيعة (في المسائل المختلف فيها بين المؤرخين الشيعة و المؤرخين السنة) مع ذكر المصادر و الشواهد التاريخية الواضحة و المبرهنة عليه، و أزحنا كل ما يدور حول ذلك الرأي من شبهة أو إشكال، و يستهدف إنكار صحته و حقانيته.

إننا إذ نقدّم هذه الدراسة التحليليّة لشخصية و حياة خاتم الأنبياء محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلى القراء الكرام نأمل أن يهتم بها عامّة المسلمين و خاصة المثقفين و الشّباب منهم بوجه خاصّ، و يتناولوا هذه السيرة العطرة بالمطالعة المتأنّية و التأمل

سيد المرسلين ،ج 1،ص:18

و التدبر، و نأمل أن يستطيع شبابنا

المؤمن المتحمّس من أن يرسم خريطة حياته و حياة مجتمعه في ضوء ما يستلهمه و يستوحيه من سيرة و حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله، في هذه الحقبة البالغة الخطورة. و اللّه وليّ التوفيق.

جعفر السبحاني 26/ جمادى الآخرة/ 1392

سيد المرسلين ،ج 1،ص:19

سيّد المرسلين في ضوء القرآن الكريم

اشارة

لقد سلّط القرآن الكريم الضوء على رسول الإسلام محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله في آيات كثيرة تناولت بيان أسمائه و نشأته و صفاته و خصاله، و بشارات الأنبياء السابقين به و عصمته و اميّته و رسالته و خاتميته و جهوده العظيمة التي بذلها في سبيل ابلاغ مهمته، و الخطابات الخاصة الالهية الموجّهة إليه و ما يتوجب على المؤمنين تجاهه في حياته و بعد وفاته، و ما يتوجب عليهم تجاه أهل بيته و عترته، و لكي تكون هذه الرؤية القرآنية الشاملة الدقيقة هي القاعدة الاساسية في دراسة الشخصية و السيرة المحمّدية العظيمة آثرنا ادراج طائفة منها

سيد المرسلين ،ج 1،ص:20

في مقدمة هذا الكتاب.

* وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. (آل عمران/ 144).

* مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ. (الفتح/ 29).

* وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. (الصف/ 6).

* ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى. (الضحى/ 4/ 8).

* أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ.

(الانشراح/ 1- 4).

* وَ إِذْ

أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. (آل عمران/ 81).

* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ. (الأعراف/ 157).

* الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ. (البقرة/ 146).

* الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ. (الأنعام/ 20).

* فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.

(الأعراف/ 158).

* هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. (الجمعة/ 2).

* وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً. (النساء/ 113).

* وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ.

(العنكبوت/ 48).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:21

* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. (العلق/ 1- 5).

* ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَ

هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى. (النجم/ 2- 17).

* وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ. (الحاقة/ 44- 47).

* وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ. (يس/ 69).

* وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ.

(الصافات/ 36- 37).

* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ. (الحاقة/ 40).

* وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ. (التكوير/ 24).

* سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. (الاعلى/ 6).

* فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. (البقرة/ 137).

* وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. (المائدة/ 67).

* وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا. (التوبة/ 74).

* إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. (الحجر/ 95).

* وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. (الاسراء/ 73- 74).

* أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. (الزمر/ 36).

* وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا. (الطور/ 48).

* تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (آل عمران/ 108).

* اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ. (العنكبوت/ 45).

* وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. (الاحزاب/ 2).

* وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. (الشعراء/ 214).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:22

*

فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ. (الحجر/ 94).

* قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. (الحج/ 49).

* وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. (المؤمنون/ 73).

* تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. (الفرقان/ 1).

* وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً. (الفرقان/ 56).

* وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ. (الأنفال/ 33).

* لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ. (التوبة/ 128).

* بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. (التوبة/ 128).

* وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ. (الأنبياء/ 107).

* إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ. (الحج/ 67).

* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. (الشعراء/ 193).

* إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ. (البقرة/ 119).

* كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. (البقرة/ 151).

* لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. (آل عمران/ 164).

* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. (الفتح/ 28- 29).

* يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً.

(الاحزاب/ 46).

* وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً. (سبأ/ 28).

* قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ. (سبأ/ 46).

* فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ. (الذاريات/ 50).

*

وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. (النساء/ 78).

* وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً. (النساء/ 113).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:23

* إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ. (النساء/ 163).

* لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.

(النساء/ 166).

* ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ. (الاحزاب/ 40).

* قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً. (الاعراف/ 158).

* وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. (يونس/ 65).

* فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ. (هود/ 12).

* وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. (هود/ 120).

* وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ.

(الرعد/ 32).

* لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ. (الحجر/ 88).

* وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ. (الحجر/- 99).

* وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. (النحل/- 128).

* فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً. (الكهف/ 6).

* فَاصْبِرْ عَلى ما

يَقُولُونَ. (طه/ 130).

* وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ.

(الحجّ/ 42- 44).

* وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً. (الفرقان/ 31).

* لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. (الشعراء/ 3).

* وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. (النحل/ 127).

* فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ. (الروم/ 60).

* وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ. (لقمان/ 23).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:24

* وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. (فاطر/ 4).

* سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. (الأسراء/ 1).

* فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ. (فاطر/ 8).

* وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ. (فاطر/ 25).

* فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ. (يس/ 76).

* وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. (الصافات/ 171- 172).

* وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ.

(الصافات/ 173- 175).

* وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ. (الصافات/ 178- 179).

* فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ. (ص/ 17).

* أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. (الزمر/ 36).

* فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. (المؤمن/ 55).

* وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ

مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ. (الانعام/ 52).

* وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.

(الكهف/ 28).

* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُ ونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. (النور/ 62- 63).

* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ

سيد المرسلين ،ج 1،ص:25

حِجابٍ. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً. (الاحزاب/ 53).

* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ

أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(الحجرات/ 1- 5).

* وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ.

(الحجرات/ 7).

* وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. (القلم/ 4).

* وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. (الحجر/ 88).

* وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. (الشعراء/ 215).

* لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.

(التوبة/ 129).

* فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.

(آل عمران/ 159).

* لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً.

(الاحزاب/ 21).

* قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(آل عمران/ 31).

* فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. (النساء/ 65).

* إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً.

(الاحزاب/ 56).

* إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. (الكوثر/ 1- 2).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:26

* إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. (الاحزاب/ 33). «1»

______________________________

(1) و لقد بحث سماحة الاستاذ العلامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني صاحب هذه المحاضرات حول جميع هذه الآيات و نظائرها في دراسة عميقة

و شاملة في الجزء السابع من موسوعته «مفاهيم القرآن».

سيد المرسلين ،ج 1،ص:27

(1)

1 شبه الجزيرة العربية

اشارة

أو مهد الحضارة الإسلامية الجزيرة العربيّة هي في الحقيقة شبه جزيرة كبيرة و تقع في الجنوب الغربي من آسيا، و تبلغ مساحتها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع، أي ضعف مساحة إيران، و ستة أضعاف فرنسا، و عشرة أضعاف إيطاليا، و ثمانين ضعف سويسرة.

و يحدّ شبه الجزيرة- هذا الذي هو اشبه ما يكون بمستطيل غير متوازي الاضلاع- من الشمال فلسطين و صحراء الشام، و من المشرق الحيرة و دجلة و الفرات و الخليج الفارسي، و من الجنوب المحيط الهندي و خليج عمان، و من المغرب البحر الأحمر.

و على هذا يحاصر هذه الجزيرة من المغرب و الجنوب البحر، و من الشمال و الشرق الصحراء، و الخليج.

(2) و قد جرت العادة بتقسيم هذه المنطقة من القديم إلى ثلاثة اقسام:

1- القسم الشمالي و الغربي و يسمى بالحجاز.

2- القسم المركزي و الشرقي و يسمى بصحراء العرب.

3- القسم الجنوبي و يسمى باليمن.

و تشكّل داخل شبه الجزيرة هذا صحاري كبيرة، و مناطق شاسعة رملية حارّة، و غير قابلة للسكنى تقريبا، و من جملة هذه الصحاري صحراء «بادية

سيد المرسلين ،ج 1،ص:28

سماوة» التي تسمى اليوم بصحراء «النفوذ» و صحراء اخرى واسعة الاطراف تمتد إلى الخليج الفارسيّ يطلق عليها اليوم اسم «الربع الخالي» و قد كان يسمى قسم من هذا الصحاري سابقا بالأحقاف، و يسمى القسم الآخر بالدهناء.

(1) و على أثر هذه الصحاري تشكل ثلث مساحة شبه الجزيرة هذا أراضي خالية من الماء و العشب و غير قابلة للسكنى، اللهم إلّا بعض ما يحصل من المياه، بسبب تساقط الامطار، في قلب الصحاري فيتجمع حولها بعض القبائل العربية بعض الوقت، و يرعون فيها ابلهم و انعامهم ردحا

قليلا من الزمن.

و أمّا حالة المناخ في شبه الجزيرة العربية، فالهواء في الصحاري و الأراضي المركزية (الوسطى) حار و جاف جدا، و في السواحل مرطوب، و في بعض النقاط معتدل، و بسبب رداءة الطقس هذه لا يتجاوز عدد سكانه خمسة عشر مليون نسمة.

(2) و توجد في هذه الجزيرة سلسلة جبال تمتد من الجنوب الى الشمال، و يقارب ارتفاع أعلى قممها 2470 مترا.

و قد كانت معادن الذهب و الفضة و الاحجار الكريمة تشكل مصادر الثروة في شبه الجزيرة هذا منذ القديم، و كان سكانها يعتنون- من بين الأنعام و الحيوانات- بتربية الابل و الفرس اكثر من غيرهما، و من بين الطيور بالحمام و النعامة اكثر من الطيور الاخرى.

بيد أن اكبر مصدر للثروة في الجزيرة العربية اليوم يأتي عن طريق استخراج النفط.

و تعتبر مدينة «الظهران» الذي يسميه الاوربيون بالدهران المركز النفطي الرئيسي في هذه الجزيرة، و يقع هذا البلد في ناحية الاحساء التي تقع في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية على حدود الخليج الفارسي.

(3) و لكي يتعرف القارئ الكريم على الأوضاع في شبه الجزيرة العربية هذا بنحو اكثر تفصيلا فاننا نعمد إلى شرح الاقسام الثلاثة المذكورة:

(4) 1- «الحجاز» و هي المنطقة التي تشكل القسم الشمالي و الغربي من الجزيرة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:29

العربية و تمتد أراضيها على ساحل البحر الاحمر ابتداء من فلسطين و حتى حدود اليمن.

و الحجاز بعد هذا منطقة جبلية، و ذات صحار قاحلة، و اراض حجرية، و صخرية، يكثر فيها الحصى.

و لقد كانت هذه المنطقة- في التاريخ- اكثر شهرة من غيرها، و من المعلوم أنّ هذه الشهرة جاءت بسبب جملة من العوامل المعنوية و الدينية، فهي الآن تضمّ بين جوانحها بيت اللّه الحرام «الكعبة المعظمة»، قبلة

ملايين المسلمين، و مهوى افئدتهم.

و قد كانت البقعة التي تقوم عليها بنية «الكعبة المعظمة» تحظى منذ سنوات مديدة قبل بزوغ الإسلام باحترام العرب و غيرهم، و لهذا حرّموا القتال حول الكعبة تعظيما لها، حتى إذا جاء الإسلام أقرّ للكعبة و لما حولها، مثل ذلك الاحترام، و التعظيم أيضا.

و من أهمّ مدن الحجاز: «مكة» و «المدينة» و «الطائف»، و كان للحجاز منذ القديم ميناءان هما: ميناء «جدة» الذي يستخدمه أهل مكة، و ميناء «ينبع» الذي يستخدمه أهل المدينة، في سدّ الكثير من احتياجاتهم و يقع هذان الميناءان على ساحل «البحر الاحمر».

(1)

مكة المعظمة:
اشارة

و هي من أشهر مدن العالم و أكثر المدن الحجازية سكانا، و ترتفع عن سطح البحر بما يقارب 300 مترا.

و اذ تقع مدينة «مكة» بين سلسلتين من الجبال لذلك فانها لا ترى من بعيد، و يقطنها اليوم حوالي (150) ألفا من السكان.

(2)

تاريخ مكة:

يبدأ تاريخ «مكة المكرمة» من زمن النبي إبراهيم الخليل عليه السّلام، فقد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:30

أسكن هذا النبي ولده «اسماعيل» مع أمه «هاجر» في ارض مكة، فنشأ اسماعيل هناك، و تزوج من القبائل التي سكنت على مقربة من تلك المنطقة.

ثم إن إبراهيم عليه السّلام بنى و بأمر من اللّه تعالى البيت الحرام «الكعبة».

و تقول بعض الروايات الصحيحة إن الكعبة بنيت على يد النبيّ نوح عليه السّلام و أن ابراهيم عليه السّلام جدّد بناءها.

و هكذا نشأت و بعد هذا تأسست مدينة مكة.

و تتكون نواحي «مكة» من أراض سبخة شديدة الملوحة بحيث لا تكون قابلة للزراعة اصلا، حتى أن بعض المستشرقين يذهب إلى أنه لا يوجد أية منطقة في العالم في رداءة أوضاعها الجغرافية و المحيطية و الطبيعية مثل هذه المنطقة.

(1)

المدينة المنوّرة:

و هي مدينة تقع في شمال مكة و تبعد عنها ب: 90 فرسخا تقريبا، و تحيط بها بساتين و مزارع و نخيل وافرة، و أرضها أكثر صلاحية لغرس الاشجار و الزرع.

و كانت المدينة المنورة تسمى قبل الإسلام ب «يثرب»، و بعد أن هاجر إليها رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله سمّيت بمدينة الرسول، ثم اطلقت عليها لفظة «المدينة» مجردة تخفيفا.

و يحدثنا التاريخ أن العمالقة كانوا أول من سكن هذه الديار، ثم خلف العمالقة طائفة اليهود، و الأوس و الخزرج الذين سمّي المسلمون منهم بالأنصار في ما بعد.

(2) هذا و قد سلمنت الحجاز- على عكس سائر المناطق- من طمع الطامعين و غزو الغزاة و الفاتحين، و لم نشاهد فيها أي شي ء من آثار حضارة الامبراطوريتين العظيمتين آنذاك قبل الإسلام: الروم و الفرس، و ذلك لأنها إذ كانت تتألّف من أراض قاحلة مجدبة غير قابلة للسكنى و العيش لم

تحظ باهتمام أحد من اولئك الفاتحين حتى يفكر في تسيير العساكر، و تحبيش الجيوش لفتحها ليعود بعد تحمّل آلاف المشاكل التي تستلزمها عملية الاستيلاء على أراضي تلك المنطقة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:31

خالي الوفاض صفر اليدين.

(1) و للوقوف على هذه الحقيقة اقرأ القصة التالية التي نقلها «ديودرس».

عند ما دخل ديمتريوس القائد اليوناني الكبير «بطرا» (و هي مدينة قديمة من مدن الحجاز) بهدف فتح جزيرة العرب خاطبه سكان تلك المدينة قائلين:

لما ذا تحاربنا أيها الملك ديمتريوس و نحن من سكان الصحارى التي لا تسدّ فيها خلّة، ترانا نقطن في هذه البقاع القاحلة فرارا من العبودية. اقبل هدايانا، و ارجع الى حيث كنت، سنكون من أوفى الاصدقاء لك، و لكنك اذا رغبت في حصرنا حرمت كل هناءة، و رأيت عجزك عن اكراهنا على تبديل طرق حياتنا التي تعوّدناها منذ نعومة أظفارنا، و إذا قدرت على أسر بعضنا أيقنت أنك لن تجد واحدا ممن أسرت يستطيع أن يألف حياة غير التي ألفناها.

هنا لك رأى ديمتريوس أن يقبل هديتهم و ان يرضى بالمآب «1».

(2) 2- المنطقة الوسطى و الشرقية، التي تسمى ب «صحراء العرب» و منطقة «نجد» التي هي جزء من هذه المنطقة أرض مرتفعة يقوم فيها بضع قرى صغيرة معدودة.

و لقد أصبحت الرياض التي اتخذها السعوديون عاصمة لهم بعد استيلائهم من المراكز المهمة في هذه الناحية من الجزيرة.

(3) 3- المنطقة الجنوبية الغربية من الجزيرة العربية، و التي تسمى ب «اليمن» و تمتد طولا من الشمال الى الجنوب حوالي (750) كيلومترا و من الغرب الى الشرق حوالى (400) كيلومترا.

و تقدر مساحة هذا البلد بستين الف ميل مربع تقريبا، و لكنها كانت- قبل ذلك- أوسع من هذا القدر، و قد كان قسم منها

(و هو عدن) خلال النصف الاول من القرن الأخير تحت الانتداب البريطاني، و من هنا ينتهي شمالا الى نجد، و جنوبا الى عدن، و غربا الى البحر الأحمر و شرقا الى صحراء الربع

______________________________

(1) حضارة العرب: تأليف غوستاف لوبون ص 91- 92 ترجمة عادل و عبتر.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:32

الخالي «1».

(1) و من مدن اليمن المعروفة مدينة «صنعاء» التاريخية العريقة، و من موانئها المشهورة ميناء «الحديدة» التي تقع على البحر الأحمر.

و منطقة اليمن من اكثر مناطق الجزيرة العربية خصوبة و بركة، و لها تاريخ مشرق و عريق في المدنية و الحضارة، فقد كانت اليمن مقرا لملوك تبّع، الذين حكموا اليمن سنينا مديدة و كانت اليمن قبل الإسلام مركزا تجاريا مهما، و كانت في الحقيقة ملتقى طرق الحجاز، اشتهرت في العصور القديمة بمعادن الذهب، و الفضة، و الحديد، و النحاس، و كانت تصدر الى خارج البلاد.

(2) و لا تزال اثار الحضارة اليمنية القديمة باقية الى الآن.

و لقد قام أهل اليمن الاذكياء باقامة أبنية و عمارات عالية و جميلة بهممهم العالية في عصور كان البشر يفقد فيها الوسائل الثقيلة، و الاجهزة المعقدة.

كان ملوك اليمن يحكمون البلاد دون أي منازع، إلّا أنهم رغم ذلك لم يكونوا يمتنعون عن تنفيذ ما رسمه حكماء اليمن و رجالهم من انظمة و قوانين للحكم و ادارة البلاد آنذاك.

و لقد سبقوا الآخرين في الزراعة و الفلاحة، و قد نظموا لإحياء الأراضي و زراعتها، نظاما دقيقا للريّ طبقوا بنوده بدقة، و لهذا كانت بلادهم تعدّ- آنذاك- من البلدان الراقية المتقدمة من هذه الناحية.

(3) فها هو «غوستاف لوبون» المؤرخ الفرنسي المعروف يكتب حول اليمن قائلا:

إنّ بلاد العرب السعيدة من أغنى بقاع العالم «2».

(4) و يكتب الادريسيّ المؤرخ المعروف الذي كان

يعيش في القرن الثاني عشر حول «صنعاء» قائلا: كانت صنعاء مقر ملوك اليمن، و عاصمة جزيرة العرب، و انه كان لملوكها قصر متين شهير و كانت تشتمل على بيوت مصنوعة من الحجارة

______________________________

(1) لقد انقسمت اليمن مؤخرا الى يمن شمالية و اخرى جنوبية لكل واحد منها نظام حكم خاصّ و حكومة خاصّة.

(2) حضارة العرب: ص 94.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:33

المنحوتة «1».

(1) هذه الآثار العجيبة التي عثر عليها المستشرقون و علماء الآثار في تنقيباتهم الأخيرة تثبت حضارة عجيبة لليمن في عصورها القديمة و ذلك في مختلف نواحيها مثل «مأرب» و «صنعاء» و «بلقيس».

ففي مدينة مأرب (و هي مدينة سبأ المعروفة) كانت تقوم قصور ضخمة و صروح عالية ذوات أبواب و سقوف مزينة بالذهب، و كانت تحتوي على أوان و صحون من الذهب و الفضة، و أسرّة كثيرة مصنوعة من المعدن و الفلز «2».

و من آثار «مأرب» التاريخية السدّ المعروف باسم ذلك البلد و الذي لا تزال اطلاله باقية، و هو السدّ الذي تهدّم بسبب السيل الذي وصفه القرآن الكريم بالعرم.

فقد جاء في سورة سبأ الآية 15- 19 قوله تعالى:

«لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ. فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ. وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ. فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ

صَبَّارٍ شَكُورٍ» «3».

______________________________

(1) نزهة المشتاق في اختراق الآفاق على ما في حضارة العرب، ص 55.

(2) حضارة العرب: ص 94.

(3) للوقوف على المزيد من المعلومات عن اليمن قديما و حديثا، راجع الكتب المؤلفة حول جغرافية العالم الإسلامي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:35

(1)

2 العرب قبل الإسلام

اشارة

لمعرفة أوضاع العرب قبل الإسلام يمكن الرجوع الى المصادر التالية:

1- التوراة على ما فيها من تحريفات.

2- كتابات اليونانيين و الروميين في القرون الوسطى.

3- الكتابات التاريخية التي كتبها علماء الإسلام و مؤلفوه.

4- الآثار القديمة التي عثر عليها المستشرقون في تنقيباتهم و التي استطاعت عن أن تكشف النقاب عن طائفة لا يستهان بها من الحقائق في هذا الصعيد.

إلّا انه مع وجود كل هذه المصادر و المراجع لا تزال هناك نقاط كثيرة عن تاريخ العرب في القرون البعيدة تعاني من الغموض.

و لكن حيث أنّ دراسة أوضاع العرب قبل الإسلام هي من باب المقدمة في هذا الكتاب، و الهدف الاساسي إنما هو دراسة السيرة النبوية الطاهرة، من هنا نكتفي في هذا الفصل باستعراض النقاط الخاصة و الواضحة من حياة العرب قبيل الإسلام على اننا يمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب خاصة قبيل بزوغ الإسلام من خلال مصدرين اسلاميين اساسيين هما:

1- القرآن الكريم.

2- ما ورد عن الإمام علي عليه السّلام في نهج البلاغة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:36

فقد وردت في هذين المصدرين تصريحات و نصوص صريحة تكشف عن ما كان عليه العرب في الجاهلية من سوء الأحوال و الاوضاع و الاخلاق في جميع الاصعدة و الابعاد، و سنشير إلى أبرز هذه النصوص و نقف عندها بعض الشي ء، و لكننا نستعرض قبل ذلك شيئا من تاريخ العرب في القرون البعيدة فنقول:

(1) إن من المسلّم أن شبه الجزيرة العربية كان منذ أقدم العصور موطنا لقبائل

كثيرة انقرض بعضها بمرور الايام، و في ثنايا الاحداث، بيد ان هناك ثلاث قبائل قد تشعّبت عنها أفخاذ و فروع تحظى بشهرة اكثر من بين من سكنوا هذه المنطقة.

و هذه القبائل الامّ هي:

(2) 1- العرب البائدة: و إنما سميت بالبائدة لأنها أبيدت بالعذاب الالهي السماويّ أو الأرضيّ بسبب عصيانها و تمردها، و هلكت شيئا فشيئا، و لم يبق على وجه الارض من نسلهم أحد!

و لعلهم كانوا هم المعنيون بقوم «عاد» و «ثمود» الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم مرارا.

(3) 2- القحطانيّون: و هم أبناء يعرب بن قحطان الذين كانوا يقطنون في «اليمن» و سائر المناطق الجنوبية من الجزيرة العربية و يسمّون بالعرب الاصلاء، و هم اليمنيون اليوم، و منهم قبائل الأوس و الخزرج و هما قبيلتان كبيرتان كانتا تقطنان المدينة المنورة إبان ظهور الإسلام.

و قد كان للقحطانيين حكومات كثيرة، كما كانت لهم جهود كبرى في تعمير أرض اليمن و احيائها، و قد تركوا من ورائهم حضارات و مدنيّات لا يستهان بها.

و توجد الآن كتابات تقرأ بصورة علمية توضح إلى حدّ كبير تاريخ القحطانيين و كل ما يقال عن مدنيّة العرب و حضارتهم قبل الإسلام تعود في الحقيقة إلى هذه الطائفة و خاصة من سكن منهم ارض اليمن.

(4) 3- العدنانيون: و هم أبناء اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليه السّلام،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:37

و سوف يأتي ذكر جذور هذه الطبقة في الابحاث القادمة. و خلاصة ذلك: أن إبراهيم الخليل عليه السّلام امران يسكن ولده الرضيع اسماعيل مع زوجته «هاجر» أم اسماعيل في ارض مكة، فخرج بهما ابراهيم عليه السّلام من «فلسطين» و هبط بهما في ذلك الوادي العميق الخالي عن الماء و العشب «مكة» ثم ان يد العناية الالهية

امتدت إلى تلك العائلة المهاجرة، و جادت عليها بعين «زمزم» الذي جلب الرواء و الحياة الى تلك المنطقة القاحلة الضامئة.

ثم تزوج إسماعيل من قبيلة «جرهم» التي خيّمت بالقرب من مكة، و اصاب من هذا الزواج عددا كبيرا من الابناء، و الاحفاد، و أحفاد الاحفاد كان من جملتهم «عدنان» الذي ينتهي نسبه الى النبي اسماعيل عبر عدد من الآباء و الجدود.

ثم تشعّبت ذرية إسماعيل الى بطون و أفخاذ، و عشائر و قبائل عديدة، كان من بينها قبيلة قريش التي حظيت بشهرة اكبر، و منها عشيرة بني هاشم التي انحدر منها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما ستعرف ذلك بالتفصيل، عما قريب.

(1)

أخلاق العرب و تقاليدهم العامة:

و المراد منها هو الأخلاق و الآداب الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك.

المجتمع، و قد سادت بعض هذه الاخلاق و العادات و التقاليد في المجتمع العربي عامة.

و يمكن تلخيص ما كان العرب يتمتعون به من أخلاق و صفات حسنة عامة في ما يلي:

لقد كان العرب زمن الجاهلية و بخاصة ولد «عدنان» أسخياء بالطبع، يكرمون الضيف، و قلّما يخونون في الامانة، لا يغتفرون نقض العهود، و لا يتهاونون مع من يتنكر للمواثيق، يضحون في سبيل المعتقد، و يتحلون بالصراحة الكاملة، و ربما وجد فيهم من تمتع بذكاء لامع، و ذاكرة خارقة يحفظ بها الأشعار و القصائد الطوال، و الخطب المفصلة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:38

هذا الى جانب براعتهم في فن الشعر و الخطابة بحيث لم يسبقهم في ذلك غيرهم و الى جانب انهم كانوا مضرب المثل في الشجاعة و الجرأة، و المهارة في الفروسية و الرمي.

يرون الفرار و الادبار في الحرب عارا لازما، و صفة ذميمة يلام صاحبها بسببها اشد اللوم.

(1) و لكن في مقابل ذلك كله

كانوا يعانون من مفاسد أخلاقية تغطي على كل كمال عندهم، و تنسي كل فضيلة.

و لو لا تلك الكوة المباركة التي فتحت عليهم من عالم الغيب، لطويت صفحة حياتهم الإنسانية على القطع و اليقين.

يعني لو لم تبزغ شمس الإسلام في أواسط القرن السادس الميلادي، و لم تسطع أشعتها الباعثة على الحياة، على عقولهم و قلوبهم لما رأيت اليوم من العرب العدنانيين أي أثر، و لتكرّرت مقولة العرب البائدة مرة اخرى!

(2) لقد حوّل فقدان القيادة الرشيدة، و غياب الثقافة الصحيحة حياة العرب، من جانب، و انتشار الفساد و الفحشاء من جانب آخر إلى حياة حيوانية مزرية حتى أن صفحات التاريخ تروي لنا أخبارا و قصصا مفصلة عن حروب دام بعضها خمسين عاما، و بعضها الآخر مائة عام قد نشبت بين الاطراف العربية لأسباب طفيفة و دوافع تافهة جدا.

لقد أدى عدم سيادة النظام و القانون على الحياة العربية، و عدم وجود حكومة قوية مسيطرة على الاوضاع، توقف البغاة و المتمردين عند حدودهم، إلى أن يعيش العرب- آنذاك- في صورة القبائل الرحّل، و يرحلوا في كل سنة الى منطقة معينة من الصحراء التماسا للعشب و الماء لانفسهم و لا نعامهم، فاذا عثروا على ماء و عشب أو شي ء من آثار الحياة نزلوا عنده، و أنزلوا رحالهم بجواره، فاذا سمعوا عن وجود مكان افضل استأنفوا رحلتهم الصحراوية التماسا لحياة اكثر بركة، و عطاء، و أوفر خصبا و أمنا.

(3) هذه الحيرة و هذا الضياع و عدم الاستقرار كان ناتجا من أمرين:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:39

الأوّل: سوء الاوضاع الجغرافية و رداءة الأحوال الطبيعية للجزيرة العربية، و خاصة من حيث الماء و المناخ و المراعي.

و الآخر: الحروب و المصادمات الدموية الكثيرة، و اضطراب الأحوال الاجتماعية،

التي كانت تلجئ جماعات كثيرة إلى التنقل الدائم و الرحيل عن الأوطان و مغادرتها، و عدم الاستقرار في منطقة معينة.

(1)

هل كان للعرب حضارة قبل الإسلام؟

يستنتج مؤلف كتاب «حضارة العرب» من دراسته لأوضاع العرب الجاهلية أن العرب كانوا أصحاب حضارة عريقة سبقت الإسلام بقرون.

فالقصور الصخمة التي أقاموها في مختلف نقاط و مناطق الجزيرة العربية، و العلاقات التجارية التي كانت لهم مع أرقى شعوب الأرض، شواهد قوية على تمدنهم و حضارتهم الغابرة، لأن قوما أنشئوا لمدن العظيمة- قبل الرومان بقرون كثيرة- و كانت علاقاتهم بارقى و اكبر شعوب الأرض وثيقة، لا يمكن عدهم همجا، و شعبا بلا حضارة.

ثم إنه يستدل- في موضع آخر من كتابه- على حضارة العرب الغابرة بآدابهم و وحدة و كمال لغتهم اذ يقول:

«و لو كان التاريخ صامتا إزاء حضارة لقطعنا- مع ذلك- بوجودها قبل ظهور «محمّد» بزمن طويل، و يكفي لتمثّلها أن نذكر أنه كان للعرب آداب ناضجة و لغة راقية.

و الحق أنّ الآداب و اللغة من الامور التي لا تأتي عفوا، و هي تتخذ دليلا على ماض طويل، و ينشأ عن اتّصال امة بأرقى الامم اقتباسها لما عند هذه الامم الراقية من التمدن إذا كانت أهلا لذلك».

(2) و قد خصص المؤلف المذكور صفحات عديدة في كتابه لإثبات حضارة عريقة و عظيمة للعرب قبل الإسلام معتمدا في ذلك على ثلاث امور:

1- وجود لغة راقية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:40

2- وجود علاقات مع الامم الراقية.

3- وجود قصور و أبنية ضخمة، و فخمة في اليمن كما يصفها المؤرخان المسيحيان المعروفان «هيردوتس» و «ارتميدور» اللذان كانا يعيشان قبل المسيح بقرون، و قدامى المؤرخين المسلمين كالمسعودي «1».

(1) لا كلام في أنه كانت هناك في بعض مناطق الجزيرة العربية بعض حضارات، و لكن الأدلة التي

استند إليها المؤلف المذكور لا يمكن ان تكون شاهدا و دليلا على وجود الحضارة في جميع نقاط الجزيرة العربية أبدا.

صحيح أن تكامل اللغة يسير جنبا الى جنب مع غيره من مظاهر المدنيّة، و لكن لا يمكن ان نعتبر اللغة العربية لغة مستقلة و غير مرتبطة باللغات الاخرى اي العبرانية و السريانية و الآشورية و الكلدانية، لأن جميع هذه اللغات- حسب ما يؤيده و يؤكده المتخصصون في علم اللغات- كانت ذات يوم- متحدة الأصل، و قد تشعبت من لغة واحدة، و في هذه الحالة يحتمل أن تكون اللغة العربية قد حققت تكاملها عبر اللغة العبرانية أو الآشورية، و بعد تكاملها أصبحت لغة مستقلة، أي ان الآخرين أسهموا في تكميلها.

(2) كما أنه لا شك أنّ وجود علاقات تجارية مع الامم و الشعوب الراقية هو الآخر دليل على الحضارة و المدنية إلّا أنه هل كانت جميع مناطق الجزيرة العربية تملك مثل هذه العلاقات، أم إن اكثرها كانت محرومة من ذلك؟

هذا من جهة.

و من جهة اخرى فان وجود علاقات بين حكومتين في الحجاز و هما: «الحيرة و غسان» و بين حكومتي «الفرس» و «الروم» لا يدل أبدا على وجود حضارة في المنطقتين الحجازيتين إذ أن جميع هذه الحكومات كانت متصفة بالعمالة، فان الكثير من البلاد الافريقية هي اليوم من مستعمرات الدول الاوربية و مع ذلك لا توجد فيها أية مؤشرات و لا أية مظاهر من الحضارة الغربية الواقعية.

______________________________

(1) حضارة العرب: 78- 100.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:41

(1) طبعا لا يمكن إنكار حضارة «سبأ و مأرب اليمن» العجيبة لأنه مضافا إلى ما جاء حول هذه الحضارة في التوراة، و ما نقل عن «هيردوتس» و غيره، كتب المؤرخ المعروف «المسعودي» عن مأرب يقول: إن

أرض سبأ كانت من أخصب أراضي اليمن و أثراها و أغدقها، و اكثرها جنانا و غيطانا و أفسحها مروجا، بين بنيان و جسد مقيم و شجر موصوف و مساكب للماء متكاثفة، و أنهار متفرقة، و كانت مسيرة اكثر من شهر للراكب المجدّ على هذه الحال، و في العرض مثل ذلك، و انّ الراكب أو المارّ كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي الى آخرها لا يرى جهة الشمس، و لا يفارقه الظل لاستتار الارض بالعمارة و الشجر و استيلائها عليها و احاطتها بها، فكان أهلها في اطيب عيش و ارفهه، و أهنا حال و ارغده، و في نهاية الخصب و طيب الهواء و صفاء الفضاء، و تدفّق المياه و قوة الشوكة، و اجتماع الكلمة، و نهاية المملكة ... فذلّت لهم البلاد، و اذعن لطاعتهم العباد فصاروا تاج الارض» «1».

(2) و خلاصة القول أن هذه الدلائل لا تدل على وجود حضارة في كل مناطق الجزيرة العربية و خاصة منطقة الحجاز التي لم تذق طعم الحضارة أبدا، حتى أن «غوستاف لوبون» نفسه يعترف بهذه الحقيقة إذ يقول: «ان جزيرة العرب نجت من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية، و إن عظماء الفاتحين من مصريين و أغارقة و رومان و فرس و غيرهم ممن انتهبوا العالم لم ينالوا شيئا من جزيرة العرب التي أوصدت دونهم أبوابها» «2»

و على فرض صحة كل ما قيل عن وجود حضارة شاملة في جميع مناطق الجزيرة العربية فانه يجب القول بان القدر المسلّم في هذا المجال هو انه لم يبق أي اثر من هذه الحضارات في منطقة الحجاز، إبان طلوع الإسلام، و بزوغ شمسه، و هي حقيقة يصرح بها القرآن

الكريم اذ يقول تعالى: «وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» «3».

______________________________

(1) مروج الذهب: ج 2 ص 161 و 162.

(2) حضارة العرب: ص 93.

(3) آل عمران: 103.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:42

و ينبغي هنا أن نقف عند القرآن الكريم قليلا- كما وعدنا بذلك- فانه خير مرآة تعكس أحوال العرب و أوضاعهم بدقة متناهية و بشمولية ما وراءها شمولية.

ملامح المجتمع الجاهلي العربي في منظور القرآن:
اشارة

إن القرآن يكشف إجمالا عن أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث إلى قوم لم يبعث إليها احد قبله اذ يقول: «وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» «1».

و يقول في آية اخرى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» «2».

و من المعلوم أن المقصود في هاتين الآيتين و نظائرهما هم قريش و القبائل القريبة إليها.

على أن أشمل وصف قرآنيّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي و أحواله هو قول اللّه تعالى: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» «3».

فإنّ هذه الآية تصوّر حياة العرب تصويرا مرعبا، اذ تصوّرهم اولا و كأنهم قد سقطوا في قعر بئر الجاهلية، و الضلال و الشقاء فلا ينقذهم شي ء من قعر التردي و السقوط الّا التمسّك بحبل اللّه، حبل الإيمان و القرآن.

و تصوّرهم ثانيا و كأنهم على شفير جهنم يوشكون أن يسقطوا فيه و يهووا في نيرانه، و ليست تلك النار إلّا نيران العداوات و الحروب التي لو لم يقض عليها الإسلام بتعاليمه

لأحرقت حياة العرب جميعا.

هذه هي صورة سريعة عما كان عليه العرب في الجاهلية من جهل و سقوط.

و امّا تفصيل ذلك فيمكن الوقوف عليه بمراجعة الآيات الاخرى التي

______________________________

(1) القصص: 46.

(2) السجدة: 3.

(3) آل عمران: 103.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:43

تعرضت لذكر عادات العرب و أخلاقهم، و أفعالهم و تقاليدهم، بصورة مفصلة، و ها نحن نشير هنا إلى تلكم العادات و الاخلاق الفاسدة على ضوء تلك الآيات على نحو الاختصار تاركين التوسع في ذلك إلى مجال آخر.

لقد اتصف المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام و شاعت فيه أخلاق و عادات من أبرزها ما يلي:

1- الشرك في العبادة:

صحيح أن العرب في الجاهلية كانت- كما يكشف القرآن ذلك لنا- موحّدة في جملة من الامور و المجالات كالخالقية و التدبير و الذات «1» إلّا أنهم كانوا- في الأكثر- مشركين في العبادة، بل قد ذهبوا في هذا السبيل الباطل إلى أحطّ المستويات في اتّخاذ المعبودات و الوثنية.

و إلى ذلك يشير قوله تعالى: «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ» «2».

و قوله تعالى: «أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» «3».

و غير ذلك من الآيات التي تشير إلى ما كان يعبده الجاهليّون من أوثان و أصنام و مبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط، و اسفاف و انحراف في هذا المجال.

2- إنكار المعاد:

كان المشركون و الجاهليون يرفضون الاعتراف بالمعاد الذي يعني عودة الإنسان إلى الحياة. في عالم آخر للحساب و الجزاء، و يصفون من يخبر عن ذلك

______________________________

(1) نعم يستفاد من آية واحدة أنّه كان هناك اتجاه نادر بين العرب في الجاهلية ينسب الظواهر الطبيعية إلى الطبيعة و الدهر يقول اللّه تعالى: «وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (الجاثية 24).

(2) الأنعام: 100.

(3) النجم: 19 و 20.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:44

اليوم بالجنون او الكذب على اللّه!!

يقول تعالى: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ» «1».

3- هيمنة الخرافات:

لقد كانت حياة العرب الجاهلية مليئة بالخرافات التي كان منها تحريمهم الأكل من أنعام أربعة ذكرها القرآن منددا بهذه البدعة اذ قال: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» «2».

أمّا (البحيرة) بوزن فعيلة بمعنى مفعولة من البحر و هو الشق، فهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن آخرها انثى- و قيل ذكر- بحروا اذنها و شقوها ليكون ذلك علامة و تركوها ترعى، و لا يستعملها أحد في شي ء.

و أمّا (السائبة) على وزن فاعلة بمعناها أو بمعنى مفعولة فهي الناقة إذا نتجت اثني عشر بطنا- و قيل عشرة- فهي تهمل و لا تركب. و لا تمنع عن ماء، و لا يشرب لبنها إلا ضيف.

و أمّا (الوصيلة) بوزن فعيلة بمعنى فاعلة او بمعنى مفعولة

فهي الشاة تنتج سبعة أبطن او تنتج عناقين عناقين.

و أمّا (الحامي) بوزن فاعل من الحمى بمعنى المنع فهو الفحل من الإبل الذي يستخدم للقاح الأناث، فاذا ولد من ظهره عشرة أبطن قالوا: حمي ظهره فلا يحمل عليه، و لا يمنع من ماء و مرعى «3»

و الظاهر ان هذا المذهب تجاه هذه الانواع من الانعام كان بدافع الاحترام

______________________________

(1) سبأ: 7 و 8.

(2) المائدة: 103.

(3) راجع مجمع البيان: ج 3 ص 252 و 253 في تفسير الآية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:45

و الشكر لما وهب أصحابها من النعم و البركات، غير أن هذا العمل- كان في حقيقته- نوعا من الإيذاء و الإضرار بهذه الحيوانات، لأنهم كانوا يهملونها و يحرمونها من العناية اللازمة فكانت تشقى بقية حياتها، و تقاسي من الحرمان، مضافا إلى ما كان يصيبها من التلف و الضياع، و ما يلحق ثروتهم و النعم التي و هبها اللّه لهم من هذا الطريق من الضرر و الخسارة.

و الأسوأ من كل ذلك أنهم- كما يستفاد من ذيل الآية- كانوا ينسبون هذه المبتدعات المنكرات و هذا المنع و الحظر إلى اللّه سبحانه و تعالى، اذ يقول سبحانه:

«وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» و قد أعلم اللّه في مطلع الآية أنه لم يحرّم من هذه الاشياء شيئا، و أنهم ليكذبون على اللّه بادّعائهم أن هذه الأشياء من فعل اللّه أو أمره.

و قد أشار القرآن إلى هذه الخرافات التي كانت تكبّل عقول الناس في ذلك المجتمع اذ يقول: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» «1».

4- الفساد الاخلاقي:

كان المجتمع الجاهلي العربي يعاني من فساد ذريع في الاخلاق و قد أشار القرآن الكريم الى اثنين من أبرز وسائل الفساد و مظاهره هما:

القمار (الذي كانوا يسمّونه بالميسر و انما اشتق من اليسر لأنه اخذ مال الرجل بيسر و سهولة من غير كدّ و لا تعب) و الخمر.

و قد بلغ شغفهم بالخمر أنهم أعرضوا عن قبول الإسلام و اعتناقه لأنه يحرّم تناول الخمر و شربه، كما نقرأ ذلك في قصة الاعشى عما قريب.

يقول القرآن في هذا الصعيد: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» «2».

و قد استطاع القرآن الكريم عبر مراحل أربع أن يستأصل هذه العادة البغيضة

______________________________

(1) الأعراف: 157 و راجع المحبر ص 330- 332.

(2) البقرة: 219.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:46

التي كانت قد تجذرت بشكل عجيب في نفوس ذلك القوم، حتى اصبحت السمة البارزة لحياتهم و أصبح التغنّي بالخمرة، و وصفها الطابع الغالب لآدابهم، و اللون البارز الذي يصبغ قصائدهم و اشعارهم.

على أن الفساد الأخلاقي في المجتمع الجاهلي العربيّ قبل الإسلام لم يكن ليقتصر على معاقرة الخمر، و مزاولة الميسر بل تعدى إلى ألوان اخرى ذكرها القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعا، حيث عدّ منها الزنا، و اللواط، و القذف، و إكراه الفتيات على البغاء و ما شاكل ذلك «1».

5- وأد البنات و إقبارهن:

و يشير القرآن الكريم أيضا إلى عادة جاهلية سيئة اخرى كانت رائجة بين قبائل العرب الجاهلية قاطبة و هي دفن البنت حية.

فقد شجب القرآن الكريم هذه العادة البغيضة و هذا العمل اللالساني و نهى عنه بشدة في اربعة مواضع، إذ قال تعالى: «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» «2». و قال تعالى: «وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً» «3».

و قد اتى جد «الفرزدق» «صعصعة بن ناجية بن عقال» رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و عدّ من اعماله الصالحة في الجاهلية أنه فدى مائتين و ثمانين موؤدة في الجاهلية، و أنقذهنّ من الموت المحتّم باشترائهنّ من آبائهن بأمواله.

و قد افتخر «الفرزدق» بإحياء جدّه للموءودات في كثير من شعره اذ قال:

و منّا الذي منع الوائدات و أحيا الوئيد فلم يوأد «4»

______________________________

(1) راجع للوقوف على ذلك سورة النساء: 15 و 16. و سورة النور: 2 و 3 و غيرها. و راجع المحبر:

ص 340.

(2) التكوير: 8 و 9.

(3) الإسراء: 31.

(4) بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3 ص 45 و 46.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:47

6- تصوراتهم الخرافية حول الملائكة:

و ممّا أشار إليه القرآن الكريم تصورات العرب الجاهلية حول الملائكة، فقد كانوا يعتقدون أن الملائكة من الإناث و أنهن بنات اللّه، اذ يقول تعالى:

«فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» «1».

7- كيفية الانتفاع من الانعام:

إذا كانت العرب الجاهلية تمتنع من تناول لحوم الأنعام الاربعة المذكورة آنفا و تجتنب عن استعمال ألبانها و شعورها و أصوافها. إلا أنها كانت في المقابل تتناول الدم، و الميتة و الخنزير، و تأكل من الحيوانات و الأنعام التي تقتلها بصورة قاسية، و بالتعذيب و الأذى، و ربما كانت تعتبر ذلك نوعا من العبادة، و يعرف ذلك من الآية التالية التي نزلت تنهى بشدة عن أكل هذه اللحوم، و تحرّم تناولها، اذ يقول سبحانه: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ» «2».

فقد حرم اللّه في هذه الآية اكل:

1- الميتة.

2- الدم.

3- لحم الخنزير.

4- ما ذكر اسم غير اللّه عليه.

5- التي تموت خنقا، و هي المنخنقة.

______________________________

(1) الصافّات: 149- 154.

(2) المائدة: 3.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:48

6- التي تضرب حتى تموت، و هي الموقوذة.

7- التي تقع من مكان عال فتموت و هي المتردية.

8- التي تموت نطحا من حيوان آخر و هي النطيحة.

9- ما افترسه سبع إلا اذا ذكي قبل موته.

10- و ما ذبح أمام الاصنام.

8- الاستقسام بالازلام:

فقد كان تقسيم لحم الذبيحة يتم عن طريق الأزلام، و الأزلام جمع (زلم) بوزن (شرف) و هي عيدان و سهام تستخد في ما يشبه القرعة لتقسيم لحم الذبيحة.

فقد كان يشتري عشرة أنفار معيرا ثم يذبحونه، ثم يكتبون على سبعة منها أسهما مختلفة من الواحد الى السبعة و لا يكتبون على ثلاثة منها شيئا، ثم يجعلونها في كيس ثم يستخرجونها واحدة بعد اخرى، كل واحدة باسم أحدهم فيأخذ كل واحد منهم من الذبيحة ما

خرج له من السهم، و هكذا يقتسمون الذبيحة بينهم «1»، فنهاهم اللّه عن ذلك بقوله: «وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ» لأنّه ضرب من القمار الذي ينطوي على مفاسد الميسر و القمار.

9- النسي ء:

كان العرب الجاهليون يعتقدون حرمة الاشهر الحرم (و هي أربعة المحرم و رجب و ذو القعدة و ذو الحجة) فكانوا يتحرجون فيها من القتال، و جرت عادة العرب على هذا من زمن إبراهيم و اسماعيل عليهما السّلام.

الّا أن سدنة الكعبة أو رؤساء العرب كانوا يعمدون أحيانا، و لقاء مبالغ يأخذونها، أو جريا مع أهوائهم، الى تأخير الاشهر الحرم، و هو الأمر الذي عبّر

______________________________

(1) راجع للوقوف على تفصيل هذه الطريقة بلوغ الارب: ج 3 ص 62 و 63، و المحبر: ص 332- 335.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:49

عنه القرآن الكريم بالنسي ء ثمّ نهى عنه و عدّه كفرا اذ قال: «إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» «1».

و قد ذكرت كتب التاريخ و السير كيفية النسي ء و تأخير الأشهر الحرم، الذي كان يتم بصور مختلفة منها: أن جماعة ما لو كانت ترغب في استمرار الغارة و القتال و لم تطق تأخير النضال مدة الاشهر الحرم كانت تطلب من سدنة الكعبة، لقاء ما تقدمه لهم من هدايا و اموال، تجويز الغارة و القتال في شهر محرم، و تحرم القتال في شهر صفر بدله ليتم عدد الأشهر الحرم (و هي اربعة). و هذا هو معنى قوله تعالى: «لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ» و كانوا إذا أحلّوا القتال و الغارة في المحرم من سنة حرّموه

في المحرم من السنة التالية، و هذا هو معنى قوله تعالى:

«يُحِلُّونَهُ عاماً، وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً».

10- الربا:

و ممّا يشير إليه القرآن الكريم من المفاسد الشائعة، و الأعمال المنكرة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام: «الربا» الذي كان يشكل العمود الفقري في اقتصاد ذلك المجتمع.

و قد حارب القرآن الكريم هذه العادة المقيتة، و هذا الفساد الاقتصادي حربا شعواء، إذ قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ» «2».

و العجيب أنهم كانوا يبرّرون هذا العمل اللاإنساني بقولهم «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» «3» فاذا كان البيع حلالا و هو اخذ و عطاء فليكن الرّبا كذلك حلالا، فإنه أخذ و عطاء أيضا، مع أن «الرّبا» من ابشع صور الاستغلال، و قد ردّ

______________________________

(1) التوبة: 37.

(2) البقرة: 278 و 279.

(3) البقرة: 5/ 21.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:50

سبحانه على هذه المقالة بقوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا» «1» ففي البيع و الشراء يتساوى الطرفان في تحمل الضرر المحتمل، بينما لا يتضرر المرابي في النظام الربوي أبدا و إنّما يلحق الضرر بمعطي الربا دائما، و لهذا تنمو المؤسسات الربوية، و يعظم رصيدها، و ثروتها يوما بعد يوم فيما يزداد الطرف الآخر بؤسا و فقرا، و لا يحصل من جهوده المضنية إلا على ما يسدّ جوعته، و يقيم اوده، لا اكثر، كل ذلك نتيجة لهذا الاسلوب الاقتصادي غير العادل.

صور من الوضع الجاهلي

ما قدمناه كان أبرز المفاسد الاخلاقية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي أشار إليها القرآن الكريم، و أما التاريخ فملي ء بالصور و القصص التي تحكي عن تردي حالة العرب الجاهلية و سقوطها الفضيع في قعر الفساد في جميع المناحي و

الجهات.

و إليك في ما يلي نماذج و صور معدودة تكفي للوقوف على الحالة العامة في ذلك المجتمع نقتبسها لك من أصح المصادر و اوثقها:

(1) و ها نحن نقدم قصة «أسعد بن زرارة» التي تسلط الضوء على ما كان عليه الوضع الجاهلي في اكثر مناطق الحجاز، فقد قدم «أسعد بن زرارة» و «ذكوان بن عبد قيس»- و هما من الأوس و كان بين الاوس و الخزرج حرب قد بقوافيها دهرا طويلا، و كانوا لا يضعون السلاح لا بالليل و لا بالنهار، و كان آخر حرب بينهم «يوم بعاث» و قد انتصر فيها الأوس على الخزرج- مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الاوس، و كان اسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال: انه كان بيننا و بين قومنا حرب و قد جئناك نطلب الحلف عليهم، فقال له عتبة: إن لنا شغلا لا نتفرّغ لشي ء. قال سعد: و ما شغلكم و أنتم في حرمكم و أمنكم؟ قال له عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنّه رسول اللّه سفّه أحلامنا، و سبّ آلهتنا و أفسد

______________________________

(1) البقرة: 275.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:51

شبّاننا، و فرّق جماعتنا، فقال له أسعد: من هو منكم؟ قال: ابن عبد اللّه بن عبد المطلب من أوسطنا شرفا، و أعظمنا بيتا.

(1) و كان أسعد و ذكوان، و جميع الاوس و الخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير و قريظة و قينقاع، أن هذا أوان نبيّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنكم به يا معشر العرب، فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود، قال: فأين هو؟ قال: جالس في الحجر، و إنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم، فلا تسمع

منه و لا تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه، و كان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في شعب أبي طالب، فقال له «أسعد»:

فكيف أصنع و أنا معتمر لا بدّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال: ضع في اذنيك القطن، فدخل «أسعد» المسجد و قد حشا اذنيه بالقطن، (2) فطاف بالبيت و رسول اللّه جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني؟ أ يكون مثل هذا الحديث بمكة فلا اتعرّفه حتى ارجع الى قومي فاخبرهم، (3) ثم أخذ القطن من اذنيه و رمى به، و قال لرسول اللّه: أنعم صباحا، فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأسه إليه و قال: قد أبدلنا اللّه به ما هو احسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم، قال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمّد؟ قال: إلى شهادة ألّا إله إلّا اللّه، و اني رسول اللّه، و أدعوكم الى: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» «1».

______________________________

(1) الأنعام: 151 و 152.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:52

(1) فلما سمع «أسعد» هذا قال له: أشهد أن لا إله

إلّا اللّه، و أنك رسول اللّه، يا رسول اللّه بأبي أنت و أمي ... «1».

إن الامعان في مفاد هاتين الآيتين يغنينا عن دراسة شاملة و واسعة لاوضاع العرب الجاهلية لأن هاتين الآيتين تكشفان عن الأمراض الاخلاقية التي كانت تكتنف حياة العرب الجاهلية، و لهذا تلا رسول اللّه الآيات التي تشير إلى هذه الادواء و الأمراض ليلفت نظر «سعد» إلى أهداف رسالته الكبرى.

(2)

العقيدة و الدين في الجزيرة العربية:

عند ما رفع «إبراهيم الخليل» لواء التوحيد في البيئة الحجازية، و أعاد بناء الكعبة المعظمة و رفع قواعدها بمعونة ابنه «اسماعيل»، تبعه في ذلك طائفة من الناس ممن أنار اللّه به قلوبهم، الّا انه من غير المعلوم إلى ايّ مدى استطاع ذلك النبي العظيم أن يعمّم دين التوحيد و يبسط لواءه على الجميع، و يؤلف صفوفا متراصة، و جبهة عريضة قوية من الموحدين، غير ان من المعلوم انه اصبحت تلك المنطقة مسرحا للوثنية و لعبادة الاشياء المختلفة مع الايام فقد كانت الطبقة المثقفة من العرب تعبد الكواكب و القمر، فهذا هو المؤرخ العربي الشهير الكلبي الذي توفى عام 206 هجرية يكتب في هذا الصدد قائلا كان «بنو مليح» من خزاعة يعبدون الجن و كانت «حمير» تعبد الشمس، و «كنانة» تعبد القمر، و «تميم» الدبران، و «لخم» و «جذام» المشتري، و «طي» سهيلا، و «قيس» الشعرى، و «أسد» عطاردا.

(3) أما الدهماء و الذين كانوا يشكلون اغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون- مضافا إلى الصنم الخاص بالقبيلة أو العائلة- ثلاثمائة و ستين صنما، و كانوا ينسبون أحداث كل يوم من أيام السنة إلى واحد منها.

و قد دخلت عبادة الأصنام و الأوثان في مكة بعد «إبراهيم الخليل»

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 8 و 9، اعلام

الورى: ص 35- 40.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:53

عليه السّلام على يد «عمرو بن لحي»، و لكنها لم تكن في بداية أمرها بتلك الصورة التي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها في بداية الأمر شفعاء إلى اللّه و وسطاء بينه و بينهم، و لكنهم تجاوزوا هذا الحد في ما بعد حتى صاروا يعتقدون شيئا فشيئا بانها اصحاب قدرة ذاتية مستقلة، و أنها بالتالي آلهة و أرباب.

(1) و كانت الاصنام المنصوبة حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية، و لكن الاصنام الخاصة بالقبائل فقد كانت موضع احترام جماعة خاصة فقط، و لأجل أن تبقى حرمة هذه الأصنام و الأوثان الخاصة محفوظة لا يمسها أحد بسوء كانوا ينشئون لها أماكن و بيوت خاصة، و كانت سدانة هذه البيوت و المعابد تنتقل من جيل إلى آخر بالوراثة.

أما الاصنام العائلية فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم و ليلة، فاذا أراد احدهم السفر كان آخر ما يصنعه في منزله هو ان يتمسح به أيضا.

و كان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها، و اتخذه ربّا و جعل ثلاثة أثافيّ لقدره، و إذا ارتحل تركه.

(2) و كان من شغف أهل مكة و حبّهم للكعبة و الحرم أنه كان لا يسافر منهم أحد إلّا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، و حبا له فحيثما حلّوا نصبوه و طافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة بها، و يمكن أن تكون هذه هي «الأنصاب» التي فسرت بالاحجار العادية غير المنحوتة و تقابلها الأوثان، و هي الاحجار المنحوتة:

على هيئة خاصة، و أما «الأصنام» فهي المعمولة من خشب أو ذهب أو فضة على صورة انسان.

(3) لقد بلغ خضوع العرب أمام الاصنام و

الأوثان حدا عجيبا جدا، فقد كانوا يعتقدون بأنهم يستطيعون كسب رضاها بتقديم القرابين إليها، و كانوا بعد نحر الهدايا يلطخون وجوه الاصنام و رءوسها بدماء تلك الهدايا، و كانوا يستشيرونها في مهام امورهم، و جلائل شئونهم، فاذا أرادوا الوقوف على مستقبل الأمر الذي تصدّوا له و معرفة عاقبته أخير هو أم شر استقسم لهم أمين القداح بقدحي

سيد المرسلين ،ج 1،ص:54

(الأمر و النهي) و هي قطع كتب على بعضها (افعل) و على بعضها الآخر (لا تفعل) فيمدّ أمين القداح يده و يجيل القداح و يخرج واحدا فان طلع الآمر فعل أو الناهي ترك.

(1) و خلاصة القول، ان الوثنيّة كانت العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية، و قد تفشّت فيهم في مظاهر متنوعة و متعددة، و كانت الكعبة المعظمة- في الحقيقة- محطّ أصنام العرب الجاهلية و آلهتهم المنحوتة، فقد كان لكل قبيلة في هذا البيت صنم، و بلغ عدد الاصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (360) صنما في مختلف الاشكال و الهيئات و الصور، بل كان النصارى أيضا قد نقشوا على جدران البيت و أعمدته صورا لمريم و المسيح و الملائكة، و قصّة ابراهيم.

و كان من جملة تلك الأصنام: «اللات» و «العزّى» و «مناة» التي كانت تعتبرها قريش بنات اللّه و يختص عبادتها بقريش.

و كانت «اللات» تعتبر أمّ الآلهة، و كان موضعها بالقرب من «الطائف» و كانت من الحجر الابيض، و أما «مناة» فكانت في عقيدتهم إلهة المصير و ربّة الموت و الاجل و كان موضعها بين «مكة» و «المدينة».

(2) و لقد اصطحب «ابو سفيان» معه يوم «احد»: «اللات» و «العزّى».

و يروى انه مرض ذات يوم «أبو احيحة» و هو رجل من بني أميّة، مرضه الذي مات فيه، فدخل

عليه ابو لهب يعوده، فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا ابا احيحة؟ أمن الموت تبكي و لا بد منه؟ قال: لا و لكنى اخاف ان لا تعبد العزى بعدي! قال ابو لهب: و اللّه ما عبدت حياتك (اي لأجلك) و لا تترك عبادتها بعدك لموتك!! فقال أبو احيحة: الآن علمت ان لي خليفة «1».

(3) و لم تكن هذه هي كل الأصنام التي كانت تعظّمها و تعبدها العرب بل كانت لقريش أصنام في جوف الكعبة و حولها و كان اعظمها «هبل»، كما انه لم يكن لكل قبيلة صنم خاص فحسب بل كانت كل عائلة تعبد صنما خاصا بها

______________________________

(1) الأصنام للكلبي: ص 23.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:55

مضافا إلى صنم القبيلة و كانت المعبودات تتراوح بين الكواكب، و الشمس، و القمر، و الحجر، و الخشب، و التراب، و التمر، و التماثيل المنحوتة المختلفة في الشكل، و الهيكل، و الاسم، المنصوبة في الكعبة أو في سائر المعابد.

لقد كانت الاصنام جميعها أو أغلبها معظّمة عند العرب، يتقربون عندها بالذبائح و يقرّبون لها القرابين، و جرت عادة بعض القبائل آنذاك أن تختار من بين أفرادها كل سنة شخصا في مراسيم خاصة ثم تذبحه عند أقدام اصنامها، و تقبر جسده على مقربة من المذبح.

(1) هذا العرض المختصر يكشف لنا كيف أن أرض الجزيرة العربية برمتها كانت قد اصبحت مسرحا للاصنام و مستودعا ضخما للاوثان، و كيف تحولت هذه البقعة من العالم ببيوتها و ازقتها و صحاريها و حتى بيت اللّه المحرم كانت قد تحولت الى مخزن للنصب المؤلّهة، و التماثيل المعبودة، و يتجلى هذا الأمر من قول شاعرهم الذي اسلم و راح يستنكر ما كان عليه من عبادة الاصنام المتعددة الخارجة عن الاحصاء و

العدّ، اذ قال:

أ ربّا واحدا أم ألف رب أدين إذا تقسّمت الامور

عزلت اللات و العزى جميعاكذلك يفعل الجلد الصبور

فلا عزّى أدين و لا ابنتيهاو لا صنمي بني عمرو أزور

و لا غنما أزور و كان ربّالنا في الدهر إذ حلمي يسير

و لكن أعبد الرحمن ربّي ليغفر ذنبي الربّ الغفور «1» و قد حدثت بسبب الاختلاف و التعددية في عبادة الاصنام و الاوثان المؤلّهة السخيفة الباطلة، تناقضات، و صراعات، و حروب و مناحرات، قد جرت بالتالي- ويلات و ماس و خسائر مادية و معنوية كبرى على تلك الجماعة المتوحشة، الضالة. سيد المرسلين ج 1 55 العقيدة و الدين في الجزيرة العربية: ..... ص : 52

____________________________________________________________

(1) بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 2 ص 249 و جاء البصير.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:56

(1)

عقيدة العرب حول حالة الإنسان بعد الموت:

و عن مصير الإنسان و حالته ما بعد الموت هذه المشكلة الفلسفية العويصة كانت رؤية العرب و نظرتهم تتلخص في ما يلي:

عند ما يموت الانسان تخرج روحه من جسده على هيئة طائر شبيه بالبوم يسمى عندهم ب «الهامّة و الصدى» ثم يبقى هذا الطائر قريبا من جسد الميت ينوح نوحا مقرحا و موحشا، و عند ما يوارى الميت يبقى هذا الطائر مقيما عند قبره إلى الابد!

و ربما وقف على جدار منزل الميت أحيانا لتسقّط أخبار عائلته و الاطلاع على أحوالهم!!

قال شاعرهم في ذلك:

سلّط الموت و المنون عليهم فلهم في صدى المقابر هام و إذا كان المرء قد مات بموتة غير طبيعية كما لو قتل- مثلا- فإن ذلك الحيوان ينادي باستمرار: «اسقوني ... اسقوني» اي اسقوني بسفك دم القاتل و اراقته؛ و لا يسكن عن هذا النواح و النداء الخاص الا بعد الانتقام و الثأر من قاتله.

قال احدهم في ذلك:

فيا ربّ إن

أهلك و لم تروها متى بليلي امت لا قبر أعطش من قبري «1»

(2) من هنا بالضبط تتجلى الحقيقة للقارئ و يعلم جيدا كيف أن تاريخ العرب ما قبل الإسلام و تاريخهم ما بعد الإسلام ما هو الّا تاريخان على طرفي نقيض:

فذلك تاريخ جاهلية، و وثنية و إجرام، و هذا تاريخ علم و وحدانية و انسانية و ايمان، و شتان ما بين وأد البنات، و بين رعاية الايتام، و بين السلب و النهب و الاغارة و بين المواساة و الايثار، و بين عبادة الاوثان و الاصنام الصماء العمياء

______________________________

(1) بلوغ الارب. ج 2 ص 311 و 312.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:57

و التقرب الى اللّه الواحد القادر.

(1)

الآداب مرآة آداب الشعوب و نفسياتها:

المخلّفات الفكرية و الثقافية، و ما يتركه أي شعب من الشعوب من قصص و حكايات افضل وسيلة للتعرف على خلفياته النفسية و الأخلاقية، ذلك لأنّ الآداب بما فيها الشعر و القصة، و الخطبة و الحكاية، و المثل و الكناية مرآة صادقة تعكس المستوى الفكري لأيّة جماعة، و تعتبر خير مقياس لتمدّنها، و حضارتها، و أفكارها و نفسياتها، تماما كما تحكي اللوحات الفنية عن حياة عائلة، أو منظر طبيعي جميل، أو اجتماعات صاخبة، أو مشاهد قتالية.

إن القصائد و الأمثال العربية التي كانت رائجة آنذاك تستطيع- قبل كل شي ء- أن تكشف عن الوجه الحقيقي لتاريخهم و نمط حياتهم و سلوكهم، و لهذا السبب لا يجوز لأي مؤرخ واقعي يسعى الى الحصول على صورة كاملة عن تاريخ شعب من الشعوب أن يتجاهل التركة الفكرية و الأدبية و الثقافية لذلك الشعب سواء أ كان شعرا أم نثرا، أمثالا أم حكما، قصصا أم أساطير.

و من حسن الحظ أنّ مؤرخي الإسلام اثبتوا و سجلوا باتقان ما اثر من العرب

ممّا يرتبط بآدابهم في العصر الجاهلي بقدر ما اتيح لهم ذلك.

(2) و قد كان ابو تمام «حبيب بن اويس» (المتوفى عام 231 هجرية) و الذي يعتبر من كبار أدباء الشيعة، و له قصائد رائعة في مدح آل الرسول، ممن اعتنى عناية بالغة بهذه الناحية، حيث جمع في كتاب واحد طائفة كبيرة جدا من الشعر الجاهلي مفصلة في عشرة ابواب هي:

1- الحماسة.

2- المراثي.

3- الادب.

4- النسيب.

5- الهجاء.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:58

6- الاضافات.

7- الصفات.

8- السير.

9- الملح.

10- مذمة النساء.

و قد تناول هذا الديوان التاريخي القيم عدد كبير من أدباء المسلمين و علمائهم بشرح ابياته، و تفسير غوامضها، و بيان اغراضها، و مقاصدها.

كما ترجم أصل الديوان إلى لغات اجنبية عديدة جاء ذكر طائفة منها في كتاب «معجم المطبوعات» «1».

(1)

مكانة المرأة عند العرب الجاهلية:

إن الباب العاشر من هذا الديوان خير وسيلة لمعرفة ما كانت عليه المرأة في العصر الجاهلي من الحرمان، و أقوى دليل على أنها كانت تعيش- في ظل ذلك العهد- في أسوأ الحالات و أشد الظروف و اتعسها.

هذا مضافا إلى أن الآيات القرآنية التي تنزلت و هي تشجب بعنف معاملة الجاهليين للعنصر النسائي، و قسوتهم على الأنثى، هي الاخرى افضل شاهد على مدى الانحطاط الاخلاقي و التدهور السلوكي الذي انحدروا إليه في هذا المجال.

إن القرآن الكريم يصف عادة وأد البنات بقوله: «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ» «2» أي ليسأل يوم القيامة عن البنات اللاتي وئدن و هنّ أحياء.

إن القرآن الكريم بهذه العبارة الموحية إنما يتحدث- في الحقيقة- عن عادة وأد البنات بمرارة، و يشجبها بشدة حتى أنه يعتبرها جريمة نكراء لا تمر- في الآخرة- بدون حساب شديد، و سؤال خاص.

______________________________

(1) معجم المطبوعات: ص 297، و قد اشتهر هذا الديوان ببابه الأول: «الحماسة» فسمي ديوان الحماسة

(2)

التكوير: 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:59

حقا انه لأمر يكشف عن مدى القسوة التي كان عليها قلوب تلك الجماعة.

إنها قسوة تغشى كل عواطف المرء فلا يعود يسمع معها نداء الضمير، و لا يحسّ معها بوخز الوجدان، انه لا يعود يسمع معها حتى صراخ بنته الجميلة البريئة، و استغاثاتها المؤلمة و هي ترى بام عينيها حفيرتها، و تحس بيدي والدها القاسي، و هو يدفعها إلى تلك الحفرة و يدفنها حية!

إنها قسوة تكشف عن أسوأ و أحطّ درجات الانحطاط الخلقي، و التقهقر الإنساني.

(1) و بنو تميم هي أول قبيلة أقدمت على هذه الجريمة النكراء، و كان السبب أن «بني تميم» امتنعوا من دفع ضريبة الاتاوة التي كانت عليهم إلى الملك، فجرّد إليهم النعمان بن المنذر حاكم العراق آنذاك جيشا كبيرا لضرب هذا التمرد، و انتصر على «بني تميم» في المال و غنم منهم الغنائم و سبى منهم الفتيات و النساء، فوفدت وفود «بني تميم» على النعمان بن المنذر و كلّموه في الذراري و النساء، فحكم النعمان بان يجعل الخيار في ذلك الى النساء، فأية امرأة اختارت زوجها ردّت عليه، فاختلفن في الخيار، فاختار بعضهنّ العودة الى الاهل و الآباء، و اختارت بنت لقيس بن عاصم سابيها على زوجها مما أثار هذا الموقف و الاختيار غيظ والدها العجوز «قيس بن عاصم» فنذر من ذلك الحين أن يدس كل بنت تولد له. و هكذا سنّ لقومه الوأد، و اخذت بقية القبائل بهذه العادة البغيضة الوحشية إرضاء لغيرتهم و ظلّوا يمارسونها اعواما متمادية «1».

و إليك واحدة من القصص المأساوية في هذا المجال:

(2) قيل لما وفد «قيس بن عاصم» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سأله بعض الانصار عما يتحدث به في

الموؤدات، فاخبر انه ما ولدت له بنت إلّا وأدها، قال:

كنت اخاف العار و ما رحمت منهن إلّا بنيّة كانت ولدتها امها و أنا في سفر، فدفعتها الى أخواتها، و قدمت أنا من سفري فسألتها عن الحمل، فاخبرت أنها

______________________________

(1) بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3 ص 42 و 43.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:60

ولدت ولدا ميتا، و كتمت حالها، حتى مضت على ذلك سنون، و كبرت الصبية، و ينعت، فزارت امها ذات يوم، فدخلت فرأيتها و قد ضفرت شعرها و جعلت في قرونها جدادا و نظمت عليها و دعا، و البستها قلادة من جزع فقلت لها: من هذه الصبية؟ و قد اعجبني جمالها فبكت امها، و قالت: هذه ابنتك، فامسكت عنها حتى غفلت امها ثم اخرجتها يوما فحفرت لها حفرة و جعلتها فيها و هي تقول:

يا ابت ما تصنع؟ اخبرني بحقك!! و جعلت اقلّب عليها التراب، و هي تقول: أنت مغط عليّ بهذا التراب، أنت تاركي وحدي، و منصرف عني، و جعلت اقذف عليها ختى واريتها، و انقطع صوتها، فتلك حسرتها في قلبي، فدمعت عينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «إن هذه لقسوة، و من لا يرحم لا يرحم» «1».

و قد ذكر ابن الاثير في كتابه «اسد الغابة» في مادة: قيس: ان النبي صلّى اللّه عليه و آله سأل قيسا عن عدد البنات اللاتي وأدهنّ في الجاهلية: فاجاب قيس بانه وأد اثنتي عشرة بنتا له «2».

و روي عن ابن عباس أنه قال: كانت الحامل اذا قربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة، فاذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة و اذا ولدت ولدا حبسته «3».

(1)

المرأة و مكانتها الاجتماعية عند العرب:

كانت المرأة عندهم تباع و تشترى

كالمتاع، و كانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعيّة و الفردية، حتى حق الارث.

و قد كان المثقفون من العرب يعدّون النساء من الحيوانات، و لهذا كانوا يعتبرونهن جزء من أثاث البيت و يعاملونهن معاملة الرياش و الفراش حتى سار

______________________________

(1) حياة محمّد: تأليف محمّد علي سالمين، ص 24 و 25.

(2) راجع اسد الغابة: ج 4 ص 220، و جاء في بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3 ص 43 أنه وأد بضع عشرة بنتا.

(3) بلوغ الارب: ج 3 ص 43.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:61

فيهم المثل المعروف: «و انما امّهات الناس اوعية».

كما أنهم غالبا ما كانوا يقتلون بناتهم في اليوم الاول من ميلادهن خشية الفقر تارة، و دفعا للعار و الشنان تارة اخرى.

و قد كان هذا القتل يتمّ إما بذبحهن أو إلقائهنّ من شاهق، أو إغراقهنّ في الماء، أو الدفن و هن أحياء كما سبق.

(1) و قد تعرض القرآن الكريم- الذي يعدّ من وجهة نظر المستشرقين الكتاب و المصدر التاريخي العلمي الوحيد الذي لم تنله يد التحريف- تعرّض لذكر قصة من هذا النوع ضمن آيات من سورة النحل حيث قال: «وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» «1».

هذا و المؤسف أكثر هو ما كان عليه وضع الزواج في الجاهلية، حيث لم يكن يستند الى اي قانون، و لم يخضع لأيّ واحد من النظم المعقولة، بل كان وضعا عديم النظير في ذلك الزمان، فلم يكن لعدد الزوجات- مثلا- حد معلوم، او قاعدة ثابتة.

كما انهم كلما أرادوا التخلص من مهر الزوجة عمدوا إلى ايذاءها بقسوة، حتى تتخلى

هي بنفسها عن حقها، و كان اقترافها لأيّ عمل مناف للعفة هو الآخر سببا لسقوط حقها في المهر بالمرة.

(2) و لطالما استغلّ بعض الاشخاص هذا القانون الجائر للتخلص من مهور زوجاتهم فاتهموهن بالخيانة الزوجية!!

و من قبيح ما كانوا يفعلون ان يتزوج الرجل بزوجة أبيه بعد تطليقها، أو وفاته و ربما تناوب الأبناء على امرأة أبيهم واحدا بعد واحد، فقد كان الرجل من العرب الجاهلية إذا مات عن المرأة أو طلّقها قام أكبر بنيه، فان كان يحبّ أن يتزوجها طرح ثوبه عليها، و إن لم يكن يريد التزوج بها تزوّج بها بعض اخوته بمهر

______________________________

(1) النحل: 58 و 59.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:62

جديد «1».

و قد ابطل الإسلام هذه العادة الفاسدة حيث قال اللّه تعالى: «وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلًا» «2».

و قد ذكرت كتب التاريخ و السيرة طائفة ممن فعلوا هذا نعرض عن ذكر أسماءهم.

كما ذكرت تلك الكتب انواعا اخرى من المناكح الفاسدة الشنيعة التي أبطلها الإسلام «3».

ثم إن المطلّقة لم يكن لها الحق- في زمن الجاهلية- في ان تتزوج برجل آخر بعد انقضاء عدّتها إلا إذا اذن لها الزوج الأول الذي كان غالبا ما يأخذ مهرها في الزواج الثاني في قبال الاذن.

و ربما منع اولياؤها من أن تتزوج بزوجها الأول الذي طلّقها، ثم خطبها بعد انقضاء العدة إذا رضيت به و رغبت فيه، أو أن تتزوج بمن أرادت و احبّت- بعد انقضاء العدّة- أصلا، حميّة جاهلية.

و كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته إذا مات عنها، تماما كما يرث ما خلّف من أمتعة المنزل، زاعما بانه أحق بها من غيره، فيعضلها (يمنعها من الزواج) او

تردّ إليه صداقها، و في رواية؛ إن كانت جميلة تزوجها، و ان كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، و قد نهى اللّه تعالى عن ذلك، و أبطل تلك العادات اذ قال تعالى: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» «4».

______________________________

(1) المحبر: ص 326 و 327.

(2) النساء: 22، و كانوا يسمّون من يتزوج زوجة أبيه الضيزن، و كان هذا الزواج يسمّى في الجاهلية «نكاح المقت» و يسمى الولد منه: مقتيّ. (راجع بلوغ الارب: ج 2 ص 53 و مجمع البيان للطبرسي: ج 3 ص 26).

(3) المحبر: 337- 340.

(4) البقرة: 232.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:63

و قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» «1».

و قال تعالى: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» «2».

و خلاصة القول؛ إن المرأة كانت في العهد الجاهليّ بشرّ حال، و يكفي لتلخيص ما قلناه انه لما خطب احدهم الى رجل ابنته، و ذكر له المهر و الصداق قال: إنّي و إن سيق إليّ المهر ألف و عبدان (اي عبيد و مماليك) و ذود (و هو من الابل من الثلاث الى العشر) عشر، أحبّ أصهاري إليّ القبر و قال شاعرهم، في ذلك.

لكلّ أبي بنت يراعي شئونهاثلاثة أصهار إذا حمد الصهر

فبعل يراعيها و خدر يكنهاو قبر يواريها و أفضلها القبر «3» كما ان العرب كانت مصفقة و

متفقة على توريث البنين دون البنات «4».

(1)

مقارنة بسيطة:

و لو لاحظت أيها القارئ الكريم الحقوق التي قررها الإسلام في مجال (المرأة) لاذعنت- حقا- بأن هذه الاحكام و المقررات و هذه الخطوات المؤثرة التي خطاها النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله في سبيل اصلاح حقوق المرأة، و تحسين اوضاعها، هي بذاتها شاهد حق، و دليل صدق على حقانيّته، و صدق ارتباطه بعالم الوحي.

فاية رعاية و لطف بالمرأة و حقوقها و أي اهتمام بشأنها و كرامتها أعلى و اكثر من ان يوصي النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله مضافا الى ما جاء في آيات و احاديث كثيرة تؤكّد على حقوق المرأة و توصي أتباع هذا الدين بالرحمة بهن و احترامهن في

______________________________

(1) النساء: 19.

(2) البقرة: 231.

(3) بلوغ الارب: ج 2 ص 9.

(4) المحبر: ص 236.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:64

خطبته الشهيرة في (حجة الوداع) بالمرأة، و يؤكد على ذلك اشد تأكيد انه يقول صلّى اللّه عليه و آله:

«أيها النّاس إنّ لنسائكم عليكم حقا، و لكم عليهنّ حقا ... فاتقوا اللّه في النّساء و استوصوا بهنّ خيرا، فانهنّ عندكم عبوان ... أطعموهنّ ممّا تأكلون، و ألبسوهنّ ممّا تلبسون» «1».

(1)

العرب و الرّوح القتالية:

من الناحية النفسية يمكن القول بان عرب الجاهلية كانوا النموذج الكامل للإنسان الحريص، الموصوف بالطمع الشديد، الفويّ التعلق بالماديات.

لقد كانوا ينظرون الى كل شي ء من زاوية منافعه و مردوداته المادية، كما أنهم كانوا دائما يرون لأنفسهم فضيلة و ميزة على الآخرين.

كانوا يحبّون الحرية حبا شديدا، و لذلك كانوا يكرهون كل شي ء يقيّد حريتهم.

(2) يقول ابن خالدون عنهم: «إنهم (اي العرب الجاهلية) بطبيعة التوحّش الذي فيهم اهل انتهاب و عيث، ينتهبون ما قدروا عليه ... و كان ذلك عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، و عدم الانقياد

للسياسة و هذه الطبيعة منافية للعمران و مناقضة له».

و يضيف قائلا: «فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، و ان رزقهم في ظلال رماحهم و ليس عندهم في أخذ اموال الناس حدّ ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم الى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه» «2».

لقد كانت الاغارة و كان النهب و القتال من العادات المستحكمة عند القوم، و من الطبائع الثانوية في نفوسهم، و قد بلغ ولعهم و شغفهم بكل ذلك و نروعهم

______________________________

(1) وردت هذه العبارات في مصادر مختلفة مع شي ء طفيف من الاختلاف، راجع تحف العقول:

ص 33 و 34.

(2) مقدّمة ابن خالدون: ص 149.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:65

الشديد إليه، أن أحدهم- كما يقال- سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد أن سمع منه وصف الجنة و ما فيها من نعيم: و هل فيها قتال؟

و لما سمع الجواب بالنفي قال: اذن لا خير فيها!!

اجل لقد سجل التاريخ للعرب ما يقرب من (1700) وقعة و حربا، امتد أمد بعضها الى مائة سنة أو اكثر، يعني أن أجيالا كثيرة كانت تتوارث الحرب، و تستمر في قتال الخصم، و ربّ حرب دامية طويلة الأمد اندلعت بسبب قضيّة تافهة «1».

(1) لقد كان العربي في العهد الجاهلي يعتقد بأن الدم لا يغسله إلا الدم، و قضية «الشنفري» التي هي اشبه بالأساطير لغرابتها يمكن أن تعكس مدى «العصبية الجاهلية» التي كانت سائدة آنذاك.

فالشنفري يهان على يد رجل من «بني سلامان» فيعزم على الانتقام منه، و ذلك بأن يقتل مائة من تلك القبيلة، و بعد التربّص الطويل يغتال تسعا و تسعين، و يبقى مشرّدا حتى تغتاله جماعة من اللصوص عند بئر فتفعل جمجمته- بعد مقتله- فعلتها، اذ تتسبّب بعد مرور سنين- في قتل

رجل من قبيلة- «بني سلامان» و بذلك يكتمل العدد الذي حلف على قتلهم من تلك القبيلة، و ذلك عند ما يمر رجل من «بني سلامان» على تلك المنطقة فيهب طوفان شديد يلقي بجمجمة «شنفرة» على ذلك الرجل فتصيبه في رجله بشدة، فيموت بما لحقه من ألم و جراحة «2».

______________________________

(1) العرب قبل الإسلام: ص 319 و 320، هذا و تعتبر حرب داحس و الغبراء من أيام العرب التاريخية قبل الإسلام، و قد نشأت بسبب سباق بين فرسين هما داحس و الغبراء (و هو فرسين لقيس بن زهير من بني عبس) و فرسين آخرين (لحذيفة الغدر) انتهى الى التنازع في السباق و ازداد التنافر بين المتسابقين و انجرّ الى طعن أحدهما الآخر، و أن تتهيأ على اثر ذلك مقدمات حرب طويلة بين قبيلتي الرجلين و حلفائهما استمرت من عام 568 م الى عام 608 م و موت كثيرين.

(راجع تاريخ العرب و آدابهم ص 47 و الكامل لابن الأثير: ج 1 ص 204).

(2) تاريخ العرب: ج 1 ص 111، و راجع أيضا بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 2 ص 145 و 146.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:66

(1) و لقد بلغ انس العرب الجاهلية بالقتال و سفك الدماء أن جعلوا القتل و السفك للدماء من مفاخر الرجال!!

و يبدو ذلك جليا لمن يقرأ قصائدهم الملحمية التي تفوح منها رائحة الدم، و يخيّم عليها شبح الموت، تلك القصائد التي يمدح فيها الشاعر نفسه او قبيلته بما أراقوه من دماء!!، و ما ازهقوه من ارواح و ما سبوه من نساء!!، و أيتموه من أطفال!!

و نجد في البيت الشعريّ التالي مدى انزعاج الشاعر العربيّ الجاهلي لما اصاب قبيلته من نكسة و ذل و هزيمة

في ميدان القتال، اذ يقول:

فليت لي بهمو قوما إذا ركبواشنّوا الإغارة ركبانا و فرسانا و يصف القرآن الكريم هذه الحالة بقوله: «وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» «1».

(2)

الاخلاق العامة في المجتمع الجاهلي العربي:

و مهما يكن من امر فان عوامل مختلفة كالجهل و ضيق ذات اليد، و جشوبة العيش، و عدم وجود قانون صحيح يحكم الحياة الاجتماعية، و حالة البداوة الموجبة للتوحش، و الكسل و البطالة و غير ذلك من الرذائل الاخلاقية كانت قد حوّلت جوّ الجزيرة العربية إلى جوّ فاسد قاتم، حتى أن امورا يندى لها الجبين قد اخذت طريقها الى حياة تلك الجماعة و راحت تتخذ شيئا فشيئا صفة العادات المتعارفة!!

لقد كانت الغارات و عمليات النهب، و القمار، و الربا، و الاسر، و السبي من الأعمال و الممارسات الرائجة في حياة العرب الجاهلية، و كان شرب الخمر و معاقرتها بلا حدود هو الآخر من الأعمال القبيحة الشائعة لديهم، و لقد ترسّخت هذه العادة القبيحة في حياتهم الى درجة انها صارت جزء من طبيعتهم، و حتى أن

______________________________

(1) آل عمران: 103.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:67

شعراءهم خصّصوا مساحات كبيرة في قصائدهم لامتداح الخمرة و وصفها و كانت الحانات مفتوحة في وجه الناس طيلة الوقت تستقبل الزبائن، و قد نصبت عليها رايات.

فها هو شاعرهم يقول:

إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمةتروّي عظامي بعد موتى عروقها

و لا تدفنني في الفلاة فإنّني أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها «1» لقد بلغت معاقرة الخمر من الرواج في الحياة العربية الجاهلية بحيث اصبحت لفظة «التجارة» تعادل في عرفهم بيع الخمور، و الاتجار بها.

(1) و لقد كانت الأخلاق تفسر عند العرب الجاهلية بنحو آخر عجيب، فانهم مثلا كانوا يمدحون الشجاعة و المروءة و الغيرة، و لكنهم كانوا

يقصدون من «الشجاعة» القدرة على الإغارة و سفك الدماء، و كثرة عدد القتلى في الحروب!! كما أن الغيرة كانت تعني عندهم وأد البنات حتى أن هذا العمل الوحشيّ كان يعدّ عندهم من أعلى مظاهر الغيرة، و كانوا يرون الوفاء و الوحدة في نصرة الحليف حقا أو باطلا، و هكذا فان اكثر القصص التي نقلت عن شجاعتهم و شغفهم بالحرية كانت الشجاعة و الشغف بالحرية فيها تتلخص و تتجسّد في الاغارة و الانتقام.

انهم كانوا يعشقون- في حياتهم- المرأة و الخمرة و الحرب ليس غير.

(2)

النزوع الى الخرافة و الاساطير في المجتمع الجاهلي:

و لقد بيّن القرآن الكريم اهداف البعثة المحمّدية المقدسة بعبارات موجزة، و ممّا يلفت النظر- اكثر من أيّ شي ء- ما ذكره تعالى في الكتاب العزيز حول أهم هذه الاهداف و الغايات العليا إذ قال: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» «2».

______________________________

(1) تفسير مفاتيح الغيب: ج 2 ص 262 طبعة مصر 1305.

(2) الأعراف: 157.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:68

(1) فلا بدّ أن نعرف ما ذا كانت تلك الأغلال و السلاسل التي كانت عرب الجاهلية ترزح تحتها حتى قبيل بزوغ فجر الإسلام؟

لا ريب أنّها لم تكن من جنس الأغلال و السلاسل الحديدية، و لم يكن المقصود منها ذلك أبدا، فما ذا كانت إذن يا ترى؟

أجل إن المقصود من هذه الاغلال هي الأوهام و الخرافات التي كانت تقيّد العقل العربي عن الحركة، و تعيقه عن النمو و التقدم، و لا شك أن مثل هذه السلاسل و الأغلال التي تقيّد الفكر البشري و تمنعه من التحليق و التسامي، اثقل بكثير من الاغلال و القيود الحديدية و اضرّ على الإنسان منها بدرجات و مراتب، لأنّ الأغلال الحديديّة توضع عن الأيدي و الأرجل بعد مضي زمان، و يتحرر

الإنسان منها، بعد حين، ليدخل معترك الحياة بعقلية سليمة مبرّأة من الأوهام و الخرافات، و قد زالت عنه ما تركته تلك الحدائد من جروح و آلام.

(2) أما السلاسل و الاغلال الفكرية (و نعني بها الاوهام و الاباطيل و الخرافات) التي قد تهيمن على عقل الإنسان و تكبّل شعوره فانها طالما رافقت الإنسان الى لحظة وفاته، و اعاقته عن المسير و الانطلاق، دون ان يستطيع التحرر منها، و التخلص من آثارها، و تبعاتها، اللهم اذا استعان على ذلك بالتفكير السليم، و الهداية الصحيحة.

فبالتفكير السليم و في ضوء العقل البعيد عن أيّ و هم و خيال يمكنه التخلص من تلك الاغلال و القيود الثقيلة، و أما بدون ذلك فإن أي سعي للإنسان في هذا السبيل سيبوء بالفشل.

(3) إن من أكبر مفاخر نبي الإسلام أنه كافح الخرافات، و أعلن حربا شعواء على الأساطير، و دعا إلى تطهير العقل من أدران الأوهام و التخيلات، و قال: لقد جئت لاخذ بساعد العقل البشري، و أشد عضده، و احارب الخرافه مهما كان مصدرها. و كيفما كان لونها و أيّا كانت غايتها، حتى لو خدمت أهدافي، و ساعدت على تحقيق مقاصدي المقدسة.

إنّ ساسة العالم الذين لا تهمهم إلّا إرساء قواعد حكمهم و سلطانهم على

سيد المرسلين ،ج 1،ص:69

الشعوب لا يتورعون عن التوسل بأية وسيلة، و الاستفادة من اية واقعة في سبيل تحقيق مآربهم حتى أنهم لا يتأخرون عن التذرع بترويج الخرافات و الأساطير القديمة بين الشعوب للوصول إلى سدة الحكم، أو البقاء فيها ما امكنهم ذلك. و لو اتفق أن كانوا رجالا موضوعيين و منطقيين فانهم في هذه الحالة دافعوا عن تلك الخرافات و الأوهام و الاساطير التي لا تنسجم مع اي مقياس عقلي

بحجة الحفاظ على التراث القومي، او احترام راي اكثرية الشعب، او ما شابه ذلك من الحجج المرفوضة.

(1) و لكنّ رسول الإسلام لم يكتف بإبطال المعتقدات الخرافية التي كانت تلحق الضرر به، و بمجتمعه، بل كان يكافح و يحارب بجميع قواه كل اسطورة أو خرافة شعبية او فكرة فاسدة باطلة، تخدم غرضه، و تساعد على تحقيق التقدم في دعوته و يسعى إلى أن يجعل الناس يعشقون الحقيقة لا ان يعبدوا الخرافات، و يكونوا صحايا الاساطير و الأوهام، و إليك واحدا من هذه المواقف العظيمة على سبيل المثال لا الحصر.

لمّا مات إبراهيم بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو ابنه الوحيد، حزن عليه النبي حزنا شديدا فكانت تنحدر الدموع منه على غير اختيار، و اتفق ان انكسفت الشمس في ذلك اليوم أيضا، فذهب المولعون بالخرافة في ذلك المجتمع (العربي) على عادتهم إلى ربط تلك الظاهرة بموت إبراهيم و اعتبار ذلك دليلا على عظمة المصاب به فقالوا: انكسفت الشمس لموت ابن رسول اللّه، فصعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنبر و قال: «أيّها الناس انّ الشمس و القمر آيتان من آيات اللّه يجريان بامره، و مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد و لا لحياته، فاذا انكسفا، أو أحدهما صلّوا».

ثم نزل من المنبر فصلى بالناس صلاة الكسوف و هي ما تسمى بصلاة الآيات «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 91 ص 155.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:70

(1) ان فكرة انكساف الشمس لموت ابن صاحب الرسالة و ان كان من شأنها ان تقوّي من موقع النبي في قلوب الناس، و تخدم بالتالي غرضه، و تساعد على انتشار دعوته، و تقدمها، إلا أنه صلّى اللّه عليه و آله رفض أن يحصل

على المزيد من النفوذ في قلوب الناس من هذا الطريق.

على أن محاربة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للخرافات و الاساطير التي كانت نموذجا بارزا من محاربته للوثنية، و تأليه المخلوقات و عبادتها، لم تكن من سيرته في عهد الرسالة بل كان ذلك دأبه في جميع أدوار حياته، حتى يوم كان صبيا يدرج، فانه كان يحارب الاوهام و الخرافات، و يعارضها في ذلك السن أيضا.

تقول حليمة السعدية مرضعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لما تمّ له (اي لمحمّد) ثلاث سنين قال لي يوما: «يا امّاه مالي لا أرى أخويّ بالنّهار»؟

قلت له: يا بنيّ إنهما يرعيان غنيمات، قال: «فما لي لا أخرج معهما»؟ قلت له:

تحبّ ذلك؟ قال: نعم.

فلما أصبح دهّنته و كحّلته و علّقت في عنقه خيطا فيه جزع يمانية (و هي من التمائم الباطلة كانت تعلّق على الشخص في أيام الجاهلية لدفع الآفات عنه)، فنزعها، و قال لي: «مهلا يا اماه فإنّ معي من يحفظني» «1».

(2)

الخرافات في عقائد العرب الجاهلية:

كانت عقائد جميع الامم و الشعوب العالمية يوم بزوغ شمس الإسلام ممزوجة بألوان من الخرافات و الأساطير.

فالاساطير اليونانية و الساسانية كانت تخيّم على افكار الشعوب التي كانت تعدّ في ذلك اليوم من أرقى الشعوب و المجتمعات.

على انه لا تزال خرافات كثيرة تسود و الى الآن في المجتمعات الشرقية المتقدمة، و لم تستطع الحضارة الراهنة أن تزيلها من حياة الناس و معتقداتهم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 392.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:71

إن تنامي الخرافة «يرتبط ارتباطا وثيقا بالمستوى العلمي و الثقافي في كل مجتمع، فبقدر ما يكون المجتمع متخلفا من الناحية الثقافية و العلمية تزداد نسبة وجود الخرافة و مقدار نفوذها في عقول الناس و نفوسهم.

(1) لقد سجل التاريخ

عن سكّان شبه الجزيرة العربية طائفة هائلة و كبيرة من الاوهام و الخرافات، و قد جمع السيّد محمود الآلوسي اكثرها في كتابه «بلوغ الارب في معرفة احوال العرب»، مرفقا كل ذلك بما حصل عليه من الشواهد الشعرية و غيرها «1».

و من يتصفح هذا الكتاب يقف على ركام هائل من الخرافات التي كانت تملأ العقل العربي الجاهلي آنذاك و تعشعش في نفوسهم، و قد كانت هذه السلسلة الرهيبة من الأوهام هي السبب في تخلّف هذا الشعب عن بقية الشعوب و الامم الاخرى.

و لقد كانت هذه الخرافات من أكبر السدود في طريق تقدم الدعوة الإسلامية، و لهذا اجتهد النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله بكل طاقاته في محو و ازالة آثار الجاهلية التي لم تكن سوى تلك الأوهام و الاساطير و الخرافات.

فعند ما وجّه «معاذ بن جبل» الى اليمن اوصاه بقوله:

«و امت أمر الجاهليّة إلّا ما سنّه الإسلام و أظهر أمر الإسلام كلّه صغيره و كبيره» «2».

(2) لقد وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمام جماهير كبيرة من العرب الذين كانت عقولهم ترزح تحت الافكار و المعتقدات الخرافية ردحا طويلا من الزمن يعلن عن نهاية عهد الأفكار و الاوهام الجاهلية اذ قال: «كلّ ماثرة في الجاهليّة تحت قدميّ» «3».

______________________________

(1) بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 2 ص 286- 369.

(2) تحف العقول: ص 25.

(3) السيرة النبوية: ج 3 ص 412.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:72

(1)

نماذج من الخرافات في المجتمع الجاهلي:
اشارة

و للوقوف على مدى أهمية التعاليم الإسلامية و قيمتها نلفت نظر القارئ الكريم الى نماذج من هذه الخرافات، و من أراد التوسع راجع المصدر المذكور.

(2)

1- الاستسقاء باشعال النيران:

كانت العرب إذا أجدبت، و أمسكت السماء عنهم، و أرادوا أن يستمطروا عمدوا الى السلع و العشر (و هما أشجار سريعة الاشتعال) فحزموهما، و عقدوهما في أذناب البقر، و أضرموا فيها النيران و أصعدوها في جبل وعر، و اتبعوها يدعون اللّه تعالى، و يستسقونه، و انما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار ... و كانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات الاخرى، و كانت هذه الثيران و الابقار اذا صاحت من وجع الاحتراق ظنّت العرب بان ذلك هو الرعد!!! و قد قال شاعرهم في ذلك:

يا (كحل) قد أثقلت أذناب البقربسلع يعقد فيها و عشر

فهل تجودين ببرق أو مطر؟ (3)

2- ضرب الثور اذا عافت البقر:

كانوا إذا أوردوا البقر فتمتنع من شرب الماء، ضربوا الثور ليقتحم الماء، بعده و يقولون: إن الجنّ تصدّ البقر عن الماء، و أن الشيطان يركب قرني الثور، و لا يدع البقر تشرب الماء، و لذلك كانوا يضربون وجه الثور.

و قد قال في هذا شاعرهم:

كذاك الثور يضرب بالهراوى إذا ما عافت البقر الظماء و قال آخر:

فإني إذا كالثور يضرب جنبه إذا لم يعف شريا و عافت صواحبه «1»

______________________________

(1) عافت أي كرهت شرب الماء.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:73

و قال ثالث:

فلا تجعلوها كالبقير و فحلهايكسّر ضربا و هو للورد طائع

و ما ذنبه إن لم ترد بقراته و قد فاجأتها عند ذاك الشرائع

(1)

3- كيّ صحيح الإبل ليبرأ السقيم:

اذا كان يصيب الإبل مرض او قرح في مشافرها و اطرافها عمدوا إلى بعير صحيح من تلك الإبل فكووا مشفره و عضده و فخذه يرون أن ذلك إن فعلوه ذهب العرّ و القرح و المرض عن إبلهم السقيمة، و لا يعرف سبب ذلك.

و قد احتمل البعض أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك وقاية للصحاح من الإصابة بالعرّ الذي أصاب غيرها، أو أنه نوع من المعالجة العلمية، و لكن لما ذا ترى كانوا يعمدون إلى بعير واحد من بين كل تلك الابل، فلا بد من القول بأن هذا الفعل كان ضربا من الاعمال الخرافية التي كانت سائدة في ذلك المجتمع الجاهلي قبل الإسلام.

و قد قال شاعرهم عن ذلك:

و كلّفتني ذنب امرئ و تركته كدى العرّ يكوى غيره و هو راتع و قال آخر:

كمن يكوي الصحيح يروم برآبه من كل جرباء الإهاب و قال ثالث:

فالزمتني ذنبا و غيري جرّه حنا نيل لا تكون الصحيح بأجربا

(2)

4- حبس ناقة عند القبر اذا مات كريم:

إذا مات منهم كريم عقلوا ناقته او بعيره عند القبر الذي دفن فيه ذلك الكريم، فعكسوا عنقها، و أداروا رأسها الى مؤخّرها و تركوها في حفيرة لا تطعم و لا تسقى حتى تموت، و ربما احرقت بعد موتها و ربما سلخت و ملئ جلدها ثماما، و كانوا يزعمون أن من مات و لم يبل عليه (اي لم تعقل ناقة عند قبره هكذا)

سيد المرسلين ،ج 1،ص:74

حشر ماشيا، و من كانت له بلية (اي ناقة عقلت هكذا) حشر راكبا على بليّته.

و قد قال أحدهم في هذا الصدد:

اذا متّ فادفنّي بحرّاء ما بهاسوى الأصرخين أو يفوّز راكب

فإن أنت لم تعقر عليّ مطيّتي فلا قام في مال لك الدهر حالب و قال آخر و هو يوصي ولده بان يفعلوا له

ذلك:

أ بنيّ لا تنس البليّة إنهالأبيك يوم نشوره مركوب

(1)

5- عقر الإبل على القبور:

كانوا إذا مات أحدهم ضربوا قوائم بعير بالسيف عند قبره، و قيل انهم كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت المضياف على ما كان يعقره من الإبل في حياته و ينحره للاضياف.

و قد ابطلت الشريعة المقدسة هذه العادة الباطلة في ما أبطلته فقد جاء في الحديث «لا عقر في الإسلام».

و قد قال أحدهم حول العقر هذا:

قل للقوافل و الغزاة اذا غزواو الباكرين و للمجدّ الرائح

إن الشجاعة و السماحة ضمّناقبرا بمرو على الطريق الواضح

فإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الجلاد و كل طرف سابع

و أنضح جوانب قبره بدمائهافلقد يكون اخادم و ذبائح

6- نهيق الرجل إذا اراد دخول القرية (التعشير):

(2) و من خرافاتهم أن الرجل منهم كان إذا اراد دخول قرية فخاف وباءها او جنّها وقف على بابها قبل ان يدخلها فنهق نهيق الحمار، ثم علّق عليه كعب ارنب كأنّ ذلك عوذة له، و رقية من الوباء و الجن و يسمون هذا النهيق التعشير.

قال شاعرهم:

و لا ينفع التعشير أن حمّ واقع و لا زعزع يغني و لا كعب ارنب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:75

و قال الآخر:

لعمري إن عشّرت من خيفة الردى نهاق حمير أنني لجزوع

7- تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي:

(1) فقد كان الرجل منهم اذا ضلّ في فلاة قلب قميصه و صفق بيديه، كأنه يومئ بهما الى انسان مهتدى.

قال أعرابي في ذلك:

قلبت ثيابي و الظنون تجول بي و يرمي برجلي نحو كل سبيل

فلأيا بلائي ما عرفت حليلتي و أبصرت قصدا لم يصب بدليل

8- الرتم:

(2) و ذلك أن الرجل منهم كان اذا سافر عمد الى خيط فعقده في غصن شجرة او في ساقها فاذا عاد نظر إلى ذلك الخيط فإن وجده بحاله علم ان زوجته لم تخنه و ان لم يجده أو وجده محلولا قال: قد خانتني. و ذلك العقد يسمى «الرتم».

قال شاعرهم في ذلك:

خانته لما رأت شيبا بمفرقه و غرّه حلفها و العقد للرتم و قال الآخر:

لا تحسبنّ رتائما عقدنّهاتنبيك عنها باليقين الصادق و قال ثالث:

يعلل عمرو بالرتائم قلبه و في الحيّ ظبيّ قد أحلّت محارقه

فما نفعت تلك الوصايا و لا جنت عليه سوى ما لا يحبّ رتائمه

9- وطي المرأة القتيل الشريف لبقاء ولدها:

فقد كانت العرب تقول: ان المرأة المقلاة و هي التي لا يعيش لها ولد، إذا وطئت القتيل الشريف عاش ولدها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:76

قال احدهم:

تظلّ مقاليت النساء يطأنه يقلن أ لا يلقى على المرء مئزر

10- طرح السنّ نحو الشمس اذا سقطت:

(1) و من تخيّلات العرب و خرافاتهم أن الغلام منهم اذا سقطت له سن أخذها بين السبابة و الابهام و استقبل الشمس اذا طلعت و قذف بها و قال: يا شمس ابدليني بسنّ احسن منها و لتجر في ظلمها إياتك، او تقول إياؤك، و هما جميعا شعاع الشمس.

قال احدهم و هو يصف ثغر معشوقته:

سقته إياة الشمس إلّا لثاته أسفّ و لم تكرم عليه باثمد أي كأن شعاع الشمس اعارته ضوءها.

هذا و قد أشار شاعرهم الى هذا الخيال (او قل الخرافة المذكورة) اذ قال:

شادن يحلو إذا ما ابتسمت عن أقاح كاقاح الرمل غر

بدلته الشمس من منبته بردا أبيض مصقول الاثر

11- تعليق النجاسة على الرجل وقاية من الجنون:

و من تخيّلات العرب أنهم كانوا إذا خافوا على الرجل الجنون، و تعرّض الارواح الخبيثة له نجّسوه بتعليق الاقذار كخرقة الحيض و عظام الموتى قالوا:

و أنفع من ذلك أن تعلّق عليه طامت عظام موتى ثم لا يراها يومه ذلك. و انشدوا في ذلك:

فلو أن عندي جارتين و راقياو علّق أنجاسا عليّ المعلق و قالت امرأة و قد نجّست ولدها فلم ينفعه ذلك و مات:

نجّسته لا ينفع التنجيس و الموت لا تفوته النفوس

12- دم الرئيس يشفي:

فقد كانت العرب تعتقد أنّ دم الرئيس يشفي من عضة الكلب الكلب.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:77

قال الشاعر:

بناة مكارم و اساة جرح دماؤهم من الكلب الشفاء و قال آخر:

أحلامكم لسقام الجهل شافيةكما دماؤكم تشفي من الكلب

13- شق البرقع و الرداء يوجب الحب المتقابل:

و من أوهامهم و تخيلاتهم أنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا احب امرأة و احبّته فشق برقعها و شقّت رداءه صلح حبهما و دام، فان لم يفعلا ذلك فسد حبهما، قال في ذلك احدهم:

و كم شققنا من رداء محبّرو من برقع عن طفلة غير عانس

اذا شق برد شق بالبرد برقع دواليك حتى كلّنا غير لابس

نروم بهذا الفعل بقيا على الهوى و الف الهوى يغوى بهذي الوساوس

(1)

14- معالجة المرضى بالامور العجيبة:

و من مذاهبهم الخرافية في معالجة المرضى إذا بثرت شفة الصبي حمل منخلا على رأسه و نادى بين بيوت الحيّ: الحلأ الحلأ، الطعام الطعام، فتلقي له النساء كسر الخبز، و اقطاع التمر و اللحم في المنخل ثم يلقي ذلك للكلاب فتأكله، فيبرأ من المرض فان أكل صبيّ من الصبيان من ذلك الذي ألقاه للكلاب تمرة او لقمة أو لحمة بثرت شفته.

فقد رويت عن امرأة أنها انشدت:

ألا حلأ في شفة مشقوقه فقد قضى منخلنا حقوقه و من أعاجيبهم أنهم كانوا إذا طالت علة الواحد منهم، و ظنّوا أنّ به مسّا من الجن لانه قتل حية، أو يربوعا، أو قنفذا، عملوا جمالا من طين و جعلوا عليها جوالق و ملأوها حنطة و شعيرا و تمرا، و جعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس و باتوا ليلتهم تلك، فاذا اصبحوا نظروا إلى تلك

سيد المرسلين ،ج 1،ص:78

الجمال الطين فاذا رأوا انها بحالها قالوا لم تقبل الدية فزادوا فيها و ان رأوها قد تساقطت و تبدّد ما عليها من الميرة قالوا: قد قبلت الدية و استدلوا على شفاء المريض و فرحوا و ضربوا الدفّ.

قال بعضهم:

قالوا و قد طال عنائي و السقم احمل الى الجن جمالات و ضمّ

فقد فعلت و السقام لم يرم فبالذي يملك

برئي اعتصم و قال آخر:

فيا ليت أن الجن جازوا حمالتي و زحزح عني ما عناني من السقم

اعلّل قلبي بالّذي يزعمونه فيا ليتني عوفيت في ذلك الزعم و من مذاهبهم في هذا المجال أن الرجل منهم كان إذا ظهرت فيه القوباء (و هو مرض جلدي) عالجها بالريق.

قال احدهم:

يا عجبا لهذه الفليقةهل تذهبّن القوباء الريقة

15- خرافات في مجال الغائب:

كانوا إذا غمّ عليهم أمر الغائب و لم يعرفوا له خبرا جاءوا إلى بئر عادية (أي مظلمة بعيدة القعر) أو جاءوا إلى حصن قديم و نادوا فيه: يا فلان أو يا أبا فلان (ثلاث مرات)، و يزعمون انه إن كان ميتا لم يسمعوا صوتا، و إن كان حيا سمعوا صوتا ربّما توهموه و هما، أو سمعوه من الصدى فبنوا عليه عقيدتهم، قال بعضهم في ذلك:

دعوت أبا المغوار في الحفر دعوةفما آض صوتي بالذي كنت داعيا «1»

أظن أبا المغوار في قصر مظلم تجرّ عليه الذاريات السوافيا و قال آخر:

و كم ناديته و الليل ساج بعاديّ البئار فما أجابا

______________________________

(1) آض أي عاد و رجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:79

و من ذلك أن الرجل منهم كان إذا اختلجت عينه قال: (أرى من احبّه) فإن كان غائبا توقع قدومه، و إن كان بعيدا توقّع قربه، و قال أحدهم:

إذا اختلجت عيني أقول لعلّهافتاة بني عمرو بها العين تلمع و قال آخر:

إذا اختلجت عيني تيقّنت إنّني أراك و إن كان المزار بعيدا و كانوا إذا لا يحبّون لمسافر أن يعود إليهم أوقدوا نارا خلفه و يقولون في دعائهم «أبعده اللّه و أسحقه و أوقد نارا إثره» قال بعضهم:

صحوت و أوقدت للجهل ناراورد عليك الصباما استعارا

16- عقائدهم العجيبة في الجنّ و تأثيره:

كانت العرب في الجاهلية تعتقد في الجن و تأثير هذا الكائن في شتى مجالات حياتهم اعتقادات عجيبة و في غاية الغرابة.

فتارة تستعيذ بالجن، و قد استعاذ رجل منهم و معه ولد فأكله الأسد فقال:

قد استعذنا بعظيم الوادي من شرّ ما فيه من الأعادي

فلم يجرنا من هزبر عادي

و عن الاستعاذة بالجنّ قال اللّه سبحانه في القرآن: «وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» «1».

و من ذلك اعتقادهم

بهتاف الجن. و لهم في هذا المجال أساطير خرافية مذكورة في محلّها.

و من هذا القبيل اعتقادهم بالغول، فقد كانت تزعم العرب في الجاهلية أن الغيلان في الفلوات (و هي من جنس الشياطين) تتراءى للناس، و تغول تغولا اي تتلوّن تلونا فتضلّهم عن الطريق، و تهلكهم، و من هذا القبيل أيضا اعتقادهم بالسعالي!!

______________________________

(1) الجن: 6.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:80

و قد قال أحدهم في ذلك:

و ساحرة عينيّ لو أنّ عينهارأت ما الاقيه من الهول جنّات

أبيت و سعلاة و غول بقفرةإذا الليل و أرى الجن فيه أرنت

17- تشاءمهم بالحيوانات و الطيور و الاشياء:

و من مذاهبهم الخرافية تشاءمهم بأشياء كثيرة و حالات عديدة:

فمن ذلك؛ تشاءمهم بالعطاس.

و تشاءمهم بالغراب حتى قالوا: فلان أشأم من غراب البين، و لهم في هذا المجال أبيات شعرية كثيرة منها قول أحدهم:

ليت الغراب غداة ينعب دائباكان الغراب مقطّع الأوداج و كذا تشاءمهم و تطيّرهم بالثور المكسور القرن و الثعلب. إلى غير ذلك من التخيلات و الأوهام و الخرافات و الاساطير، و الاعتقادات العجيبة، و التصورات الغريبة التي تزخز بها كتب التاريخ المخصصة لبيان أحوال العرب قبل الإسلام و حتى ابان قيام الحضارة الإسلامية.

(1)

مكافحة الإسلام لهذه الخرافات:

و لقد كافح الإسلام جميع هذه الخرافات بطرق مختلفة، و اساليب متنوعة.

أما بالنسبة إلى ما كانوا يفعلونه بالحيوانات (2) فمضافا إلى أنّ أيّ شي ء من هذه الأعمال لا ينسجم مع العقل و المنطق و العلم لأن المطر و الغيث لا ينزل من السماء باسعال النيران، و ضرب الثيران لا يؤثر في البقر، كما لا ينفع كيّ البعير الصحيح في شفاء الإبل السقيمة، و تعتبر هذه الاعمال نوعا من تعذيب الحيوانات و قد نهى الإسلام بشدة عن تعذيب الحيوانات و ايذائها، باي شكل كان.

(3) فقد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «للدّابة على صاحبها ستّ خصال:

1- يبدأ بعلفها إذا نزل.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:81

2- و يعرض عليها الماء إذا مرّ به.

3- و لا يضرب وجهها فإنها تسبّح بحمد ربّها.

4- و لا يقف على ظهرها إلا في سبيل اللّه عزّ و جلّ.

5- و لا يحمّلها فوق طاقتها.

6- و لا يكلّفها من المشي إلا ما تطيق «1».

كما روي أنه نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أن توسم البهائم في وجهها، و أن تضرب في وجوهها فانها تسبّح

بحمد ربها.

و من هنا ندرك ان التعاليم في مجال الرفق بالحيوان، و حمايته، على النقيض من العادات الجاهلية السائدة في البيئة العربية آنذاك.

و اما بالنسبة الى التمائم و الأشياء التي كانت تعلّقها العرب على أعناق و صدور رجالها، و أولادها، من الأحجار و الخرز، و عظام الموتى، و معالجة المرضى و المصابين و غيرهم بها أحيانا فقد حاربها الإسلام، بعد أن أبطلها كما ابطل الافاعيل التي سبق أن ذكرناها قبل هذا.

فلما جاءت جماعات من الأعراب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سألوه عن الرّقى و القلائد التي كانوا يتداوون بها أو يسترقونها بدلا عن التداوي بالعقاقير و الأدوية قائلين يا رسول اللّه: أ نتداوى؟

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تداووا فإنّ اللّه لم يضع داء إلا وضع له دواء» «2».

بل نجد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأمر سعد بن أبي وقاص عند ما اصيب بمرض في فؤاده أن يعالج نفسه عند طبيب إذ قال له لما عاده و عرف بحاله: «إنك رجل مفود، ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبّب» «3».

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 286، و راجع للوقوف على أحاديث حقوق الحيوان كتاب الشؤون الاقتصادية: ص 130- 159 أيضا.

(2) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 178.

(3) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 179.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:82

(1) هذا مضافا إلى أنه وردت أحاديث كثيرة تصرّح ببطلان التمائم السحريّة التي لا تنفع و لا تضرّ أبدا، و ها نحن نشير في ما يلي إلى نموذجين من هذه الأحاديث:

1- يقول أحدهم: دخلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بابن لي قد اعلقت

عليه من العذرة (و هي قلادة سحرية جاهلية) فقال: علام تدغرن أولادكنّ بهذا العلاق، عليكنّ بهذا العود الهنديّ» و كان صلّى اللّه عليه و آله يقصد عصارة هذا العود «1».

2- روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام أنه قال: «إنّ كثيرا من التمائم شرك» «2».

هذا مضافا إلى أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوصياءه الكرام- بارشادهم الناس إلى ما ينبغي أن يتداووا به من العقاقير و الأدوية و ما أعطوه من تعاليم قيمة كثيرة في هذا المجال ممّا جمعه المحدثون الكبار تحت عنوان: «طبّ النبي» و «طب الرضا» و ... و- قد وجهوا ضربة قوية اخرى إلى تلك الأوهام و التخيّلات، و الخرافات و الاساطير التي كان يعاني منها المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام «3».

و أما الغول، و الطيرة، و التشاؤم، و الهامّة و النوء فقد حاربها النبي بصراحة اذ قال: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لا هامّة و لا نوء و لا طيرة، و لا غول» «4».

و قال (ص) «العيافة و الطيرة و الطرق من الجبت» «5».

______________________________

(1) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 184.

(2) سفينة البحار: ج 1 مادة رقي.

(3) و قد فتح المحدّثون من الفريقين أبوابا خاصّا لأحاديث الطبّ النبويّ في كتب الحديث أيضا.

(4) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 196 و 197 الفصل الرابع باب نفي مزاعم الجاهلية، قال مؤلف التاج: الهامّة طائر أو البوم إذا سقط في مكان تشاءم أهله، أو دابّة تخرج من رأس القتيل أو من دمه فلا تزال تصيح حتى يؤخذ بثاره، و النوء نجم يأتي بالمطر و آخر يأتي بالريح (حسب عقيدة الجاهلية)!!

(5) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 201. قال

مؤلّف التاج العيافة زجر الطّير و التفاؤل بأسمائها و أصواتها كالتفاؤل بالعقاب على العقاب، و بالغراب على الغربة، و بالهدهد على الهدى، و كذا بأفعالها، و كيفية طيرانها فكانت العرب تزجر الطير و تثيره فما اخذ منها ذات اليمين تبركوا به-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:83

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيضا أنه قال: «إنّ الرقى و التمائم و التوله شرك» «1».

و عن أحدهم قال: قلت يا رسول اللّه امورا كنّا نصنعها في الجاهلية، كنّا نأتي الكهّان، قال: فلا تأتوا الكهان، قلت: كنّا نتطيّر قال: ذاك شي ء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدّنكم».

إن وجود النهي الشديد و المكرّر في الأحاديث الكثيرة عن الطيرة و التشاؤم، و الزجر و العيافة و التمائم و التولة و الهامّة و النوء و الغول، و الكهانة، و ايذاء الحيوانات و كيهنّ، و تعذيبهن، و ما شابه ذلك يدل بوضوح و قوة على مدى رسوخ هذه العادات الباطلة في الحياة العربيّة الجاهلية، يكشف عن مبلغ اعتقادهم بها، و نزوعهم إليها و هو بالتالي يكشف عن مغزى قوله تعالى: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» «2» فأيّة سلاسل و أغلال أثقل و أسوأ عاقبة و أشدّ وطئة، من هذه الأغلال ... أغلال الخرافة و الوهم، و سلاسل التخيلات و الاساطير؟!!

(1)

أوضاع العرب الاجتماعية قبيل ظهور الإسلام:

إن اولى خطوة خطاها البشر باتّجاه النمط الاجتماعي كانت عند ما أقبل على تأسيس و إقامة الحياة القبلية، فالقبيلة تتكون من اجتماع عدة عوائل و اسر مترابطة فيما بينها بوشائج القربى و النسب تحت زعامة شيخ القبيلة، و بهذا يتحقق

______________________________

- و تيمّنوا و ما تياسر منها تشاء موابه (كما في بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3 ص 212

تحت عنوان كيفية الزجر عند العرب).

و «الطرق»: الضرب بالحصى (للاستدلال على امور غيبيّة باعتقاد الجاهليين). و الجبت هو الباطل.

(1) التاج الجامع للأصول: ج 3 ص 203. قال مؤلّف الجامع: «التولة»: نوع من السحر يحبّب الرجل إلى زوجته، و هو من عمل المشركين (أي في الجاهلية).

(2) سورة الأعراف: 157.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:84

أبسط نمط من أنماط الحياة الاجتماعية.

(1) و قد كانت الحياة العربية- آنذاك- من هذا القبيل، فكل مجموعة من العوائل المترابطة نسبيا تتجمع في شكل قبيلة، و تشكل بذلك مجتمعا صغيرا يخضع فيه الجميع لأوامر رئيس القبيلة و زعيمها، و لقد كان الجامع بين افراد القبيلة هو الرابطة القومية، و الوشيجة النسبية، و كانت هذه القبائل تختلف في عاداتها و رسومها، و تقاليدها و أعرافها، اختلافا كبيرا، و إذ كانت كل قبيلة تعتبر القبائل الاخرى غريبة عنها لذلك كانت لا تقيم للآخرين وزنا و لا قيمة، و لا تعترف لهم باي حق أو حرمة.

و لهذا كانت ترى الإغارة على الآخرين و قتلهم، و نهب أموالهم، و سلب ممتلكاتهم و سبي نسائهم من حقوقها القانونية المشروعة، اللّهم إلّا أن يكون بين القبيلة، و القبيلة الاخرى حلف أو معاهدة.

هذا من جانب.

و من جانب آخر كانت القبيلة التي تتعرض للإغارة من جانب قبيلة اخرى ترى من حقها أن تردّ الصاع صاعين، فتقتل كل أفراد القبيلة المغيرة، لأن الدّم- في نظرهم- لا يغسله الا الدّم!!!

و لقد تبدلت أخلاقية العرب هذه بعد انضوائهم تحت لواء الإسلام الحنيف، بل تحوّلوا من نمط الحكومة القبلية المتخلفة و النظام العشائري الضيّق هذا، إلى حكومة عالميّة، و استطاع رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان يؤلف من القبائل العربية المتفرقة أمّة واحدة.

(2) و

لا شك أن تأليف امة واحدة من قبائل و جماعات اعتادت طوال سنين مديدة من التاريخ على التناحر و التنازع، و التخاصم و التقاتل، و التهاجم و الإغارة في ما بينها، و استمرأت سفك الدماء، و إزهاق الارواح، و ذلك في مدة قصيرة، عمل عظيم جدا، و معجزة اجتماعية لا نظير لها، لأن مثل هذا التحوّل العظيم إذا اريد له أن يتمّ عبر التحوّلات و التطورات العاديّة لاحتاج الى تربية طويلة الامد، و وسائل لا تحصى كثرة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:85

(1) يقول «توماس كارليل» في هذا الصدد: لقد اخرج اللّه العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور، و أحيى به منها امة خاملة لا يسمع لها صوت و لا يحسّ فيها حركة، حتى صار الخمول شهرة و الغموض نباهة و الضعة رفعة و الضعف قوة، و الشرارة حريقا، و شمل نوره الأنحاء و عمّ ضوؤه الأرجاء ما هو إلا قرن بعد إعلان هذا الدين حتى أصبح للعرب (المسلمين) قدم في الهند و اخرى في الاندلس «1».

و الى هذه الحقيقة يشير أيضا مؤلف تاريخ اللغات السامية الشهير «رينان» قائلا: «لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسيّ و الثقافي و الدينيّ قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الذي صار به العرب أمّة فاتحة مبدعة و لم يكن لجزيرة العرب شأن في القرون الاولى من الميلاد، حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ» «2».

(2) أجل إن هذه القبائل العربية الجاهلية المختلفة المتناحرة لم تكن تعيش أية حضارة، و لم تمتلك أية تعاليم و قوانين، و أنظمة و آداب قبل مجي ء الإسلام، لقد كانت محرومة من جميع المقومات الاجتماعية التي توجب التقدم و الرقي، و لهذا لم يكن من المتوقع

ابدا ان تصل إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد و العظمة، و لا أن تنتقل من نمط الحياة القبلية الضيقة الى عالم الانسانية الواسع، و افق الحضارة الرحيب بمثل هذه السرعة التي وصلت إليه، و الزمن القصير الذي انتقلت فيه.

إنّ مثل الشعوب و الامم البشرية مثل المباني و العمارات تماما.

فكما أن البناء القوي الراسخ يحتاج الى موادّ إنشائية قوية معدّة باتقان و محضّرة باحكام حتى يستطيع البناء المصنوع من هذه الموادّ، و المؤسس بعناية و هندسة متقنة من الوقوف في وجه الأعاصير، و الأمطار الغزيرة كذلك يحتاج كيان كل امة رشيدة من الامم إلى اسس و قواعد محكمة (و هي الأصول و الآداب الكاملة، و الأخلاق الإنسانية العالية) لتستطيع من البقاء و التقدم.

______________________________

(1) الخطط الاستعمارية لمكافحة الإسلام: ص 38، و الإسلام العلم و الحديث: ص 33.

(2) حضارة العرب: ص 87.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:86

(1) و لهذا السبب لا بد من التأمل في أمر و سرّ هذه الظاهرة العجيبة و لا بد أن نتساءل:

كيف تحقق ذلك التطور العظيم، و ذلك التحول العميق للعرب الجاهلية، و من اين نشأ؟؟

كيف امكن ان تتحول جماعة متشتتة، متعادية، متناحرة، متباغضة، في ما بينها، بعيدة عن النظم الاجتماعية، بمثل هذا السرعة الى أمّة متآلفة متآخية متعاونة متسالمة متحابة، و تشكل دولة قوية كيانا سياسيا شامخا أوجب أن تخضع لها دول العالم و شعوبه، و تطيعها، و تحترم مبادئها و اخلاقها و آدابها آنذاك.

(2) حقا لو كان في مقدور العرب أن يحرزوا ذلك التقدم الهائل بفعل عامل ذاتي فلما ذا لم تستطع عرب اليمن الذين كانوا يمتلكون شيئا كبيرا من الثقافة و الحضارة، و الذين عاشوا الانظمة الملكية سنينا عديدة، بل و ربّت في

احضانها ملوكا و قادة كبارا، أن تصل الى مثل هذه النهضة العظيمة الشاملة، و تقيم مثل هذه الحضارة العريضة الخالدة.

لما ذا لم تستطع العرب الغساسنة الذين كانوا يجاورون بلاد الشام المتحضرة، و يعيشون تحت ظلّ حضارة «الروم» أن يصلوا الى هذه الدرجة من الرشد؟

(3) لما ذا لم تستطع عرب الحيرة الذين كانوا- و إلى الامس القريب- يعيشون في ظلّ الامبراطورية الفارسية أن ينالوا مثل هذا الرقي و التقدم؟ و حتى لو وصلوا الى هذه الدرجة من التقدم و حققوا هذه القفزة فانه لم يكن أمرا يثير العجب لأنهم كانوا يعيشون في أحضان مدنيات كبرى، و يتغذون منها، و لكن الذي يثير الدهشة، و العجب هو أن تستطيع عرب الحجاز من تحقيق هذه النهضة الباهرة، و يرثوا الحضارة الإسلامية العظمى و هم الذين كانوا يفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحضارة الذاتية، و لم يكن لهم عهد بأيّ تاريخ حضاريّ مشرق، بل كانوا كما عرفت يرزحون تحت أغلال الوهم و التخيّل، و يسيرون في ظلمات الخرافات و الأساطير.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:87

(1)

دول الحيرة و غسّان:

على العموم كانت المناطق ذات المناخ الجيّد من الجزيرة العربية حتى آخر قرن قبل الإسلام تحت سيطرة ثلاث دول كبرى هي: «ايران»، «الروم»، «و الحبشة».

فالشرق و الشمال الشرقي من هذه المنطقة كانت تحت حماية «ايران».

و الشمال الغربي كان تابعا للروم.

و المناطق المركزية و الجنوب كانت تحت نفوذ «الحبشة».

و على أثر مجاورة هذه المناطق للدول المتحضّرة المذكورة، و ما كان بينها من نزاع و تنافس دائمين ظهرت في المناطق الحدودية للجزيرة العربية دول شبه متحضرة، و شبه مستقلة كان كل واحدة منها تابعة في حضاراتها لدولة متمدنة عظمى تجاورها.

و قد كانت دول «غسان»، و «الحيرة» «و كنده» من هذه

الدول شبه المستقلة و شبه المتمدنة، و كانت كل واحدة منها تابعة لاحدى الدول العظمى آنذاك: «ايران»، «الروم»، «الحبشة».

(2) الحيرة: يتبيّن من الآثار و الأخبار أنه هاجرت- في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد- بعض الطوائف العربية، و ذلك في نهايات الحكم الأشكناني، إلى الأراضي المجاورة للفرات، و سيطروا على قسم من أراضي العراق، و قد أوجدت هذه الجماعة المهاجرة القرى و القلاع هناك، شيئا فشيئا، و أحدثت المدن التي من أهمّها: «الحيرة» التي كانت تقع على حافة صحراء بالقرب من مدينة الكوفة الحالية.

و قد كانت هذه المدينة- و كما يظهر من اسمها- في بداية أمرها قلعة (لأن الحيرة تعني في اللغة السريانية: الدير و ما يشبهه) يسكنها العرب ثم تطورت شيئا فشيئا الى مدينة.

(3) و قد ساعد مناخها الجميل، و المياه الوافرة التي تأتي إليها من الفرات، و جودة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:88

الأحوال الطبيعية الاخرى إلى أن تجتذب إليها أصحاب الصحراء، و سكان البوادي، و القفار، كما و استطاعت هذه المدينة و بفضل مجاورتها للحضارة الفارسية إن تكتسب من ثقافتها و مدنيتها ما أفاض عليها لونا من الحضارة و المدنية، و قد بنيت بالقرب من «الحيرة» قصور مثل «الخورنق» الذي أضاف إلى هذه المدينة جمالا و بهاء خاصّين، و قد تعرّف العرب الساكنون في هذه المنطقة على الخط و الكتابة، و يمكن ان تكون الكتابة و القراءة قد سرتا منها الى بقية مناطق الحجاز و مدنها «1».

(1) و لقد كان ملوك «الحيرة» و أمراؤها من اللخميين العرب يؤيّدون من قبل الدولة الإيرانية بقوة، و سبّب هذا التأييد، و الحماية الايرانية لأمراء الحيرة و ملوكها كان يكمن في أن ملوك إيران- آنذاك- كانوا يريدون أن تكون الحيرة سدّا،

و حاجزا بينهم و بين عرب البادية، يدفعون بهم خطر الغزاة من أهل الصحارى على الحدود الإيرانية.

و لقد سجّل التاريخ أسماء هؤلاء الأمراء؛ و قد نظم «حمزة الاصفهاني» فهرستا بأسمائهم، و جدولا بأعمارهم و مدد حكوماتهم، و من كان يعاصرهم من ملوك بني ساسان الإيرانيين «2».

و مهما يكن الأمر فإن دولة اللخميين العرب كانت من أكبر الحكومات العربية شبه المتحضرة في منطقة الحيرة، و كان آخر ملوك هذه السلسلة هو «النعمان بن المنذر» صاحب القصة التاريخية التي تتضمن خلعه من الحكم، و قتله بواسطة الملك الايراني: «خسرو برويز» «3».

(2) غسّان: في أوائل القرن الخامس أو اوائل القرن السادس الميلادي هبط جماعة من المهاجرين اليمنيين في الشمال الغربي- أقصى نقاط الجزيرة العربية- و في جوار الإمبراطوريّة الروميّة، و أسسوا دولة الغساسنة، و قد كانت هذه الدولة

______________________________

(1) فتوح البلدان للبلاذري: ص 457.

(2) سنيّ ملوك الأرض: ص 73- 76.

(3) الأخبار الطوال: ص 109.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:89

تحت حماية الروم، و كان ملوكها ينصبون من جانب إمبراطوريات «قسطنطينية» مباشرة، تماما كما كان ملوك «الحيرة» ينصبون من جانب ملوك ايران.

و لقد كانت دولة الغساسنة متحضرة نوعا ما، و حيث أن مراكز حكمها كانت قريبة من ناحية إلى «دمشق» و مجاورة ل: «بصرى» مركز القسم الرومي من الجزيرة العربية من ناحية اخرى، لذلك تأثرت بحضارة الروم تأثرا كبيرا و بالغا.

و لقد كان الغساسنة متحالفين مع الروميين بسبب ما كان بينهم و بين ملوك الحيرة اللخميين العرب و الايرانيين من الاختلاف و النزاع، و لقد حكم في دولة الغساسنة تسعة أو عشرة من الأمراء و الملوك تباعا.

(1)

الدين في أرض الحجاز:

لقد كان الدين الرائج في الحجاز هو الوثنية، و عبادة الاصنام.

نعم كانت هناك أقليّات دينية يهودية تقطن

في يثرب (المدينة فيما بعد) و خيبر، كما انه كان هناك من يتبع المسيحية و هم سكّان نجران، البلد الحدودي لليمن و الحجاز.

و كان الدين الرائج في المناطق الشمالية من الحجاز (إي الشام حاليا) هو المسيحية بسبب مجاورة هذه المناطق للروم و خضوعها للسيادة الرومية.

و لو أننا استثنينا من الحجاز هذه المناطق الحساسة الثلاث لما وجدنا في بقية مناطق الحجاز إلّا الوثنية في أشكال مختلفة، و اعتقادات متنوعة، اللّهم إلّا بضع افراد كان عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد ممن يسمّون بالاحناف كانوا على دين التوحيد، و كان عددهم بالنسبة إلى الاكثرية الساحقة من العرب الوثنيين قليلا جدّا «1».

(2) فمنذ زمن النبي «إبراهيم» الخليل و ابنه «اسماعيل» عليهما السّلام دخل

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 122 و 123.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:90

التوحيد، و دخلت بعض التعاليم الأخلاقية و الدينية إلى أرض الحجاز، و كان الحج و أداء مناسكه احتراما للكعبة الشريفة هو أحد هذه التعاليم و السنن التي دخلت مع «الخليل» إلى هذه المنطقة، ثم إن رجلا من قبيلة «خزاعة» يسمى «عمرو بن لحي» الذي كانت زعامة مكة قد عهدت إليه، أدخل عبادة الاوثان في مكة في ما بعد، و ذلك عند ما سافر هذا الخزاعي إلى بلاد الشام فوجد قوما من العمالقة يعكفون على تماثيل جميلة النقش و المنظر يعبدونها، و يؤلّهونها، فقال لهم:

ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، و نستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أ فلا تعطونني منها صنما فاسير به إلى أرض العرب فيعبدوه فأعطوه صنما، و هكذا استحب عملهم، و جلب معه الى مكة صنما جميل النقش و النحت يدعى «هبل» فنصبه و دعا الناس إلى عبادته،

و تعظيمه.

و هكذا دخلت الوثنية إلى «مكة» المكرمة، و اصبحت عبادة الاوثان و الاصنام عبادة رائجة في تلك الديار «1».

(1) و اشهر اصنام العرب هي:

1- هبل و كانت أعظم اصنام العرب التي في جوف الكعبة.

2- اساف.

3- نائلة و كانت هي و اساف على موضع زمزم ينحرون عندهما.

4- اللات و كانت لثقيف بالطائف.

5- العزّى و كانت بنخلة الشامية، و كانت لقريش و بني كنانة.

6- منات و كانت للاوس و الخزرج و من ذهب مذهبهم من أهل يثرب.

7- عميانس و كان بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم و حروثهم.

8- سعد.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 78- 81، و العمالقة هم طائفة من العرب عاشوا و سادوا ثمّ بادوا قبل الإسلام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:91

9- ذو الخلصة و كانت لدوس و خثعم و بجيلة.

10- مناف «1».

و لقد كانت هذه هي أشهر أصنام العرب علاوة على الأصنام الاخرى غير المعروفة التي كانت تختصّ بطائفة دون اخرى، أو بعائلة دون عائلة.

(1)

العلم و الثقافة في الحجاز:

كان أهل الحجاز يوصفون بالاميّين، و الاميّ هو من لم يتعلم القراءة و الكتابة فهو كمن ولدته أمه، أو هو باق في عدم العلم بالقراءة و الكتابة على الحالة التي ولد فيها من أمه.

و لأجل أن نعرف مدى ما كان عليه العلم و الثقافة عند العرب من القيامة يكفي أن نعلم بأن عدد الذين كانوا يعرفون القراءة و الكتابة بين قريش الى ما قبل ظهور الإسلام لم يكن يتجاوز (17) شخصا في مكة و (11) نفرا فقط من بين الأوس و الخزرج في المدينة «2».

إذا لاحظنا هذا التخلف و الانحطاط في مجال العلم و الثقافة في البيئة العربية الجاهلية يتضح لنا مدى تأثير الإسلام، و ادركنا عظمة التعاليم الإسلامية في جميع

الحقول الاعتقادية و الاقتصادية و الأخلاقية و الثقافية، و لا بدّ في تقييم الحضارات أن نطالع و ندرس الحلقة السابقة، ثم نقيم الحلقة التالية في ضوء ذلك، و في هذه الصورة نقف على عظمة تلك الحضارة الحقيقية «3».

______________________________

(1) راجع الأصنام للكلبي، و المحبر: ص 315- 319.

(2) فتوح البلدان: ص 457- 459.

(3) للوقوف على معلومات أوسع و اكثر حول عقائد مختلفة طوائف المجتمع العربي الجاهلي، و ثقافتها و تقاليدها راجع الكتابين التاليين:

ألف: «بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب» تأليف السيد محمود الآلوسي المتوفى عام 1270 هجري قمري.

باء: «المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام» تأليف الاستاذ جواد علي، و هذا الكتاب اخرج في (10) مجلدات، و قد بحث فيها كل ما يرتبط بحياة العرب في العهد الجاهلي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:92

الإمام عليّ يصف العهد الجاهليّ:

و قد وصف الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام تلك الحالة في خطبه، و حيث أنه عاصر ذروة ذلك الوضع المأساوي و وصفه وصفا دقيقا لذلك ينبغي أن نقف عند كلامه قليلا ليتبين لنا جيدا ما كان عليه العرب إبّان عهد الرسالة الإسلامية المباركة:

قال عليه السّلام في الخطبة (الثانية) من نهج البلاغة:

«... و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله أرسله بالدين المشهور و العلم المأثور و الكتاب المسطور و النّور الساطع، و الضياء اللامع، و الأمر الصادع إزاحة للشبهات و احتجاجا بالبيّنات و تحذيرا بالآيات، و تخويفا بالمثلات «1» و الناس في فتن انجذم «2» فيها حبل الدّين، و تزعزعت سواري «3» اليقين و اختلف النجر «4»، و تشتّت الأمر وضاق المخرج، و عمي المصدر فالهدى خامل، و العمى شامل، عصي الرّحمن و نصر الشيطان و خذل الإيمان فانهارت دعائمه، و تنكّرت معالمه و درست «5» سبله و

عفت شركه «6» أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه، و وردوا مناهله «7» بهم سارت أعلامه، و قام لواؤه في فتن داستهم بأخفافها «8» و وطئتهم بأظلافها «9» و قامت على سنابكها «10» فهم فيها تئهون حائرون جاهلون مفتونون في خير دار و شرّ جيران نومهم سهود و كحلهم دموع بأرض عالمها ملجم و جاهلها مكرم.

و قال في الخطبة (التاسعة و الثمانين) أيضا:

«أرسله صلّى اللّه عليه و آله على حين فترة من الرّسل و طول هجعة من الامم و اعتزام «11» من الفتن و انتشار من الامور و تلظّ «12» من الحروب و الدّنيا

______________________________

(1) المثلات: العقوبات.

(2) انجذم: انقطع.

(3) السواري: الدعائم.

(4) النجر: الأصل.

(5) درست: انطمست.

(6) الشرك: الطرق.

(7) المنهل: مورد النهر.

(8) الخف: هو للبعير كالقدم للإنسان.

(9) الظلف: للبقر و الشاة كالخفّ للبعير و القدم للإنسان.

(10) السنابك: طرف الحافر.

(11) اعتزم الفرس: اذا مرّ جامحا.

(12) تلظّ: تلهّب.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:93

كاسفة النّور ظاهرة الغرور على حين اصفرار من ورقها و إياس من ثمرها و اغورار «1» من مائها قد درست منار الهدى و ظهرت أعلام الرّدى فهي متجهّمة «2» لأهلها عابسة في وجه طالبها ثمرها الفتنة و طعامها الجيفة «3» و شعارها الخوف و دثارها السيف».

و قال في الخطبة (السادسة و العشرين): «إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذيرا للعالمين و أمينا على التّنزيل و انتم معشر العرب على شرّ دين و في شرّ دار منيخون «4» بين حجارة خشن «5» و حيّات صمّ «6» تشربون الكدر و تأكلون الجشب «7» و تسفكون دماءكم و تقطعون أرحامكم الأصنام فيكم منصوبة و الآثام بكم معصوبة «8»».

و قال عليه السّلام في الخطبة (الثالثة و الثلاثين): «إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم و ليس احد من العرب يقرأ كتابا و لا يدّعي نبوة فساق الناس حتى بوّأهم محلّتهم «9» و بلّغهم منجاتهم فاستقامت قناتهم «10» و اطمأنّت صفاتهم».

و قال في الخطبة (الخامسة و التسعين) أيضا:

«... بعثه صلّى اللّه عليه و آله و النّاس ضلال في حيرة و حاطبون في فتنة قد استهوتهم الأهواء و استزلّتهم الكبرياء و استخفّتهم «11» الجاهليّة الجهلاء حيارى في زلزال من الأمر و بلاء من الجهل فبالغ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في النّصيحة و مضى على الطّريقة و دعا إلى الحكمة و الموعظة الحسنة».

و قال عليه السّلام في الخطبة (السادسة و التسعين) أيضا:

«... مستقرّه خير مستقرّ و منبته أشرف منبت في معادن الكرامة و مماهد «12» السّلامة قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار و ثنّيت إليه أزمّة الأبصار دفن

______________________________

(1) اغورار الماء: ذهابه.

(2) تجهّمه: استقبله بوجه كريه.

(3) إشارة الى أكل العرب للميتة من شدة الاضطرار.

(4) منيخون: مقيمون.

(5) الخشن: جمع خشناء من الخشونة.

(6) الصمّ: التي لا تسمع لعدم انزجارها بالاصوات.

(7) الجشب: الطعام الغليظ.

(8) معصوبة: مشدودة.

(9) بوّأهم محلّهم: أنزلهم منزلتهم.

(10) القناة: العود كناية عن القوة.

(11) استخفّتهم: طيّشتهم.

(12) الممهد: ما يبسط فيه الفراش.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:94

اللّه به الضّغائن و أطفأ به الثّوائر «1» ألّف به إخوانا و فرّق به أقرانا اعزّ به الذّلة و أذلّ به العزّة كلامه بيان و صمته لسان».

و قال عليه السّلام في الخطبة (151) أيضا:

«... أضاءت به صلّى اللّه عليه و آله البلاد بعد الضّلالة المظلمة و الجهالة الغالبة و الجفوة الجافية و النّاس يستحلّون الحريم و يستذلّون الحكيم يحيون على فترة «2» و يموتون على كفرة».

و قال في الخطبة (198): «... ثمّ إنّ اللّه سبحانه

بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحقّ حين دنا من الدّنيا الانقطاع و أقبل من الآخرة الاطّلاع «3» و اظلمت بهجتها بعد إشراق و قامت بأهلها على ساق و خشن منها مهاد «4» و أزف «5» منها قياد في انقطاع من مدّتها و اقتراب من أشراطها «6» و تصرّم «7» من أهلها و انفصام «8» من حلقتها و انتشار «9» من سببها و عفاء «10» من أعلامها و تكشّف من عوراتها و قصر من طولها».

و قال عليه السّلام في الخطبة (213): «ارسله بالضّياء و قدّمه في الاصطفاء فرتق «11» به المفاتق «12» و ساور «13» به المغالب و ذلّل به الصّعوبة و سهّل به الحزونة «14» حتّى سرّح الضّلال عن يمين و شمال».

و قال في الخطبة (191): «و اشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله ابتعيه و النّاس يضربون في غمرة «15» و يموجون في حيرة قد قادتهم أزمّة الحين «16» و استغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين» «17».

______________________________

(1) الثائرة: العداوة.

(2) على فترة: على خلوّ من الشرائع.

(3) الاطّلاع: الإتيان.

(4) خشونة المهاد: كناية عن شدّة آلام الدنيا.

(5) ازف: قرب.

(6) الشرط: العلامة.

(7) التصرّم: التقطّع.

(8) الانفصام: الانقطاع.

(9) انتشار الأسباب: تبدّدها حتى لا تضبط.

(10) عفاء الأعلام: اندراسها.

(11) رتق: سدّ به الفتق.

(12) المفاتق: مواضع الفتق.

(13) ساور: ثاوب.

(14) الحزونة: غلظ في الارض.-

(15) الغمرة: الماء الكثير.

(16) الحين: الهلاك.

(17) الرين: التغطيه.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:95

فاطمة الزهراء تصف الوضع الجاهلي:

و قد وصفت السيّدة فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العهد الجاهلي بمثل ذلك اذ قالت في خطبتها أمام أبي بكر و المسلمين «1»:

«فبلّغ (اي رسول اللّه) بالرّسالة صادعا بالنّذارة «2» مائلا على مدرجة المشركين ضاربا ثبجهم «3» آخذا بأكظامهم داعيا إلى سبيل

ربّه بالحكمة و الموعظة الحسنة يكسر الأصنام و ينكث الهام «4» حتى انهزم الجمع و ولّوا الدّبر حتى تفرّى الليل عن صبحه و اسفر الحق عن محظه «5» و نطق زعيم الدين و خرست شقاشق «6» الشّياطين و أطاح وشيظ «7» النّفاق و انحلّت عقد الكفر و الشّقاق و فهتم بكلمة الاخلاص في نفر من البيض الخماص و كنتم على شفا حفرة من النّار مذقة «8» الشّارب و نهزة «9» الطامع و قبسة العجلان «10» و موطئ الأقدام تشربون الطرق «11» و تقتاتون القدّ «12» و الورق أذلّة خاسئين تخافون ان يتخطّفكم النّاس من حولكم فأنقذكم اللّه تعالى بمحمّد بعد اللّتيّا و الّتي بعد أن مني ببهم «13» الرجال و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب «14» كلّما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اللّه، أو نجم «15» قرن الشّيطان أو فغرت «16» فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها «17» فلا ينكفى ء «18» حتّى يطأ صماخها بأخمصه».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد و بلاغات النساء و غيرهما.

(2) النذار: الأنذار.

(3) الثبج: الكاهل.

(4) الهامة: الرأس.

(5) المحض: الخالص.

(6) الشقشقة: شي ء يشبه الرئة يخرج من فم البعير إذا هاج.

(7) الوشيظ: الأتباع و الخدم.

(8) المذقة: شربة من اللبن الممزوج بالماء.

(9) النهزة: الفرصة.

(10) قبسة العجلان: الشعلة من النار التي يأخذها الرجل العاجل.

(11) الطرق: الماء الذي خوضته الابل و بوّلت فيه.

(12) القد: قطعة جلد غير مدبوغ.

(13) البهمة: الشجاع الذي لا يهتدي من أن يؤتى.

(14) المارد: العاتي.

(15) نجم: طلع.

(16) فغرت: فتحت.

(17) اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم.

(18) ينكفئ: يرجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:96

جعفر بن ابي طالب يصف العهد الجاهلي:

و يشهد بذلك أيضا ما قاله جعفر بن أبي طالب عند النجاشي ملك الحبشة عند ما أراد مبعوثا قريش استعادتهما

إلى مكة:

أيّها الملك، كنّا قوما أهل جاهليّة، نعبد الاصنام، و نأكل الميتة، و نأتي الفواحش، و نقطع الأرحام، و نسي ء الجوار و يأكل القوي منّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتى بعث اللّه إلينا رسولا منّا نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه، فدعانا الى اللّه لنوحّده و نعبده، و نخلع ما كنّا نعبد نحن و آباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان و أمرنا بصدق الحديث و أداء الأمانة، و صلة الرحم، و حسن الجوار، و الكفّ عن المحارم و الدّماء، و نهانا عن الفواحش و قول الزور، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات، و أمرنا أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئا، و أمرنا بالصّلاة و الزّكاة و الصيام قالت: فعدّد عليه امور الاسلام حتى قال:

و صدّقناه، و آمنّا به و اتّبعناه على ما جاء به من اللّه فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئا و حرّمنا ما حرّم علينا و أحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذّبونا و فتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللّه تعالى، و أن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 335 و 336. و الحديث عن أمّ سلمة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:97

(1)

3 إمبراطوريّتا الروم و إيران إبّان عهد الرّسالة

اشارة

للوقوف على أهمية النهضة الإسلامية المباركة التي تحققت على يدي النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ارساله من جانب اللّه تعالى و قيمتها، تكتسب دراسة بيئتين اجتماعيّتين اهمية قصوى، و تانك البيئتان هما:

1- بيئة نزول القرآن الكريم، أي البيئة التي ظهر فيها الإسلام، و ترعرع و نمى.

2- البيئة العالمية (خارج الجزيرة العربية)، و يعرف ذلك بدراسة عقائد الناس و أفكارهم في اكثر

مناطق العالم- يومذاك- مدنية و حضاره، و مطالعة آدابهم و أخلاقهم و تقاليدهم، و أعرافهم، و مدنيّاتهم التي كانت تعتبر أفضل لأفكار و المدنيّات، و أرقى الحضارات، و الأوضاع آنذاك.

و لقد كانت بيئتا: الامبراطورية الرومانية، و الإمبراطورية الإيرانية ألمع نقطة في ذلك اليوم- كما يدلنا التاريخ على ذلك. و لا بدّ استكمالا لهذا البحث من دراسة الأوضاع في هاتين الإمبراطوريتين، في مناطقها، و من نواحيها المختلفة، لنقف من هذا الطريق على قيمة الحضارة التي اتى بها الإسلام، و نعرف ذلك بوجه أفضل.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:98

أوضاع الروم ابان عهد الرسالة:
اشارة

(1) ان أوضاع الروم لم تكن بأقل سوء من أوضاع منافستها «ايران» فالحروب الداخلية من جانب و المعارك الخارجية المستمرة مع «ايران» و صراعها الدائم المستمر مع الاخيرة على منطقة «ارمينية» و غيرها كل ذلك كان يهي ء الناس في تلك البلاد للقبول بثورة جديدة يضع حدا لمآسيهم و محنهم.

و لقد كان للاختلافات و المنازعات الطائفية و المذهبية نصيب الاكبر و الأوفر في توسيع رقعة هذه الاختلافات، و المنازعات.

فالحرب لم تتوقف أبدا بين الوثنيين و المسيحيين و لم تنطفئ شرارتها يوما أبدا.

فكان إذا غلب رجال الكنيسة على دست الحكم و أخذوا بمقاليده ما رسوا أشدّ أنواع الضغط و الاضطهاد بحقّ خصومهم و منافسيهم الأمر الذي كان يساعد على إيجاد أقلية ناقمة من جهة، كما و يمكن اعتبار ذلك عاملا مساعدا من جهة اخرى على تهنئة الشعب الروماني لاحتضان الدعوة الإسلامية، و تقبلها.

لقد كان حرمان طوائف كثيره و مختلفة ناشئا من ممارسات رجال الكنيسة الخشنة و مواقفهم المتزمتة.

هذا مضافا إلى أن اختلاف القساوسة و الرهبان النصارى فيما بينهم من جهة، و تعدّد المذاهب من جهة اخرى كان يعمل على التقليل من هيبة الامبراطورية

الرومانية و جرّها إلى الضعف و الوهن المتزائد يوما بعد يوم.

(2) هذا بغضّ النظر عن أن البيض و الصفر من سكّان الشمال و المشرق كانوا يفكّرون في السيطرة على المناطق الغنية من اوربة، و ربما ألحق أحدهما بالآخر خسائر فادحة و باهضة في الصراعات و المصادمات التي كانت تقع بينهما. و كان هذا هو نفسه السبب في أن تنقسم الامبراطورية الرومية الى معسكرين: المعسكر (او القسم الشرقي) و المعسكر (او القسم الغربي).

و يعتقد المؤرخون أن أوضاع الروم السياسية، و الاجتماعية و الاقتصادية في القرن السادس كانت مضطربة، و متدهورة جدا، حتى أنهم لا يرون في غلبة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:99

الروم و تفوّقها على إيران شاهدا على قدرتها العسكرية، و تفوّقها النظامي، بل يرون أن هزيمة إيران كانت بسبب الفوضى التي كان سائدة آنذاك في جهاز الحكم الايراني.

إن هاتين الدولتين اللتين كانتا تتربّعان على عرش السيادة و السياسة العالمية في مطلع ظهور الإسلام كانتا تعيشان حالة سيئة من الفوضى، و الهرج و المرج، و من البديهيّ أنّ مثل هذه الأوضاع كان من شأنها أن توجد حالة من التهيّؤ الكبير و الظمأ الشديد إلى دين صحيح يضع حدّا و نهاية لتلك الحالة، و يعيد تنظيم حياتهم.

(1)

ظاهرة الجدل العقيم في المجتمع الرومي:

المتعارف أن يعمد جماعة من البطّالين و الفسقة إلى طرح سلسلة من القضايا و المسائل الخاوية و النقاش حولها بهدف التوصّل إلى أغراض فاسدة، فيستهلكون بذلك أوقات الناس، و يهدرون أعمارهم على منحر الجدل العقيم.

و هي حالة لها مصاديق كثيرة و شواهد عديدة في كثير من بلاد المشرق، و لسنا بصدد التوسّع فيه فعلا.

و قد كانت «الروم» تعاني يومئذ من مثل هذه الحالة اكثر من اي مكان آخر. سيد المرسلين ج 1 99 ظاهرة

الجدل العقيم في المجتمع الرومي: ..... ص : 99

د كان ملوك الروم و رجال الحكم و السياسة تبعا لمذاهب دينية كنسيّة- يعتقدون بأن المسيح ذو طبيعتين و مشيئتين، و لكن طائفة اخرى من النصارى و هم «اليعقوبية» كانوا يقولون بانه: ذو طبيعة و مشيئة واحدة.

و قد وجهت هذه المسألة الباطلة نفسها، و الجدل الواهي حولها ضربة شديدة الى وحدة الروم و من ثم استقلالها، و احدثت في صفوفها انشقاقا عميقا حيث كانت السلطات الحاكمة تضطر الى الدفاع عن معتقداتها، و لذلك كانت تضطهد معارضيها، و تلاحقهم و هذا الاضطهاد و الضغط الروحيّ سبّب في لجوء البعض الى الدولة الايرانية، كما كان هؤلاء هم الذين تركوا المقاومة عند

سيد المرسلين ،ج 1،ص:100

مواجهة الجيش الإسلامي، و القوا السلاح، و استقبلوا جنود الإسلام بالاحضان.

(1) كانت الروم تمرّ آنذاك بظروف اشبه ما تكون بظروف القرون الاوربية الوسطى التي ينقل عنها «فلاماريون» الفلكيّ الشهير القضايا التالية التي تدل على المستوى الفكريّ و الثقافيّ لاوربة في القرون الوسطى:

لقد كان كتاب «المجموعة اللاهوتية» المظهر الكامل للفلسفة المدرسية في القرون الوسطى، و قد بقي هذا الكتاب يدرّس في أوربة خلال أربعمائة سنة ككتاب رسمي و معترف به.

و قد كان من الأبحاث المطروحة في هذا الكتاب البحث حول عدد الملائكة التي يمكنها ان تستقر على رأس إبرة؟! أو عدد الفراسخ بين العين اليسرى و العين اليمنى للاب الخالد؟! الى غير ذلك من القضايا التافهة!!

(2) إن الامبراطورية الرومية السيئة الحظ فيما كانت تعاني من الحروب الخارجية الكثيرة، كانت تعاني كذلك من النزاعات و الاختلافات الداخلية- التي كانت- على الاغلب- تتصف بالصبغة المذهبية و الطائفية- و كانت تدفع بالبلاد إلى حافة الهاوية، و تزيدها قربا إليها يوما بعد

يوم.

و لما رأى اليهود (و هي الزمرة الشريرة المتآمرة على الشعوب دائما) تصاعد الاضطهاد و الضغط الذي يمارسه الامبراطور المسيحي الرومي خطّطت لاسقاط ذلك النظام، فاحتلت مدينة انطاكية ذات مرة، و مثلت بأسقف أنطاكية الاكبر فصلموا اذنه، و جدعوا أنفه، فانتقمت حكومة الروم لهذه الجناية بعد مدة، و قتلت اليهود في انطاكية في مذبحة عامة.

و قد تكرّرت هذه الجرائم الفضيعة و هذه المذابح، و المذابح الانتقامية المضادة بين اليهود و النصارى عدة مرات، و ربما سرت موجة الروح الانتقامية أحيانا الى خارج البلاد، فمثلا اشترى اليهود من ايران ذات مرة ثمانين الف مسيحي ثم حزوا رءوسهم انتقاما و تشفيا.

(3) من هذا يستطيع القارئ الكريم أن يقف على الصورة القاتمة للوضع السيئ و المتردّي الذي كان عليه العالم إبان بزوغ شمس الإسلام، و يذعن- مع

سيد المرسلين ،ج 1،ص:101

المذعنين- بأن التعاليم الإسلامية الرفيعة التي انقذت العالم من ذلك الوضع المأساوي لم تكن أبدا وليدة الفكر البشريّ و ان نسيم الوحدة، الناعشة، و نغمة السلام التي يهدف إليه الإسلام و يسعى إلى تحقيقه و اقراره في الحياة البشرية ليس لها من مصدر إلا الغيب، اذ كيف يمكن القول بأن الإسلام الذي يعترف حتى للحيوانات بحق العيش و الحياة نابع من تلك البيئة المغرقة في القسوة و الوحشية، و ناشئ من ذلك المحيط المفحم بروح الانتقام و التشفي.

لقد أبطل الإسلام جميع تلك المجادلات العقيمة و المناقشات التافهة حول مشيئة عيسى و شخصيته، و قال في نعته و وصفه:

«مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» «1».

إن هذه الآية انهت الكثير من أبحاث رجال الكنيسة الباطلة الخاوية حول «الروح» و «المسيح» و

دمه، و شخصيته، و حقيقته، كما ان الإسلام بفضل التعاليم الرفيعة، و احياء السجايا و الملكات الفاضلة انقذ البشرية من المنازعات، الفارغة، و المذابح الفضيعة.

(1)

أوضاع إيران إبان عهد الرسالة:
اشارة

إن ما دفعنا إلى دراسة أوضاع الإمبراطورية الرومية هو نفسه يحتم علينا أيضا دراسة اوضاع إيران يومذاك.

لقد صادف ظهور الإسلام و بعثة الرسول الكريم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (611 ميلادية) عهد السلطان الإيراني خسرو برويز (590- 628 م)، و في عهد «خسرو برويز» هذا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مكة الى المدينة (الجمعة 16 جولاي 622)، و صارت هذه الواقعة مبدأ للتاريخ الإسلامي.

في هذه الأيام كانت الدولتان العظيمتان (الروم الشرقية و ايران

______________________________

(1) المائدة: 75.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:102

الساسانية) تسيطران على معظم مناطق العالم المتحضر، و لم تزل هاتان الدولتان في نزاع مستمر و صراع دائم على مناطق النفوذ حتى بعد ظهور الإسلام.

(1) فقد بدأت حروب ايران و الروم الطويلة من عهد السلطان الايراني أنوشيروان (531- 589 م) و استمرّت الى عهد الملك «خسرو برويز» و استغرقت اربعا و عشرين عاما من الزمان «1».

و قد سبب تحمل «ايران» و «الروم» للخسائر الكبرى، في الارواح و الثروات خلال هذه المعارك الطويلة في إضعاف تينك الدولتين، و تعطيل و شلّ قواهما بحيث لم يبق منهما إلّا شبح دولتين لا اكثر.

و لكي نقف على الوضع العام في ايران آنذاك من جهاته المختلفة، و ابعاده المتنوعة و بصورة أفضل، يجب ان نلقي نظرة فاحصة على وضع الحكومات التي توالت على سدة القيادة الايرانية بعد حكم «انوشيروان» و حتى بداية دخول المسلمين في ايران.

(2)

البذخ و الترف في البلاط الساساني:

كانت حياة الملوك الساسانيين تتسم عموما بالبذخ و الترف، و التشريفات الطويلة العريضة، و كان البلاط الساساني الفخم جدا يخلب ببريقه، بريق العيون، و يسحر الافئدة و العقول.

و كان للايرانيين في عهد الساسانيين لواء يعرف ب: «درفش كاوياني» اي العلم الكاوياني

نسبة إلى كاوه و هو بطل قومي إيراني اسطوري، و قد كانوا يحملونه معهم في الحروب، او ينصبونه فوق قصورهم اثناء احتفالات الساسانيين الكبرى، و قد كان هذا اللواء موشحا و مزينا بأغلى أنواع المجوهرات بلغت قيمتها التقديرية- حسب قول بعض الكتاب: «000/ 200/ 1» درهما (او ما يعادل

______________________________

(1) تاريخ علوم و ادبيات در ايران ص 3 و 4 و ايران در زمان ساسانيان ص 267 (باللغة الفارسية).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:103

000/ 30 پوند).

(1) و قد بلغت مجموعة المجوهرات و الاشياء الثمينة و التصاوير و الرسوم المحيرة للعقول التي كانت تكتضّ بها قصور الساسانيين من حيث الاهمية و القيامة حدا سحرت العيون و خلبت الالباب.

و لو أننا أردنا أن نقف على عجائب ما في تلك القصور، و ما كانت تحتوي عليه من غرائب الاشياء لكفانا أن نلقي نظرة واحدة إلى السجّادة البيضاء و الكبيرة التي كانت مفروشة في احدى صالات بعض تلك القصور، و هي السجّادة التي كانت تدعى بالفارسية ب «بهارستان كسرى» و هو بساط كانوا يعدّونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكانوا إذا أرادوا الشرب و تعاطي الخمر فرشوه، و شربوا عليه فكأنهم في رياض و كان هذا البساط ستينا في ستين أرضه بذهب و وشيه بفصوص، و ثمره بجوهر و ورقه بحرير» «1»!!

و قيل أيضا أن هذا البساط كان مائة و خمسين ذراعا في سبعين ذراع و كان منسوجا من خيوط الذهب و المجوهرات الغالية جدا!!

و قد كان «خسرو برويز» أكثر الملوك الساسانيين ميلا إلى الترف، و البذخ، و اتخاذ الزينة، و قد بلغت عدد نسائه و جواريه عدة آلاف.

(2) يقول حمزة الاصفهاني في كتاب «سنيّ ملوك الارض» واصفا حالة الترف و البذخ التي كان

يعيشها كسرى برويز: ثلاثة آلاف امرأة، و اثنا عشر.

و جاء في تاريخ الطبري: أن «كسرى «2» برويز» كان قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحد من الملوك، و كان أرغب الناس في الجواهر و الأواني «3».

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 130.

و جاء في تاريخ الطبري: كانت هذه السجّادة ستين ذراعا في ستين ذرعا، بساطا واحدا مقدار جريب فيه طرق كالصور، و فصوص كالأنهار و خلال ذلك كالدّير و في حافاته كالأرض المزروعة و الأرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب، و نواره بالذهب و الفضّة!!

(2) سنيّ ملوك الأرض و الأنبياء: ص 420.

(3) تاريخ الطبري: ج 1 ص 616.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:104

(1)

الوضع الاجتماعي في ايران:

لم يكن الوضع الاجتماعي في عهد الساسانيين بأفضل من الوضع السياسي آنذاك أبدا، فقد بلغ الاختلاف الطبقي الذي كان سائدا في ايران منذ زمن بعيد اشدّه و اقوى درجاته، و أسوأ حالاته في العهد الاختلاف الساساني.

فطبقة النبلاء و الكهنة كانت تتميز على بقية الطبقات تميزا كاملا، فهم يختصون بجميع المناصب الاجتماعية الحساسة و العليا، بينما حرم الكسبة و المزارعون و بقية أبناء الشعب من كافة الحقوق الاجتماعية، و لم يكن لهم من واجب و دور في النظام إلا دفع الضرائب الثقيلة و المشاركة في الحروب.

(2) يكتب أحد الكتّاب الإيرانيين و هو الاستاذ سعيد نفيسى في هذا الصعيد قائلا:

ان ما كان يثير روح النفاق بين الايرانيين اكثر هو سياسة التمايز الطبقي القاسي جدا الذي كان الساسانيون يتبعونها في التعامل مع الشعب، و كان لها جذور في العهود و الحضارات السابقة، و لكنها بلغت ذروتها في العهد الساساني بالذات!!

ففي الدرجة الاولى كان للعائلات السبع من النبلاء، ثم للطبقات الخمس امتيازات خاصة حرمت

منها عامة أبناء الشعب.

فالملكية كانت محصورة- تقريبا في تلك العائلات السبع مع العلم أن الشعب في العهد الساساني، كان يقارب عدد نفوسه مائة و أربعين مليونا في حين لا يبلغ عدد كل واحد من تلك العائلات الممتازة و المتميّزة في شئونها مائة ألف شخص، فيكون مجموعها سبع مائة ألف «1».

و إذا افترضنا أنّ حراس الحدود و أمراءهم و الملاك الذين كانوا يتمتعون هم الآخرون بشي ء من حق الملكية كان يبلغ عددهم أيضا سبع مائة ألف أيضا فيكون حق التملك و المالكية حينئذ خاصا بمليون و نصف من مجموع مائة

______________________________

(1) تاريخ اجتماعي ايران: ج 2 ص 6- 24 (باللغة الفارسية).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:105

و اربعين مليونا، فقد كانت تلك الزمرة القليلة هي التي تملك، و أما الآخرون و هم الاكثرية الساحقة فقد كانوا محرومين من هذا الحق الطبيعي الموهوب لهم من جانب اللّه أساسا و أصلا.

(1) لقد كان الكسبة و الفلاحون الذين كانوا محرومين من جميع الحقوق، و الامتيازات و لكنّهم كانوا يتحمّلون نفقات حياة البذخ و الرفاهية التي كان يرفل فيها النبلاء و الأشراف و الطبقات العليا، لا يأملون خيرا وراء استمرار هذه الاوضاع، و دوامها، و لهذا كثيرا ما كان المزارعون و الفلاحون و الطبقات الدنيا من الشعب يغادرون أعمالهم، و مزارعهم و يلجئون إلى الأديرة فرارا من الضرائب الباهضة و الاتاوات القاصمة للظهور، المبددة للثروات «1».

يقول مؤلف كتاب «ايران في عهد الملوك الساسانيين» «2».

إن حروب إيران- الروم الطويلة بدأت من عهد حكومة الملك الإيراني انوشيروان (531- 589 م).

و خلاصة القول أنه كان في الامبراطورية الساسانية يملك أقلية صغيرة تقلّ نسبتها عن 5/ 1% (واحد و نصف بالمائة) من مجموع الشعب كل شي ء بينما كان اكثر

من (89%) من الشعب الإيراني محرومين من حق الحياة تماما كالعبيد.

(2)

حقّ التعلّم خاص بالطبقات الممتازة!!:

في العهد الساساني كان ابناء الاغنياء و البيوتات الرفيعة هم وحدهم الذين يتمتعون بحق التعلم، بينما كان عامة جماهير الشعب، و الطبقات الوسطى و الدنيا محرومين من تحصيل العلوم و اكتسابها.

و قد كانت هذه المنقصة بادية و واضحة في عصور ايران التاريخية جدا بحيث ذكرها الشعراء الكبار في ملاحمهم و دواوينهم الملكية المعروفة بالرغم من ان

______________________________

(1) ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 70 و 71.

(2) إيران في عهد الساسانيين: ص 424.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:106

الهدف من تلك الملاحم و الدواوين كان هو الحماسة، و التفاخر بالبطولات و تحبيش العواطف، بعد مدح الملوك و الأمراء.

(1) فها هو «الفردوسي» «1» الشاعر الملحمي الفارسي المعروف، بل اشهر شعراء ايران قد ذكر في شاهنامته (و هي الملحمة الشعرية التي يذكر فيها أمجاد ملوك الفرس في قرابة ستين ألف بيت) قصة في هذا الصدد تعتبر أفضل شاهد على ما قلناه.

و قد وقعت هذه القصة في زمن «أنوشيروان»، أي في الوقت الذي كانت الامبراطورية الساسانية تمرّ فيه بعهدها الذهبي.

و هذه القصة تشهد بأن اكثرية الشعب في عهد هذا الملك أيضا كانت محرومة من حق التعلم، و ممنوعة عن اكتساب الثقافة.

(2) يقول الفردوسي: لقد أبدى حذّاء استعداده لتحمّل نفقات الجيش الإيراني- في حربه مع الروم- بدفع ما يحتاجون إليه من ذهب و فضة.

و مع أن السلطة في عهد «انوشيروان» كانت بحاجة ماسة إلى مساعدات مالية كبيرة إذ كان يتعين عليها أن تجهّر ما يقرب من ثلاثمائة الف مقاتل قد اصيبوا بالمجاعة و قلة العتاد، بحيث أدى ذلك إلى وقوع بعض الاعتراضات، و الى ظهور الفوضى في الجنود، ممّا أدى بدوره إلى قلق الملك

الإيراني «أنوشيروان».

و التخوف من مضاعفات هذه الحالة، و آثاره السيئة في قتاله للروم، و لذلك بادر إلى استدعاء وزيره المحنك «بزرجمهر» للتشاور معه في المخلص من ذلك الوضع المحرج، ثم امره بالتوجه إلى منطقة «مازندران» و جمع الاموال اللازمة من سكانها.

(3) و لكن «بزرجمهر» حذّر الملك من مغيّة هذا العمل، و أضاف بأن هذا من شأنه أن يضاعف من الخطر ثم اقترح جمع الاموال اللازمة عن طريق القروض الشعبية فاستحسن «انوشيروان» اقتراحه و أمره باتخاذ الترتيبات اللازمة على

______________________________

(1) راجع للتعرف السريع على شخصية هذا الشاعر: الموسوعة العربية الميسرة: ص 1286.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:107

التوفيرسل الوزير مندوبين له الى المدن الإيرانية ليكلم التجار و اصحاب الثروة في الأمر.

(1) فيبدى الحذّاء المذكور استعداده لتحمل كل نفقات الجيش لوحده الّا انه اشترط ذلك بان يسمحوا لولده الوحيد الراغب في تحصيل العلم جدا ان يتعلم.

فاستحقر الوزير شرطه و وعده بالانجاز، و السماح لولده بالتعلم و تحصيل العلم، ثم عرض الأمر على الملك انوشيروان و هو يأمل في ان يتجاوب الملك مع رغبة الحذّاء و طلبه الصغير اذا ما قيس بما سيعطيه من اموال طائلة في تلك الاوضاع الحرجة.

و لكن الملك استشاط غضبا لهذا الطلب، و نهر الوزير قائلا: دع هذا، ما أسوأ ما تطلبه، ان هذا لا يمكن ان يكون، لان ابن الحذّاء بخروجه من وضعه الطبقي يهدم التقليد الطبقيّ المتبع، فينفرط بذلك عقد الدولة، و يكون ضرر هذا المال علينا اكثر من نفعه، و شره اكثر من خيره.

(2) ثم إنّ الفردوسي يعمد إلى شرح المنطق الميكافيلي حكاية عن لسان انوشيروان اذ يقول ناظما ذلك في ابيات «1»:

و إذا اصبح ابن الحذّاء عالما كاتبا عارفا فعند ما يجلس ولدنا على مسند

الحكم و السلطنة و احتاج الى كاتب، فانه سيضطر إلى الاستعانة بابن ذلك الحذّاء- الكاتب- (و هو من عامة الشعب و من ابناء الطبقة الدنيا و في حين جرت عادتنا الى الآن على أن نستعين بابناء الاشراف و النبلاء لا أبناء الطبقة الدنيا)!!!

و إذا حصل ابن الحذّاء و بائع الاحذية على العلم و المعرفة أعاره العلم و المعرفة حينئذ عيونا بصيرة، و آذانا سميعة فيرى حينئذ ما يجب أن لا يراه،

______________________________

(1) و إليك هذه الأبيات باللغة الفارسية:

چو بازارگان بچه گردد دبيرهنرمند و با دانش و ياد گير

چو فرزند ما برنشند به تخت دبيرى ببايدش پيروز بخت

هنر بايد از مرد موزه فروش سپارد بدو چشم بينا و گوش

بدست خردمند مرد نژادنماند جز از حسرت و سرد باد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:108

و يسمع ما يجب أن لا يسمعه، و حينئذ لا يبقى لأبناء الملوك إلا الحسرة و التأسف «1».

(1) و هكذا يعيد الملك دراهم الحذّاء المسكين إليه رافضا طلبه و يعود الحذاء خائبا و هو يتوسل بما يتوسل به المستضعفون و المحرومون المظلومون و هو الدعاء و الضراعة الى اللّه في الليل و في هذا قال الفردوسي: عاد مبعوث الملك بدراهم الحذاء إليه فاصيب الحذاء لذلك بغمّ شديد ثم لما جن الليل تضرع الحذاء الى اللّه و شكا إليه الملك طالبا عدالته «2».

و العجيب هو أن يصف البعض هذا السلطان بالعادل و هو الذي لم يعالج أسوأ مشكلة في المجتمع الإيراني أيام حكمه و سلطانه و هي المشكلة الثقافية، بل تسبب في أن يصاب الشعب الإيراني بالمزيد من المشاكل الاجتماعية و غيرها.

فقد وأد و دفن في القبور احياء ما يقرب من ثمانين الف انسان (أو مائة الف كما قيل) في

حادثة واحدة، و هي فتنة مزدك، حتى أنه ظنّ انه قد قضى على جذور تلك الفتنة و هو لا يعلم أنها لم تستأصل لأن مثل هذه الأساليب القمعية انما تقضي فقط على المسبّب دون السبب، و تكافح المجرم لا الجرم.

(2) لقد كان السبب الحقيقي وراء تلك الفتنة هو الظلم الاجتماعي، و الاختلاف الطبقيّ، و احتكار الثروة، و المنصب على أيدي طبقة خاصّة و حرمان الاكثرية الساحقة من الشعب و غير ذلك من المفاسد و كان عليه لو أراد الاصلاح أن يعالج هذه الامور ليأتي على المشكلة من أساسها، و لكنه بدل ذلك كان يريد- بالقهر و القمع و في ظلّ الحراب و السياط- أن يظهر الناس انفسهم بمظهر الراضي و عن السلطة، الموافق على تصرفاتها، و أحوالها و أوضاعها السيئة!!!

و من هنا نعرف بطلان الحديث المرويّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) راجع شاهنامه (باللغة الفارسية) و تاريخ اجتماعي ايران: ص 618.

(2)

فرستاده برگشت و شد با درم دل كفشگر زان درم پر ز غم

شب آمد، غمى شد ز گفتار شاه خروش جرس خواست از بارگاه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:109

الذي قال فيه: «ولدت في زمن الملك العادل» و يقصد به انوشيروان «1».

(1)

صفحة سوداء من جرائم خسرو برويز:

و من جرائم الملك خسرو برويز و مظالمه المنكرة ما فعله بوزيره الشهير «بزرجمهر» الذي خدم البلاط الشاهنشاهي الايرانيّ ثلاثة عشر عاما و كان ذلك موجبا لشهرته في البلاد و حسن صيته بين الناس.

فقد عمد هذا الملك الى سجن الوزير المذكور، و النكاية به، و قد كتب الى الوزير المسجون رسالة يقول فيها: إنّ حظّك من العلم و المعرفة أنه عرضك للقتل!!

فاجابه «بزرجمهر» بقوله: «فقد انتفعت بعلمي ما دام قد حالفنى الحظ، و حيث

عاكسني الآن، فانّني أصبر و أنتفع بصبري، فإذا فاتني فعل خير كثير فانني سعيد لأنّني لم أرتكب كذلك شرّا كثيرا و اذا ما سلبني منصب الوزارة فاني في الوقت نفسه قد استرحت كذلك من غم الحيف بالناس، فلا ابالي بما أنا فيه».

(2) و لما بلغت هذه الرسالة الى الملك «برويز» استشاط غضبا، و أمر بقطع شفتي الوزير، و جدع أنفه، و عند ما عرف الوزير بهذا الأمر الظالم قال: أجل أن شفتي تستحقان اكثر من هذا.

فسأله خسرو برويز: و لما ذا؟ فقال: لأنهما وصفتاك عند العامة و الخاصة بما لا تستحق من الأوصاف، و اعطتاك ما ليس فيك من الخصال، فامالتا إليك القلوب، و رغّبتا فيك النفوس، و الافئدة، و اشاعتا عنك أمجادا لم تستحقها، يا أسوأ الملوك و أظلم الحكام، تقتلني الآن بسوء الظن بعد أن كنت على يقين من وفائي، و صدقي، و اخلاصي، و سلامتي، فمن بعد هذا يأمل في عدلك، و من بعد هذا يثق بقولك؟!

______________________________

(1) راجع في هذا المجال: تذكرة الموضوعات لابن الجوزي، اللئالي المصوغة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي، و كذا مجمع الزوائد للهيثمي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:110

(1) فازداد «خسرو برويز» لسماع هذه الكلمات الساخنة غضبا على غضب، و أمر من فوره بقتل الوزير، فضرب عنقه في التوّ «1».

و تلك هي معاملة ذلك الملك الموصوف زورا بالعادل مع اقرب مقربيه، و اكثر معاونيه إخلاصا، و وفاء له فكيف كانت ترى معاملته مع سائر أفراد الرعية و بقية أفراد الشعب؟؟

(2)

حكم التاريخ في الملوك الساسانيين:

لقد اتخذ الحكام الساسانيّون في عهودهم و حكوماتهم سياسة خشنة قاسية، و قد أخضعوا الناس بسلطانهم بالسيف و العنف.

كانوا يفرضون على الناس ضرائب ثقيلة و أتاوات باهضة قاصمة للظهور، و لهذا السبب كان

عامة الشعب الايراني غير راضين على حكمهم و سيرتهم، و لكنهم خوفا على نفوسهم، ما كانوا يتمكنون من الاعلان عن استيائهم هذا بل لم يكن لأرباب الفكر و الرأي، و العارفين بالامور شأن و لا قيمة في البلاط الشاهنشاهي.

لقد بلغ الاستبداد لدى الحكام الساسانيين حدا لم يستطع معه أحد من إظهار رأيه، و لم يجرا احد على إبداء أية ملاحظة في شأن من الشؤون.

لقد بلغت القوة بخسروبرويز حدا عجيبا وصفه الثعالبي بقوله:

قيل لخسرو برويز (كسرى) دعونا فلانا الوالي فتباطأ عن الامتثال، فأمر الملك من فوره قائلا ان كان يصعب عليه مجيئه ببدنه كله، فاننا يكفينا شي ء منه، فليؤتى برأسه فحسب «2».

______________________________

(1) يذكر الفردوسي الشاعر الملحمي هذه القصة في شاهنامته المعروفة عند ذكر وقائع انوشيروان اثناء حربه مع الروم (ج 6، ص 257- 260).

(2) ايران در عهد ساسانيان: ص 318.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:111

(1)

الفوضى في الحكومة الساسانية:

و ممّا يجب ان لا نغافل عن ذكره هو ما تعرضت له الحكومة الساسانية في اواخر عهدها من الفوضى الادارية، و تفاقم الهرج و المرج في جهازها الحكومي.

فقد دبّ الصراع و النزاع و نشب التنافس الحاد بين الأمراء، و الاعيان و قادة الجيش في ذلك العهد و ذهب كل فريق يختار أميرا من أبناء العائلة المالكة، و يقوم بتصفية الطائفة الاخرى التي اختارت أميرا آخر.

و عند ما فكّر العرب المسلمون في فتح إيران كانت العائلة الساسانية المالكة قد بلغت ذروة الضعف و الانقسام.

و ممّا يدل على ذلك تعاقب ما يقرب من (14) ملكا على مسند الحكم و السلطان خلال مدّة اربعة اعوام من مقتل الملك «خسرو برويز» و جلوس شيرويه مجلسه و حتى آخر ملك من ملوك بني ساسان.

(2) و هذا يعني أن حكومة

إيران انتقلت خلال مدة لا تتجاوز اربعة اعوام من يد الى يد اخرى (14 مرة)!! و من الواضح ما يلحق بآية دولة و مملكة تتعرض ل (14) انقلاب يقتل فيه ملك، و يحل محله ملك آخر في مثل هذه المدة القصيرة.

فقد كان كل حاكم يتسلّم زمام الحكم و يستولي على عرش السلطان يعمد إلى قتل و اغتيال كل من كان يطمع في العرش، و لا يتورع في سبيل إرساء قواعد حكمه من ارتكاب كل ما يراه ضروريا، فكان الأب يقتل ابنه، و الابن يقتل أباه، و ربما يقتل الاخ إخوته، و الزوجة زوجها و هكذا ...

فقد قتل «شيرويه» أباه «1» للحصول على مقعد الحكم و السلطان، كما أباد اربعين شخصا من أبناء الملك «خسرو برويز» اي إخوته!! «2».

(3) و كان «شهربراز» يقتل كل من لا يثق به، و قد أدّى هذا إلى أن يقضي على كل أبناء سلالته من الأمراء الساسانيين ممّن كان قد تسنّم عرش السلطان

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 1 ص 296.

(2) تاريخ اجتماعي ايران: ج 2 ص 15- 19.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:112

و الملوكية قبله، رجلا كان ذلك أم امرأة، صغيرا كان أم كبيرا، لكيلا يبقى في الوجود من يطمع في السلطان أو يدّعيه!!

و صفوة القول: أن الفوضى السياسية بلغت في أواخر العهد الساساني حدا بحيث كانوا يجلسون فيه الأطفال و الصبيان و النساء على اريكه الحكم، ثم يثورون عليهم و يقتلونهم بعد ايام أو أشهر و يحلون محلّهم أشخاصا آخرين!!

و على هذا فإن الدولة الساسانية رغم قوتها الظاهرية كانت آخذة في الانحطاط و الانحلال و سائرة نحو التمزق و الفناء.

(1)

الفوضى الدينية في ايران الساسانيين:

لقد كان أهم عامل للفوضى التي كانت تعاني منها الاوضاع في العهد الساساني

هو الاختلاف في المعتقدات الدينية التي كانت سائدة آنذاك.

فحيث أن «اردشير بن بابك» مؤسس السلسلة الساسانية كان ابن مؤبد (و هو رجل دين زردشتي) و قيّما على بيت ناز و قد تمكن من السلطان بفضل الموابدة فانه اجتهد في الترويج لدين آبائه في ايران.

و في عهد الساسانيين كان الدين الرسمي و الشائع في أوساط الشعب الإيراني هو الدين الزرادشتي، و لما كانت السلالة الساسانية قد توصلت الى الحكم بواسطة الموابدة- كما أسلفنا- لذلك كان الموابدة و القيمون على بيوت النار (و نعني بهم رجال الدين الزرادشتي) يحظون بمكانة كبرى لدى البلاط الساساني إلى درجة أنهم أصبحوا يشكّلون في أواخر العهد الساساني أقوى طبقة، و أشد الاجنحة نفوذا في المجتمع الإيراني آنذاك.

(2) و لقد كان الحكام الساسانيّون دائما ممّن رشحهم للحكم الموابدة و رجال الدين الزردشتي المجوسي، و لذلك كان الحكام يأتمرون بأوامرهم، و لو أن أحدا منهم خالف الموابدة عارضوه أشدّ المعارضة، و سحبوا عنه تأييدهم و دعمهم، و لهذا اجتهد الملوك الساسانيون في كسب رضا الموابدة، و العناية بهم اكثر من غيرهم من الطبقات، و قد تسبّبت عناية اولئك الملوك بالموابدة و حمايتهم لهم في تزايد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:113

عددهم، يوما بعد يوم.

و قد كان الساسانيون يستغلون رجال الدين المجوس أكبر استغلال لتثبيت قواعد حكمهم، و تقوية مواقعهم في السلطان و لذلك أقاموا في مختلف مناطق القطر الإيراني العريض بيوت النار، (و هي معابد المجوس) جاعلين في كل واحد من هذه المعابد ثلة كبيرة من الموابدة كسدنة.

(1) فقد كتب المؤرخون يقولون: ان «خسرو برويز» شيّد بيتا للنار عظيما و وكل به (12 الف) هيربد (و هو منصب خاص و رتبة خاصة في نظام القيادة الدينية المجوسية)

لينشدوا فيه الاناشيد الدينية، و يؤدوا الطقوس و الشعائر المجوسية!! «1».

و على هذا الاساس كان الدين المجوس دين البلاط، و كان رجاله في خدمة الملوك.

هذا و قد اجتهد الموابدة- بكل ما في وسعهم- في إبقاء الطبقات الكادحة و المحرومة من ابناء الشعب الإيراني في حالة من الركود و الجمود و حالة عدم الاحساس بالآلام و الرضا بالأمر الواقع.

و لقد تسببت الصلاحيات الواسعة و الحريات المطلقة المخولة إلى الموابدة في ابتعاد الناس عن الدين المجوسي و النفور منه، فجماهير الشعب كانت تبحث لنفسها عن غير ما يتدين به الأشراف من عقيدة و دين.

يقول مؤلف كتاب «تاريخ اجتماعي ايران» و قد سعى الشعب الإيراني- في المال- الى ان يتخلص من ضغوط الاشراف و الموابدة و اضطهادهم، و لهذا ظهر بين الزردشتيين في قبال الدين الرسمي «المزدية الزردشتية» الذي كان دين البلاط كما عرفنا، و كان يدعى: بهدين (اى الدين الافضل) مذهبان آخران «2».

(2) اجل و بسبب ضغوط الاشراف و تشددات الموابدة في العهد الساساني ظهرت في ايران مذاهب مختلفة الواحد تلو الآخر، و قد حاول «مزدك» و من قبله «ماني» ان يوجدا بأنفسهما تحولا في الاوضاع الدينية و في العقائد و المؤسسات،

______________________________

(1) تاريخ تمدن ساساني: ج 1 ص 1 (بالفارسية).

(2) تاريخ اجتماعي ايران: ج 2 ص 20.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:114

ألّا أنهما منيا بالفشل في هذا السبيل «1».

(1) فحوالي سنة (497 ميلادية) قام «مزدك»، و ألغى المالكية الانحصارية (الخاصة)، و نسخ عادة تعدد الزوجات، و نظام الحريم و كان ذلك في مقدمة برامجه الاصلاحية، و قد لقيت أفكاره هذه تأييدا قويا من قبل الطبقات المحرومة المسحوفة التي فجرت بقيادة «مزدك» ثورة كبرى، و انقلابا هائلا في المجتمع الإيراني.

و لقد

كانت هذه الثورات و الانتفاضات الشعبية لأجل أن يتوصل الناس إلى حقوقهم المشروعة، الممتوجه لهم من قبل اللّه خالقهم و بارئهم.

و لقد قوبل مذهب «مزدك» باعتراض شديد من قبل الموابدة، و امراء الجيش، و جرّ إلى فتنة كبيرة، و الى تردي الاوضاع في ايران آنذاك.

كما ان المذهب الزردشتي قد فقد- في أواخر العهد الساساني- حقيقته بصورة كاملة، و وصل الأمر بعبادة النار و تقديسها إلى درجة أنهم كانوا يحرّمون الدقّ على حديدة محماة اكتسبت لون النار و لهيبها بمجاورتها لها.

و بكلمة واحدة؛ لقد كانت اكثر المعتقدات الزردشتية المجوسية تتألف من الخرافات و الأساطير، و قد أعطت حقائق هذا الدين- في هذا العهد- مكانها لحفنة من الشعائر الجوفاء، و الطقوس الفارغة، التي أضاف إليها الموابدة سلسلة من التشريفات الطويلة العريضة تثبيتا لمواقعهم، و دعما لمكانتهم في المجتمع الإيراني يومئذ.

(2) لقد بلغت سيطرة الخرافات و الاساطير البعيدة عن العقل و المنطق على هذه العقيدة، و رسوخها في هذا الدين حدا أقلق حتى رجال الدين الزردشتي انفسهم أيضا، و قد كان بين الموابدة أنفسهم من أدرك منذ البداية تفاهة الطقوس و الشعائر الزردشتية الجوفاء، فتخلى عنها.

______________________________

(1) المذهب المانوي هو المذهب الزردشتي الخليط بالمسيحية، فقد اخترع ماني من مسلك قومي و آخر اجنبي مذهبا جديدا ثالثا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:115

هذا من جانب

(1) و من جانب آخر كان قد انفتح على الشعب الإيراني منذ أيام الملك «أنوشيروان» فما بعد طريق التفكير، و التأمل، و التحقيق، و ممّا قد قوّى هذا الأمر ما حصل من اتصالات بين العقائد الزردشتية و المعتقدات المسيحية و غيرها من العقائد و الاديان و ما تحقق من تلاقح بينها نتيجة تسلل الثقافة اليونانية و الهندية، و غيرها إلى

الوسط الإيراني، و تسبب كل ذلك في يقظة الشعب الإيراني، و لذلك اصبح يعاني من هذه الخرافات و الاساطير التي كانت الديانة الزردشتية تعج بها اكثر من أي وقت مضى.

و على أية حال فان الفساد الذي ظهر في أوساط رجال الدين الزردشت، و تطرق الخرافات و الاساطير الواهية الكثيرة الى المعتقدات الزردشتية تسبّب في حصول مزيد من التشتت و الاختلاف و التشرذم في آراء الشعب الإيراني و عقيدته.

و مع ظهور هذا الاختلاف و على أثر انتشار المذاهب المتنوعة ظهر روح الشك و التردد لدى الطبقة المفكرة و المثقفة، و سرت منهم إلى بقية الاصناف و الفئات ممّا أدى ذلك إلى أن يفقد جماهير الشعب ثقتها و ايمانها القطعي، و اعتقادها الكامل السابق بتلك المعتقدات.

و هكذا استشرى الهرج و المرج و عمّت الفوضى و اللادينية كل مناطق ايران و المجتمع الإيراني، كما رسم «برزويه» الطبيب الشهير في العهد الساساني حيث صوّر نموذجا كاملا عن الاختلاف الاعتقادي و التشرذم الفكري، و بالتالي اضطراب الأوضاع الإيرانية في العهد الساساني، في مقدمة «كليلة و دمنة».

(2)

الحروب الإيرانية الرومية:

لقد انقذ «بزرجمهر»- الوزير الإيراني الشهير الذي كان يحتل مكان الصدارة في حكومة «انوشيروان» و كان موصوفا بالتدبير و الكفاءة العالية- ايران من الاخطار التي احدقت بها في اكثر الاحايين، و لكن علاقته بالسلطان

سيد المرسلين ،ج 1،ص:116

(انوشيروان) كانت تتأثر احيانا بسعاية الساعين و وشاية الوشاة الذين كانوا يوغرون صدر الملك ضدّه فيستصدرون منه قرارا بحبسه و سجنه.

(1) و قد أوغر هؤلاء السعاة و الواشون أنفسهم صدر «انوشيروان» ضد امبراطور الروم، و ألّبوه عليه، و شجّعوه على توسيع رقعة نفوذه، و توسيع حدود بلاده و اضعاف سيطرة منافسه الخطير، متجاهلا وثيقة «الصلح الخالد» التي عقدها مع

الروم و اتفق فيها الجانبان على عدم التعرض بعضهم لبعض.

و أدى هذا التحريض بأنوشيروان إلى مهاجمة الروم، و اشتعلت على اثرها نيران الحرب، و استطاع جنود. ايران ان يفتحوا سورية (و قد كانت مستعمرة رومية) في مدة قصيرة تقريبا، و حرق انطاكية و نهب آسيا الصغرى.

و بعد عشرين عاما من القتال و سفك الدّماء، و الكرّ و الفر بين الروم و ايران و بعد أن فقد الجانبان قدراتهم و طاقاتهم في تلك المعارك الطاحنة، و بعد الخسائر العظيمة التي تحمّلهما الطرفان اضطرّا الى عقد وثيقة الصلح مرة ثانية، و حدّدوا حدود بلادهما، و مناطق نفوذهما كما كانت عليه في السابق شريطة أن تدفع دولة الروم كل عام ما يعادل (عشرين الف) دينار الى دولة ايران.

(2) و من الواضح الذي لا يخفى و لا يحتاج الى البيان أن حروبا طويلة الآمد تدور رحاها بعيدا عن مركز الدولة من شأنها ان تأتي بالنتائج السيئة و التبعات الثقيلة على اقتصاد الشعب المحارب، و صناعته و توجه إلى هذه الجوانب ضربات قوية، لا تزول آثارها إلّا بعد زمان طويل خاصة مع ملاحظة الوسائل و الأدوات في تلك العصور.

و مهما يكن فان هذه الحروب، و هذه الحملات المكلفة هيأت المقدمات الموجبة لسقوط الحكومة الإيرانية الحتمي.

فان آثار هذه المعارك لم تزل بعد إلّا و قد نشبت حرب اخرى دامت سبعة اعوام فان «تي باريوس» امبراطور الروم بعد ان تسنم عرش السلطان هدد بحملاته الكبيرة استقلال الدولة الإيرانية بدافع الانتقام.

و في الأثناء- و قبل ان يتضح موقف الطرفين و موقعهما في تلك المعارك من

سيد المرسلين ،ج 1،ص:117

الهزيمة أو الانتصار- مات «انوشيروان» و خلفه في إدارة البلاد ابنه «خسرو برويز».

(1) و قد حمل هذا

الأخير على الروم أيضا، و ذلك عام (614) بحجج معينة، و فتح في أول حملة من حملاته: بلاد الشام و فلسطين و إفريقية و نهب اورشليم، و أحرق كنيسة القيامة و مزار السيّد المسيح (عليه السّلام) و هدم المدن، و دمرها.

و قد انتهت هذه الحرب بعد مقتل تسعين الف من النصارى لصالح الإيرانيين.

في مثل هذه المرحلة التي كان فيها العالم المتحضر آنذاك يحترق- في نيران الحروب و الظلم، بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالرسالة الاسلامية، و بلغ نداؤه المحيي للنفوس و العقول سمع البشرية، و قام يدعو الناس إلى الصلح و السلم، و الى النظم و الامن.

(2) و لقد أدّى انهزام الروميين المتدينين، المؤمنين باللّه على أيدي المجوس الكفار، عبدة النار، الى ان يتفاءل اهل مكة الوثنيون بهذا الحدث، و يحدّثوا (و يمنّوا) أنفسهم بالانتصار على المسلمين المؤمنين باللّه عما قريب، و انطلقوا يرد دون هذه الامنية أمام المسلمين و هم يحاولون بها إضعاف معنويّاتهم، و زعزعة إيمانهم، الأمر الذي أقلق المسلمين.

و لم يتخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موقفا تجاه هذه الظاهرة انتظارا لما سينزل به عليه الوحي الى ان نزلت آيات في هذا المجال هي الآيات الاولى من سورة الروم التي تقول: «الم، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» «1».

(3) و قد تحقّقت نبوءة القرآن هذه حول الروم في عام (627 ميلادية) حيث

______________________________

(1) الروم: 1-

6.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:118

استولى «هرقل» على «نينوى» في حملة واحدة.

و على أيّة حال كانت الدولتان المتنافستان تطويان الدقائق و الساعات الأخيرة من حياتهما فيما تستعدّان من ناحية اخرى لتجميع القوى، و التهيؤ لشن حملات جديدة، و خوض حروب و معارك اخرى و لكن حيث أن الارادة الالهية كانت قد تعلقت بأن يسطع على تلك المنطقتين نور التوحيد و تنتعش نفوس الروميين و الفرس الذابلة الميتة بنسائم الإسلام الناعشة، و اشعته الهادية، لذلك لم يلبث أن قتل «خسرو برويز» على يدي ابنه «شيرويه» الذي لم يدم سلطانه بعد اغتياله لأبيه اكثر من ثمانية أشهر، ثم سادت ايران بعد «شيرويه» فوضى شاملة خلال اربعة اشهر، حيث تناوب على مسند الحكم حكام و امراء عديدون أربعة منهم من النساء، إلى أن أنهى الجيش الاسلاميّ بحملاته الناجحة هذه الاوضاع، و وضع نهاية لهذا الصراع السياسي الحادّ الذي استمرّ خمسين عاما و الذي ساعد بدوره على تقدم الفتوحات الإسلامية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:119

(1)

4 أسلاف رسول الإسلام (ص)

اشارة

(2)

1- بطل التوحيد: إبراهيم الخليل عليه السّلام
اشارة

إن الهدف من استعراض حياة النبيّ العظيم إبراهيم الخليل عليه السّلام هو التعريف بأجداد النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أسلافه، لانتهاء نسبه الشريف إلى النبيّ إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السّلام، و حيث ان لهاتين الشخصيتين العظيمتين و بعض أسلاف النبيّ العظام نصيب هامّ في تاريخ العرب و الإسلام، لهذا ينبغي الحديث عن أحوالهم بصورة مختصرة، خاصّة أنّ حوادث التاريخ الإسلامي ترتبط ارتباطا كاملا- كحلقات سلسلة واحدة- بالحوادث السابقة، او المقارنة لبزوغ الإسلام.

(3) فعلى سبيل المثال تعتبر كفالة «عبد المطلب» لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حمايته له، و جهود «ابي طالب» و دفاعه الطويل عن النبيّ، و عظمة الهاشميين و سموّ مقامهم و اخلافهم، و جذور معاداة الأمويين لهم، الاسس و القواعد الموضوعية لحوادث التاريخ الإسلامي، و لهذا كان لا بدّ من تخصيص فصل كامل في التاريخ الإسلامي لهذه الابحاث.

إنّ في حياة حامل راية التوحيد النبيّ «إبراهيم الخليل» عليه السّلام نقاطا مشرقة و بارزة جدا.

فجهاده العظيم في سبيل ارساء قواعد التوحيد و اقتلاع جذور الوثنية ممّا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:120

لا ينسى.

و هكذا حواره اللطيف و الزاخر بالمعاني مع عبدة النجوم و الكواكب في عصره و الذي ذكره القرآن الكريم لمعرفتنا، افضل و اسمى درس توحيدي لطلاب الحقيقة و بغاة الحق.

(1)

مولد إبراهيم:

لقد ولد بطل التوحيد في بيئة مظلمة كانت تسربلها ظلمات الوثنية، و عبادة البشر ... في بيئة كان الإنسان فيها يخضع لأصنام نحتها بيديه، كما يخضع لكواكب و نجوم.

لقد ولد حامل لواء التوحيد: «إبراهيم الخليل» عليه السّلام في «بابل» الذي يعدّها المؤرخون إحدى عجائب الدنيا السبع، و يذكرون حولها قصصا و امورا كثيرة تنبئ عن عظمتها و أهمية حضارتها،

فيقول «هيرودتس» المؤرخ المعروف- مثلا-: لقد كانت بابل بنية بشكل مربّع طول كل ضلع من اضلاعه الاربعة (120 فرسخا) و محيطه (480 فرسخا) «1».

إنّ هذا الكلام مهما كان مبالغا فيه إلّا أنه على كل حال يكشف عن حقيقة لا تقبل الإنكار، إذا ما ضمّ إلى ما كتبه الآخرون عن تلك المدينة التاريخية.

(2) غير اننا لا نرى من تلك المدينة اليوم و من مناظرها الجميلة، و قصورها الرائعة، إلّا تلّا من التراب في منطقة بين «دجلة» و «الفرات»، فالموت يخيّم على كل تلك المنطقة، اللّهم الا عند ما يكسر علماء الآثار بتنقيباتهم جدار الصمت أحيانا، بحثا عن آثار تلك المدينة، و يستخرجون بقاياها الموقوف على معالم من حضارة اصحابها و سكانها.

لقد فتح رائد التوحيد و مرسي اركانه «إبراهيم الخليل» عليه السّلام عينيه

______________________________

(1) قاموس الكتاب المقدّس، مادّة بابل.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:121

في دولة «نمرود بن كنعان».

و كان نمرود هذا رغم أنه يعبد الصنم يدّعي الالوهيّة و يأمر الناس بعبادته.

(1) و قد يبد و هذا الأمر عجيبا جدا فكيف يمكن ان يكون الشخص عابد صنم و مع ذلك يدّعي الالوهية في الوقت نفسه، إلّا أن القرآن الكريم يذكر لنا نظير هذه المسألة في شأن «فرعون مصر»، و ذلك عند ما هزّ النبي موسى بن عمران عليه السّلام قواعد العرش الفرعوني بمنطقه القويّ، و حجته الصاعقة، فاعترض أنصار فرعون و ملأوه على هذا الأمر، و خاطبوا فرعون بلهجة معترضة قائلين:

«أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ» «1».

(2) و من الواضح جدّا أن «فرعون» كان يدعي الالوهية فهو الذي كان يقول:

«أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» «2» و هو القائل: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» «3» و لكنه كان

في الوقت نفسه عابد صنم و وثنيا.

بيد أنّ هذه الازدواجية ليست بأمر غريب عند الوثنيين، و لا يمنع مانع في منطقهم أن يكون الشخص نفسه وثنيا يعبد الصنم، و مع ذلك يدّعي أنه إله و يدعو الناس إلى عبادته فيكون الها معبودا، يعبد الها أعلى منه، لأن المقصود من المعبود و الاله ليس هو خالق الكون بل هو من يتفوّق على الآخرين بنحو من أنحاء التفوق و يمتلك زمام حياتهم بشكل من الإشكال.

هذا و التاريخ يحدثنا أن العوائد في بلاد الروم كانت تعبد كبارها و مع ذلك كان اولئك الكبار المعبودين انفسهم يتخذون لأنفسهم معبودا أو معبودات اخرى.

(3) إن أكبر وسيلة توسّل بها «نمرود» قي هذا السبيل هو استقطاب جماعة من الكهنة و المنجمين الذين كانوا يعدّون الطبقة العالمة و المثقّفة في ذلك العصر.

فقد كان خضوع هذه الطبقة يمهّد لاستعمار الطبقة المنحطة و غير الواعية من الناس.

هذا مضافا إلى أنه كان يناصر «نمرود» بعض من ينتسب إلى «الخليل»

______________________________

(1) الأعراف: 127.

(2) النازعات: 24.

(3) القصص: 38.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:122

عليه السّلام بوشيجة القربى مثل «آزر» الذي كان يصنع التماثيل، و كان عارفا بأحوال النجوم و الفلك أيضا، و كان هذا هو الآخر أحد العراقيل التي كانت تمنع الخليل من انجاح مهمته، لأنه مضافا إلى مخالفة الرأي العام له، كان يواجه مخالفة أقاربه أيضا.

(1) لقد كان نمرود غارقا في عالم خيالي عند ما دقّ المنجمون فجأة أول ناقوس للخطر و قالوا له: سوف تنهار حكومتك، و يتهاوى عرشك و سلطانك على يد رجل يولد في تلك البيئة، الأمر الذي أيقظ أفكاره النائمة، فتساءل من فوره: و هل ولد هذا الرجل؟ فقيل له: لا، انه لم يولد بعد. فأمر من فوره

بعزل الرجال عن النساء (و ذلك في الليلة التي انعقدت فيها نطفة ابراهيم الخليل عليه السّلام عدو نمرود، و هادم ملكه، و مزيل سلطانه و هي الليلة التي حددها و تكهن بها المنجمون و الكهنة من انصار نمرود) و مع ذلك كان جلاوزة «نمرود» يقتلون كل وليد ذكر، و كان على القوابل ان يسجّلن اسماء المواليد في مكتبه الخاص.

و لقد اتفق أن انعقدت نطفة «الخليل» في نفس الليلة التي منع فيها اي لقاء جنسي بين الرجال، و ازواجهم.

لقد حملت أم إبراهيم به كما حملت أمّ موسى به، و امضت فترة حملها في خفاء و تستر، ثم لجأت بعد وضع وليدها العزيز الى غار بجبل على مقربة من المدينة حفاظا عليه، و راحت تتفقده بين حين و آخر من الليل و النهار، قدر المستطاع.

و قد أرضى هذا الاسلوب الظالم «نمرودا» و أراح باله بمرور الزمن، اذ أيقن بانه قد قضى به على عدو عرشه، و هادم سلطانه، و تخلص منه.

(2) لقد قضى «إبراهيم» عليه السّلام ثلاثة عشر عاما في ذلك الغار الذي كان يتصل بالعالم الخارجي عبر باب ضيّق، ثم أخرجته أمه من ذلك الغار بعد ثلاثة عشر عاما، و دخل «إبراهيم» في المجتمع، فاستغرب المجتمع النمرودي وجوده و انكروه «1».

______________________________

(1) تفسير البرهان: ج 1 ص 535.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:123

(1) لقد خرج «إبراهيم» من الغار، مؤمنا باللّه بفطرته، و قوّى توحيده الفطري، بمشاهدة الأرض و السماء، و النظر في سطوع الكواكب و النجوم و التأمل في ما يجري في عالم النبات من نمو و حركة إلى غير ذلك ممّا يجري في عالم الطبيعة العجيب.

لقد واجه إبراهيم عليه السّلام بعد خروجه من الغار جماعة من الناس بهرتهم أحوال

الكواكب و عظمة أمرها، ففقدوا عقولهم تجاه هذه الظاهرة، كما راى جماعة اخرى أحطّ فكريّا من سابقتها يعبدون اصناما منحوتة، بل واجه ما هو اسوأ بكثير من أعضاء الطوائف و الجماعات الضالة اذ رأى رجلا يستغل جهل الناس و غبائهم و يدعي الالوهية و يفرض عليهم عبادته و الخضوع له!!

لقد كان إبراهيم عليه السّلام يرى أنّ عليه أن يهيّى ء نفسه لخوض المعركة في هذه الجبهات الثلاث المختلفة، و قد نقل القرآن الكريم قصة نضال النبيّ «إبراهيم» عليه السّلام في هذه الاصعدة و الجبهات الثلاث و سننقل لك في ما يأتي و باختصار ما ذكره القرآن في هذا المجال.

(2)

إبراهيم و مكافحته للوثنية:

كانت ظلمات الوثنية قد خيّمت على منطقة بابل (موضع ولادة الخليل) برمتها.

فالآلهة المدّعاة، و المعبودات (السماوية و الارضية) الباطلة قد سحرت عقول مختلف فئات الشعب، فبعضها في نظرهم هي أرباب القدرة و السلطة، و بعضها الآخر وسيلة الزلفى و التقرب الى اللّه إلى غير ذلك من التصورات السخيفة في هذا الصعيد.

و حيث أن طريقة الأنبياء في هداية البشرية و ارشادهم هي الاستدلال بالبراهين، و الاحتجاج بالمنطق، لانهم إنما يتعاملون مع قلوب الناس و عقولهم، و يبتغون ايجاد حكومة تقوم على أساس الإيمان و اليقين. و مثل هده الحكومة لا يمكن اقامتها بالسيف او بالنار و الحديد. لهذا يبدءون حركتهم بالتوعية الفكرية.

إن علينا أن نفرق بين الحكومات التي يريد الأنبياء تأسيسها، و حكومة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:124

الفراعنة و النماردة.

(1) ان هدف الطائفة الثانية هو: الرئاسة و الزعامة، و الحفاظ عليها بكل وسيلة ممكنة في حياتهم، و ان تلاشت و تهاوت من بعدهم.

و لكن الأنبياء و الرسل يريدون حكومة تبقى قائمة في جميع الحالات و ماثلة في جميع الاوقات، في الخلوة

و الجلوة، في وقت الضعف، و في وقت القوة، في حياتهم و بعد مماتهم ... انهم يريدون أن يحكموا على القلوب لا على الابدان، و هذا الهدف لا يتحقق ابدا عن طريق القوة و استخدام العنف و القهر!! انما يتحقق عن طريق الحجة و البرهان.

(2) لقد بدأ النبي «إبراهيم» عمله بمكافحة ما كان عليه أقرباؤه الذين كان في طليعتهم و على رأسهم «آزر» و هو الوثنية و عبادة الاصنام، و لكنه لم ينته من هذه المعركة و لم يحرز انتصارا كاملا في هذه الجبهة بعد إلّا و واجه عليه السّلام جبهة اخرى، و كانت هذه الجماعة أعلى مستوى من افراد الجماعة السابقة في الفهم و الثقافة. لان هذه الجماعة- على خلاف أقرباء إبراهيم قد نبذت عبادة الأوثان و الأصنام «1»، و المعبودات الارضية الحقيرة، و توجهت بعبادتها و تقديسها الى الكواكب و النجوم و الاجرام السماوية.

و لقد بيّن «الخليل» عليه السّلام في حواره العقائدي مع عبّاد الاجرام السماوية، و مكافحته لمعتقداتهم الفاسدة، سلسلة من الحقائق الفلسفية و العلمية التي لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك، و ذلك ببيان بسيط مدعوم بأدلة لا تزال الى اليوم موضع اعجاب كبار العلماء، و رواد الفلسفة و الكلام.

و الأهم من ذلك- في هذا المجال- أن القرآن الكريم نقل أدلة «إبراهيم الخليل» عليه السّلام باهتمام خاص و عناية بالغة و لهذا ينبغي لنا أن نتوقف عندها قليلا، و هذا ما سنفعله في هذه الصفحات.

______________________________

(1) ترتبط آية 74 من سورة الأنعام بحواره عليه السّلام مع الوثنيّين، بينما ترتبط الآيات اللاحقة لها بعبدة الأجرام السماوية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:125

حوار الخليل مع عبدة الكواكب:

(1) ذات ليلة وقف إبراهيم عليه السّلام عند ابتداء مغيب الشمس يتطلع في السماء- و

هو ينوي هداية الناس- و بقي ينظر الى النجوم و الكواكب من أول الغروب من تلك الليلة الى الغروب من الليلة التالية، و خلال هذه الساعات الأربع و العشرين حاور و جادل ثلاث فرق، من عبدة النجوم و ابطل عقيدة كل فرقة منها بأدلة محكمة، و براهين متقنة قوية.

فعند ما أقبل الليل و خيّم الظلام على كل مكان و هو يخفي كل مظاهر الوجود و معالمه في عالم الطبيعة ظهر كوكب «الزهرة» من جانب الافق و هو يتلألأ.

فقال إبراهيم لعباد هذا الكوكب- و هو يتظاهر بموافقتهم جلبا لهم، و مقدمة للدخول معهم في حوار-: «هذا ربي».

و عند ما افل ذلك الكوكب و غاب عن الانظار قال: «لا احب الآفلين».

و بمثل هذا المنطق الجميل أبطل عقيدة عبدة الزهرة، و اظهر خواءها و فسادها.

(2) ثمّ إنه عليه السّلام نظر الى كوكب القمر المنير الذي يسحر القلوب بنوره وضوئه، فقال- متظاهرا بموافقة عبدة القمر-: «هذا ربي» ثم ردّ باسلوب منطقي محكم تلك العقيدة أيضا، عند ما امتدت يد القدرة المطلقة و لملمت أشعة القمر من عالم الطبيعة، و عندها اتّخذ ابراهيم عليه السّلام هيئة الباحث عن الحقيقة و من دون أن يصدم تلك الفرق المشركة و يجرح مشاعرها اذ قال: «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» «1» لأن القمر قد أفل أيضا كما أفل سابقه فهو كغيره أسير نظام علويّ لا يتخلف، و ما كان كذلك لا يمكن ان يعدّ ربا يعبد، و يتوجه إليه بالتقديس و التضرع.

(3) و لما ولّى الليل و أدبر، و اكتسحت الشمس الوضاءة باشعتها حجب

______________________________

(1) الأنعام: 77.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:126

الظلام، و بثت خيوطها الذهبية على الوهاد و السهول، و التفت عبدة الشمس

الى معبودهم، تظاهر ابراهيم بالاقرار بربوبيتها اتباعا لقواعد الجدل و المناظرة و لكن افول الشمس و غروبها اثبت هو الآخر بطلان عبادتها أيضا بعد أن اثبت خضوعها للنظام الكوني العام، فتبرأ «الخليل» عليه السّلام من عبادتها بصراحة.

و عندئذ أعرض عليه السّلام عن تلك الطوائف الثلاث و قال: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» «1».

لقد كان المخاطبين في كلام إبراهيم عليه السّلام هم الذين يعتقدون بأن تدبير الكائنات الارضية، و منها الإنسان، قد انيطت إلى الاجرام السماوية و فوضت إليها!!

(1) و هذا الكلام يفيد أن الخليل عليه السّلام لم يقصد المطالب الثلاث التالية:

1- اثبات الصانع (الخالق).

2- توحيد الذات و أنه واحد غير متعدد.

3- التوحيد في الخالقية، و أنه لا خالق سواه.

بل كان تركيزه عليه السّلام على التوحيد في «الربوبية» و «التدبير» و ادارة الكون، و انه لا مدبّر و لا مربي للموجودات الأرضية إلّا اللّه سبحانه و تعالى، و من هنا فانه عليه السّلام فور إبطاله لربوبية الاجرام السماوية قال: «وجّهت وجهي للّذي فطر السماوات و الأرض ...» و هو يعني ان خالق السماوات و الأرض هو نفسه مدبرها و ربها، و انه لم يفوّض أي شي ء من تدبير الكون،- لا كله و لا بعضه- الى الاجرام السماوية، فتكون النتيجة: أن الخالق و المدبر واحد لا أن الخالق هو اللّه و المدبر شي ء آخر.

(2) و لقد وقع المفسرون، و الباحثون في معارف القرآن في خطأ، و التباس عند التعرض لمنطق «إبراهيم» عليه السّلام و شرح حواره هذا، حيث تصوروا أن الخليل عليه السّلام قصد نفي «ألوهية» هذه الأجرام يعني الالوهية التي تعتقد بها

______________________________

(1) الأنعام: 79.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:127

جميع شعوب

الأرض و يكون هذا الكون الصاخب آية وجوده.

(1) بينما تصوّر فريق آخر ان «إبراهيم» كان يقصد نفي «الخالقية» عن هذه الأجرام السماوية، لأنه من الممكن ان يخلق إله العالم كائنا كامل الوجود و الصفات ثم يفوض إليه مقام الخالقية في حين أن هذين التفسيرين غير صحيحين، بل كان هدف الخليل عليه السّلام- بعد التسليم بوجود إله واجب الوجود، و توحيده، و وحدانية الخالق- البحث في قسم آخر من التوحيد، الا و هو التوحيد «الربوبي»، و بالتالي اثبات أن خالق الكون هو نفسه مدبر ذلك الكون أيضا، و عبارة: «وجّهت وجهي ...» أفضل شاهد على هذا النوع من التفسير.

من هنا كان التركيز الأكبر في بحث ابراهيم على مسألة «الربّ» و «الربوبية» في صعيد الاجرام كالقمر و الزهرة و الشمس «1».

(2) هذا و استكمالا للبحث الحاضر لا بدّ من توضيح برهان النبيّ «ابراهيم» عليه السّلام.

لقد استدل «ابراهيم» في جميع المراحل الثلاث بافول هذه الاجرام على أنها لا تليق بتدبير الظواهر الارضية و بخاصة الإنسان.

و هنا ينطرح سؤال: لما ذا يعتبر افول هذه الاجرام شاهدا على عدم مدبّريتها؟

إن هذا الموضوع يمكن بيانه بصور مختلفة، كل واحدة منها تناسب طائفة معينة من الناس.

ان تفسير منطق «الخليل» عليه السّلام و اسلوبه في إبطال مدبّريه الاجرام السماوية و ربوبيّتها بأشكال و صور مختلفة أفضل شاهد على أن للقرآن الكريم أبعادا مختلفة و أن كل بعد منها يناسب طائفة من الناس.

______________________________

(1) لقد بيّنا مراتب التوحيد من وجهة نظر القرآن الكريم في كتابنا «معالم التوحيد في القرآن الكريم» و أثبتنا هناك أنّ التوحيد في الذات غير التوحيد في الخالقية، و أن هذين النوعين من التوحيد غير التوحيد في الربوبية، و هي غير المراتب

الاحرى للتوحيد، فراجع الكتاب المذكور تقف على هذه الحقيقة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:128

(1) و إليك في ما يلي التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال:

(2) الف: إن الهدف من اتخاذ الربّ هو أن يستطيع الكائن الضعيف في ظل قدرة ذلك الرب من الوصول الى مرحلة الكمال و لا بدّ ان يكون لمثل هذا الربّ ارتباط قريب مع الموجودات المراد تربيتها بحيث يكون واقفا على أحوالها، غير منفصل عنها، و لا غريب عليها.

و لكن كيف يستطيع الكائن الذي يغيب ساعات كثيرة عن الفرد المحتاج إليه في التربية و يحرم ذلك الفرد من فيضه و بركته، ان يكون ربا للموجودات الأرضية و مدبرا لها؟!

من هنا يكون افول النجم، و غروبه، الذي هو علامة غربته و انقطاعه عن الموجودات الارضية خير شاهد على أن للموجودات الأرضية ربّا آخر، منزها عن تلك النقيصة عاريا عن ذلك العيب.

(3) باء: انّ طلوع الأجرام السماوية و غروبها و حركتها المنظمة دليل على أنها جميعا خاضعة لمشيئة فوقها، و انها في قبضة القوانين الحاكمة عليها، و الخضوع لقوانين منظمة هو بذاته دليل على ضعف تلك الموجودات، و مثل هذه الموجودات الضعيفة لا يمكن أن تكون حاكمة على الكون، أو شي ء من الظواهر الطبيعية، و أما استفادة الموجودات الارضية من نور تلك الاجرام وضوئها فلا يدل أبدا على ربوبية تلك الأجرام، بل هو دليل على أن تلك الأجرام تؤدّي وظيفة تجاه الموجودات الأرضية بأمر من موجود أعلى.

و بعبارة اخرى: إن هذا الأمر دليل على التناسق الكوني، و ارتباط الكائنات بعضها ببعض.

(4) جيم: ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات؟ هل الهدف هو أن تسير من النقص إلى الكمال أو بالعكس؟

و حيث أن الصورة الثانية غير معقولة، و على فرض

تصورها لا معنى لأن يسير المربّي و المدبر للكون من مرحلة الكمال الى النقص و الفناء، يبقى الفرض. الاول و هو بنفسه دليل على وجود مربّ آخر يوصل هذه الموجودات القوية في ظاهرها

سيد المرسلين ،ج 1،ص:129

من مرحلة الى مرحلة، هو- في الحقيقة- الربّ الذي يبلغ بهذه الموجودات و ما دونها إلى الكمال.

(1)

طريقة الأنبياء في الحوار و الجدال:

لقد اسلفنا في ما سبق أن «ابراهيم»- بعد خروجه من الغار- واجه صنفين منحرفين عن جادة التوحيد هما:

1- الوثنيون.

2- عبدة الاجرام السماوية.

و لقد سمعنا حوار «ابراهيم» عليه السّلام و جداله مع الفريق الثاني، و علينا الآن أن نعرف كيف حاور الوثنيين و عبدة الاصنام؟

(2) إن تاريخ الأنبياء و الرسل يكشف لنا عن أنهم كانوا يبدءون دعوتهم من انذار الاقربين ثم يوسعون دائرة الدعوة لتشمل عامة الناس كما فعل رسول الإسلام في بدء دعوته حيث بدأ بانذار عشيرته الاقربين لما امره اللّه تعالى بذلك اذ قال: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» «1». و بذلك أسّس دعوته على إصلاح اقربائه و عشيرته.

و لقد سلك «الخليل» عليه السّلام نفس هذا المسلك أيضا إذ بدأ عمله الاصلاحي باصلاح اقربائه.

و لقد كان لآزر بين قومه مكانة اجتماعية عليا فهو- مضافا إلى معلوماته في الصناعة و غيرها- كان منجما ماهرا، و ذا كلمة مسموعة و رأي مقبول في بلاط «نمرود» في كل ما يخبر به من أخبار النجوم، و كل ما يستخرجه و ما يستنبطه من الامور الفلكية و يذكره من تكهنات.

(3) لقد ادرك «ابراهيم» انه بجلبه لآزر (عمّه) يستطيع ان يسيطر على اوساط الوثنيين، و يجردهم من ركيزة هامة من كبريات ركائزهم، و لهذا بادر الى منع

______________________________

(1) الشعراء: 214.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:130

عمّه آزر- و بافضل الاساليب- عن عبادة الاوثان، بيد أن

بعض الأسباب أوجبت أن لا يقبل «آزر» بنصائح «ابراهيم» عليه السّلام، و المهم لنا في هذا المجال هو ان نتعرف على كيفية دعوة الخليل و على اسلوب حواره مع «آزر».

ان الامعان في الآيات التي تنقل حوار «ابراهيم» عليه السّلام مع «آزر» توضح لنا أدب الأنبياء، و اسلوبهم الرائع في الدعوة و الارشاد، و لنقف عند حوار ابراهيم و دعوته، ليتضح لنا ذلك.

يقول القرآن الكريم عن ذلك: «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا».

(1) فاجابه «آزر» قائلا: «أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا».

و لكن «ابراهيم» بسعة صدره و عظمة روحه تجاهل ردّ «آزر» العنيف ذلك و أجابه قائلا: «سلام عليك سأستغفر لك ربّي» «1».

و أيّ جواب أفضل من هذا البيان و أيّ لغة ألين من هذه اللغة و احبّ الى القلب، و اكثر رحمة و لطفا.

(2)

هل كان آزر والد إبراهيم؟

ان الظاهر من الآيات المذكورة و كذا الآية (115) من سورة «التوبة» و الآية (14) من سورة الممتحنة هو: أنّ «آزر» كان والد إبراهيم عليه السّلام.

و قد كان إبراهيم يسميه أبا في حين كان «آزر» وثنيا، فكيف يصح ذلك و قد اتفقت كلمة علماء الشيعة عامة على كون والد النبيّ الكريم «محمّد»

______________________________

(1) مريم: 42- 47.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:131

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جميع الأنبياء مؤمنين باللّه سبحانه موحدين اياه تعالى.

و لقد ذكر الشيخ

المفيد رضوان اللّه عليه في كتابه القيم «أوائل المقالات» «1» ان هذا الأمر هو موضع اتفاق علماء الشيعة الامامية كافة بل وافقهم في ذلك كثير من علماء السنة أيضا.

و في هذه الصورة ما هو الموقف من ظواهر الآيات المذكورة التي تفيد ابوّة «آزر» لإبراهيم، و ما هو الحل الصحيح لهذه المشكلة (1) يذهب أكثر المفسّرين إلى أن لفظة «الأب» و ان كانت تستعمل عادة في لغة العرب في «الوالد»، إلّا أن مورد استعمالها لا ينحصر في ذلك.

بل ربما استعملت- في لغة العرب و كذا في مصطلح القرآن الكريم- في:

(العمّ) أيضا. كما وقع ذلك في الآية التالية التي استعملت فيها لفظة الأب بمعنى العم اذ يقول سبحانه:

«إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك و إله آبائك إبراهيم و اسماعيل و إسحاق إلها واحدا و نحن له مسلمون» «2»

فإنّ ممّا لا ريب فيه أن «اسماعيل» كان عما ليعقوب لا والدا له، فيعقوب هو ابن اسحاق، و اسحاق هو أخو اسماعيل.

و مع ذلك سمّى أولاد يعقوب «اسماعيل» الذي كان (عمّهم) أبا.

(2) و مع وجود هذين الاستعمالين (استعمال الاب في الوالد تارة، و في العم تارة اخرى) يصبح احتمال كون المراد بالاب في الآيات المرتبطة بهداية «آزر» هو العمّ أمرا واردا، و بخاصة إذا ضممنا الى ذلك قرينة قوية في المقام و هي:

اجماع العلماء الذي نقله المفيد رحمه اللّه على طهارة آباء الأنبياء و اجدادهم من رجس الشرك و الوثنية.

و لعل السبب في تسمية النبي «ابراهيم» عمّه بالأب هو أنه كان الكافل

______________________________

(1) أوائل المقالات: ص 12 باب القول في آباء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(2) البقرة: 133.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:132

لإبراهيم ردحا من الزمن، و من

هنا كان «ابراهيم» ينظر إليه بنظر الأب، و ينزله منزلة الوالد.

(1)

القرآن ينفي ابوّة «آزر» لإبراهيم:

و لكي نعرف رأي القرآن الكريم في مسألة العلاقة بين «آزر» و «ابراهيم» عليه السّلام نلفت نظر القارئ الكريم الى توضيح آيتين:

(2) 1- لقد أشرقت منطقة الحجاز بنور الايمان و الإسلام بفضل جهود النبيّ «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تضحياته الكبرى، و آمن اكثر الناس به عن رغبة و رضا، و علموا بأن عاقبة الشرك، و عبادة الاوثان و الاصنام هو الجحيم و العذاب الاليم.

إلّا أنهم رغم ابتهاجهم و سرورهم بما وفقوا له من إيمان و هداية، كانت ذكريات آبائهم و امهاتهم الذين مضوا على الشرك و الوثنية تزعج خواطرهم و تثير شفقتهم، و اسفهم.

و كان سماع الآيات التي تشرح أحوال المشركين في يوم القيامة يحزنهم و يؤلمهم، و بغية ازالة هذا الالم الروحي المجهد طلبوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستغفر لآبائهم و امهاتهم كما فعل «إبراهيم» في شأن «آزر» فنزلت الآية في مقام الردّ على طلبهم ذاك، اذ قال سبحانه:

«ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «1».

إنّ ثمت قرائن كثيرة تدل على أنّ محادثة النبيّ «إبراهيم» و حواره مع «آزر» و وعده بطلب المغفرة له من اللّه سبحانه قد انتهى إلى قطع العلاقات،

______________________________

(1) التوبة: 113 و 114.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:133

و التبرّي منه في عهد فتوّة «إبراهيم»، و شبابه، أى عند ما كان «إبراهيم» لا يزال في مسقط

رأسه «بابل» و لم يتوجه بعد الى فلسطين و مصر و أرض الحجاز.

إننا نستنتج من هذه الآية أن «إبراهيم» قطع علاقته مع «آزر»- في أيام شبابه- بعد ما أصرّ «آزر» على كفره، و وثنيته، و لم يعد يذكره الى آخر حياته.

(1) 2- لقد دعا «إبراهيم» عليه السّلام في اخريات حياته- أي في عهد شيخوخته- و بعد أن فرغ من تنفيذ مهمته الكبرى (تعمير الكعبة) و اسكان ذريته في أرض مكة القاحلة، دعا و بكل اخلاص و صدق جماعة منهم والداه، و طلب من اللّه إجابة دعائه، إذ قال في حين الدعاء:

«رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» «1».

إن هذه الآية تفيد بصراحة- أن الدعاء المذكور كان بعد الفراغ من بناء الكعبة المعظمة، و تشييدها، يوم كان إبراهيم يمر بفترة الشيخوخة، فاذا كان مقصوده من الوالد في الدعاء المذكور هو «آزر» و انه المراد له المغفرة الالهية كان معنى ذلك أن «ابراهيم» كان لم يزل على صلة ب «آزر» حتى أنه كان يستغفر له في حين أن الآية التي نزلت ردا على طلب المشركين أوضحت بأن «إبراهيم» كان قد قطع علاقاته ب «آزر» في أيّام شبابه، و تبرّأ منه، و لا ينسجم الاستغفار مع قطع العلاقات.

إن ضمّ هاتين الآيتين بعضهما الى بعض يكشف عن أنّ الذي تبرّأ منه «ابراهيم» في أيام شبابه، و قطع علاقاته معه، و اتخذه عدوا هو غير الشخص الذي بقي يذكره، و يستغفر له الى اخريات حياته «2».

(2)

إبراهيم محطّم الأصنام:

لقد حلّ موسم العيد، و خرج أهل بابل المغفّلين الجهلة إلى الصحراء للاستجمام، و لقضاء فترة العيد، و إجراء مراسيمه، و قد أخلوا المدينة.

______________________________

(1) إبراهيم: 41.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص

321، و الميزان: ج 7 ص 170.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:134

و لقد كانت سوابق «إبراهيم»، و تحامله على الأصنام، و استهزاؤه بها قد أوحدت قلقا و شكا لدى أهل بابل، و لهذا طلبوا منه- و هم الذين يساورهم القلق من موقفه تجاه اصنامهم- الخروج معهم إلى الصحراء، و المشاركة في تلك المراسيم، و لكن اقتراحهم هذا بل إصرارهم واجه رفض إبراهيم الذي رد على طلبهم بحجة المرض اذ قال: «إنّي سقيم» و هكذا لم يشترك في عيدهم، و خروجهم و بقي في المدينة.

(1) حقا لقد كان ذلك اليوم يوم ابتهاج و فرح للموحد و المشرك، و أمّا للمشركين فقد كان عيدا قديما عريقا يخرجون للاحتفال به، و اقامة مراسيمه و تجديد ما كان عليه الآباء و الاسلاف الى الصحراء حيث السفوح الخضراء و المزارع الجميلة.

و كان عيدا لإبراهيم بطل التوحيد كذلك، عيدا لم يسبق له مثيل، عيدا طال انتظاره، و افرح حضوره و حلوله، فها هو إبراهيم يجد المدينة فارغة من الاغيار، و الفرصة مناسبة للانقضاض على مظاهر الشرك و الوثنية، و حدث هذا فعلا.

فعند ما خرج آخر فريق من اهل بابل من المدينة، اغتنم «إبراهيم» تلك الفرصة و دخل و هو ممتلئ ايمانا و يقينا باللّه في معبدهم حيث الأصنام و الأوثان المنحوتة الخاوية، و أمامها الأطعمة الكثيرة التي احضرها الوثنيون هناك بقصد التبرك بها، و قد لفتت هذه الأطعمة نظر «الخليل» عليه السّلام، فأخذ بيده منها كسرة خبز، و قدمها مستهزء الى تلك الاصنام قائلا: لما ذا لا تأكلون من هذه الاطعمة؟

(2) و من المعلوم أن معبودات المشركين الجوفاء هذه لم تكن قادرة على فعل اي شي ء أو حركة مطلقا فكيف بالاكل.

لقد كان يخيم على

جوّ ذلك المعبد الكبير سحابة من الصمت القاتل و لكنه سرعان ما اخترقته اصوات المعول الذي اخذ «إبراهيم» يهوي به على رءوس تلك التماثيل الجامدة الواقفة بلا حراك، و ايديها.

لقد حطم «الخليل» عليه السّلام جميع الاصنام و تركها ركاما من الاعواد المهشمة، و المعدن المتحطم، و اذا بتلك الاصنام المنصوبة في اطراف ذلك الهيكل

سيد المرسلين ،ج 1،ص:135

قد تحولت الى تلة في وسط المعبد.

غير ان «ابراهيم» ترك الصنم الأكبر من دون ان يمسه بسوء، و وضع المعول على عاتقه، و هو يريد بذلك ان يظهر للقوم بأن محطم تلك الأصنام هو ذلك الصنم الكبير، إلّا أن هدفه الحقيقي من وراء ذلك كان امرا آخرا سنبينه في ما بعد.

(1) لقد كان «إبراهيم» عليه السّلام يعلم بأنّ المشركين بعد عودتهم من الصحراء، و من عيدهم سيزورون المعبد، و سوف يبحثون عن علة هذه الحادثة، و أنهم بالتالي سوف يرون ان وراء هذا الظاهر واقعا آخر، اذ ليس من المعقول ان يكون صاحب تلك الضربات القاضية هو هذا الصنم الكبير الذي لا يقدر أساسا على فعل شي ء على الاطلاق.

و في هذه الحالة سوف يستطيع «إبراهيم» عليه السّلام أن يستفيد من هذه الفرصة في عمله التبليغي، و يستغل اعتراضهم بأن هذا الصنم الكبير لا يقدر على شي ء أبدا، لتوجيه السؤال التالي إليهم: اذن كيف تعبدونه؟!!

فمنذ أن اخذت الشمس تدنو الى المغيب و يقترب موعد غروبها، و تتقلص اشعتها و تنكمش من الرّوابي و السهول، أخذ الناس يؤوبون إلى المدينة أفواجا افواجا.

(2) و عند ما آن موعد العبادة، و توجّهوا إلى حيث اصنامهم، واجهوا منظرا فضيعا و امرا عجيبا لم يكونوا ليتوقّعونه!!

لقد كان المشهد يحكي عن ذلة الآلهة و حقارتها، و هو

أمر لفت نظر الجميع شيبا و شبّانا، كبارا و صغارا.

و لقد كانت تلك اللحظة لحظة ثقيلة الوطأة على الجميع بلا استثناء.

فقد خيّم سكوت قاتل مصحوب بحنق و مضض على فضاء ذلك المعبد المنكود الحظ.

إلا أن أحدهم خرق ذلك الصمت الرهيب و قال: من الذي ارتكب هذه الجريمة، و من فعل هذا بآلهتنا؟!

سيد المرسلين ،ج 1،ص:136

و لقد كانت آراء «إبراهيم» و مواقفه السلبية السابقة ضد الاصنام و تحامله الصريح عليها تبعثهم على اليقين بأن «إبراهيم» و ليس سواه هو الذي صنع ما صنع بآلهتهم و اصنامهم.

و لأجل ذلك تشكلت فورا محكمة يرأسها «نمرود» نفسه و أخذوا يحاكمون «ابراهيم» و أمه!!

(1) و لم يكن لامه من ذنب إلا أنها أخفت ابنها، و لم تعلم السلطات بوجوده ليقضوا عليه، شأنه شأن غيره من المواليد الذين قضت تلك السلطة الظالمة عليهم حفاظا على نفسها و كيانها.

و لقد أجابت أم إبراهيم على هذا السؤال بقولها: أيها الملك فعلت هذا نظرا مني لرعيّتك، فقد رأيتك تقتل أولاد رعيّتك فكان يذهب النسل فقلت: إن كان هذا الذي يطلبه دفعته إليه ليقتله و بكف عن قتل أولاد الناس، و إن لم يكن ذلك فبقي لنا ولدنا.

(2) ثم جاء دور مساءلة إبراهيم عليه السّلام فسأله قائلا: «من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم» فقال إبراهيم: «فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون».

و قد كان «إبراهيم» عليه السّلام يهدف من هذه الاجابة اللامبالية المصحوبة بالسحرية و الازدراء هدفا آخر، و هو ان «إبراهيم» عليه السّلام كان على يقين بأنهم سيقولون في معرض الاجابة على كلامه هذا: إنك تعلم يا إبراهيم ان هذه الأصنام لا تقدر على النطق، و في هذه الصورة يستطيع «إبراهيم» أن يلفت نظر السلطات

التي تحاكمه الى نقطة اساسية.

و قد حدث فعلا ما كان يتوقعه «إبراهيم» عليه السّلام لما قالوا له و قد نكسوا على رءوسهم: «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» فقال إبراهيم ردا على كلامهم هذا الذي كان يعكس حقارة تلك الاصنام و الأوثان و تفاهة شأنها: «أ فتعبدون من دون اللّه ما لا ينفعكم و لا يضرّكم افّ لكم و لما تعبدون من دون اللّه أ فلا تعقلون».

(3) إلّا أنّ تلك الزمرة المعاندة التي ران على قلوبها الجهل و التقليد الأعمى لم

سيد المرسلين ،ج 1،ص:137

يجدوا جوابا لإبراهيم الذي أفحمهم بمنطقه الرصين الّا أن يحكموا باعدامه حرقا، فأوقدوا نارا كبيرة و ألقوا بإبراهيم عليه السّلام فيها إلّا أن العناية الالهية شملت إبراهيم الخليل عليه السّلام، و حفظته من اذى تلك النار، و حولت ذلك الجحيم الذي اوجده البشر، الى جنينة خضراء نضرة اذ قال: «يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم» «1».

(1)

العبر القيامة في هذه القصة:

مع ان اليهود يعتبرون أنفسهم في مقدمة الموحّدين، لم ترد هذه القصة في توراتهم الحاضرة رغم كونها معروفة بينهم، بل تفرّد القرآن الكريم من بين الكتب السماوية بذكرها لأهميتها.

من هنا فإننا نذكر بعض النقاط المفيدة، و الدروس المهمة في هذه القصة التي يهدف القرآن من ذكرها و ذكر امثالها من قصص الأنبياء و الرسل.

______________________________

(1) و قد ذكر تفاصيل هذه القصة في الآيات 51 الى 70 من سورة الأنبياء و ها نحن ندرج كل هذه الآيات هنا:

«وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ. قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ

أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ.

قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ. قالُوا:

فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ. قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ. فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ. قالَ: أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ. قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ. وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ».

و للوقوف على تفاصيل و خصوصيات ولادة إبراهيم عليه السّلام و تحطيمه للأصنام راجع كتاب الكامل لابن الأثير: ج 1 ص 53- 62، و بحار الأنوار: ج 12 ص 14- 55.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:138

(1) 1- إن هذه القصة خير شاهد على شجاعة «إبراهيم الخليل» عليه السّلام و بطولته الفائقة.

فعزم ابراهيم على تحطيم الاصنام، و محق و هدم كل مظاهر الشرك و الوثنية المقيتة لم يكن امرا خافيا على النمروديين لانه عليه السّلام كان قد أظهر شجبه لها، و اعلن عن استنكاره لعبادتها و تقديسها من خلال كلماته القادحة فيها، و استهزائه بها، فقد كان عليه السّلام يقول لهم بكل صراحة بانه سيتخذ من تلك الاصنام موقفا ما اذا لم يتركوا عبادتها و تقديسها، فقد قال لهم يوم ارادوا ان يخرجوا الى

الصحراء لمراسيم العيد: «وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» «1».

و لقد كان موقف الخليل عليه السّلام ينم عن شجاعة كبرى فقد قال الإمام الصادق عليه السّلام في هذا الصدد:

«و منها (اي و ممّا تحلّى به النبيّ ابراهيم) الشجاعة و قد كشفت (قضية) الاصنام عنه، و مقاومة الرجل الواحد الوفا من أعداء اللّه عزّ و جلّ تمام الشجاعة» «2».

(2) 2- ان ضربات «إبراهيم» القاضية و ان كانت في ظاهرها حربا مسلحة، و عنيفة ضد الاصنام إلا أن حقيقة هذه النهضة- كما يستفاد من ردود «إبراهيم» على أسئلة الذين حاكموه، و استجوبوه- كانت ذات صبغة تبليغية دعائية.

فان «إبراهيم» لم يجد وسيلة لإيقاظ عقول قومه الغافية، و تنبيه فطرهم الغافلة، إلا تحطيم جميع الاصنام، و ترك كبيرها و قد علق القدوم على عاتقه ليدفع بقومه إلى التفكير في القضية من اساسها و حيث أن العمل لم يكن اكثر من مسرحية إذ لا يمكن أن يصدق أحدهم بأن تلك الضربات القاضية كانت من صنع ذلك الصنم الكبير و فعله حينئذ يستطيع إبراهيم أن يستثمر فعله هذا في دعوته، و يقول انّ هذا الصنم الكبير لا يقدر- و باعترافكم- على فعل أيّ شي ء

______________________________

(1) الأنبياء: 57.

(2) بحار الأنوار: ج 12 ص 67.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:139

مهما كان صغيرا و حقيرا فكيف تعبدونه اذن؟!

(1) و لقد استفاد «إبراهيم» من هذه العملية فعلا، و توصل الى النتيجة التي كان يتوخاها، فقد ثابوا الى نفوسهم بعد ان سمعوا كلمات «إبراهيم» عليه السّلام، و استيقظت ضمائرهم و عقولهم و وصفوا انفسهم بالظلم بعد أن تبيّن لهم الحق و بطل ما كانوا يعبدون اذ قال تعالى: «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» «1» و هذا

بنفسه يفيد بأن سلاح الأنبياء القاطع في بدء عملهم الرسالي كان هو: سلاح المنطق و الاستدلال ليس إلا، غاية الأمر أن هذا كان يؤدى في كل دورة بما يناسبها من الوسائل، و إلّا فما قيمة تحطيم عدد من الأصنام الخشبية بالقياس إلى مخاطرة النبيّ «ابراهيم الخليل» بنفسه و حياته، و بالقياس الى الاخطار التي كانت تتوجه إليه نتيجة هذا العمل الصارخ.

إذن فلا بد ان يكون وراء هذه العملية الخطيرة هدف كبير و خدمة عظمى تستحق المخاطرة بالنفس، و يستحق المرء امتداح العقل له اذا عرّض حياته للخطر في سبيلها.

(2) 3- لقد كان إبراهيم يعلم جيدا بأن هذا العمل سيؤدي بحياته، و سيكون فيه حتفه، فكانت القاعدة تقتضي أن يسيطر عليه قلق و اضطراب شديدان، فيتوارى عن اعين الناس، أو يترك المزاح، و السخرية بالأصنام على الأقل، و لكنه كان على العكس من ذلك رابط الجأش، مطمئن النفس، ثابت القدم، فهو عند ما دخل في المعبد الذي كانت فيه الأصنام تقدم بقطعة من الخبز الى الاصنام و دعاها ساخرا بها، الى الاكل، و ثم ترك الأصنام بعد اليأس منها تلّا من الخشب المهشم، و اعتبر هذا الأمر مسألة عادية لا تستأهل الوجل و الخوف، و كأنه لم يفعل ما يستتبع الموت المحقّق و يستوجب الاعدام المحتّم.

فهو عند ما يأخذ مكانه امام هيئة القضاة يقول معرضا بالاصنام: فعله كبير الأصنام فاسئلوه و لا شك أن هذا التعريض و السخرية بالاصنام إنما هو موقف من

______________________________

(1) الأنبياء: 64.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:140

لا يوجس خيفة، و لا يشعر بوجل من عمله، بل هو فعل من قد هيّأ نفسه لكل الاخطار المحتملة، و استعد لكل النتائج مهما كانت خطيرة.

(1) بل الأعجب من هذا

كله دراسة وضع «إبراهيم» نفسه حينما كان في المنجنيق و قد تيقّن أنه سيكون وسط ألسنة اللهب بعد هنيئة، و تلتهمه النار المستعرة تلك النار التي جمع اهل «بابل» لها الحطب الكثير تقربا الى آلهتهم، و كانوا يعتبرون ذلك العمل واجبا مقدسا ... تلك النار التي كان لهيبها من القوة بحيث ما كانت الطيور تستطيع من التحليق على مقربة منها.

في هذه اللحظة الخطيرة الحساسة جاءه جبرئيل و اعلن عن استعداده لانقاذه و تخليصه من تلك المهلكة الرهيبة قائلا له: هل لك إليّ من حاجة؟

فقال «إبراهيم»: أما إليك فلا، و أما إلى ربّ العالمين فنعم «1».

ان هذا الجواب يجسّد ايمان «إبراهيم» العظيم، و روحه الكبرى.

(2) لقد كان «نمرود» الذي جلس يراقب تلك النار من عدة فراسخ، ينتظر بفارغ الصبر لحظة الانتقام، و كان يحب ان يرى كيف تلتهم ألسنة النار «إبراهيم». فما أرهب تلك اللحظات!

لقد اشتغل المنجنيق، و بهزّة واحدة القي بإبراهيم عليه السّلام في وسط النار غير أن مشيئة اللّه، و ارادته النافذة تدخلت فورا لتخلص خليل اللّه و نبيه العظيم، فحوّلت تلك النّار المحرقة التي أو قدتها يد البشر الى روضة خضراء و جنينة زاهرة ادهشت الجميع حتى أنّ «إبراهيم» التفت إلى «آزر» و قال- من دون ارادته-:

«يا آزر ما اكرم إبراهيم على ربّه» «2».

(3) إن انقلاب تلك النّار الهائلة الى روضة خضراء لإبراهيم قد تمّ بأمر اللّه المسبب للأسباب و المعطل لها متى شاء، المعطي لها آثارها، و السالب عنها ذلك، متى اراد.

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا: ص 136، و أمالي الصدوق: ص 274، و بحار الأنوار: ج 12 ص 35.

(2) تفسير البرهان: ج 3 ص 64.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:141

اجل إن اللّه الذي منح الحرارة

للنّار و الاضاءة للقمر، و الاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار و انتزاعها من تلك الاشياء و تجريدها، و لهذا صحّ وصفه بمسبب الاسباب، و معطلها.

غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة و الآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لإبراهيم الحرية الكاملة في الدعوة و التبليغ، فقد قررت السلطة الحاكمة و بعد مشاورات و مداولات إبعاد «إبراهيم» و نفيه، و قد فتح هذا الأمر صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم، و تهيأت بذلك اسباب رحلته الى بلاد الشام و فلسطين و مصر و ارض الحجاز.

(1)

هجرة الخليل عليه السّلام:

لقد حكمت محكمة «بابل» على «إبراهيم» بالنفي و الإبعاد من وطنه، و لهذا اضطرّ عليه السّلام ان يغادر مسقط رأسه، و يتوجه صوب فلسطين و مصر، و هناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك. البقاع و ترحيبهم الحار به و نعم بهداياهم التي كان من جملتها جارية تدعى «هاجر».

و كانت زوجته «سارة» لم ترزق بولد الى ذلك الحين، فحركت هذه الحادثة عواطفها و مشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم و لذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يرزق منها بولد، تقرّبه عينه و تزدهر به حياته.

فكان ذلك، و ولدت «هاجر» لإبراهيم ولدا ذكرا سمي باسماعيل، و لم يمض شي ء من الزمان حتى حبلت سارة هي أيضا و ولدت- بفضل اللّه و لطفه- ولدا سمي باسحاق «1».

(2) و بعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى «إبراهيم» بان يذهب بإسماعيل و أمه «هاجر» إلى جنوب الشام (أي ارض مكة) و يسكنهما هناك في واد غير معروف الى ذلك الحين ... واد لم يسكنه أحد بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 118 و 119.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:142

الذاهبة من

الشام الى اليمن، و العائدة منها الى الشام، بعض الوقت ثم ترحل سريعا، و أما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة، خالية عن أي ساكن مقيم.

(1) لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لامرأة عاشت في ديار العمالقة و ألفت حياتهم و حضارتهم، و ترفهم و بذخهم.

فالحرارة اللاهبة و الرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين.

و إبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالة من التفكير و الدهشة لهذا الأمر، و لهذا فإنّه فيما كان عازما على ترك زوجته «هاجر» و ولده «إسماعيل» في ذلك الواد قال لزوجته «هاجر» و عيناه تدمعان: «إن الذي أمرني أن اضعكم في هذا المكان هو الذي يكفيكم».

ثمّ قال في ضراعة خاصة: «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» «1».

و عند ما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت إليهما و قال داعيا: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «2».

إن هذا السفرة و الهجرة و إن كانت في ظاهرها امرا صعبا، و عملية لا تطاق، إلا أن نتائجها الكبرى التي ظهرت في ما بعد أوضحت و بيّنت أهميّة هذا العمل، لأنّ بناء الكعبة، و تأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد، و رفع راية التوحيد في تلك الربوع، و خلق نواة نهضة، عميقة، دينية، انبثقت على يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم، كل

ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

______________________________

(1) البقرة: 126

(2) إبراهيم: 37.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:143

(1)

عين زمزم كيف ظهرت؟

لقد غادر «إبراهيم» عليه السّلام أرض مكة تاركا زوجته و ولده «إسماعيل» بعيون دامعة، و قلب يملئوه الرضا بقضاء اللّه و الامل بلطفه و عنايته.

فلم تمض مدة إلا و نفد ما ترك عندهما من طعام و شراب، و جف اللبن في ثديي «هاجر»، و تدهورت أحوال الرضيع «إسماعيل»، و كانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره، و هي تشاهد حال وليدها الذي قد أخذ العطش و الجوع منه مأخذا.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتى وصلت إلى جبل «الصفا» فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل «مروة»، فاسرعت إليه مهرولة، غيران الذي رأته و ظنته ماء لم يكن الّا السراب الخادع، فزادها ذلك جزعا و حزنا على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب و الاياب الى الصفا و المروة أملا في أن تجد الماء و لكن بعد هذا السعي المتكرر، و الذهاب و الاياب المتعدد بين الصفا و المروة عادت الى وليدها قانطة يائسة.

(2) كانت أنفاس الرضيع الظامئ و دقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل و اشرفت على النهاية، و لم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادرا على البكاء و لا حتى على الانين.

و لكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله و حبيبه «إبراهيم»، اذ لاحظت هاجر الماء الزلال و هو ينبع من تحت اقدام «اسماعيل».

فسرت تلك الام المضطربة- التي كانت تلاحظ وليدها و هو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته، و كانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشا، و جهدا- سرورا عظيما بمنظر الماء، و برق في عينيها بريق الحياة، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق، فشربت

من ذلك الماء العذب، و سقت منه رضيعها الظامئ، و تقشعت بلطف اللّه و عنايته و بما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس، و سحب القنوط التي تلبدت و خيمت على حياتها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:144

(1) و لقد ادى ظهور هذه العين التي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة و تحلق فوق تلك البقعة التي لم يعهد أن حلّقت عليها الطيور، و ارتادتها الحمائم، و هذا هو ما دفع بجرهم و هي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت تساقط الطيور و تحليقها، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر و يعرفا حقيقة الأمر، و بعد بحث طويل و كثير، انتهيا الى حيث حلت الرحمة الالهية، و عند ما اقتربا إلى «هاجر» و شاهدا بام عينيهما «امرأة» و «طفلا» عند عين من الماء الزلال الذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا، و أخبرا كبار القبيلة بما شاهداه، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة قد إلى البقعة المباركة، و تخيم عند تلك العين لتطرد عن «هاجر» و ولدها مرارة الغربة، و وحشة الوحدة، و قد سبب نمو ذلك الوليد المبارك و رشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا من تلك القبيلة، و يصاهرهم، و بذلك يحظى بحمايتهم له، و ينعم بدفاعهم و رعايتهم و محبتهم له.

فانه لم يمض زمان حتى أختار «إسماعيل» زوجة من هذه القبيلة، و لهذا ينتمي ابناء «إسماعيل» الى هذه القبيلة من جهة الام.

(2)

تجديد اللقاء:

كان إبراهيم عليه السّلام بعد أن ترك زوجته «هاجر» و ولده «إسماعيل» في ارض «مكة» بأمر اللّه، يتردد على

ولده بين فينة و اخرى.

و في احدى سفراته و لعلّها السفرة الاولى دخل «مكة» فلم يجد ولده «إسماعيل» في بيته، و كان ولده الذي أصبح رجلا قويا، قد تزوج بامرأة من جرهم.

فسأل «إبراهيم» زوجته قائلا: اين زوجك؟ فقالت: خرج يتصيّد، فقال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: ليس عندي شي ء و ما عندي أحد، فقال لها إبراهيم: «اذا جاء زوجك فأقرئيه السلام و قولي له: فليغيّر عتبة بابه».

سيد المرسلين ،ج 1،ص:145

و ذهب إبراهيم عليه السّلام منزعجا من معاملة زوجة ابنه «إسماعيل» له و قد قال لها ما قال.

(1) و لمّا جاء إسماعيل عليه السّلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته: هل جاءك احد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا و كذا كالمستخفّة بشأنه، قال: فما ذا قال لك: قالت: قال لي أقرئي زوجك السلام و قولي له: فليغيّر عتبة بابه!!

فطلقها و تزوج اخرى، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة و شريكة حياة «1»

و قد يتساءل أحد: لما ذا لم يمكث إبراهيم عليه السّلام هناك قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد، و قد قطع تلك المسافة الطويلة، و كيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة بأن يعود إليها سريعا، ففعل ذلك حتى لا يخلف. و هذا من اخلاق الأنبياء.

ثمّ إن «إبراهيم» سافر مرة اخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه، و ليا بني الكعبة التي تهدمت في طوفان «نوح»، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

(2) إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض «مكة» قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة

قبيل وفاة إبراهيم عليه السّلام، لأن إبراهيم دعا بعيد فراغه من بناء الكعبة قائلا:

«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» «2» على حين دعا عند نزوله مع زوجته، و ابنه إسماعيل في تلك الأرض قائلا:

«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» «3».

و هذا يكشف عن ان مكة تحولت الى مدينة عامرة في حياة الخليل

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 112 نقلا عن قصص الأنبياء.

(2) إبراهيم: 35.

(3) البقرة: 126.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:146

عليه السّلام، بعد ان كانت صحراء قاحلة، و واد غير ذي زرع.

(1) و لقد كان من المستحسن استكمالا لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة، و نستعرض التاريخ الاجمالى لذلك، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك و عمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز و اشهر أجداد رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في التاريخ.

(2)

2- قصيّ بن كلاب:

إن أسلاف الرّسول العظيم صلّى اللّه عليه و آله هم على التوالي: عبد اللّه، عبد المطّلب، هاشم، عبد مناف، قصيّ، كلاب، مرّة، كعب، لؤيّ، غالب، فهر، مالك، النضر، كنانة، خزيمة، مدركة، إلياس، مضر، نزار، معدّ، عدنان «1».

من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله إلى عدنان هو ما ذكر، فلا خلاف فيه، إنما وقع الخلاف في عدد، و اسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيل عليه السّلام، و لذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذ قال: «إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا» «2» هذا مضافا إلى أن النبيّ نفسه كان اذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك، و نهى عن ذكر من

بعده الى إسماعيل، و قد روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: كذب النسّابون.

و لهذا فإننا نكتفي بذكر من اتفق عليه، و نعمد الى الحديث عن حياة كل واحد منهم.

(3) و لقد كان كل من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين، و مشهورين في تاريخ

______________________________

(1) التاريخ الكامل: ج 2 ص 2- 21.

(2) بحار الأنوار: ج 15 ص 105 عن مناقب ابن شهرآشوب، و كشف الغمّة: ج 1 ص 15.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:147

العرب، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام، و لهذا فاننا نقف عند حياة «قصيّ» و من لحقه إلى والد النبيّ «عبد اللّه» و نعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده و أسلافه صلّى اللّه عليه و آله ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة «1».

(1) أمّا «قصيّ» و هو الجدّ الرابع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فامّه «فاطمة» التي تزوجت برجل من بني كلاب و رزقت منه بولدين هما: «زهرة» و «قصي» إلّا أن زوج فاطمة قد توفي، و هذا الاخير لم يزل في المهد، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة، و سافرت معه الى الشام، و بقي «قصيّ» يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتى وقع خلاف بين قصيّ و قوم ربيعة، و اشتد ذلك الخلاف حتى انتهى إلى طرده من قبيلتهم، ممّا أحزن ذلك امّه، و اضطرت الى إرجاعه الى «مكة».

و هكذا اتت به يد القدر إلى «مكة»، و سبّبت قابلياته الكامنة التي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة و بخاصة قريش.

و سرعان ما احتلّ قصيّ هذه المقامات العالية، و شغل المناصب الرفيعة، مثل حكومة «مكة» و زعامة قريش، و سدانة الكعبة المعظمة، و صار رئيس تلك الديار دون

منازع.

و لقد ترك (قصيّ) من بعده آثارا كثيرة و عديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن و البيوت حول الكعبة المعظمة، و تأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور و حل المشاكل يدعى بدار الندوة.

و قد توفي «قصيّ» في القرن الخامس الميلادي و خلف من بعده ولدين هما:

«عبد الدار» و «عبد مناف».

(2)

3- عبد مناف:

و هو الجدّ الثالث لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اسمه «المغيرة» و لقبه

______________________________

(1) لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع: ج 2 ص 15- 21.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:148

«قمر البطحاء»، و كان أصغر من اخيه «عبد الدار» إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه، و كان شعاره التقوى، و دعوة الناس الى حسن السيرة و صلة الرحم، بيد انه مع ما كان له من المكانة القوية لم ينافس اخاه «عبد الدار» في المناصب العالية التي كان يشغلها.

فقد كانت الزعامة لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما «قصيّ».

و لكن بعد وفاة هذين الأخوين وقع الخصام و التنازع بين أبنائهما على المناصب، و انتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب و المقامات، و تقرر ان يتولى ابناء عبد الدار سدانة الكعبة، و زعامة دار الندوة، و يتولى ابناء عبد مناف سقاية الحجيج و ضيافتهم و وفادتهم.

و قد بقي هذا التقسيم المتفق عليه ساري المفعول الى زمن ظهور الإسلام «1».

(1)

4- هاشم:
اشارة

و هو الجدّ الثاني لنبي الإسلام و اسمه «عمرو» و لقبه «العلاء» و هو الذي ولد مع «عبد شمس» توأمين، و أخواه الآخران هما: «المطلب» و «نوفل».

هذا و ثمة خلاف بين أرباب السير و كتاب التاريخ في: أن هاشما و عبد شمس كانا توأمين، و أن هاشما ولد و اصبع واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة «عبد شمس» و قد نزعت بسيلان دم، فتشاءم الناس لذلك «2» يقول الحلبي في سيرته: فكانوا يقولون: سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني العباس

______________________________

(1) لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اسّست و رفع قواعدها بل حدث كل ذلك تدريجا بحكم المقتضيات و التطوّرات، و

كانت هذه المناصب التي استمرت الى زمن ظهور الإسلام عبارة عن:

1- سدانة الكعبة.

2- سقاية الحجيج.

3- رفادتهم و ضيافتهم.

4- زعامة المكيين و قيادة جيشهم. و لم يكن هذا الأخير منصبا ذا صبغة دينية.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 13.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:149

(و هم من أولاد هاشم) و بين بني أميّة (و هم من أولاد عبد شمس) «1».

(1) و كأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة و المؤسفة التي وقعت بين بني أميّة و ابناء علي عليه السّلام في حين أن تلك الحوادث الدامية التي تسببها بنو أميّة و اهرقت فيها دماء ذرية رسول اللّه و عترته الطاهرة، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين، و لكننا لا ندري لما ذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية و لم يشر إليها مطلقا؟!

ثم ان من خصوصيات أبناء «عبد مناف» حسبما يستفاد من الأدب الجاهلي، و ما جاء فيه من أشعار، أنهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم- مثلا- توفي في «غزة» و عبد شمس مات في مكة، و نوفل في ارض العراق، و المطلب في ارض اليمن «2».

(2) و كان من سجايا هاشم و اخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هلّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته، و أسند ظهره الى الكعبة المشرفة، و خطب قائلا:

«يا معشر قريش إنكم سادة العرب و أحسنها وجوها، و أعظمها احلاما (اي عقولا) و أوسط العرب (أي أشرفها) أنسابا، و أقرب العرب بالعرب أرحاما.

يا معشر قريش إنكم جيران بيت اللّه تعالى اكرمكم اللّه تعالى بولايته، و خصكم بجواره، دون بني إسماعيل، و انه ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه و أحق من اكرم أضياف اللّه انتم، فاكرموا ضيفه و زوّاره، فانهم يأتون شعثا غبرا من

كل بلد على ضوامر كالقداح، فاكرموا ضيفه و زوّار بيته، فو ربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، و أنا مخرج من طيب مالي و حلاله ما لم يقطع فيه رحم، و لم يؤخذ بظلم، و لم يدخل فيه حرام، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعل، و أسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه و تقويتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما، و لم يقطع فيه رحم، و لم يؤخذ غصبا» «3».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 4.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 5.

(3) السيرة الحلبية: ج 1 ص 6.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:150

(1) و لقد كانت زعامة «هاشم» و قيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي، و كان لها تأثير كبير في تحسين أوضاعهم.

و لقد سبّب كرمه و ما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة، و بالتالي ادى الى عدم احساسهم بالقحط، و آثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة و اعماله النافعة جدا لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير «غسان» من المعاهدة، الأمر الذي دفع بأخيه «عبد شمس» إلى أن يعاهد أمير الحبشة، و بأخويه الآخرين «المطلب» و «نوفل» الى ان يعاهدا أمير اليمن و ملك ايران تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان، من العدوان و التعرض.

و قد أزالت هذه المعاهدات الكثير من المشاكل، و كانت وراء ازدهار التجارة في «مكة المكرمة» حتى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ثم ان من أعمال «هاشم» و خطواته النافعة تأسيسه لرحلتي قريش اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم اذ يقول: «رحلة الشتاء و الصيف» و

هما رحلة إلى الشام، و كانت في الصيف، و رحلة الى اليمن، و كانت في الشتاء، و قد استمرت هذه السيرة حتى ما بعد ظهور الإسلام أيضا.

(2)

اميّة بن عبد شمس يحسد هاشما:

و لقد حسد «أميّة بن عبد شمس» أبن أخي هاشم عمّه «هاشما» على ما حظي به من المكانة و العظمة، و النفوذ الى قلوب الناس و جذبها نحوه بسبب خدماته و أياديه، و ما كان يقوم به من بذل و انفاق، و حاول جاهدا ان يقلده و يتشبه بهاشم في سلوكه و لكنه رغم كل ما قام به من جهود و محاولات لم يستطع أن يتشبه به و يتخذ سيرته، و كما لم يستطع بايقاعه و طعنه به ان يقلل من شأنه بل زاده رفعة و عظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب «أميّة» يزداد اشتعالا يوما بعد يوم، حتى

سيد المرسلين ،ج 1،ص:151

دفع به الى ان يدعو عمّه «هاشما» للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرئاسة و الزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن، و كانت عظمة «هاشم» و سموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه (اميّة) إلّا أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار (اميّة) بشرطين:

1- أن يعطي المغلوب خمسين من النياق سود الحدق تنحر بمكة.

2- جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.

(1) و من حسن الحظّ أن ذلك الكاهن نطق بمدح «هاشم» بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال: «و القمر الباهر، و الكوكب الزاهر، و الغمام الماطر ... لقد سبق هاشم اميّة إلى الماثر» الى آخر كلامه. و هكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها و أطعمها و اضطر أمية الى الجلاء عن مكة و العيش بالشام عشر سنين «1».

و قد استمرت آثار هذا الحسد التاريخي إلى 130 عاما

بعد ظهور الإسلام، و تسببت في جرائم و فجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم ان القصة السابقة مضافا الى انها تبين مبدأ العداوة بين الأمويين و الهاشميين تبيّن أيضا علل نفوذ الامويين في البيئة الشامية، و يتبين أن علاقات الأمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي التي مهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.

(2)

هاشم يتزوّج ...

كانت «سلمى» بنت «عمرو الخزرجي» امرأة شريفة في قومها، قد فارقت زوجها بطلاق، و كانت لا ترضى بالزواج من أحد، ولدى عودة «هاشم» من بعض أسفاره نزل في يثرب أياما فخطبها إلى والدها، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش، و لنبله و كرمه، و رضيت بالزواج منه بشرطين: أحدهما أن لا تلد ولدها

______________________________

(1) الكامل لابن الاثير: ج 2 ص 10، و السيرة الحلبية: ج 1 ص 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:152

إلّا في اهلها، و حسب هذا الاتفاق بقيت «سلمى» مع زوجها «هاشم» في مكة بعض الوقت حتى اذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت الى: «يثرب» و هناك وضعت ولدا اسموه «شيبة». و قد اشتهر في ما بعد به «عبد المطلب».

(1) و كتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشما لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه «المطلب»: يا أخي أدرك عبدك شيبة و لذلك سمّي شيبة بن هاشم: «عبد المطلب».

و قيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب، و ينتضلون بالسهام، و لما سبق أحدهم الآخرين في الرمي قال مفتخرا: «أنا ابن سيّد البطحاء» فسأله الرجل عن نسبه و ابيه فقال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف، فلما قدم الرجل مكة اخبر «المطلب» أخي «هاشم» بما سمعه و رآه، فاشتاق «المطلب» الى ابن أخيه فذهب الى المدينة،

و لما وقعت عيناه على ابن اخيه «شيبة» عرف شبه أخيه هاشم، و توسّم فيه ملامحه، ففاضت عيناه بالدموع، و تبادلا قبلات الشوق، و المحبة، و أراد أن ياخذه معه الى «مكة» و كانت أمه تمانع من ذلك، و لكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه الى «مكة» و اخيرا تحققت امنية العم فقد استطاع «المطلب» أن يحصل على اذن أمه، فاردفه خلفه و توجّه حدب «مكة» تدفعه رغبة طافحة الى إيصاله إلى والده هاشم.

(2) و فعلت شمس الحجاز. و اشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيّرت لون وجه شيبة و أبلت ثيابه، و لهذا ظنّ أهل «مكة» عند دخوله مع عمه «مكة» أنه غلام اقتناه «المطلب» فكان يقول بعضهم لبعض: هذا عبد المطلب، و كان المطلب ينفي هذا الأمر، و يقول: إنما هو ابن أخي هاشم و ما هو بعبدي، و لكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلته، و عرف «شيبة» بعبد المطلب «1».

و ربما يقال: أن سبب شهرته بهذا الاسم هو انه تربى و ترعرع في حجر عمّه

______________________________

(1) الكامل لابن الاثير: ج 2 ص 6، و تاريخ الطبري: ج 2 ص 8 و 9، السيرة الحلبية: ج 1 ص 6.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:153

«المطلب» و كانت العرب تسمي من يترعرع في حجر أحد و ينشأ تحت رعايته عبدا لذلك الشخص تقديرا لجهوده و تثمينا لرعايته.

(1)

5- عبد المطّلب:
اشارة

عبد المطّلب بن هاشم و هو الجدّ الأول للنبي صلّى اللّه عليه و آله كان رئيس قريش و زعيمها المعروف، و كانت له مواقف بارزة، و أعمال عظيمة في حياته، و حيث أن ما وقع من الحوادث في أيام حكمه يرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ الإسلام و لهذا

يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث و الوقائع. سيد المرسلين ج 1 153 5 - عبد المطلب: ..... ص : 153

شك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر- في المال- ببيئته و عاداتها، و تقاليدها، التي تصبغ فكره، بصبغة خاصة، و تطبع عقليته بطابع معين.

بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تأثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة و الشجاعة، و يصون نفسه من التلوث بشي ء من أدرانها و أقذارها.

و بطل حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لأولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة، و سطورا لامعة تنبئ عن نفسيته القوية، و شخصيته الشامخة.

(2) فان الذي يعيش ثمانين عاما في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية، و معاقرة الخمر، و الربا، و قتل الأنفس البريئة، و الفحشاء حتى ان هذه الامور كانت من العادات و التقاليد الشائعة، و لكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته، و كان ينهى عن القتل و الخمر و الفحشاء، و يمنع عن الزواج بالمحارم، و الطواف بالبيت المعظم عريانا، و كان ملتزما بالوفاء بالعهد، و اداء النذر بلغ الأمر ما بلغ، لهو- حقا- نموذج صادق من الرجال الذين يندر وجودهم، و يقال نظيرهم في المجتمعات.

أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي، يجب ان يكون إنسانا طاهر السلوك، نقيّ الجيب منزها عن أي نوع من أنواع الانحطاط، و الفساد.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:154

(1) هذا و يستفاد من بعض قصصه و كلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه و اليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة، و كان يردّد دائما: «لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه، و تصيبه عقوبة ... و

اللّه ان وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه، و يعاقب فيها المسي ء باساءته» «1» اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة، فاذا خرج و لم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

و لقد كان «حرب بن أميّة» من أقربائه، و كان من اعيان قريش و وجوهها أيضا، و كان يجاور يهوديا فاتفق أن وقع بينه و بين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة، و انتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من «حرب»، و لما علم «عبد المطّلب» بذلك قطع علاقته بحرب، و سعى في استحصال دية اليهودية المقتول من «حرب» و دفعها إلى اولياء القتيل، و هذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين و المظلومين و حبه للحق و العدل.

(2)

حفر زمزم:

منذ أن ظهرت عين زمزم نزل عندها قبيلة جرهم التي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة، و كانت تستفيد من مياه تلك العين، و لكن مع ازدهار أمر التجارة في «مكة»، و اقبال الناس على الشهوات و المفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين، و نضوب مائها بالمرة «2».

و يقال: أن قبيلة «جرهم» لما واجهت تهديدا من جانب قبيلة خزاعة

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 4.

(2) لا ريب أنّ تفشي الذنوب و المعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا و الكوارث و لا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب و القحط و المجاعات، و هذه الحقيقة مضافا الى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم و السنّة الشريفة، راجع سورة الاعراف؛ الآية 96.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:155

و اضطرت إلى مغادرة تلك الديار، و ايقن زعيمها «مضاض بن عمرو» بانه سرعان ما يفقد

زعامته، و يزول حكمه و سلطانه بفعل هجوم العدو، امر بان يلقى الغزالان الذهبيان، و السيوف الغالية الثمن التي كانت قد اهديت الى الكعبة، في قعر بئر زمزم، ثم يملأ البئر بالتراب و يعفى اثره إعفاء كاملا حتى لا يهتدي خصومه إلى مكانه ابدا، حتى اذا عادت إليه زعامته و عاد الى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين، و استفاد منه. ثم نشب القتال بين «جرهم» و «خزاعة» و اضطرت «جرهم» و كثير من ابناء اسماعيل الى مغادرة «مكة المكرمة»، و التوجه إلى ارض اليمن، و لم يرجع أحد منهم الى «مكة» ابدا.

(1) و وقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد «خزاعة» حتى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب (الجدّ الرابع لنبي الإسلام) إلى سدة الزعامة و الرئاسة، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة الى «عبد المطلب» فعزم على أن يحفر بئر «زمزم» من جديد، و لكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتى اذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهي ء هو و ولده «حارث» مقدمات ذلك.

و حيث أنه «يوجد في المجتمع دائما من يتحجّج و يجادل- بسبب سلبيته- ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد، انبرى منافسوا «عبد المطلب» إلى الاعتراض على قراره هذا و بالتالى التفرد باعادة حفر بئر زمزم، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم، و قالوا له: «إنها بئر أبينا اسماعيل، و ان لنا فيها حقا فاشركنا معك» و لكن «عبد المطلب» رفض هذا الطلب لبعض الاسباب، فقد كان «عبد المطلب» يريد ان يتفرد بحفر زمزم، و يسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع و لا منازع، و يحول بذلك دون المتاجرة به و لم يكن

ليتسنى له ذلك إلّا إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

(2) و قد آل هذا الأمر الى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا الى كاهن من كهنة العرب و عقلائهم و القبول بما يقضي به، فتوجه «عبد المطلب» و منافسوه الى ذلك الكاهن و قطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز و الشام، و في منتصف الطريق أصابهم جهد و عطش شديدان، و لمّا تيقّنوا بالهلاك، و قرب الوفاة اخذوا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:156

يفكرون في كيفية الدفن اذا هلكوا و ماتوا، فاقترح «عبد المطلب» ان يبادر كل واحد إلى حفر حفرته حتى إذا أدركه الموت دفنه الآخرون فيها، فاذا استمر بهم العطش و هلكوا يكون الجميع (ما عدا من بقي منهم على قيد الحياة) قد اقبروا، و لم تغد أبدانهم طعمة للوحوش و الطيور فأيّد الجميع هذا الاقتراح «1»، و احتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه، و جلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة، و عيون ذابلة، و فجأة صاح عبد المطلب: «و اللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض و نبتغي لأنفسنا لعجز» و حثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت، فركب عبد المطلب و ركب مرافقوه، و اخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين، و لم يمض شي ء حتى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم، و عادوا من حيث جاءوا و هم يقولون لعبد المطلب: «قد و اللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب، و اللّه لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا و تنازلوا له لينفرد بحفر زمزم

و يكون إليه أمره دون منازع، و لا شريك» «2».

(1) فعمد «عبد المطلب» و ولده الوحيد الحارث الى حفر البئر، و نشأ من ذلك تل هائل من التراب حول البئر، و فجأة عثر «عبد المطلب» على الغزالين المصاغين من الذهب، و السيوف المرصعة المهداة الى الكعبة، فشبّ نزاع آخر بين «قريش» و بين «عبد المطلب» على هذه الاشياء، و اعتبرت «قريش» نفسها شريكة في هذا الكنز، و تقرر ان يلجئوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة، فخرجت القرعة باسم «عبد المطلب»، و صار جميع ذلك الكنز إليه دون «قريش»، و لكن عبد المطلب خصّ بتلك الاشياء الكعبة فصنع من السيوف بابا للكعبة، و علق الغزالين الذهبيّين فيها.

______________________________

(1) و لعلّ احجام الآخرين من الإدلاء بالاقتراح و هو اليأس المطلق من تحصيل الماء.

(2) تاريخ اليعقوبي: ج 1 ص 206، و السيرة النبوية: ج 1 ص 142- 147.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:157

(1)

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد و النذر:

رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة، و الخصال المحبّبة.

و للمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم، فاذا عقدوا عهودا مع القبائل العربية أوثقوها بالأيمان، المغلظة المؤكدة، و التزموا بها إلى الاخير، و ربما نذروا النذور الثقيلة و اجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة و ثمن.

و لقد أحسّ «عبد المطلب» عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده، و لهذا نذر اذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قربانا للكعبة و لم يطلع احدا على نذره هذا.

(2) و لم يمض زمان الّا و بلغ عدد ابنائه عشرة، و بذلك حان أوان وفائه بنذره الذي نذر، و هو ان يذبح احدهم قربانا للكعبة.

و لا شك

ان تصور مسألة كهذه فضلا عن تنفيذه كان امرا في غاية الصعوبة على عبد المطلب، و لكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الأمر فيكون من الناقضين للعهد، التاركين لاداء النذر، و من هنا قرر أن يشاور أبناءه في هذا الأمر، و بعد ان يكسب رضاهم و موافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة «1».

و تمت عملية القرعة، فاصابت «عبد اللّه» والد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه، و توجّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

و لما علمت قريش رجالها و نساؤها بقصة النذر المذكور و ما آلت إليه عملية القرعة حزن الناس و الشباب خاصة لذلك حزنا شديدا و بكوا و ضجوا، و قال أحدهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

______________________________

(1) هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين و كتّاب السيرة، و هذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان «عبد المطلب» و قوّة عزمه، و صلابة إرادته، و تبين جيّدا كم كان مصرّا على الوفاء بعهوده و التزاماته.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:158

(1) فاقترحت قريش على عبد المطلب بان يفدي «عبد اللّه»، و اظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك، فتحيّر «عبد المطلب» تجاه تلك المشاعر الساخنة، و الاعتراضات القوية، و راح يفكّر في عدم الوفاء بنذره، و يفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة، فقال له أحدهم: لا تفعل و انطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا.

فوافق «عبد المطلب» و اكابر قريش على هذا الاقتراح، و توجهوا بأجمعهم نحو «يثرب» قاصدين ذلك الكاهن، و لما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوما واحدا، و لما

كان اليوم الثاني دخلوا عليه فقال لهم: كم دية المرء عندكم؟

قالوا: عشر من الابل.

فقال: ارجعوا إلى بلادكم، و قرّبوا عشرا من الإبل و اضربوا عليها و على صاحبكم «أي عبد اللّه» القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشرا، حتى يرضى ربكم، و إن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم و نجا صاحبكم و كانت عنه فداء.

(2) فهدّأ اقتراح الكاهن لهيب المشاعر الملتهبة لدى الناس، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شابا مثل «عبد اللّه» يتشحط في دمه.

و لهذا فانهم فور عودتهم إلى «مكة» بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس و زادوا عشرا عشرا حتى اذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل، و نجا «عبد اللّه» من الذبح، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس، بيد أن «عبد المطلب» طلب أن تعاد عملية القرعة قائلا: «لا و اللّه حتى أضرب ثلاثا»، و أنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه، و لكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابل ثم تركت لا يمنع عنها انسان و لا سبع «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 153، و بحار الانوار: ج 16 ص 74، و قد نقل عن النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أنا ابن الذبيحين» يقصد بالأول جدّه إسماعيل عليه السّلام و الثاني أباه «عبد اللّه» الذي كاد أن ينحر و لكنه نجا من الذبح كما نجا جدّه إسماعيل عليه السّلام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:159

(1)

حادثة عام الفيل:
اشارة

عند ما يحدث أمر عظيم في أمّة من الامم و خاصة إذا كان ذا جذور دينية او ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما

يتحول- بفعل اعجاب الناس عامة به- الى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبي موسى يعتبر مبدأ للتاريخ عند اليهود، و مولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى، و الهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

و هذا يعني أن كل أمّة من الامم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الذي تعتبره بداية تاريخها.

و أحيانا تتخذ الامم و الشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسيا للتاريخ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب و شعوبه، فقد اتخذت الثورة الفرنسية، و ثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا، و الاتحاد السوفياتي، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.

(2) و لكن الشعوب غير المتحضرة التي لم تمتلك مثل تلك الثورات و الحركات السياسية و الدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات و التحوّلات الاجتماعية، و هذا ما حدث عند العرب و قبل الإسلام.

فانهم- بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة- اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة و المرة- كالحرب و الزلزال، و المجاعة و القحط او الحوادث غير الطبيعية، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

و لهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب، آخرها: ضجة عام الفيل و هجوم «أبرهة» على «مكة» بهدف الكعبة المشرفة، التي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ- بقية الحوادث و الوقائع اللاحقة.

و نظرا لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الذي وقع عام 570 و اتفقت فيه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:160

ولادة النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله فاننا نتناول هذه القصة بالعرض و التحليل:

(1)

ما هي عوامل هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة، و سوف ننقل- هنا- الآيات التي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.

يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة

ان ملك اليمن «تبان أسعد» والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب (المدينة)، و قد كانت ل «يثرب» في ذلك الوقت مكانة دينية مرموقة فقد قطنها جماعة من اليهود «1»، و بنوا فيها عددا من المعابد و الهياكل، فأكرم اليهود مقدم ملك اليمن، و دعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين، و المشركين العرب.

و لقد تركت دعوتهم و ما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير و اختار اليهودية، و اجتهد في بثها و نشرها. ثم ملك من بعده ابنه «ذو نواس» الذي جدّ في بث اليهودية و التحق به جماعة خوفا.

بيد أن اهل نجران الذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم و ترك المسيحية و اعتناق اليهودية، و قاوموا «ذي نواس» مقاومة شديدة، فشق ذلك على ملك اليمن، و اغضبه فتوجه احد قادته الى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعسكر هذا الجيش على مشارف نجران، و احتفر قائده خندقا كبيرا، و اوقد فيه نارا عظيمة، و هدّد المتمردين بالاحراق بالنار.

و لكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية و اعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى، و استقبلوا الموت حرقا، و غدوا طعمة للنيران.

(2) يقول المؤرخ الإسلاميّ «ابن الاثير الجزري» بعد ذكر هذه القصة: لما قتل

______________________________

(1) وفاء الوفا: ج 1 ص 157، و السيرة النبوية: ج 1 ص 21 و 22.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:161

«ذو نواس» من قتل في الاخدود لاجل العود عن النصرانية أفلت منهم رجل يقال له «دوس» فقدم على «قيصر» فاستنصره على «ذي نواس» و جنوده و اخبره بما فعل بهم، فقال له

قيصر: بعدت بلادك عنا، و لكن سأكتب الى النجاشي ملك الحبشة و هو على هذا الدين و قريب منكم، فكتب قيصر الى ملك الحبشة يأمره بنصره، فارسل معه ملك الحبشة سبعين ألفا، و أمّر عليهم رجلا يقال له «أرياط» و في جنوده «ابرهة الأشرم» فساروا في البحر حتى نزلوا بساحل اليمن، و جمع «ذو نواس» جنوده فاجتمعوا و كتب الى زعماء قومه من اهل اليمن يدعوهم الى الاجتماع لمقاتلة عدوّهم، فلم يجيبوه، فانهارت حكومته أمام حملة جيش الحبشة، و سيطر الاحباش على ارض اليمن، و جعل «أبرهة» اميرا عليها من قبل «النجاشي» بعد مقتل «ارياط» على يد «أبرهة» في صراع على السلطة «1».

و هذه القصة هي التي تعرف في القرآن الكريم بقصة «اصحاب الاخدود» و قد جاء ذكرها في سورة البروج اذ يقول اللّه تعالى: «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» «2».

و قد ذكر المفسرون هذه القصة في شأن نزول هذه الآيات بصورة مختلفة «3».

(1) ثم ان «ابرهة» الذي اسكره الانتصار و الغلبة على منافسه، و تمادى في الشهوات بنى في صنعاء كنيسة عظيمة تقرّبا الى ملك الحبشة، و ارضاء له ثم كتب كتابا الى «النجاشي» ملك الحبشة يقول فيه: «إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، و لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 1 ص 260- 263، و السيرة النبوية: ج 1 ص 31- 37.

(2) البروج: 4- 9.

(3) راجع مجمع

البيان: ج 5 ص 464- 466.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:162

(1) و قد أدى معرفة العرب بما جاء في هذا الكتاب إلى ردّة فعل شديدة لديهم، الى درجة أن امرأة من قبيلة «بني افقم» تسللت ذات ليلة الى تلك الكنيسة و أحدثت فيها، فأثار هذا العمل الذي كان يدل على مدى ازدراء العرب بكنيسة «أبرهة» و احتقارهم لها، غضب «أبرهة»، هذا من جانب و من جانب آخر كان «ابرهة» كلما زاد في تزيين تلك الكنيسة زاد ذلك من حقد العرب، و حنقهم عليه، و احتقارهم لكنيسته، فتسبب كل ذلك في أن يحلف أبرهة على السير إلى الكعبة و هدمها، فسيّر لذلك جيشا عظيما، و قدّم أمامه الفيلة المقاتلة، و خرج متوجها صوب مكة و هو يعتزم هدم الكعبة بيت اللّه الحرام!!

فلما عرف زعماء العرب بغايته، و ادركوا خطورة ذلك العمل و ايقنوا بان استقلال العرب و سيادتهم تتعرض لخطر السقوط، لم يمنعهم ما عاهدوه من قوة «ابرهة» و انتصاراته بل خرج بعضهم الى حربه فقاتلوه بكل شجاعة و بسالة مدفوعين بدافع الغيرة و الحفاظ على الشرف المهدّد بالخطر.

(2) فقد خرج «ذو نفر» و هو من أشراف أهل اليمن و ملوكهم، و دعا قومه و من أجابه من سائر العرب الى حرب «أبرهة» و لكن سرعان ما تغلّب «ابرهة» عليه بجيشه الكبير، ثم خرج له بعد ذلك «نفيل بن حبيب» و بقي يقاتله مدة طويلة فهزمه «ابرهة» و اخذ له اسيرا، فطلب «نفيل» العفو منه فاشترط عليه أن يدلّه على طريق مكة ليعفو عنه، فدلّه نفيل حتى الطائف، و اوكل الدلالة على بقية الطريق الى شخص آخر يدعى «ابو رغال» فدلّه أبو رغال على الطريق حتى أرض «المغمّس» و

هي منطقة قريبة من «مكة» فنزل «أبرهة» و جيشه بالمغمّس، فارسل أبرهة رجلا من الحبشة- على عادته- الى ضواحي «مكة» فاستولى على أموال قريش من الإبل و الغنم فساق إليه في جملة ذلك مائتي بعير لعبد المطلب، ثم أمر رجلا آخر يدعى «حناطة» ليدخل «مكة» و يبلغ أهلها عنه ما جاء من اجله، و هو هدم البيت المحرّم الكعبة المعظمة، و قال له: سل عن سيد اهل هذا البلد و شريفها، ثم قل له: ان الملك يقول لك: «إني لم آت لحربكم، انما جئت لهدم هذا البيت، فان تعرّضوا دونه بحرب فلا حاجة لي في

سيد المرسلين ،ج 1،ص:163

دمائكم» فإن هو لم يرد حربي فأتني به.

(1) فدخل «حناطة» مكة و لما سأل عن سيد قريش و شريفها، و قد كانت قبائل قريش المختلفة قد تجمعت في اطراف البلد جماعات جماعات تتذاكر في امر «ابرهة» و ما يجب اتخاذه من موقف تجاهه.

فدلّوه على بيت «عبد المطلب»، و لما دخل على «عبد المطلب» أبلغه مقالة «أبرهة» فقال له عبد المطلب: «و اللّه ما نريد حربه، و ما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت اللّه الحرام، و بيت خليله إبراهيم عليه السّلام، فان يمنعه منه فهو بيته و حرمه، و ان يخلي بينه و بينه فو اللّه ما عندنا دفع عنه»؟

فسرّ «حناطة» رسول ابرهة بمنطق عبد المطلب و مقالته التي كانت تحكي عن قوة ايمانه، و عن روحه المسالمة فطلب منه أن يصحبه الى «أبرهة»، قائلا:

فانطلق معي إليه، فانه قد امرني ان آتيه بك.

(2)

عبد المطّلب يذهب الى معسكر أبرهة:

فتوجه عبد المطلب هو و جماعة من ولده إلى معسكر ابرهة، فاعجب «أبرهة» بوقار رئيس قريش و هيبته إعجابا شديدا، و بهر به حتى أنه نزل

له من تخته اجلالا، و اخذ بيده، و اجلسه الى جنبه، فسأله عن طريق مترجمه متأدبا: ما الذي اتى به و ما ذا يريد؟ فاجابه عبد المطلب قائلا: حاجتي أن يردّ الملك عليّ مائتي بعير أصابها لي.

فقال «أبرهة» لترجمانه: قل له: قد كنت اعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أ تكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، و تترك بيتا هو دينك و دين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟!

فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، و ان للبيت ربا سيمنعه، فقال «أبرهة» مغترا بنفسه: ما كان ليمتنع مني.

ثم أمر بان ترد الابل إلى أصحابها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:164

(1)

انتظار قريش:

و لقد انتظرت قريش عودة «عبد المطلب» من معسكر «أبرهة» بفارغ الصبر لتعرف نتيجة ما دار بينه و بين أبرهة، و عند ما عاد «عبد المطلب» اخبرهم الخبر، و امرهم بالخروج معه من مكة، و التحرز في رءوس الجبال من معرّة الجيش فخرجوا الى الشعاب، و الجبال، ثم لما كان الليل نزل عبد المطلب مع جماعة من قريش الى الكعبة و اخذ بحلقة بابها يدعون اللّه و يستنصرونه على أبرهة و جنده و قال «عبد المطلب» مناجيا اللّه سبحانه: «اللّهم أنت أنيس المستوحشين و لا وحشة معك فالبيت، بيتك و الحرم حرمك و الدار دارك و نحن جيرانك تمنع عنه ما تشاء و رب الدار أولى بالدار» ثم قال:

لا همّ إن «1» العبد يمنع رحله فامنع حلالك «2»

لا يغلبنّ صليبهم و محالهم عدوا محالك «3» و قال أيضا:

يا ربّ لا أرجو لهم سواكايا ربّ فامنع منهمو حماكا

إن عدوّ البيت من عاداكاامنعهم أن يخربوا فناكا ثم انه ترك حلقة الباب، و لجأ الى الجبل لينظروا ما

سيجري.

(2) و في الصباح و عند ما كان «أبرهة» و جنده يستعدون للتوجه الى «مكة»، و اذا بأسراب من الطيور تظهر من جهة البحر يحمل كل واحد منها ثلاثة احجار، حجر في منقاره، و حجرين في رجليه، فاظلم سماء الجيش بتحليق تلك الطيور فوق رءوس الجند، و تركت تلك الاحجار الصغيرة الحقيرة في ظاهرها اثرها العجيب فقد رجمت تلك الطيور جنود «ابرهة» بتلك الاحجار بامر اللّه، فكانت لا تصيب منهم أحدا إلّا تحطم راسه، و تمزق لحم بدنه، و هوى صريعا،

______________________________

(1) لاهم أصلها: اللّهم و العرب تحذف الالف و اللام و تكتفي بما بقي.

(2) الحلال جمع حلة و هي جماعة البيوت.

(3) المحال: القوّة و الشدّة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:165

و هلك من توه، فاصابت واحدة من تلك الاحجار رأس «ابرهة» نفسه فارتعدت فرائصه و ايقن بغضب اللّه و سخطه عليه، فنظر الى جنوده و هم أشلاء مبثوثون هنا و هناك على الأرض كورق الشجر في فصل الخريف، فصاح بمن لم يزل على قيد الحياة من جنده بامرهم بأن يتهيّأ و العودة الى اليمن، من حيث أتوا، فاخذ بقية الجند طريق اليمن هاربين، غير أن هذه البقية قد هلكت شيئا فشيئا في أثناء الطريق حتى أن أبرهة نفسه بعد أن لم يصل الى صنعاء إلا بعد ان تفرّق لحم بدنه، و سقطت اعضاؤه و جوارحه و مات بصورة عجيبة.

(1) و قد دوّى صوت هذه الواقعة العجيبة و الرهيبة في العالم آنذاك، و قد ذكرها القرآن الكريم في سورة الفيل اذ يقول تعالى: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ».

و ما

ذكرناه هنا- في هذه الصفحات- ليس هو في الحقيقة إلّا خلاصة ما ورد في كتب التاريخ الإسلامي، و صرح به القرآن الكريم «1».

و استكمالا لهذا البحث نعمد هنا إلى دراسة نظرية المفسر المصري الكبير الشيخ «محمّد عبده» و العلامة المعروف الدكتور «هيكل» وزير الثقافة المصري السابق في هذا المجال.

(2)

كلمة حول المعجزة:

لقد أوجد التقدم العلميّ الأخير في مختلف مجالات العلوم الطبيعية و الفضائية، و ما استلزم ذلك من تهافت طائفة كثيرة من الفرضيات، ضجة عجيبة في الغرب، فمع أن جميع تلك التطورات كانت مجرد تطورات علمية تجري في مجال المسائل الطبيعية أو الفلكية، و لم يكن لها اية صلة بالمعتقدات الدينية

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 43- 62، و الكامل في التاريخ: ج 1 ص 260- 262، و بحار الأنوار: ج 5 ص 130- 146.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:166

فإنّ هذا التحول و التطور و تلك الكشوف أوجدت شكا عجيبا لدى بعض الناس انسحب على جميع المعارف و المعتقدات الدينية الموروثة على وجه الاطلاق!

(1) و السرّ في ذلك هو أن العلماء رأوا بأن الفرضيات القديمة، التي بقيت تسيطر على الأوساط العلمية لمدة طويلة من الزمان، قد اصبحت اليوم عرضة للبطلان و السقوط تحت مطارق التجربة و بواسطة الاختبارات العلميّة، و التحقيقات المختبرية، فلم يعد- بعد هذا- مجال للقول بفرضية الافلاك التسعة التي طلع بها «بطلميوس»، و لا بفرضية مركزية الارض، و لا غيرها من عشرات الفرضيات، فقالوا في أنفسهم: و من أين ترى لا تكون بقية المعلومات و المعارف الدينية من هذا القبيل؟!

و قد تفاقم هذا النوع من الشك في قلوب جماعة من العلماء بالنسبة الى جميع المعتقدات و المعارف الدينية و نمى بشكل قويّ في فترة قصيرة، و عمّ

الاوساط العلمية كأيّ مرض!!

(2) هذا مضافا إلى أنّ محاكم التفتيش و تشدّد الكنيسة و أربابها كان لها النصيب الاكبر في ظهور هذه الحالة بل في نموّها، و اطرادها، لأن الكنيسة كانت تقضي على العلماء الذين نجحوا في اكتشاف القوانين العلمية تحت التعذيب و الاضطهاد القاسي بحجة أنها تخالف الكتاب المقدس، و تعارض مقرّرات الكنيسة!!

و ممّا لا يخفى أنّ مثل هذه الضغوط، و هذا الاضطهاد و التعجرف ما كان ليمرّ من دون حدوث ردة فعل، و قد كان من المتوقع منذ البداية أن العلماء في الغرب لو اتيحت لهم الفرصة لانتقموا من الدين، بسبب سوء تصرف الكنيسة، و سوء معاملتهم لهم خاصة، و للناس عامة.

(3) و قد حدث هذا فعلا فكلّما تقدم العلم خطوة، و اطّلع العلماء على العلاقات السائدة بين الكائنات الطبيعية، و اكتشفوا المزيد من الحقائق الكونية، و العلل الطبيعية لكثير من الحوادث و الظواهر المادية، و كذا علل الأمراض، قلّ اعتناؤهم بالقضايا الميتافيزيقية، و ما يدور حول المبدأ و المعاد و الافعال الخارقة للعادة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:167

كمعاجز الأنبياء، و ازداد عدد المنكرين لها و الشاكين فيها، و المترددين في قبولها يوما بعد يوم!!

(1) لقد تسبّب الغرور العلميّ الذي أصيب به العلماء في الغرب في أن ينظر بعض اولئك العلماء الى جميع القضايا الدينية بعين الازدراء و التحقير، و أن يمتنعوا حتى عن التحدث في المعاجز التي يخبر بها التوراة و الانجيل، و يعتبروا عصى موسى عليه السّلام، و يده البيضاء، و نفخة المسيح عليه السّلام التي كانت تشفي المرضى و تحيي الموتى من الأساطير، و راحوا يتساءلون- في عجب و استنكار-:

و هل يمكن أن تتحول قطعة من الخشب اليابس إلى أفعى، أو ثعبان، أو

هل يمكن ان تعود الحياة إلى ميّت بكلمات من الدعاء؟

(2) لقد تصور العلماء الذين أسكرتهم فتوحاتهم العلمية، أنهم ملكوا مفاتيح جميع العلوم، و وقفوا على جميع العلاقات بين الكائنات الطبيعية و الظواهر الكونية، و من هنا تصوّروا أنه لا توجد أية علاقة بين قطعة الخشب و الثعبان، او بين جملة من الدعاء و التفاتة من بشر و عودة الروح الى الموتى، و لهذا أخذوا ينظرون الى هذه الامور بعين الشك و الترديد، و ربما بعين الانكار و الرفض المطلق!!

و قد سرى هذا النوع من التفكير الى اوساط بعض العلماء المصريين الذين تأثروا بهذا الاتجاه اكثر من غيرهم، مع بعض التعديل في ذلك الموقف، و شي ء من الاختلاف في النظرة المذكورة، و لهذا اتبعوا تلك السيرة في تحليل الوقائع و الحوادث التاريخية و العلمية من هذا النوع، و السرّ في تأثر بعض علماء مصر بهذه النظرة قبل و اكثر من غيرهم هو احتكاك هذه الجماعة بالأفكار الواردة من الغرب قبل غيرهم، و من هذه المنطقة سرت بعض النظريات و الآراء الغربية الى البلاد الإسلامية الاخرى.

(3) لقد اختار هؤلاء طريقا خاصا قصدوا به الحفاظ على حرمة الكتاب العزيز، و الاحاديث القطعية و مكانتها من جهة، و كسب نظر العلماء الماديين الطيعيين الى انفسهم من جهة اخرى، أو ارادوا ان لا يختاروا ما لا يمكن التوفيق بينه و بين القوانين العلمية الطبيعية و تطبيقه عليها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:168

(1) لقد وجد هؤلاء من جهة أن القرآن الكريم يخبر عن سلسلة من المعجزات و الخوارق التي لا يمكن تفسيرها بالعلوم العادية المتعارفة، لأن العلم لا يستطيع أن يدرك العلاقة بين العصا الخشبية اليابسة و الثعبان، و من جهة اخرى كان القبول

بالنظريات التي لا يمكن إثباتها بالحسّ و التجربة أمرا في غاية الصعوبة لهم.

و لهذا السبب، و في خضمّ الصراع بين هذين العاملين: العلم و العقيدة، اختار هؤلاء الكتاب و العلماء نهجا يستطيعون به وضع نهاية لهذا الصراع، و التنازع، فيحافظون على ظواهر القرآن و الأحاديث من جانب، و يتجنبون القول بما يخالف منطق العلم من جانب آخر، و يتلخص هذا النهج في تفسير جميع المعاجز و جميع خوارق العادة التي جرت على أيدي الأنبياء بالموازين العلمية الحاضرة الرائجة في هذا العصر بصورة تبدو و كأنها امور طبيعية، و بهذا يكونون قد حافظوا على مكانة القرآن الكريم و الاحاديث القطعية المسلّمة، و لم يتفوهوا بما يخالف العلم الحديث و يتعارض مع معطياته.

(2) و نحن هنا نذكر من باب النموذج و المثال: التفسير الذي ذكره العلامة المصري المعروف «محمّد عبده» لقصة اصحاب الفيل و ما جرى لهم:

فهو يقول عند تفسيره لسورة الفيل:

«فيجوز لك ان تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، و ان تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بارجل هذه الحيوانات، فاذا اتصل بجسد دخل في مسامّه فاثار فيه تلك القروح التي تنتهي بافساد الجسم و تساقط لحمه، و أن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعدّ من أعظم جنود اللّه في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، و أن هذا الحيوان الصغير- الذي يسمونه الآن بالميكروب- لا يخرج عنها» «1».

______________________________

(1) راجع تفسير في ظلال القرآن: ج 30 ص 251.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:169

(1) و قال أحد الكتاب مؤيدا هذا الاتجاه بقوله: «إن الطير المستعمل في الكتاب العزيز يراد منه مطلق ما يطير، و يشمل الذباب و

البعوض أيضا»

و لا بدّ- قبل دراسة هذه الأقوال- أن نستعرض مرة اخرى الآيات النازلة في اصحاب «الفيل».

يقول اللّه تعالى: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ».

إن ظاهر هذه الآيات يفيد أن جيش أبرهة اصيب بالغضب و السخط الالهي، و ان هلاكه و فناءه كان بهذه الأحجار التي حملتها تلك الطيور، و ألقت بها على رءوس الجند و أبدانهم.

إن الأمعان في مفاد هذه الآيات يعطي أن موتهم كان بسبب هذه الاسلحة غير الطبيعية (الصغيرة الحقيرة في ظاهرها، القوية الهدامة بفعلها و أثرها).

و على هذا فانّ أي تفسير يخالف ظاهر هذه الآيات لا يمكن الذهاب إليه و حمل الآيات عليه ما لم يقم على صحته دليل قطعي.

(2)

نقاط تقتضي التأمل في التفسير المذكور:

(3) 1- إنّ التفسير المذكور لا يستطيع كذلك أن يجعل كل تفاصيل هذه الحادثة أمرا طبيعيا، بل هناك جوانب في تلك الواقعة التاريخية العجيبة لا بد من تفسيرها بالعوامل و الاسباب الغيبية، لأنه مع فرض أن هلاك الجند و تلاشي أجسادهم تم بواسطة ميكروب: «الحصبة» و «الجدري»، و لكن من الذي ارشد تلك الطيور الى تلك الاحجار الصغيرة الملوثة بميكروب الحصبة و الجدري، فتوجهت بصورة مجتمعة الى تلك الاحجار الخاصة بدل التوجه إلى الحبّ و الطعام، ثم كيف بعد حمل تلك الأحجار بمناقيرها و أرجلها حلّقت فوق معسكر «أبرهة» و رجمت جنده كما لو أنّها جيش منظّم موجّه؟؟

هل يمكن اعتبار كل ذلك أمرا عاديا، و حدثا طبيعيا؟

سيد المرسلين ،ج 1،ص:170

ترى لو أننا فسّرنا طرفا من هذه الحادثة العظيمة و العجيبة بالعوامل الغيبية، و بارادة اللّه النافذة فهل تبقى مع ذلك أية حاجة

الى أن نفسّر جانبا من هذه الحادثة بتفسير طبيعي مألوف، و نركض وراء التوجيهات الباردة، لنجعلها امرا مقبولا.

(1) 2- إنّ الكائنات الدقيقة، او ما يسمى الآن ب «الميكروب» لا شك انها عدوة لمطلق الإنسان، و ليست بصديقة لهذا أو ذاك، و مع ذلك كيف توجهت الى جنود «ابرهة» و قتلتهم دون غيرهم، و كيف نسيت المكيّين بالمرة؟!

انّ التاريخ المدوّن يثبت لنا أن جميع الضحايا في هذه الواقعة العظيمة كانوا من جند «ابرهة» و لم يلحق فيها: أيّ أذى- إطلاقا- بقريش، و غيرهم من سكان الجزيرة العربية، في حين أن الحصبة و الجدريّ من الأمراض المعدية، التي تنقلها العوامل الطبيعية كالرياح و غيرها من منطقة إلى اخرى، و ربما تهلك اهل قطر باجمعهم.

فهل مع هذا يمكن أن نعدّ هذه الحادثة حدثا طبيعيا عاديا؟!

(2) 3- ان اختلاف هذا الفريق في تحديد نوعية الميكروب، يضفي على هذا الادعاء مزيدا من الإبهام، و يجعله أقرب الى البطلان.

فتارة يقولون: انّه ميكروب الوباء و تارة اخرى يقولون: انّه داء الحصبة و الجدري، في حين اننا لم نجد مستندا صحيحا لهذا الخلاف، و مبررا وجيها لهذا الاختلاف، اللّهم إلّا ما احتمله «عكرمة» من بين المفسرين، و عكرمة هو نفسه موضع نقاش بين العلماء و الّا لما ذهب «ابن الاثير». من بين المؤرخين و ارباب السير الى ذكر هذا الرأي في صورة الاحتمال الضعيف، و القيل، ثم عاد فردّ هذا القول فورا «1».

و الأعجب من الجميع ما أعطاه مؤلف كتاب «حياة محمّد» الدكتور هيكل وزير المعارف المصري السابق من تفسير، عند ذكر قصة الفيل.

______________________________

(1) الكامل: ج 1 ص 263.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:171

(1) فهو بعد ذكر تلك القصة سرد آيات سورة الفيل، و مع أنه

اتى بقول اللّه تعالى «و أرسل عليهم طيرا أبابيل» قال عن هلاك جنود أبرهة: «و لعلّ جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر، و أصابت العدوى أبرهة نفسه» «1» فاذا كان الذي جاء بهذا الميكروب هو الريح، فلما ذا حلّقت طيور الأبابيل على رءوس جيش أبرهة، و ألقت بالأحجار الصغيرة على رءوسهم و دون غيرهم، و أي أثر كان لهذه الاحجار في هلاك أولئك الجنود و موتهم؟

فالحق هو: أن لا يتبع هذا النمط من التفكير، و أن لا نسعى لتفسير معجزات الأنبياء- الكبرى بمثل هذه التأويلات و التفسيرات، بل إن طريق المعجزات و الإعجاز أساسا يختلف عن طريق العلوم الطبيعية التي تتحدد دائرتها بمعرفة العلاقات العادية بين الظواهر الطبيعية، و لهذا يجب علينا أن لا نعمد- ارضاء لهوى جماعة ممّن لا يمتلكون أية معلومات دينية، و ليست لديهم أية معرفة بهذا النوع من القضايا- الى التنازل عن أسسنا الدينية المسلّمة، في حين لا توجد أية حاجة ملزمة إلى مثل ذلك التنازل و الاعتذار!.

(2)

نقطتان هامّتان:

و هنا لا بد من أن نذكّر بنقطتين هنا:

(3) الاولى: يجب ان لا يظن أحد- خطأ- أننا بما قلناه هنا نريد تصحيح كل ما تلوكه ألسن الناس، و تنسبه الى الأنبياء العظام، أو إلى عباد اللّه الكرام، من دون أن يكون له أي سند صحيح أو وجه معقول بل و ربما اتّسم بطابع الخرافة في بعض الاحيان و الموارد.

بل مقصودنا هو: أن نثبت- و طبقا للمصادر الصحيحة و القطعية المتوفرة- أن الأنبياء كانوا يقومون- لاثبات ارتباطهم بما وراء هذه الطبيعة- بأعمال خارقة للعادة، خارجة عن الناموس الطبيعيّ المألوف، تعجز العلوم الطبيعية الرائجة عن

______________________________

(1) حياة محمّد لمحمّد حسين هيكل: ص 102 و

103.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:172

إدراك عللها، و أسبابها.

فهدفنا هو الدفاع عن هذه الطائفة من المعاجز.

(1) الثانية: إننا لا نقول مطلقا: أنّ وجود المعجزة هو تخصيص لقانون العلية العامّ، بل اننا في الوقت الذي نحترم فيه هذا القانون المسلّم نعتقد بأن لجميع حوادث هذا العالم عللا خاصة و اسبابا معينة، و أنه من المستحيل أن يوجد شي ء بعد عدمه من دون علة، بيد أننا نقول ان لهذه الطائفة من الظواهر و الوقائع (أي المعاجز) عللا غير طبيعية، و ان هذه العلل ميسّرة و متاحة لأنبياء اللّه و رسله و الرجال الإلهيين خاصة، و ليس في مقدور أحد- لم يستطع لا عن طريق الحس و لا عن طريق التجربة أن يكتشف هذه العلل- أن يتنكّر لها، و ينكرها، بل ان جميع الاعمال الخارقة التي يقوم بها أنبياء اللّه ناشئة عن علل لا يمكن تفسيرها بالعلل الطبيعية المألوفة، و لو أنها خضعت للتفسير و التوجيه لخرجت عن كونها معجزة، و لم يصدق في حقها عنوان الاعجاز.

و لكي نقف على حقيقة هذا الأمر، و نعرف مدى بطلان المذهب المذكور (مذهب تفسير الخوارق و المعاجز بالتفسير المادي و المألوف المحض) ينبغي أن نتبسط قليلا في شرح مسألة الاعجاز و نبحث في مدى علاقتها بقانون العلية العام.

(2)

بحث علميّ حول المعجزة في خمس نقاط:
اشارة

إن الحديث العلميّ عن المعجزة لا بدّ أن يتركّز على عدة نقاط أساسية هي:

1- ما هي المعجزة و ما هو تعريفها؟

2- هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلّمة؟

3- هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير عادية فقط؟

4- كيف تدل المعجزة على صدق ادعاء النبوة؟

5- كيف و بما ذا نميز المعجزة عن الخوارق الاخرى؟

إنّ الاجابة على هذه الأسئلة كفيلة بتوضيح حقيقة المعجزة، و بيان مدى بطلان الاتجاه المذكور

نعني: تفسير المعاجز بالتفسير المادي الطبيعي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:173

على أننا- نظرا لضيق المجال- سنختصر الجواب على هذه الأسئلة، و على من أراد التوسع أن يرجع إلى كتب الكلام و العقيدة.

1- ما هي المعجزة و ما هو تعريفها؟

لقد عرّف علماء العقيدة المعجزة بتعاريف مختلفة أتقنها و أكملها هو: انّ المعجزة أمر خارق للعادة، مقرون بالدعوى، و التحدّي، مع عدم المعارضة، و مطابقة الدعوى «1».

و يعني الشرط الأول (أي كون المعجزة أمرا خارقا للعادة) أن كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية الحادثة مرتبطة بعلة حتما، فلا يمكن صدورها من دون علة، و هذا الكون مشحون بالعلل التي يكتشفها البشر شيئا فشيئا و تدريجا عبر وسائله العادية أو العلميّة، و لكنّ المعجزة مع كونها ظاهرة واقعية و لهذا فهي كغيرها مرتبطة بعلة، بيد أنها تختلف عن غيرها من الظواهر في أنّ من غير الممكن كشف عللها من الطريق العادية أو بواسطة التجارب و التحقيقات العلمية، و لا يمكن تفسيرها و تبريرها بالعلل العادية أو بما يكتشفه العلم من العلل لمثل هذه الحوادث، و المقصود من خرق العادة هو أن تقع المعجزة على خلاف ما عهدناه و تعوّدنا عليه في الظواهر الاخرى و عللها، مثل إشفاء المرضى من دون علاج و دواء كما هو المعهود، و اخراج الماء من صخرة صماء من دون حفر أو تنقيب كما هو المألوف، و تحويل العصا الى أفعى من دون تبييض و تفريخ و توالد و تناسل، بل بمسح من يد، أو بعبارة من لسان، او بضرب من عصا!!

من هنا نكتشف أن كل ظاهرة يقف الناس العاديّون بالطرق العادية أو العلماء خاصة بالطرق العلمية على عللها و أسبابها لا تكون معجزة لأنّه في هذه

______________________________

(1) راجع للوقوف على هذا التعريف: كشف المراد

في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلّي شرحا و المحقق نصير الدين الطوسي متنا: ص 218، و أيضا شرح تجريد الاعتقاد للعلامة القوشجي:

ص 465.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:174

الصورة لم يقع أي شي ء على خلاف العادة، و المألوف ليدل على مزية في الأنبياء.

فان مثل هذه الظاهرة التي يكون لها علة عادية يعرفها جميع الناس، أو سبب علمي خاص يعرفها علماء و متخصّصو ذلك العلم يمكن أن يقوم بايجاد أمثالها جميع الناس، فلا يكون حينئذ معجزة.

و لا يعني هذا- و كما اسلفنا- أنّ المعجزة لا تنتهي الى أية علة، أصلا، بل هي تستند إلى علة غير متعارفة و غير عادية، و لمزيد التوضيح سنبحث في هذا المجال عند الاجابة على السؤال الثالث.

و يقصد من الشرط الثاني (أي كون الاعجاز مقرونا بالدعوى) أن يدّعي صاحب المعجزة النبوة و السفارة من جانب اللّه تعالى، و يأتي بالمعجزة دليلا على صحة دعواه هذه، إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمر الخارق للعادة معجزة بل يطلق عليه في الاصطلاح الديني لفظ «الكرامة» كما كان لمريم بنت عمران التي كلما دخل عليها زكريا المحراب و جد عندها رزقا فاذا سألها من أين لها ذلك؟

قالت: هو من عند اللّه «1».

و يعني الشرط الثالث أن يكون الاعجاز مقرونا بدعوة الناس الى الإتيان بمثله، و عجز الناس عن هذه المعارضة، و عدم قدرتهم على الاتيان بمثله مطلقا إذ في هذه الصورة يتضح أنّ النبي يعتمد على قوة إلهية غير متناهية، قوة خارجة عن حوزة البشر العادي.

و اما الشرط الرابع فيعني أن الأمر الخارق للعادة إنّما يكون عملا إعجازيا، و يستحق وصف المعجزة الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الالهيّ، إذا وافق الأمر الواقع ما يدعي أنه قادر

على الإتيان به.

فلو قال: سأجعل هذا البئر الجاف الفارغ من الماء، يفيض بالماء باشارة اعجازية، ثم يقع ما قاله كان هذا الأمر معجزة حقا، و أما إذا قال: سأجعل هذا

______________________________

(1) راجع سورة آل عمران: 37.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:175

الماء القليل الموجود في البئر يفيض ماء، بالإعجاز، و لكن جفّ ذلك البئر على عكس ما قال، لم يكن ذلك إعجازا، بل كان تكذيبا لمدعيها.

هذا هو خلاصة ما يمكن أن يقال حول تعريف المعجزة و الاعجاز و هو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ.

2- هل الاعجاز يهدم القوانين العقلية المسلّمة؟
اشارة

و بهذا يتضح جواب السؤال المطروح في هذا المجال و هو أن يقال: إن قانون العليّة (أي: ارتباط كل معلول حادث بعلة) ممّا ارتكز عليه الذهن البشري و قبله العلم و الفلسفة، و لذلك فاننا نلاحظ: كلّما وقف الإنسان على ظاهرة مهما كانت- بحث عن علّتها فورا فاذا رأى حية- مثلا- عرف بان علتها الطبيعية هي أن تبيض حيّة، ثم خروج حيّة من البيض بعد سلسلة من التفاعلات فكيف يمكن القبول بالمعاجز مع أنها لا تنشأ عن مثل هذا العلل و لا تمرّ بمثل هذه المقدمات و المراحل و التفاعلات الطبيعيّة، مثل انقلاب العصا إلى ثعبان، أو نبوع الماء من الصخر من دون حفر أو تنقيب.

أ ليس هذا هدم، أو تخصيص لذلك القانون العقليّ المسلّم العام؟

فان الجواب على هذا السؤال هو ان مثل هذا السؤال لا يطرحه إلّا الّذين يحصرون العلل و العلاقات بين الاشياء في العلل و العلاقات المادية الطبيعية.

و لكن الحق هو أنّ أيّة ظاهرة مادية يمكن أن يكون لها نوعان من العلل:

1- العلة العادية التي تخضع للتجربة.

2- العلة غير العادية التي لا يعرفها الناس و لم تكن متعارفة و لا تخضع للتجربة

العلمية.

و هذا يعني أنه لا توجد أية ظاهرة في هذا العالم بدون علة.

و توضيح هذا أن أصل وجود الحية و نبوع الماء من الصخرة و تكلم الطفل- مثلا- أمر ممكن، و لا يعدّ من المحالات، لأنها لو كانت من المحالات لما تحقق وجودها أبدا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:176

نعم أنها بحاجة إلى علة لكي تتحقق، و العلة- سواء في المعاجز أو غيرها- يمكن أن تكون إحدى الامور التالية:

أ- العلة الطبيعية العادية

و هي ما ألفناها و أعتدنا عليها مثل ظهور شجرة من نواة بعد سلسلة من التفاعلات.

ب- العلة الطبيعية غير العادية و غير المعروفة

و هذا يعني أنه قد يكون لظاهرة معينة نوعان من العلل، و طريقان للتحقق و الوجود أحدهما معروف و معلوم، و الآخر مجهول و غير معلوم، و الأنبياء بحكم اتصالهم بالعلم و القدرة الالهية، يمكن أن يقفوا على هذا النوع من العلل- عن طريق الوحي- و يوجدوا الظاهرة.

ج- تأثير النفوس و الارواح:

فانّ بعض الظواهر يمكن أن تكون ناشئة من تأثير أرواح الأنبياء و نفوسهم القوية، كما نلاحظ ذلك في مجال المرتاضين الهنود الذين يبلّغون درجة يستطيعون معها أن يقوموا بما يعجز عنه الأفراد العاديّون، و ذلك بفضل الرياضات النفسية التي يخضعون لها. و هو ما يسمى باليوجا أحيانا، و قد كتبت حوله كتب و دراسات «1».

و قد أشار الى هذا جملة من علماء الإسلام و فلاسفته منهم الفيلسوف الإسلامي الشهير صدر الدين الشيرازي حيث يقول:

«لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوة إلهية تكون بقوتها كأنها نفس العالم فيطيعها العنصر طاعة بدنها لها، فكلّما ازدادت النفس- تجردا و تشبّها بالمبادئ القصوى ازدادت قوة و تأثيرا في ما دونها.

و إذا صار مجرد التصوّر و التوهم سببا لحدوث هذه التغيّرات في هيوليّ البدن لأجل علاقة طبيعيّة، و تعلّق جبلّي لها إليه، لكان ينبغي أن تؤثر في بدن الغير و في هيوليّ العالم مثل هذا التأثير، لأجل مزيد قوة شوقية، و اهتزاز علوي للنفس

______________________________

(1) راجع كتاب الطاقة الانسانية لأحمد حسين.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:177

و محبة إلهية لها، فيؤثر نفسه في إصلاحها، و إهلاك ما يضرّها و يفسدها» «1».

د- العلل المجردة عن المادة:

فيمكن ان تكون للظواهر علل مجردة عن المادة كالملائكة، بان تقوم الملائكة بأمر من اللّه سبحانه بتدمير قرية، او تقوم بمعجزة بعد طلب النبيّ منها ذلك.

و الملائكة مظاهر القدرة الالهية في الكون، و هي التي تدبّر امور الكون بأمر اللّه تعالى كما يقول القرآن الكريم: «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» «2» و هي بالتالي جنود اللّه في السماوات و الأرض «وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ» «3».

فلا بد من ارجاع الظواهر الطبيعية الواقعة الى أحد هذه العوامل الاربعة، و لا يمكن أبدا حصر العلة في العلة الطبيعية العادية المعروفة

كما تصور منكروا الاعجاز، بل يمكن أن تكون كل واحدة من هذه العلل سببا لحدوث الظاهرة الطبيعية، فاذا لم نشاهد علة ظاهرة من الظواهر لم يجز لنا أن نبادر- فورا- إلى تصوّر أنها ناشئة من غير علة.

و يجب ارجاع معاجز الأنبياء الى إحدى الطرق الاخيرة، و القول بأن الأنبياء استخدموا- في ايقاع الخوارق و المعاجز- إما العلل المادية غير المعروفة للعرف، و العلم، و أما نفوسهم القوية التي حصلت لهم بفعل الجهاد الروحيّ العظيم و الرياضات النفسية الشديدة فهي علة تلك الأفعال الخارقة للعادة.

كما و يمكن ان تكون جميع تلك الافعال العجيبة ناشئة عن جملة من العلل و العوامل الغيبية المدبّرة للكون بامر اللّه و مشيئته.

إذن فلا تتحقق المعجزة بدون علة كما يتصوّر، و لا يهدم الاعجاز القوانين العقلية المسلّمة.

______________________________

(1) راجع المبدأ و المعاد: ص 355 و 356 لصدر المتألهين المشهور بصدر الدين الشيرازي، و شرح المنظومة للحكيم السبزواري: ص 327 قال السبزواري ناظما:

يطيعه العنصر طاعة الجسدللنفس فالكل كجسمه يعدّ

(2) النازعات: 5.

(3) الفتح: 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:178

3- هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟

قد يتصور البعض أن المعاجز تصدر عن علل مجردة عن المادة فقط نافين أن تكون لها أيّة علل مادية معروفة او غير معروفة، في حين لا يصح هذا السلب الكلي، اذ ما اكثر الخوارق التي تنشأ عن امور عادية و عبر سلسلة من التفاعلات الطبيعية.

فعند ما يرقد مرتاض هندي ليمرّ عليه تراكتور من دون ان تحدث في جسمه أية جراحات أو اصابات فان هناك امورا مادية كثيرة دخلت في هذا الأمر الخارق مثل: وقوع هذا الحدث في اطار الزمان الخاص، و المكان الخاص، و مثل جسم المرتاض، و ما كنة الحراثة.

فان جميع هذه الاشياء المادية اثرت في ظهور

هذا العمل الخارق.

و هكذا عند ما تنقلب عصا الكليم عليه السّلام إلى حية على نحو الاعجاز فان العصا شي ء مادي و هكذا الحال في غيره من الموارد.

و لهذا لا يمكن ان نتجاهل تأثير العوامل و الامور المادية في ظهور الامور غير العادية، و ننكر دخالتها بمثل هذا الإنكار.

و هذه هي اكثر النظريات اعتدالا في هذا المجال.

و في مقابل ذلك التفريط «1» أفرط آخرون اذ قالوا: ان جميع المعاجز و الخوارق ناشئة من علل مادية غير معروفة.

و حتى ما يقوم به المرتاضون يعود الى هذه العوامل الطبيعية التي لا يعرفها و لا يقف عليها حتى النوابغ من الناس فضلا عن العاديين، لأن العوامل الطبيعية على نوعين: المعروفة و غير المعروفة، و الناس يستفيدون في حياتهم اليومية- في الأغلب- من القسم الاول، بينما يستخدم الأنبياء و المرتاضون تلك العوامل الطبيعية غير المعروفة التي وقفوا عليها و ادركوها دون غيرهم.

______________________________

(1) أي حصر علل الخوارق و المعاجز في العوامل المجرّدة و نفي تأثير العلل الماديّة على نحو الاطلاق.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:179

و السبب في وصفنا هذه النظرية بالافراط و التطرّف هو عدم وجود دليل لا ثباته، بل يمكن ان يقال ان مثل هذا الموقف ناشئ عن الانهزامية تجاه العالم المادي، أو انه لارضاء الماديين، و النافين لما لا يدخل في إطار العالم المادي فان الماديين يرفضون أي عالم آخر غير الطبيعة و آثارها و علاقاتها و خواصها، و حيث أن ارجاع المعجزات إلى العلل المجردة عن المادة يخالف منطق الماديين، و يضادّ اتجاههم و تصورهم لهذا عمد أصحاب هذه النظرية (نظرية إرجاع المعاجز و الخوارق إلى علل طبيعية غير معروفة و غير عادية) إلى مثل هذا التفسير إقناعا للماديين، و ارضاء

لهم فقالوا: ان جميع الخوارق و المعاجز ناشئة من علل طبيعية و مادية على الإطلاق، غاية ما في الأمر أنها علل غير معروفة، شأنها شأن كثير من العوامل الطبيعية المجهولة.

و نحن بدورنا نترك هذه النظرية في دائرة الاجمال و بقعة الإمكان، لعدم الدليل لا على طبقها و لا على خلافها.

4- كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟

إن صفحات التاريخ مليئة بذكر من ادّعوا النبوّة خداعا و كذبا، و استثمارا للناس، مستغلّين سذاجة الاغلبية الساحقة من جانب، و انجذابهم الفطري إلى قضايا التوحيد و الايمان من جانب آخر.

فكيف و بما ذا يميّز النبيّ الصادق عن مدّعي النبوة؟؟

إن المعجزة هي إحدى الطرق التي تدل على صحة ادّعاء النبوة.

و إنما تدلّ المعجزة على صدق ادّعاء النبوّة، و ارتباط النبيّ بالمقام الربوبي لأن اللّه الحكيم لا يمكن أن يزوّد الكاذب في دعوى النبوة بالمعجزة، لأن في تزويد الكاذب تغريرا للناس الذين يعتبرون العمل الخارق دليلا على ارتباط الآتي بها بالمقام الربوبيّ.

و الى هذا أشار الإمام جعفر الصادق عليه السّلام بقوله في جواب من سأله عن علة اعطاء اللّه المعجزة لانبيائه و رسله:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:180

«ليكون دليلا على صدق من أتى به، و المعجزة علامة للّه لا يعطيها إلا انبياءه و رسله، و حججه، ليعرف به صدق الصادق من كذب الكاذب» «1».

5- بما ذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟

لا شكّ في أنّ السحرة و المرتاضين يقومون بأفعال خارقة للعادة مثيرة للعجب و الدهشة حتى ان البسطاء ربما يذهب بهم الاندهاش إلى حدّ الاعتقاد بأن القائمين بهذه الخوارق مزوّدون بقوى غامضة غيبية لا يتوصل إليها البشر.

فكيف يمكن اذن أن نميّز بين المعاجز و تلك الخوارق و العجائب؟

إن التمييز بين هذه و تلك يمكن أن يتم اذا لا حظنا العلائم الفارقة بين المعجزة و غير المعجزة من الاعمال الخارقة للعادة، كاعمال السحرة و المرتاضين (اصحاب اليوجا) و نظائرهم.

و هذه الفوارق هي عبارة عن الامور التالية:

1- إن القوة الغامضة الحاصلة لدى المرتاضين و السحرة ناشئة بصورة مباشرة من التعلم و التحصيل عند اساتذة تلك العلوم، و ذلك طيلة سنين عديدة من الزمان.

بينما لا يرتبط الاعجاز بالتعلّم

و التلمّذ أبدا، و التاريخ خير شاهد على هذا الكلام.

2- إن أفعال السحرة و المرتاضين العجيبة قابلة للمعارضة و المقابلة بأمثالها، و ربما بما هو اقوى منها، على عكس الإعجاز، فالمعجزات غير قابلة لأن تعارض و تقابل بمثلها ابدا.

3- المرتاضون و السحرة لا يتحدّون أحدا بأفعالهم و لا يطلبون معارضة أحد لهم و إلا لافتضحوا و كبتوا.

بينما يتحدى الأنبياء و الرسل بمعاجزهم جميع الناس و يدعونهم لمعارضتهم

______________________________

(1) علل الشرائع: ج 1 ص 122.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:181

و الاتيان بمثل معاجزهم لو قدروا، و استطاعوا.

فهذا هو القرآن الكريم ينادي بأعلى صوته على مر العصور: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» «1».

و ذلك لأن أفعال السحرة الخارقة مهما كانت فانها تستند الى الطاقة البشرية المحدودة، و لا تتجاوزها بينما يعتمد الأنبياء و الرسل العنصر الغبي، و الإرادة الإلهية.

4- إن أفعال السحرة و المرتاضين الخارقة للعادة امور محدودة و مقتصرة على ما تعلّموها و تمرنوا عليها، بينما لا تكون معاجز الأنبياء و الرسل مقتصرة على امور خاصة، فهم لا يعجزون عن الاتيان بكل ما يطلبه الناس منهم، طبعا حسب شرائط خاصة مذكورة في محلها في أبحاث الاعجاز «2».

فتلك معاجز موسى المتعددة الابتدائية، و المقترحة، و معاجز المسيح عليه السّلام المتنوعة خير مثال على هذا الأمر.

5- إن اصحاب المعاجز يقصدون من معاجزهم دائما دعوة الناس إلى أهداف إنسانية عالية و غايات إلهية سامية و بالتالي هداية المجتمع البشري إلى المبدأ و المعاد، و الأخلاق الفاضلة فيما لا يهدف المرتاضون و السحرة إلا تحقيق مآرب دنيوية حقيرة، و نيل مكاسب مادية رخيصة.

هذا مضافا إلى أن الأنبياء و

الرسل أنفسهم يختلفون عن السحرة و المرتاضين

______________________________

(1) الاسراء: 88.

(2) مثل أن لا يكون ما يطلبه الناس محالا عقليا كرؤية اللّه، و مثل أن لا يكون ما سيأتي لهم به دليلا على ارتباطه بالمقام الربوبي، كما لو طلبوا منه أن تكون له جنّة من تخيل و أعناب و بيت من ذهب، لأنّ هذه الامور لا تكون دليلا على النبوّة إذ نلاحظ أنّ كثيرا من الناس يملكون هذه و ليسوا مع ذلك بأنبياء.

و أن لا يكون المقترحون من ذوي اللجاج و العناد الذين لا يقصدون من طلب المعاجز إلا الهزل و الاستهزاء و التنزّه. و أن لا تكون نتيجة المعجزة هلاكهم كما لو طلبوا ان ينزّل عليهم نارا من السماء تحرقهم لأن في ذلك نقضا للغرض.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:182

في نفسيّتهم العالية، و أخلاقهم الفاضلة و تاريخهم المشرق، و صفاتهم النبيلة على العكس من السحرة و المرتاضين.

هذه هي أهمّ العلامات الفارقة بين المعاجز التي تدل على نبوة الأنبياء، و الخوارق التي يقوم بها المرتاضون و السحرة.

و بعد أن تبيّن كل هذا اتضح أنّ الخوارق الالهية التي هي من مقولة المعاجز أيضا تختلف عن الامور العادية في أن عللها لا تنحصر في العلل المادية غير المعروفة فضلا عن الامور المادية المعروفة، بل ربما تكون مستندة الى العلل المجرّدة، فليس من الصحيح ان نسعى لتفسير الخوارق الالهية مثل: «قصة الفيل» التي أهلك اللّه تعالى فيها جيش «أبرهة» العظيم بأحجار صغيرة من سجيل رمتها طيور الأبابيل بالعلل المادية المعروفة كما فعل من أشرنا إلى أسمائهم في مطلع هذا البحث «1».

و لهذا عدل «سيد قطب» عن رأيه الذي كان قد أبداه في ما سبق في أمثال هذه الامور، اذ قال:

ان الطريق الأمثال في

فهم القرآن و تفسيره أن ينفض الانسان من ذهنه كل تصوّر سابق، و أن يواجه القرآن بغير مقرّرات تصوّرية أو عقلية أو شعورية سابقة، و أن يا بني مقرّراته كلها حسبما يصور القرآن و الحديث حقائق هذا الوجود، و من ثم لا يحاكم القرآن و الحديث لغير القرآن، و لا ينفي شيئا يثبته القرآن و لا يؤوله، و لا يثبت شيئا ينفيه القرآن أو يبطله، و ما عدا المثبت و المنفي في القرآن فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله و تجربته.

نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن ... و هم مع ذلك يؤوّلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة في عقولهم و تصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود «2».

______________________________

(1) أي الاستاذ الشيخ محمّد عبده و الاستاذ محمّد حسين هيكل.

(2) و هنا قال سيّد قطب في هامش هذا الكلام ما نصّه «و ما ابرئ نفسي أنني فيما سبق من مؤلّفاتي-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:183

فاما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، و يعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل الى شي ء منها فهم مضحكون حقا! فالعلم لا يعلم اسرار الموجودات الظاهرة بين يديه و التي يستخدمها في تجاربه، و هذا لا ينفي وجودها طبعا! فضلا عن أن العلماء الحقيقيين اخذت جماعة كبيرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون، لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم- عن طريق العلم ذاته- أمام مجاهيل فيما بين ايديهم ممّا كانوا يحسبون انهم فرغوا من الاحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعا علميا نبيلا ليس فيه سمة الادعاء، و لا طابع التطاول على المجهول كما يتطاول مدّعو العلم، و مدّعو التفكير العلمي، ممن ينكرون حقائق الديانات

و حقائق المجهول «1».

ثم يقول في موضع آخر من تفسيره ناقدا لموقف الاستاذ عبده من قصة الفيل التي هي احدى الخوارق حيث حفظ اللّه تعالى بيته المعظم على نحو خارق للعادة:

و يرى الذين يميلون الى تضييق نطاق الخوارق و الغيبيات، و الى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري و الحصبة اقرب و اولى، و ان الطير تكون هي: الذباب و البعوض تحمل الميكروبات فالطير هو كل ما يطير.

ثم ينقل كلام الاستاذ «عبده» الذي ذكرناه بنصه مع قوله: هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة، و ما عدا ذلك فهو ممّا لا يصح قبوله إلّا بتأويل إن صحت روايته، و ممّا تعظم به القدرة ان يؤخذ من استعز بالفيل- و هو اضخم حيوان من ذوات الاربع جسما- و يهلك بحيوان صغير لا يظهر للنظر و لا يدرك بالبصر حيث ساقه القدر لا ريب عند العاقل أن هذا اكبر و اعجب و أبهر.

______________________________

- و في الأجزاء الاولى من هذه الظلال قد انسقت الى شي ء من هذا و ارجو أن أتداركه في الطبعة التالية اذا وفق اللّه».

(1) في ظلال القرآن: ج 29 ص 151- 153.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:184

ثم يقول: و نحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الاستاذ الإمام- صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم- أدلّ على قدرة، و لا اولى بتفسير الحادث، فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع، و من حيث الدلالة على قدرة اللّه، و تدبيره، و يستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس، المعهودة المكشوفة لعلمهم، هي التي جرت، فأهلكت قوما أراد اللّه اهلاكهم، أو أن تكون سنة اللّه قد جرت بغير المألوف للبشر،

و غير المعهود المكشوف لعلمهم فحقّقت قدره ذاك.

ثم يقول: لقد كان اللّه سبحانه يريد بهذا البيت «1» أمرا، كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس و أمنا و ليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة في ارض حرة طليقة لا يهيمن عليها احد من خارجها و لا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها، و يجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الانظار في جميع الأجيال، ليضربها مثلا لرعاية اللّه لحرماته و غيرته عليها.

فمما يتناسق مع جوّ هذه الملابسات كلها أن يجي ء الحادث غير مألوف و لا معهود بكل مقوماته و بكل اجزائه، و لا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته و بملابساته مفرد فذ.

و بخاصة ان المألوف في الجدري و الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش و قائده فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا، و أنملة انملة، و لا يشق الصدر عن القلب!!

ثم ان «سيد قطب» يشير إلى علل تفسير هذه الحادثة الخارقة للعادة بالتفسير المادي العادي الطبيعي، و المدرسة العقلية التي كان الاستاذ «عبده» على رأسها، و ضغط الفتنة بالعلم التي تركت آثارها في تلك المدرسة، و نحن نكتفي بهذا القدر بالمناسبة، و إشعارا بما يمكن أن يجنيه مثل هذا الاتجاه على مقولات الدين و مفاهيمه و مقرراته عن الأحداث الكونية و التاريخية و الانسانية

______________________________

(1) أي الكعبة المشرّفة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:185

و الغيبية «1».

هذا و يجد ربنا ان ننقل هنا ما قاله صاحب تفسير مجمع البيان في هذا الصدد في شأن حادثة الفيل استكمالا لهذا البحث و تأكيدا لمعجزته هذا الحدث.

قال صاحب المجمع: و كان هذا من

اعظم المعجزات القاهرات، و الآيات الباهرات في ذلك الزمان، اظهره اللّه تعالى ليدل على وجوب معرفته، و فيه ارهاص لنبوة نبينا صلّى اللّه عليه و آله لأنه ولد في ذلك العام، و فيه حجة لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة و الملحدين المنكرين للآيات الخارقة للعادات فانه لا يمكن نسبة شي ء ممّا ذكره اللّه تعالى من أمر اصحاب الفيل إلى طبع و غيره كما نسبوا الصيحة و الريح العقيم و الخسف و غيرهما ممّا أهلك اللّه تعالى به الامم الخالية، إذ لا يمكنهم أن يروا في اسرار الطبيعة ارسال جماعات من الطير معها احجار معدّة مهيّأة لهلاك أقوام معينين قاصدات إيّاهم دون من سواهم فترميهم بها حتى تهلكهم، و تدمّر عليهم، لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم و لا يشك من له مسكة عن عقل و لب ان هذا لا يكون الا من فعل اللّه تعالى مسبب الاسباب و مذلّل الصعاب، و ليس لأحد أن ينكر هذا لأن نبينا صلّى اللّه عليه و آله لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك بل اقروا به و صدّقوه مع شدة حرصهم على تكذيبه، و اعتنائهم بالردّ عليه و كانوا قريبي عهد بأصحاب الفيل، فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقة و أصل لانكروه، و جحدوه، و أنهم قد أرّخوا بذلك كما أرّخوا ببناء الكعبة، و موت قصيّ بن كعب و غير ذلك.

و قد اكثر الشعراء ذكر الفيل و نظّموه و نقلته الرواة عنهم فمن ذلك ما قاله (اميّة) بن ابي الصلت:

إن آيات ربّنا بيّنات ما يماري فيهنّ إلا الكفور

حبس الفيل بالمغمّس حتى ظلّ يحبو كأنه معقور

______________________________

(1) في ظلال القرآن: ج 30 ص 251- 255.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:186

و قال عبد اللّه

بن عمرو بن مخزوم:

أنت الجليل ربنا لم تدنس أنت حبست الفيل بالمغمّس

من بعد ما همّ بشي ء مبلس حبسته في هيئة المكركس «1» و قال ابن قيس الرقيات في قصيدة:

و استهلّت عليهم الطير بالجندل حتى كأنّه مرجوم «2» (1) ما ذا بعد هزيمة الأحباش؟

لقد استوجب مقتل أبرهة و تحطّم جيشه و هلاكهم، و بالتالي هزيمة أعداء الكعبة المشرفة، و أعداء قريش، أن يتعاظم شأن المكيّين، و شأن الكعبة الشريفة في نظر العرب، فلا يجرأ أحد- بعد ذلك- في أن يحدّث نفسه بغزو مكة، و الإغارة على قريش، أو أن يفكر في التطاول على الكعبة المعظمة صرح التوحيد الشامخ، فقد اخذ الناس يقولون في انفسهم: إنّ اللّه أهلك أعداء بيته المعظم بمثل ذلك الاهلاك احتراما لبيته و تعظيما لشأن قريش، و قلّما كان يتصور أحد أن ما وقع كان لاجل المحافظة على الكعبة فقط، اي من دون أن يكون لمكانة قريش و منزلتهم و شأنهم دخل في ذلك، و يشهد بذلك أن قريشا تعرضت مرارا لحملات متكررة من غزاة ذلك العصر دون أن يصابوا بمثل ما اصيب به جند «ابرهة» الذي قصد الكعبة بالذات و يواجهوا ما واجهه، من الردع و الكبت.

(2) إنّ هذا الفتح و الظفر الذي نالته قريش من دون تعب و نصب، و من دون إراقة أية دماء من أبنائها، أحدثت في نفوس القرشيين حالات جديدة خاصة، فقد زادت من غرورهم و حميّتهم، و عنجهيتهم، و اعتزازهم بعنصرهم، فأخذوا يفكرون في تحديد شئون الآخرين، و التقليل من وزنهم، اعتقادا منهم بانهم الطبقة الممتازة من العرب دون سواهم. كما أنها دفعتهم الى أن يتصوّروا أنهم وحدهم موضع عناية الأصنام (الثلاثمائة و الستين) فهم وحدهم الذين تحبّهم

______________________________

(1) المنكّس.

(2)

تفسير مجمع البيان للطبرسي: ج 10 ص 543 في تفسير سورة الفيل.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:187

تلك الاصنام، و تحميهم و تدافع عنهم!!

(1) و لأجل هذا تمادوا في لهوهم، و لعبهم، و توسعوا في ممارسة اللذة و الترف حتى أنهم أظهروا ولعا شديدا بالخمر، فكانوا يحتسونها في كل مناسبة، و ربما مدّوا موائد الخمر في فناء الكعبة، و أقاموا مجالس سمرهم و أنسهم إلى جانب أصنامهم الخشبية، و الحجرية، التي كان لكل قبيلة من العرب بينها صنم أو اكثر، و يقضون فيها اسعد لحظات حياتهم- حسب تصوّرهم، و هم يتناقلون فيها كل ما سمعوه من أخبار و قصص حول «مناذرة» الحيرة و «غساسنة» الشام و قبائل اليمن، و هم يتصورون أن هذه الحياة الحلوة اللذيذة هي من بركة تلك الاصنام و الاوثان، فهي التي جعلت عامة العرب تخضع لقريش، و جعلت قريشا افضل من جميع العرب!!

(2)

أوهام قريش تتفاقم!!

إنّ أخطر ما يمرّ به إنسان في حياته هو أن يصفو عيشه من المشاكل، ردحا من الزمن و يحس لنفسه بنوع من الحصانة الوهمية، فعندها تجده يخص الحياة بنفسه و يستأثر بكل شي ء في الوجود و لا يرى لغيره من أبناء نوعه و جنسه من البشر اي حق في الحياة، و لا أيّ شأن و قيمة تذكر، و ذلك هو ما يصطلح عليه بالاستكبار و الاستعلاء، و الاحساس بالتفوق، و الغطرسة.

و هذا هو بعينه ما حصل لقريش بعد اندحار جيش «ابرهة» و هلاكه، و هلاك جنده بذلك الشكل العجيب الرهيب.

فقد عزمت قريش منذ ذلك اليوم- و بهدف إثبات تفوقها و عظمتها للآخرين-، على أن تلغي أي احترام لأهل الحلّ لانهم كانوا يقولون: ان جميع العرب محتاجون الى معبدنا، و قد رأى العرب

عامة كيف اعتنى بنا آلهة الكعبة، خاصة، و كيف حمتنا من الاعداء!!

(3) و من هنا بدأت قريش تضيّق على كل من يدخل مكة من أهل الحل للعمرة او الحج، و تتعامل معهم بخشونة بالغة، و ديكتاتورية شديدة ففرضت على

سيد المرسلين ،ج 1،ص:188

كل من يريد دخول مكة للحج أو العمرة أن لا يصطحب معه طعاما من خارج الحرم، و لا يأكل منه، بل عليه أن يقتني من طعام أهل الحرم، و يأكل منه، و أن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مكة التقليدية القومية، أو يطوف عريانا بالكعبة إن لم يكن في مقدوره شراؤها و اقتناؤها، و من كان يرفض الخضوع لهذا الأمر، من رؤساء القبائل و زعمائها، كان عليه أن ينزع ثيابه- بعد انتهائه من الطواف- و يلقيها جانبا، و لا يحق لأحد ان يمسها أبدا لا صاحبها و لا غيرها «1».

(1) اما النساء فكان يجب عليهن اذا أردن الطواف أن يطفن عراة على كل حال، و ان يضعن خرقة على رءوسهن و يردّدن البيت التالي في اثناء الطواف:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه و بعد هذا اليوم لا احلّه ثم إنه لم يكن يحق لأيّ يهودي أو مسيحي- بعد هزيمة «ابرهة» الذي كان هو أيضا مسيحيا- أن يدخل مكة إلّا أن يكون أجيرا لمكيّ، و حتى في هذه الصورة كان يجب عليه أن لا يتحدّث في شي ء من أمر دينه و من أمر كتابه.

لقد بلغت النخوة و العصبية بقريش حدا جعلتهم يتركون بعض مناسك الحج التي كان يجب الإتيان بها خارج الحرم!!

(2) لقد أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا بمناسك عرفة «2» كما يفعل بقية الناس فتركوا الوقوف بعرفة، و الافاضة منها مع أن آباءهم (من

ولد إسماعيل) كانوا يقرّون أنها من المشاعر و الحج، و كانت هيبة قريش و عظمتها الظاهرية رهن- برمتها- بوجود الكعبة بين ظهرانيها، و بوظائف الحج و مناسكه هذه، اذ كان يجب على الناس في كل عام أن يأتوا إلى هذا الوادي الخالي عن الزرع و هذه الصحراء اليابسة لأداء المناسك، إذ لو لم يكن في هذه النقطة من الأرض أي مطاف أو مشعر لما رغب احد حتى في العبور بها فضلا عن المكث فيها عدة ايام و ليال.

______________________________

(1) و كانت تسمّى عندهم «اللّقى».

(2) الكامل في التاريخ: ج 1 ص 266.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:189

لقد كان ظهور مثل هذا الفساد الاخلاقي و هذا الموقف المتعصّب من الآخرين أمرا لا بدّ منه بحسب المحاسبات الاجتماعية.

فالبيئة المكيّة لا بد أن تغرق في الفساد و الانحراف حتى يتهيأ العالم لانقلاب أساسيّ و نهضة جذرية.

إن كل ذلك الانفلات الاخلاقي و الترف و الانحراف كان يهي ء الارضية و يعدّها لظهور مصلح عالمي، أكثر فاكثر.

و لهذا لم يكن غريبا أن يغضب «أبو سفيان» فرعون مكة و طاغيتها على «ورقة بن نوفل» حكيم العرب الذي تنصر في اخريات حياته و اطلع على ما في الانجيل، كلما تحدّث عن اللّه و الأنبياء و يقول له: «لا حاجة الى مثل هذا الاله و هذا النبي، تكفينا عناية اصنامنا»!!

(1)

عبد اللّه والد النبيّ:
اشارة

يوم فدى «عبد المطلب» ولده «عبد اللّه» بمائة من الابل نحرها، و أطعم الناس في سبيل اللّه، لم يكن يمض من عمر «عبد اللّه» اكثر من اربعة عشر ربيعا، و قد تسبّبت هذه الواقعة في أن يكتسب «عبد اللّه» شهرة خاصة بين عشيرته مضافا الى شهرته الكبرى بين قريش، و أن يحظى بمكانة كبيرة عند أبيه:

«عبد المطلب» بنحو خاص،

لأن ما يكلّف الانسان غاليا، و يتحمل في سبيله عناء اكثر لا بدّ أن يحظى لديه بمكانة اكبر، و يحبّه محبة تفوق المتعارف.

و من هنا كان «عبد اللّه» يتمتع باحترام يفوق الوصف بين أبناء عشيرته و أفراد عائلته و أقربائه.

(2) ثم إن «عبد اللّه» يوم كان يتوجه برفقة والده إلى المذبح كان يعاني من مشاعر و أحاسيس متناقضة و متضادة، فهو من جانب كان يكنّ لوالده احتراما كبيرا و حبا شديدا، و لهذا لم يكن يجد بدا من طاعته، و الانصياع لمطلبه، بينما كان من جانب آخر يعاني من قلق، و اضطراب شديدين على حياته التي كان يرى كيف تعبث بها يد القدر، و تكاد تقضي عليها كما يقضي الخريف على

سيد المرسلين ،ج 1،ص:190

أوراق الشجر.

(1) كما أن «عبد المطلب» نفسه كان هو الآخر تتجاذبه قوتان متضادتان: قوة الايمان و العقيدة من جانب، و قوة العاطفة و المحبة الأبوية من جانب آخر، و قد أوجدت هذه الواقعة في نفسي هاتين الشخصيتين آثارا مرّة يصعب زوالها، بيد أن تلك المشكلة حيث عولجت بالطريقة التي ذكرناها و نجا «عبد اللّه» من الموت المحقق فكر «عبد المطلب» فورا في ان يغسل عن قلب «عبد اللّه» تلك المرارة القاسية بزواج «عبد اللّه» بآمنة، و بذلك يقوّي من عرى حياته التي بلغت درجة الانصرام، بأقوى السبل، و أمتن الوسائل.

و من هنا توجّه «عبد المطلب» الى بيت «وهب بن عبد مناف»- فور رجوعه من المذبح آخذا بيد ولده عبد اللّه- و عقد لولده على «آمنة بنت وهب» التي كانت تعرف بالعفة، و الطهر، و النجابة، و الكمال.

كما أنه عقد لنفسه- في ذات المجلس- على «دلالة» ابنة عم آمنة، و رزق منها «حمزة» عمّ

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المشابه له في السن «1».

(2) غير أن الاستاذ المؤرخ «عبد الوهاب النجار» المدرس بقسم التخصص في الازهر الذي صحح «التاريخ الكامل» لابن الاثير، و علّق عليه بملاحظات و هوامش مفيدة شكك في صحة هذه الرواية، و استغربها، و قال: لا أظن أنه يصح شي ء في هذه الرواية، إذ المعقول أن يتريث «عبد المطلب» بعد ذلك المجهود المضني حتى يريح نفسه ثم يذهب ليخطب لابنه «2».

و لكنّنا نعتقد بأن المؤرخ المذكور لو نظر إلى المسألة من غير هذه الزاوية لسهل عليه التصديق بهذه الرواية.

ثم أن «عبد المطّلب» عيّن موعدا للزفاف، و عند حلول ذلك الموعد تمّت مراسم الزفاف في بيت «آمنة» طبقا لما كان متعارفا عليه في قريش، و لبث

______________________________

(1) تاريخ الطبرى: ج 2 ص 7 و المذكور في هذا المصدر «هالة».

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 4 قسم الهامش.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:191

«عبد اللّه» مع «آمنة» ردحا من الزمن حتى سافر الى الشام للتجارة، و عند عودته توفّي اثناء الطريق كما ستعرف.

(1)

دور الأيادي المشبوهة في تاريخ الإسلام:

لا شك أنّ التاريخ سجّل في صفحاته كل ما يتعلق بالشعوب و الاقوام من نقاط مضيئة أو مظلمة، كقصص للعبرة و العظة.

و لكن الحب و البغض تارة و التساهل و البدعة تارة اخرى وحب اظهار المقدرة و ابراز القوة الأدبية تارة ثالثة و غير ذلك من العوامل و الاسباب عملت عملها فتدخلت- في جميع الأدوار و العصور- في صياغة التاريخ، و خلطت الغث بالسمين و الحقيقة بالخرافة، و تلك هي مشكلة كبرى تقع في طريق المؤرخ الذي يريد عرض حوادث التاريخ في أمانة و استقامة، و لذلك يجب عليه أن يميز الحق عن الباطل، و الصدق

عن الكذب من خلال الأخذ بالموازين العلمية، و الممارسة الكاملة للتاريخ. و لقد كان للعوامل المذكورة تأثير أيضا في تدوين التاريخ الإسلامي، فالأيادي المريبة المشبوهة عملت على تحريف الحقائق في هذا المجال، بل و ربما عمد بعض الاصدقاء- بهدف تعظيم شأن النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله- الى نسبة بعض الامور التي يظهر عليها آثار الاختلاق و الافتعال إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو منها براء.

(2) فقد جاء في التاريخ أن نور النبوّة كان يسطع في جبين «عبد اللّه» والد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دائما «1»، كما نقرأ أن «عبد المطلب» كان يأخذ بيد ولده «عبد اللّه» في سنين الجدب و القحط، و يصعد الجبل و يستسقي متوسّلا الى اللّه بالنور الذي كان بيّنا في جبين «عبد اللّه» «2» فهذا هو ما كتبه و سجّله كثير من علماء الشيعة و السنة في مؤلفاتهم، و نحن لا نملك أي دليل على عدم صحته.

و لكن هذه القصة وقعت أساسا لبعض الاساطير التي لا يمكن ان نقبل بها مطلقا

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 39.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:192

و إليك فيما يأتي ما الحق بهذه القضية التاريخية الثابتة.

(1)

قصّة فاطمة الخثعميّة:
اشارة

و «فاطمة» هذه هي أخت «ورقة بن نوفل» الذي كان من حكماء العرب و كهّانهم، و كان له معرفة كبيرة بالإنجيل. و قد ضبط التاريخ حديثه مع خديجة في بدء بعثة الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سوف نشير إليه في محله من هذا الكتاب.

و كانت «فاطمة» اخت «ورقة» قد سمعت من أخيها عن نبوة رجل من احفاد «اسماعيل»، و لهذا ظلّت تنتظر، و تبحث.

و ذات

يوم و عند ما كان «عبد المطلب» متوجها الى بيت آمنة بنت وهب بعد قفوله و منصرفه من المذبح و هو آخذ بيد «عبد اللّه»، شاهدت «فاطمة الخثعمية»- التي كانت تقف على مقربة من منزلها- النور الساطع من جبين «عبد اللّه»، و الذي كانت تنتظره مدة طويلة و تبحث عنه بشوق، فقالت: اين تذهب يا عبد اللّه؟ لك مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع عليّ الآن.

فقال: أنا مع أبي و لا استطيع خلافه و فراقه!! «1».

ثم تزوج «عبد اللّه» بآمنة في نفس ذلك اليوم، و قضى معها ليلة واحدة.

ثم في الغد من ذلك اليوم أتى المرأة «الخثعمية» التي عرضت نفسها عليه، و أبدى استعداده لتنفيذ رغبتها، و لكن «الخثعمية» قالت له: ليس لي بك اليوم حاجة، فلقد فارقك النور الذي كان معك أمس!! «2».

(2) و قيل: إنه لمّا عرضت تلك المرأة «الخثعمية» على «عبد اللّه» ما عرضت أجابها «عبد اللّه» بالبداهة ببيتين من الشعر هما:

أمّا الحرام فالممات دونه و الحلّ لا حل فاستبينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه و دينه

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 5.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 156 النصّ و الهامش.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:193

و لكن لم تمر ثلاثة من زواجه بآمنة، و اقامته عندها حتى دعته نفسه إلى ان يأتي الخثعمية، و عرض نفسه عليها قائلا: هل لك فيما كنت اردت؟ فقالت:

لقد رأيت في وجهك نورا فاردت ان يكون لي فأبى اللّه الّا أن يجعله حيث اراد فما صنعت بعدي؟

قال: زوّجني أبي «آمنة بنت وهب»!! «1».

(1)

علائم الاختلاق في هذه القصة!

لقد غفل مختلق هذه القصة عن امور كثيرة عند صياعته لها، و لم يستطع اخفاء آثار الاختلاق عنها.

فلو كان يكتفي بالقول- مثلا- بان «فاطمة» صادفت «عبد

اللّه» ذات يوم في زقاق من الأزقة، أو سوق من الاسواق، و شاهدت نور النبيّ ساطعا من طلعته فكفرت في الزواج به رغبة في ذلك النور لكان من الممكن التصديق بهذه القصة، بيد أن نص القصة جاء بصورة لا يمكن القبول بها للأسباب التالية:

(2) 1- ان هذه القصة تفيد أنّ المرأة «الخثعمية» عند ما عرضت نفسها على «عبد اللّه»، كان يد «عبد اللّه» في يد والده «عبد المطلب»، فكيف يمكن ان تعرض تلك الفتاة نفسها عليه و تبين مطلوبها له و يدور بينهما ما يدور، و لا يحس عليهما عبد المطلب؟!

ثم لم تستح من عظيم قريش «عبد المطلب» الذي لم يثنه عن طاعة اللّه تعالى شي ء حتى مقتل ولده و ذبحه.

و لو قلنا أن مطلبها كان حلالا مشروعا فان ذلك لا ينسجم مع البيتين من الشعر اللّذين ردّ بهما «عبد اللّه» طلبها.

(3) 2- و الأصعب من ذلك قصة عبد اللّه نفسه. فان ولدا مثل «عبد اللّه» يحترم والده الى درجة الاستعداد لأن يذبح وفاء لنذر والده، كيف يمكن أن يتفوّه في

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 7، و الكامل في التاريخ: ج 2 ص 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:194

حضرة والده بما نقل عنه؟!

ترى أ يمكن لشاب نجا لتوّه من السيف و الذبح، و لا يزال يعاني من آثار الصدمة الروحية أن يستجيب لرغبات امرأة، أو يبدي استعداده و رضاه القلبيّ لذلك لو لا وجود والده معه؟!!

ترى هل كانت تلك المرأة جاهلة بالظروف، لا تقدّر الاحوال، و لا تعرف الوقت المناسب لطرح مطلبها، أو أنّ مختلق هذه القصة غفل عن نقاط الضعف البارزة هذه؟!!

(1) ثم إن ممّا يفضح هذه القصة و يظهر بطلانها ما جاء في الصورة الثانية

لها، فان عبد اللّه- كما لا حظنا جابه طلب تلك المرأة ببيتين من الشعر و قال ما حاصله بأن الموت أسهل عليه من ارتكاب هذا الفعل الحرام الذي يأتي على دين الرجل و شرفه، فكيف يجوز لمثل هذا الشاب الطاهر الغيور أن يقع فريسة لتلك الأهواء، و الرغبات الرخيصة الفاسدة، و الحال انه لم ينقض من زواجه اكثر من ثلاث ليال، و تدفعه غريزته الجنسية إلى أن يبادر الى بيت المرأة الخثعمية.

إنّ ما جاء به «عبد اللّه» دعوة تلك المرأة، و ما جاء في ذينك البيتين من الشعر اللذين يطفحان بالغيرة، و الإباء، لخير دليل على طهارة «عبد اللّه» و عفته، و تقواه، و ترفعه عن الآثام و الادران، و ابتعاده عن الانجاس و الادناس.

و قد علّق الاستاذ العلامة «النجار» على هذه الاسطورة بقوله: «ليس من المعقول أن يذهب عبد اللّه يبغي الزنا في الساعة التي تزوج فيها، و دخل فيها على امرأته».

و لكن الاستاذ «النجار» أخطأ في تشكيكه في النور النبويّ الساطع في جبين «عبد اللّه» حيث قال معقبا على كلامه السابق: «و لكنها مسألة النور في وجهه يريدون إثباتها و رسول اللّه غني عن هذا كله» «1».

فان ذلك ممّا رواه جميع المؤرخين بلا استثناء، فلا داعى و لا وجه للتشكيك فيه!

______________________________

(1) هامش الكامل في التاريخ: ج 2 ص 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:195

طهارة النبيّ من دنس الآباء و عهر الامهات:

و ينبغي هنا- و بالمناسبة- ان نشير الى مسألة مهمة في تاريخ النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله ألا و هي طهارة النسب النبوي من دنس الآباء و دناءتهم و عهر الامّهات و فسادهن فلا يكون في اجداده وجدّاته سفاح، و زنا.

و هذا ممّا اتفق عليه المسلمون، بعد ان دلّ عليه

العقل اذ لو لم يكن النبيّ منزها عن دناءة الآباء و عهر الامّهات لتنفر عنه الطباع و لم يرغب احد في متابعته، و الانقياد لاوامره و نواهيه.

و لقد صرح رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله بذلك في احاديث رواها السنة و الشيعة.

فقد جاء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

«نقلت من الاصلاب الطاهرة الى الارحام الطاهرة نكاحا لا سفاحا» «1».

و جاء أيضا انه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«لم يزل اللّه ينقلني من الأصلاب الحسيبة الى الأرحام الطاهرة» «2».

و قال الإمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام:

«و أشهد انّ محمّدا عبده و رسوله و سيّد عباده كلما نسخ اللّه الخلق فرقتين جعله في خيرهما لم يسهم فيه عاهر، و لا ضرب فيه فاجر» «3»

و قال الإمام الصادق عليه السّلام في هذا الصدد عند تفسير قول اللّه تعالى:

«وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»: «4»

«في أصلاب النبيّين، نبي بعد نبي، حتى اخرجه من صلب ابيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم» «5».

و قد صرح علماء الإسلام من الفريقين بهذا الأمر، و اشترطوه في النبيّ.

______________________________

(1) كنز الفوائد: ج 1 ص 164.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 43.

(3) نهج البلاغة: الخطبة 215 طبعة عبده.

(4) الشعراء: 219.

(5) تفسير مجمع البيان عند تفسير الآية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:196

قال المحقق نصير الدين الطوسي في تجريد الاعتقاد: و يجب في النبيّ العصمة ... و عدم السهو، و كل ما ينفّر عنه من دناءة الآباء و عهر الامّهات ... «1».

و قد وافقه على هذا العلامة القوشجي الاشعري في شرح التجريد «2».

و قال العلامة المتكلم المقداد السيوري في اللوامع الالهية: و يجب أن لا يكون مولودا من الزنا و لا في آبائه دنيّ

و لا عاهر «3».

(1)

وفاة عبد اللّه في «يثرب»:

لقد بدأ «عبد اللّه» بالزواج فصلا جديدا في حياته، و أضاء ربوعها بوجود شريكة للحياة في غاية العفة و الكمال هي زوجته الطاهرة «آمنة» و بعد مدة من هذا الزواج المبارك توجه في رحلة تجارية- و بصحبة قافلة- الى الشام بهدف التجارة.

دقت أجراس الرحيل، و تحركت القافلة التجارية و فيها عبد اللّه، و بدأت رحلتها من «مكة» صوب الشام، و هي مشدودة بمئات القلوب و الافئدة.

و كانت «آمنة» تمر في هذه الايام بفترة الحمل، فقد حملت من زوجها «عبد اللّه».

و بعد مضيّ بضعة أشهر طلعت على مشارف مكة بوادر القافلة التجارية و هي عائدة من رحلتها، و خرج جمع كبير من أهل مكة لاستقبال ذويهم المسافرين العائدين.

ها هو والد «عبد اللّه» ينتظر- في المنتظرين- ابنه «عبد اللّه»، كما ان عيون عروسة ولده «آمنة» هي الاخرى تدور هنا و هناك تتصفح الوجوه و تبحث عن زوجها الحبيب «عبد اللّه» فى شوق لا يوصف.

______________________________

(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 349 تحقيق الشيخ حسن زاده الآملي.

(2) راجع: شرح القوشجي لتجريد الاعتقاد: ص 359.

(3) اللوامع الإلهية: ص 311.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:197

(1) و لكن و مع الأسف لا يجدان أثرا من «عبد اللّه» بين رجال القافلة!!

و بعد التحقيق يتبين أن «عبد اللّه» قد تمرّض أثناء عودته في يثرب، فتوقف هناك بين اخواله لكي يستريح قليلا، فاذا تماثل للشفاء عاد إلى أهله في «مكة».

و كان من الطبيعي أن يغتم هذان المنتظران «عبد المطلب و آمنة» لهذا النبأ، و تعلو وجهيهما آثار الحزن، و القلق و تنحدر من عيونهما دموع الأسى و الاسف.

فأمر «عبد المطّلب» اكبر ولده: «الحارث» إلى أن يتوجّه الى «يثرب»، و يصطحب معه «عبد

اللّه» الى مكة.

و لكنه عند ما دخل يثرب عرف بأن أخاه: «عبد اللّه» قد توفي بعد مفارقة القافلة له بشهر واحد، فعاد الحارث الى مكة، فاخبر والده «عبد المطلب»، و كذا زوجته العزيزة «آمنة» بذلك، و لم يخلف «عبد اللّه» من المال سوى خمسة من الابل، و قطيع من الغنم، و جارية تدعى «أم أيمن» صارت فيما بعد مربية النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1».

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 7 و 8، و السيرة الحلبية: ج 1 ص 50.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:199

(1)

5 مولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

اشارة

كانت سحب الجاهلية الداكنة تغطّي سماء الجزيرة العربية، و تمحي الاعمال القبيحة و الممارسات الظالمة، و الحروب الدامية، و النهب و السلب، و وأد البنات، و قتل الاولاد، كل فضيلة أخلاقية. في البيئة العربية و كان المجتمع العربيّ قد اصبح في منحدر عجيب من الشقاء، ليس بينهم و بين الموت الّا غشاء رقيق و مسافة قصيرة!!

في هذا الوقت بالذات طلع عليهم شمس السعادة و الحياة فاضاءت محيط الجزيرة الغارق في الظلام الدامس، و ذلك عند ما اشرقت بيئة الحجاز بمولد النبيّ المبارك «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و بهذا تهيأت المقدمات اللازمة لنهضة قوم متخلف طال رزوحه تحت ظلام الجهل، و التخلف، و طالت معاناته لمرارة الشقاء. فانه لم يمض زمن طويل الّا و ملأ نور هذا الوليد المبارك ارجاء العالم و اسس حضارة انسانية عظمى في كل المعمورة.

(2)

فترة الطفولة في حياة العظماء:

ان جميع الفصول في حياة العظماء جديرة بالتأمل، و قمينة بالمطالعة، فربما تبلغ العظمة في شخصية احدهم من السعة، و السموّ بحيث تشمل جميع فصول حياته

سيد المرسلين ،ج 1،ص:200

بدء من الطفولة، بل و فترة الرضاع فتكون حياته و شخصيته برمتها سلسلة متواصلة من حلقات العظمة.

إن جميع الأدوار، و الفترات في حياة العظماء، و النوابغ و قادة المجتمعات البشرية، و روّاد الحضارات الانسانية و بناتها تنطوي في الأغلب على نقاط مثيرة و حساسة و على مواطن توجب الاعجاب.

إن صفحات تاريخهم و حياتهم منذ اللحظة التي تنعقد فيها نطفهم في أرحام الامهات، و حتى آخر لحظة من أعمارهم مليئة بالاسرار، زاخرة بالعجائب.

فنحن كثيرا ما نقرأ عن اولئك العظماء في أدوار طفولتهم أنها كانت تقارن سلسلة من الامور العجيبة، و المعجزة.

و لو سهل علينا التصديق بهذا الأمر

في شأن الرجال العاديين من عظماء العالم لكان تصديقنا بأمثالها في شأن الأنبياء و الرسل أسهل من ذلك بكثير، و كثير.

(1) إن القرآن الكريم ذكر فترة الطفولة في حياة النبيّ موسى عليه السّلام في صورة محفوفة بكثير من الأسرار، فهو يقول ما خلاصته: ان مئات من الاطفال قتلوا و ذبحوا بامر من فرعون ذلك العصر منعا من ولادة موسى و نشوئه.

و لكن ارادة اللّه شاءت ان يولد الكليم، و ظلت هذه المشيئة تحفظه من كيد الكائدين و لهذا لم يعجز اعداؤه عن القضاء عليه او إلحاق الاذى به فحسب، بل تربى في بيت فرعون أعدى اعدائه.

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى. إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي».

ثمّ يقول: «إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ» «1».

______________________________

(1) طه: 37- 40.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:201

(1) ثمّ إن القرآن الكريم يذكر قصة ولادة المسيح، و يصور طفولته و نشأته بشكل أعجب اذ يقول:

«وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا. قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا. فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا

الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا. فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا. وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا. وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» «1».

(2) فإذا كان أتباع القرآن و التوراة و الانجيل يشهدون بصحة هذه المطالب حول ولادة هذين النبيين العظيمين من اولى العزم لموسى و عيسى عليهما السّلام، و يقرون بصدقها، فلا يصحّ في هذه الصورة أن نستغرب وقوع أمثالها في شأن رسول الإسلام، و نتعجب من الحوادث العجيبة التي سبقت أو رافقت ميلاده المبارك، و نعتبرها امورا سطحية لا تدل على شي ء.

فنحن نقرأ في الكتب التاريخية و في كتب الحديث عن وقوع حوادث عجيبة

______________________________

(1) مريم: 16- 33.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:202

يوم ولادة النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله مثل: ارتجاس إيوان كسرى، و سقوط اربع عشرة شرفة منه، و انخماد نار فارس التي كانت تعبد، و انجفاف بحيرة ساوة، و تساقط الاصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها، و خروج نور معه صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم أضاء مساحة واسعة من الجزيرة، و الرؤيا المخيفة التي رآها انوشيروان و مؤبدوه، و ولادة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مختونا مقطوع السرّة، و هو يقول: «اللّه اكبر، و الحمد للّه كثيرا، سبحان اللّه بكرة و أصيلا».

و قد وردت جميع هذه الامور في المصادر التاريخية الأولى، و الجوامع الحديثية المعتبرة «1».

(1) و مع ملاحظة ما ورد في حق موسى و عيسى و نقلنا بعضه هنا، لا يبقى أيّ مجال للشك في صحة هذه الحوادث.

نعم ينبغي أن نسأل هنا: ما ذا كانت تهدف هذه الحوادث غير العادية؟

و في الاجابة على هذا السؤال يجب ان نقول:

إن هذه الحوادث الخارقة و العجيبة كانت تهدف إلى أمرين:

(2) الأول- أن تدفع بالجبابرة، و الوثنيين و عبدة الاصنام إلى التفكير فيما هم فيه فيسألوا أنفسهم: لما ذا انطفأت نيرانهم التي طالما بقيت مشتعلة تحرسها اعيان السدنة و الكهنة؟

لما ذا سبّبت هزة خفيفة في ارتجاس ايوان كسرى العظيم المحكم البنيان، و لم يحدث لبيت عجوز في نفس ذلك البلد شي ء؟

لما ذا تهاوت الاصنام المنصوبة في الكعبة و حولها، و انكبّت على وجوهها بينما بقيت غيرها من الاشياء على حالها لم يصبها شي ء ابدا؟

لو كانوا يفكرون في تلك الحوادث لعرفوا أن تلك الحوادث كانت تبشّر بعصر جديد ... عصر انتهاء فترة الوثنية و زوال مظاهر السلطة الشيطانية

______________________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 5، بحار الأنوار: ج 15 ص 248- 331، السيرة الحلبية: ج 1 ص 67- 78 و غيرها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:203

و اندحارها؟

الثاني: ان هذه الحوادث جاءت لتبرهن على شأن الوليد العظيم، و انه ليس وليدا عاديا، فهو كغيره من الأنبياء العظام الذين رافقت مواليدهم أمثال تلك الحوادث العجيبة، و الوقائع الغريبة،

كما يخبر بذلك القرآن الكريم فيما يحدثه عن حياة الأنبياء- كما عرفت- و تخبر بها تواريخ الشعوب و الملل المسيحية و اليهودية.

(1) و اساسا لا يلزم ان تكون تلك الحوادث سببا للعبرة و وسيلة للاتعاظ يوم وقوعها، بل يكفي ان تقع حادثة في احدى السنين، ثم يعتبر بها الناس بعد أعوام عديدة، و قد كانت حوادث الميلاد النبويّ من هذه المقولة، لأن الهدف منها كان هو ايجاد هزة في ضمائر اولئك الناس الذين كانوا قد غرقوا في اوحال الوثنية، و الظلم، و الانحراف الاخلاقي حتى قمة رءوسهم، و عشعشت الجهالة و الغافلة في اعماقهم حتى النخاع.

إن الذين عاشوا في عصر الرسالة، أو من اتى من بعدهم عند ما يسمعون نداء رجل نهض- بكل قواه- ضدّ الوثنية، و الظلم، ثم يطالعون سوابقه، و يلاحظون الى جانب ذلك ما وقع ليلة ميلاده من الحوادث العظيمة التي تتلاءم مع دعوته، فانهم و لا شك سيعتبرون تقارن هذين النوعين من الحوادث دليلا على صحة دعواه، و صدق مقاله فيصدّقونه، و ينضوون تحت لوائه.

إن وقوع أمثال هذه الحوادث الخوارق عند ميلاد الأنبياء مثل «إبراهيم» و «موسى» و «المسيح» و «محمّد» صلّى اللّه عليه و عليهم اجمعين لا يقل اهمية عن وقوعها في عصر رسالتهم و نبوتهم، فهي جميعا تنبع من اللطف الإلهي، و تتحقق لهداية البشرية، و جذبها إلى دعوة سفرائه و رسله.

(2)

في أيّ يوم ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟

لقد اتّفق عامّة كتّاب السيرة على أن ولادة النبيّ الكريم كانت في عام الفيل سنة 570 ميلادية.

لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحل الى ربه عام (632) ميلادية عن (62)

سيد المرسلين ،ج 1،ص:204

أو (63) عاما، و على هذا الأساس تكون ولادته المباركة قد وقعت في سنة

(570) ميلادية تقريبا.

كما أنّ اكثر المحدثين و المؤرخين يتفقون على أنه صلّى اللّه عليه و آله ولد في شهر ربيع الأول.

انما وقع الخلاف في يوم ميلاده، و المشهور بين محدثي الشيعة أنه كان يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول بعد طلوع الفجر.

و المشهور بين أهل السنة أنه صلّى اللّه عليه و آله ولد في يوم الاثنين الثاني عشر من ذلك الشهر «1».

(1)

أيّ هذين القولين هو الصحيح؟

ان من المؤسف جدا أن يعاني التقويم الدقيق لميلاد رسول الإسلام العظيم صلّى اللّه عليه و آله و وفاته بل مواليد و وفيات اكثر قادتنا و ائمتنا لمثل هذا الارتباك، و ان لا تكون اوقاتها و تواريخها محددة معلومة على وجه التحقيق و اليقين!.

و لقد تسبب هذا الارتباك في أن لا تستند اكثر احتفالاتنا و ماتمنا إلى تاريخ قطعي، في حين نجد أن علماء الإسلام كانوا يهتمون- عادة- بتسجيل الوقائع التي حدثت على مدار القرون الإسلامية في نظم خاص و عناية كبيرة، و لكننا لا ندري ما الذي منع من تسجيل مواليد هذه الشخصيات العظيمة و وفياتهم على نحو دقيق، و صورة قطعية؟!

على أن مثل هذه المشكلة يمكن حلها بدرجة كبيرة بالرجوع إلى أهل البيت عليهم السّلام، فان اي مؤرخ لو أراد أن يكتب عن حياة شخصيّة من الشخصيات و أراد أن يلمّ بكل تفاصيلها و دقائقها لم يسمح لنفسه بان يفعل ذلك من دون ان يراجع ابناء او اقرباء تلك الشخصية التي يزمع ترجمتها و الكتابة عنها.

______________________________

(1) و قد ذكر المقريزي في «الامتاع» ص 3 جميع الاقوال المذكورة في يوم ميلاد النبي و شهره و عامه، فراجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:205

(1) و لقد مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم و خلّف من بعده ذرية و قربى و هم الذين يطلق عليهم اهل البيت.

و اهل بيته يقولون: لو كان صحيحا و حقا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبونا وجدنا، و قد نشأنا في بيته و ترعرعنا في حجره فاننا نقول انه قد ولد يوم كذا و توفي يوم كذا فهل يبقى بعد ذلك مجال لأن نتجاهل قولهم و رأيهم، و نختار ما يقوله الآخرون من الأبعدين، و قديما قالوا: أهل البيت ادرى بما في البيت؟ «1».

(2)

فترة الحمل:

المعروف أن النور النبوي الشريف استقر في رحم آمنة- الطاهر في أيام التشريق و هي اليوم الحادي عشر و الثاني عشر و الثالث عشر من شهر ذي الحجة «2»، و لكن هذا الأمر لا ينسجم مع الرأي المشهور بين عامة المؤرخين من كون ولادة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله في شهر ربيع الأول، اذ في هذه الصورة يجب ان نعتبر مدة حمل «آمنة» به صلّى اللّه عليه و آله إما ثلاثة أشهر و اما سنة و ثلاثة اشهر، و كلا الأمرين خارجان عن الموازين العادية في الحمل، كما أنه لم يعدّه احد من خصائص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «3».

(3) و لقد عالج المحقق الكبير الشهيد الثاني (911- 966 ه) هذا الإشكال بالنحو التالي إذ قال:

إن ذلك مبنيّ على النسي ء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، و قد نهى اللّه تعالى عنه، و قال: «إنّما النسي ء زيادة في الكفر».

و توضيح هذا هو أن أبناء «إسماعيل» كانوا تبعا لاسلافهم يؤدون مناسك الحج في شهر ذي الحجة، و لكنهم رأوا- في ما بعد- أن يحجّوا في كل شهر عامين

______________________________

(1) و من هنا لا بد من

الاعتراف بان ما ينقله و يكتبه الامامية من تفاصيل تتعلق بحياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي أقرب من غيرها الى الحقيقة لأنها مأخوذة عن اقربائه و ابنائه عليهم السّلام.

(2) الكافي: ج 1 ص 439 أبواب التاريخ باب مولد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و وفاته.

(3) قد ذكر الطريحي فقط في مجمع البحرين في مادة شرق قولا بهذا لم يسم قائله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:206

يعنى ان يحجوا في ذي الحجة عامين و في المحرم عامين و في صفر عامين و هكذا.

و هذا يعني أن الحج يعود كل اربعة و عشرين سنة في موضعه الطبيعي (اي شهر ذي الحجة).

(1) و قد جرى العرب المشركون على هذه الطريقة حتى صادفت أيام الحج شهر ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة النبوية فحج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تلك السنة حجة الوداع، فنهى في خطبة له عن هذه الفعلة (التي تسمى بالنسي ء بمعنى تأخير الحج عن موضعه و موعده) فقال: «ألا و إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق السّماوات و الأرض السّنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة و ذو الحجة، و محرّم، و رجب الذي بين جمادي و شعبان» «1».

و قد أراد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك أن الأشهر الحرم رجعت الى مواضعها، و عاد الحج الى ذي الحجة و بطل النسي ء.

و نزل في هذه المناسبة قول اللّه تعالى: «إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً» «2».

(2) من هنا تنتقل أيام التشريق كل سنتين من مواضعها، على ما عرفت، و حينئذ لا منافاة بين القول بأن نور

النبيّ انتقل إلى رحم أمه «آمنة بنت وهب» في أيام التشريق، و بين ما اجمع عليه عامة المؤرخين من أنه ولد في شهر ربيع الأول. و انما تكون المنافاة بين هذين الأمرين إذا كان المراد من أيام التشريق هو اليوم الحادي عشر، و الثاني عشر، و الثالث عشر من شهر ذي الحجة خاصة، و لكن قلنا أن ايام التشريق كانت تنتقل من شهر الى آخر باستمرار، فيلزم أن يكون عام حمل امّه به، و عام ولادته أيام الحج الواقعة في شهر جمادي الاولى، و حيث أنه صلّى اللّه عليه و آله ولد في شهر ربيع الأول فتكون مدة حمل «آمنة» به عشرة أشهر تقريبا.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 5 ص 29.

(2) التوبة: 37.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:207

(1)

مؤاخذات و إشكالات على هذا البيان:

إن النتيجة التي توصّل إليها المرحوم «الشهيد الثاني» ليست صحيحة، كما أن المعنى الذي ذكره للنسي ء لم يقل به من بين المفسرين إلا مجاهد، و اما الآخرون فقد فسّروه بنحو آخر فلا يكون التفسير الذي مرّ قويا، و ذلك:

(2) اوّلا: لأن «مكة» كانت مركزا لجميع الاجتماعات كما كانت معبدا للعرب جميعا، و لا يخفى أنّ تغيير الحج في كل سنتين مرة واحدة من شأنه أن بسبب الالتباس لدى الناس و يوقعهم في الخطأ و الاشتباه، و بالتالي يتعرّض ذلك الاجتماع العظيم، و تلك العبادة الجماعية الى خطر الزوال.

و لهذا يستبعد ان ترضى قريش و المكيّون بان يخضع ما هو وسيلة لعزتهم و افتخارهم للتغيير و التبدل الذي من عواقبه ان يتعرض وقته و موعده للنسيان، فيذهب ذلك الاجتماع، و يزول من الاساس.

(3) ثانيا: إذا أخضعنا ما قاله «الشهيد الثاني» لمحاسبة دقيقة فان كلامه يستلزم ان تكون ايام التشريق و الحج في

السنة التاسعة من الهجرة واقعة في شهر ذي القعدة لا جمادى الاولى في حين أن امير المؤمنين عليّا عليه السّلام كلّف في هذه السنة بالذات بأن يقرأ سورة البراءة على المشركين في ايام الحج، و المفسرون و المحدثون متفقون على أنه عليه السّلام تلاها عليهم في العاشر من شهر ذي الحجة ثم امهلهم اربعة اشهر ابتداء من شهر ذي الحجة لا ذي القعدة «1».

(4) ثالثا: ان النسي ء يعني أنّ العرب حيث لم يكن لديهم مصدر صحيح للرزق بل كانوا يعيشون في الاغلب، على النهب و الغارة لهذا كان من الصعب عليهم ترك الحرب، في الاشهر الحرم الثلاث (و هي ذو القعدة و ذو الحجة، و المحرم) لهذا ربما طلبوا من سدنة الكعبة بأن يسمحوا لهم بالقتال في شهر المحرم، ثم يتركون

______________________________

(1) و لقد قام العلامة المجلسي في بحار الأنوار: ج 15 ص 253 بهذه المحاسبة، و ان لم يشر الى الإشكال الذي أوردناه فليراجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:208

الحرب في شهر صفر، و هذا هو معنى النسي ء فلم يكن نسي ء و تأخير للشهر الحرام في غير شهر محرّم، و في الآية نفسها اشارة الى هذا المطلب: «يحلّونه عاما و يحرّمونه عاما».

و الذي نراه في حل هذه المشكلة هو: أن العرب كانوا يحجّون في وقتين: أحدهما شهر ذي الحجة، و الثاني شهر رجب، و قد كانوا يؤدّون كل مناسك الحج في هذين الوقتين على السواء، فيمكن أن يكون المقصود من حمل «آمنة» برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ايام التشريق هو شهر رجب فإذا اعتبرنا يوم ولادته هو السابع عشر من شهر ربيع الاول كانت مدة حمل «آمنة» به ثمانية أشهر و اياما.

الاحتفال بذكرى المولد النبوي:

و ينبغي ان يحتفل

المسلمون جميعا بمولد النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يقيموا المهرجانات الكبرى في هذه المناسبة الشريفة التي كانت مبدأ الخير و البركة، و منشأ السعادة و الكرامة للبشرية جمعاء، و أية مناسبة احرى بالاحتفال و الاحتفاء من هذه المناسبة؟

على ان اقامة مثل هذه الاحتفالات هو نوع من تكريم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو أمر مطلوب و محبوب في الشريعة المقدسة.

فقد قال اللّه تعالى:

«فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1».

و عزّر بمعنى كرّم و بجّل كما في اللغة «2» و هو لا يختص بزمان دون زمان، فعلى المسلمين في كل وقت و زمان ان يعظّموا شأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يكرّمونه، سواء في حياته أو بعد مماته، لما له من فضل عظيم على الناس، و لما

______________________________

(1) الأعراف: 157.

(2) راجع مفردات الراغب: مادّة عزر.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:209

له من منزلة عند اللّه تعالى.

كيف لا و الاحتفال بميلاده لا يعني سوى ذكر أخلاقه العظيمة، و سجاياه النبيلة، و الاشادة بشرفه و فضله و هى امور مدحه القرآن الكريم بها اذ قال سبحانه: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «1» و قال تعالى أيضا: «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» «2» و غير ذلك من الآيات المادحة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فان الاحتفال بميلاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي يتحقق بذكر صفاته و أخلاقه و الاشادة به خير مصداق لرفع ذكره، الذي فعله اللّه بنحو ما.

و لو كان رفع ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، أمرا غير جائز و لا صحيح، بل فعلا قبيحا لما فعله

اللّه، فيكفي في حسنه و صحته بل و مشروعيته و مطلوبيته ان اللّه تعالى فعله بالنسبة لنبيه صلّى اللّه عليه و آله.

و هل يكون الاحتفال بمولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و اظهار السرور و الشكر للّه تعالى بمقدم نبيه المبارك عبادة للنبيّ كما يزعم البعض اذ يقول:

«الذكريات التي ملأت البلاد باسم الاولياء هي نوع من العبادة لهم و تعظيمهم» «3».

و الحال ان العبادة في مفهومها الاصطلاحي الموجب للشرك و الكفر ليس إلّا الخضوع لمن يعتقد بالوهيته و تعظيمه بهذه النية «4» و اين هذا من ذكر فضائل النبي في يوم مولده و الابتهاج بمقدمه و الشكر للّه على ولادته.

ثم ان تعظيم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينطلق من كونه عبدا مطيعا للّه تعالى، ادى رسالته بصدق و اخلاص، و جسّد بسلوكه و سيرته كل مكارم الاخلاق أصدق تجسيد فالاحتفال بمولده الكريم احتفال بالقيم السامية، و شكر للّه على منّه، و اظهار للحب الكامن في النفوس ليس إلّا.

و الزعم بانه محرّم لكونه بدعة، او لأنه لا يخلو عن اشتماله على منكرات

______________________________

(1) القلم: 4.

(2) الانشراح: 4.

(3) فتح المجيد: ص 154، ثمّ نقل عن كتاب قرّة العيون ما يشابه هذا المضمون.

(4) راجع مفاهيم القرآن في معالم التوحيد: ص 404- 440.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:210

و محرمات كالرقص و الغناء فهو مرفوض، مردود لان الكلام انما هو حول اصل الاحتفال مجردا عن المحرمات و المنكرات.

ان الاحتفاء و الاحتفال بمولد خاتم النبيين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انما هو تكريم لمن كرّمه اللّه تعالى، و امر بتكريمه، و حث على احترامه و حبه، و مودته، و انه بالتالي اداء شكر للّه تعالى على تلك

الموهبة العظيمة، و تلك العطيّة المباركة حيث منّ سبحانه على البشرية عامة و على المسلمين خاصة بأن شرف الارض بمولود عظيم نعمت الارض ببركة شخصيته و خلقه، و اشرقت بنور رسالته و دعوته، فاية نعمة ترى اولى بالشكر من هذه، و أي شكر اجمل و افضل من الاحتفاء بمولد هذا النبيّ العظيم صلّى اللّه عليه و آله، و ذكر فضائله، و مناقبه، للتعرف عليها، و الاقتداء بها، و تشديد الحب له بسببها، و الابتهال الى اللّه في يوم ميلاده، و طلب التوفيق الالهي لمتابعته، و السير على نهجه، و الدفاع عن رسالته، و الذبّ دون دينه، بعد الشكر للّه تعالى على موهبته هذه؟؟

هذا و لقد درج المسلمون في العصور الإسلامية الاولى على الاحتفال بذكرى المولد النبويّ و أنشئوا القصائد الرائعة في مدحه، و ذكر خصاله و مكارم اخلاقه، و اظهروا السرور بمولده و الشكر للّه تعالى بلطفه، و تفضله به صلّى اللّه عليه و آله على البشرية.

قال الإمام الديار بكري في تاريخ الخميس في هذا الصدد:

لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السّلام و يعملون الولائم، و يتصدقون في لياليه بانواع الصدقات و يظهرون السرور، و يزيدون في المبرات و يعتنون بقراءة مولده الكريم، و يظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم «1».

أجل ينبغي على المسلمين ان يحتفلوا بمقدم نبيهم الكريم و لا يعبئوا بما قاله البعض حيث قال: «الذكريات التي ملأت البلاد باسم الاولياء هي نوع من

______________________________

(1) تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس: ج 1 ص 223 نقلا عن المواهب اللدنية: ج 1 ص 27 للقسطلاني. سيد المرسلين ج 1 211 الاحتفال بذكرى المولد النبوي: ..... ص : 208

سيد المرسلين ،ج 1،ص:211

العبادة لهم و تعظيمهم»

«1».

فهذا القول مغالطة صريحة، ان لم يكن نابعا عن الغافلة و الجهل بعد ان تبين حقيقة الاحتفال و اقامة الذكريات احتفاء بالمولد النبويّ «2».

(1)

مراسم تسمية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

حلّ اليوم السابع من الميلاد المبارك، فعقّ عبد المطلب عن النبيّ بكبش شكرا للّه تعالى و دعا جماعة ليشتركوا في الاحتفال الذي حضره عامة قريش لتسمية النبيّ، و سمّاه «محمّدا»، و عند ما سألوه عما حمله على أن يسمي هذا الوليد المبارك «محمّدا» و هو اسم لم يعرفه العرب إلا نادرا أجاب قائلا: أردت أن يحمد في السماء و الأرض «3».

و الى ذلك يشير حسان بن ثابت بقوله:

فشقّ له من اسمه ليجلّه فذو العرش محمود و هذا محمّد «4» و من المسلّم أن هذا الاختيار لم يكن ليتم من دون دخالة للإلهام الالهي، لأن اسم «محمّد» و إن كان موجودا عند العرب إلّا أنه قلّ من كان قد تسمى بهذا الاسم، فحسب ما استقصاه بعض المؤرخين لم يتسم به الى ذلك اليوم من العرب إلّا ستة عشر شخصا كما يقول شاعرهم:

إن الذين سموا باسم محمدمن قبل خير الخلق ضعف ثمان «5» و لا يخفى أن ندرة المصاديق لأي لفظ من الالفاظ أو اسم من الأسماء من شأنها أن تقلّل فرص الاشتباه فيه، و حيث أن الكتب السماوية كانت قد أخبرت عن اسم النبي الخاتم صلّى اللّه عليه و آله و صفاته، و علائمه الروحية و الجسمية، لذلك يجب أن تكون علائمه صلّى اللّه عليه و آله واضحة جدا جدا

______________________________

(1) هوامش الفتح المجيد.

(2) راجع للتوسّع: معالم التوحيد في القرآن الكريم.

(3) السيرة الحلبية: ج 1 ص 78 و 79.

(4) بحار الأنوار: ج 16 ص 120، و السيرة الحلبية: ج 1 ص 78 و 79.

(5)

السيرة الحلبية: ج 1 ص 82 ثمّ يذكر صاحب السيرة اولئك الأشخاص في بيتين آخرين.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:212

حتى لا يتطرق إليها التباس أو اشتباه، و قد كان من علائمه صلّى اللّه عليه و آله اسمه الشريف، فيجب أن تكون مصاديقها قليلة جدا حتى يزيل ذلك أي عروض للشك و الترديد في تشخيص النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله خاصة إذا ضمّت إليه بقية أوصافه و علائمه، و خصوصياته.

(1)

خطأ المستشرقين:

لقد ذكر القرآن الكريم اسمين او عدة أسماء للنبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله.

ففي سورة آل عمران و محمّد و الأحزاب و الفتح في الآيات 144 و 2 و 40 و 29 «1» سماه «محمّدا» «2».

و في سورة الصف الآية 6 «3» دعاه «أحمد».

و العلة في تسميته بهذين الاسمين أن امّه «آمنة» سمّته «أحمدا» قبل أن يسميه جده، كما هو مذكور في التاريخ.

و على هذا فان ما ذكره بعض المستشرقين- في معرض الاعتراض- بأن الإنجيل- حسب تصريح القرآن الكريم في سورة الصف الآية 6- بشّر بنبي اسمه «أحمد» لا «محمّد» كلام لا اساس له و لا مبرر، لأن القرآن الكريم الذي سمى نبيّنا ب: «أحمد» سماه في عدة مواضع ب: «محمّد» فإذا كان المصدر في تعيين اسم النبي هو: القرآن الكريم، فان القرآن سمّاه بكلا الاسمين، في موضع باسم

______________________________

(1) يعتقد البعض أنّ هذا ليس اسما للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بل هو من الحروف المقطعة في القرآن.

(2) قال تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ».

و قال تعالى: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ».

و قال سبحانه: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ

اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ».

و قال عزّ و جلّ: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ».

(3) اذ قال سبحانه: «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ».

سيد المرسلين ،ج 1،ص:213

«محمّد»، و في موضع آخر باسم «احمد».

(1)

«أحمد» كان من أسماء النبيّ المشهورة:

كلّ من كان له ادنى إلمام بتاريخ النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علم أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يدعى باسمين في الناس منذ صغره أحدهما:

«محمّد» الذي سمّاه به جده «عبد المطلب»، و الآخر «أحمد» الذي سمته به أمه «آمنة».

و هذه حقيقة من حقائق التاريخ الإسلامي، و قد روى المؤرخون هذا الأمر، و يمكن للقارئ الكريم أن يقرأه في السيرة الحلبية «1».

و لقد أنشأ عمّه «أبو طالب»- الذي انيطت إليه كفالته بعد وفاة عبد المطلب، فبقي يقوم بهذه المهمة طوال اثنين و أربعين عاما بكل حرص و رغبة، و لم يمتنع في هذا السبيل عن بذل كل ما استطاع من غال و رخيص أنشأ في ابن أخيه أبياتا سمّاه في بعضها «محمّد» و في بعضها الآخر «أحمد»، و هذا يكشف عن انه صلّى اللّه عليه و آله كان معروفا آنذاك بكلا الاسمين.

(2) و إليك فيما يأتي بعض هذه الأبيات التي سمى فيها «أبو طالب» النبي باسم احمد:

1-

إن يكن ما أتى به أحمد اليوم سناء و كان في الحشر دينا 2-

و قوله لأحمد أنت امرؤخلوف الحديث ضعيف النسب 3-

و إن كان أحمد قد جاءهم بحق و لم يأتهم بالكذب 4-

أرادوا قتل أحمد ظالموه و ليس بقتلهم فيهم زعيم 5-

ألا إنّ خير الناس نفسا و والداإذا عدّ سادات البرية أحمد 6-

فلسنا و بيت اللّه نسلم أحمدالعزّاء من عض الزمان و لا كرب «2» و قد سمى «أبو

طالب» النبي صلّى اللّه عليه و آله في أبيات اخرى بأحمد

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 82 و 83.

(2) ديوان أبي طالب عليه السّلام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:214

أيضا قد ذكرها كبار المحققين من المؤرخين و المحدثين و نسبوها الى أبي طالب و لكنها غير موجودة في ديوانه «1».

كما و أنه قد سمّاه غير ابي طالب في أبياته بأحمد ممّا يدل على أنه كان مشتهرا بهذا الاسم في ذلك الزمان، و تلك الابيات كثيرة تفوق حدّ الحصر و الاحصاء لكنّنا ننقل نماذج منها هنا:

قال حسان بن ثابت في رثائه للنبي صلّى اللّه عليه و آله:

مفجعة قد شفّها فقد أحمدفظلّت لآلاء الرسول تعدّد

أطالت وقوفا تذرف العين جهدهاعلى طلل القبر الذي فيه أحمد «2» و قال في رثائه أيضا:

صلّى الا له و من يحيق بعرشه و الطّيبون على المبارك احمد «3» و قال في رثاء جعفر بن أبي طالب الطيّار:

فمن كان أو يكون كأحمدنظام الحق او نكال لملحد «4»

و قال حسّان و هو يذكر معجزة من معاجز النبي صلّى اللّه عليه و آله:

ففي كفّ أحمد قد سبّحت عيون من الماء يوم الظمأ «5» و قال كعب بن مالك:

فهذا نبيّ اللّه أحمد سبّحت صغار الحصى في كفّه بالترنّم «6» و قال «ورقة بن نوفل» يوم أخبرته خديجة بنزول الوحي على النبي صلّى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) مثل قوله:

لعمري لقد كلفت وجدا بأحمدو أحببته حب الحبيب المواصل

زعمت قريش أن أحمد ساحركذبت و ربّ الراقصات إلى الحرم راجع ديوان أبي طالب، و سيرة ابن هشام: ج 1 ص 272، و شرح النهج لابن ابي الحديد: ج 14 ص 79 و غيرها.

(2) ابن هشام في سيرته: ج 2 ص 667 و 666، و ابن سعد في

طبقاته: ج 2 ص 323.

(3) ابن هشام في سيرته: ج 2 ص 667 و 666، و ابن سعد في طبقاته: ج 2 ص 323.

(4) شاعر عهد الرسالة: تحقيق محمّد عزت نصر اللّه.

(5) بحار الأنوار: ج 16 ص 413 و 415.

(6) بحار الأنوار: ج 16 ص 413 و 415.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:215 فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي حديثك إيانا فاحمد مرسل «1» و قالت عاتكة بنت عبد المطلب ترثي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

يا عين جودي ما بقيت بعبرةسحّا على خير البرية أحمد «2» و قال العباس في مناسبة تزويج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بخديجة:

أحمد سيّد الورى خير ماش و راكب «3»

(1)

فترة الرّضاع في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله:

لم يرتضع وليد قريش المبارك «محمّد» من امّه سوى ثلاثة أيام، ثم حظيت بفخر إرضاعه- بعد ذلك- امرأتان هما:

(2) 1- «ثويبة» مولاة «أبي لهب»، و قد أرضعته أربعة أشهر فقط، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و زوجته الوفية: «خديجة بنت خويلد» يقدّران هذا العمل لها حتى آخر لحظات حياتها «4».

و «ثويبة» هذه كانت قد أرضعت قبل ذلك «حمزة» عم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و «أبا سلمة بن عبد اللّه المخزومي» أيضا فكانوا إخوة من الرضاعة «5».

و قد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد مبعثه، من يشتريها من «أبي لهب» ليعتقها فابى «6».

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يكرمها كلما دخلت عليه، و كان يبعث إليها بالصّلة إلى أن بلغه خبر وفاتها عند منصرفه من وقعة «خيبر» فسأل عن ابنها فقيل: مات قبلها، فسأل عن قرابتها، فقيل: لم يبق منهم أحد «7».

(3) 2- «حليمة السعدية» بنت ابي ذؤيب التي كانت من قبيلة سعد

بن بكر بن هوازن، و كان أولادها عبارة عن: «عبد اللّه»، «أنيسة»، «شيماء»، و قد

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 195.

(2) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 326.

(3) بحار الأنوار: ج 16 ص 72.

(4) تاريخ الخميس في احوال انفس نفيس: ج 1 ص 222.

(5) السيرة النبوية: ج 3 ص 96.

(6) الكامل في التاريخ: ج 1 ص 271.

(7) تاريخ الخميس: ج 1 ص 222- 225 نقلا عن سيرة مغلطاي و غيره.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:216

قامت آخر أولادها و هي «الشيماء» بحضانة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيضا:

و قد كان من عادة العرب يومذاك هو أن يدفعوا أولادهم الرضعاء إلى المراضع اللائي كنّ يعشن في البوادي لينشئوا في تلك البيئات المعروفة بطيب هوائها، و قلة رطوبتها، و عذوبة مائها ببنية قوية، هذا مضافا إلى صيانتهم عن خطر الوباء الذي كان يهدد الأطفال في «مكة»، و لأن ذلك كان له مدخل عظيم، و تأثير بليغ في فصاحة المولود لسلامة لغة أهل القبائل الساكنة في البوادي آنذاك.

(1) و كانت مراضع بني سعد من المشهورات بهذا الأمر بين العرب، فقد كانت نساء هذه القبيلة التي كانت تسكن حوالي «مكة» و نواحي الحرم يأتين «مكة» في كل عام في موسم خاص يلتمسن الرضعاء و يذهبن بهم إلى بلادهنّ حتى تتم الرضاعة.

و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله قد تجاوز شهره الرابع لما قدمت نساء من بني سعد «مكة» يلتمسن الرضعاء في سنة جدب و قحط، و لهذا كنّ بحاجة شديدة إلى مساعدة أشراف «مكة» و اعيانها.

(2) و يقول بعض المؤرخين: أنه لم تقبل أيّة واحدة من تلك المراضع أن تأخذ «محمّدا» بسبب يتمه، و قد كان اغلبهن يردن أن تأخذن من يكون

له أب حيّ حتى يغدق عليهنّ بالمساعدات و الصّلات، و حتى «حليمة» هي الاخرى أبت أخذه، و لكنّها أيضا لم تحصل على طفل لهزال جسمها، فاضطرت الى أن تأخذ حفيد «عبد المطلب» و قالت لزوجها: و اللّه لأذهبنّ الى ذلك اليتيم فلآخذنّه، فقال لها زوجها: لا عليك ان تفعلي، عسى اللّه ان يجعل لنا فيه بركة.

و لقد اصاب الزوجان في ظنّهما هذا، فمنذ أن أبدت «حليمة» استعدادها لخدمة ذلك اليتيم شملت الالطاف الالهية كل مجالات حياتها. «1»

(3) إن القسم الأول من هذه القصة ليس سوى اسطورة، لأن مكانة البيت

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 162 و 163.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:217

الهاشمي الرفيعة، و شخصية رجل عرف بكمال الجود و الاحسان، و بعون المحتاجين و المحرومين كانت سببا في أن لا تعرض المرضعات عن اخذ «محمّد» فحسب، بل يتنازعن على اخذه و لهذا لا يكون هذا القسم من التاريخ سوى اسطورة تكذبها الحقائق.

و اما علة عدم اعطاءه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الى غير «حليمة» من المرضعات فهي: أن وليد قريش لم يقبل أيّ ثدي من أثداء تلكم المرضعات، و لم يزل كذلك حتى قبل ثدي «حليمة السعدية»، فسرّ بذلك «عبد المطلب» و أهله سرورا عظيما، بعد أن حزنهم امتناعه عنهنّ قبل ذلك «1».

قالت «حليمة»: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت، فقلت: أنا امرأة من بني سعد، قال: ما اسمك؟ قلت: حليمة، فتبسّم «عبد المطلب» و قال: بخ بخ سعد و حلم، خصلتان فيهما خير الدهر، و عز الأبد «2».

نظرة الإسلام في تأثير الرضاع:

و هنا ينبغي بالمناسبة أن نشير الى نظرة الإسلام في تأثير الرضاع في شخصيّة الإنسان.

فقد سبق الإسلام العلم الحديث في الكشف عن آثار اللبن في تكوين

الإنسان الخلقي و النفسيّ و العضوي سلبا و إيجابا.

و لهذا حثّ الإسلام على استرضاع الام، كما حث على اختيار المرضعات الصالحات و نهى عن استرضاع اليهودية و المجوسية و النصرانية و المجنونة منعا من انتقال طباعهن إلى الطفل عن طريق الوليد.

و استكمالا لهذا البحث نورد جملة من الأحاديث التي تصرح بهذه الحقيقة العلمية الهامة:

1- قال امير المؤمنين علي عليه السّلام:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 342 و 343.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 89.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:218

«تخيّروا للرضاع كما تخيّرون للنّكاح فان الرّضاع يغيّر الطباع» «1».

2- و عنه عليه السّلام أيضا:

«انظروا من يرضع أولادكم فإن الولد يشبّ عليه» «2».

3- عن الإمام ابي جعفر الباقر عليه السّلام انه قال:

«لا تسترضعوا الحمقاء فان اللبن يعدي، و إن الغلام ينزع إلى اللبن ...» «3».

4- و عنه عليه السّلام أيضا:

«استرضع لولدك بلبن الحسان و إيّاك و القباح فإنّ اللبن قد يعدي» «4».

5- و عن علي عليه السّلام انه قال:

«ما من لبن يرضع به الصبيّ أعظم بركة عليه من لبن امّه» «5».

______________________________

(1) قرب الأسناد: ص 45.

(2) فروع الكافي: ج 2 ص 93.

(3) وسائل الشيعة: ج 15 ص 188.

(4) التهذيب: ج 2 ص 280.

(5) روضة المتّقين: ج 8 ص 554.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:219

(1)

6 فترة الطفولة في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

اشارة

إن صفحات التاريخ تشهد بأن حياة رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من بداية طفولته و أوان صباه و إلى يوم بعثه بالرسالة كانت مشحونة بسلسلة من الحوادث العجيبة التي تعدّ بأجمعها من كراماته صلّى اللّه عليه و آله و تدل على أن حياة النبيّ لم تكن حياة عادية.

(2) و ينقسم المؤلفون في تفسير هذه الحوادث الى طائفتين:

(3)

1- الماديّون، و جماعة من المستشرقين:

فان العلماء الماديين الذين يحصرون الوجود في نطاق المادة، و يعتبرون جميع الظواهر ظواهر مادية، و ينحتون لكل واحدة منها علة طبيعية، لا يهتمون بهذه الحوادث و لا يعيرونها أية أهمية، لامتناع و استحالة وقوع أمثال هذه الظواهر حسب النظرة المادية، و لهذا فكل ما يصادفونه في ثنايا التاريخ من هذا الباب يعتبرونه من ولائد الخيال، و ممّا نسجته اوهام التابعين لذلك الدين، او الطريقة.

و قد تبعهم في هذا الموقف جماعة من المستشرقين فرغم انهم يعتبرون انفسهم- حسب الظاهر- في عداد الموحّدين، و المؤمنين باللّه، و بما بعد الطبيعة من عوالم الغيب، إلّا أنهم- لضعف إيمانهم و بسبب غرورهم العلمي، و غلبة النزعة المادية على أفكارهم و أذهانهم- اتبعوا- لدى تحليلهم لهذه الحوادث- المنهج الماديّ، فنحن

سيد المرسلين ،ج 1،ص:220

نقرأ في كتاباتهم مرارا و تكرارا زعمهم بان النبوة ما هي إلّا نبوغ بشريّ، و أن النبيّ مجرد نابغة اجتماعية استطاع تغيير مسار الحياة البشرية بافكاره النيّرة!!

(1) و لا شك أن مثل هذا التصوّر ينبع من طريقة التفكير المادي الذي يعتبر جميع الأديان من ولائد الفكر البشري و افرازات الذهن الانساني، في حين ان علماء العقيدة اثبتوا في: مباحث «النبوّة العامة» انّ النبوة عطية إلهية، و موهبة ربّانية هي في الحقيقة منشأ جميع الالهامات و الارتباطات المعنوية،

و مصدر لمناهج الأنبياء و برامجهم، ليست أبدا وليدة نبوغهم الإنساني، و لا نسيجة فكرهم البشري، و ليس لها مصدر إلّا الإلهام من الغيب، و لكن عند ما ينظر المستشرق المسيحي الى هذه القضايا من زاوية الفكر المادي و يريد تفسير جميع هذه الظواهر بالاسس العلمية التي كشف عنها التجربة ينتقد مثل هذه الحوادث ذات الطابع الاعجازي، و ربما انكرها من الاساس.

(2) 2- المؤمنون باللّه: الذين يعتقدون بأن العالم المادي بجميع خصوصياته و خواصه يخضع لتدبير عالم آخر، و أن ذلك العالم (اي عالم التجرد و ما وراء الطبيعة) هو المنظم لهذه الطبيعة، و هو المدبر لهذا الكون المادي.

و بعبارة اخرى إن عالم المادة ليس عالما مسيّبا، مستقلا عن غيره، و ان جميع الانظمة و القوانين الطبيعية و العلمية مسبّبة عن تأثيرات موجودات عليا، و بخاصة ناشئة عن إرادة اللّه الخالق، الذي اعطى للمادة وجودها، و أوجد القوانين و العلاقات الصحيحة بين أجزائها، و بنى بقاءها على سلسلة من النواميس الطبيعية.

إنّ هذا الفريق من الناس مع احترامهم للقوانين العلمية، و اذعانهم الصادق بما قاله العلماء في صعيد العلاقات، و الروابط القائمة بين القوانين ممّا أثبته العلم و أكّده، يعتقدون بأن مثل هذه القوانين الطبيعية ليست امورا لا تقبل التغيير، و التبدل.

فهم يعتقدون بأن العالم الاعلى يمكنه- إذا أراد- أن يغيّر تلك القوانين لغايات خاصة، و ليس في مقدوره ذلك فقط، بل فعل ذلك في جملة من الموارد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:221

لأهداف عليا.

(1) و بعبارة اخرى: إنّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل، بل إنّ علتها غير طبيعيّة، و افتقاد العلة الطبيعية (و خاصة العلة الطبيعية غير المعروفة) ليس دليلا على افتقاد مطلق العلة.

و الخلاصة؛ إن

قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدّلها، و تغيّرها بارادة بارئها و خالقها.

إنهم يقولون: إنّ جميع خوارق العادة، و جميع أفعال الأنبياء العجيبة التي تتصف بصفة الاعجاز، و الخارجة عن اطار القوانين الطبيعية، تتحقق من هذه الزاوية.

إنّ هذا الفريق من الناس لا يسمحون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة، و الكرامات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، و الأحاديث، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة، أو يشكّوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية، و القوانين العلمية.

(2) و ها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد، أو الاستبعاد:

(3) 1- لقد نقل المؤرخون عن «حليمة السعدية» قولها بأنها لمّا تكفّلت إرضاع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أرادت أن ترضعه في محضر امّها، ففتحت جيبها و أخرجت ثديها الايسر، و أخذت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوضعته في حجرها، و وضعت ثديها في فمه، فترك النبي صلّى اللّه عليه و آله ثديها، و مال إلى ثديها الأيمن، فاخذت «حليمة» ثديها الأيمن من يد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وضعت ثديها الأيسر في فمه و ذلك أنّ ثديها الأيمن كان جهاما (أي خاليا من اللبن و لم يكن يدرّ به)، و خافت «حليمة» أن النبي صلّى اللّه عليه و آله اذا مصّ الثدي و لم يجد فيه شيئا لا يأخذ- بعده- الأيسر. و لكن النبيّ أصرّ على أخذ الثدي الأيمن، فلمّا مصّ صلّى اللّه عليه و آله الأيمن امتلأ فانفتح حتى ملأ شدقيه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:222

فادهش

الجميع ذلك «1».

(1) 2- و تقول «حليمة» أيضا: إن البوادي أجدبت و حملنا الجهد على دخول البلد، فدخلت مكة مع نساء بني سعد فأخذت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعرفنا به البركة و الزيادة في معاشنا و رياشنا حتى أثرينا، و كثرت مواشينا، و أموالنا «2».

إنّ من المسلم أنّ حكم الماديين، او من يحذو حذوهم و يتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.

فان أتباع المنهج المادي اذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية، نجدهم يبادرون الى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال، و من ولائد الاوهام، و اما اذا كانوا اكثر تأدبا لقالوا: إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى أمثال هذه المعاجز.

و نحن نقول: لا نقاش في أن النبي صلّى اللّه عليه و آله غني عن هذه المعاجز إلّا أن عدم الحاجة شي ء، و الحكم بصحة هذه الامور او بطلانها شي ء آخر.

و أما المؤمن باللّه الذي يردّ النظام الطبيعي، إلى مشيئة اللّه خالق الكون و ارادته العليا، و يعتقد بأن كل الحركات و الظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه (الذرة) الى اكبر موجوداته (المجرة) يجري تحت تدبيره، و نظارته، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث و التأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام، و أمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضا قاطعا.

(2) و لقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول «مريم» أمّ عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عند ما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول:

«... أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ

رُطَباً جَنِيًّا» «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 345 و 346.

(2) المناقب لابن شهر اشوب: ج 1 ص 24.

(3) مريم: 24 و 25.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:223

إنه و ان كان الفرق بين «مريم» و «حليمة» شاسعا و كبيرا من حيث الملكات الفاضلة و المكانة، و المنزلة، إلّا أن منزلة «مريم» عليها السّلام لو استوجبت مثل هذا اللطف الالهي، ففي المقام استوجب نفس مقام الوليد العظيم، و مكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية.

كما انه قد جاء في القرآن الكريم حول مريم عليها السّلام امور اخرى مشابهة.

ان عصمة هذه المرأة الطاهرة، و تقاها و طهرها البالغ كانت بحيث أن «زكريا» كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا، فاذا سألها: من أين لك هذا قالت: هو من عند اللّه؟ «1».

و على هذا الأساس يجب أن لا نتردّد و لا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات، أو نستبعدها.

(1)

خمسة أعوام في الصحراء:

أمضى وليد «عبد المطلب» في قبيلة «بني سعد» مدة خمسة أعوام، بلغ فيها أشده.

و خلال هذه المدة اخذته «حليمة» إلى امّه مرتين أو ثلاث، و قد سلّمته إلى أمه في آخر مرة.

و كانت المرّة الاولى من تلك المرات عند فطامه، و لهذا السبب أتت به صلّى اللّه عليه و آله «حليمة» الى مكة و لكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها، و كان السبب وراء هذا الاصرار على اصطحابها معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد أصبح مبعث خير و رخاء، و بركة في منطقتها، و قد دفع شيوع مرض الوباء في «مكة» إلى ان تقبل امّه الكريمة بهذا الطلب «2».

(2) و أما المرة الثانية من تلك المرات فكانت عند ما قدم جماعة من نصارى

______________________________

(1) «... وَ كَفَّلَها

زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا، الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ». (آل عمران: 37).

(2) بحار الأنوار: ج 15 ص 401.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:224

الحبشة الى الحجاز، فوقع نظرهم على محمّد صلّى اللّه عليه و آله في «بني سعد»، و وجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الذي سيأتي بعد عيسى المسيح عليه السّلام، و لهذا عزموا على أخذه غيلة الى بلادهم لما عرفوا ان له شأنا عظيما، لينالوا شرف احتضانه و يذهبوا بفخره «1».

(1) و لا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن علائم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذكرت في الانجيل حسب تصريح القرآن الكريم، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم التي قرءوها و درسوها في كتبهم.

يقول القرآن الكريم في هذا المجال:

«وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» «2».

ثمّ انّ في هذا الصعيد آيات أخر صرّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح، و من غير إبهام، و أن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر «3».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 167.

(2) الصف: 6.

(3) «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ».

(الأعراف: 157).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:225

(1)

7 العودة إلى أحضان العائلة

اشارة

لقد خلقت يد القدرة الالهية كل فرد من أفراد النوع الانساني لأمر معين، فهناك من خلق لاكتساب العلم و المعرفة، و هناك من خلق للاختراع و الاكتشاف، و ثالث خلق للسعي و العمل، و بعض للتدبير

و السياسة و فريق للتدريس و التربية و هكذا.

و إن المربّين المخلصين الذين يهمّهم تقدم الأفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نصب أحد في عمل من الاعمال و لا يعهدون إليه مسئولية من المسئوليات إلّا بعد اختبار سليقته و مواهبه، بغية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، اذ في غير هذه الحالة يتعرّض المجتمع لضررين كبيرين: احدهما: أن لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به، و الثاني: ان يبقى العمل الذي قام به ناقصا، مبتورا.

(2) و قد قيل في المثل: لكل انسان موهبة، و السعيد هو من اكتشف تلكم المواهب، و اصابها.

و قد ذكروا أن استاذا كان ينصح تلميذا له كسولا، و يعدّد له مضارّ الكسل و التواني، و يصف له حال من ترك الاشتغال بالعلم، و ضيّع ربيع حياته في البطالة و الغافلة.

و بينما الاستاذ ينصح تلميذه- و هو يسمع مواعظ استاذه- رأى تلميذه يرسم

سيد المرسلين ،ج 1،ص:226

بقطعة من الجص صورة على المنضدة، فادرك من فوره أن هذا الصبيّ لم يخلق للدرس و تحصيل العلم، بل خلقته يد القدرة للرسم، فطلب منه أن يصطحب أباه الى المدرسة في اليوم القادم، ثم قال لوالد الصبيّ: إذا كان ولدك هذا كسولا في التعلم، و التحصيل فانه يمتلك ذوقا رفيعا في الرسم، و رغبة كبيرة في التصوير.

و قبل الوالد نصيحة المعلّم هذه و لم يمض زمان طويل إلّا و برع الصبي و غدى قمة في هذا الفن، بعد أن تابع هوايته بشغف و أكثر من ممارستها.

(1) إن فترة الطفولة و الصبا في حياة الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم، و يتعرفوا عليها من خلال تصرفاتهم، و أفكارهم و ردودهم، لأن حركات الطفل و

أقواله الجميلة و الحلوة خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب و قابليات و صفات لو توفّرت لها ظروف التربية الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة، و أحسن وجه.

إن مطالعة فاحصة لحياة النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و أقواله و أفعاله الى وقت البعثة المباركة توقفنا على صورة كاملة لشخصيته صلّى اللّه عليه و آله و توضح لنا أهدافه العليا، على أن مطالعة صفحات الطفولة في حياته صلّى اللّه عليه و آله فقط لا تكشف لنا عن مستقبله المشرق، بل ان دراسة الصورة الاجمالية لحياته و تاريخه إلى يوم مبعثه الشريف، و إعلانه عن نبوّته و قيادته للمجتمع، تخبرنا عن ذلك المستقبل العظيم، و بالتالي عن هذه الحقيقة و هي أن هذه الشخصية خلقت لأيّ عمل، و أن ادّعاء الرسالة و القيادة له هل ينسجم مع سوابقه التاريخية أم لا؟؟

هل تؤيّد تفاصيل حياته خلال أربعين سنة قبل الرسالة، و هل تؤيّد أفعاله و اقواله، و بالتالي: سلوكه مع الناس و معاشرته الطويلة مع الآخرين رسالته أم لا؟؟

(2) من هنا نعمد الى عرض بعض الصفحات من حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أيامها و سنواتها الاولى.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:227

لقد حافظت مرضعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليه خمس سنوات، و قامت في هذه المدة برعاية شئونه خير قيام، و بالغت في كفالته و العناية به، و في خلال هذه المدة تعلّم النبي لغة العرب على احسن ما يكون، حتى انه صلّى اللّه عليه و آله كان يفتخر بذلك في ما بعد اذ كان يقول:

أنا أعربكم (اي أفصحكم) ... و ارضعت في بني سعد» «1».

ثم ان «حليمة» جاءت به إلى «مكة»،

و بقي عند امّه الحنون ردحا من الزمن، و في كفالة جده العظيم: «عبد المطلب» ردحا آخر منه، و كان هو السلوة الوحيدة لاقاربه و البقية الباقية من أبيه: «عبد اللّه» «2».

(1)

سفرة إلى يثرب:

منذ أن فقدت كنّة «عبد المطلب» و عروس ابنها: «آمنة» زوجها الشاب الكريم: «عبد اللّه» باتت تترقب الفرص لتذهب إلى «يثرب» و تزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب، و تزور اقاربها في يثرب في نفس الوقت.

و ذات مرة فكّرت بأن تلك الفرصة قد سنحت، و أن ولدها «محمّدا» قد كبر، و يمكنه أن يشاركها في حزنها، فتهيأت هي و أمّ ايمن للسفر، و اتجهت نحو يثرب برفقة «محمّد»، و لبثت هناك شهرا.

و لقد انطوت (و بالاحرى حملت) هذه السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش «محمّد» لأنه صلّى اللّه عليه و آله راى فيها و لأوّل مرة البيت الذي توفي فيه والده العزيز، و دفن «3» و كانت والدته قد حدّثته بامور عن والده إلى ذلك الحين.

و كانت لا تزال سحابة الحزن تخيّم على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة اخرى، و غشيه موج آخر من الحزن لأنه عند عودته من مكة فقد امّه

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 89.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 167.

(3) كان البيت الذي يضمّ قبر «عبد اللّه» عليه السّلام لا يزال موجودا حتى قبيل توسعة الدائرة حول المسجد النبوي الطاهر، و لكنه ازيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:228

العزيزة في اثناء الطريق في منطقه تدعى ب «الابواء» «1».

(1) إن هذه الحادثة قد عزّزت مكانة الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله في عشيرته اكثر فأكثر، و جعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم، فهو الزهرة الوحيدة من تلك

الجنينة المباركة، كما انه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جده «عبد المطلب» و لهذا كان يحبّه اكثر من أبنائه، بل و يؤثره عليهم جميعا.

و من ذلك أنه كان يمدّ في فناء الكعبة المعظمة بساط لزعيم قريش «عبد المطلب» فيجلس هو عليه و يتحلّق حوله وجوه قريش و سادتها و أولاده فإذا وقعت عيناه على بقية عبد اللّه «محمّد» أمر بأن يفرّج له حتى يتقدم نحوه ثم يجلسه الى جنبه على ذلك البساط المخصوص به «2».

(2) ان القرآن الكريم يذكّر النبي صلّى اللّه عليه و آله بفترة يتمه و يقول: «أ لم يجدك يتيما فآوى».

إن الحكمة وراء يتم وليد قريش ليست واضحة لنا تمام الوضوح، و لكننا نعلم إجمالا بأن سيل هذه الحوادث المؤلمة احيانا، و المزعجة احيانا اخرى لم يك خاليا عن حكمة معقولة و مصلحة رشيدة، بيد أننا مع كل هذا يمكن لنا الحدس بأن اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشرى و معلمه، و إمام الانسانية و هاديها- و قبل ان يتسلم مهامه، و يزاول مسئولياته العظمى و يبدأ قيادته- حلو الحياة و مرّها، و يجرّب سراء العيش و ضرّاءه، حتى تتهيّأ لديه تلك الروح الكبرى الصبورة الصامدة، و يدّخر من تلك الحوادث الصعبة تجارب و دروسا، و يعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد و المصاعب، و المشاق و المتاعب التي كانت تنتظره في المستقبل.

(3) و ربما أراد اللّه تعالى أن لا تكون في عنق نبيّه طاعة لأحد، و لهذا أنشأه حرا خليا من كل قيد، منذ الايام الاولى من حياته، يصنع نفسه بنفسه و يقيّض لها موجبات الرشد، و اسباب الرقيّ ليتضح أن نبوغه ليس نبوغا بشريا عاديا

و مألوفا

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 105.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 168.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:229

و انه لم يكن لوالديه اي دخل فيه و في مصيره، و بالتالي فان عظمته الباهرة نابعة من مصدر الوحي، و ليست من العوامل العادية و الاسباب المأنوسة المتعارفة.

(1)

وفاة عبد المطّلب:

لقد جرت عادة الحياة ان تتعرض للمرء باستمرار، و تستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة موجّهة ضرباتها القوية لروحه، و نفسه.

أجل هذه هي طبيعة الحياة و سنتها مع أفراد النوع الانساني من دون استثناء.

و لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمعزل عن هذه السنة المعروفة و هذه القاعدة الحياتية العامة.

فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لوفاة والديه بعد حتى فاجأته مصيبة كبرى.

إنه لم يكن يمض من عمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اكثر من ثمان سنوات إلا و فقد جدّه العظيم «عبد المطلب»، و قد اعتصرت وفاة «عبد المطلب» قلب رسول اللّه ألما و حزنا، و كان لها وقع شديد على نفسه المباركة، حتى أنه بكى لفقده بكاء شديدا و ظلّت دموعه تجري من أجله إلى أن وري في لحده، و لم ينس ذكره ابدا!! «1».

(2)

كفالة أبي طالب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

سيكون لنا حديث مفصّل حول شخصيّة أبي طالب في فصل خاص «2» و سنثبت هناك إيمانه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالوثائق و الأدلة القاطعة، و لكنّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث المرتبطة بفترة كفالته للنبي

______________________________

(1) كتب اليعقوبي في تاريخه: ج 2 ص 10 و 11 من تاريخه حول سيرة عبد المطلب، و أنه كان موحّدا لا وثنيا، و ذكر أن الإسلام أمضى الكثير من سننه.

(2) في حوادث السنة العاشرة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:230

صلّى اللّه عليه و آله.

لقد تكفّل أبو طالب- و لأسباب خاصة- رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و تقبل تحمّل هذه المسئولية بفخر و اعتزاز، و لأنّ أبا طالب- مضافا الى العلل المشار إليها- كان أخا لوالد النبي من أمّ واحدة أيضا «1»

كما أنّه كان معروفا بجوده و كرمه، و من هنا أوكل «عبد المطلب» أمر كفالة النبي صلّى اللّه عليه و آله حفيده، إليه، و سوف نقص عليك تدريجا سطورا ذهبية من تاريخه، تمثل شاهد صدق على خدماته القيامة، و أياديه الجليلة.

يقولون: إن النبي شارك و هو في العاشرة من عمره جنبا إلى جنب مع عمّه في حرب من الحروب «2» و حيث أن هذه الحرب وقعت في الأشهر الحرم لذلك سمّيت بحرب «الفجار» و قد وردت تفاصيل حروب «الفجار» في التاريخ بشكل مسهب.

(1)

سفرة إلى الشام:

لقد جرت العادة ان يسافر تجار قريش الى الشام كل سنة مرة واحدة

فعزم «ابو طالب» على أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرة، و عالج مشكلة ابن اخيه «محمّد» الذي ما كان يقدر على مفارقته بأنه قرر أن يتركه في مكة في خراسة جماعة من الرجال، و لكنه ساعة الرحيل واجه من ابن اخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور فقد شاهد «محمّدا» و قد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم «ابي طالب»، فاحدثت ملامح «محمّد» الكئيبة طوفانا من المساعر العاطفية في قلب «أبي طالب» بحيث اضطرته إلى أن يرضى

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 179، و امهما هي فاطمة المخزومية.

(2) لقد كتب اليعقوبي في تاريخه: ج 1 ص 15 طبعة النجف أنّ أبا طالب لم يشترك في هذه الحرب قط، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضا، لأنه كان ظلما و عدوانا، و قطيعة رحم و استحلالا للشهر للحرام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:231

بمشقة اصطحاب «محمّد» في تلك الرحلة «1».

(1) لقد كانت سفرة النبي صلّى اللّه عليه و آله هذه التي قام بها بصحبة عمّه و كافله «ابي طالب» في الثانية

عشرة من عمره، من اجمل و أطرف أسفاره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنه صلّى اللّه عليه و آله عبر فيها على: «مدين» و «وادي القرى» و «ديار ثمود» و اطّلع على مشاهد الشام الطبيعية الجميلة.

و لم تكن قافلة قريش التجارية قد وصلت إلى مقصدها حتى حدثت في منطقة تدعى «بصرى» قضية غيرت برنامج «ابي طالب» و تسببت في عدوله عن المضي به في تلك الرحلة و القفول الى مكة.

(2) و إليك فيما يلي مجمل هذه القضية:

كان يسكن في «بصرى» من نواحي الشام راهب مسيحي يدعى «بحيرا» يتعبّد في صومعته، يحترمه النصارى في تلك الديار.

و كانت القوافل التجارية إذا مرت على صومعته توقفت عندها بعض الوقت و تبركت بالحضور عنده.

و قد اتفق أن التقى هذا الراهب قافلة قريش التي كان فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلفت نظره شخصية «محمّد»، و راح يحدق في ملامحه، و كانت نظراته هذه تحمل سرا عميقا ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد و بعد دقائق من

______________________________

(1) و يذكر «أبو طالب» في ابيات له قصّة هذه السفرة و ما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض الأبيات:

إنّ ابن آمنة النبي محمّداعندي يفوق منازل الأولاد

لما تعلّق بالزمام رحمته و العيس قد قلّصن بالازواد

فارفضّ من عينيّ دمع ذارف مثل الجمان مفرّق الأفراد

راعيت فيه قرابة موصولةو حفظت فيه وصية الأجداد

و أمرته بالسير بين عمومةبيض الوجوه مصالت أنجاد

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوالاقوا على شرك من المرصاد

حبرا فاخبرهم حديثا صادقاعنه و ردّ معاشر الحسّاد (تاريخ ابن عساكر: ج 1 ص 269- 272 و ديوان ابى طالب: ص 33- 35).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:232

النظرات الفاحصة، و التحديق في وجه النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله خرج عن صمته و انبرى سائلا: انشدكم باللّه أيّكم وليّه؟

فأشار جماعة منهم الى «أبي طالب» و قالوا: هذا وليّه.

فقال «أبو طالب»: إنه ابن أخي، سلني عمّا بدا لك.

(1) فقال «بحيرا»: إنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، نجده في كتبنا و ما روينا عن آبائنا، هذا سيّد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه رحمة للعالمين. احذر عليه اليهود لئن رأوه و عرفوا منه ما أعرف ليقصدنّ قتله «1».

هذا و قد اتفق اكثر المؤرخين على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يتعدّ تلك المنطقة، و ليس من الواضح أن عمه «أبا طالب» بعثه الى مكة مع أحد، (و يستبعد أن يكون عمه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من الراهب بحيرا)، أم أنه اصطحبه بنفسه إلى مكة، و انثنى عن مواصلة سفره الى الشام «2».

و ربما قيل أنه تابع- بحذر شديد- سفره الى الشام مع ابن اخيه «محمّد».

(2)

اكذوبة المستشرقين:

لقد آلينا على أنفسنا في هذا الكتاب ان نشير إلى أخطاء المستشرقين و غلطاتهم بل و ربما أكاذيبهم، و اتهاماتهم الباطلة، و شبههم الواهية ليتضح للقراء الكرام الى أيّ مدى يحاول هذا الفريق إرباك أذهان البسطاء من الناس، و بلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!!

إن قضية اللقاء الذي تم- في بصرى- بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و الراهب «بحيرا» لم تكن سوى قضيه بسيطة، و حادثة عابرة و قصيرة، إلا أنها وقعت في ما بعد ذريعة بأيدي هذه الزمرة (المستشرقون) فراحوا يصرّون أشدّ اصرار على أنّ

______________________________

(1) روى تاريخ الطبري: ج 2 ص 32 و 33، و السيرة النبوية: ج 1 ص 180- 183 هذه القصّة بتفصيل أكبر و قد اختصرناها هنا

تمشيا مع حجم هذا الكتاب.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 182 و 183.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:233

ما أظهره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تعاليم رفيعة سامية بعد 28 عاما، و استطاع بها أن يحيي بها تلك الامة الميّتة قد تلقاها من الراهب «بحيرا» في هذه السنفرة. و يقولون: إن «محمّدا» بما تمتع به من قوة ذاكرة، و صفاء نفس و دقة فكر، و عظمة روح وهبته اياها يد القدر، أخذ من الراهب «بحيرى» في لقائه به، قصص الأنبياء السالفين و الاقوام البائدة مثل عاد و ثمود، و كثيرا من تعاليمه الحيوية.

(1) و لا ريب في أن هذا الكلام ليس سوى تصور خيالي لا يتلاءم و لا ينسجم مع حياته صلّى اللّه عليه و آله، بل و تكذبه الموازين العقلية، و إليك بعض الشواهد على هذا:

(2) 1- لقد كان «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله باجماع المؤرخين اميّا، لم يتعلم القراءة و الكتابة، و كان عند سفره الى الشام، و لقائه ب «بحيرا» لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد، فهل يصدّق العقل- و الحال هذه- أن يستطيع صبي لم يدرس و لم يتعلّم القراءة و الكتابة و لم يتجاوز ربيعة الثاني عشر ان يستوعب تلك الحقائق من «التوراة» و «الإنجيل»، ثم يعرضها- في سن الاربعين- على الناس بعنوان الوحي الالهيّ و الشريعة السماوية؟!

إن مثل هذا الأمر خارج عن الموازين العادية، بل ربما يكون من الامور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم الاستعداد البشري.

(3) 2- إن مدة هذا اللقاء كان أقل بكثير من أن يستطيع محمّد صلّى اللّه عليه و آله في مثل تلك الفترة الزمنية القصيرة أن يستوعب «التوراة» و «الانجيل»، لأن هذه الرحلة كانت

رحلة تجارية و لم يستغرق الذهاب و الاياب و الاقامة اكثر من أربعة أشهر، لأن قريشا كانت تقوم في كل سنة برحلتين، في الصيف إلى «اليمن»، و في الشتاء إلى «الشام»، و مع هذا لا يظنّ أن تكون الرحلة برمتها قد استغرقت اكثر من اربعة أشهر، و لا يستطيع اكبر علماء العالم و اذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه المدة القصيرة جدا محتويات دينك الكتابين، فضلا عن صبي لم يدرس، و لم يتعلم القراءة و الكتابة من احد.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:234

هذا مضافا إلى أنه لم يكن يصاحب صلّى اللّه عليه و آله ذلك الراهب كل تلك الاشهر الاربعة بل ان اللقاء الذي وقع اتّفاقا في أحد منازل الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا اكثر.

(1) 3- إن النص التاريخي يشهد بأن «ابا طالب» كان ينوي اصطحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى الشام، و لم يكن مقصده الأصلي «بصرى» بل إن «بصرى» كان منزلا في أثناء الطريق تستريح عنده القوافل التجارية أحيانا، و لفترة جدا قصيرة.

فكيف يمكن في مثل هذه الصورة ان يمكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك المنطقة، و يشتغل بتحصيل علوم «التوراة» و «الانجيل» و معارفهما؟ سواء قلنا بأن «ابا طالب» أخذه معه الى الشام، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكة أو أعاده بصحبة أحد الى مكة؟!

و على كل حال فان مقصد القافلة و مقصد «ابي طالب» لم يكن «بصرى» ليقال: ان القافلة اشتغلت فيها بتجارتها، بينما اغتنم «محمّد» الفرصة و اشتغل بتحصيل معارف العهدين.

(2) 4- إذا كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله قد تلقى امورا و معارف من الراهب المذكور اذن لاشتهر ذلك بين

قريش حتما، و لتناقل الجميع خبر ذلك بعد العودة إلى مكة.

هذا مضافا إلى أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه ما كان يستطيع أن يدعي أمام قومه في ما بعد بأنه أمي لم يدرس كتابا، و لا تلمذ على أحد، في حين أن النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله افتتح رسالته بهذا العنوان، و لم يقل أحد، يا محمّد كيف تدعي بأنك لم تقرأ و لم تدرس عند احد و قد درست عند راهب «بصرى» و تلقيت منه هذه الحقائق الناصعة و أنت في الثانية عشرة من عمرك؟

لقد وجّه مشركوا مكة جميع انواع الاتهام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و بالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرعوا بها لتفنيد دعوته، حتى أنهم عند ما شاهدوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذات مرة عند

سيد المرسلين ،ج 1،ص:235

«مروة» يجالس غلاما نصرانيا استغلوا تلك الفرصة و قالوا: لقد أخذ «محمّد» كلامه من هذا الغلام، و يروي القرآن الكريم مزعمتهم هذه بقوله:

«و لقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلّمه بشر لسان الّذي يلحدون إليه أعجميّ و هذا لسان عربيّ مبين» «1».

و لكن القرآن الكريم لم يتعرض لذكر هذه الفرية قط كما أن قريشا المجادلين المعاندين لم يتذرعوا بها أبدا، و هذا هو بعينه دليل قاطع و قوي على أن هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا هذا، و من نسج خيالهم!! (1) 5- إن قصص الأنبياء و الرسل التي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض و تتنافى مع ما جاء في التوراة و الانجيل.

فقد ذكرت قصص الأنبياء و احوالهم في هذين الكتابين بصورة مشينة جدا، و طرحت بشكل

لا ينفق مع المعايير العلمية و العقلية مطلقا، و ان مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب و بين القرآن الكريم من جانب آخر تثبت بأن قضايا القرآن الكريم و معارفة لم تتخذ من ذينك الكتابين بحال، و لو أن النبيّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد اكتسب معارفه و معلوماته حول الأنبياء و الرسل من العهدين لجاء كلامه مزيجا بالخرافات و الأوهام «2».

(2) 6- إذا كان راهب «بصرى» يمتلك كل هذه الكمية من المعلومات الدينية و العلميّة التي عرضها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما ذا لم يحض هو بأي شي ء من الشهرة، لما ذا ترى لم يربّ غير «محمّد» في حين أن معبده كان مزار الناس و مقصد القوافل؟! (3) 7- يعتبر الكتاب المسيحيّون «محمّدا» صلّى اللّه عليه و آله رجلا أمينا صادقا، و الآيات القرآنية تصرح بأنه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن على علم مسبق

______________________________

(1) النحل: 103.

(2) تتجلى هذه الحقيقة أكثر فاكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن الكريم، بين ما جاء في نصوص العهدين (التوراة و الإنجيل) و قد تصدى بعض الكتاب الإسلاميين لمثل هذه المقارنة، و قد تعرضنا لها أيضا في بعض دراساتنا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:236

أصلا بقصص الأنبياء و الامم السابقين، و أن معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلا عن طريق الوحي.

فقد جاء في سورة «القصص» الآية (44) هكذا: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ».

و جاء في سورة «هود» الآية (49) بعد نقل قصة نوح: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا».

إن هذه الآيات توضح أن

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن على علم أبدا بهذه الحوادث، و الوقائع.

و هكذا جاء في الآية (44) من سورة «آل عمران»: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ».

إن هذه الآية و غيرها من الآيات العديدة تصرح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن طريق الوحي فقط، و هو لم يكن على علم بها مطلقا.

(1)

نظرة إجماليّة إلى التوراة الحاضرة:
اشارة

إنّ هذا الكتاب السماويّ تورّط في تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء و المرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقا، و ها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتضح لنا أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لو كان قد أخذ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلما ذا لا يحتوي هذا الكتاب العظيم على تلك الأضاليل التي انطوى عليها «التوراة» و «الانجيل».

و إليك بعض ما جاء حول الأنبياء و المرسلين في «التوراة» و «الانجيل» و نقارن ذلك بما جاء في القرآن الكريم ليتضح مدى الفرق بين الكتابين (العهدين، و القرآن).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:237

(1)

1- داود عليه السّلام:

جاء في التوراة: «إن داود رأى من على السطح امرأة تستحمّ، و كانت المرأة جميلة المنظر جدا، فأرسل داود و سأل عن المرأة، فقال واحد: إنها امرأة اوريّا فأرسل داود رسلا و أخذها فدخلت إليه، فاضطجع معها و هي مطهّرة من طمثها ثم رجعت الى بيتها، و حبلت المرأة، فأرسلت و أخبرت داود و قالت: إني حبلى، فأرسل داود إلى يؤاب يقول: اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة «1»، و ارجعوا من ورائه فيضرب و يموت ... فلما سمعت امرأة أوريّا أنه قد مات اوريّا رجلها ندبت بعلها، و لمّا مضت المناحة أرسل داود و ضمّها إلى بيته و صارت له امرأة، و ولدت له ابنا، و امّا الأمر الذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب»!! «2».

هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود، و ترميه بالزنا، و اكراه امرأة محصنة على خيانة زوجها!!

بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داود عليه السّلام بأفضل الاوصاف اذ يقول (في الآية 15 و 16 من سورة النمل):

«وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ ... وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ».

2- النبيّ سليمان عليه السّلام:

تقول «التوراة» عن النبيّ العظيم سليمان عليه السّلام:

1- «و داود الملك ولد سليمان من التي لاوريّا»!! «3».

أي ان سليمان النبيّ الكريم- و العياذ باللّه- هو ابن زنا!!

______________________________

(1) أي في مقدمة الجيش المحارب.

(2) العهد القديم (التوراة): صموئيل، الثاني الاصحاح الحادي عشر 3 إلى 27.

(3) إنجيل متّى: الاصحاح الأول 6.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:238

2- و أحبّ الملك سليمان نساء غريبة ... من الذين قال عنهم الرب لبنيّ إسرائيل: لا تدخلون إليهم، و هم لا يدخلون إليكم لأنّهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبّة، و كانت له سبع مائة من النساء السيدات، و ثلاث مائة من السراري، فأمالت نساؤه قلبه و كان في زمان شيخوخة سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اخرى، و لم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود ابيه، فذهب سليمان وراء عشتورت إلهة الصيد ونين، و ملكوم رجس العمونيين، و عمل سليمان الشرّ في عيني الرب، و لم يتبع الرب تماما كداود أبيه، فغضب الرب على سليمان لأنّ قلبه مال عن الرب إله إسرائيل»!!! «1».

إن سليمان- حسب هذه التعابير التوراتية- يعشق النساء الاجنبيات، و يتقرب إليهن بصنع أصنام لهنّ. و يعبدها معهن، و يرتكب الشرور التي أغضبت الرب!!

بينما يقول القرآن الكريم عن سليمان عليه السّلام «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً» (النمل: 16).

و يقول: «وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها، وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ» (الأنبياء: 81).

إنه نبي عظيم اختاره اللّه تعالى لوحيه، و أصطفاه لأداء رسالاته.

3- يعقوب عليه السّلام:

إنّ «التوراة» تصف النبي العظيم يعقوب عليه السّلام بأنه رجل كذّاب مخادع، أخذ النبوة من أبيه بالمكر و الخداع، «فعند ما شاخ اسحاق و كلّت عيناه عن النظر دعا

عيسو ابنه الاكبر، و طلب منه أن يصطاد له صيدا، و يصنع له طعاما جيدا حتى يباركه، و يعطيه النبوة، و لكن يعقوب (ابن إسحاق من رفقة

______________________________

(1) التوراة: الملوك الأول الاصحاح 11 العبارات 1: 11.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:239

زوجته الأخرى) بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه و تظاهر بأنه عيسو، لابسا ثياب عيسو، و قطعا من جلود جديي المعزى على عنقه لأن عيسو كان مشعرا و كان يعقوب املس الجسد، فبارك اسحاق ابنه يعقوب و منحه النبوة، و بعد ذلك قدم عيسو من الصيد، فعرف اسحاق بانه خدع، و أن يعقوب أخذ منه النبوة بالمكر، فارتعد اسحاق ارتعادا عظيما جدا و قال لعيسو متأسفا: قد جاء أخوك بمكر، و أخذ بركتك»!! «1».

هذا هو حال يعقوب في لسان «التوراة» المحرفة!!

و أما القرآن الكريم فانه يقول عن هذا النبيّ الطاهر:

«وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (الأنعام: 84).

و يقول تعالى أيضا:

«وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» (ص:

45- 47).

4- إبراهيم عليه السّلام:

تقول «التوراة» عن إبراهيم عليه السّلام إنّه لمّا أراد أن يدخل مصر قال لزوجته سارة: إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته، فيقتلونني، و يستبقونك، قولي إنك اختي، ليكون لي خير بسببك و تحيا نفسي من أجلك.

و كذلك فعلت سارة و اخذت إلى بيت فرعون، فصنع إلى إبرام خيرا

______________________________

(1) سفر التكوين: الاصحاح السابع و العشرون: 1 الى 46، و قد ذكرنا هذه

القصّة من التوراة بتلخيص.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:240

بسببها، و صار له غنم، و بقر، و حمير، و عبيد، و إماء، و اتن، و جمال، و لما عرف فرعون- في ما بعد- ان سارة زوجة ابراهيم، و ليس اخته عاتبه قائلا: لما ذا لم تخبرني إنها امرأتك، لما ذا قلت: هي اختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي و الآن هو ذا امرأتك، خذها و اذهب» «1».

إن ابراهيم الخليل عليه السّلام في وصف التوراة رجل كذاب، يكذب و يحتال.

أما القرآن الكريم فيصف هذا النبي الجليل بأعظم الأوصاف، و يعتبره أعظم الأنبياء اذ يقول عنه انه:

1- حنيف موحّد للّه: «وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً» (آل عمران: 67).

2- إمام الناس: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» (البقرة: 134).

3- مسلم: «وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» (آل عمران: 67).

4- حليم: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» (التوبة: 84).

5- امة كاملة بمفرده: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً» (النحل: 120).

6- أواه يخشى اللّه: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ» (التوبة: 84).

7- مصطفى: «لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» (ص: 48).

8- ذو قلب سليم: «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (الصافات: 48).

5- المسيح عليه السّلام:

إن عيسى- حسب رواية الإنجيل- يحتقر أمه، و يزدري بها، فذات يوم جاء إخوته و أمه و وقفوا خارجا و أرسلوا يدعونه، و كان الجمع جالسا حوله، فقالوا له «هو ذا امّك و إخوتك خارجا يطلبونك، فأجابهم قائلا: من أمي و إخوتي؟ ثم نظر حوله إلى الجالسين و قال: ها امّي و إخوتي، لأنّ من يصنع مشيئة اللّه هو أخي و اختي و امّي»!! «2»

______________________________

(1) سفر التكوين: الاصحاح الثاني عشر 1- 20.

(2) إنجيل مرقس: الاصحاح الثالث 31- 35.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:241

إنه يقول هذا الكلام عن امّه التي وصفها القرآن الكريم بأن اللّه تعالى اصطفاها على نساء العالمين «1».

إنه

يفضّل تلاميذه الذين لم يؤموا به في قلوبهم ذرة من خردل، و الذين خذلوه ليلة الهجوم عليه من جانب اليهود «2»- كما يقول الانجيل- على أمه الصدّيقة.

كما إن الانجيل يقول: إن المسيح حوّل الماء الى الخمر في عرس «3» بل يقول إنه عليه السّلام: شرب الخمر «4»، و الحال أن الإنجيل يصرّح بحرمة الخمر في مواضع عديدة.

هذا هو «عيسى» النبي الطاهر و حواريوه حسب رواية الانجيل!! «5».

أما القرآن الكريم فيقول عنه غير ما يقوله «الانجيل» و إليك بعض ما جاء في الكتاب العزيز حول «المسيح» عليه السّلام.

قال اللّه تعالى: «وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» (البقرة: 78).

و قال تعالى أيضا: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ» (النساء:

171)

و يكفي في عظمة المسيح عليه السّلام و علو شأنه انه عليه السّلام كلّم الناس في المهد صبيا و قال: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا. وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا. وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي

______________________________

(1) آل عمران: 42.

(2) انجيل متّى: الاصحاح السابع و العشرون 1- 6 انظر كيف وافق يهوذا الاسخر يوطي و هو أحد الحواريين مع المتآمرين ضدّ المسيح، و أيضا راجع نفس السفر: الاصحاح السادس و العشرين، و راجع انجيل متّى: الاصحاح العاشر أيضا.

(3) إنجيل يوحنا: الاصحاح الثاني 1- 11.

(4) إنجيل لوقا: الاصحاح الأول 15 و غيره.

(5) على أنّ خرافات التوراة و الانجيل لا تنحصر في ما ذكرناه هنا، و للتوسع راجع: أنيس الأعلام تأليف فخر الإسلام، و الهدى الى دين المصطفى للعلامة البلاغي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:242

جَبَّاراً شَقِيًّا. وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ

أُبْعَثُ حَيًّا. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» (مريم: 30- 34).

هذه هي مواقف القرآن الكريم من الأنبياء الكرام، و الرسل العظام، و تلك هي مواقف «التوراة» و «الانجيل» المشينة، المسيئة الى شخصيّة سفراء اللّه مبلّغي رسالاته، فكيف يعقل ان يكون القرآن الكريم مقتبسا من تلك الكتب و بينهما بعد المشرقين؟!

ثم لو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان قد اطّلع على هذه القضايا و القصص قبل إخباره بنبوّته فلما ذا لم يرشح منها شي ء في أحاديثه قبل الرسالة و قد عاش بين قومه طويلا.

قال اللّه سبحانه في معرض الردّ و الجواب على اقتراح المشركين على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأن يأتي لهم بقرآن غير الذي جاء به:

«قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» «1».

فالآية تؤكد على أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان لا بثا في قومه، و لم يكن تاليا لسورة من سور القرآن، أو آيا من آياته، فكل ما أخبر به هو ممّا أوحى به اللّه تعالى إليه بعد ان بعثه بالرسالة «2».

______________________________

(1) يونس: 16.

(2) للتوسّع راجع مفاهيم القرآن: ج 3 ص 321- 323.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:243

(1)

8 فترة الشباب في حياة النبيّ الاكرم

اشارة

يجب ان يكون قادة المجتمع أقوياء شجعان، لا يرهبون أحدا، و لا يخافون شيئا، يمتلكون قوة روحية كبرى، و يتمتّعون بصبر عظيم. و إرادة قوية، صلبة.

فكيف يستطيع الضعفاء و الجبناء و المتردّدون، و ضعاف النفوس قيادة المجتمع، و الخروج به من المازق و المشاكل، و كيف يستطيعون أن يقاوموا اعداءهم و يحافظوا كيانهم و شخصيّتهم من عدوان هذا او ذاك؟!

إن لعظمة القائد الروحية، و لقواه البدنية و

النفسية تأثيرا عظيما و عجيبا في أتباعه و أنصاره، فعند ما اختار الإمام امير المؤمنين عليه السّلام أحد اصحابه المخلصين لولاية «مصر» كتب إلى أهل «مصر» المظلومين الذين ذاقوا الأمرين على أيدي ولاتهم السابقين كتابا ذكر فيه شجاعة هذا الوالي الجديد، الروحية و قدرته النفسية الفائقة، و إليك فيما يلي بعض الفقرات من ذلك الكتاب الذي يعكس الشروط و المواصفات الواقعية في القائد:

«أما بعد فقد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّه لا ينام أيّام الخوف، و لا ينكل عن الأعداء (ساعات الروع، أشدّ على الفجار من حريق النّار، و هو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له و أطيعوا أمره فيما طابق الحق، فإنه سيف من

سيد المرسلين ،ج 1،ص:244

سيوف اللّه، لا كليل الظبّة، و لا نابي الضريبة» «1».

(1)

رسول اللّه و قدرته الروحيّة:

لقد كانت آثار الشجاعة، و القوّة بادية في جبين عزيز قريش منذ طفولته و صباه، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة، و قبيلة هوازن من جهة اخرى، و تدعى «حرب الفجار»، و قد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النبل.

فها هو «ابن هشام» ينقل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «كنت انبّل على أعمامي» «2».

إن مشاركته صلّى اللّه عليه و آله في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعته صلّى اللّه عليه و آله و قدرته الروحية الكبرى، و تساعدنا على أن ندرك مغزى ما قاله أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام في حق النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله: «كنّا اذا أحمر البأس اتّقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه»

«3».

و سوف نشير- و بعون اللّه عند ذكر جهاد المسلمين للكفار و المشركين- إلى نظام العسكرية الاسلامية، و كيفية جهاد المسلمين و قتالهم لأعدائهم التي تمّت بأجمعها بتوجيه من النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هو في نفسه من الابحاث الشّيقة في تاريخ الإسلام.

(2)

حروب الفجار:
اشارة

إنّ الحديث بتفصيل عن هذه الوقائع و عن تكتيكات هذه الحوادث التاريخيّة

______________________________

(1) نهج البلاغة: قسم الرسائل، الرقم 38.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 186، و قد قال ابن الأثير في النهاية بعد نقل هذا الحديث و ضبط الكلمة «انبل» مشدّدة «انبّل»: «إذا ناولته النبل يرمي» راجع مادّة نبل.

(3) نهج البلاغة: فصل في غريب كلامه الرقم 9.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:245

خارج عن إطار هذه الدراسة، بيد أننا- مع ذلك- نعمد إلى بيان أسباب هذه الحروب التي شارك في إحداها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بناء على رواية بعض المؤرخين و حوادثها على نحو الاجمال بغية اطلاع القارئ الكريم.

كانت العرب تقضي عامها كله بالقتال و الاغارة، و قد تسبب هذا الوضع في اختلال حياتهم، و اضطراب امورهم، و لأجل هذا كانوا يحرّمون القتال و يتوقفون عنه في أربعة أشهر من كل عام (هي شهر رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، محرم) ليتسنى لهم- في هذه المدة- أن يقيموا أسواقهم، و يستغلّوها بالكسب و التجارة و البيع و الشراء «1».

(1) و لهذا كانت أسواق «عكاظ» و «مجنّة» و «ذو المجاز» تشهد طوال هذه الاشهر الحرام اجتماعات كبرى و تجمعات حافلة و حاشدة، كان يلتقي فيها العدوّ و الصديق جنبا الى جنب، يتبايعون، و يتفاخرون.

فقد كان شعراء العرب المشهورون يلقون قصائدهم في هذه الاجتماعات الكبرى، كما يلقي كبار خطباء العرب و فصحاؤهم خطبا قوية، و

أحاديث في غاية الفصاحة و البلاغة، و كان اليهود و النصارى و الوثنيون يعرضون معتقداتهم في هذه المناسبات من دون خوف او وجل.

و لكن هذه الحرمة قد هتكت أربع مرات في تاريخ العرب، و تقاتلت القبائل العربية فيما بينها في هذه الأشهر الحرم، و لهذا سمّيت تلك الحروب بحروب «الفجار»، و في ما يلي نشير إليها على نحو الاجمال:

(2)

الفجار الأوّل:

و وقعت الحرب فيها بين قبيلتي «كنانة» و «هوازن» و جاء في سبب نشوب

______________________________

(1) يستفاد من قوله تعالى في الآية 36 من سورة التوبة: «إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه يوم خلق السّماوات و الأرض منها أربعة حرم» أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان ذا جذور دينية، و كانت العرب الجاهلية تحترم هذه الأشهر اتباعا لسنّة «إبراهيم الخليل» عليه السّلام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:246

هذه الحرب أن رجلا يدعى «بدر بن معشر» كان قد أعدّ لنفسه مكانا في سوق «عكاظ» يحضر فيه، و يذكر للناس مفاخره فوقف ذات مرة شاهرا سيفه يقول:

أنا و اللّه أعزّ العرب فمن زعم أنه أعزّ منّي فليضربها بالسيف.

فقام رجل من قبيلة اخرى فضرب بالسيف ساقه فقطعها، فاختصم الناس و تنازعت القبيلتان، و لكنهما اصطلحتا من دون أن يقتل أحد «1».

(1)

الفجار الثّاني:

و كان سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من «بني عامر» و هي جميلة، عليها برقع، فقالوا لها: اسفري لننظر إلى وجهك، فلم تفعل، فقام غلام منهم، فجمع ذيل ثوبها إلى ما فوقه بشوكة فلما قامت انكشف جسمها، فضحكوا، فصاحت المرأة قومها، فأتاها الناس، و اشتجروا حتى كاد أن يكون قتال، ثم اصطلحوا، و انفضّوا بسلام.

(2)

الفجار الثالث:

و سببه أن رجلا من «كنانة» كان عليه دين لرجل من «بني عامر»، و كان الكناني يماطل، فوقع شجار بين الرجل، و استعدى كل واحد منهما قبيلته، فاجتمع الناس، و تحاوروا حتى كاد يكون بينهم القتال، ثم اصطلحوا.

(3)

الفجار الرابع:

و هي الحرب التي- قيل أنه- شارك فيها النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد ادّعى البعض أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يومذاك في الخامسة عشرة، او الرابعة عشرة من عمره.

______________________________

(1) و لقد كان ممّا أزاله الإسلام و محاه هذا التفاخر الجاهلي المقيت، و ستعرف هذا في الابحاث القادمة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:247

و قال بعض: انه كان في العشرين من عمره و حيث أن هذه الحرب قد استمرت أربع سنوات. لهذا يمكن أن تكون جميع هذه الاقوال صحيحة «1».

(1) و قيل في سببه: أن «النعمان بن المنذر» ملك الحيرة كان يبعث الى سوق «عكاظ» في كل عام بضاعة في جوار رجل شريف من أشراف العرب، يجيرها له حتى تباع هناك، و يشتري بثمنها من أقمشة «الطائف» الجميلة المرزكشة ممّا يحتاج إليه، فأجارها «عروة الرجال الهوازني» في تلك السنة، و لكن «البراض بن قيس الكناني» انزعج لمبادرة «عروة» الى ذلك، فشكاه عند «النعمان بن المنذر» و لم يجد اعتراضه و شكواه، فحسد على «عروة» حسدا شديدا، فتربّص به حتى غدر به في أثناء الطريق، و بذلك لطّخ يده بدم هوازني.

(2) و كانت قريش يومذاك حليف كنانه، و قد اتفق وقوع هذا الأمر يوم كانت العرب مشغولة بالكسب و التجارة في سوق عكاظ، فأخبر رجل قريشا بمقتل الهوازنيّ على يد الكنانيّ، و لهذا عرفت قريش و حليفتها بنو كنانة بالأمر قبل هوازن، و أسرعوا في الخروج من «عكاظ»

و توجهوا نحو الحرم (و الحرم هو اربعة فراسخ من كل جانب من مكة، و كانت العرب تحرّم القتال في هذه المنطقة) و لكن هوازن علمت بذلك فلاحقت قريشا و حليفتها فورا، و ادركتهم قبل الدخول في الحرم فوقع بينهم قتال، و لما جنّ الليل كفّوا عن الحرب فاغتنمت «قريش» و حليفتها فرصة الليل، و واصلت حركتها باتجاه الحرم المكي و بذلك نجت من خطر العدو.

و منذ ذلك اليوم كانت تخرج قريش و حليفتها من الحرم بين الفينة و الاخرى و تقاتل هوازن، و قد شارك النبي- صلّى اللّه عليه و آله في بعض تلك الأيام مع أعمامه على النحو الذي مرّ بيانه.

و قد استمر الأمر على هذه الحال مدة أربع سنوات، حتى ان وضعت نهاية

______________________________

(1) التاريخ الكامل: ج 1 ص 358 و 359، السيرة النبوية: ج 1 ص 184 الهامش، تاريخ الخميس:

ج 1 ص 259.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:248

لهذه الحرب الطويلة بدفع قريش لهوازن دية القتلى الذين كانوا يزيدون على قتلى قريش على يد هوازن «1».

و قد أسلفنا أن تحريم القتال في الأشهر الحرم كانت له جذور دينية، و حيث أن حرب «الفجار» استمرت أربع سنوات فيمكن أن يكون لمشاركة النبي صلّى اللّه عليه و آله فيها وجها وجيها و هو الدفاع، خاصة انه لما سئل صلّى اللّه عليه و آله عن مشهده يومئذ فقال: «ما سرّني أنّي أشهده، إنّهم تعدّوا على قومي عرضوا (اي قريش) عليهم (اي على هوازن) أن يدفعوا إليهم البرّاض صاحبهم (اي الذي قتل عروة) فأبوا» «2».

و يحتمل أن تكون مشاركته صلّى اللّه عليه و آله في غير الأشهر الحرم بناء على استمرار هذه الحروب مدة أربعة اعوام، و إنما سميت مع

ذلك بالفجار لأن بدايتها وافقت الأشهر الحرم لا أنّها وقعت بتمامها في الأشهر الحرم.

و بذلك لا يبقى مجال لأن تستبعد مشاركة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في بعض أيام تلك الحرب.

(1)

حلف الفضول:

لقد كان في ما مضى ميثاق و حلف بين الجرهميين يدعى بحلف «الفضول»، و كان هذا الحلف يهدف الى الدفاع عن حقوق المظلومين، و كان المؤسسون لهذا الحلف هم جماعة كانت اسماؤهم برمتها مشتقة من لفظة الفضل، و اسماؤهم- كما نقلها المؤرخ المعروف «عماد الدين ابن كثير»- هي عبارة عن:

«فضل بن فضالة»، و «فضل بن الحارث»، و «فضل بن وداعة» «3»، و حيث أن الحلف الذي عقدته جماعة من قريش فيما بينها كان متحدا في الهدف (و هو الدفاع عن حقوق المظلومين» مع حلف «الفضول» لذلك سمّي هذا الاتفاق

______________________________

(1) سيره ابن هشام: ج 1 ص 184- 187، الأغاني: ج 22 ص 56- 75.

(2) الأغاني: ج 22 ص 73.

(3) البداية و النهاية: ج 1 ص 290.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:249

و هذا الحلف بحلف «الفضول» أيضا.

(1) فقبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين عاما دخل رجل من «زبيد» في مكة في شهر ذي القعدة، و عرض بضاعة له للبيع فاشتراها منه «العاص بن وائل»، و حبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيديّ قريشا، و طلب منهم أن ينصروه على العاص، و قريش آنذاك في انديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الدار و النفر

و محرم أشعث لم يقض عمرته يا للرّجال و بين الحجر و الحجر

إن الحرام لمن تمّت كرامته و لا حرام لثوب الفاجر القذر فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر رجال من قريش، و هيّجت غيرتهم، (2) فقام «الزبير بن عبد المطّلب» و عزم على نصرته،

و أيّده في ذلك آخرون، فاجتمعوا في دار «عبد اللّه بن جدعان» و تحالفوا و تعاهدوا باللّه ليكوننّ يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدّى إليه حقه ما أمكنهم ذلك ثم مشوا إلى «العاص بن وائل» فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

و قد أنشد الزبير بن عبد المطلب في ذلك شعرا فقال:

إن الفضول تعاقدوا و تحالفواألّا يقيم ببطن مكّة ظالم

أمر عليه تعاقدوا و تواثقوافالجار و المعترّ فيهم سالم و قال أيضا:

حلفت لنعقدن حلفا عليهم و إن كنّا جميعا أهل دار

نسمّيه «الفضول» إذا عقدنايعزّبه الغريب لذي الجوار

و يعلم من حوالي البيت أنّااباة الضيم نمنع كلّ عار «1» (3) و قد شارك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، في هذا الحلف الذي ضمن حقوق المظلومين و حياتهم، و قد نقلت عنه صلّى اللّه عليه و آله عبارات كثيرة يشيد فيها بذلك الحلف و يعتزّ فيها بمشاركته فيه و ها نحن ننقل حديثين منها في

______________________________

(1) البداية و النهاية: ج 1 ص 290.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:250

هذا المقام.

قال صلّى اللّه عليه و آله:

«لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت».

(1) كما أن ابن هشام نقل في سيرته أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقول في ما بعد عن هذا الحلف: «ما احبّ أنّ لي به حمر النعم».

و لقد بقي هذا الحلف يحظى بمكانة و احترام قويّين في المجتمع العربي و الإسلامي حتى أن الأجيال القادمة كانت ترى من واجبها الحفاظ عليه و العمل بموجبه، و يدل على هذا قضية وقعت في عهد إمارة «الوليد بن عتبة» الأموي «1» على المدينة.

فقد وقعت بين الإمام الحسين بن علي عليه السّلام و

بين أمير المدينة هذا منازعة في مال متعلّق بالحسين عليه السّلام، و يبدو أن «الوليد» تحامل على الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الإمام السبط الذي لم يرضخ لحيف قط، و لم يسكت على ظلم أبدا:

«أحلف باللّه لتنصفنّي من حقّي، أو لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ لأدعونّ بحلف الفضول» «2».

(2) فاستجاب للحسين فريق من الناس منهم «عبد اللّه بن الزبير»، و كرّر هذه العبارة و أضاف قائلا: و أنا أحلف باللّه لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ معه حتى ينصف من حقّه أو نموت جميعا.

و بلغت كلمة الحسين السبط عليه السّلام هذه إلى رجال آخرين كالمسورة بن مخرمة بن نوفل الزهري» و «عبد الرحمن بن عثمان» فقالا مثل ما قال «ابن الزبير»، فلما بلغ ذلك «الوليد بن عتبة» أنصف الحسين عليه السّلام من حقه حتى رضي «3».

______________________________

(1) من قبل عمّه معاوية.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 132.

(3) البداية و النهاية: ج 2 ص 293.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:251

(1)

9 من فترة الشباب الى مزاولة التجارة

اشارة

يحمل القادة الالهيون العظماء و أصحاب الرسالات السماوية على كواهلهم مسئوليات كبرى، و مهام عظمى تلازم- في الأغلب- التعرض للمتاعب و المصاعب، و العذاب، و تحمل الأذى، بل و ربما التعرض للقتل و الاغتيال، و كلما كبرت الاهداف، عظمت المشاكل، و المتاعب.

و على هذا الاساس، فان نجاح القادة الرساليّين يتوقف على مدى صبرهم و استقامتهم في وجه الاتهامات و المضايقات، و في وجه الأذى و العذاب، لأن الصبر و التحمل في جميع مراحل الجهاد و العمل هو الشرط الاساسيّ للوصول الى المقصود، و الى تحقيق الهدف المنشود و الغاية المطلوبة.

(2) من هنا ليس لقائد حقيقي أن يخشى كثرة العدو،

و ليس له ان ينسحب، أو يضعف لقلّة الاتباع و المؤيدين و بالتالي ليس له أن يقلق للنوائب فيخور عزيمته، او ترخو إرادته، مهما عظمت حلق البلاء و اشتدت، و مهما تزايدت، أو تواترت.

إنّنا نقرأ في تاريخ الأنبياء و قصصهم امورا يعسر على الانسان العاديّ هضمها، و يصعب تصوّرها.

فعن نوح النبيّ عليه السّلام نقرأ أنه دعا قومه تسعمائة و خمسين عاما، و لم تنتج هذه الدعوة الطويلة المضنية سوى قلة من المؤمنين و المؤيدين الذين لم

سيد المرسلين ،ج 1،ص:252

يتجاوز عددهم الواحد و الثمانين، و هذا يعني أنه لم يوفق في كل اثنى عشر عاما إلا لهداية شخص واحد.

إنّ إرادة الصبر، و قوّة التحمّل، و التصبر تظهر لدى الإنسان شيئا فشيئا، فلا بدّ أن تتلاحق حوادث صعبة، و لا بد أن يمرّ المرء بنوائب مزعجة حتى تأنس روحه بالامور الثقيلة، و القضايا الصعبة.

(1) لقد قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شطرا من حياته قبل البعثة في رعي الغنم في الصحاري و القفار، ليكون بذلك صبورا في تربية الناس الذين سيكلّف بقيادتهم و هدايتهم، و ليستسهل كل صعب في هذا المجال.

إن ادارة المجتمع البشريّ من أصعب الامور التي تواجه القادة، و رجال الاصلاح. و المقدرة على الإدارة هذه لا تسنح و لا تتهيّأ لأحد إلّا بعد مزاولة الامور الصعبة، و ممارسة الأعمال الشاقة، و ربما يكون قيام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله برعي الغنم من هذا الباب، و لهذا جاء في الحديث.

«ما بعث اللّه نبيّا قطّ حتّى يسترعيه الغنم ليعلّمه بذلك رعية النّاس» «1».

لقد قضى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شطرا من عمره الشريف في هذا المجال، و ينقل كثير من أرباب

السير و المؤرخين هذه العبارة عنه صلّى اللّه عليه و آله:

«ما من نبيّ إلّا و قد رعى الغنم» قيل: و أنت يا رسول اللّه؟

فقال: «أنا رعيتها لأهل مكّة بالقراريط» «2».

(2) إن شخصية عظيمة يفترض فيها أن تواجه- في المستقبل- أشخاصا عنودين كأبي جهل و أبي لهب، و أن تصنع ممن انحطت أفكارهم حتى أنهم سجدوا لكل حجر و مدر، أفرادا لا يخضعون لأي شي ء سوى ارادة الحق و مشيئته، لا بدّ أن تتسلح قبل ذلك بسلاح الصبر، و تتجهز بأداة التحمل، و تتزود مسبقا بقدرة الاستقامة على طريق الهدف، و هذا لا يكون إلّا بتعويد النفس على هذه

______________________________

(1) سفينة البحار: مادّة نبأ.

(2) السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 166.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:253

الصفات، و حملها على مشاق الاعمال:

(1)

سبب آخر لرعي الغنم:

و يمكن أن نذكر هنا سببا آخر أيضا و هو ان رجلا حرّ النفس و العقل كرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تجري في شرايينه و عروقه دماء الغيرة و الشجاعة كان يشق عليه ان يشاهد كل ذلك الظلم و الحيف الذي كان يمارسه طغاة مكة، و عتاة قريش و زعماؤها الظالمون القساة بحق الضعفاء، و المحرومين، و كذا كان يشق عليه ان يرى تظاهرهم بالعصيان و الفسوق في حرم اللّه، و عند بيته المعظم.

إن اعراض سكّان مكة عن عبادة اللّه الواحد الحق، و طوافهم حول تلك الأصنام الخاوية هي- بلا ريب- أسوأ و اقبح ما يكون في نظر الرجل الفاهم، و العاقل العالم، و اثقل ما يكون عليه.

من هنا رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يقضي ردحا من الزمن في الصحاري و القفار و عند سفوح الجبال التي كانت يومئذ بعيدة بطبيعة الحال عن

تلك المجتمعات الفاسدة و أحوالها و أوضاعها، ليستريح (أو يتخلص) بعض الشي ء من آلامه الروحية الناشئة من رؤية تلك الأوضاع المزرية، و الأحوال المشينة.

(2) على أنّ هذا الأمر لا يعني أن للرجل المتقي أن يسكت على الفساد و الظلم، و يقرّ عليهما.

و يفرّق بين حياته و حياة الآخرين و يعتزل عنهم و يتخذ موقف اللامبالاة تجاه الأوضاع المنحرفة، و الاحوال الشاذة، بل ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لما كان مأمورا من جانب اللّه سبحانه بالسكوت و الانتظار، لانه لم تكن ظروف «البعثة» و الهداية قد توفرت و تهيأت بعد لذلك اتخذ صلّى اللّه عليه و آله مثل هذا الموقف.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:254

(1)

سبب ثالث:

و لقد كان هذا العمل (أي الاشتغال برعي الاغنام في البراري و القفار و عند السهول و سفوح الجبال) فرصة جيدة لأن يتمكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من النظر في خلق السماوات و التطلع في النجوم و الكواكب و أحوالها و أوضاعها، و بالتالي الامعان في الآيات الأنفسية و الآفاقية التي هي جميعا من آيات وجود اللّه تعالى، و من مظاهر قدرته و حكمته و علمه و إرادته.

ان قلوب الأنبياء و المرسلين مع أنها منوّرة بمصابيح المعرفة المشرقة و مضاءة بأنوار الايمان و التوحيد منذ بدء فطرتها، و خلقتها، و لكنهم مع ذلك لا يرون أنفسهم في غنى عن النظر في عالم الخلق، و التفكر في الآيات الالهية، اذ من خلال هذا الطريق يصلون إلى أعلى مراتب الايمان، و يبلغون اسمى درجات اليقين، و بالتالي يتمكنون من الوقوف على ملكوت السماوات و الأرضين.

(2)

اقتراح أبي طالب:

لقد دفع وضع (محمّد) المعيشي الصعب «أبا طالب» سيد قريش و زعيمها الذي كان معروفا بالسخاء و موصوفا بالشهامة، و علو الطبع، و إباء النفس إلى ان يفكر في عمل لابن أخيه، كيما يخفف عنه وطأة ذلك الوضع.

و من هنا اقترح على ابن أخيه «محمّد» العمل و التجارة بأموال «خديجة بنت خويلد» التي كانت امرأة تاجرة، ذات شرف عظيم، و مال كثير، تستأجر الرجال في مالها أو تضاربهم اياه بشي ء تجعله لهم منه.

فقد قال أبو طالب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا ابن أخي هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بما لها اكثر الناس و هي تبحث عن رجل أمين، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك، و فضّلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك.

(3) و لكن إباء

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علوّ طبعه، منعاه من الإقدام

سيد المرسلين ،ج 1،ص:255

بنفسه على هذا الأمر من دون سابق عهد، و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعمّه: فلعلّها أن ترسل إليّ في ذلك، لأنّها تعرف بأنه المعروف بالأمين بين الناس.

فبلغ «خديجة» بنت خويلد، ما دار بين النبيّ و عمه «أبي طالب»، فبعثت إليه فورا تقول له: إنّي دعاني الى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك و عظم أمانتك، و كرم أخلاقك، و أنا اعطيك ضعف ما اعطي رجلا من قومك و ابعث معك غلامين يأتمران بأمرك في السفر.

فاخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمّه بذلك فقال له ابو طالب: «إنّ هذا رزق ساقه اللّه إليك» «1».

هل عمل النبي أجيرا لخديجة؟

(1) و هنا لا بدّ من التذكير بنقطة في هذا المجال و هي:

هل عمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أجيرا في أموال خديجة، أم أنه قد عمل في تجارتها بصورة اخرى كالمضاربة، و ذلك بأن تعاقد النبي مع خديجة على أن يتاجر بأموالها على أن يشاركها في ارباح تلك التجارة؟

انّ مكانة البيت الهاشميّ، و إباء النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله، و مناعة طبعه، كل تلك الامور و الخصال توجب أن يكون عمل النبي في أموال خديجة قد تمّ بالصورة الثانية (أي العمل في تجارتها على نحو المضاربة لا الإجارة)، و تؤيّد هذا المطلب أمور هي:

(2) أولا: انه لا يوجد في اقتراح أبي طالب أيّة اشارة و لا أي كلام عن الإجارة، بل قد تحاور أبو طالب مع إخوته (أعمام النبيّ) في هذه المسألة من قبل و قال:

«امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتى نسألها

ان تعطي محمّدا مالا يتّجر به «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16 ص 22، السيرة الحلبية ج 1 ص 132 و 133، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 24.

(2) بحار الأنوار: ج 16 ص 22.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:256

(1) ثانيا: ان المؤرخ الأقدم المعروف باليعقوبي كتب تاريخه: ان النبي ما كان أجيرا لأحد قط «1».

ثالثا: ان الجنابذي صرّح في كتابه «معالم العترة» بأن «خديجة» كانت تضارب الرجال في مالها، بشي ء تجعله لهم منه (اي من ذلك المال او من ربحه) «2».

(2) تهيّأت قافلة قريش التجارية للسفر الى الشام، و فيها أموال «خديجة» أيضا، في هذا الاثناء جعلت «خديجة» بعيرا قويا و شيئا من البضاعة الثمينة تحت تصرّف وكيلها (أي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله) و امرت غلاميها (ميسرة و ناصح) اللذين قررت ان يرافقاه صلّى اللّه عليه و آله، بان يمتثلا أوامراه، و يطيعاه، و يتعاملا معه بأدب طوال تلك الرحلة، و لا يخالفاه في شي ء «3».

و أخيرا وصلت القافلة إلى مقصدها و استفاد الجميع في هذه الرحلة التجارية أرباحا، إلا أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ربح اكثر من الجميع، كما أنه ابتاع أشياء من الشام لبيعها في سوق «تهامة».

ثم عادت تلك القافلة التجارية إلى «مكة» بعد ذلك المكسب الكبير، و الحصول على الربح الوفير.

و لقد تسنى لفتى قريش «محمّد» أن يمرّ- للمرة الثانية في هذه السفرة- على ديار عاد و ثمود.

(3) و قد حمله الصمت الكبير الذي كان يخيّم على ديار و اطلال تلك الجماعة العاصية المتمردة في نقلة روحانية الى العوالم الاخرى اكثر فاكثر، هذا مضافا إلى أن هذه الرحلة جدّدت خواطره و ذكرياته في السفرة الاولى، فقد تذكّر يوم طوى مع عمه

«ابي طالب» هذه الصحاري نفسها و هذه القفار ذاتها، و ما كان يحظى

______________________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 21.

(2) بحار الأنوار ج 16 ص 9 نقلا عن معالم العترة.

(3) قالت خديجة لهما: اعلما أنني قد أرسلت إليكما أمينا على أموالي و أنّه أمير قريش و سيّدها، فلا يد على يده، فإن باع لا يمنع و إن ترك لا يؤمر و ليكن كلامكما له بلطف و أدب و لا يعلو كلامكما على كلامه بحار الأنوار: ج 16 ص 29.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:257

فيها من عمه من الحدب و العناية.

(1) و عند ما اقتربت قافلة قريش إلى «مكة»، و صارت عند مشارفها، التفت «ميسرة» غلام خديجة، الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: «يا محمّد لقد ربحنا في هذه السفرة ببركتك ما لم نربح في اربعين سنة، فاستقبل بخديجة و أبشرها بربحنا» فأخذ النبي باقتراح ميسرة، و سبق القافلة العائدة في الدخول الى مكة، و توجه نحو بيت «خديجة» بينما كانت خديجة جالسة في غرفتها، فلما رأت النبي مقبلا عليها، نزلت من منظرتها و ركضت نحوه و استقبلته، و أدخلته في غرفتها، فخبّرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما ربحوا، ببيان جميل، و كلام بليغ، فسرت «خديجة» بذلك سرورا عظيما، ثم قدم «ميسرة» في الأثر، و دخل عليها، و أخبرها بكل ما رآه و شاهده من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تلك السفرة من الكرامة و الخير، و الخلق العظيم، و الخصال الكريمة، و من الامور التي كانت برمتها تدل على عظمة شخصيته صلّى اللّه عليه و آله، و سمو خصاله «1»، و من جملة ما حدثها به ميسرة هو أنه لما وقع

بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بين رجل تلاح و جدال في بيع قال له ذلك الرجل: احلف باللات و العزى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما حلفت بهما قط، و إني لأمرّ فاعرض عنهما «2».

(2) و حدثها أيضا بأنه لما مرّ ببصرى نزلا في ظل شجرة ليستريحا فقال راهب كان يعيش هناك لما رأى النبيّ يستريح في ظل تلك الشجرة-: «ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيّ» سأل عن اسمه، فأخبره ميسرة باسمه فقال: «هو نبيّ و هو آخر الأنبياء، إنه هو هو و منزّل الانجيل، و قد قرأت عنه بشائر كثيرة» «3».

______________________________

(1) الخرائج: ص 186، بحار الأنوار: ج 16 ص 5.

(2) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 130 و في بحار الأنوار: ج 16 ص 18: انه صلّى اللّه عليه و آله قال:

إليك عني ثكلتك امّك فما تكلّمت العرب بكلمة اثقل عليّ من هذه الكلمة.

(3) بحار الأنوار: ج 16 ص 18، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 130، الكامل لابن الأثير: ج 2 ص 24 و 25.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:258

(1)

خديجة زوجة الرّسول الاولى:
اشارة

حتى قبل ذلك اليوم لم تكن حالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الاقتصادية و وضعه المالي يحسد عليه، فقد كان بحاجة إلى مساعدة عمّه «أبي طالب» المالية، و لم يكن شغله على النحو الذي يكفي لضمان نفقاته، من جانب، و تمكينه من اختيار زوجة و شريكة حياة و تكوين عائلة، من جانب آخر.

و لكن هذه السفرة إلى الشام و بخاصة على نحو الوكالة و المضاربة في أموال امرأة جليلة، معروفة في قريش (أعني خديجة) ساعدت و الى حدّ كبير على تثبيت وضعه الاقتصادي و تقوية بنيته المالية.

و لقد اعجبت

«خديجة» بعظمة فتى قريش و سموّ أخلاقه، و مقدرته التجارية حتى أنها أرادت أن تعطيه زيادة على ما تعاقدا عليه، تقديرا له، و اعجابا به، و لكنه اكتفى بأخذ ما تقرر في البداية ثم توجه إلى بيت عمه «أبي طالب» و قدّم كل ما أخذه من «خديجة» الى عمه «أبي طالب» ليوسّع به على أهله.

(2) ففرح «أبو طالب» بما عاين من ابن اخيه، و بقية أبيه «عبد المطلب»، و أخيه «عبد اللّه» و اغرورقت عيناه بالدموع، و سرّ بما حقق من نجاح و ما حصل عليه من ربح من تلك التجارة سرورا كبيرا، و استعدّ أن يعطيه بعيرين يسافر عليهما و يتاجر، و راحلتين يصلح بهما شأنه، ليتسنى له بأن يحصل على ثروة و مال يعطيه لعمه ليختار له زوجة.

في مثل هذه الظروف بالذات عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عزما قاطعا على أن يتخذ لنفسه شريكة حياة و يكوّن اسرة، و لكن كيف وقع الاختيار على «خديجة» التي سبق لها أن رفضت كل طلبات الزواج التي تقدم بها كبار الاثرياء و الشخصيات القرشية مثل «عاقبة بن أبي معيط»، و «أبو جهل» و «أبو سفيان» للزواج بها؟؟!، و ما ذا كانت العلل التي جمعت هذين الشخصين غير المشابهين، من حيث مستوى الحياة، و الثراء؟ و كيف ظهرت تلك الرابطة القوية، و تلك العلاقة المعنويّة العميقة، و الالفة و المحبة بينهما إلى درجة أنّ

سيد المرسلين ،ج 1،ص:259

«خديجة» سلام اللّه عليها وهبت كل ثروتها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لينفقها في نشر الإسلام، و إعلاء كلمة الحق، و إرساء قواعد التوحيد، و بث الدين الجديد، و أصبحت تلك الدار المفخمة التي كانت تزينها الكراسي المرصّعة،

و الستر المطرّزة، المصنوعة من أغلى الأقمشة الهندية، و الإيرانية، ملجأ للمسلمين، و ملتقى لانصار الرسالة؟!!

(1) لا بدّ من البحث عن جذور هذه الحوادث في تاريخ حياة «خديجة» نفسها، فان من المسلّم و البديهيّ أن هذا النوع من الفداء، و التفاني و الإيثار لم يكن ثابتا ليتحقق ما لم يكن لها جذور معنوية و طاهرة.

إن صفحات التاريخ لتشهد بأنّ هذا الزواج كان ناشئا من إيمان «خديجة» بتقوى عزيز قريش و فتاها الامين «محمّد» و طهره، و حبها الشديد لعفته و كرم أخلاقه، و لهذا قال النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله في حقها:

«أفضل نساء الجنة أربع: خديجة ...» «1».

إنها أول امرأة آمنت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقد قال علي أمير المؤمنين عليه السّلام: في خطبته التي يشير فيها إلى غربة الإسلام في مبدأ البعثة النبوية الشريفة:

«لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه و خديجة و أنا ثالثهما» «2».

(2) و يكتب «ابن الأثير» قائلا: إنّ عفيف الكندي كان امرأ تاجرا قدم مكة أيام الحج فرأى رجلا قام تجاه الكعبة يصلّي ثم خرجت امراة تصلّي معه، ثم خرج غلام فقام يصلي معه، فمضى يسأل العباس عمّ النبيّ عن هؤلاء، و عن هذا الدين، فقال العباس:

______________________________

(1) خصال الصدوق: ج 1 ص 96 و غيره.

(2) الكامل: ج 2 ص 37، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي الشافعي: ج 13 ص 197- 201.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:260

هذا محمّد بن عبد اللّه ابن أخي زعم أن اللّه ارسله، و هذه امرأته خديجة آمنت به، و هذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به، و أيم اللّه ما أعلم على ظهر الأرض أحدا على هذا الدين إلّا

هؤلاء الثلاثة «1».

و ينبغي هنا أن نعطي لمحة عن مكانة خديجة في الإسلام تكميلا لهذه الدراسة.

خديجة في أحاديث الرسول صلّى اللّه عليه و آله:

لقد اكتسبت «خديجة» بفضل إيمانها العميق بالرسالة المحمدية، و تفانيها في سبيل الاسلام، و بسبب حرصها العجيب على حياة صاحب الرسالة و سلامته، و عملها المخلص على انجاح مهمته، و مشاركتها الفعّالة، في دفع عجلة الدعوة الى الإمام، و مشاطرتها للنبي في اكثر ما تحمله من محن و أذى بصبر و استقامة وحب و رغبة.

لقد اكتسبت خديجة بفضل كل هذا و غيره مكانة سامية في الإسلام، حتى ان النبيّ ذكرها في أحاديث كثيرة و أشاد بفضلها، و مكانتها و شرفها على غيرها من النساء المسلمات المؤمنات، و ذلك و لا شك ينطوي على اكثر من هدف.

فمن جملة الأهداف التي ربما توخاها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الاشادة بخديجة سلام اللّه عليها الفات نظر المرأة المسلمة الى القدوة التي ينبغي أن تقتدي بها في حياتها و سلوكها في جميع المجالات و الأبعاد، و الظروف، و الحالات.

هذا مضافا إلى ما يمكن أن تقدمه المرأة و هي نصف المجتمع (إن لم تكن اكثره أحيانا) من دعم جدّي للرسالة، ماديا كان أو معنويا.

و فيما يلي نأتي ببعض الأحاديث الشريفة التي تعكس مكانة خديجة، و مقامها، و مدى إسهامها في نصرة الإسلام و دعم دعوته، و إرساء قواعده. سيد المرسلين ج 1 260 خديجة في أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله: ..... ص : 260

عن أبي زرعة عن ابي هريرة يقول قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله]:

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13 ص 225 و 226.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:261

أتاني جبرئيل عليه السّلام فقال يا رسول اللّه هذه خديجة

قد أتتك و معها آنية فيها ادام أو طعام أو شراب، فاذا هي أتتك فاقرأ عليها السّلام من ربّها و منّي، و بشّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه و لا نصب» «1».

2- عن عائشة قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، و لقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين، لما كنت اسمعه يذكرها، و لقد أمره ربه عزّ و جلّ ان يبشرها ببيت من قصب في الجنة، و إن كان ليذبح الشاة ثم يهديها الى خلائلها (اي خليلاتها و صديقاتها) «2».

3- و عن عائشة أيضا قالت ما غرت على نساء النبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم إلا على خديجة، و اني لم أدركها، (قالت): و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها الى اصدقاء خديجة قالت: «أي عائشة» فاغضبته يوما فقلت: خديجة!! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«اني قد رزقت حبّها» «3».

4- و من هذا القبيل ما كان يقوم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع صاحبات خديجة من الاحترام لهن و الاحتفال بهنّ:

فقد وقف صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على عجوز فجعل يسألها، و يتحفاها، و قال:

«ان حسن العهد من الايمان، انها كانت تأتينا أيام خديجة» «4»

5- و روي عن انس قال كان النبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] إذا اتي بهدية قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة فانها كانت صديقة لخديجة إنها كانت تحب خديجة» «5»

______________________________

(1) صحيح مسلم: ج 7 ص 133، مستدرك الحاكم: ج 3 ص 184 و 185 بطرق متعددة صحيحة على شرط الشيخين.

(2) صحيح مسلم: ج

7 ص 134، و مثلها في صحيح البخاري: ج 5 ص 38 و 39.

(3) صحيح مسلم: ج 7 ص 134، و مثلها في صحيح البخاري: ج 5 ص 38 و 39.

(4) شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد: ج 18، ص 108.

(5) سفينة البحار: ج 1 ص 380 (خدج).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:262

6- روى مجاهد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الايام فادركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا فقد أبدلك اللّه خيرا منها، فغضب حتى أهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: «لا و اللّه ما أبدلني اللّه خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، و صدّقتني و كذّبني الناس و واستني في ما لها اذ حرمني الناس و رزقني اللّه منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء» قالت عائشة فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة ابدا «1».

7- عن يعلى بن المغيرة عن ابن ابي رواد قال: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم على خديجة في مرضها الذي ماتت فيه، فقال لها:

«يا خديجة أ تكرهين ما أرى منك، و قد يجعل اللّه في الكره خيرا كثيرا، أ ما علمت أن اللّه تعالى زوّجني معك في الجنة مريم بنت عمران، و كلثم اخت موسى و آسية امرأة فرعون ...» «2».

8- عن عكرمة عن ابن عباس قال خطّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربع خطط في الأرض و قال: أ تدرون ما هذا؟ قلنا: اللّه و رسوله أعلم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل نساء الجنة

أربع: خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمّد، و مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم امرأة فرعون» «3».

9- عن أنس جاء جبرئيل الى النبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] و عنده خديجة فقال: إن اللّه يقرئ خديجة السلام فقالت: إن اللّه هو السلام، و عليك السلام، و رحمة اللّه و بركاته «4».

10- عن أبي الحسن الأول (الكاظم) عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 5 ص 438، و رواها مسلم أيضا: ج 7 ص 134، و كذا البخاري: ج 5 ص 39 و قد حذفا آخرها من: فغضب حتى ... الى آخر الرواية.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 347، و أسد الغابة: ج 5 ص 439.

(3) الخصال للصدوق: ج 1 ص 96، كما في بحار الأنوار: ج 16 ص 2.

(4) المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 1816.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:263

اللّه عليه و آله: «إن اللّه اختار من النساء اربعا: مريم و آسية و خديجة و فاطمة» «1».

11- عن ابي اليقظان عمران بن عبد اللّه عن ربيعة السعدي قال أتيت حذيفة بن اليمان و هو في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسمعته يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:

«خديجة بنت خويلد سابقة نساء العالمين إلى الايمان باللّه و بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله)» «2».

12- عن عروة قال قالت عائشة لفاطمة رضي اللّه عنها بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم: أ لا ابشرك أني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] يقول:

«سيدات نساء أهل الجنة أربع: مريم بنت عمران، و فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و

آله] و سلّم، و خديجة بنت خويلد و آسية» «3».

13- عن أبي عبد اللّه (الصادق) عليه السّلام قال: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزله، فاذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها و هي تقول: و اللّه يا بنت خديجة، ما ترين إلا أن لامك علينا فضلا، و أي فضل كان لها علينا؟! ما هي إلّا كبعضنا، فسمع صلّى اللّه عليه و آله مقالتها لفاطمة، فلما رأت فاطمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكت، فقال: ما يبكيك يا بنت محمّد؟! قالت:

ذكرت امّي فتنقّصتها فبكيت، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. ثم قال:

«مه يا حميراء، فان اللّه تبارك و تعالى بارك في الودود الولود، و أن خديجة رحمها اللّه ولدت منّي طاهرا، و هو عبد اللّه و هو المطهّر و ولدت منّي القاسم، و فاطمة، و رقية، و أمّ كلثوم، و زينب، و أنت ممن أعقم اللّه رحمه فلم تلدي

______________________________

(1) الخصال: ج 1 ص 96، كما في البحار: ج 16 ص 2.

(2) المستدرك على الصحيحين: ح 3 ص 184- 186 و وردت روايات بمضمون ذيل الحديث في صحيح مسلم: ج 7 ص 133.

(3) المستدرك على الصحيحين: ح 3 ص 184- 186 و وردت روايات بمضمون ذيل الحديث في صحيح مسلم: ج 7 ص 133.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:264

شيئا» «1».

أجل هذه هي «خديجة بنت خويلد» شرف و عقل، و حب عميق لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و وفاء و إخلاص، و تضحية بالغالي و الرخيص في سبيل الإسلام الحنيف.

هذه هي «خديجة» أول من آمنت باللّه و رسوله، و صدّقت محمّدا فيما جاء به عن ربه، من النساء، و آزره، فكان

صلّى اللّه عليه و آله لا يسمع من المشركين شيئا يكرهه من ردّ عليه، و تكذيب له الّا فرّج اللّه عنه بخديجة التي كانت تخفف عنه «2»، و تهوّن عليه ما يلقى من قومه، بما تمنحه من لطفها، و عطفها، و عنايتها به صلّى اللّه عليه و آله، في غاية الاخلاص و الودّ و التفاني.

و لهذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحبّها حبا شديدا و يجلّها و بقدرها حق قدرها «3»، و لم يفتأ يذكرها، و لم يتزوج عليها غيرها حتى رحلت وفاء لها، و احتراما لشخصها و مشاعرها، و كان يغضب إذا ذكرها احد بسوء، كيف و هي التي آمنت به اذ كفر به الناس، و صدّقته اذ كذّبه الناس، و واسته في ما لها اذ حرمه الناس.

و لهذا أيضا كان وفاتها مصيبة عظيمة أحزنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دفعته إلى أن يسمّي ذلك العام الذي توفي فيه ناصراه و حامياه، و رفيقا آلامه (زوجته هذه: خديجة بنت خويلد و عمه المؤمن الصامد الصابر ابو طالب عليهما السّلام) بعام الحداد، او عام الحزن «4» و ان يلزم بيته و يقلّ الخروج «5»،

______________________________

(1) الخصال: ج 2 ص 37 و 38، كما في بحار الأنوار: ج 16، ص 3.

(2) اعلام النساء لعمر رضا كحالة: ج 1 ص 328.

(3) اعلام النساء: ج 1 ص 330.

(4) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 35، و قد روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنه قال بهذه المناسبة:

«اجتمعت على هذه الامة مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشدّ جزعا» المصدر نفسه، و راجع تاريخ الخميس: ج 1 ص 301 نقلا عن سيرة مغلطاى.

(5)

السيرة الحلبية: ج 1 ص 347، المواهب اللدنية حسب نقل تاريخ الخميس: ج 1 ص 302 و فيه إضافة: و نالت قريش منه ما لم تكن تنال.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:265

و أن ينزل صلّى اللّه عليه و آله عند دفنها في حفرتها، و يدخلها القبر بيده، في الحجون «1».

عن ابن عباس في حديث طويل في زواج فاطمة الزهراء عليها السّلام بعلي عليه السّلام اجتمعت نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان يومئذ في بيت عائشة ليسألنّه أن يدخل الزهراء على (عليّ) عليه السّلام فاحدقن به و قلت:

فديناك بآبائنا و أمهاتنا يا رسول اللّه قد اجتمعنا لأمر لو أنّ «خديجة» في الأحياء لقرّت بذلك عينها.

قالت أمّ سلمة: فلما ذكرنا «خديجة» بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم قال: «خديجة و اين مثل خديجة، صدّقتني حين كذّبني الناس و وازرتني على دين اللّه و أعانتني عليه بمالها، إن اللّه عزّ و جلّ أمرني أن ابشر خديجة ببيت في الجنة من قصب (الزمرّد) لا صخب فيه و لا نصب» «2».

لقد كانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفا، و اكثرهنّ مالا، و احسنهن جمالا و أقواهنّ عقلا و فهما و كانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة لشدة عفافها و صيانتها «3» و يقال لها: سيدة قريش «4»، و كان لها من المكانة و المنزلة بحيث كان كل قومها و سراة أبناء جلدتها حريصين على الاقتران بها «5»، و قد خطبها- كما يحدثنا التاريخ- عظماء قريش و بذلوا لها الأموال، و ممن خطبها «عاقبة بن ابي معيط» و «الصلت بن ابي يهاب» و «ابو جهل» و «ابو سفيان» فرفضتهم جميعا، و اختارت رسول اللّه- و هي في سن

الأربعين و هو صلّى اللّه عليه و آله في الخامسة و العشرين- و هي تمتلك تلكم الثروة الطائلة، و هو صلّى اللّه عليه و آله لا يمتلك من حطام الدنيا إلّا الشي ء اليسير اليسير، رغبة في الاقتران به و لما عرفت فيه من كرم الأخلاق، و شرف النفس، و السجايا الكريمة و الصفات العالية، و هي ما كانت تبحث عنه في حياتها و تتعشقه و اذا بتلك المرأة الغنية الثرية العائشة في

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 346.

(2) بحار الأنوار: ج 43 ص 131 نقلا عن كشف اليقين.

(3) السيرة الحلبيّة: ج 1 ص 137.

(4) السيرة الحلبيّة: ج 1 ص 137.

(5) السيرة الحلبيّة: ج 1 ص 137.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:266

أفضل عيش تصبح في بيت زوجها الرسول صلّى اللّه عليه و آله تلك الزوجة المطيعة الخاضعة، الوفية المخلصة، و تسارع الى قبول دعوته، و اعتناق دينه بوعي و بصيرة و ارادة منها و اختيار، و هي تعلم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر و متاعب، و تجعل كل ثروتها في خدمة العقيدة و المبدأ، و تشاطر زوجها آلامه، و متاعبه، و ترضى بأن تذوق مرارة الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات و في سنّ الرابعة أو الخامسة و الستين. و هي مع ذلك تواجه كل ذلك بصبر و ثبات «1»، و دون أن يذكر عنها تبرّم او توجع.

هذا مضافا إلى أنها كانت تعامل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأدب تامّ يليق بمقام الرسالة و النبوة، على العكس من غيرها من بعض نساء النبيّ اللائي كن ربما يثرن سخطه و غضبه، و يؤذينه في نفسه و أهله.

و إليك فيما يأتي بعض ما قاله عنها كبار الشخصيات،

و المؤرخين ممّا يكشف عن عظيم مكانتها عند المسلمين أيضا، قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام:

«كنت أول من أسلم، فمكثنا بذلك ثلاث حجج و ما على الأرض خلق يصلّي و يشهد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما أتاه غيري، و غير ابنة خويلد رحمها اللّه و قد فعل» «2».

و قال محمّد بن اسحاق: كانت خديجة أول من آمن باللّه و رسوله و صدّقت بما جاء من اللّه، و وازرته على أمره فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه، و كان لا يسمع شيئا يكرهه من ردّ عليه و تكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج اللّه ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بها اذا رجع إليها تثبّته، و تخفّف عنه، و تهوّن

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 14 ص 59 قال: خديجة بنت خويلد و هي عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله محاصرة في الشعب.

(2) بحار الأنوار: ج 16 ص 2 و مثله في روايات متعددة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 119 و 120.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:267

عليه امر الناس حتى ماتت رحمها اللّه «1».

و عنه أيضا: أن «خديجة بنت خويلد» و «ابا طالب» ماتا في عام واحد، فتتابع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هلاك خديجة و ابي طالب و كانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام، و كان رسول اللّه يسكن إليها «2».

و قال أبو امامة ابن النقاش: ان سبق خديجة و تأثيرها في اول الإسلام و مؤازرتها و نصرتها و قيامها للّه بمالها و نفسها لم يشركها فيه احد لا عائشة و لا غيرها من امهات المؤمنين «3».

و

قد جاء في المنتقى: ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ما امر بأن يصدع بالرسالة صعد على الصفا، و أخبر الناس بما أمره اللّه به فرماه أبو جهل قبحه اللّه بحجر فشجّ بين عينيه، و تبعه المشركون بالحجارة فهرب حتى أتى الجبل، فسمع عليّ و خديجة بذلك فراحا يلتمسانه صلّى اللّه عليه و آله و هو جائع عطشان مرهق، و مضت خديجة تبحث عنه في كل مكان في الوادي و هي تناديه بحرقة و ألم، و تبكي و تنحب، فنظر جبرئيل إلى خديجة تجول في الوادي فقال: يا رسول اللّه أ لا ترى إلى خديجة فقد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ ادعها إليك فاقرأها مني السلام و قل لها: إن اللّه يقرئك السلام، و يبشّرها أن لها في الجنة بيتا من قصب لا نصب فيه و لا صخب فدعاها النبي صلّى اللّه عليه و آله و الدماء تسيل من وجهه على الارض و هو يمسحها و يردّها، و بقي رسول اللّه و صلّى اللّه عليه و آله، و علي و خديجة هناك حتى جنّ الليل فانصرفوا جميعا و دخلت به خديجة منزلها، فأقعدته على الموضع الذي فيه الصخرة و اظلّته بصخرة من فوق رأسه، و قامت في وجهه تستره ببردها و أقبل المشركون يرمونه بالحجارة، فاذا جاءت من فوق راسه صخرة وقته الصخرة، و اذا رموه من تحته وقته الجدران الحيّط، و إذا رمي من بين يديه وقته خديجة رضى اللّه عنها بنفسها، و جعلت تنادي يا معشر قريش ترمى الحرّة

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 16، ص 10- 12.

(2) نفس المصدر.

(3) تاريخ الخمس في أحوال أنفس نفيس: ج 1 ص 266.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:268

في منزلها؟

فلمّا سمعوا ذلك انصرفوا عنه، و أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و غدا إلى المسجد يصلّي «1».

و لقد بلغ من خضوعها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حبّها له أنها بعد أن تم عقد زواجها برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قالت له صلّى اللّه عليه و آله: «إلى بيتك، فبيتي بيتك، و أنا جاريتك» «2».

و جاء في السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: و لسبقها إلى الإسلام و حسن المعروف جزاها اللّه سبحانه فبعث جبرئيل الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو بغار حراء و قال له: اقرأ عليها السّلام من ربها و مني، و بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه و لا نصب، فقالت: هو السلام و منه السلام و على جبرئيل السلام، و عليك يا رسول اللّه السلام و رحمة اللّه و بركاته، و هذا من وفور فقهها رضي اللّه عنها حيث جعلت مكان ردّ السلام على اللّه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق به و ما يليق بغيره، قال ابن هشام و القصب هنا اللؤلؤ المجوف، و ابدى السهيلي لنفي النصب لطيفة هي انه صلّى اللّه عليه و آله لما دعاها الى الايمان أجابت طوعا و لم تحوجه لرفع صوت و لا منازعة و لا نصب بل ازالت عنه كل تعب، و آنسته من كل وحشة، و هوّنت عليه كل عسير فناسب ان تكون منزلتها التي بشرها بها ربها بالصفة المقابلة لفعلها و صورة حالها رضي اللّه عنها و اقراء السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها، و تميزت أيضا بأنها لم تسؤه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

و لم تغاضبه قط، و قد جازاها فلم يتزوج عليها مدة حياتها و بلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته «3».

افتخار اهل البيت بخديجة عليها السّلام:

و ما يدل على سمو مقامها و علو منزلتها أن اهل البيت عليهم السّلام طالما

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 243

(2) بحار الأنوار: ج 16 ص 4 نقلا عن الخرائج و الجرائح ص 186 و 187.

(3) السيرة الحلبية: ج 1 ص 169 الهامش.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:269

افتخروا بأن خديجة منهم، و انهم من خديجة و قد كانوا يعتزون بها، و يشيدون بمكانتها:

فقد خطب معاوية بالكوفة حين دخلها و الحسن و الحسين عليهما السّلام جالسان تحت المنبر فذكر عليا عليه السّلام فنال منه ثم نال من الحسن فقام الحسين عليه السّلام ليردّ عليه فأخذه الحسن بيده و أجلسه ثم قام فقال:

«أيّها الذاكر عليّا أنا الحسن و أبي عليّ و أنت معاوية و أبوك صخر و أمي فاطمة و امّك هند وجدي رسول اللّه و جدّك عتبة بن ربيعة و جدتي خديجة وجدتك قتيلة فلعن اللّه أخملنا ذكرا و ألأمنا حسبا و شرّنا قديما و حديثا. فقال طوائف من أهل المسجد: آمين «1».

و قيل: ان «الحسين» عليه السّلام ساير «أنس بن مالك» فاتى قبر خديجة فبكى ثم قال: اذهب عنّي قال «أنس»؛ فاستخفيت عنه فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته يقول:

يا ربّ يا ربّ أنت مولاه فارحم عبيدا إليك ملجاه

يا ذا المعالي عليك معتمدي طوبى لمن كنت أنت مولاه

طوبى لمن كان خادما أرقايشكو إلى ذي الجلال بلواه الى آخر الابيات «2».

هكذا كان اهل البيت النبوى- اقتداء برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحترمون خديجة و يكرمونها لما كان لها من شخصية عظيمة و لما اسدته الى الإسلام

و الى رسول الإسلام من خدمات لا تنسى على مرّ الدهور.

ان بيان و نقل الأحاديث و الروايات، و كذا الاقوال التي وردت في شأن خديجة و الحديث عن شخصيتها و مكانتها و مدى إسهامها في انجاح و نصرة الدعوة المحمدية خارج عن امكانية هذه الدراسة، و نطاقها، لذلك نكتفي بهذه الالماعة

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 16، ص 46 و 47.

(2) بحار الأنوار: ج 44 ص 193 نقلا عن عيون المحاسن.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:270

العابرة تاركين الكلام باسهاب حولها إلى مجال آخر.

و لنعد إلى تبيّن الأسباب الظاهرية و الباطنية لزواجها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(1)

العلل الظاهرية و الحقيقية وراء زواج خديجة بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

إن الإنسان الماديّ الذي ينظر الى كل ما يحيط به من خلال المنظار المادي، و يفسره تفسيرا ماديا قد يتصور (و بالاحرى يظن) أن «خديجة» كانت امرأة تاجرة تهمّها تجارتها، و تنمية ثروتها، و لأنها كانت بجاجة ماسة الى رجل أمين قبل اي شي ء، لذلك وجدت ضالتها في محمّد الصادق الامين صلّى اللّه عليه و آله فتزوجت منه، بعد أن عرضت نفسها عليه و محمّد صلّى اللّه عليه و آله هو الآخر حيث انه كان يعلم بغناها و ثروتها، قبل بهذا العرض رغم ما كان بينه و بينها من فارق في السن كبير.

و لكن التاريخ يثبت أن ثمة أسبابا و عللا معنويّة لا مادية هي التي دفعت بخديجة للزواج بأمين قريش و فتاها الصادق الطاهر.

و إليك في ما يأتي شواهدنا على هذا الأمر:

(2) 1- عند ما سألت «خديجة» ميسرة عما رآه في رحلته من فتى قريش «محمّد» فخبّرها ميسرة بما شاهد و رأى من «محمّد» في تلك السفرة، و بما سمعه من راهب الشام

حوله أحسّت «خديجة» في نفسها بشوق عظيم و رغبة شديدة نحوه كانت نابغه من اعجابها بمعنوية محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كريم خصاله، و عظيم أخلاقه، فقالت من دون إرادتها: «حسبك يا ميسرة؛ لقد زدتني شوقا إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله، اذهب فانت حر لوجه اللّه، و زوجتك و أولادك و لك عندي مائتا درهم و راحلتان» ثم خلعت عليه خلعة سنية «1».

ثم إنها ذكرت ما سمعته من «ميسرة» لورقة بن نوفل و كان من حكماء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16، ص 52.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:271

العرب: فقال ورقة: «لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمّدا لنبيّ هذه الأمّة» «1».

(1) 2- مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوما بمنزل «خديجة بنت خويلد» و هي جالسة في ملأ من نسائها و جواريها و خدمها و كان عندها حبر من أحبار اليهود، فلما مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نظر إليه ذلك الحبر و قال: يا خديجة مري من يأتي بهذا الشاب، فأرسلت إليه من أتى به، و دخل منزل «خديجة»، فقال له الحبر:

اكشف عن ظهرك فلما كشف له قال الحبر: هذا و اللّه خاتم النبوة فقالت له خديجة: لو رآك عمه و أنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء و ان أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود:

فقال الحبر: و من يقدر على «محمّد» هذا بسوء، هذا و حق الكليم رسول الملك العظيم في آخر الزمان، فطوبى لمن يكون له بعلا، و تكون له زوجة و أهلا فقد حازت شرف الدنيا و الآخرة.

فتعجّبت «خديجة»، و انصرف «محمّد» و قد اشتغل قلب «خديجة» بنت خويلد بحبه فقالت: أيها الحبر بم عرفت محمّدا انه نبي؟

قال:

وجدت صفاته في التوراة انه المبعوث آخر الزمان يموت أبوه و امّه، و يكفله جدّه و عمه، و سوف يتزوج بامرأة من قريش سيدة قومها و أميرة عشيرتها، و أشار بيده الى خديجة فلما سمعت «خديجة» ما نطق به الحبر تعلق قلبها بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلما خرج من عندها قال: اجتهدي ان لا يفوتك «محمّد» فهو الشرف في الدنيا و الآخرة «2».

(2) 3- لقد كان ورقة بن نوفل (و هو عم خديجة و كان من كهّان قريش و قد قرأ صحف «شيث» عليه السّلام و صحف «إبراهيم» عليه السّلام و قرأ التوراة و الانجيل و زبور «داود» عليه السّلام) يقول دائما: سيبعث رجل من قريش في آخر

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 191، السيرة الحلبية: ج 1 ص 136.

(2) بحار الأنوار: ج 16، ص 20 و 21 نقلا عن كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:272

الزمان يتزوج بامرأة من قريش تسود قومها (أو تكون سيدة قومها، و أميرة عشيرتها)، و لهذا كان يقول لها: «يا خديجة سوف تتصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض و السماء» «1».

(1) هذه قضايا ذكرها بعض المؤرخين، و هي منقولة و مثبتة في طائفة كبيرة من الكتب التاريخية، و هي بمجموعها تدل على العلل الحقيقة و الباطنية لرغبة خديجة في الزواج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إن هذه الرغبة كانت ناشئة من اعجاب «خديجة» بأخلاق فتى قريش الأمين، و نبله، و طهارته، و عظيم سجاياه و خصاله، و حبها لهذه الامور، و ليس هناك أي أثر في علل هذا الزواج لامانة «محمّد» و كونه أصلح من غيره لهذا لسبب للقيام بتجارة «خديجة».

(2)

كيف تمّت خطبة خديجة؟

من المسلّم به

أن اقتراح الزواج جاء من جانب «خديجة» نفسها أولا، حتى أن ابن هشام «2» نقل في سيرته: ان «خديجة» لما أخبرها ميسرة بما اخبرها به بعثت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت له: «يا ابن عم أبي قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك [اي شرفك و مكانتك] في قومك، و أمانتك و حسن خلقك، و صدق حديثك» ثمّ اقترحت عليه أن تتزوج به.

و يعتقد اكثر المؤرّخين أن «نفيسة بنت عليّة» بلّغت رسالة «خديجة» إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على النحو التالي:

قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا محمّد ما يمنعك أن تتزوج ...

و لو دعيت الى الجمال و المال و الشرف و الكفاءة الّا تجيب؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فمن هي؟

فقالت. خديجة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و كيف لي بذلك، فقالت: عليّ، فذهبت الى خديجة فأخبرتها، فأرسلت خديجة إلى رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16، ص 21.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 189 و 190.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:273

اللّه عليه و آله بوكيلها «عمرو بن اسد» «1» لتحديد ساعة من اجل مراسم الخطبة في محضر من الاقارب «2».

(1) فشاور النبي صلّى اللّه عليه و آله أعمامه و في مقدمتهم «أبو طالب»، ثم عقدوا مجلسا فخما حضره كبار وجوه قريش، و رؤساؤها فخطب «أبو طالب»، و بعد ان حمد اللّه و اثنى عليه وصف ابن أخيه محمّدا بقوله:

«ثم إن ابن أخي هذا محمّد بن عبد اللّه لا يوزن به رجل إلّا رجح به شرفا و نبلا و فضلا و عقلا، و إن كان في المال فإن المال ظلّ زائل، و أمر حائل و عارية

مسترجعة، و له في خديجة رغبة و لها فيه رغبة، و الصّداق ما سألتم عاجله و آجله من مالي، و محمّد من قد عرفتم قرابته».

و حيث أن «ابا طالب» تعرّض في خطبته لذكر قريش، و بني هاشم و فضيلتهم، و منزلتهم بين العرب، لذلك تكلّم «ورقة بن نوفل بن اسد» الذي كان من أقارب خديجة «3» و قال في خطبة له: «لا تنكر العشيرة فضلكم، و لا يردّ أحد من الناس فخركم و شرفكم و قد رغبنا في الاتصال بحبلكم و شرفكم» «4».

ثم اجري عقد النكاح و مهرها النبي صلّى اللّه عليه و آله أربعمائة دينار و قيل أصدقها عشرين بكرة «5».

______________________________

(1) المعروف انّ والد خديجة توفي في حرب الفجار و لهذا قام بالايجاب من قبلها عمها عمرو بن اسد و لهذا لا يصح ما ذكره بعض المؤرخين من أنّ خويلد (والد خديجة) امتنع من تزويجها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بداية الأمر، ثم رضي بذلك نزولا عند رغبة خديجة.

(2) تاريخ الخميس: ج 1 ص 264.

(3) المعروف أنّ ورقة كان عمّا لخديجة و لكن هذا موضع نقاش لأنّ «خديجة بنت خويلد بن اسد» و ورقة بن نوفل بن اسد فيكونان أولاد عمومة أي أنّه ابن عم خديجة و هي بنت عمّه. و لذلك جاء في بعض المصادر وصفه ب «ابن عمّها» (تاريخ الخميس: ج 1 ص 282) و راجع قبله السيرة النبوية لابن هشام: ج 1، ص 203.

(4) بحار الأنوار: ج 16 ص 16، مناقب آل أبي طالب: ج 1 ص 30، السيرة الحلبية: ج 1 ص 139، تاريخ الخميس: ج 1 ص 264.

(5) السيرة الحلبية: ج 1 ص 139.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:274

(1)

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

المعروف المشهور أن خديجة عليها السّلام تزوجت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي في سنّ الأربعين و أنها ولدت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاما.

و ذكر البعض أقلّ من ذلك أيضا.

و ذكر أنها تزوجت قبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله برجلين أوّلهما «عتيق بن عائذ» ثم من بعده ابو هالة التميمي اللذين توفي كل منهما بعيد زواجه بخديجة «1».

______________________________

(1) ربما يشكّك في أن تكون خديجة عليها السّلام قد تزوجت قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأحد و هي التي امتنعت عن كل من خطبها و رام تزويجها من سادات قريش و اشرافها. راجع الاستغاثة: ج 1، ص 70.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:275

(1)

10 من الزواج الى البعثة

اشارة

تعتبر فترة الشباب من أهمّ و أخطر الفترات في حياة الإنسان ففي هذه الفترة تبلغ الغريزة الجنسية نضجها و كمالها، و تصبح النفس البشرية لعبة في أيدي الأهواء و يغلب طوفان الشهوة على فضاء العقل، و يغطّي الظلام سماء التفكير، و تشتد حاكمية الغرائز المادية، و تتضاءل شعلة العقل، و تتراءى أمام عيون الشباب بين الحين و الآخر، و صباح مساء صروح عظيمة من الآمال الخيالية.

و لو ملك الإنسان- في مثل هذه الفترة- شيئا من الثروة، لتحوّلت حياته إلى مسألة في غاية الخطورة فالغرائز الحيوانية، و صحة المزاج من جهة و الامكانات المادية و المالية من جهة اخرى تتعاضدان و تغرقان المرء في بحر من الشهوات، و النزوات، و تهيّئان له عالما بعيدا عن التفكير في المستقبل.

(2) و من هنا يصف المربّون العلماء تلك الفترة الحساسة بأنها الحدّ الفاصل بين الشقاء و السعادة، و الفترة التي قلما يستطيع شاب أن يرسم لنفسه فيها مسارا معقولا، و يختار لنفسه

طريقا واضحا على أمل الحصول على الملكات الفاضلة، و النفسية الرفيعة الطاهرة التي تحفظه عن أي خطر متوقع «1». حقا إن كبح جماح

______________________________

(1) و الى هذه الحقيقة اشار الإمام جعفر الصادق عليه السّلام بقوله:

إنّ الفراغ و الشباب و الجدةمفسدة للمرء أي مفسدة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:276

النفس، و زمّها و حفظها من الانزلاق في مهاوي الشهوات، و النزوات في مثل هذه الفترة لهو أمر جدّ عسير، و لو أن الانسان حرم من تربية عائلية صحيحة مستقيمة كان عليه أن ينتظر مصيرا سيّئا، و مستقبلا في غاية البؤس و الشقاء.

(1)

فترة الشباب في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

ليس من شك في ان فتى قريش «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله كان يتمتع في أيام شبابه بصحة جيدة، و قوة بدنية عالية، و كان شجاعا قويا، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله قد تربى في بيئة حرة بعيدة عن ضوضاء الحياة، و فتح عينيه في عائلة اتصف جميع أفرادها و اعضائها بالشجاعة و الفروسية، هذا من جانب، و من جانب آخر كان يمتلك ثروة «خديجة» الطائلة فكانت ظروف الترف، و العيش الشهواني متوفرة له بشكل كامل، و لكن كيف ترى استفاد من هذه الامكانات المادية هل مدّ موائد العيش و اللذة و شارك في مجالس السهر و السمر و اللهو و اللعب. و اطلق العنان لشهوته، و فكر في إشباع غرائزه الجنسية كغيره من شباب ذلك العصر، و تلك البيئة الفاسدة.

أم أنّه اختار لنفسه منهجا آخر في حياته، و استفاد من كل تلك الإمكانات في سبيل تحقيق حياة زاخرة بالمعنوية، الأمر الذي تبدو ملامحه بجلاء لمن تتبع تلك الفترة الحساسة من تاريخه.

(2) ان التاريخ ليشهد بأنه صلّى اللّه عليه و آله كان يعيش كما يعيش أي

رجل رجل عاقل لبيب و فاضل رشيد، و أنه طوى تلك السنوات الحساسة من حياته كأحسن ما يكون، بعيدا عن العبث و الترف و الضياع و الانزلاق إلى الشهوات و الانسياق وراء التوافه.

بل ان التاريخ ليشهد بأنه كان اشد ما يكون نفورا من اللهو، و العبث، و الترف و المجون فقد كانت تلوح على محيّاه دائما آثار التفكّر و التأمل، و كثيرا ما كان يلجأ الى سفوح الجبال او الكهوف و المغارات للابتعاد عن الجوّ الاجتماعي الموبوء في مكة، يلبث هناك أياما يتأمل فيها في آثار القدرة الإلهية،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:277

و في عظمة الصنع الالهي، الرائع البديع.

(1)

احاسيسه و مشاعره الإنسانية في فترة الشباب:

و لقد وقعت في احدى أسواق مكة ذات يوم حادثة هيّجت مشاعره الانسانية و حركت عواطفه و احاسيسه، فقد رأى مقامرا قد خسر بعيره و بيته، بل بلغ الأمر به أن استرقه منافسه عشرة أعوام.

و قد آلمت هذه القصة المأساوية فتى قريش «محمّد» بشدة، الى درجة أنّه لم يعد يحتمل البقاء في «مكة» ذلك اليوم فغادرها من فوره و ذهب الى الجبال المحيطة بمكة ثم عاد بعد هزيع من الليل.

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينزعج بشدة لهذه المشاهد المحزنة و الاوضاع المأساوية، و كان يتعجب من ضعف عقول قومه، و انحطاط مداركهم.

(2) و لقد كان بيت «خديجة» قبل زواج النبي صلّى اللّه عليه و آله بها ملاذا للفقراء و كعبة لآمال المساكين و المحرومين، و بعد أن تزوج النبي صلّى اللّه عليه و آله بها لم يطرأ على وضع ذلك البيت أي تغيير من جهة الانفاق و البذل.

ففي سنين الجدب و القحط التي كانت تضرب مكة و ضواحيها بين الحين و الآخر ربما قدمت «حليمة

السعدية» مكة لتزور ولدها الرضاعي «محمّد» فكان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يكرمها و يحترمها، و يفرش رداءه تحت أقدامها، و يصغي لكلامها بعناية و لطف، وفاء لجميلها، و عرفانا لعواطفها و امومتها.

فقد روي أن «حليمة» قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة بعد تزوّجه خديجة، فشكت إليه جدب البلاد و هلاك المواشي فكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «خديجة» فأعطتها بعيرا و اربعين شاة، و انصرفت الى أهلها موفورة، مسرورة.

و روي أيضا انه استأذنت «حليمة» عليه ذات مرة فلما دخلت عليه قال:

«امّي امّي» و عمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه «1».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 103.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:278

(1)

أولاد خديجة:

لا ريب في أنّ وجود الأولاد في الحياة العائليّة ممّا يقوّي أواصر الوشيجة الزوجية، و يعمّق جذورها، و يمنح الجوّ العائليّ بهاء، و رونقا، و جمالا خاصا.

و لقد أنجبت «خديجة» لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ستة من الأولاد اثنين من الذكور، أكبرهما «القاسم» ثم «عبد اللّه» اللّذان كانا يدعيان ب: «الطاهر» و «الطيّب» و اربعة من الإناث.

كتب ابن هشام يقول في هذا الصدد: أكبر بناته رقيّة ثم زينب ثم أمّ كلثوم، ثم فاطمة.

فأما الذكور من أولاده صلّى اللّه عليه و آله فماتوا قبل البعثة، و أما بناته فكلّهن أدركن الإسلام «1».

و رغم أن النبي صلّى اللّه عليه و آله قد عرف بصبره و جلده في الحوادث و النوائب فربما انعكست احزانه القلبية في قطرات دموعه الساخنة المنحدرة على خدّيه الشريفتين في موت أولاده.

و لقد بلغ به الحزن و الغم لموت ولده «إبراهيم» من زوجته مارية القبطية حدا لم يحدث لغيره من أولاده، إلّا أنّه رغم ذلك

الحزن الآخذ من قلبه مأخذا لم يفتر لسانه عن حمد اللّه و شكره حتى أن اعرابيا اعترض عليه صلّى اللّه عليه و آله لما وجده يبكى على ولده قائلا: او لم تكن نهيت عن البكاء اجابه بقوله:

«انما هذا رحمة، و من لا يرحم لا يرحم» «2».

(2)

حدس لا أساس له من الواقع!!

لقد كتب الدكتور هيكل في كتابه: «حياة محمّد» يقول: «لا ريب أن

______________________________

(1) مناقب ابن شهر اشوب: ج 1 ص 140، قرب الأسناد: 6 و 7، الخصال: ج 2 ص 37، بحار الأنوار: ج 22 ص 15- 152. و قد ذكر البعض للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله اكثر من ولدين، يراجع تاريخ الطبري: ج 2 ص 35، بحار الأنوار: ج 22 ص 166.

(2) بحار الأنوار: ج 22 ص 151.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:279

خديجة عند موت كل واحد منهما (اي ولدي النبي: القاسم و عبد اللّه) في الجاهلية توجّهت إلى آلهتها الاصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها و برها» «1».

إنّ هذا الكلام لا يستند إلى أي دليل تاريخي، و ليس هو بالتالي إلا حدس باطل، و ادّعاء فارغ ليس له من منشأ إلّا ان أغلبية أهل ذلك العصر كانوا عبدة أوثان، فلا بدّ ان خديجة كانت على منوالهم!!

في حين ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يبغض الأصنام و الأوثان من بداية شبابه، و قد اتضح موقفه منها أكثر في سفرته الى الشام في أموال خديجة يوم قال لمن استحلفه باللات و العزى: «إليك عني، فما تكلّمت العرب بكلمة أثقل عليّ من هذه».

مع ذلك كيف يمكن القول بأن امرأة لبيبة عاقلة لم يكن شدة حبها و شغفها بزوجها موضع شك، أن تتوجّه عند موت ولديها إلى الاصنام التي كانت

ابغض الأشياء عند زوجها، و خاصة أن حبها لزوجها «محمّد» و بل إقدامها على الزواج منه انما كان بسبب ما كان يتحلى به من ايمان و معنوية، و صفات فاضلة، و ملكات اخلاقية عالية، فهي قد سمعت عنه بأنه آخر نبيّ، و أنه خاتم المرسلين، فكيف و الحال هذه يمكن ان يحتمل أحد أنّها- مع هذا الاعتقاد- بثت شكواها و حزنها الى الاوثان و الاصنام؟؟!

(1)

دعيّ رسول اللّه: زيد بن حارثة:

عند الحجر الاسود أعلن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) عن تبنيه له ...

ذلك هو زيد بن حارثة.

و كان «زيد» ممّن سباه العرب من حدود الشام، و باعوه في أسواق مكة رقيقا لأحد أقرباء «خديجة» يدعى «حكيم بن حزام»، و لكن لا يعرف كيف انتقل إلى «خديجة» في ما بعد؟

______________________________

(1) حياة محمّد: ص 128.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:280

(1) يقول هيكل في كتابه «حياة محمّد» في هذا الصدد «لقد ترك موت ولدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في نفس النبي أثرا عميقا حتى إذا جي ء بزيد بن حارثة يباع طلب الى «خديجة» أن تبتاعه ففعلت ثم اعتقه و تبناه» «1».

و لكن اكثر المؤرخين يقولون: ان «حكيم بن حزام» قد اشتراه لعمته «خديجة بنت خويلد»، و قد أحبّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لذكائه و طهره، فوهبته «خديجة» له عند زواجه صلّى اللّه عليه و آله منها.

ففتش عنه والده «حارثة» حتى عرف بمكانه في مكة، فقدمها، و دخل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فطلب منه صلّى اللّه عليه و آله أن يأذن لزيد ليرحل معه إلى موطنه، فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خيّره بين المقام معه صلّى اللّه عليه و آله

و الرحيل الى موطنه مع أبيه، فاختار المقام مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما وجد من خلقه، و حنانه، و لطفه العظيم فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذلك اخرجه الى الحجر و اعتقه ثم تبناه على مرأى من الناس و مسمع قائلا: «يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني» «2».

(2)

بداية الخلاف بين الوثنيّين:

لقد أوجدت البعثة النبويّة خلافا و اختلافا كبيرا في أوساط قريش و فرّقت صفوفهم، غير أنّ هذا الاختلاف قد وجدت أسبابه و عوامله، و ظهرت بوادره و علائمه قبل البعثة المباركة.

فقد أبدى جماعة من الناس في الجزيرة العربية استياءهم من دين العرب و انكروا عقائدهم الباطلة، و طالما كانوا يتحدثون عن قرب ظهور النبي العربيّ الذي يتمّ على يديه إحياء التوحيد.

و كان اليهود يتوعدون أهل الاصنام بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يقولون:

______________________________

(1) حياة محمّد: ص 128.

(2) الاصابة: ج 1 ص 545 و 546، اسد الغابة: ج 2 ص 225 و 226.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:281

ليخرجنّ نبيّ فليكسرن أصنامكم «1».

(1) و كتب ابن هشام يقول: كان اليهود يقولون للعرب: إنه قد تقارب زمان نبيّ يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وارم.

و كتب يقول أيضا: و كانت الاحبار من اليهود، و الرهبان من النصارى و الكهّان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل مبعثه.

هذه الكلمات تصوّر انقضاء عهد الوثنية في نظرهم إلى درجة أن بعض القبائل أجابت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لما بعث، و دعاهم اللّه، بينما احجمت اليهود عن الايمان به و برسالته و بقيت على كفرها و جحودها لنبوته التي طالما بشرت بها.

و قد نزل فيهم قوله تعالى:

«وَ

لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» «2» «3».

(2)

أعمدة الوثنيّة تهتزّ:

و لقد شهد أحد أعياد قريش حادثا غريبا كان في نظر العقلاء و أصحاب الفكر الثاقب منهم بمثابة جرس إنذار اذن باقتراب سقوط دولة الوثنيين، و انهيار صروح الوثنيّة و عبادة الأصنام، و انقراضها.

فقد اجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه و ينحرون له، و يعكفون عنده، فتنحّى أربعة ممن عرفوا بالعلم ناحية، و أخذوا يتحدّثون سرّا، و أخذوا ينتقدون عبادة الأوثان و الأصنام، و ما عليه قومهم من فساد العقيدة.

فقال بعضهم لبعض: و اللّه ما قومكم على شي ء، لقد أخطئوا دين أبيهم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 231.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 221.

(3) البقرة: 89.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:282

إبراهيم!! ما حجر نطيف به لا يسمع و لا يبصر، و لا يضر و لا ينفع، يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا ...

(1) و كان هؤلاء الأربعة هم:

1- «ورقة بن نوفل» الّذي اختار النصرانية بعد أن طالع كتبها، و اتصل بأهلها.

2- «عبيد اللّه بن جحش» الذي أسلم عند ظهور الإسلام، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة.

3- «عثمان بن الحويرث» الذي قدم على قيصر ملك الروم، فتنصّر.

4- «زيد بن عمرو بن نفيل» الذي اعتزل الأوثان، و قال: اعبد رب إبراهيم «1».

(2) إن ظهور مثل هذا الاستنكار و الجحد للأوثان و الوثنية لا يعني أبدا أنّ دعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت تعقيبا لدعوة هذه الجماعة، و استمرارا لها!!

كيف يمكن أن نعتبر دعوة رسول اللّه العالمية مع ما انطوت عليه من أهداف كبرى،

و استندت إليه من معارف و أحكام لا تحصى، ردّة فعل لمثل هذا الحادث الصغير و تعبيرا عن مثل هذا الاستنكار المحدود؟

إن الحنيفية و هي سنّة إبراهيم و دينه لم تكن قد محيت كليّا في الحجاز بعد أيام بعثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بل كان هناك لا يزال بعض الأحناف (و هم الذين كانوا على دين إبراهيم عليه السّلام) منتشرين في أنحاء الجزيرة العربية، إلّا أن ذلك لا يعني أنّهم كانوا قادرين على التظاهر بعقيدتهم بين الناس، أو قيادة حركة، أو تربية أفراد على نهجهم، أو أن توجّهاتهم التوحيدية كانت من القوة بحيث تستطيع أن تكون مصدر إلهام لقيم و معارف و تعاليم و أحكام لشخصيّة مثل رسول الإسلام «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(3) فلم ينقل عن هؤلاء سوى بعض الاعتقادات المعدودة المحدودة مثل الاعتقاد

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 225.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:283

بالمعاد و اليوم الآخر، و شي ء بسيط من البرامج الأخلاقية، و حتى ما نقل عنهم من أبيات توحيدية لا يمكن تأكيد انتسابها إليهم، و ان لم يمكن نفي ذلك أيضا «1».

فهل يمكن و الحال هذه أن نعتبر الثقافة الإسلامية العظيمة، و المعارف العقلية العالية، و القوانين و التشريعات المفصلة، و الانظمة الأخلاقية و السياسية و الاقتصادية الإسلامية، الشاملة الكاملة، كنتيجة لمتابعة اولئك النفر المعدود من «الأحناف» الموحدين المنتشرين في انحاء مختلفة من بلاد الحجاز الذين كانت جل عقائدهم تتألف من مجرد الاعتقاد بوجود اللّه، و اليوم الآخر و قضية أو قضيتين من قضايا الأخلاق؟!

(1)

نموذج آخر عن ضعف قريش:

لم يكن يمض على عمر فتى قريش اكثر من خمس و ثلاثين عاما يوم واجه اختلافا كبيرا بين قريش، فأزال بحكمته ذلك التخاصم،

و لقد كشفت هذه الحادثة عن مدى الاحترام الذي كان فتى قريش «محمّد» يحظى به لدى قريش، كما و تكشف عن قوة اعتقادهم بصدقه و أمانته.

و إليك تفصيل هذه الحادثة:

انحدر سيل رهيب من جبال مكة المرتفعة نحو بيت اللّه المعظمة «الكعبة المقدسة» فلم يسلم من هذا السيل بيت في مكة حتى الكعبة المعظمة، التي تصدّعت جدرانها تصدعا كبيرا بفعل ذلك السيل.

(2) فعزمت قريش على بحديد تلك البنية المعظمة، و لكنها تهيّبت ذلك، و ترددت في هدم الكعبة، فأقدم «الوليد بن المغيرة» و هدم ركنين منها على شي ء من الخوف، فانتظر أهل مكة أن يحل به أمر، و لكنهم لما رأوا «الوليد» لم يصبه

______________________________

(1) و لقد نقل ابن هشام في كتابه: السيرة النبوية: ج 1 ص 222- 232 طائفة من الأبيات و القصائد التوحيدية هذه؛ و التي جاء في مطلع إحداها ما أنشده زيد بن عمرو بن نفيل:

أ ربّا واحدا أم ألف ربّ أدين اذا تقسمت الامور؟

عزلت اللات و العزّى جميعاكذلك يفعل الجلد الصبور (البصير)

سيد المرسلين ،ج 1،ص:284

غضب من الآلهة، اطمأنوا إلى أنه لم يرتكب قبيحا، و أنه عمل ما فيه رضى آلهتهم، فاقدموا جميعا على هدم ما تبقى من الكعبة، و اتفق أن تحطّمت سفينة قادمة من «مصر» في تجارة لروميّ عند ميناء «جدة» بفعل الرياح و العواصف، فعلمت بذلك قريش، و أرسلت رجالا يبتاعون أخشابها ليستخدموها في بناء الكعبة المعظمة، و أوكلوا أمر نجارتها إلى نجّار قبطيّ محترف كان يقطن «مكة».

(1) و لما ارتفعت جدران الكعبة إلى قامة الرجل، و آن الأوان لوضع الحجر الأسود في محله من الركن وقع الاختلاف بين زعماء قريش، و تنازعوا في من يتولّى وضع الحجر الاسود في مكانه.

و تحالفت

قبيلة «بني عبد الدار» مع «بني عديّ» على أن يمنعوا من أن ينال هذا الفخار غيرهم، و عمدوا إلى اناء مملوء بالدم فوضعوا أيديهم فيه تأكيدا لذلك الميثاق.

من هنا تأخرت عملية البناء و توقّفت خمسة أيام بلياليها، و كاد أن تنشب بينهم حرب دامية، و ربما طويلة، فقد اجتمعت طوائف مختلفة من قريش في المسجد الحرام و هي تنتظر حادثة خطيرة، فعمد- في الأخير- شيخ من شيوخ قريش يدعى «أبو اميّة بن مغيرة المخزومي» من زعماء قريش و قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد «1» يقضي بينكم فيه» فقبلوا برأيه اجمع، فكان اول داخل عليه فتى قريش «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمّد.

(2) فقال صلّى اللّه عليه و آله: هلم إليّ ثوبا، فأخذ الحجر و وضعه فيه ثم قال:

«لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا»

ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه من الركن وضعه صلّى اللّه عليه و آله هو بيده مكانه، و بهذا حال دون وقوع حوادث دامية كادت أن تقع بسبب تنازع قريش، و اختلافها، و حلّ الوفاق محل الشقاق بعد أن رضي الكل بحكمه.

______________________________

(1) و في رواية: أول من يدخل باب الصفا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:285

و إلى قضية التحكيم هذه يشير «هبيرة بن أبي وهب» في أبيات صوّرت هذه الحادثة التاريخية الكبرى، اذ قال:

تشاجرت الأحياء في فصل خطةجرت بينهم بالنحس من بعد أسعد

تلاقوا بها بالبغض بعد مودّةو أوقد نارا بينهم شرّ موقد

فلما رأينا الأمر قد جدّ جدّه و لم يبق شي ء غير سلّ المهند

رضينا و قلنا العدل أول طالع يجي ء من البطحاء من غير موعد

ففاجأنا هذا الامين

محمّدفقلنا رضينا بالأمين محمّد

بخير قريش كلها أمس شيمةو في اليوم مع ما يحدث اللّه في غد

فجاء بأمر لم ير الناس مثله أعمّ و أرضى في العواقب و البد

و تلك يد منه علينا عظيمةيروب لها هذا الزمان و يعتدي «1»

(1)

أمين قريش يكفل عليّا:

أجدبت مكة و ضواحيها سنة من السنين، و قل فيها الماء، و أصابت الناس أزمة شديدة، و كان أبو طالب عليه السّلام كثير العيال، فعزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن يساعد عمه أبا طالب، و يخفف عنه عب ء العيال، فانطلق الى عمه العباس و قال له: «إن أخاك أبا طالب كثير العيال و قد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفّف من عياله آخذ من بنيه رجلا و تأخذ أنت رجلا».

فكفل العباس جعفرا، و كفل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا عليه السّلام.

(2) يقول أبو الفرج الاصفهاني المؤرخ المعروف في هذا الصدد:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 192- 199 و فروع الكافي: ج 4 ص 217 و 218، و الجدير بالذكر أنهم قالوا عند تجديد بناء الكعبة: «يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلّا طيّبا، لا يدخل فيها مهر بغيّ، و لا بيع ربا، و لا مظلمة أحد للناس» (البداية و النهاية: ج 2 ص 301) و لا شك أنّ هذه من بقايا تعاليم الأنبياء التي بقيت بينهم و لم تمح بالمرة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:286

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ «عليا» من أبيه و هو صغير في سنة اصابت قريشا و قحط نالهم، و أخذ حمزة جعفرا و أخذ العباس طالبا ليكفوا أباهم مؤونتهم و يخففوا عنهم ثقلهم،

و أخذ هو (أي ابو طالب) عقيلا لميله كان إليه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«اخترت من اختار اللّه لي عليكم: عليا» «1».

إن هذه الحادثة و إن كانت في ظاهرها تعني ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقدم على هذا الأمر ليساعد عمّه أبا طالب في تلك الازمة، لكن الهدف الأعلى و الأخير كان أمرا آخر و هو أن: يتربّى علي عليه السّلام في حجر النبي، و يغتذي من مكارم اخلاقه و يتبعه في كريم افعاله.

و لقد اشار الإمام عليّ عليه السّلام نفسه الى هذا الموضوع بقوله:

«و لقد علمتم موضعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقرابة القريبة و المنزلة الخصيصة وضعني في حجره و أنا ولد يضمّني إلى صدره و يكنفني في فراشه ... و لقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر امّه يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما و يأمرني بالاقتداء به» «2».

(1)

ايمان النبي و آبائه و كفلائه قبل الإسلام:

تدل الدلائل التاريخيّة، القوية، فضلا عن الأدلة العقلية و المنطقية على أن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله لم يعبد غير اللّه تعالى منذ ولد من امّه، و الى أن رحل الى ربه، بل و كان كفلاؤه مثل عبد المطلب و أبي طالب مؤمنون موحّدون هم أيضا

ايمان جده عبد المطّلب:

(2) و أما عبد المطلب كفيل النبيّ الاوّل فلا ننسى أنه عند ما قصد «أبرهة» هدم

______________________________

(1) مقاتل الطالبيين: ص 26، الكامل في التاريخ: ج 1 ص 37، السيرة النبوية: ج 1 ص 245- 247 باب (ذكر أن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه اول ذكر أسلم).

(2) نهج البلاغة: الخطبة 192.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:287

الكعبة في جيش الفيل، نزل في جوف الليل الى الكعبة و أخذ بحلقة بابها يدعو اللّه و يقول مناجيا اللّه سبحانه.

«اللّهم أنيس المستوحشين، و لا وحشة معك فالبيت بيتك، و الحرم حرمك و الدار دارك، و نحن جيرانك، انك تمنع عنه ما تشاء، و ربّ الدّار اولى بالدّار».

ثم أنشأ يقول:

يا ربّ لا أرجو لهم سواكايا ربّ فامنع منهمو حماكا

إن عدوّ البيت من عاداكاامنعهموا إن يخربوا فناكا «1» و هذا يكشف بوضوح عن ايمان عبد المطلب باللّه تعالى، و توكله عليه سبحانه، و انه كان الرجل الموحد الذي لا يلتجئ في المصائب و المكاره إلى غير كهف اللّه، و لا يعرف الّا باب اللّه على عكس ما كانت الوثنية عليه فان قومه كانوا يستغيثون بالاصنام المنصوبة حول الكعبة.

و ممّا يدل على ايمانه أيضا توسله لكشف غمته باللّه سبحانه فقد تتابعت على قريش سنون جدب ذهبت بالأموال، و اشرفت الانفس و اجتمعت قريش لعبد المطلب، و علوا جبل ابي قبيس و معهم النبي صلّى اللّه عليه و

آله محمّد و هو غلام فتقدم عبد المطلب و قال: لاهم (اي اللّهم) هؤلاء عبيدك و إماؤك و بنو امائك، و قد نزل بنا ما ترى، و تتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف و الخف و الحافر، فاشرفت على الانفس فأذهب عنا الجدب، و ائتنا بالحياء و الخصب، فما برحوا حتى سالت الأودية، و في هذه الحالة تقول رقيقة:

بشيبة الحمد اسقى اللّه بلدتناو قد عدمنا الحيا و اجلوّذ المطر إلى أن تقول:

مبارك الام يستسقى الغمام به ما في الانام له عدل و لا خطر

______________________________

(1) راجع القصة و مصادرها في ص 161 من هذا الكتاب، و لعبد المطلب مواقف اخرى مشابهة، و عديدة، راجع بصددها مفاهيم القرآن: ج 5 ص 136- 140.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:288

و الى هذه الواقعة يشير ابو طالب في قصيدة أولها:

ابونا شفيع الناس حين سقوا به من الغيث رجاس العشير بكور

و نحن- سنين المحل- قام شفيعنابمكة يدعو و المياه تغور «1» و قد نقل الشهرستاني هذه الواقعة في كتابه «الملل و النحل» قال: و ممّا يدل على معرفته (أي عبد المطلب) بحال الرسالة و شرف النبوة ان اهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب العظيم، و امسك السحاب عنهم سنتين أمر ابا طالب ابنه، ان يحضر المصطفى محمّد صلّى اللّه عليه و آله فاحضره ابو طالب، و هو رضيع في قماط، فوضعه على يديه و استقبل الكعبة، و رماه الى السماء، و قال: يا رب بحق هذا الغلام، و رماه ثانيا و ثالثا و كان يقول: بحق هذا الغلام اسقنا غيثا مغيثا دائما هطلا، فلم يلبث ساعة أن طبق السماء وجه السماء و أمطر، حتى خافوا على المسجد، و قال أيضا: و ببركة ذلك النور كان

عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم و البغي، و يحثهم على مكارم الاخلاق، و ينهاهم عن دنيات الامور.

و كان يقول في وصاياه: «انه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم اللّه منه و تصيبه عقوبة»، الى ان هلك رجل ظلوم حتف انفه لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك، ففكر و قال: ان وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن باحسانه و يعاقب فيها المسي ء باساءته «2».

ان توسل عبد المطلب باللّه سبحانه و توليه عن الاصنام و الاوثان، و التجاءه إلى رب الارباب آية توحيده الخالص، و ايمانه باللّه و عرفانه بالرسالة الخاتمة، و قداسة صاحبها، فلو لم يكن له الّا هذه الوقائع لكفت في البرهنة على ايمانه باللّه، و توحيده له.

و قد اعترف المؤرخون لعبد المطلب بهذا فقد قال اليعقوبي: «و رفض عبد المطلب عبادة الاوثان و الاصنام، و وحد اللّه عزّ و جلّ و وفى بالنذر، و سنّ سننا نزل القرآن باكثرها، و جاءت السنة الشريفة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 131- 133.

(2) الملل و النحل: ج 2 ص 248 و 249.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:289

بها، و هي الوفاء بالنذر، و مائة من الابل في الدية، و ان لا تنكح ذات محرم، و لا تؤتى البيوت من ظهورها و قطع يد السارق، و النهي عن قتل الموؤدة، و تحريم الخمر، و تحريم الزنا، و الحدّ عليه، و القرعة، و ان لا يطوف احد بالبيت عريانا، و اضافة الضيف و ان لا ينفقوا اذا حجوا الّا من طيب اموالهم، و تعظيم الاشهر الحرم، و نفي ذوات الرايات «1».

هذا و عن أم أيمن «رضي اللّه عنها» قالت: كنت

أحضن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (اي اقوم بتربيته و حفظه)، فغافلت عنه يوما فلم ادر الّا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول «يا بركة».

قلت: لبيك.

قال: أ تدرين اين وجدت ابني؟

قلت: لا ادري.

قال: وجدته مع غلمان قريبا من السدرة، لا تغافلى عن ابني، فان أهل الكتاب يزعمون انه نبيّ هذه الامة، و أنا لا آمن عليه منهم «2».

و كان عبد المطلب لا يأكل طعاما الّا يقول عليّ بابني (اي احضروه) و يجلسه بجنبه، و ربما اقعده على فخذه، و يؤثره بأطيب طعامه.

ثم انه لما بلغ أجله اوصى إلى ابي طالب برسول اللّه و قال له: قد خلّفت في ايديكم الشرف العظيم الذي تطئون، به رقاب الناس و قال له أيضا:

اوصيك يا عبد مناف بعدي بمفرد بعد ابيه فرد

فارقه و هو ضجيع المهدفكنت كالام له في الوجد

تدنيه من أحشائها و الكبدفانت من أرجى بنيي بعدي

لدفع ضيم أو لشدّ عقد

«3» هذا هو عبد المطلب، و تعوده ببيت اللّه الحرام، و مواقفه بين قومه، و كلماته في

______________________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 9 في بعض ما عدّه المؤرخ المذكور نظر.

(2) سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 64.

(3) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 10.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:290

المبدأ و المعاد و عطفه و حنانه على رسول الإسلام، و اهتمامه برسالة خاتم النبيين، و هي بمجموعها من اقوى الشواهد على توحيده، و ايمانه باللّه، و اعترافه برسالة الرسول الكريم.

إيمان كفيله و عمه أبي طالب:

و هكذا كان حال كفيل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الثاني ابو طالب عليه السّلام، فان له مواقف بارزة و كثيرة قبل البعثة النبوية، و بعدها تكشف عن عمق أيمان شيخ الاباطح، و توحيده.

(1) و من تلك المواقف استسقاؤه

برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في صباه:

فقد اصاب مكة قحط شديد في سنة من السنين فطلبت قريش من «أبي طالب» أن يستسقي لها فخرج و معه غلام- و هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- كأنه شمس دجن تجلّت عنها سحابة قتماء و حوله اغيلمة، فأخذه «أبو طالب» فألصق ظهره بالكعبة، و لاذ الغلام باصبعه (أي أشار بها إلى السماء) و ما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا و هاهنا، و أغدق، و اغدودق و انفجر له الوادي، و اخصب البادي و النادي.

ففي ذلك يقول ابو طالب- في مدح رسول اللّه-:

و ابيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة و فواضل

و ميزان عدل لا يخيس شعيرةو وزّان صدق وزنه غير هائل «1» (2) و كل هذا يعرب عن توحيد كفيلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخالص، و ايمانهما باللّه تعالى، و لو لم يكن لهما إلّا هذين الموقفين لكفياهما دليلا و برهانا على كونهما مؤمنين موحّدين.

______________________________

(1) شرح البخاري للقسطلاني: ج 2 ص 227، المواهب اللدنية: ج 1 ص 48، السيرة الحلبية: ج 1 ص 125، و للتوسع راجع الغدير: ج 7 ص 345 و 346، و قد ذكرنا مواقف ابي طالب الايمانية عند البحث عن شخصيته فراجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:291

كما ان ذلك يدل أيضا على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نشأ و ترعرع و نما في بيت كانت الديانة السائدة فيه هي توحيد اللّه، و عبادته وحده و رفض الاصنام و الاوثان.

إيمان والدي النبي الاكرم:

لقد نقلت عن عبد اللّه والد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلمات و ابيات تدل على

ايمانه و من ذلك ما نقله اهل السير عند ما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه فقال ردا عليها:

أما الحرام فالممات دونه و الحلّ لا حلّ فاستبينه

يحمي الكريم عرضه و دينه فكيف بالأمر الذي تبغينه «1» و قد روي عن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله انه قال: «لم أزل انقل من أصلاب الطاهرين الى أرحام الطاهرات» و لعل فيه ايعازا إلى طهارة آبائه و امهاته من كل دنس و شرك «2».

و اما الوالدة فيكفي في اثبات ايمانها ما رواه الحفاظ عنها عند وفاتها فانها (رضي اللّه عنها) خرجت مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو ابن خمس أو ست سنين و نزلت بالمدينة تزور أخوال جده و هم بنو عدي بن النجار و معها أم ايمن «بركة» الحبشية، فاقامت عندهم، و كان الرسول بعد الهجرة يذكر امورا حدثت في مقامه و يقول: «ان أمي نزلت في تلك الدار، و كان قوم من اليهود يختلفون و ينظرون إليّ فنظر إليّ رجل من اليهود فقال: يا غلام ما اسمك؟ فقلت: أحمد، فنظر الى ظهري، و سمعته يقول: هذا نبي هذه الامة، ثم راح الى اخوانه فاخبرهم فخافت امّي عليّ فخرجنا من المدينة، فلما كانت بالابواء توفيت و دفنت فيها.

و روى ابو نعيم في دلائل النبوة عن اسماء بنت رهم قالت: شهدت آمنة أمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله في علتها التي ماتت بها، و محمّد عليه السّلام غلام يفع

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 46.

(2) سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 58.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:292

(اي يافع) له خمس سنين عند رأسها فنظرت الى وجهه و خاطبته بقولها:

إن صحّ ما أبصرت في المنام فانت مبعوث

الى الانام

فاللّه انهاك عن الاصنام ان لا تواليها مع الاقوام ثمّ قالت: كل حي ميت و كل جديد بال، و كل كبير يفنى، و انا ميتة و ذكري باق و ولدت طهرا.

و قال الزرقاني في شرح المواهب نقلا عن جلال الدين السيوطي تعليقا على قولها: و هذا القول منها صريح في انها كانت موحّدة اذ ذكرت دين ابراهيم عليه السّلام، و بشرت ابنها بالاسلام من عند اللّه، و هل التوحيد شي ء غير هذا، فان التوحيد هو الاعتراف باللّه و انه لا شريك له، و البراءة من عبادة الاصنام «1».

و نلفت نظر القارئ الكريم هنا إلى ما قاله المرحوم الشيخ المفيد في كتابه «اوائل المقالات» في هذا الصدد:

اتفقت الإمامية على أن آباء رسول اللّه من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب مؤمنون باللّه عزّ و جلّ موحدون له، و احتجوا في ذلك بالقرآن و الاخبار قال اللّه عزّ و جلّ: «الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» «2».

ثمّ إنّ هنا سؤالين هما:

1- هل كان صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة موحّدا؟

2- بما ذا و بأيّ دين كان يتعبّد صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة؟

و إليك الحديث في هاتين الجهتين:

ايمان النبي باللّه و توحيده قبل البعثة:

إن الدلائل التاريخية- بالاضافة إلى البراهين العقلية و الكلامية- ندل على انه- صلّى اللّه عليه و آله- كان قبل ان يبعثه اللّه بالإسلام، مؤمنا باللّه، موحّدا إياه، لم يعبد وثنا قط، و لم يسجد لصنم أبدا، و ان ذلك من المسلمات.

______________________________

(1) الاتحاف للشبراوي: ص 144 سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 57.

(2) اوائل المقالات: ص 12 و 13.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:293

و هذا الأمر و ان كان أمرا مسلما و واضحا كوضوح

الشمس إلا اننا نذكر بعض ما جاء في التاريخ الثابت الصحيح ليقترن ذلك الاتفاق بأصح الدلائل التاريخية:

اما بغضه للأصنام و تجنبه للاوثان و ما يكون من هذا القبيل فإليك بعض ما ذكره التاريخ الصحيح في هذا المجال:

1- جاء في حديث طويل: ان النبي صلّى اللّه عليه و آله لما تم له ثلاث سنين قال يوما لوالدته (لمرضعته) حليمة السعدية: مالي لا أرى أخويّ بالنهار، قالت له: يا بنيّ انّهما يرعيان غنيمات.

قال: فمالي لا أخرج معهما، قالت له: أ تحبّ ذلك؟ قال: نعم، فلما أصبح محمّد دهّنته (تقول حليمة) و كحّلته و علّقت في عنقه خيطا فيه جزع يمانيّ، فنزعه ثم قال لأمّه:

«مهلا يا امّاه فانّ معي من يحفظني» «1».

2- روي ان «بحيرا» الراهب قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله في سفرته الاولى مع عمّه أبي طالب الى الشام: يا غلام اسألك بحق اللات و العزى الا أخبرتني عما اسألك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لا تسألني باللات و العزّى فو اللّه ما ابغضت شيئا بغضهما» قال الراهب:

باللّه الا أخبرتني عما أسألك عنه، قال صلّى اللّه عليه و آله: سلني عمّا بدا لك «2».

3- روي أنه قد وقع بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بين رجل تلاح في سفرته الثانية الى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها «ميسرة» بعد أن باع صلّى اللّه عليه و آله سلعته، فقال له الرجل: احلف باللات و العزى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) المنتقى، الباب الثاني من القسم الثاني- للكازروني كما في البحار: ج 15، ص 392.

(2) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 154، السيرة النبوية: ج 1 ص 182.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:294

«ما حلفت

بهما قطّ، و إنّي لأمرّ فاعرض عنهما».

و في رواية اخرى:

«إليك عني ثكلتك امّك فما تكلمات العرب بكلمة اثقل عليّ من هذه الكلمة».

فقال الرجل: القول قولك. ثم قال لميسرة: هذا و اللّه نبيّ «1».

(1) و اما عبادته للّه تعالى فقد أجمع المؤرخون على أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يخلو بحراء كل عام أشهرا يعبد فيه اللّه تعالى.

و قد قال الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام في هذا المجال:

«و لقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه و لا يراه غيري» «2».

حتى أن جبرئيل وافاه بالرسالة في ذلك المكان، و في تلك الحال.

و قد صرّح بهذا أصحاب الصحاح الستة أيضا اذ قالوا:

«و كان يخلو بحراء فيتحنّث فيه، و هو التعبد في الليالي ذوات العدد» «3».

كما ان الإمام امير المؤمنين عليه السّلام وصف هذا المقطع من حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

«و لقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه و آله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم، ليله و نهاره» «4».

و جاء في الأخبار انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حجّ قبل البعثة حجات عديدة و كان يأتي بمناسكها على وجه صحيح بعيدا عن أعين قريش.

قال الإمام الصادق عليه السّلام: في حديث ابن أبي يعفور:

«حج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عشر حجّات مستترا في كلّها» «5».

و في رواية: عشرين حجة «6».

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 156، بحار الأنوار: ج 16، ص 18.

(2) نهج البلاغة: قسم الخطب، الخطبة 192.

(3) صحيح البخاري: ج 1 ص 2، صحيح مسلم باب الايمان، مسند أحمد: ج 6، الحديث 233.

(4) نهج

البلاغة: قسم الخطب الخطبة رقم 192.

(5) وسائل الشيعة: ج 8، ص 88 أبواب وجوب الحج.

(6) وسائل الشيعة: ج 8، ص 88 أبواب وجوب الحج.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:295

و السبب في هذا الاستتار هو أن قريش كانت قد اسقطت بعض مناسك الحج، و العمرة، فكانت تؤدّي الحج بصورة غير صحيحة و ربما غيرت أشهر الحج احيانا لبعض الاعتبارات السياسية و المادية، و هو ما سمي بالنسي ء، و قد مرّ بيانه «1».

ان هذه الوقائع و غيرها- و هي ليست بقليلة اصدق دليل على إيمانه صلّى اللّه عليه و آله، و توحيده، اذ كيف يمكن أن يتنكّب مثل هذه الشخصية التي نشأت و ترعرعت في ذلك البيت الطاهر، و قرن اللّه به ملكا يتولاه بالتربية و الهداية عن جادة التوحيد.

ثم أن ممّا لا ريب فيه أن الرسول الخاتم صلّى اللّه عليه و آله هو افضل من جميع الأنبياء و المرسلين بنص القرآن الكريم.

و قد صرح القرآن بان بعض الأنبياء بلغوا درجة النبوة في الصغر، أو الصبا، و نزلت عليهم الكتب في تلك الفترات.

فمثلا يقول القرآن الكريم عن يحيى بن زكريا: «يا يحيى خذ الكتاب بقوّة و آتيناه الحكم صبيّا» «2».

(1) ثمّ يقول عن «عيسى بن مريم» عند ما كان في المهد و كان وجوه القوم من بني إسرائيل قد استنكروا ولادته من غير أب، و طلبوا من «مريم البتول» ان توضح لهم الأمر، و تبين لهم كيف حملت بعيسى؟!! فأشارت الى المسيح عليه السّلام أن كلّموه و هو آنذاك في المهد لم يمض على ولادته سوى أيام معدودات؛ فنطق المسيح بفصاحة كبيرة و قال:

«إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا. وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ

وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» «3».

لقد بيّن وليد «مريم» للناس اصول دينه و فروعه في فترة الطفولة و الرضاعة، و أعلن لهم عن توحيده و ايمانه باللّه سبحانه.

______________________________

(1) راجع الصفحة 83 و 84 من هذا الكتاب.

(2) مريم: 12.

(3) مريم: 30 و 31.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:296

فهل يرضى ضميرك أيها القارئ الكريم أن يكون «يحيى» و «المسيح» عليهما السّلام مؤمنين معلنين عن توحيدهما، و إيمانهما منذ طفولتهما، و صباهما، و يكون أفضل الأنبياء و المرسلين، و أشرف الخلق أجمعين إلى سنّ الأربعين على غير إيمان، و توحيد، مع أنه صلّى اللّه عليه و آله كان مشتغلا بالتعبّد في جبل «حراء» عند نزول ملاك الوحي عليه لأول مرة؟

و إليك بعض ما قاله المؤرخون، و العلماء في هذا المجال استكمالا لهذا المبحث:

قال ابن هشام: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فاذا قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به اذا انصرف من جواره، الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف به سبعا أو ما شاء اللّه من ذلك، ثم يرجع الى بيته حتى اذا كان الشهر الذي أراد اللّه تعالى به فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه اللّه تعالى فيها، و ذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى «حراء» كما كان يخرج لجواره و معه اهله حتى اذا كانت الليلة التي اكرمه اللّه فيها برسالته و رحم العباد بها جاءه جبرئيل عليه السّلام بامر اللّه تعالى «1».

و قال العلامة المجلسي: قد ورد أخبار كثيرة انه صلّى اللّه عليه و آله

كان يطوف، و انه كان يعبد اللّه في حراء، و انه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية و التحميد عند الاكل و غيره، و كيف يجوّز ذو مسكة من العقل على اللّه تعالى ان يهمل افضل انبيائه اربعين سنة بغير عبادة؟ و المكابرة في ذلك سفسطة «2».

فايمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و توحيده قبل البعثة، اذن، أمر مسلم لا شبهة فيه، و لا غبار عليه.

و لكن بعض الكتاب من المسيحيين و من تبعهم، من المستشرقين و غيرهم، أبوا إلّا أن ينتقصوا النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله فادّعوا ضلاله قبل البعثة،

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 236.

(2) بحار الأنوار: ج 18، ص 280.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:297

و إنه كان على غير إيمان، أو توحيد، و استدلّوا لزعمهم الباطل هذا بما توهّموا أنه يدلّ على دعواهم من الآيات القرآنية، و أبرزها الآيات التالية:

1- «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» «1».

2- «وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» «2».

3- «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «3».

4- «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» «4».

5- «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» «5».

لقد استدل المستشرقون و من لفّ لفهم و من سبقهم او لحقهم من المخطّئة بهذه الآيات على ضلال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة، و سلب الايمان عنه، و لكنها لا تدل على ما يريدون، و

لا جل تسليط الضوء على مقاصدهم نبحث عنها واحدة واحدة.

الآية الاولى: الهداية بعد الضلالة

ذكر المفسرون لقوله تعالى: «وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» الذي يشعر بهداية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد الضلالة احتمالات عديدة، في معرض الاجابة على استدلال من استدل به لا ثبات ضلال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة و لكن الحق ان يقال: أنّ الضال يستعمل في عرف اللغة في موارد:

1- الضالّ: من الضلالة ضد الهداية و الرشاد.

2- الضالّ: من ضلّ البعير اذا لم يعرف مكانه.

______________________________

(1) الضحى: 6 و 7.

(2) المدّثر: 4 و 5.

(3) الشورى: 52.

(4) يونس: 16.

(5) القصص: 86.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:298

3- الضالّ: من ضلّ الشي ء اذا ضؤل و خفى ذكره.

و تفسير الآية بأيّ واحدة من هذه المعاني لا يثبت ما يدعيه الذين يتمسكون بها لاثبات ضلال النبي صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة.

أما المعنى الأول فهو المقصود في كثير من الآيات قال سبحانه: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» «1».

لكن الضلالة على نوعين:

النوع الأول ما تكون الضلالة فيه أمرا وجوديا في النفس يوجب ظلمة النفس و منقصتها، مثل الكفر و الشرك و النفاق، و الضلالة بهذا المعنى قابلة للزيادة و النقصان قال سبحانه: «إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ» «2».

النوع الثاني ما تكون الضلالة فيه أمرا عدميا، و ذلك عند ما تكون النفس فاقدة للرشاد، و عندئذ يكون الإنسان ضالا بمعنى أنه غير واجد للهداية من عند نفسه، و ذلك كالطفل الذي أشرف على التمييز و كاد أن يعرف الخير و الشر، و يميز بين الصلاح و الفساد فهو آنذاك ضالّ بمعنى أنه غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبل الحياة لا بمعنى كينونة ظلمة الكفر و الفسق في نفسه و

روحه.

و المراد من الضالّ في قوله تعالى «وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» لو كان ما يضادّ الهداية فهو يهدف الى النوع الثاني، فيكون المعنى انك في ابان عمرك كنت غير واجد للهداية من عند نفسك فهداك اللّه إلى اسباب السعادة و عرفك عوامل الشقاء، و هو اشارة إلى قانون الهي عام في حياة البشر انبياء و اناسا ماديين، و هو ان هداية كل إنسان بل كل ممكن مكتسبة من اللّه قال سبحانه: «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» «3».

و على هذا الاساس فالآية تهدف إلى ذكر النعم التي انعم اللّه بها على نبيه الحبيب منذ ان استعد لها فاواه بعد ما صار يتيما، و أفاض عليه الهداية بعد ما كان

______________________________

(1) الفاتحة: 7.

(2) التوبة: 37.

(3) طه: 50، و راجع الآيات: 2 و 3 من سورة الأعلى و 43 من سورة الأعراف و 78 من سورة الشعراء و غيرها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:299

فاقدا لها بحسب ذاته، و بحكم طبيعته، و يعود زمن هذه العناية الربانية بنبيه إلى مطلع حياته، و اوليات عمره و ايام صباه بقرينة ذكر ذلك بعد الايواء الذي تحقق باليتم، و تمّ بجده عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثمانية سنين، و يؤيد ذلك قول امام المتقين علي بن ابي طالب عليه السّلام: «و لقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه و آله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره» «1».

و صفوة القول أن المراد بكونه ضالا هو أن لازم كون النبي ممكنا بالذات هو كونه فاقدا في ذاته لكل كمال و جمال، مفاضا عليه كل جميل من جانب اللّه تعالى

و هذا هو اشارة إلى مقتضى التوحيد الافعالي و اين هذا من الضلالة المساوقة للكفر أو الشرك أو الفسق و العصيان؟!

ثم ان من المحتمل ان تكون الضلالة في الآية مأخوذة من «ضلّ الشي ء اذا لم يعرف مكانه» و في الحديث «الحكمة ضالّة المؤمن» اي مفقودته، لا ضدّ الهداية و الرشاد، فيكون الضالّ بهذا المعنى منطبقا على ما نقله أهل السير و التواريخ عن ما جرى للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ايام صباه يوم ضلّ في شعاب مكة، و هو صغير فمنّ اللّه عليه اذ ردّه الى جدّه، و قصته معروفة في كتب السير و التاريخ «2» و لو لا رحمة اللّه سبحانه لادركه الهلاك و مات عطشا أو جوعا فشملته العناية الالهية.

أو أن تكون الضلالة في الآية مأخوذة من «ضلّ الشي ء اذا خفي و غاب عن الأعين» فالانسان الضال هو الإنسان المخفي ذكره، المنسيّ اسمه لا يعرفه إلا القليل من الناس، و لا يهتدي كثير منهم إليه.

و لو كان هذا هو المقصود، كان معناه حينئذ انه سبحانه رفع ذكره، و عرّفه

______________________________

(1) نهج البلاغة: من الخطبة 178 و المسمّاة بالقاصعة ص 182.

(2) لاحظ السيرة الحلبية: ج 1 ص 131 و غيره، و في هذه القصة يروي عن حيدة بن معاوية العامري سمعت شيخا يطوف بالبيت و هو يقول:

يا ربّ ردّ راكبي محمّداأردده ربّي و اصطنع عندي يدا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:300

للناس بعد ما كان خاملا ذكره منسيا اسمه.

و يؤيد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح التي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلا:

«أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ. وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» «1».

فرفع ذكره في العالم عبارة

عن هداية الناس إليه، و رفع الحواجز بينه، و بينهم و على هذا فالمقصود من «الهداية» هو هداية الناس إليه لا هدايته بعد ضلال، فكأنه قال: فوجدك ضالا، أي خاملا ذكرك، باهتا اسمك، فهدى الناس إليك، و سيّر ذكرك في البلاد.

و الى ذلك يشير الإمام الرضا عليه السّلام على ما في خبر ابن الجهم بقوله:

«قال اللّه عزّ و جلّ لنبيه محمّد صلّى اللّه عليه و آله: «أ لم يجدك يتيما فآوى» يقول: «أ لم يجدك» وحيدا فآوى إليك الناس «و وجدك ضالّا» يعني عند قومك «فهدى» أي هداهم إلى معرفتك» «2». قال الاستاذ الشيخ محمّد عبده في هذا المجال:

لقد بغّضت إليه (أي الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) الوثنيّة من مبدأ عمره فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، و ما جاء في الكتاب من قوله: «و وجدك ضالّا فهدى» لا يفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم، قبل الخلق العظيم حاش للّه، إنّ ذلك لهو الإفك المبين «3».

الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز

استدلّوا بقول اللّه تعالى «و الرجز فاهجر» على وجود ارضية لعبادة الصنم

______________________________

(1) الانشراح: 1- 4.

(2) بحار الأنوار: ج 16 ص 142.

(3) رسالة التوحيد للشيخ محمّد عبده: ص 135 و 136.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:301

و الوثن في شخصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذلك بتفسير الرجز بالصنم، و الوثن، و يتضح بطلان هذا الادعاء و الاستنباط اذا أمعنا في معاني و استعمالات هذه اللفظة في الكتاب العزيز.

ان الرجز استعمل في القرآن الكريم في معان ثلاثة: العذاب، القذارة، الصنم.

و قد استعمل الرجز (بكسر الراء) في تسع موارد في القرآن الكريم، و قد اريد منه في جميعها العذاب

إلّا في مورد واحد: و هي: البقرة- 59، و الاعراف 134 (و جاءت اللفظة فيها مرتين) و 135 و 162 و الانفال- 11 و سبأ- 5 و الجاثية- 11 و العنكبوت- 34.

و جاء الرجز- بضمّ الراء- مرّة واحدة و هي الآية التي نحن بصددها هنا «1».

و هذه الآية لا تدل على ما ذهب إليه الذين يزعمون بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان على غير التوحيد قبل البعثة.

و إليك بيان هذا الموضوع مفصلا:

1- ان الرجز لو كان بمعنى «العذاب» دلّت الآية على هجر ما يستلزم العذاب، فيكون الخطاب حينئذ مسوقا من باب التعليم، و من باب «اياك أعني و اسمعي يا جاره»، فيكون ظاهر الأمر هو مخاطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نهيه عما يستلزم العذاب، و ارادة تعليم الامة مثل قول اللّه تعالى في خطابه للنبي «فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» «2». و قوله تعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» «3» فكمالا تدلّ الآية على وجود أرضية الشرك في شخصية النبي صلّى اللّه عليه و آله، كذلك لا تدل الآية على وجود أرضية التعرض للعذاب في شخصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

2- إن الرجز لو كان بمعنى (القذارة) و هي تنقسم الى مادية و معنوية فيحتمل ان يكون المراد بناء على المعنى الأول اشارة إلى ما ورد في الروايات من

______________________________

(1) المدّثر: 5.

(2) القصص: 86.

(3) الزمر: 65.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:302

أنّ ابا جهل جاء بشي ء قذر، و أمر رجلا من قريش بالقائه على النبيّ، ففعل، فأمر اللّه نبيه بتطهير ثوبه من الدنس.

و يحتمل ان تكون الآية دعوة إلى اجتناب الصفات الذميمة بناء على ارادة المعنى الثاني للفظة الرجز فتكون الآية تعليما للناس على

النمط السابق، فلا تدل على اتصاف النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله بها.

3- الرجز بمعنى الصنم، لنفترض أن المقصود منه في الآية هو الصنم، لكن لا بمعنى أنه وضع لذاك المعنى، و إنّما وضع اللفظ لمعنى جامع يعمّ الصنم و الخمر و الازلام لاشتراك الجميع في كونها رجزا، و لأجل ذلك وصف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» «1».

و لكن يجاب عن هذا أيضا بأن النبيّ يوم نزلت الآية لم يكن عابدا للوثن بل كان مشمّرا عن ساعد الجدّ لتحطيم الاصنام و مكافحة عبدتها، فلا يصح أن يخاطب من هذا شأنه بهجر الاصنام إلا على السبيل الذي أشرنا إليه، و هو توجيه الخطاب إلى النبيّ و إرادة الامة به لكون هذا النوع من الخطاب أبلغ في التأثير، لأنه سبحانه اذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به.

الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب إليه

قال تعالى: «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» «3».

استدلّوا بأن ظاهر الآية نفي علمه بالقاء الكتاب إليه، فلم يكن النبي راجيا لذلك واقفا عليه.

أقول: ان توضيح مفاد هذه الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية اعني قوله: «الّا رحمة من ربّك» حتى يتضح المقصود، و قد ذكر المفسرون في توضيحها وجوها ثلاثة نأتي بها:

1- إن «إلّا» استدراكية، و ليست استثنائية فهي بمعنى «لكنّ» لاستدراك ما بقي من المقصود، و حاصل معنى الآية: «ما كنت يا محمّد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه إليك و يشرّفك بإنزال القرآن عليك، إلّا أن ربّك رحمك، و انعم به عليك و اراد بك الخير»

نظير قوله سبحانه: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» «4» اي و لكن رحمة من ربك خصّصك به و هذا هو المنقول

______________________________

(1) البقرة: 143.

(2) الميزان: ج 18 ص 80.

(3) القصص: 86.

(4) القصص: 46.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:309

عن الفراء «1».

و على هذا لم يكن للنبي صلّى اللّه عليه و آله اي رجاء لالقاء الكتاب إليه، و انما فاجأه الالقاء لأجل رحمة ربه.

و لكن لا يصار إلى هذا الوجه إلّا اذا امتنع كون الاستثناء متصلا لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

2- ان يكون «إلّا» للاستثناء لا للاستدراك و هو متصل لا منقطع، و لكن المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام، و هو كما في الكشاف: «و ما القى إليك الكتاب إلّا رحمة من ربك» «2» اى لم يكن لا لقائه عليك وجه إلّا رحمة ربك، و على هذا الوجه أيضا لا يعلم انه كان للنبي صلّى اللّه عليه و آله رجاء لا لقاء الكتاب عليه و ان كان الاستثناء متصلا.

و هذا الوجه بعيد أيضا لكون المستثنى منه، محذوفا مفهوما من الجملة على خلاف الظاهر و انما يصار إليه اذا لم يصحّ ارجاعه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيّن في الوجه الثالث.

3- أن يكون «إلّا» استثناء من الجملة السابقة عليه اعني قوله: «و ما كنت ترجو» و يكون معناه: ما كنت ترجو القاء الكتاب عليك إلّا أن يرحمك اللّه برحمة فينعم عليك بذلك، فتكون النتيجة: ما كنت ترجو إلّا على هذا «3».

فيكون هنا رجاء منفيا، و رجاء مثبتا، أما الأول فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية، فلم يكن ذاك الرجاء موجودا.

و اما رجاؤه به عن طريق

الرحمة الالهية فكان موجودا فنفي أحد الرجاءين لا يستلزم نفي الآخر، بل المنفيّ هو الأول، و الثابت هو الثاني و هذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية.

و قد سبق منّا أن جملة «ما كنت» و ما اشبهه (تستعمل في نفي الامكان،

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 269، مفاتيح الغيب: ج 6 ص 408.

(2) الكشاف: ج 2 ص 487 و 488.

(3) مفاتيح الغيب: ج 6 ص 498.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:310

و الشأن، و على ذلك يكون معنى الجملة: لم تكن راجيا لأن يلقى إليك الكتاب، و تكون طرفا للوحي، و الخطاب الّا من جهة خاصة، و هي أن تقع في مظلة رحمته و موضع عنايته، فيختارك طرفا لوحيه، و مخاطبا لكلامه، فالنبي بما هو انسان عادي لم يكن راجيا لأن ينزل إليه الوحي، و يلقى إليه الكتاب، و بما انه صار مشمولا لرحمته و عنايته، و صار انسانا مثاليا، قابلا لتحمل المسئولية، و تربية الامة، كان راجيا به، و على ذلك فالنفي و الاثبات غير واردين على موضع واحد.

و بهذا خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنه صلّى اللّه عليه و آله كان إنسانا مؤمنا موحّدا عابدا للّه ساجدا قائما بالفرائض العقلية و الشرعية مجتنبا عن المحرمات عالما بالكتاب و مؤمنا به إجمالا و راجيا لنزوله إليه إلى أن بعث لانقاذ البشرية عن الجهل، و سوقها إلى الكمال. سيد المرسلين ج 1 310 الآية الخامسة: لو لم يشأ ما تلوته ..... ص : 310

الآية الخامسة: لو لم يشأ ما تلوته

قال سبحانه: «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» «1»، و الآية تؤكد أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان لا بثا

في قومه، و لم يكن تاليا لسورة من سور القرآن، أو آية من آياته و ليس هذا شي ء ينكره القائلون بالعصمة، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وقف على ما وقف عليه من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي، و لم يكن قبله عالما به و اين هذا من قول المخطئة من نفي الايمان منه قبلها.

و ان اردت الاسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدمة، فترى فيها اقتراحين للمشركين و قد اجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدمة و عن الآخر في نفس هذه الآية و إليك نصّها: «قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» «2».

______________________________

(1) يونس: 16.

(2) يونس: 15.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:311

اقترح المشركون على النبي أحد الأمرين:

1- الإتيان بقرآن غير هذا مع التحفظ على فصاحته و بلاغته.

2- تبديل بعض آياته مما فيه سبّ لآلهتهم و تنديد بعبادتهم للاوثان و الاصنام.

فأجاب عن الثاني في نفس الآية بان التبديل عصيان للّه، و انه يخاف من مخالفة ربه، و لا محيص له إلّا إتباع الوحي من دون أن يزيد فيه او بنقص عنه.

و اجاب عن الأول في الآية المبحوث عنها بان ذلك أمر غير ممكن لأن القرآن ليس من صنعي و كلامي حتى أذهب به و آتي بآخر، بل هو كلام اللّه سبحانه و قد تعلقت مشيئته بتلاوتي، و لو لم يشأ لما تلوته عليكم و لا ادراكم به، و الدليل على ذلك أني كنت لابثا فيكم عمرا من قبل فما تكلمات بسورة أو بآية من آياته،

و لو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلم به، أيام معاشرتي السابقة معكم في المدة الطويلة، المديدة.

قال العلامة الطباطبائي في تفسير الآية: إن الأمر فيه إلى مشيئة اللّه لا إلى مشيئتي، فانما أنا رسول و لو شاء اللّه ان ينزل قرآنا غير هذا لأنزل، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآن ما تلوته عليكم، و لا أدراكم به فاني مكثت عمرا من قبل نزوله، و لو كان ذلك إليّ و بيدي لبادرت إليه قبل ذلك و بدت من ذلك آثار و لاحت لوائحه «1».

فكيف يمكن و الحال هذه أن يكون مجانبا للإيمان باللّه و توحيده، لاهيا عن عبادته و تقديسه.

هذا و في هذا المجال حديث واسع اكتفينا منه بهذا القدر، و من أراد التوسع أن يراجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن ص 135- 191.

و أما الكلام في الجهة الثانية و هي: أنه بما ذا و بأيّ دين كان يتعبّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة، فقد وقع ذلك محطا للبحث بين العلماء، و حيث انه لا ينطوي على فائدة كبرى، بعد أن تبين أنه كان قبل البعثة

______________________________

(1) الميزان: ج 10 ص 26، و لاحظ المنار: ج 11 ص 320.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:312

مؤمنا، موحّدا، يعبد اللّه، فإنّه يكفي أن نعرف أنه كان صلّى اللّه عليه و آله يلتزم بما ثبت له أنه شرع اللّه تعالى ... و بما يؤدّي إليه عقله الفطري السليم، و أنه بالتالي كان مؤيدا مسدّدا، و أنه كان أفضل الخلق و اكملهم خلقا، و خلقا، و عقلا، و انه كان يعمل حسب ما يلهم سواء أ كان مطابقا لشرع ما قبله أم مخالفا و أن هاديه و قائده منذ صباه إلى

ان بعث هو نفس هاديه بعد البعثة «1».

______________________________

(1) و للتوسّع و الوقوف على الآراء المختلفة في هذا المجال راجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن:

ص 135- 191.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:313

(1)

11 بدء الوحي

اشارة

انّ التاريخ الإسلامي يبدأ في الحقيقة من يوم بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة، و التي وقعت على أثره حوادث خاصة.

و يوم بعث النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله لهداية الناس، و دوّى في سمعه الشريف نداء «إنك لرسول اللّه» الصادر عن ملاك الوحي القيت على كاهله مسئولية كبرى و ثقيلة جدّا، على نمط الوظيفة الهامة التي القيت على كاهل من سبقه من الأنبياء و الرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين.

منذ ذلك اليوم اتضح هدف أمين قريش، أكثر فأكثر، و تجلت خطته اكثر فأكثر.

و نحن نرى من اللازم قبل شرح الحوادث الاولى الواقعة عند البعثة ان نعطي بعض الايضاحات حول مسألتين:

1- وجوب بعث الأنبياء.

2- دور الأنبياء في اصلاح المجتمع.

لقد أودع اللّه تعالى في كيان كلّ كائن من الكائنات أدوات تكامله، و جهّزه- لسلوك هذا الطريق- بالوسائل المتنوعة، و الأجهزة المختلفة اللازمة.

و لنأخذ مثلا: نبتة صغيرة، فان ثمة عوامل كثيرة تتفاعل في ما بينها و تعمل

سيد المرسلين ،ج 1،ص:314

لتحقيق التكامل فيها.

ان جذور كل نبتة تعمل اكبر قدر ممكن لامتصاص العناصر الغذائية، و تلبية احتياجات النبتة، و توصل العروق و القنوات المختلفة، عصارة ما تأخذه من الارض إلى جميع الاغصان و الاوراق.

إننا لو درسنا جهاز (وردة) لرأيناه اكثر مدعاة للاعجاب و أشد اثارة للتعجب من تركيب بقية النباتات.

فللكأس وظيفة توفير الغطاء اللازم للاوراق الناعمة اللطيفة في الوردة.

و هكذا الحال بالنسبة الى بقية الأجهزة في (الوردة) ممّا انيط إليها مسئولية الحفاظ على كائن حيّ، و ضمان رشده و نموّه،

فإنها جميعا تقوم بوظائفها المخلوقة لها بأحسن شكل، و أفضل صورة.

و لو أننا خطونا خطوات اكثر و تقدّمنا بعض الشي ء لدراسة الأجهزة العجيبة في عالم الأحياء، لرأينا أنها جميعا و بدون استثناء مزوّدة بما يضمن بلوغها الى مرحلة الكمال المطلوب لها.

(1) و إذا أردنا أن نصبّ هذا الموضوع في قالب علميّ لوجب أن نقول: انّ الهداية التكوينية، التي هي النعمة المتجلّية في عالم الطبيعة، تشمل كل موجودات هذا العالم من نبات، و حيوان و انسان.

و يبيّن القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية الشاملة بقوله:

«رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» «1».

فانّه يصرّح بأن كل شي ء في هذا الكون من الذرة إلى المجرّة ينعم بهذا الفيض العامّ، و انّ اللّه تعالى بعد أن قدّر كل موجود و كائن، بيّن له طريق تكامله، و رقيّه، و هيأ لكل كائن من تلك الكائنات ما يحتاج إليه في تربيته و نموّه، و هذه هي (الهداية التكوينية العامة) السائدة على كل ارجاء الخليقة دون ما استثناء.

______________________________

(1) طه: 50.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:315

(1) و لكن هل تكفي هذه الهداية الفطرية، التكوينية لكائن مثل الإنسان، اشرف الموجودات، و افضل ما في هذه الخليقة؟! بكل تأكيد: لا.

لأن للإنسان حياة اخرى غير الحياة المادية، تشكل اساس حياته الواقعية، و لو كان للإنسان حياة مادية جافّة فقط مثلما لعالم النباتات، و الحيوانات، لكفت العوامل و العناصر المادية في تكامله، و الحال أن للإنسان نوعين من الحياة، يكمن في تكاملهما معا رمز سعادة الإنسان و رقيّه.

ان الإنسان الأول، و نعني به انسان الكهوف و الحياة البسيطة و الفطرة السليمة التي لم يطرأ على جبلته اي اعوجاج لم يكن بحاجة إلى ما يحتاج إليه الإنسان الاجتماعيّ من التربية و

الهداية.

(2) و لكن عند ما خطى الإنسان خطوان أبعد من ذلك، و بدأ الحياة الاجتماعية، و سادت على حياته فكرة التعاون و العمل الجماعي برزت في روحه و نفسيته سلسلة من الانحرافات نتيجة للاحتكاك الاجتماعي، و غيّرت الخصال القبيحة و الافكار الخاطئة صفاته الفطرية، و بالتالي اخرج المجتمع من حالة التوازن!

إن هذه الانحرافات حملت خالق الكون على أن يرسل إلى البشرية رجالا أفذاذا صالحين يتولّون تربية البشر، و ليقوموا بتنظيم برنامج المجتمع، و التخفيف من المفاسد الناشئة- بصورة مباشرة- عن النزعة الاجتماعية لدى الإنسان، و ليضيئوا- بمشاعل الوحي المشعّة المنيرة- طريق السعادة و الخير للانسانية في جميع المجالات و الابعاد.

إذ لا نقاش في أنّ الحياة الاجتماعية و العيش بصورة جماعية مع كونه مفيدا، ينطوي على مفاسد لا تنكر، و يجرّ إلى انحرافات كثيرة لا تقبل الترديد.

(3) و لهذا بعث اللّه سبحانه رجالا مصلحين، و هداة مرشدين يعملون- قدر الامكان- على الحدّ من الانحرافات و المفاسد، و يضعون عجلة المجتمع- بتنظيم القوانين الواضحة و الانظمة الحكيمة- على الطريق الصحيح، و يضمنون دورانها

سيد المرسلين ،ج 1،ص:316

و حركتها في المسار المستقيم.

و قد يستفاد هذا الأمر- بوضوح- من قوله تعالى:

«كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» «1».

(1)

دور الأنبياء في اصلاح المجتمع:

ان الذي يتصوره الناس عادة هو أنّ الأنبياء مجرد معلّمين إلهيين بعثوا لتعليم البشرية.

فكما يتعلم الطفل خلال حركته التعليمية ابتداء من الابتدائية و مرورا بالمتوسطة و انتهاء بالجامعة دروسا معينة و مواضيع خاصة على ايدي الاساتذة و المعلمين، كذلك يتعلم الناس في مدرسة الأنبياء امورا خاصة، و يكتسبون معارف معينة، و تتكامل أخلاقهم و صفاتهم و خصالهم الاجتماعية جنبا

الى جنب مع اكتسابهم المعرفة و العلم على أيدي الأنبياء و المرسلين.

و لكننا نتصور أن مهمة الأنبياء وظيفتهم الأساسية هي (تربية) المجتمعات البشرية لا تعليمها، و ان اساس شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد، و انه ما لم تنحرف الفطرة البشرية عن مسارها الصحيح، و ما لم تلفها غشاوات الجهل و الغافلة لعرفت و ادركت خلاصة الدين الإلهي، و عصارتها، في غير ابهام، و لا خفاء.

على أن هذه الحقيقة قد أشار إليها قادة الإسلام العظماء.

(2) فقد قال امير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة عن هدف الأنبياء:

«أخذ على الوحي ميثاقهم، و على تبليغ الرسالة أمانتهم ... ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكروهم منسيّ نعمته، و يحتجّوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول» «2».

______________________________

(1) البقرة: 213.

(2) نهج البلاغة: قسم الخطب، الخطبة رقم 1.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:317

(1)

مثال واضح في المقام:

اذا قلنا: ان وظيفة الأنبياء في تربية الناس و اصلاح نفوسهم هي وظيفة البستاني في تربية شجيرة من الشجرات، أو قلنا: أن مثل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية البشرية و هدايتها، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الاودية و الجبال، لم نكن في هذا القول مبالغين.

و توضيح ذلك ان النبتة، أو الشجيرة الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الاولى كل قابليات النمو، و الرشد، فاذا توفر لها الجو المناسب للنمو، دبّت الحياة و الحركة في كل أجزائها، و استطاعت بفعل جذورها القوية و اجهزتها المتنوعة و في الهواء الطلق، و الضوء اللازم، من أن تقطع أشواطا كبيرة من التكامل، و النمو.

(2) فمسؤولية البستاني في هذه الحالة تتركز في امرين:

1- توفير الظروف اللازمة لتقوية جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة في تلك النبتة أو الشجيرة، و تخرج من حيّز

القوة إلى مرحلة الفعلية، و التحقق.

2- الحيلولة دون تعرض تلك الشجرة أو النبتة للانحرافات و الآفات، و ذلك عند ما تتجه القوى الباطنية صوب الوجهة المخالفة لسعادتها، و تسلك طريقا ينافي تكاملها.

و من هنا فان مسئولية البستاني و وظيفته ليست هي (الإنماء) بل هي (المراقبة) و توفير الظروف اللازمة ليتهيّأ لتلك الشجرة و النبتة أن تبرز كمالها الباطني.

(3) لقد خلق اللّه سبحانه البشر و أودع في كيانه طاقات متنوعة، و غرائز كثيرة، و عجن فطرته و جبلّته بالتوحيد، و حبّ معرفة اللّه، و حبّ الحق و الخير، و العدل و الانصاف، كما و أودع فيه غريزة السعي و العمل.

و عند ما تبدأ خمائر هذه الامور و بذورها الصالحة المودوعة بالعمل و التفاعل في كيان الإنسان تتعرض في الجو الاجتماعي لبعض الانحرافات بصورة قهرية،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:318

فغريزة العمل و السعي تتخذ شيئا فشيئا صفة الحرص و الطمع، و غريزة حب السعادة و البقاء تتخذ صورة الانانية، و حب الجاه و المنصب، و يتجلى نور التوحيد و الإيمان في لباس الوثنية و عبادة الأصنام.

(1) في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه الى البشرية: (الأنبياء و الرسل) على توفير ظروف الرشد و النمو الصحيح لتلك الغرائز و تلك القوى و الطاقات في ضوء الوحي، و البرامج الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع الالهي الهادي، و يقومون بالتالي بتعديل انحرافات الغرائز، و الوقوف دون تجاوزها حدودها المعقولة المطلوبة.

و لقد قال امير المؤمنين في ما مرّ من كلامه: إن اللّه أخذ- في مبدأ الخلق- ميثاقا يدعى «ميثاق الفطرة».

فما هو ترى المقصود من ميثاق الفطرة هذا؟

إن المقصود من هذا الميثاق هو: أن اللّه تعالى بخلقه و ايداعه الغرائز المفيدة في الكيان الإنساني، و بمزج

الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق الطيبة و السجايا الصالحة يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقا فطريا بأن يتبع خصال الخير، و يأخذ بالغرائز الطيّبة الصالحة.

فاذا كان منح جهاز البصر (العين) للإنسان هو نوع من اخذ الميثاق من الإنسان بان يتجنب المزالق، و لا يقع في البئر، فكذلك ايداع حسّ التدين، و غريزة الانجذاب الى اللّه، و حبّ العدل، في كيانه هو الآخر نوع من اخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمنا باللّه، موحّدا إياه، عادلا، منصفا، محبا للخير و الحق.

و إن وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا الناس على العمل بمقتضى ميثاق الفطرة، و بالتالي فانّ مهمّتهم الأساسية الحقيقة هو تمزيق اغشية الجهل و تبديد سحب الغافلة التي قد ترين على جوهرة الفطرة المطعمة بنور الايمان، فتمنعها من الاشراق على وجود الإنسان، و تحرم الإنسان من هدايتها.

و من هنا قالوا: إن أساس الشرائع الالهية يتألف من الامور الفطرية، التي فطر الإنسان عليها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:319

(1) و كأنّ صرح الكيان الإنساني (جبل) اختفت بين ثنايا صخوره و في بطونه احجار كريمة كثيرة و معادن ذهبيه ثمينة، فالوجود الإنساني هو الآخر قد اودعت فيه فضائل و علوم، و معارف و خصال، و اخلاق متنوعة.

فعند ما يغور الأنبياء و المهندسون الروحيّون في أعماق نفوسنا و ذواتنا و هم يعلمون جيدا أن نفوسنا معجونة بطائفة من الصفات و السجايا النبيلة و المشاعر و الاحاسيس الطيبة، و يعملون على اعادة نفوسنا- بتعاليم الدين و برامجه- الى جادة الفطرة المستقيمة السليمة فانهم في الحقيقة يذكّروننا بأحكام فطرتنا، و يسمّعوننا نداء ضمائرنا، و يلفتونها إلى الصفات، و الى الشخصية المودوعة فيها.

تلك هي رسالة الأنبياء، و ذلك هو عملهم الاساسي، و هذا هو دورهم في اصلاح النوع

الإنساني، أفرادا و جماعات.

(2)

أمين قريش في غار حراء:

يقع جبل «حراء» في شمال «مكة» و يستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمان.

و يتألف ظاهر هذا الجبل. من قطع صخرية سوداء، لا يرى فيها أيّ أثر للحياة أبدا.

و يوجد في النقطة الشمالية من هذا الجبل غار يمكن للمرء أن يصل إليه و لكن عبر تلك الصخور، و يرتفع سقف هذا الغار قامة رجل، و بينما تضي ء الشمس قسما منه، تغرق نواح اخرى منه في ظلمة دائمة.

و لكن هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه، و قضى ساعات بل و أياما و أشهرا في رحابه ... ذكريات يتشوق الناس- و حتى هذا الساعة- الى سماعها من ذلك الغار، و لذلك تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار، متحملين في هذا السبيل كل عناء، للوصول إلى رحابه، لكي يستفسرونه عما جرى فيها عند وقوع حادثة: «الوحي» العظيمة و ليسألونه عن ما تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الاكبر ممّا جرت

سيد المرسلين ،ج 1،ص:320

حوادثه في ذلك المكان التاريخي، العجيب.

(1) و يتحدث ذلك الغار هو الآخر إليهم بلسان الحال و يقول: هاهنا المكان الذي كان يتعبد فيه عزيز قريش و فتاها الصادق الامين.

و هاهنا قضى ليالي و أياما عديدة و طويلة قبل ان يبلغ مرتبة الرسالة، في عبادة اللّه، و التأمل في الكون، و في آثار قدرة اللّه و عظمته.

أجل، لقد اختار محمّد صلّى اللّه عليه و آله ذلك المكان البعيد عن صحيح الحياة، للعبادة و التحنث، فكان يمضي جميع الايام من شهر رمضان فيه، و ربما لجأ إليه في غير هذا الشهر أحيانا اخرى، إلى درجة أنّ زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع

إلى منزلها، تعرف أنه قد ذهب إلى «غار حراء» و أنه هناك مشتغل بالعبادة و التحنث و الاعتكاف. و كانت كلّما أرسلت إليه أحدا وجده في ذلك المكان مستغرقا في التأمل و التفكير، او مشتغلا بالعبادة و التحنث.

(2) لقد كان صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يبلغ مقام النبوة، و يبعث بالرسالة يفكر- اكثر شي ء- في أمرين:

1- كان يفكر في ملكوت السماوات و الارض، و يرى في ملامح كل واحد من الكائنات التي يشاهدها نور الخالق العظيم، و قدرته، و عظمته و علمه، و قد كانت تفتح عليه من هذا السبيل نوافذ من الغيب تحمل الى قلبه و عقله النور الالهيّ المقدس.

2- كان يفكر في المسئولية الثقيلة التي ستوضع على كاهله.

إن اصلاح المجتمع في ذلك اليوم على ما كان عليه من فساد عريق و انحطاط عريض، لم يكن في نظره و تقديره بالأمر المحال الممتنع. و لكن تطبيق مثل هذا البرنامج الاصلاحيّ لم يكن في نفس الوقت أمرا خاليا من العناء و المشاكل، من هنا كان يفكر طويلا في الفساد في حياة المجتمع المكّي و ما يراه من ترف قريش، و كيفيّة رفع كل ذلك و اصلاحه.

لقد كان صلّى اللّه عليه و آله حزينا لما يرى من قومه من فساد العقيدة المتمثل في الخضوع للأوثان الميتة، و العبادة للأصنام الخاوية الباطلة، و لطالما

سيد المرسلين ،ج 1،ص:321

شوهدت آثار ذلك الحزن على محيّاه، و ملامح وجهه الشريف، و لكن لما لم يكن مأذونا بالافصاح بالحقائق، لذلك كان يتجنب ردع الناس عن تلك المفاسد، و منعهم عن تلك الانحرافات.

(1)

بدء الوحي:

لقد امر اللّه ملكا من ملائكته بأن ينزل على امين قريش و هو في غار حراء و يتلو على

مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية و السعادة، معلنا بذلك تتويجه بالنبوة، و نصبه لمقام الرسالة.

كان ذلك الملك «جبرئيل»، و كان ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف الذي سنتحدث عن تاريخه في المستقبل.

و لا ريب أن ملاقاة الملك و مواجهته أمر كان يحتاج إلى تهيّؤ خاصّ، و ما لم يكن محمّد صلّى اللّه عليه و آله يمتلك روحا عظيمة، و نفسية قوية لم يكن قادرا قط على تحمّل ثقل النبوة، و ملاقاة ذلك الملك العظيم.

أجل لقد كان «أمين قريش» يمتلك تلك الروح الكبرى، و تلك النفس العظيمة و قد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة، و التأمّل العميق الدائم، الى جانب العناية الالهية.

و لقد روى أصحاب السير و التاريخ انه رأى رؤى عديدة قبل البعثة كانت تكشف عن واقع بيّن واضح وضوح النهار «1».

و لقد كانت ألذّ الساعات و أحبها عنده بعد كل فترة، تلك الساعات التي يخلو فيها بنفسه، و يتعبّد فيها بعيدا عن الناس.

و لقد قضى على هذا الحال مدة طويلة حتى أتاه- في يوم معين- ملك عظيم بلوح نصبه أمامه و قال له: «اقرأ»، و حيث أنه صلّى اللّه عليه و آله كان اميا لم يدرس أجاب الملك بقوله: «ما أنا بقارئ».

______________________________

(1) صحيح البخاري: ج 1 كتاب العلم ص 22، بحار الأنوار: ج 18 ص 194.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:322

(1) فاحتضنه ذلك الملك، و عصره عصرة شديدة، ثم طلب منه أن يقرأ فأجابه بالجواب الأول.

فعصره الملك ثانية عصرة شديدة و تكرّر هذا العمل مرات ثلاث احس بعدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في نفسه أنه قادر على قراءة ما في ذلك اللوح، فقرأ ساعتها تلك الآيات التي تشكل- في الحقيقة- ديباجة كتاب

السعادة البشرية، و اساس رقيها.

لقد قرأ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوله تعالى:

«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» «1».

و بعد أن انتهى جبرئيل من أداء مهمته التي كلّف بها من جانب اللّه تعالى، و بلّغ الى النبي تلكم الآيات الخمس، انحدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من جبل حراء، و توجه نحو منزل خديجة «2».

و لقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اجمالا، و بيّنت و بشكل واضح ان اساس الدين يقوم على القراءة و الكتابة، و العلم و المعرفة، و استخدام القلم.

(2)

ظاهرة القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين:

لقد تسبّب التقدم العظيم و المتزائد الذي تحقق في ميدان العلوم الطبيعية في سلب الكثير من العلماء القدرة على فهم و ادراك القضايا المعنوية و الخارجة عن اطار العلوم الطبيعية و بالتالي أدى الى تحديد و تضييق آفاق الفكر عندهم.

فاذا بهم اصبحوا يتصورون أن الوجود يتلخص في هذا الكون المادي، و انه ليس في الوجود من شي ء سوى المادة و ان كل ما لا يمكن تفسيره و تبريره بالقوانين و القواعد المادية فهو أمر باطل، و من نسج الخيال!!

______________________________

(1) العلق: 1- 5.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 236 و 237.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:323

(1) إن هذا الفريق- لتسرعه في اصدار الحكم في الامور المتعلقة- بالغيب و قضايا ما وراء الطبيعة، و حصر أدوات المعرفة بالحس و التجربة- انكروا عالم الوحي، بحجة أنّ الحسّ و التجربة لا يقودانهم إلى ذلك العالم، و لا يخبرانهم عن مثل تلك الموجودات، فلكونها بالتالي لا تخضع لمبضع التشريح، و مجهر الاختبار أنكروها بالمرة، و كانت النتيجة

أن أدوات المعرفة المعروفة (الحسّ و التجربة) حيث انها لا تهدي إلى عالم ما وراء المادة فاذن لا وجود خارجي لذلك العالم و لحقائقه أبدا!

إنّ هذا النمط من التفكير نمط جدّ ضيق و محدود، مضافا الى انه يتسم بالغرور و الغطرسة، فهو من باب «استنتاج عدم الوجود من عدم الوجدان» في خطوة متعجلة فجّة!!

فما دامت هذه الحقائق التي يعتقد بها الالهيّون المؤمنون باللّه لا يمكن التوصل إليها عن طريق الادوات الفعلية المتعارفة بينهم للادراك و المعرفة فهي اذن لا اساس لها من الواقع!!

(2) ان الذي لا شك فيه هو: ان الماديين لم يدركوا مقالة العلماء الالهيين حتى في مسألة اثبات الصانع الخالق فكيف بالعوالم الاخرى لما فوق الطبيعة، و لو أنّ الفريقين تحاورا في جوّ علمي مناسب، بعيدا عن الأغراض و العصبيّات، لكان من المتوقع ان تزول الفواصل بين الماديين و الالهيين في أقرب وقت، و أين يرتفع هذا الاختلاف الذي قسّم العلماء إلى فريقين على طرفي نقيض.

(3) لقد اقام المؤمنون الموحّدون عشرات الأدلة و البراهين القاطعة على وجود اللّه تعالى، و اثبتوا بأنّ هذه العلوم الطبيعية هي نفسها تقودنا إلى الخالق العالم القادر، و ان هذا النظام العجيب السائد في ظواهر الكائنات الطبيعيّة و بواطنها لدليل قاطع، و برهان ساطع على وجود مبدع هذا النظام، و أن جميع أجزاء هذا الكون الماديّ، من ذراته الى مجراته، يسير وفق قوانين دقيقة متقنة، و لا تستطيع الطبيعة الصماء العمياء ابدا أن تكون مبتكرة لهذا النظام البديع، و مبدعة لهذا الترتيب الدقيق.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:324

(1) و هذا هو بنفسه برهان «نظام الوجود» أو (برهان النظم) الذي ألّف العلماء الالهيون الموحدون حوله عشرات الكتب و الدراسات.

و حيث ان (برهان

النظم) هذا ممّا يفهمه جميع الناس على مختلف مراتبهم و مداركهم، لذلك ركزت عليها الكتب الاعتقادية دون سواها، و سلك كل واحد من العلماء طريقا معينا و خاصا لتقريره، و بيانه، كما و درست الأدلة و البراهين الاخرى التي لا تتسم بمثل هذه الشمولية، في الكتب، و المؤلفات الفلسفية و الكلاميّة بصورة مفصلة و مبسوطة.

إنّ للعلماء الالهيين بيانات و أدلة في مجال (الروح المجردة)، و عوالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) نشير إلى بعضها هنا:

(2)

الروح المجردة:

إن الاعتقاد بالروح من القضايا الشائكة الطبيعة التي استقطبت اهتمام العلماء و شغلت بالهم بشدة.

فهناك فريق- ممّن اعتاد أن يخضع كل شي ء لمبضع التشريح- ينكر وجود (الروح)، و يكتفي بالاعتقاد بالنفس ذات الطابع المادي، و العاملة ضمن نطاق القوانين الطبيعية فقط.

و وجود «الروح» و النفس غير المادية (اي المجردة المستقلة عن المادة) من القضايا التي عولجت و دورست من قبل المؤمنين باللّه، و المعتقدين بالعالم الروحاني، بصورة دقيقة، و عميقة.

فهم أقاموا شواهد عديدة على وجود هذا الكائن (غير الماديّ) و هي أدلة و براهين لو تمّ التعرّف عليها و النقاش حولها في جوّ علمي هادئ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يقوم عليه منطق الالهيين- في هذا المجال- من قواعد و اسس، لأدّى ذلك إلى التصديق الكامل بها.

على أن ما يقوله الالهيّون في مجالات اخرى مشابهة مثل (الملائكة) و (الوحي) و (الإلهام) يقوم هو الآخر على الأساس الذي شيدوه و مهدوه و برهنوا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:325

عليه قبل ذلك بالأدلة المحكمة، المتقنة «1».

(1)

ظاهرة الوحي عند الماديّين:

يعتبر الاعتقاد بالوحي أساسا لجميع الرسالات، و الأديان السماوية، و تقوم هذه الظاهرة (ظاهرة الوحي) على أن الذي يوحى إليه يمتلك روحا قوية تقدر على تلقي المعارف الالهية من دون واسطة، أو بواسطة ملك من الملائكة.

و يلخص العلماء المختصّون تعريفهم للوحي على النحو التالي: «الوحي تعليمه تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية و العلم و لكن بطريقة خفيّة غير معتادة للبشر».

و لكن الماديين- كما قلنا- لم يستطيعوا هضم هذه الحقيقة، و ادراك هذه الظاهرة على حالها، و صورتها الغيبية بسبب ما ذكرناه من منهجهم و نظرتهم إلى الامور و الكائنات فذهبوا في تفسير ظاهرة الوحي- التي هي كما

اسلفنا من قضايا الغيب و من عوالم ما فوق الطبيعة- مذاهب مختلفة ترجع برمتها إلى الرؤية المادية للوجود.

و إليك أبرز هذه التفاسير الماديّة لظاهرة الوحي الغيبية:

أبرز النظريات المادية لظاهرة الوحي:

1- قالوا: الوحي هي القدرة الفكرية، و النفسية و العقلية التي تحصل للإنسان بسبب التمرينات و الرياضات الروحية التي على اثرها تنفتح عليه أبواب من الغيب، فيخبر عن امور طالما تتفق مع الواقع على نحو ما يحصل للمرتاضين الهنود «2».

فالانبياء بسبب اعتزالهم للمجتمع- على غرار ما يفعل المرتاضون- و إقبالهم

______________________________

(1) و لقد جاء تفصيل هذه البراهين و الأدلّة في الكتب الفلسفية مثل: «الإشارات» و «الأسفار».

و لقد اشرنا إلى بعض هذه الأدلّة في كتاب (اللّه خالق الكون) فراجع.

(2) و هم الذي يمارسون عملية اليوجا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:326

على الرياضة الروحية يحصل لهم المقدرة على الإخبار بالغائبات، و الكائنات الخفية على غيرهم.

و الجواب على هذه النظرية هو: أن دراسة حالات المرتاضين تكشف لنا عن أنهم طالما يخطئون في إخباراتهم أخطاء فاضحة، بينما لم يعهد من نبيّ أنه أخطأ في إخباراته، و إنباءاته.

هذا اولا و ثانيا: ان ما يفعله المرتاضون لا ينطوي على أية أهداف اصلاحية عليا للمجتمع البشري، بل غاية همّهم هو: عرض الافعال العجيبة على الناس و ربما تسلية المتفرجين، بينما يهدف الأنبياء إلى إصلاح المجتمعات البشرية و قيادتها إلى ذرى الكمال و التقدم.

و ثالثا: ان المرتاضين لا يثقون بما يخبرون به، كما لم يعرف إلى الآن أن أحدا منهم طلع على المجتمع البشريّ ببرنامج كامل و شامل للحياة البشرية الفردية و الاجتماعية، بينما نجد الأنبياء يخبرون الناس بما امروا به و هم على إيمان كامل، و يقين ثابت منه، هذا الى جانب أنهم يحملون الى البشرية برامج اجتماعية و حيوية جامعة

الاطراف، كاملة الأبعاد، رفيعة الأهداف، عميقة الغايات، ترجع إليها كل فضيلة و كل خير تعرفه المجتمعات الى الآن.

و رابعا: انّ أعمال المرتاضين و ما تحصل لهم من قوى و ينفتح عليهم من آفاق، محدودة، بينما لا تقف طاقات الأنبياء و آفاق علومهم، و أبعاد أعمالهم عند حدّ.

فلا يمكن أبدا تفسير و تعليل ظاهرة (الوحي) و ما يحصل للرسل و الأنبياء على اثره من امور تتخطى حدود العالم المادي المحدود، بالرياضة الروحية التي يمارسها المرتاضون و ما يحصل لهم على أثرها من امور.

2- قالوا: انّ (الوحي) نوع من النبوغ، او أنه ناشئ من النبوغ، و أن الأنبياء هم نوابغ اجتماعيون لا اكثر.

و قد شرحوا نظريتهم هذه قائلين: بأن نظام الخليقة قد ربى في أحضانه نوابغ

سيد المرسلين ،ج 1،ص:327

صالحين، اهتدوا بفعل نبوغهم الفكري الرفيع الى أفكار و قيم رفيعة و دعوا مجتمعاتهم إلى الأخذ بها، و السير على هديها، لتحقيق الخير و العدالة، فكان لهم بذلك اكبر نصيب في إرشاد البشرية الى سعادتها، فكل ما طرحوه من أفكار، و كل ما عرضوه على تلك المجتمعات باسم الدين او القانون ليست- في الحقيقة- سوى نتيجة ما تمتعوا به من نبوغ، و فكر خارق، و لا علاقة له بعالم آخر غير هذا العالم المادي المألوف.

و قالوا: و ان ممّا يساعد على تقوية هذا النبوغ امور ابرزها:

الحبّ، التعرض للظلم الطويل، الطفولة و ما يكتنفها من ضعف و عجز، الوحدة، السكوت، التربية الاولى، و العيش في صورة الأقلية و ما يرافقها من ظروف اجتماعية غير مؤاتية.

فان جميع هذه الامور أو بعضها تدفع بالشخص الى الانطوائية، و التفكير و التأمل، للاهتداء الى مخرج من المشاكل و الصعوبات، و مخلص من الظروف الصعبة، و

الأحوال الشاقة.

و يجاب على هذه النظرية بأن أصحاب هذه النظرية حكموا على هذه القضية على أساس موقف اتخذوه سلفا فهم حصروا الأشياء في المادة و الامور المادية ثم فسّروا ما يرتبط بعالم الغيب بذلك، فجاء تفسيرهم لهذه الظاهرة الغيبية تفسيرا ماديّا، غفلة منهم عن ان مثل هذا التفسير و التعليل لا يليق بظاهرة (الوحي) التي تجسد أعلى قضيّة في سلّم الحقائق العلمية و الفلسفية، و يرجع إليها أعظم القوانين و البرامج للسعادة البشرية.

نحن لا ننكر أن لما ذكروه من العوامل تأثيرا في تقوية عملية «التفكير» لدى الانسان إلى درجة ايجاد ما يسمى بظاهرة النبوغ لديه، إلّا أنه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الأمر نبيّا خضعت جميع النوابغ البشرية لعظمة تعاليمه التي أتى بها طوال أربعة عشر قرنا.

نبيا لم تزل ما جاء به من معارف عقلية و فلسفية، و قوانين ترتبط بعالم الطبيعة و بالنظام الاجتماعي و آداب السلوك تحافظ على قوتها، و عمقها و أصالتها و لمعانها

سيد المرسلين ،ج 1،ص:328

كل المحافظة رغم كل ما احرزه البشر في ضوء نشاطه الفكري و العقلي من تقدم، في المعارف و العلوم.

هذا مضافا الى أن نسبة هؤلاء الأنبياء جميع ما عرضوه على المجتمعات البشرية إلى العالم الآخر و اصرارهم على أنها من جانب اللّه تعالى و ليست من نسيج افكارهم يناقض نظرية هذه الطائفة، التي تفسر النبوة بالنبوغ.

لنقرأ معا الآية التي يقول اللّه تعالى فيها حاكيا عن رسول الإسلام محمّد صلّى اللّه عليه و آله:

«إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» «1».

أو يقول سبحانه:

«إِنْ هُوَ إِلَّا س" وَحْيٌ" يُوحى» «2».

3- يقولون: إن الوحي هو ظهور الشخصية الكامنة في النبي و ايحاؤها لما ينفعه و ينفع قومه المعاصرين له، إليه.

و ربما

قالوا: إنّ معلومات «محمّد» و أفكاره و آماله ولّدت لديه إلهاما فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفيّة على محيلته السامية، و انعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك و ماثلا له و هو يتلو على سمعه ما حدّث به بعد ذلك.

و توضيح هذه النظرية هو: ان لكل إنسان شخصيتين:

1- الشخصية الظاهرة العادية و هي التي تخضع للحواس الخمس و تعمل بها.

2- الشخصية الباطنية و هي التي تعمل عند ما تتعطل الحواس، و يتعطل الشعور الظاهري:

و هذه الشخصية هي التي تحرك جميع أعضاء الجسم الانساني التي لا تخضع لارادته كالكبد و القلب، و المعدة و غيرها، كما انها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيبة في الظروف الحرجة.

ثم قالوا: و هذه الشخصية الباطنية قد اصبحت مدركة بالحس، فان المنوّم

______________________________

(1) الأنعام: 50.

(2) النجم: 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:329

مغناطيسيا يظهر بمظهر من العقل الراجح، و الفكر الثاقب و النظر البعيد، و يقوم بما لا يقوم به في حالته العادية.

و قد انتهى هؤلاء الماديّون من خلال تحقيقاتهم و تجاربهم إلى: ان شخصية الإنسان الباطنية ارقى من شخصيته العادية، و إن ما يتوصّل إليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة جدا، و ما قد يتمتع به من روح قوية هو من مظاهر هذه الشخصية و فعاليتها.

فقالوا: و ان هذه الشخصية هي التي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحيا من اللّه، و قد تظهر لهم متجسّدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء!!!

فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح على الاسلوب التجريبي لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلغه كلاما عن اللّه بل يكون في تجلي روح الإنسان عليه بواسطة شخصيته الباطنة فتعلمه ما لم يكن يعلم، و تهديه الى خير الطرق

لهداية نفسه و ترقية امته «1».

و لكن هذه النظرية هي الاخرى تنبع من الغرور العلميّ الذي أصاب هذا النمط من العلماء الّذين يحاولون تفسير كل ظواهر هذا العالم بالتفسير المادي، و هو لا شك ينشأ من علمهم المحدود القاصر عن إدراك حقائق الوجود.

إننا لا نشك في وجود ما يسمى بالشخصية الباطنيّة لدى الإنسان فهو ممّا سبق الى كشفه و التنويه به الفلاسفة الإسلاميّون من قبل و لكن كيف و على أيّ أساس حقّ لهؤلاء ان يفسروا ظاهرة (الوحي الالهيّ) و النبوة بهذا الأمر؟

هذا أولا و ثانيا: انّ تجلي الشخصيّة قلّما يحدث في الاشخاص الأصحّاء، بل هو يحدث في الاغلب عند المتعبين القلقين، و السكارى، و المصابين بالهزيمة و النكسة، لأن نافذة (اللاوعي) عند غيرهم من الاصحاء تنسد بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليومية و همومها، و لا يبقى للشخصية الباطنية مجال للنشاط و الفعالية، كما

______________________________

(1) دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي: ج 10 مادّة وحي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:330

هو العكس عند المتعبين و السكارى و المرضى الذين يقل اهتمامهم بالحياة اليومية فيترك (الوعي) مكانه للاوعي، و تترك الشخصية الظاهرية المعطّلة مكانها للشخصية الباطنية.

و لذلك نجد بين آلاف العلماء و المفكرين مفكرا أو عالما واحد اتفق له في بداية عمره أن اهتدى بصورة لا شعورية إلى فكرة خاصة او نظرية معينة من دون سابق تفكير او استدلال قائم على الشعور.

و خلاصة القول أن تجلّي الشخصية الباطنية في الحياة الانسانية قضية نادرة جدا، و هي لا تحدث إلّا في ظروف خاصة مثل: المنامات و الاحلام و غيرها من التحولات الحياتية التي تقلل من توجّه الانسان الى العالم الخارجيّ و تصرف التفاته و توجّهه الى الشخصية الباطنية.

و لكن هذه الحالة

و هذه الشرائط (أي الغافلة عن هموم الحياة اليومية الخارجية) لم تحصل للانبياء قط.

فالنبي الأكرم محمّد صلّى اللّه عليه و آله كان طوال (23 سنة) و هي أعوام الرسالة، مشتغلا كل الاشتغال بقضايا الحياة اليومية، فالنشاطات السياسية.

و التبليغية و قضايا الدعوة و القيادة كانت تهيمن على كل توجهه و اهتمامه و تملأ.

عقله و روحه و نفسه.

فالكثير من آيات الجهاد ترتبط بساحات القتال و الجهاد، و هذا يعني انه كان مشدودا بروحه و عقله كله إلى تلك الامور.

و ثالثا: ان هذه النظرية يمكن أن تصدق على نبوة الأنبياء، لو كان هؤلاء الأنبياء أفرادا متعبين، منهزمين، منتكسين، مرضى، معتزلين عن الحياة ليقال حينئذ ان هذه الحالات و الظروف مهّدت لانقطاعهم- عليهم السّلام- عن هموم الحياة، و قضاياها، و بالتالي مهّدت لفعالية الشخصية الباطنية و عملها.

و لكن تاريخ الأنبياء يشهد بوضوح لا إبهام فيه، بانهم كانوا- طيلة حياتهم الرسالية- رجالا مجاهدين، لا يهمهم إلّا اصلاح المجتمعات و قيادة الجماعات و حل المشكلات الاجتماعية، و رفع مستويات الناس معنويا و فكريا و كانوا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:331

يعملون لتحقيق هذه الأهداف ليل نهار، بلا سأم و لا ملل، و لا تعب و لا نصب.

فكيف يمكن القول و الحال هذه بان الشخصية الباطنية تجلّت لديهم و اوحت إليهم بحقائق و قيم و افكار؟

إن تفسير (الوحي الالهي) الذي يلقى الى الأنبياء و يكشف لهم عن أدق الحقائق و ارفعها، و أعظم المناهج و اكملها، بتجلّي الشخصية الباطنية، ناشئ من اعتقاد هذا الفريق من العلماء بأصالة المادة، أو بعبارة اخرى: حصر الوجود في المادة، و من هنا حاولوا إلباس كل شي ء حتى الامور المعنوية و الغيبية:

اللباس الماديّ، و اغلقوا على أنفسهم باب عوالم الغيب، و

عمدوا إلى التفتيش عن علة مادية حتى لظاهرة (الوحي) التي لا تقاس بمقاييس العالم المادّي.

هذا مضافا إلى أن تفسير (الوحي الالهيّ) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية، و خاصة في شأن رسول الإسلام «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يواجه اشكالات و مؤاخذات اخرى تجعل هذه النظرية في عداد الاساطير!!

و إنّ ابرز هذه الاشكالات الواردة على هذه النظرية في مجال رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله هي: أنّ هذه النظرية ليست رأيا جديدا و تهمة جديدة توجه إلى نبوة رسول الإسلام.

(1) فان نظرية «الشخصية الباطنية، و الوحي النفسي الذاتي» هي نظرية متبلورة و متقدمة لتهمة (الجنون و الصرع) التي كان يرمي بها العرب الجاهليّون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم!!

فقد كان المشركون في بدء الدعوة يقولون: ان ما يقوله «محمّد» و ما يتكلم به ليس إلا أفكاره القلقة المضطربة الناشئة عن خياله، و انّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة التي تسربت إلى فضاء عقله من دون ارادة منه و لا اختيار!!

(2) لنستمع الى القرآن الكريم و هو ينقل عنهم هذا الاتهام:

«بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ» «1».

______________________________

(1) الأنبياء: 5.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:332

(1) و لكن القرآن الكريم يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله:

«وَ النَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى. وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» «1».

ان القرآن الكريم يشجب في هذه الآيات المنتظمة انتظاما رائعا و بديعا هذه المزعمة (أي مقولة أن القرآن وليد الخيال لدى محمّد)، و يردّ الأمر إلى الوحي الالهي، و التوجيه الربانيّ العلويّ.

إن نظرية الوحي النفسيّ و تجلّي الشخصية الباطنية التي طلع بها الماديون في عصرنا ما هي في

الحقيقة إلّا غطاء لمزعمة المشركين و تهمة الجنون، و الخيال التي سبق أن رمى بها أعداء الرسالة الاسلامية و معارضوها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلك التهمة التي يذكرها القرآن الكريم بقوله:

«وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» «2».

(2) و هي تهمة كان يوجهها المعارضون دائما إلى المصلحين و أصحاب الرسالات «3» و قد اتخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة، و تبلورت في نظرية:

«الوحي النفسيّ، و تجلّي الشخصيّة الباطنية». ان القرآن الكريم يرد على هذه المزاعم و التصورات الباطلة حول عمليّة الوحي و مسألة النبوّة و يرد على نسبة الكهانة و ما شابه ذلك كالخبر المنقول عن اهل السير بمحاولة القاء النبي نفسه من شاهق في بداية الوحي الذي يشبه نسبة الجنون إليه صلّى اللّه عليه و آله، اذ يقول تعالى:

«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ. مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ. وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. فَأَيْنَ

______________________________

(1) النجم: 1- 5.

(2) الحجر: 6، و أيضا راجع الآيات التالية: سبأ: 8، الصافّات: 36، الدخان: 14، الطور: 29، القلم: 2، التكوير: 22.

(3) اذ يقول القرآن في هذا الصدد: «كذلك ما أتى الّذين من قبلهم من رسول إلّا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون» (الذاريات: 52 و 53).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:333

تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» «1».

بهذا البيان تبيّن بطلان هذا التفسير و جميع التفاسير الاخرى التي تحاول إعطاء (الوحي) طابعا ماديا مألوفا، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة، و نحن استكمالا لهذا البحث نشير إلى ما هو الحق في هذا المجال، ممّا

يؤيّد الواقع و العقل و الدين:

ظاهرة الوحي في منظار العقل و الدين:

لا شك أن حياة كل فرد من افراد الإنسان تبدأ من «الجهل» ثم يأخذ الإنسان بالدخول في مجال العلم شيئا فشيئا، الى ان تنفتح عليه بالتدريج نوافذ على الواقع الخارج عن ذهنه.

فيبدأ الإنسان بالتعرف على الحقائق عن طريق الحواسّ الظاهرية، ثم على أثر التكامل في جهازه العقليّ و الفكري يهتدي الى الحقائق الخارجة عن مجال الحس و اللمس، فيغدو عقلانيا استدلاليّا، و يقف على طائفة من الحقائق الكليّة و القوانين العلمية.

و ربما يظهر بين أفراد النوع الإنساني أصحاب نفوس عالية يقفون عن طريق الالهام و من خلال بصيرة خاصة على حقائق و امور لا يهتدى إليها حتى عن طريق الاستدلال و البرهنة!

و من هنا قسّم العلماء ادراك البشر الى ثلاثة أنواع: «إدراك العامّة» «إدراك المفكرين و أرباب الاستدلال» «إدراك العرفاء و اصحاب البصائر و النفوس الكبرى».

و كأنّ أصحاب الظاهر يستعينون على اكتشاف الحقيقة بالحس، و المفكرين يستعينون بالاستدلال و البرهنة، و أصحاب البصائر و المعرفة بالإلهام و الاشراق و بالفيض عليهم من العالم الأعلى.

______________________________

(1) التكوير: 20- 28.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:334

ان النوابغ في مجال الأخلاق، و ان عقول العلماء الخلاقة، و أفكار الفلاسفة العظيمة كلها تؤيّد و تشهد بأن ما يحصلون عليه، و ما يطلعون به على المجتمع البشري ممّا لم يعرفوه من قبل ما هي إلّا شرارات مضيئة و ملهمة تخطر لهم، ثم يعمدون إلى تنميتها و بلورتها بالتجربة، أو بالاستدلال و البرهنة و التأمل.

(1)

قنوات المعرفة الثلاث:

من هذا الكلام نستنتج أن أمام بني البشر ثلاث طرق للوصول الى مقاصده؛ فالطريق الأول يستفيد منه جماهير الناس غالبا، بينما يستفيد طائفة خاصة منهم من الطريق الثاني، و لا يستفيد من الطريق الثالث إلّا أفراد معدودون قلة تكاملت عقولهم، و

تسامت أرواحهم. و هي كالتالي:

(2) 1- الطريق التجريبي و الحسي، و المقصود منه ذلك القسم من الإدراكات و المعلومات الواردة الى محيط الذهن البشريّ عن طريق الحواس الظاهرية كالمرئيات، و المشمومات و المطعومات و غيرها ممّا يستقرّ في محيط إدراكنا بواسطة الأجهزة المختصة بها.

و قد استطاع البشر اليوم، و بفضل اختراع التلسكوبات و الميكروسكوبات و اجهزة التلفاز و الراديو ان يقدّم خدمة كبرى للبشرية في مجال الإدراكات الحسية و يمهّد لمزيد من سيطرتها على البعيد و القريب.

(3) 2- الطريق التعقّلي الاستدلالي: فان المفكرين يتوصّلون الى كشف طائفة من القوانين الكليّة الخارجة عن الحس عن طريق عملية التفكير و التأمل و تشغيل جهاز العقل، و إقامة سلسلة من المقدمات البديهية الواضحة، و بذلك يمكن الوصول إلى قمم المعرفة و الكمال العلمي.

إنّ انكشاف القوانين العلميّة الكليّة، و المسائل الفلسفية، و المعارف المرتبطة بصفات اللّه و أفعاله سبحانه و القضايا المطروحة في علم العقيدة و الأديان ناشئ برمّته من جهاز العقل، و حركته، و ناتج من عملية التفكير، و الاستدلال المذكورة.

(4) 3- طريق الإلهام: و هذا هو الطريق الثالث لمعرفة الحقائق، و هو فوق نطاق

سيد المرسلين ،ج 1،ص:335

الحس و التعقل.

إنه نوع جديد من المعرفة و نمط متميّز من إدراك الحقائق، ليس محالا من وجهة نظر العلم و ان كان يصعب على أصحاب الاتجاه المادّي القبول به لكونه طريقا غير حسي و لا تعقّلي.

و أما من جهة الأصول العلمية فلا مجال لإنكاره، و لا مبرّر لعدّه من المحالات.

(1) إن طريق التعرّف على حقائق الكون الخارج عن الذهن- في منهج الماديّين، و أصحاب النزعة المادية- ينحصر في قناتين لا أكثر، و هما اللّذان سبق ذكرهما، في حين أنّ هناك- حسب نظرة

الأديان و الشرائع الكبرى و حسب نظرة الفلاسفة و العرفاء الالهيين- قناة ثالثة أيضا.

بل إنّ هذا الطريق الثالث- كما أسلفنا في مسألة الوحي- أكثر واقعية، و أقوى أسسا، و أوسع آفاقا عند من يدّعون الرسالة، و النبوة من جانب اللّه سبحانه، و إن نفوس اولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاء و طراوة بفضل هذا الطريق، و في ضوء هذه القناة.

(2) و كلّما حصل ارتباط بين اللّه، و بين فرد من أفراد النوع الإنساني على نحو خاص القيت الحقائق في وجوده من دون توسط الحواس الظاهرية، و إعمال الفكر، و استخدام جهاز العقل.

و هذا النوع من الإلقاء يسمى حينا بالالهام، و بالاشراق حينا آخر.

و لكن كلما نتج من ارتباط الإنسان بما وراء الطبيعة سلسلة من التعاليم العامّة و الأنظمة و البرامج الشاملة اطلق على هذا النوع من الإلقاء عنوان (الوحي)، و سمّي الآتي بها (ملك الوحي) و الآخذ لها (نبيّا).

هذا و قد يوجب الإلهام الثقة و الاطمئنان للملهم إليه، و لكنّه لا يمكن أن يكون مبعث الاطمئنان و الثقة عند الآخرين «1».

______________________________

(1) و انما قلنا «قد» أي يمكن أن يوجب الاطمئنان و لم نقطع بذلك لأنّ مصدر هذه الالهامات.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:336

من هنا اعتبر العلماء «الوحي» الطريق المطمئنة الوحيدة الى المعرفة العامة ... الوحي الذي ينزل على الأنبياء الذين ثبتت نبوّتهم بالدلائل القاطعة، من المعجزة و غيرها.

(1)

أنواع الوحي و اصنافه:

إن في مقدور الروح الانسانية بسبب ما تملك من كمالات أن تتصل بالعوالم الروحانية من الطرق المختلفة، و نحن هنا نشير الى هذه الطرق التي جاء ذكرها في أحاديث قادة الإسلام و ائمته، باختصار:

1- تارة يتلقى الحقائق السماوية العليا على نحو الالهام، فيتخذ ما يتم إلقاؤه في النفس عبر هذا الطريق

حكم (العلو البديهية) التي لا يتطرق إليها أي ريب و شك.

2- و قد يسمع عبارات و كلمات من جسم معين (كالجبل و الشجرة) كسماع موسى عليه السّلام كلام اللّه من الشجرة.

3- و ربما تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار.

4- و قد ينزل عليه ملك من جانب اللّه بكلام خاص.

و قد نزل القرآن الكريم على النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله من هذا الطريق، و قد صرح القرآن الكريم نفسه بهذا عند قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» «1».

(2)

أساطير مختلفة:
اشارة

لقد كتب المؤرخون و الكتاب عن حياة كثير من الشخصيات العالمية، و ضبطوا كل

______________________________

- ليست معلومة و واضحة، و لا يمكن الاعتماد على مطلق الواردات القلبية و الفجائية التي لا تستند الى اصول معلومة.

و بعبارة اخرى: يجب الفصل و التمييز بين الإلهامات الرحمانية و الإلقاءات الشيطانية بواسطة الموازين العقلية و الشرعية.

(1) الشعراء: 193- 195، و قد اشير في سورة الشورى الآية 51 الى هذه الطرق الأربع جميعها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:337

ما جل أو دقّ في هذا المجال، و ربما تحمّلوا عناء الرحلات الطويلة و الأسفار الشاقة لتكميل دراساتهم، و كتاباتهم.

غير أن التاريخ لا يعرف شخصية مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضبطت تفاصيل سيرته الدقيقة، و اهتم اتباعه و أصحابه و محبّوه بكل شاردة و واردة في حياته الشريفة.

إنّ هذا الولع الشديد بتسجيل كل شي ء- مهما صغر- من حياة النبيّ الاعظم صلّى اللّه عليه و آله و سيرته العطرة كما ساعد على ضبط جميع الجزئيات و التفاصيل في هذا المجال، تسبب في بعض الموارد في إلصاق بعض الزوائد بحياة النبي الاكرم و شخصيته العظيمة،

الطاهرة.

و مثل هذا لا يبعد عن المحبّين الجهلاء فكيف بالأعداء الألداء العارفين.

من هنا يتعيّن على كل مؤلف يكتب عن سيرة شخصية من الشخصيات أن لا يغافل عن مبدأ (الحذر و الاحتياط) في تحليله لحوادثها، و قضاياها، فلا يغافل عن تقييم كل ما جاء حولها من روايات و قصص في ضوء الموازين التاريخيّة الدقيقة.

و إليك بقية ما جرى في واقعة نزول (الوحي) في حراء:

(1)

بقية حادثة نزول الوحي:

استنارت نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و روحه الكبرى بنور «الوحي» المبارك، و تعلّم كل ما ألقى عليه ملك الوحي في ذلك اللقاء العظيم، و انتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفا حرفا، و كلمة كلمة.

و قد خاطبه نفس ذلك الملك بعد تلاوة تلكم الآيات بقوله:

يا محمّد ... أنت رسول اللّه ... و أنا جبرئيل.

و قيل: انه صلّى اللّه عليه و آله سمع هذا النداء عند نزوله من غار حراء و قد اضطرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لهذين الحدثين، اضطرب لعظمة المسئولية الكبرى التي القيت على كاهله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:338

(1) و كان هذا الاضطراب طبيعيا بعض الشي ء، و هو لا ينافي بالمرة يقينه صلّى اللّه عليه و آله، و إيمانه بصدق ما انزل عليه لأن الروح مهما بلغت من العظمة و السموّ و القوة و الصلابة، و مهما كانت قوة ارتباطها بعالم الغيب، و بالعوالم الرّوحانية العليا فانّها عند ما تواجه لأول مرّة ملكا لم تره من قبل، و ذلك في مثل المكان الذي التقى النبي (فوق الجبل) لا بدّ أن يحصل لها مثل هذا الاضطراب، و لهذا زال ذلك الاضطراب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ما بعد.

ثم إن الاضطراب و التعب الشديد

قد تسبّبا في أن يتوجه النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى بيت «خديجة» عليها السّلام، و عند ما دخل بيتها و وجدت على ملامحه آثار الاضطراب و التفكير سألته عن ما جرى له، فحدّثها بكل ما سمع و رأى و قصّ عليها ما كان من أمر جبرئيل معها، فعظّمت «خديجة» سلام اللّه عليها، أمره، ودعت له، و قالت: أبشر فو اللّه لا يخزيك اللّه أبدا.

ثم إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي كان يشعر بالجهد و التعب قال لزوجته الوفيّة «خديجة»: دثّريني ... دثّريني.

فدثّرته، فنام بعض الشي ء.

(2)

خديجة تذهب إلى ورقة بن نوفل:

لقد تحدثنا في الصفحات الماضية عن «ورقة» و قلنا أنّه كان ممن تنصّر و قرأ الكتب و سمع من أهل التوراة و الانجيل و كان ابن عم خديجة.

فعند ما سمعت «خديجة» زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله ما سمعته منه انطلقت إلى «ورقة» لتخبّره بما سمعته من زوجها الكريم، و شرحت له كل شي ء من ما جرى له مع جبرئيل.

فقال «ورقة» في جواب ابنة عمه: إن ابن عمّك لصادق ... و إن هذا لبدء النبوة، و إنه ليأتيه الناموس الاكبر (أي الرسالة و النبوة) «1».

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 195.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:339

(1) إن ما ذكرناه الى هنا هو في الحقيقة ملخّص الروايات التاريخية المتواترة التي وصلت إلينا، و التي دوّنت في جميع الكتب.

بيداننا نلاحظ بين ثنايا هذه الحادثة امورا لا تتفق مع ما نعرفه من أنبياء اللّه و رسله العظام، كما أنها لا تتفق مع ما قرأناه إلى الآن عن حياة هذا النبي العظيم صلّى اللّه عليه و آله.

و ما سنذكره الآن من هذه الزوائد إمّا يجب اعتباره من قبيل الاساطير التاريخية، أو أنّ

علينا تأويله بنوع من التأويل.

(2) و إنا لنعجب قبل كل شي ء من المفكّر المصريّ الدكتور «هيكل» كيف سمح لنفسه و هو الذي تحدث في مقدمة كتابه عن مشكلة تسرب الاساطير الى التاريخ النبويّ، و قال: بأنّ هناك من دسّ في السيرة النبوية، عن عداوة أو جهل، بعض الاكاذيب.

و لكنه مع ذلك ينقل هنا امورا لا أساس لها من الصحّة أبدا، في حين اعطى فريق من علماء الشيعة- كالمرحوم الطبرسي- ملاحظات مفيدة في هذا الصعيد.

(3) و إليك في ما يلي بعض هذه الاساطير و القضايا المختلفة (على أنها لم تكن جديرة بالاشارة أبدا لو لا أن بعض المحبّين الجهلاء، و الأعداء الأذكياء ذكروها في كتبهم، و كرروها في دراساتهم.

(4) 1- قالوا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند ما دخل منزل خديجة، كان يفكّر في نفسه: لعلّ بصره خدعته، أو انه كاهن، او فيه جنون!!

و لكن لمّا قالت له خديجة: «إنّ اللّه لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد اللّه، إنك تصدق الحديث، و تؤدّي الأمانة، و تصل الرحم» اطمأنّ، و زال عنه الشك و التردّد، و ألقى على «خديجة» نظر شكر و مودة، ثم طلب أن يزمّل، فزمّل فنام!! «1».

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 195، حياة محمّد: ص 134.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:340

(1) 2- يقول الطبري و غيره من مؤرخي السيرة: ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لما سمع نداء يقول: «يا محمّد أنت رسول اللّه» أصابه خوف شديد حتى أنه همّ بأن يطرح نفسه من أعلى الجبل، فتبدى له (ملك الوحي) و منعه عن ذلك!!!

(2) 3- ثم إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذهب ليطوف بالكعبة بعد ذلك اليوم، فرأى «ورقة بن

نوفل» و شرح لورقة ما جرى له مع جبرئيل، فقال له ورقة:

«و الذي نفسي بيده، إنّك لنبيّ هذه الامة، و قد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى و لتكذبنّه، و لتوذينّه و لتخرجنّه و لتقاتلنه» فأحس «محمّد» بأن ورقة يصدّقه، فاطمأن «1».

(3)

بطلان هذه المزاعم:

إن الذي نتصوره هو أن جميع هذه القصص مختلقة من الاساس، و قد دسّت في التاريخ و التفسير عن قصد و هدف، أو دخلت فيهما عن غير ذلك.

و ذلك:

(4) أولا: لأننا لتقييم هذه المزاعم يجب ان نلقي نظرة فاحصة إلى تاريخ الأنبياء الماضين و سيرهم.

إنّ القرآن الكريم قصّ علينا قضاياهم، و سيرهم، و قد وردت في هذا المجال روايات و أخبار كثيرة.

و إننا لا نجد أي أثر لمثل هذه القصص المشينة في حياة أي واحد منهم.

إن القرآن الكريم يقص علينا قصة بدء نزول (الوحي) على «موسى» بشكل كامل و يبيّن جميع التفاصيل في قصته عليه السّلام و لا يذكر أي شي ء من الخوف، و الارتعاش، و الوحشة و الفزع، بحيث يحدّث نفسه بالانتحار على أثر سماع الوحي!! مع أن أرضية الخوف و الفزع في مجال «موسى» كانت متوفرة

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 238.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:341

أكثر، لأنه سمع في ليلة ظلماء و هو في صحراء خالية نداء من الشجرة يخبره بأنه نبي مرسل.

و لكن موسى- كما يصرّح القرآن الكريم، بهذه الحقيقة- حافظ على هدوئه، و سكونه، و عند ما خاطبه اللّه تعالى بقوله: «أن ألق عصاك» القاها من فوره، و كان خوفه من ناحية العصى التي تبدّلت إلى ثعبان مخيف، لا من جهة الايحاء إليه.

فهل يمكن، أو يجوز لنا أن نقول: كان «موسى» لحظة الوحي إليه مطمئنا هادئا ساكنا، و لكن أفضل الأنبياء

و المرسلين اضطرب عند سماع كلام الملك، و فزع الى درجة فكّر في طرح نفسه من أعلى الجبل؟! هل هذا كلام معقول؟!

لا ريب أن روح محمّد صلّى اللّه عليه و آله ما لم تكن مهيّأة من جميع الجهات و بصورة كاملة لتلقّي السرّ الالهيّ (النبوة) لا يمكن أن يمن عليه الرب الحكيم بمنصب النبوّة، و يختاره لمقام الرسالة، لأن الهدف الجوهريّ من ابتعاث الرسل، و ارسال الأنبياء هو هداية الناس و ارشادهم.

و من كان كذلك من حيث ضعف الروح و وهن النفس بهذه المرتبة بحيث يحدّث نفسه بالانتحار خوفا «1» و فزعا كيف يمكن ان ينفذ الى نفوس الناس و يؤثر فيهم؟!

(1) ثانيا: كيف يمكن أن يطمئن موسى بمجرد سماعه للنداء الالهيّ إلى أنه صادر من جانب اللّه، فطلب من ربّه من فوره أن يجعل أخاه هارون وزيرا له لأنه أفصح منه قولا «2» بينما لا يطمئن سيد المرسلين و خاتمهم؟!

(2) ثالثا: لقد كان «ورقة» مسيحيّا حتما، و لكنه عند ما أراد أن يزيل عن «محمّد» الشك و الاضطراب ذكر نبوّة «موسى» عليه السّلام و قال: قد جاءك الناموس الذي جاء موسى «3».

______________________________

(1) كما نقل هيكل في كتابه: «حياة محمّد».

(2) طه: 29.

(3) السيرة النبوية: ج 1 ص 238 و قد نقل المرحوم المجلسي هذه العبارة عن المنتقى. و لكنه بلفظة-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:342

أ لا يدلّ هذا على أنّ ثمّة يدا إسرائيليّه وراء هذه الحبكة هي التي صاغت هذه القصة و اختلقتها في غفلة عما كان يدين به «ورقة» بطل القصة؟!

(1) كل هذا بغضّ النظر عن أن مثل هذه الامور تتنافى و العظمة التي نعهدها من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لا تنسجم معها أبدا،

و يبدو أن كاتب «حياة محمّد» أدرك الى درجة ما خرافية هذه القصة و لذلك نجده ينقل بعض مواضيعها بعد جملة: «كما يقولون».

و قد حارب أئمة الشيعة هذه الاساطير بكل قوة، و أبطلوها برمتها.

فعند ما يسأل زرارة الإمام الصادق عليه السّلام مثلا: كيف لم يخف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيما يأتيه من قبل اللّه ان يكون ممّا ينزغ به الشيطان:

قال الإمام عليه السّلام: «إنّ اللّه إذا اتخذ عبدا و رسولا، أنزل عليه السكينة و الوقار فكان يأتيه من قبل اللّه عزّ و جلّ مثل الذي يراه بعينه» «1».

و يقول العلامة الشيعي الكبير المرحوم الطبرسي في تفسيره، في هذا الصدد:

«إن اللّه لا يوحي الى رسوله إلّا بالبراهين النيّرة و الآيات البينة الدالّة على أن ما يوحى إليه إنما هو من اللّه تعالى، فلا يحتاج إلى شي ء سواها و لا يفزع، و لا يفرق» «2».

______________________________

- «عيسى» أيضا و لكن لا وجود لذلك في صحيح البخاري و سيرة ابن هشام اللذين هما الأساس لهذه الامور.

(1) بحار الأنوار: ح 18 ص 262 و في الكافي: ج 1 ص 271 نظيره.

(2) مجمع البيان: ج 10 ص 384.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:343

(1)

12 متى نزل الوحي أولا؟

اشارة

لقد تعرّض يوم مبعث رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله للاختلاف من حيث التعيين و التحديد فهو مثل يوم ولادته و يوم وفاته صلّى اللّه عليه و آله غير مقطوع به، من وجهة نظر المؤرخين و كتّاب السيرة النبويّة.

فلقد اتفق علماء الشيعة على القول بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث بالرسالة في السابع و العشرين من شهر رجب، و أن نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسه.

[الرأي المشهور بين علماء السنة و استدلالهم]

بينما اشتهر عند علماء السنّة أن رسول الإسلام قد اوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك.

ففي ذلك الشهر الفضيل كلّف «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله من جانب اللّه تعالى بهداية الناس، و بعث بالرسالة.

(2) و لما كانت الشيعة تشايع عترة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته الصادقين، و تعتقد بصحة ما يرونه و يقولون به اتباعا لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيهم، في حديث الثقلين: «إنهما لن يفترقا» فانهم اتبعوا- في تحديد يوم المبعث النبوي الشريف- القول المأثور- بنقل صحيح- عن عترة النبي المطهرين في

سيد المرسلين ،ج 1،ص:344

هذا المجال.

فقد روي عن أبناء الرسول و عترته الطاهرة أن عظيم هذا البيت و سيّده (أي النبيّ) قد بعث في السابع و العشرين من شهر رجب، و هم في ذلك حجة.

و لهذا لا يمكن الشك و التردد في صحة هذا القول و ثبوته «1».

(1) نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسه بأنّ آيات القرآن نزلت في شهر رمضان، و حيث أن يوم بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي، و القرآن عليه، لهذا يجب

القول بان يوم البعثة الشريفة انما كان في نفس الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم: اي شهر رمضان المبارك.

و إليك فيما يأتي الآيات التي تدل على أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان:

1- «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» «2».

2- «حم. وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» «3» و تلك الليلة هي ليلة القدر التي قال عنها سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» «4».

(2)

ما أجاب به علماء الشيعة:
اشارة

و لقد أجاب محدّثو الشيعة و مفسروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا:

(3)

الجواب الأوّل:

إن الآيات المذكورة إنّما تدلّ على أن القرآن نزل في شهر رمضان و بالذات في ليلة مباركة منه هي «ليلة القدر»، و لكنها لا تتعرض لذكر محلّ نزول هذه

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 18 ص 189.

(2) البقرة: 185.

(3) الدخان: 1- 3.

(4) القدر: 1 و 3.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:345

الآيات، و أنها أين نزلت؟ و هي بالتالي لا تدل أبدا و مطلقا على أنها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول اللّه؟

فيحتمل أن يكون للقرآن نزولات متعددة إحداها نزول القرآن على رسول اللّه تدريجا.

و الآخر نزوله الدفعي من اللوح المحفوظ الى البيت المعمور «1».

و على هذا فما المانع من ان تكون بعض آيات القرآن (من سورة العلق) قد نزلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في السابع و العشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر رمضان من مكان معين أسماه القرآن باللوح المحفوظ، إلى موضع آخر عبر عنه في بعض الروايات بالبيت المعمور.

(1) و يؤيّد هذا الرأي قول اللّه تعالى في سورة الدخان: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» فانّ هذه الآية- بحكم رجوع الضمير فيها الى الكتاب- تصرح بأن الكتاب العزيز بأجمعه نزل في ليلة مباركة (في شهر رمضان)، و لا بدّ ان يكون هذا النزول غير ذلك النزول الذي تحقق في يوم المبعث الشريف، لأن في يوم المبعث لم تنزل سوى آيات معدودة لا اكثر.

و خلاصة الكلام هي ان الآيات التي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة (ليلة القدر) لا يمكن أن تدل على أن يوم المبعث الذي نزلت فيه بضع آيات

أيضا كان في ذلك الشهر نفسه، لأنّ الآيات المذكورة تدل على أن مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك الشهر، في حين لم تنزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة كما نعلم.

و في هذه الصورة يحتمل أن يكون المراد من النزول الجمعيّ للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك الشهر من «اللوح المحفوظ» إلى «البيت المعمور».

و قد روى علماء الشيعة و السنة روايات و أخبارا بهذا المضمون، و بخاصة

______________________________

(1) للتعرف على معنى اللوح المحفوظ راجع كتب التفسير.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:346

الاستاذ الأزهري محمّد عبد العظيم الزرقاني الذي أورد روايات عديدة في هذا الصدد في كتابه «1».

(1)

الجواب الثاني:

و هو أمتن الاجوبة و الردود على هذا القول.

فقد بذل الاستاذ الطباطبائي جهدا كبيرا لتوضيحه و بيانه في كتابه القيم؛ و إليك خلاصته:

يقول العلامة الطباطبائي: إنّ قول اللّه تعالى إنا أنزلناه في شهر رمضان، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لأن للقرآن مضافا الى وجوده التدريجي، واقعية اطلع اللّه تعالى نبيه العظيم عليها في ليلة معينة من ليالي شهر رمضان المبارك «2».

و حيث أنّ النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بان لا يعجل بقراءته حتى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجا اذ يقول تعالى: «وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» «3».

و خلاصة هذا الجواب هي: أنّ للقرآن الكريم وجودا جميعا علميا واقعيا و هو الذي نزل على الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله مرة واحدة في شهر رمضان، و آخر وجودا تدريجيا كان بدء نزوله على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في يوم

المبعث، و استمرّ تنزله الى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.

(2)

الجواب الثالث: التفكيك بين نزول القرآن و البعثة

إن للوحي- كما أوضحنا ذلك في مبحث أنواع الوحي اجمالا- مراتب

______________________________

(1) مناهل العرفان في علوم القرآن: ج 1 ص 37.

(2) الميزان: ج 2 ص 14- 16.

(3) طه: 114.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:347

و مراحل، يتمثل أول مراتبه في الرؤيا الصادقة التي رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و المرتبة الاخرى تمثلت في سماعة للنداء الغيبيّ الالهي من دون وساطة ملك.

و آخر تلك المراتب هو أن يسمع النبي كلام اللّه من ملك يبصره و يراه، و يتعرف عن طريقه على حقائق العوالم الاخرى.

و حيث أن النفس الانسانية لا تستطيع في الوهلة الاولى تحمّل مراتب (الوحي) جميعها دفعة واحدة بل لا بدّ أن يتحملها تدريجا، لهذا يجب القول بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد سمع يوم المبعث (اليوم السابع و العشرون من شهر رجب) النداء السماويّ الذي يخبره بأنه رسول اللّه، فقط و لم تنزل في مثل هذا اليوم أيّة آية قط، و قد استمر الأمر على هذا المنوال مدة من الزمان. ثم بعد مدة بدأ نزول القرآن الكريم على نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان.

(1) و خلاصة هذا الجواب هي أن ابتعاث الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتما.

و على هذا الاساس ما المانع من ان يبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شهر رجب، و ينزل القرآن الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام؟

ان هذه الاجابة و إن كانت لا توافق كثيرا من النصوص التاريخية (لأن كثيرا من المؤرخين صرّحوا بأنّ الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في

يوم المبعث نفسه) إلّا أن هناك- مع ذلك- روايات ذكرت قصة البعثة بسماع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للنداء الغيبيّ، و لم تذكر شيئا عن نزول قرآن أو آيات، بل هي تشرح الواقعة على النحو التالي إذ تقول:

في ذلك اليوم سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ملكا يقول له: يا محمّد إنّك لرسول اللّه، و جاء في بعض الأخبار أنه سمع هذا النداء، فقط، و لم تذكر شيئا عن مشاهدة الملك.

و للمزيد من التوضيح، و التوسع يراجع «البحار» في هذا المجال «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 184 و 190 و 193 و 253، الكافي: ج 2 ص 460، تفسير العيّاشي: ج 1،-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:348

على أن هذه الاجابة تختلف عن الإجابة الرابعة التي تقول بأن مبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان في شهر رجب، و كان نزول القرآن الكريم بعد انقضاء الدعوة السرّية التي استغرقت ثلاثة أعوام.

الأنبياء و البشارة برسول اللّه:

و ينبغي- استكمالا لهذا الفصل من التاريخ النبوي- ان نلفت نظر القارئ الكريم الى ان الرسالة المحمّدية المباركة، ممّا بشر به جميع الأنبياء المتقدمين زمنيا على خاتم الأنبياء و المرسلين محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد اشار القرآن الكريم إلى ذلك اذ قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «1».

و هذه الآية و إن كانت تكشف عن أصل عام و كلّي و هو: وجوب تصديق إتباع النبيّ السابق للنبي اللاحق، إلّا أن المصداق الأتمّ لها هو

رسول الإسلام الكريم.

فيظهر من هذه الآية أن اللّه تعالى أخذ الميثاق المؤكد من جميع الأنبياء أو من أصحاب الشرائع منهم أن يؤمنوا برسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يدعوا أتباعهم إلى تصديقه و اتباعه و نصرته.

روى الفخر الرازي عن امير المؤمنين علي عليه السّلام:

«إن اللّه تعالى ما بعث آدم عليه السّلام و من بعده من الأنبياء عليهم الصلاة و السّلام إلّا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمّد و هو حي ليؤمننّ به و لينصرنه» «2».

و ممّا يؤيد هذا ان القرآن دعا اهل الكتاب إلى بيان ما قرءوه و وجدوه في

______________________________

- ص 80، و هذا الجواب لا ينسجم فقط مع ما رواه البخاري من أنّ بعثة النبي رافقت نزول آيات من سورة العلق عليه.

(1) آل عمران: 81.

(2) مفاتيح الغيب: ج 2 ص 507.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:349

كتبهم حول رسول الإسلام للناس من دون كتمان و إليك فيما يأتي طائفة من الآيات المصرحة بهذا الأمر:

1- قال اللّه تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» «1».

2- قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» «2».

3- و قال تعالى:

«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» «3».

4- و قال سبحانه:

«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ

عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «4».

ان القرآن الكريم يصرح بجلاء ان السيد المسيح (عليه السّلام) اخبر عن رسول الإسلام و رسالته اذ يقول تعالى:

«وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ

______________________________

(1) آل عمران: 187.

(2) البقرة: 174.

(3) البقرة: 146.

(4) الاعراف: 157.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:350

بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» «1».

كما يتحدث القرآن الكريم عن أهل الكتاب الذين تنكروا لرسالة النبي محمّد صلّى اللّه عليه و آله عند ما بعث و قد كانوا من قبل يخبرون عنه و يطلبون النصر به على اعدائهم اذ قال سبحانه:

«وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» «2».

بل و يخبرنا القرآن الكريم بأنّ إبراهيم عليه السّلام يوم أحلّ زوجته و ولده اسماعيل بارض مكة دعا قائلا:

«رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «3».

و قد انطبقت هذه الأوصاف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ يصفه القرآن الكريم بقوله:

«لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» «4».

محمّد خاتم الأنبياء:

و استكمالا لهذا البحث ينبغي أيضا أن نشير إلى أبرز ناحية في رسالة النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و نبوته

و هي مسألة الخاتمية.

فان القرآن الكريم صرح في آيات عديدة بكون رسول اللّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله خاتم النبيّين، و شريعته خاتمة الشرائع، فلا نبيّ بعده، و لا رسالة بعد رسالته.

______________________________

(1) الصف: 6.

(2) البقرة: 89.

(3) البقرة: 129.

(4) آل عمران: 164.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:351

و ها نحن ندرج ابرز الآيات الواردة في هذا المجال:

1- قال تعالى:

«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» «1».

2- قال سبحانه:

«تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» «2».

3- و قال سبحانه:

«وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ» «3».

4- و قال تعالى:

«وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» «4».

و الآيات الثلاث الأخيرة تفيد بأن رسالة النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله عامة و عالمية و أبدية لأنه في غير هذه الحالة و في غير هذه الصورة لن يكون نبيا للناس كافة، و للعالمين جميعا. و لن يكون نذيرا لقومه و لمن بلغه نداؤه.

هذا و قد صرّح النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه في أحاديث كثيرة بهذا الموضوع و هو الصادق المصدّق.

فعن ابي هريرة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«ارسلت إلى الناس كافة و بي ختم النبيّون» «5».

______________________________

(1) الأحزاب: 40.

(2) الفرقان: 1.

(3) الانعام: 19.

(4) سبأ: 28.

(5) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 128.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:353

(1)

13 ما سبقني أحد

أوّل من آمن بالنبيّ من الرجال و النّساء:
اشارة

لقد انتشر الإسلام في العالم بصورة تدريجية، و يوصف الذين بادروا الى الإيمان بالرسالة الإسلامية و المساعدة على نشرها قبل غيرهم ب «السابقين».

و قد كان السبق الى الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في صدر الإسلام معيارا للفضل

و لهذا يجب أن ندرس هذا الموضوع في ضوء المصادر الصحيحة، و نتعرف على من سبق إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية من الرجال، و من النساء.

(2)

من النساء: «خديجة»

إن من المسلّم به تاريخيا أن «خديجة» كانت أول امرأة آمنت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لم يخالف في هذا احد «1»، و نحن هنا ننقل مستندا تاريخيا مهما واحدا ذكره المؤرخون نقلا عن إحدى زوجات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، مكتفين به رعاية للاختصار.

تقول عائشة: ما غرت على نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلّا على «خديجة» و إنّي لم ادركها، و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يكاد يخرج

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 240.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:354

من البيت حتى يذكر «خديجة» فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الايام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلّا عجوزا فقد أبدلك اللّه خيرا منها، فغضب حتى اهتز مقدّم شعره من الغضب ثم قال:

«لا و اللّه ما أبدلني اللّه خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، و صدّقتني اذ كذّبني النّاس، و واستني في مالها اذ حرمني الناس و رزقني اللّه منا اولادا اذ حرمني أولاد الناس» «1».

(1) و ممّا يدل أيضا على سبق خديجة في الإيمان برسول اللّه كل نساء العالم جمعاء ما جرى في قضية بدء الوحي، و نزول القرآن، لأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند ما انحدر من غار «حراء» و اخبر زوجته «خديجة» بما جرى له واجه- رأسا- ايمان زوجته به و قبولها لكلامه، و تصديقها برسالته، تصريحا و تلويحا.

هذا مضافا الى أنها كانت قد سمعت من قبل أخبارا تتعلق بنبوّته و مستقبل رسالته من كهنة العرب و

أهل الكتاب، و هذه الأخبار و امانة فتى قريش و صدقه الذي اشتهر به هي التي دفعت بها إلى أن تتزوج بالفتى الهاشميّ (محمّد).

(2)

أقدم الرجال اسلاما: «عليّ»
اشارة

إن المشهور المقارب للمتفق عليه بين المؤرخين، سنة و شيعة، هو أن «عليا» كان اول من آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الرجال.

و نرى في مقابل هذا القول المشهور أقوالا أخر نادرة قد نقل ناقلوها ما يخالفها أيضا.

فمثلا يقال: إنّ زيد بن حارثة ربيب رسول اللّه و ابنه بالتبني، أو أبو بكر كان أول من أسلم،

[الدلائل التأريخية و النصوص الدالة على أسبقية الإمام علي]
اشارة

و لكن دلائل عديدة (نذكر بعضها هنا على سبيل الاختصار) تشهد على خلاف هذين القولين.

______________________________

(1) صحيح مسلم، ج 7 ص 134، صحيح البخاري: ج 5 ص 39، اسد الغابة لابن الأثير الجزري:

ج 5 ص 428، بحار الأنوار: ج 16 ص 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:355

و إليك بعض هذه الدلائل:

(1)

1- عليّ تربّى في حجر النبيّ

لقد تلقى علي عليه السّلام تربيته في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نشأ و ترعرع في بيته منذ طفولته، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يجتهد في تربيته و العناية به كالوالد الرحيم.

قال عامّة المؤرخين و كتّاب السيرة بالاتفاق: إنّ قريشا أصابتهم أزمة شديدة (قبل بعثة النبي) و كان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للعباس عمّه، و كان من أيسر بني هاشم: يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، و قد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلنخفّف من عياله، آخذ من بنيه رجلا و تأخذ أنت رجلا فنكفهما عنه، فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى اتيا أبا طالب فقالا له: إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه (إلى ان قال:) فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا فضمّه إليه، و أخذ العباس جعفرا فضمّه إليه فلم يزل علي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى بعثه اللّه تبارك و تعالى نبيا فاتبعه علي رضي اللّه عنه و آمن به و صدقه «1».

(2) في هذه الصورة يجب أن نقول بأنّ عليا عليه السّلام انتقل إلى بيت النبيّ و هو دون الثامنة، لأنّ الغرض من أخذ النبي إيّاه

من أبيه «أبي طالب» هو التخفيف عن كاهل زعيم مكة (أبي طالب)، و من الواضح أنّ صبيّا في مثل هذا السنّ (دون الثامنة) مضافا إلى أنّ فصله عن والديه أمر في غاية الصعوبة، لن يكون لأخذه و تكفّله أي أثر هامّ في وضع أبيه «أبي طالب» المعيشيّ.

و على هذا يجب أن نفترض له عليه السّلام عمرا يكون لأخذه فيه من قبل النبيّ تأثيرا معتدا به في وضع أبيه الاقتصادي و المعيشي.

______________________________

(1) السيرة النبويّة: ج 1 ص 246، البداية و النهاية: ج 2 ص 25.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:356

فكيف يمكن القول- و الحال هذه- أن أباعد عن البيت النبويّ مثل «زيد بن حارثة» و غيره اطّلعوا على أسرار الوحي، بينما جهل ابن عم النبي صلّى اللّه عليه و آله و اقرب الناس إليه، و الذي كان معه في اكثر الأوقات بما أتى به صلّى اللّه عليه و آله و ما نزل عليه.

(1) إنّ غرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من تربية الإمام عليّ و تكفّله إياه كان الى حدّ كبير هو أداء ما أسدى إليه أبو طالب من خدمات، و لم يكن ثمة شي ء أحبّ الى رسول اللّه من أن يهدي أحدا إلى الصراط المستقيم، فكيف يمكن أن يقال- و الحال هذه- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حرم ابن عمّه الذي كان يتمتع بذكاء باهر و ضمير يقظ، من هذه النعمة الكبرى.

إن من الأفضل أن نسمع هذا الأمر من لسان «علي» نفسه، فقد بيّن عليه السّلام في الخطبة القاصعة منزلته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قربه إليه هكذا:

«و لقد علمتم موضعي من رسول اللّه بالقرابة القريبة، و المنزلة

الخصيصة، وضعني في حجره و أنا وليد، يضمّني إلى صدره، و يكنفني في فراشه، و يمسّني جسده، و يشمّني عرفه (عرقه) ... و لقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل إثر امّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما و يأمرني بالاقتداء به، و لقد كان يجاورني في كل سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللّه، و خديجة و أنا ثالثهما أرى نور الوحي و الرّسالة و أشمّ ريح النبوة» «1».

(2) و جاء في تاريخ الطبري عن ابن اسحاق قال: كان اول ذكر آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى معه و صدّق بما جاءه من عند اللّه «علي بن ابي طالب» عليه السّلام و هو يومئذ ابن عشر سنين، و كان ممّا انعم اللّه به على عليّ بن ابي طالب عليه السّلام انه كان في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) نهج البلاغة: ج 2 ص 182، و في هذه الخطبة نفسها يقول: اللّهمّ إني أوّل من أناب و سمع و اجاب لم يسبقني إلّا رسول اللّه بالصلاة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:357

قبل الإسلام «1».

(1)

2- عليّ و خديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ:

ينقل ابن الاثير في «اسد الغابة»، و ابن حجر في «الإصابة» عند ترجمة «عفيف الكندي» و كثير من علماء التاريخ القصة التالية عنه، بأنه قال:

كنت امرأ تاجرا فقدمت «منى» أيام الحج، و كان العباس بن عبد المطلب امرأ تاجرا فأتيته أبتاع منه و أبيعه، قال: فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء يصلّي فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلّي، و خرج غلام يصلّي معه، فقلت: يا عباس ما هذا الدين، إنّ هذا الدين ما ندري

به؟ فقال: هذا محمّد بن عبد اللّه يزعم أنّ اللّه أرسله و أن كنوز كسرى و قيصر ستفتح عليه، و هذه امرأته «خديجة بنت خويلد» آمنت به و هذا الغلام ابن عمه «علي بن أبي طالب» آمن به قال عفيف: فليتني كنت رابعهم «2».

و هذه الواقعة ينقلها و يرويها حتى الذين يقصرون في رواية فضائل الإمام عليّ و كتابتها، و في امكان القارئ الكريم ان يقف على هذه القصة في المصادر التالية على وجه التفصيل.

(2)

3- أنا الصدّيق الأكبر:

تلاحظ هذه العبارة و نظائرها كثيرا، في خطب الإمام عليّ عليه السّلام و كلماته فهو يكرّر العبارات التالية بكثرة:

«أنا عبد اللّه، و أخو رسول اللّه، و أنا الصدّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر، و لقد صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين، و أنا أوّل من

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 57.

(2) الإصابة: ج 2 ص 480، تاريخ الطبري: ج 2 ص 57. الكامل: ج 2 ص 37 و 38، اعلام الورى:

ص 25، اسد الغابة: ج 3 ص 414.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:358

صلّى معه» «1».

(1)

4- أوّلكم إسلاما: علي

و لقد وردت أحاديث متواترة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بتعابير متنوعة قال فيها:

«أوّلكم واردا عليّ الحوض، أوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب» «2».

و عند ما يدرس المنصف المحايد هذه الأحاديث، يقطع بأسبقية الإمام عليّ إلى الإسلام، و تقدّمه على غيره في الإيمان بالدعوة المحمّدية، و لا يختار القولين الآخرين اللّذين لا يذهب إليهما إلّا الأقليّة.

فإنّ ما يناهز الستين شخصا من الصحابة و التابعين يؤيدون القول الأول (أي أن عليّا أول القوم إسلاما و أقدمهم أيمانا) و حتى الطبريّ نفسه الذي شكّك في هذا القول، و اكتفى بنقله دون اختياره و تأكيده، روى في ج 2 ص 60 بأن «ابن سعد» سأل اباه قائلا: أ كان أبو بكر أولكم إسلاما، فقال: لا و لقد أسلم قبله اكثر من خمسين.

و من غريب الأمر ان مؤرخا كبيرا كابن كثير يتنكر لهذه الحقيقة الساطعة فقد ذكر في ج 7 ص 334 من كتابه «البداية و النهاية» حديثا صحيحا بإسناد الإمام أحمد الترمذي في إسلام أمير المؤمنين و أنّه أوّل من اسلم و صلّى ثمّ أردفه بقوله: و هذا

لا يصح: من أي وجه كان روي عنه، و قد ورد في أنّه أوّل من أسلم من هذه الأمّة أحاديث كثيرة لا يصح منها شي ء ... إلخ.

و قد تصدى العلامة المحقق الاميني رحمه اللّه للردّ على هذا المقال بالتفصيل و نظرا لأهميّة ما كتبه العلامة الاميني و ما احتوى عليه من نصوص تاريخية نسرده هنا مع ما فيه من تكرار بسيط لبعض ما ذكرناه.

______________________________

(1) خصائص النسائي: ص 3 و سنن ابن ماجه: ج 1 ص 57، مستدرك الحاكم: ج 1 ص 112، تاريخ الطبري: ج 2 ص 56 و غيرها. سيد المرسلين ج 1 358 4 - أولكم إسلاما: علي ..... ص : 358

(2) يراجع مصادر هذا الحديث في الغدير: ج 3 ص 220.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:359

يقول العلامة الاميني:

نسائل هذا الرّجل لم لا يصح شي ء منها من أيّ وجه كان؟! و الطرق صحيحة، و الرّجال نقات، و الحفّاظ حكموا بصحّته، و أرباب السير أطبقوا عليه، و كان من المتسالم عليه بين الصّحابة الأوّلين و التابعين لهم بإحسان.

و نحن لو نقتصر على كلمتنا هذه يحسبها القارئ دعوى مجرّدة لدة دعوى ابن كثير (أعاذنا اللّه عن مثلها) و تخفى عليه جليّة الحال فيهمنا ذكر نزر ممّا يدلّ على المدّعى و إن لم يسعنا ايراد كثير منه روما للاختصار.

النصوص النبوية:

1- قال صلّى اللّه عليه و آله: أوّلكم واردا- ورودا- على الحوض أوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب.

أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 136 و صحّحه م- و الخطيب البغدادي في تاريخه ج 2 ص 81 و يوجد في الاستيعاب 2 ص 457. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

و في لفظ: أوّل هذه الأمّة ورودا على الحوض أوّلها إسلاما عليّ

بن أبي طالب، رضي اللّه عنه. السيرة الحلبيّة 1 ص 285. سيرة زيني دحلان 1 ص 188 هامش الحلبيّة.

و في لفظ: أوّل الناس ورودا على الحوض أوّلهم إسلاما عليّ بن أبي طالب مناقب الفقيه ابن المغازلي. مناقب الخوارزمي.

2- قال صلّى اللّه عليه و آله لفاطمة: زوّجتك خير أمّتي أعلمهم علما، و أفضلهم حلما و أوّلهم سلما. راجع ما مرّ ص 95.

3- قال صلّى اللّه عليه و آله لفاطمة: إنّه لأوّل أصحابي إسلاما. أو: أقدم أمّتي سلما. حديث صحيح راجع ص 95

4- أخذ صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ، فقال: إنّ هذا أوّل من آمن بي، و هذا أوّل من يصافحني يوم القيامة، و هذا الصدّيق الأكبر. راجع الجزء الثاني

سيد المرسلين ،ج 1،ص:360

ص 313، 314.

5- عن أبي أيوب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لقد صلّت الملائكة عليّ و على علي سبع سنين لأنا كنّا نصلّي و ليس معنا احد يصلّي غيرنا.

مناقب الفقيه ابن المغازلي باسنادين م- أسد الغابة 4: 18 و مناقب الخوارزمي و فيه: و لم ذلك يا رسول اللّه؟ قال: لم يكن معي من الرجال غيره.

كتاب الفردوس للديلمي. شرح ابن أبي الحديد عن رسالة الاسكافي 3 ص 258. فرائد السمطين الباب 47.

6- ابن عبّاس قال قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اوّل من صلّى معي عليّ. فرائد السمطين الباب 47 بأربع طرق.

7- معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ! اخصمك بالنبوّة و لا نبوّة بعدي، و تخصم الناس بسبع و لا يجاحدك فيه أحد من قريش، أنت أوّلهم ايمانا باللّه، و أوفاهم بعهد اللّه، و أقومهم بأمر اللّه. الحديث.

(حلية الأولياء 1

ص 66).

8- أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلّي- و ضرب بين كتفيه-: يا عليّ لك سبع خصال لا يحاجّك فيهنّ أحد يوم القيامة؛ أنت أوّل المؤمنين باللّه ايمانا، و أوفاهم بعهد اللّه، و أقومهم بأمر اللّه. الحديث. (حلية الأولياء 1 ص 66).

9- من حديث أبي بكر الهذلي و داود بن أبي هند الشعبي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انّه قال لعليّ عليه السّلام: هذا أوّل من آمن بي و صدّقني و صلّى معي. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 256.

10- إنّ أبا بكر و عمر خطبا فاطمة فردّهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: لم أومر بذلك. فخطبها عليّ فزوّجه إيّاها و قال لها: زوّجتك أقدم الأمّة إسلاما. روى هذا الحديث جماعة من الصحابة منهم: أسماء بنت عميس و أمّ أيمن و ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 257.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:361

كلمات امير المؤمنين عليه السّلام:

1- قال عليه السّلام: أنا عبد اللّه، و أخو رسول اللّه، و أنا الصّديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلّا كاذب مفتري، و لقد صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين، و أنا أوّل من صلّى معه.

إسناده من طريق ابن أبي شيبة و النسائي و ابن ماجة و الحاكم و الطبري «1» صحيح رجاله ثقات، راجع الجزء الثاني من كتابنا 314.

2- قال عليه السّلام: أنا أوّل رجل أسلم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

أخرجه أبو داود بإسناده الصحيح كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

3- قال عليه السّلام: أنا أوّل من أسلم مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

أخرجه الخطيب

البغدادي في تاريخه 4 ص 233.

4- قال عليه السّلام أنا أوّل من صلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

أخرجه أحمد، و الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» و قال: رجاله رجال الصحيح غير حبّة العرني و قد وثق. و أخرجه أبو عمرو في الإستيعاب 2 ص 458.

و ابن قتيبة في «المعارف» ص 74 من طريق أبي داود عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبّة عنه عليه السّلام. و الإسناد صحيح رجاله ثقات.

5- قال عليه السّلام أسلمت قبل أن يسلم النّاس بسبع سنين. الرّياض النضرة 2 من 158.

6- قال عليه السّلام: عبدت اللّه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة. مستدرك الحاكم 3 ص 112.

7- قال عليه السّلام: عن حكيم مولى زاذان قال: سمعت عليّا يقول:

صلّيت قبل النّاس سبع سنين، و كنّا نسجد و لا نركع، و أوّل صلاة ركعنا فيها صلاة العصر، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

______________________________

(1) في تاريخه 2 ص 213.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:362

8- قال عليه السّلام: عبدت اللّه قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة خمس سنين. الإستيعاب 2 ص 448. الرّياض النضرة 2 ص 158. السيرة الحلبيّة 1 ص 288.

9- قال عليه السّلام: آمنت قبل الناس سبع سنين. خصائص النسائي ص 3.

10- قال عليه السّلام: ما أعرف أحدا من هذه الأمّة عبد اللّه بعد نبينا غيري، عبدت اللّه قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة تسع سنين. خصائص النسائي ص 3.

11- من خطبة له عليه السّلام يوم صفّين: و ابن عمّ نبيّكم معكم بين أظهركم يدعوكم إلى طاعة ربّكم، و يعمل بسنّة نبيّكم صلّى اللّه عليه، فلا سواء من

صلّى قبل كلّ ذكر لم يسبقني بصلاتي مع رسول اللّه. كتاب نصر ص 355.

شرح ابن أبي الحديد 1 ص 503.

12- قال عليه السّلام: اللهمّ لا أعرف عبدا من هذا الأمّة عبدك قبلي غير نبيّك [قاله ثلاث مرّات] ثمّ قال: لقد صلّيت قبل أن يصلّي الناس. و في لفظ:

قبل أن يصلّي أحد. أخرجه أحمد، أبو يعلى، البزّاز، الطبراني، الهيثمي في المجمع 9 ص 102. و قال: إسناده حسن. شيخ الإسلام الجويني في الفرائد الباب 48.

13- من كتاب له عليه السّلام كتبه إلى معاوية: انّ أولى النّاس بأمر هذه الأمّة قديما و حديثا أقربها من رسول اللّه، و أعلمها بالكتاب، و أفقهها في الدين، و أوّلها إسلاما، و أفضلها جهادا. كتاب صفّين لابن مزاحم ص 168 ط مصر.

14- في حديث عنه عليه السّلام: لا و اللّه إن كنت أوّل من صدّق به فلا أكون أوّل من كذب عليه. المحاسن و المساوئ 1 ص 36. تاريخ القرماني هامش الكامل لابن الأثير 1 ص 218.

15- قال عليه السّلام: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم الإثنين و أسلمت يوم الثلاثاء.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:363

مجمع الزوائد 9 ص 102. تاريخ القرماني 1 ص 215. الصواعق 72. تاريخ الخلفاء للسيوطي 112. إسعاف الراغبين 148.

16- من كتاب كتبه عليه السّلام إلى معاوية: انّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لمّا دعا إلى الإيمان باللّه و التوحيد كنّا أهل البيت أوّل من آمن به؟ و صدّق بما جاء به، فلبثنا أحوالا مجرّمة (أي كاملة) و ما يعبد اللّه في ربع ساكن من العرب غيرنا. كتاب صفّين لابن مزاحم ص 100.

17- قال عليه السّلام يوم صفّين مخاطبا أصحاب معاوية: و يحكم أنا أوّل من

دعا إلى كتاب اللّه، و أوّل من أجاب إليه. كتاب نصر 561.

18- قالت معاذة بنت عبد اللّه العدويّة: سمعت عليّ بن أبي طالب على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أنا الصدّيق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، و أسلمت قبل أن يسلم أبو بكر. راجع الجزء الثاني ص 314.

19- قال عليه السّلام في خطبة خطبها في معسكر صفّين: أ تعلمون أنّ اللّه فضّل في كتابه السابق على المسبوق، و أنه لم يسبقني اللّه و رسوله أحد من الأمّة؟! قالوا: نعم. راجع الجزء الأوّل ص 195.

20- قال عليه السّلام صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاث سنين قبل أن يصلّي معه أحد من النّاس. أخرجه أحمد باسنادين.

21- قال عليه السّلام يوم الشورى في حديث أسلفناه: أمنكم أحد وحّد اللّه قبلي؟ قالوا: لا. أمنكم أحد صلّى القبلتين غيري؟ قالوا: لا. راجع ج 1 ص 159- 163، و هذه الفقرة من الحديث عدّها ابن أبي الحديد ممّا استفاضت به الرّوايات.

22- مرّ في الجزء الثاني ص 25 في أبيات له عليه السّلام كتبها إلى معاوية:

سبقتكم إلى الإسلام طرّاغلاما ما بلغت أوان حلمي 23- ذكر ابن طلحة الشافعي في مطالب السئول ص 11 له عليه السّلام:

أنا أخو المصطفى لا شكّ في نسبي به ربيت و سبطاه هما ولدي

صدّقته و جميع النّاس في بهم من الضّلالة و الإشراك و النكد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:364

قال: قال جابر: سمعت عليّا ينشد بهذا و رسول اللّه يسمع: فتبسّم رسول اللّه و قال: صدقت يا علي؟

كلمة الإمام السبط الحسن عليه السّلام:

24- من خطبة للإمام الحسن عليه السّلام في مجلس معاوية قوله: أنشدكم اللّه أيّها الرّهط؟ أ تعلمون أنّ الذي شتمتموه منذ اليوم صلّى القبلتين

كلتيهما؟

و أنت يا معاوية بهما كافر، تراها ضلالة، و تعبد اللات و العزّى غواية؛ و أنشدكم اللّه هل تعلمون أنّه بايع البيعتين كلتيهما: بيعة الفتح و بيعة الرضوان؟ و أنت يا معاوية بإحداهما كافر، و باخرى ناكث. و أنشدكم اللّه هل تعلمون أنّه أوّل الناس ايمانا؟! و إنّك يا معاوية و أباك من المؤلّفة قلوبهم. شرح ابن أبي الحديد 2 ص 101.

25- و في خطبة له عليه السّلام مرّت في ج 1 ص 198: فلمّا بعث اللّه محمّد للنبوّة، و اختاره للرّسالة، و أنزل عليه كتابه ثمّ أمره بالدعاء إلى اللّه، فكان أبي أوّل من استجاب للّه و لرسوله، و أوّل من آمن و صدّق اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و قد قال اللّه في كتابه المنزل على نبيّه المرسل: «أ فمن كان على بيّنة من ربّه و يتلوه شاهد منه» فجدّي الّذي على بيّنة من ربّه، و أبي الذي يتلوه و هو شاهد منه.

رأي الصحابة و التابعين في أوّل من أسلم

1- أنس بن مالك قال: نبّئ (بعث) النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الإثنين و أسلم عليّ يوم الثّلاثاء. و في لفظ له: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم الإثنين و صلّى عليّ يوم الثّلاثاء.

أخرجه الترمذي في جامعه 2 ص 214. الطبراني. الحاكم في المستدرك 3 ص 112. ابن عبد البرّ في الإستيعاب 3 ص 32. ابن الأثير في جامع الأصول كما في تلخيصه تيسير الوصول 3 ص 271. الجويني في فرائد السمطين الباب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:365

47. و أوعز إليه العراقي في التقريب 1 ص 85. و يوجد في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258. تذكرة السبط 63. السراج المنير شرح الجامع الصغير

2 ص 424. شرح المواهب 1 ص 241.

2- بريدة الأسلمي قال: اوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم الإثنين و صلّى عليّ يوم الثّلاثاء. أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 112 و صحّحه هو و أقرّه الذهبي.

3- زيد بن أرقم قال: أوّل من أسلم مع رسول اللّه عليّ بن أبي طالب.

تاريخ الطبري بإسنادين صحيحين رجالهما ثقات. مسند أحمد 4 ص 368.

مستدرك الحاكم 4 ص 336 و صحّحه هو و أقرّه الذهبي. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

4- زيد بن أرقم قال: أوّل من صلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّ.

أخرجه أحمد و الطبراني كما في مجمع الهيثمي 9 ص 103 و قال: رجال أحمد رجال الصحيحين. أبو عمرو في الإستيعاب 2 ص 459.

5- زيد بن أرقم قال: أوّل من آمن باللّه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّ بن أبي طالب. الإستيعاب 2 ص 459.

6- عبد اللّه بن عبّاس قال: أوّل من صلّى عليّ.

جامع الترمذي 2 ص 215. تاريخ الطبري 2 ص 241 بإسناد صحيح.

الكامل لابن الأثير 2 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 256.

7- عبد اللّه بن عبّاس قال: لعليّ أربع خصال ليست لأحد: هو أوّل عربيّ، و أعجميّ صلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. مستدرك الحاكم 3 ص 111. الإستيعاب 2 ص 457.

8- عبد اللّه بن عبّاس قال مجاهد: إنّه قال: أوّل من ركع مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّ بن أبي طالب فنزلت فيه هذه الآية: و أقيموا الصّلاة و آتوا الزّكاة و اركعوا مع الراكعين. تذكرة السبط 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:366

9- عبد اللّه بن عبّاس قال في

خطبة له: إنّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طعام أهل الشام أعوانا على عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول اللّه و صهره و أوّل ذكر صلّى معه.

كتاب صفّين لابن مزاحم 360. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 504. جمهرة الخطب 1 ص 175.

10- عبد اللّه بن عبّاس قال: فرض اللّه تعالى الاستغفار لعلي في القرآن على كلّ مسلم بقوله تعالى: «ربّنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان». فكلّ من أسلم بعد عليّ فهو يستغفر لعليّ. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 256.

11- عبد اللّه بن عبّاس قال: أوّل من أسلم عليّ بن أبي طالب.

الإستيعاب 2 ص 458. مجمع الزوائد 9 ص 102.

12- عبد اللّه بن عبّاس قال: كان عليّ أوّل من آمن من الناس بعد خديجة رضي اللّه عنهما.

الإستيعاب 2 ص 457 و قال: قال أبو عمرو رضي اللّه عنه: هذا إسناد لا مطعن فيه لأحد لصحّته و ثقة نقلته. و صحّحه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242.

13- كان ابن عبّاس بمكّة يحدّث على شفير زمزم و نحن عنده فلما قضى حديثه قام إليه رجل فقال: يا بن عبّاس؟ إنّي امرؤ من أهل الشام من أهل حمص إنّهم يتبرّءون من عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه و يلعنونه. فقال: بل لعنهم اللّه في الدنيا و الآخرة و أعدّ لهم عذابا مهينا. أ لبعد قرابته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ و إنّه لم يكن أوّل ذكران العالمين ايمانا باللّه و رسوله؟ و أوّل من صلّى و ركع و عمل بأعمال البرّ؟ قال الشامي: انّهم و اللّه ما ينكرون قرابته و سابقته غير انّهم يزعمون أنّه قتل الناس. الحديث.

المحاسن و المساوئ للبيهقي 1 ص 30.

14- عفيف قال: جئت في الجاهليّة إلى مكّة و أنا اريد أن ابتاع لأهلي من ثيابها و عطرها فأتيت العبّاس بن عبد المطلب و كان رجلا تاجرا فأنا عنده جالس

سيد المرسلين ،ج 1،ص:367

حيث أنظر إلى الكعبة و قد حلقت الشمس في السّماء فارتفعت و ذهبت إذ جاء شابّ فرمى ببصره إلى السّماء ثمّ قام مستقبل الكعبة ثمّ لم البث إلّا يسيرا حتّى جاء غلام فقام على يمينه، ثمّ لم يلبث إلّا يسيرا حتّى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشابّ فركع الغلام و المرأة، فرفع الشابّ فرفع الغلام و المرأة، فسجد الشابّ فسجد الغلام و المرأة فقلت: يا عبّاس؟ أمر عظيم. قال العبّاس: أمر عظيم، أ تدري من هذا الشابّ؟ قلت: لا. قال: هذا محمّد بن عبد اللّه ابن أخي. أ تدري من هذا الغلام؟ هذا عليّ ابن أخي. أ تدري من هذه المرأة؟

هذه خديجة بنت خويلد زوجته، انّ ابن أخي هذا أخبرني انّ ربّه ربّ السماء و الأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، و لا و اللّه ما على الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.

خصايص النسائي 3. تاريخ الطبري 2 ص 21. الرّياض النضرة 2 ص 158.

الإستيعاب 2 ص 459. عيون الأثر 1 ص 93. الكامل لابن الاثير 2 ص 22.

السيرة الحلبيّة 1 ص 288.

15- سلمان الفارسي قال: أوّل هذه الأمّة ورودا على نبيّها الحوض أوّلها إسلاما عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

الإستيعاب 2 ص 457. مجمع الزوائد 9 ص 102 و قال: رجاله ثقات.

و عدّه الإسكافي في رسالته على العثمانيّة. و أبو عمرو في الإستيعاب. و العراقيّ في شرح التقريب 1 ص 85. و

القسطلاني في المواهب 1 ص 45 ممّن روى أنّ عليّا أوّل من أسلم.

16- أبو رافع قال: صلّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أوّل يوم الاثنين و صلّت خديجة آخره و صلّى عليّ يوم الثّلاثاء من الغد.

أخرجه الطبراني كما في شرح المواهب 1 ص 240. عيون الأثر 1 ص 92.

و تجده و سابقه في الرّياض النضرة 2 ص 158. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

17- أبو رافع قال: مكث عليّ يصلّي مستخفيا سبع سنين و أشهرا قبل أن يصلّى أحد. أخرجه الطبراني. الهيثمي في المجمع 9 ص 103. الجويني في

سيد المرسلين ،ج 1،ص:368

الفرائد ب 47.

18- أبو ذر الغفاري، عدّ ممّن روى انّ عليّ بن أبي طالب أوّل من أسلم.

الإستيعاب 2 ص 456. التقريب و شرحه 1 ص 85. المواهب اللدنيّة 1 ص 45.

19- خباب بن الأرت قال: رأيت عليّا يصلّي قبل الناس مع النبيّ و هو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ. رسالة الإسكافي. و عدّ ممّن روى انّ عليّا أوّل من أسلم في الاستيعاب 2 ص 456. و المواهب اللدنيّة 1 ص 45.

20- المقداد بن عمرو الكندي، ممّن روى انّ عليّا أوّل من أسلم كما في الإستيعاب 2 ص 456. و التقريب و شرحه 1 ص 85. و المواهب اللدنيّة 1 ص 45.

21- جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الإثنين و صلّى عليّ يوم الثّلاثاء. الطبري 2 ص 211. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258، و عدّه أبو عمرو و العراقيّ و القسطلاني ممّن روى انّ عليّا أوّل من أسلم.

22- أبو سعيد الخدري روى إنّ عليّ بن أبي طالب أوّل من

أسلم.

الإستيعاب 2 ص 456. شرح التقريب 1 ص 85. المواهب اللدنيّة 1 ص 45.

23- حذيفة بن اليمان قال: كنّا نعبد الحجارة و نشرب الخمر و عليّ من أبناء أربع عشرة سعة قائم يصلّي مع النبيّ ليلا و نهارا، و قريش يومئذ تسافه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يذبّ عنه إلّا عليّ. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

24- عمر بن الخطّاب قال عبد اللّه بن عبّاس: سمعت عمرو عنده جماعة فتذاكروا السابقين إلى الإسلام فقال عمر: أمّا علي فسمعت رسول اللّه: يقول فيه ثلاث خصال، لوددت أن تكون لي واحدة منهنّ، و كانت أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس، كنت أنا و أبو عبيدة و أبو بكر و جماعة من أصحابه إذ ضرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على منكب عليّ رضي اللّه عنه فقال له: يا عليّ؟ أنت أوّل

سيد المرسلين ،ج 1،ص:369

المؤمنين ايمانا، و أوّل المسلمين إسلاما، و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

رسالة الإسكافي. مناقب الخوارزمي. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

25- عبد اللّه بن مسعود قال: أوّل حديث علمته من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّي قدمت مكّة مع عمومة لي (و ذكر مثل حديث عفيف المذكور ص 226) رسالة الإسكافي.

26- أبو أيّوب الأنصاري، أخرج الطبراني عنه انّه قال: أوّل الناس إسلاما عليّ بن أبي طالب. شرح التقريب 1 ص 85. شرح الزرقاني 1 ص 242.

27- أبو مرازم يعلى بن مرّة، عدّة الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممّن قال: إنّ عليّا اوّل الناس إسلاما.

28- هاشم بن عتبة المرقال قال: أنت يا أمير المؤمنين! أقرب الناس من رسول اللّه رحما، و أفضل الناس سابقة

و قدما. كتاب نصر 125. جمهرة الخطب 1 ص 151.

29- في كلام لهاشم بن عتبة يوم صفّين: انّ صاحبنا هو أوّل من صلّى مع رسول اللّه، و أفقهه في دين اللّه، و أولاه برسول اللّه.

كتاب نصر 403. تاريخ الطبري 6 ص 24. الكامل لابن الأثير 3 ص 135. و قال هاشم يوم صفّين:

مع ابن عمّ أحمد المعلّى فيه الرّسول بالهدى استهلا

أوّل من صدّقه و صلّى فجاهد الكفّار حتّى أبلى «1» 30- مالك بن الحارث الأشتر قال في خطبة له: معنا ابن عم نبيّنا و سيف من سيوف اللّه عليّ بن أبي طالب، صلّى مع رسول اللّه لم يسبقه إلى الصلاة ذكر، حتّى كان شيخا لم يكن له صبوة و لا نبوة و لا هفوة، فقيه في دين اللّه، عالم بحدود اللّه.

كتاب نصر 268. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 484. جمهرة الخطب 1

______________________________

(1) كتاب صفين لابن مزاحم: 371 ط مصر.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:370

ص 183.

31- عديّ بن حاتم قال في خطبة له مخاطبا معاوية: ندعوك إلى أفضل الأمّة سابقة، و أحسنها في الإسلام آثارا.

كتاب نصر 221. تاريخ الطبري 6 ص 2. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 344. و في لفظ ابن الأثير في الكامل 3 ص 124: انّ ابن عمّك سيد المسلمين أفضلها سابقة.

32- عديّ بن حاتم قال في خطبة اخرى له: إن كان له «لعليّ» عليكم فضل فليس لكم مثله فسلّموا و إلّا فنازعوا عليه، و اللّه لئن كان إلى العلم بالكتاب و السنّة؟ انّه لأعلم الناس بهما. و لئن كان إلى الإسلام؟ إنّه لأخو نبي اللّه و الرأس في الإسلام. الإمامة و السياسة 1 ص 103.

33- محمّد بن الحنفيّة قال سالم بن أبي الجعد قلت له:

أبو بكر كان أوّلهم إسلاما؟! قال: لا. الاستيعاب 2 ص 458. إذا ثبت أنّ أبا بكر لم يكن أوّل الناس إسلاما فعليّ عليه السّلام هو المتعيّن سبق إسلامه.

34- طارق بن شهاب الأحمسي في كلام له: ثمّ قلت: ادع عليّا و هو أوّل المؤمنين ايمانا باللّه و ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه، هذا أعظم، الحديث. شرح ابن أبي الحديد 1 ص 76.

35- عبد اللّه بن هاشم المرقال قال في خطبة له: يا أيّها النّاس! انّ هاشما جاهد في طاعة ابن عمّ رسول اللّه، و أوّل من آمن به؛ و أفقههم في دين اللّه.

كتاب نصر 405.

36- عبد اللّه بن حجل قال: يا أمير المؤمنين! أنت أوّلنا ايمانا، و آخرنا بنبيّ اللّه عهدا. الإمامة و السياسة 1 ص 103، كتاب نصر.

37- أبو عمرة بشير بن محصن قال في جمع من أصحاب علي و معاوية: إنّ صاحبي أحق البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل و الدين و السابقة في الإسلام و القرابة من رسول اللّه. كتاب نصر 210.

38- عبد اللّه بن خباب بن الأرت قال ابن قتيبة: إنّ الخارجة الّتي خرجت

سيد المرسلين ،ج 1،ص:371

على عليّ بينما هم يسيرون فإذا هم برجل يسوق امرأته على حمار له فعبروا إليه الفرات فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا رجل مؤمن، قالوا: فما تقول في عليّ بن أبي طالب؟ قال: أقول: إنّه أمير المؤمنين و أوّل المسلمين ايمانا باللّه و رسوله. قالوا:

فما اسمك؟ قال: و أنا عبد اللّه بن خباب بن الأرت صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. الإمامة و السياسة 1 ص 122.

39- عبد اللّه بن بريدة قال: أوّل الرجال إسلاما عليّ بن أبي طالب

ثمّ الرهط الثلاث: أبو ذر و بريدة و ابن عمّ لأبي ذرّ. أخرجه محمّد بن إسحاق المدني في الجزء الأوّل من المغازي.

40- محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية كتابا منه: فكان أوّل من أجاب و أناب، و صدّق و وافق، و أسلم و سلم أخوه و ابن عمّه عليّ بن أبي طالب- الى أن قال-: أوّل الناس إسلاما، و أصدق الناس نيّة- إلى قوله- يا لك الويل! تعدل نفسك بعليّ و هو وارث رسول اللّه و وصيّه و أبو ولده، و أوّل الناس له اتّباعا، و آخرهم به عهدا، يخبره بسرّه، و يشركه في أمره. نصر في كتاب صفّين 133.

41- عمرو بن الحمق قال لعلي: أحببتك لخصال خمس: انّك ابن عمّ رسول اللّه، و أوّل من آمن به. و في لفظ: و أسبق النّاس إلى الإسلام، أبو الذريّة التي بقيت فينا من رسول اللّه، و أعظم رجل من المهاجرين سهما في الجهاد.

كتاب صفّين 115. جمهرة الخطب 1 ص 149.

42- سعيد بن قيس الهمداني يرتجز في صفّين بقوله «1»:

هذا عليّ و ابن عمّ المصطفى أوّل من أجابه ممّن دعا

هذا الإمام لا يبالي من غوى

43- عبد اللّه بن أبي سفيان قال مجيبا الوليد «2»

و إنّ وليّ الأمر بعد محمّدعليّ و في كلّ المواطن صاحبه

______________________________

(1) شرح النهج لابن ابي الحديد: ج 13 ص 232 و فيه «أول من أجابه فيما روى».

(2) رسالة الاسكافي، و ذكرهما الحافظ الكنجي في الكفاية ص 48 للفضل بن العبّاس.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:372 وصيّ رسول اللّه حقّا و صنوه و أوّل من صلّى و من لان جانبه 44- خزيمة بن ثابت الأنصاري عدّه العراقي في شرح التقريب 1 ص 85، و الزرقاني في شرح المواهب

1 ص 242 ممّن قال بأنّ عليّا أوّل الناس إسلاما.

و قالا: أنشد المرزبان له في عليّ:

أ ليس أوّل من صلّى لقبلتكم و أعلم النّاس بالقرآن و السنن و ذكر له الإسكافي في رسالته كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 259:

وصيّ رسول اللّه من دون أهله و فارسه مذ كان في سالف الزمن

و أوّل من صلّى من الناس كلّهم سوى خيرة النسوان و اللّه ذو المنن و ذكرهما له الحاكم في المستدرك 3 ص 114، و ذكر قبلهما:

إذا نحن بايعنا عليّا فحسبناأبو حسن ممّا نخاف من الفتن

وجدناه أولى النّاس بالنّاس أنّه أطبّ قريش بالكتاب و بالسنن «1» 45- كعب بن زهير، ذكر الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242. من قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين عليه السّلام:

إنّ عليّا لميمون نقيبته بالصّالحات من الأفعال مشهور

صهر النبيّ و خير النّاس كلّهم فكلّ من رامه بالفخر مفخور

صلّى الصلاة مع الامّي أوّلهم قبل العباد و ربّ الناس مكفور «2» 46- ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، ذكر جمع من الأعلام له أبيات و ذكرها آخرون لغيره و هي:

ما كنت أحسب انّ الأمر منصرف عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن

أ ليس أوّل من صلّى لقبلتهم؟!و أعلم النّاس بالآيات و السنن؟!

و آخر النّاس عهدا بالنبيّ؟و من جبريل عون له في الغسل و الكفن؟

______________________________

(1) و لهذه الابيات بقية توجد في الفصول المختارة 2 ص 67.

(2) في النسخة تصحيف ذكرناها صحيحة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:373 من فيه ما فيهم ما تمترون به؟!و ليس في القوم ما فيه من الحسن

ما ذا الذي ردّكم عنه؟! فنعلمه ها إنّ بيعتكم من أوّل الفتن و ذكر الإسكافي في رسالته البيتين الأوّلين منها و نسبهما إلى أبي سفيان بن حرب بن اميّة بن عبد شمس حين

بويع أبو بكر. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 259.

47- الفضل بن أبي لهب قال ردّا على قصيدة الوليد بن عاقبة:

ألا انّ خير النّاس بعد محمّدمهيمنه التالية في العرف و النكر

و خيرته في خيبر و رسوله بنبذ عهود الشرك فوق أبي بكر

و أوّل من صلّى صنو نبيّه و أوّل من أردى الغواة لدى بدر

فذاك عليّ الخير من ذا يفوقه؟!أبو حسن حلف القرابة و الصهر 48- مالك بن عبادة الغافقي حليف حمزة بن عبد المطلب قال:

رأيت عليّا لا يلبّث قرنه إذا ما دعاه حاسرا أو مسربلا

فهذا و في الإسلام أوّل مسلم و أوّل. من صلّى و صام و هلّلا 49- أبو الأسود الدؤلي يهدّد طلحة و الزبير بقوله:

و إنّ عليّا لكم مصحريماثله الأسد الأسود

أما انّه أوّل العابدين بمكّة و اللّه لا يعبد «1» 50- جندب بن زهير كان يرتجز يوم صفين بقوله:

هذا عليّ و الهدى حقّا معه يا ربّ فاحفظه و لا تضيّعه

فإنّه يخشاك ربّي فارفعه نحن نصرناه على من نازعه

صهر النبيّ المصطفى قد طاوعه أوّل من بايعه و تابعه «2» 51- زفر بن يزيد «3» بن حذيفة الأسدي قال:

فحوطوا عليّا فانصروه فإنّه وصيّ و في الإسلام أوّل أوّل

______________________________

(1) رسالة الاسكافي كما شرح ابن ابي الحديد: 2 ص 259.

(2) كتاب نصر بن مزاحم: 453.

(3) في بعض المصادر: زفير بن زيد.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:374 و إن تخذلوه و الحوادث جمّةفليس لكم عن أرضكم متحوّل «1» 52- النجاشي بن الحارث بن كعب قال:

فقل للمضلّل من وائل و من جعل الغثّ يوما سمينا

جعلت ابن هند و أشياعه نظير عليّ أ ما تستحونا؟!

إلى أوّل النّاس بعد الرسول أجاب النبيّ من العالمينا

و صهر الرّسول و من مثله إذا كان يوم يشيب القرونا؟! «2» 53- جرير بن عبد اللّه البجلي قال:

فصلّى الإله على أحمدرسول المليك

تمام النعم

و صلّى على الطهر من بعده خليفتنا القائم المدّعم

عليّا عنيت وصيّ النبيّ يجالد عنه غواة الامم

له الفضل و السبق و المكرمات و بيت النبوّة لا المهتضم 54- عبد اللّه بن حكيم التميمي قال:

دعانا الزبير إلى بيعةو طلحة من بعد أن أثقلا

فقلنا: صفقنا بايماننافإن شئتما فخذا الأشملا

نكثتم عليّا على بيعةو إسلامه فيكم أوّلا 55- عبد الرحمن بن حنبل [جعل] الجمحي حليف بني الجمح قال:

لعمري لئن بايعتم ذا حفيظةعلى الدين معروف العفاف موفّقا

عفيفا عن الفحشاء أبيض ماجداصدوقا و للجبّار قدما مصدّقا

أبا حسن فارضوا به و تبايعوافليس كمن فيه يرى العيب منطقا

عليّ وصيّ المصطفى و وزيره و أوّل من صلّى لذي العرش و اتّقى «3» 56- أبو عمرو عامر الشعبي الكوفي قال: أوّل من أسلم من الرّجال عليّ ابن أبي طالب و هو ابن تسع سنين. رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي

______________________________

(1) رسالة الاسكافي كما في شرح ابن ابي الحديد: 3 ص 259.

(2) كتاب صفين لنصر بن مزاحم: 66.

(3) كفاية الطالب الحافظ الكنجى: 48.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:375

الحديد 3 ص 260.

57- أبو سعيد الحسن البصري قال: عليّ أوّل من أسلم بعد خديجة. أخرجه أحمد عن عبد الرّزاق عن معمر عن قتادة عنه. و رواه الإسكافي في رسالته عن عبد الرّزاق كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

و قال الحجّاج للحسن و عنده جماعة من التابعين و ذكر عليّ بن أبي طالب:

ما تقول أنت يا حسن؟ فقال: ما أقول؟ هو: أوّل من صلّى إلى القبلة، و أجاب دعوة رسول اللّه. و انّ لعليّ منزلة من ربّه و قرابة من رسوله، و قد سبقت له سوابق لا يستطيع ردّها أحد. فغضب الحجّاج غضبا شديدا و قام عن سريره فدخل بعض البيوت.

و

قال رجل للحسن: ما لنا لا نراك تثني على عليّ و تقرّظه؟ قال كيف؟! و سيف الحجّاج يقطر دما، انّه أوّل من أسلم، و حسبكم بذلك. رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي الحديد 3 ص 258.

58- الإمام محمّد بن عليّ الباقر قال: أوّل من آمن باللّه عليّ بن أبي طالب و هو ابن إحدى عشرة سنة. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260.

59- قتادة بن دعامة الأكمة البصري قال: عليّ أوّل من أسلم بعد خديجة. أخرجه أحمد كما سمعت، و القسطلاني عدّه ممّن قال به في المواهب 1 ص 45، و أقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص 242.

60- محمّد بن مسلم المعروف بابن شهاب «1» عدّه القسطلاني في المواهب 1 ص 45، و أقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص 242 من القائلين بأنّ عليّا أوّل من أسلم.

61- أبو عبد اللّه محمّد بن المكندر المدني قال: علي اوّل من أسلم. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

62- أبو حازم سلمة بن دينار المدني قال: عليّ أوّل من أسلم. تاريخ الطبري 1 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

______________________________

(1) نسبة الى جد جده.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:376

63- أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرّحمن المدني قال: عليّ أوّل من أسلم. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

64- أبو النضر محمّد بن السائب الكلبي قال: عليّ أوّل من أسلم، أسلم و هو ابن تسع سنين. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

65- محمّد بن اسحاق قال: كان أوّل ذكر آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى معه و صدّقه بما جاءه من عند

اللّه عليّ بن أبي طالب و هو يومئذ ابن عشر سنين «1» و كان ممّا أنعم اللّه به على عليّ بن أبي طالب انّه كان في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل الإسلام.

و قال: و ذكر بعض أهل العلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان إذا حضرت الصّلاة خرج إلى شعاب مكّة و خرج معه عليّ بن أبي طالب، مستخفيا من عمّه أبي طالب و جميع أعمامه و سائر قومه فيصلّيان الصّلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء اللّه أن يمكثا، ثمّ إنّ أبا طالب عثر عليهما يوما و هما يصلّيان فقال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا ابن أخي ما هذا الدين؟ الحديث.

تاريخ الطبري 2 ص 213. سيرة ابن هشام 1 ص 264، 265. سيرة ابن سيّد الناس 1 ص 93. الكامل لابن الأثير 4 ص 22. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 260. السيرة الحلبيّة 1 ص 287.

66- جنيد بن عبد الرّحمن قال: أتيت من حوران إلى دمشق لآخذ عطائي فصلّيت الجمعة ثمّ خرجت من باب الدرج فإذا عليه شيخ يقال له: أبو شيبة القاصّ يقصّ على الناس، فرغّب فرغبنا، و خوّف فبكينا، فلمّا انقضى حديثه قال: اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب. فلعنوا أبا تراب عليه السّلام فالتفت إليّ من على يميني فقلت له: فمن أبو تراب؟ فقال: عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول اللّه، و زوج ابنته، و أوّل النّاس إسلاما، و أبو الحسن و الحسين. فقلت: ما أصاب هذا القاصّ؟! فقمت إليه و كان ذا وفرة فأخذت و فرته بيدي و جعلت ألطم وجهه

______________________________

(1) في الكامل لابن الاثير: 2 ص

32. احدى عشرة سنة. نقلا عن ابن اسحاق.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:377

و أبطح برأسه الحائط، فصاح فاجتمع أعوان المسجد فوضعوا ردائي في رقبتي و ساقوني حتّى دخلوني على هشام بن عبد الملك و أبو شيبة يقدمني فصاح يا أمير المؤمنين؟ قاصّك و قاصّ آبائك و أجدادك أتى إليه اليوم أمر عظيم. قال:

من فعل لك؟ فقال: هذا. فالتفت إليّ هشام و عنده أشراف النّاس فقال:

يا أبا يحيى؟ متى قدمت؟ فقلت: أمس و أنا على المصير إلى أمير المؤمنين فادركتني صلاة الجمعة فصلّيت و خرجت إلى باب الدرج فإذا هذا الشيخ قائم يقصّ فجلست إليه فقر أ فسمعنا، فرغّب من رغّب، و خوّف من خوّف؛ و دعا فأمّنا، و قال في آخر كلامه: اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب، فسألت من أبو تراب؟

فقيل: عليّ بن أبي طالب، أوّل الناس إسلاما، و ابن عم رسول اللّه، و أبو الحسن و الحسين، و زوج بنت رسول اللّه. فو اللّه يا أمير المؤمنين؟ لو ذكر هذا قرابة لك بمثل هذا الذكر و لعنه بمثل هذا اللعن لأحللت به الذي أحللت، فكيف لا أغضب لصهر رسول اللّه و زوج ابنته؟! فقال هشام: بئس ما صنع. تاريخ ابن عساكر 3 ص 407.

هذه جملة من النصوص النبويّة، و الكلم المأثورة عن أمير المؤمنين و الصحابة و التابعين في أنّ عليّا أوّل من أسلم: و هي تربو على مائة كلمة، أضف إليها ما مرّج 2 ص 276 من أنّ أمير المؤمنين سبّاق هذه الأمّة. و اشفع الجميع بما أسلفناه ج 2 ص 306 من أنّه صلوات اللّه عليه صدّيق هذه الامة، و هو الصدّيق الاكبر.

فهل تجد عندئذ مساغا لمكابرة ابن كثير تجاه هذه الحقيقة الراهنة و قوله:

و قد ورد في أنّه أوّل من أسلم. إلخ؟!؟! فإذا لا يصحّ مثل هذه فما الّذي يصحّ؟

و إن كان لا يصحّ شي ء منها فما قيمة تلك الكتب المشحونة بها؟! كلا، إنّها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.

و أنت ترى الرجل يزيف هذه الكلم و النصوص الكثيرة الصحيحة بحكم الحفّاظ الأثبات بكلمة واحدة قارصة، و يعتمد في إثبات أيّ أمر يروقه في تاريخه على المراسيل و المقاطيع و الآحاد، و نقل المجاهيل و أفناء الناس «1».

______________________________

(1) الغدير: ج 3 ص 219- 239.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:378

(1)

مناظرة بين المأمون و اسحاق [في إسلام علي ع]:

و لقد دارت بين المأمون العباسي و إسحاق و هو من العلماء المشهورين حوار طريف في هذا المجال ينقله ابن عبد ربّه في كتابه «العقد الفريد» نذكر هنا خلاصته:

قال المأمون: يا إسحاق أي الأعمال كان أفضل يوم بعث اللّه رسوله؟

ابن إسحاق: الإخلاص بالشهادة.

المأمون: أ ليس السبق الى الإسلام؟

ابن إسحاق: نعم.

المأمون: اقرأ ذلك في كتاب اللّه يقول: «و السابقون السابقون اولئك المقرّبون» إنّما عني من سبق إلى الإسلام، فهل علمت أحدا سبق عليّا إلى الإسلام؟

ابن إسحاق: إنّ عليا أسلم و هو حديث السنّ لا يجوز عليه الحكم و أبو بكر أسلم و هو مستكمل يجوز عليه الحكم.

(2) و هنا أمسك المأمون بزمام الكلام و قال:

أخبرني عن إسلام عليّ حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعاه إلى الإسلام، أو يكون إلهاما من اللّه؟

قال إسحاق: بل دعاه رسول اللّه الى الإسلام.

قال المأمون: يا إسحاق هل يخلو رسول اللّه حين دعاه الى الإسلام من ان يكون دعاه بأمر من اللّه أو تكلّف ذلك من نفسه؟

ثمّ قال: يا اسحاق لا تنسب رسول اللّه إلى تكلّف

فإن اللّه يقول: «وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ».

فإذا دعاه بأمر اللّه و ليس من صفة الجبّار- جلّ ذكره- أن يكلّف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم، أ فتراه في قياس قولك يا إسحاق؟ أن عليا أسلم صبيا لا يجوز عليه الحكم قد تكلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من دعاء

سيد المرسلين ،ج 1،ص:379

الصبيان ما لا يطيقون «1».

و على هذا الاساس يجب اعتبار ايمان علي عليه السّلام ايمانا صحيحا ثابتا لم يقلّ عن إيمان الآخرين أهمية و قيمة بل هو افضل مصداق لقوله تعالى:

«وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ»، هو الإمام علي بن أبي طالب.

(1)

قضيّة «انقطاع الوحي»:
اشارة

لقد أضاءت روح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نفسه الشريفة و استنارت بنور الوحي، و دفعه ذلك الى التأمّل و التفكير في الوظيفة الكبرى و الثقيلة التي جعلها اللّه على كاهله، و خاصة عند ما خاطبه اللّه تعالى بقوله:

«يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ» «2».

و هنا طرح المؤرخون و بخاصّة الطبريّ الّذي لا يخلو تاريخه من الاساطير الاسرائيليّة قضيّة باسم «انقطاع الوحي» فقالوا: إن رسول اللّه بعد أن رأى ذلك الملك و سمع منه الآيات الاولى من القرآن الكريم بقي ينتظر نزول خطاب آخر من جانب اللّه تعالى، و لكن دون جدوى، فهو لم ير ذلك الملك الجميل بعد ذلك، و لا أنه سمع النداء الغيبيّ مرة اخرى على غرار ما رأى و سمع في بدء نزول الوحي.

(2) و لو كان لانقطاع الوحي في بداية عهد الرسالة (الذي ادّعاه هؤلاء) حقيقة فما هو سوى النزول التدريجي للقرآن ليس إلّا.

و قد تعلّقت المشيئة الالهية اساسا بأن ينزل الوحي على رسول اللّه تدريجا، لا دفعة واحدة و ذلك

لمصالح معينة، و حيث أن الأمر في بدء الوحي كان على أوّله و في بدايته، لذلك لم ينزل الوحي الالهي بعد المرة الاولى فورا، و لكن حمل هذا على «انقطاع الوحي» و لم يكن لا انقطاع الوحي و لا أية مسألة اخرى من

______________________________

(1) العقد الفريد: ج 5 ص 352 طبعة بيروت دار الكتب العلمية و ج 5 ص 94 طبعة لجنة التأليف القاهرة.

(2) المدثر: 1- 3.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:380

هذا القبيل.

(1) و حيث أن هذه المسألة قد تذرّع بها الكتاب المغرضون لذلك ينبغي أن نعطيها بعض. الاهتمام ليتضح أن ما ادّعي من انقطاع الوحي، قضية فارغة عن الحقيقة و لذلك لا صحّة لتطبيق الآيات القرآنية عليها.

و لتوضيح هذا الأمر ننقل هنا نصّ ما كتبه الطبريّ و نقله في تاريخه، ثم نعمد بعد ذلك الى نقده.

يكتب الطبري في هذه الصدد قائلا: لمّا أبطأ جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جزع جزعا شديدا قالت له خديجة: ما أرى ربك إلا قد قلاك، فانزل اللّه عزّ و جلّ قوله: «وَ الضُّحى. وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى. وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى. أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» «1».

و لقد أوجد نزول هذه الآيات سرورا عظيما لدى خديجة عليها السّلام، و علمت بأن ما قالته حول رسول اللّه لا أساس له من الصحة «2».

(2)

اسطورة و ليس تاريخا!

إنّ ذاكرة التاريخ تحفظ و تتذكر جيّدا تاريخ حياة السيدة خديجة.

إن خديجة التي كانت أخلاق محمّد الفاضلة و خصاله المجيدة، و

افعاله الحميدة ماثلة امام عينيها و التي كانت تؤمن بعدل ربّها كيف يجوز ان تسي ء الظن باللّه تعالى و بنبيه الكريم، العظيم الشأن؟

إنّ مقام النبوّة و منصب الرسالة، و السفارة الالهية لا يعطى إلّا لمن يملك طائفة من الصفات النبيلة و الخصال الرفيعة، و ما لم يتصف شخص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. هذه الصفات العليا، و ما لم تتوفر فيه مثل هذه الشرائط الخاصّة

______________________________

(1) الضحى: 1- 11.

(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 48.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:381

و المواصفات المعينة لم يمنح له ذلك المنصب قط. و تقع العصمة و السكينة القلبية، و الاعتماد و التوكل في طليعة هذه الخصال و المواصفات، و مع هذه الأوصاف و الخصال يستحيل أن يدور في خلده مثل تلك التصورات الخاطئة.

و لقد قال العلماء: إن المسيرة التكاملية عند الأنبياء تبدأ من فترة الطفولة و الصبا، فان الغشاوات و الحجب تبدأ تتساقط و تنقشع الواحدة تلو الاخرى منذ ذلك الوقت، و يستمر ذلك حتى تصل الاحاطة العلمية لديهم حدّ الكمال فلا يشكّون في شي ء يرونه أو يسمعونه أبدا، و من حاز هذه المراتب لا يمكن أن يتطرق الشك و الحيرة و التردّد الى قلبه و عقله مطلقا.

(1) إنّ آيات سورة «الضحى» و خاصة عبارة «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» تفيد فقط بأن هناك من قال مثل هذه العبارة للنبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا من هو قائلها؟ و كم تركت هذه العبارة من تأثير في نفسية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و روحيته فهي ساكتة عن كل ذلك؟

و ذهب بعض المفسّرين إلى أن قائلها هم بعض المشركين، و لهذا الاحتمال لا تكون جميع الآيات مرتبطة ببدء

الوحي، لأنه لا أحد غير «علي» و «خديجة» كان يعرف في بدء البعثة بنزول الوحي، ليتسنّى له أن يعترض على رسول اللّه، و يعيّره بانقطاع عنه بعد ذلك، فإن أمر المبعث و الرسالة- كما سنقول ذلك فيما بعد- بقي خافيا على أكثر المشركين لمدة ثلاثة اعوام تماما، فهو لم يكن مكلّفا بابلاغ رسالته إلى عامة الناس، إلى أن نزل قوله تعالى: «فاصدع بما تؤمر» الذي أمره اللّه فيه بالجهر بأمر رسالته لعامة الناس بلا استثناء.

(2)

إختلاف المؤرخين في مسألة «انقطاع الوحي»:
اشارة

لم يرد في القرآن الكريم أي ذكر مطلقا لمسألة (انقطاع الوحي) بل لم ترد به إشارة أيضا، إنما نلاحظها في كتب السيرة و التفسير فقط، و يختلف كتّاب السيرة و المؤرّخون في علة (انقطاع الوحي) هذا، و مدته اختلافا كبيرا يجعلنا لا نعتمد على أي واحد منها، و ها نحن نشير إليها بشكل ما:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:382

(1) 1- ان اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن اصحاب الكهف، و عن الروح، و عن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة و السّلام: سأخبركم غدا، و لم يستثن، فاحتبس عنه الوحي «1».

بناء على هذا لا يمكن ان نربط هذه المسألة ببدء الوحي و مطلع عهد الرسالة لان اتصال علماء اليهود و احبارهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله عن طريق قريش و سؤالهم اياه حول هذه الامور الثلاثة، وقع في حدود السنة السابعة من البعثة يوم نوجه وفد من قريش إلى المدينة ليسألوا علماء اليهود عن صحة ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فاقترح اليهود عليهم ان يسألوا النبي عن تلك الامور الثلاثة «2».

(2) 2- قالت خولة و هي امرأة كانت تخدم رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله أن جروا دخل البيت فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي اللّه صلّى اللّه عليه و آله أياما لا ينزل عليه الوحي، فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من البيت كنست خولة تحت السرير فاذا جرو ميّت فأخذته و القته خلف الجدار فأنزل اللّه تعالى هذه السورة و لما نزل جبرئيل سأله النبي صلّى اللّه عليه و آله عن التأخر فقال: «أ ما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب و لا صورة» «3».

(3) 3- إن المسلمين قالوا: يا رسول اللّه، ما لك لا ينزل عليك الوحي؟ فقال:

«و كيف ينزل عليّ و أنتم لا تقصّون أظفاركم و لا تأخذون من شواربكم»؟ «4» فنزل جبرئيل بهذه السورة.

(4) 4- اهدى عثمان الى النبي صلّى اللّه عليه و آله عنقود عنب و قيل عذق تمر فجاء سائل فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدّمه إليه صلّى اللّه عليه و آله ثانيا ثم عاد السائل فأعطاه و هكذا ثلاث مرات فقال صلّى اللّه عليه و آله: ملاطفا لا غضبان: أسائل أنت يا فلان أم تاجر؟ فتأخر الوحي أياما فاستوحش فنزلت

______________________________

(1) روح المعاني: ج 30 ص 157، السيرة الحلبية: ج 1 ص 310 و 311.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 300 و 301.

(3) تفسير القرطبي: ج 10 ص 83 و 71، السيرة الحلبية: ج 1 ص 349.

(4) نفس المصدر.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:383

السورة «1».

(1) 5- إن جروا لأحد نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله أو أحد أقربائه حال دون نزول الوحي عليه «2».

(2) 6- إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما سأل جبرئيل عن تأخّر الوحي قال جبرئيل، لا املك من نفسي شيئا إنّما

أنا عبد مأمور «3».

ثم ان هناك أقوالا اخرى يمكن الحصول عليها من مراجعة التفاسير «4».

و لكن الطبريّ نقل وجها آخر تمسك به المغرضون و المرضى من الكتّاب و اعتبروه دليلا على طروء الشك على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو أنّ الوحي انقطع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد حادثة (حراء) فقالت خديجة للنبي صلّى اللّه عليه و آله: ما أرى ربّك إلّا قد قلاك!!

فنزل الوحي يقول:

«ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» «5».

(3) و ممّا يدلّ على أهداف هذا النوع من الكتّاب، المريضة، أو عدم تتبّعهم و استقصائهم، أنهم تمسكوا من بين جميع الأقوال بهذا الاحتمال، و استندوا إليه للحكم على شخصية كرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي لم ير في حياته أي أثر للشك و الحيرة مطلقا.

(4) و إننا مع ملاحظة النقاط التالية يمكننا أن نقف على بطلان هذا الاحتمال و تفاهته:

(5) 1- لقد كانت السيدة خديجة من النساء اللواتي أحببن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حبا صادقا و عميقا، فهى التي وفت لزوجها حتى النفس الأخير،

______________________________

(1) تفسير روح المعاني: ج 30 ص 157.

(2) غرائب القرآن في هامش تفسير الطبري: ج 30 ص 108.

(3) تفسير ابو الفتوح الرازي: ج 12 ص 108.

(4) مجمع البيان: ج 10 تفسير سورة و الضحى.

(5) تفسير الطبري: ج 30 ص 148.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:384

و وقفت ثروتها الطائلة لتحقيق أهدافه، و كانت في عام البعثة قد قضيت خمسة عشر عاما من حياتها الزوجية، و لم تر خديجة طوال هذه الفترة من زوجها إلا التقوى و الطهر و لم تلمس منه إلا كرم الصفات و نبل الاخلاق فقد كانت من المصدقين

له صلّى اللّه عليه و آله من أول يوم و كانت تراعي نهاية الأدب في تكليمها معه و عشرتها اياه صلّى اللّه عليه و آله فكيف تتكلم مثل هذه المرأة المؤمنة الوفية، مع زوجها بغليظ القول، و توجه له مثل هذه الكلمة غير المهذّبة، بل و الجارحة؟؟!

(1) 2- إنّ آية: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى» لا تدل على أن «خديجة» قالت مثل هذا الكلام لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بل غاية ما تفيده هذه الآية هي أنّ مثل هذا الكلام قد وجّه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا من هو القائل، و لما ذا قال هذا الكلام؟ فليس ذلك معلوما.

(2) 3- إن ناقل هذه الرواية يصف «خديجة» تارة بأنها طمأنت النبيّ، و سكّنت من روعه إلى درجة أنها منعته عن الانتحار، و لكنه يصفها تارة اخرى بانها قالت له: بأن اللّه عاداه و قلاه، أ لا ينبغي هنا أن نقول: «كن ذكورا ثم أكذب»؟!

(3) 4- إذا كان الوحي قد انقطع بعد حادثة جبل (حراء) و نزول بضع آيات من سورة «العلق» إلى أن نزلت سورة «الضحى»، يتوجب- في هذه الصورة- ان تكون سورة «الضحى» ثاني سورة من حيث الترتيب التاريخي لنزول السور في حين أنّ تاريخ نزول الآيات و السور القرآنية يفيد أنها السورة الحادية عشرة من سور القرآن الكريم. لأن فهرس السور القرآنية حسب نزولها هو كالتالي:

1- العلق.

2- القلم.

3- المزّمّل.

4- المدّثّر.

5- تبّت (المسد).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:385

6- التكوير.

7- الاعلى.

8- الانشراح.

9- و العصر.

10- و الفجر.

11- و الضحى «1».

نعم انفرد اليعقوبي من بين المؤلفين باعتبار سورة الضحى- في تاريخه- «2» السورة الثالثة من حيث تاريخ النزول، و حتى هذا الرأي لا

ينسجم مع القصة المذكورة (انقطاع الوحي).

(1)

الاختلاف في مدة انقطاع الوحي:

لقد تعرّض تحديد مدة انقطاع الوحي بشكله المزعوم لإبهام كبير، فقد ذكر ذلك بصور مختلفة في التفاسير و الأقوال التالية هي:

4 أيّام.

12 يوما.

15 يوما.

19 يوما.

25 يوما.

40 يوما.

و لكن بعد دراسة فلسفة النزول التدريجي للقرآن الكريم سنرى أنّ انقطاع الوحي و توقفه لم يكن حدثا استثنائيا، لأنّ القرآن الكريم أعلن منذ أول يوم أن المشيئة الالهيّة تعلّقت بأن ينزل القرآن بصورة تدريجية، منجّمة إذ يقول تعالى:

«وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» «3».

______________________________

(1) تاريخ القرآن للزنجاني: ص 58.

(2) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 33.

(3) الاسراء: 106.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:386

و يكشف القرآن النقاب- في موضع آخر- عن سرّ نزول القرآن تدريجا إذ قال:

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» «1».

(1) و مع ملاحظة طريقة نزول الآيات و السور القرآنية هذه يجب أن لا يتوقع نزول الآيات كل يوم و كلّ ساعة، و أن ينزل جبرئيل على النبيّ على الدّوام، و يأتي إليه بالآيات دون انقطاع، بل إن الآيات القرآنية كانت تنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في فواصل زمنية مختلفة وفقا للاحتياجات، و بحسب الأسئلة المطروحة على النبي، و لأسرار اخرى في النزول التدريجي شرحها علماء الإسلام «2».

و في الحقيقة لم يكن هناك ما يسمى بانقطاع الوحي، بل كل ما كان في الأمر هو أنّه لم يكن ثمّة ما يوجب النزول الفوري، و المتلاحق للوحي.

______________________________

(1) الفرقان: 32.

(2) راجع للوقوف على هذه المسألة معالم الحكومة الإسلامية: ص 122- 124.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:387

(1)

14 الدعوة السرّيّة و دعوة الأقربين

اشارة

استمرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدعو إلى دينه سرّا مدة ثلاثة أعوام. فهو في هذه السنوات عمد إلى بناء الكوادر و

اعدادها بدل توجيه الدعوة إلى عامّة الناس، فإنّ اعتبارات معيّنة في ذلك الوقت كانت توجب أن لا يجهر بدعوته و لا يعلن عن رسالته، و يكتفي بالاتصالات الفردية السّرية و يدعو اشخاصا معينين إلى دينه.

و قد كانت هذه الدعوة السرّية هي السبب في أن ينجذب الى الدّين الإسلامي جماعة من الناس، و تواجه دعوته صلّى اللّه عليه و آله منهم بالقبول، (2) و قد سجّل التاريخ أسماء هؤلاء السابقين الذين آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في هذه الفترة من عهد الرسالة، و تاريخ الإسلام، و إليك بعضهم:

1- السيدة خديجة بنت خويلد (زوجة النبي).

2- علي بن أبي طالب عليه السّلام.

3- زيد بن حارثة.

4- الزبير بن العوام.

5- عبد الرحمن بن عوف.

6- سعد بن أبي وقاص.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:388

7- طلحة بن عبيد اللّه.

8- أبو عبيدة الجراح.

9- أبو سلمة.

10- الأرقم بن أبي الارقم.

11- عثمان بن مظعون.

12- قدامة بن مظعون.

13- عبد اللّه بن مظعون.

14- عبيدة بن الحارث.

15- سعيد بن زيد.

16- خباب بن الأرتّ.

17- أبو بكر بن أبي قحافة.

18- عثمان بن عفان.

و غيرهم من الذين قبلوا دعوة النبي، و آمنوا بنبوته في هذه الفترة «1».

(1) و لقد كان أقطاب قريش و أسيادها منهمكين- طيلة هذه الاعوام الثلاثة- في لهوهم و مجونهم، و مع أنهم كانوا قد عرفوا بعض الشي ء عن دعوة النبيّ السرّية إلّا أنّهم لم يظهروا أيّة ردة فعل تجاهها، و لم يقوموا بشي ء ضدّها.

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في هذه السنوات التي تعتبر فترة صباغة الفرد يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكة للصلاة فيها بعيدا عن أنظار قريش.

و اتفق أن رآهم بعض المشركين في ما كانوا يصلّون

في شعب من شعاب مكة، و استنكروا عملهم هذا، و أدّى ذلك إلى منازعة عابرة بينهم و بين المشركين جرح على أثرها أحد المشركين على يدي «سعد بن أبي وقاص» احد المسلمين، و من هنا قرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اتخاذ بيت «الأرقم بن أبي الأرقم» محلا

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 245 و 262.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:389

للعبادة بدل شعاب مكّة، ليستطيع القيام فيه بالتبليغ و العبادة بحريّة و أمان، بعيدا عن أعين المشركين «1».

و لقد كان «عمّار بن ياسر» و «صهيب بن سنان» الروميّ ممّن آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك البيت «2».

(1)

دعوة الأقربين:
اشارة

يشرع العقلاء من الناس من اصحاب البرامج الواسعة و المشاريع الكبرى اعمالهم الكبرى- عادة- من بدايات صغيرة و نقاط محددة، فإذا حقّقوا نجاحا في هذه البدايات بادروا الى توسيع نطاق نشاطهم فورا، و هكذا جنبا الى جنب مع النجاحات التي يحقّقونها في كل خطوة يوسّعون دائرة العمل، و يجتهدون في تحقيق المزيد من النجاح، و التكامل لما هم يصدده.

و لقد سأل أحد الشخصيات زعيما في دولة كبيرة من الدول الكبرى المعاصرة: ما هو سرّ نجاحكم في الاعمال الاجتماعية و ما هو الأمر الذي يساعدكم على النجاح في مشاريعكم؟

فأجابه ذلك الزعيم قائلا: ان طريقة عملنا نحن الغربيّين تختلف عن طريقتكم انتم أهل الشرق، فنحن دائما نخطّط لمشاريع كبرى و نبدأ من مكان صغير، و بعد إحراز النجاح نعمد إلى توسيع نطاق العمل، و اذا اكتشفنا في منتصف الطريق خطأ برنامجنا غيّرنا اسلوب عملنا، و عدلنا إلى طريقة اخرى، و بدأنا بعمل آخر.

(2) أما أنتم الشرقيون فتدخلون ساحة العمل في برامجكم الكبرى من مكان كبير، و تبدءون

من نقطة واسعة، و تحاولون تطبيق مشروعكم جملة واحدة، فاذا واجهتم في خلال العمل طريقا مسدودة لم يكن في إمكانكم ان ترجعوا من

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 61.

(2) هذا البيت كان عند جبل الصفا، و كان معروفا إلى مدة ب: دار الخيزران» اسد الغابة: ج 4 ص 44، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 192، السيرة الحلبية: ج 1 ص 283.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:390

منتصف الطريق إلّا بتحمل خسائر كبرى فادحة.

(1) هذا مضافا إلى أن أنفسكم كأنها قد عجنت بالعجلة و لذلك تودّون قطف ثمار جهودكم و نتيجة عملكم في الحال دون ما صبر و ترقّب و انتظار، و هذه هي بنفسها طريقة تفكير اجتماعيّة خاطئة، من شأنها أن تجعل الإنسان أمام طرق مسدودة كثيرة و غريبة.

هذا ما قاله ذلك الغربيّ.

و لكن الذي نتصوره و نعتقده نحن هو: أن هذه الطريقة من التفكير لا ترتبط لا بالشرق و لا بالغرب، بل هي ميزة العقلاء الاذكياء من الناس، فانهم يعتمدون هذا الاسلوب لانجاح مهامّهم، و تحقيق مقاصدهم.

و لقد اتبع قائد الإسلام الاكبر الرسول الاعظم صلّى اللّه عليه و آله هذه الطريقة في عمله الرسالي فركّز جهده على الدعوة السرّيّة إلى دينه مدة ثلاثة أعوام من دون تعجّل، و كان يعرض دينه على كل من وجده أهلا للدعوة، و مستعدّا من الناحية الفكرية للتبليغ.

فرغم أنّه كان يهدف الى تشكيل دولة عالمية كبرى ينضوي تحت لوائها (لواء التوحيد) جميع أفراد البشرية، إلّا أنه لم يعمد إلى الدعوة العامة طيلة هذه الأعوام الثلاثة، بل لم يوجّه الدعوة الخاصة حتى إلى أقاربه، إنّما اكتفى بالاتصال الشخصي بمن وجده مؤهلا و صالحا للدعوة، و مستعدّا لقبول الدّين، حتى انّه استطاع

في هذه الأعوام الثلاثة أن يكسب فريقا من الأتباع من الذين اهتدوا إلى دينه و قبلوا دعوته.

(2) و قد كان زعماء قريش- كما اسلفنا- منهمكين طوال هذه الأعوام الثلاثة في اللذّة و الهوى و كان فرعون «مكة» و طاغيتها: «أبو سفيان» و جماعته كلما سمعوا بالدّعوة اطلقوا ضحكة استهزاء و قالوا لانفسهم: إنّها أيّام و تنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فورا تماما كما انطفأت من قبل دعوة «ورقة» و «اميّة» (اللّذين أخذا يحبّذان الى العرب التوجه نحو المسيحية و نبذ الوثنية بعد أن قرءا الانجيل و التوراة) و بالتالي لن يمرّ زمان حتى ينسى هذا الأمر، و يغدو خبرا بعد أثر، بل

سيد المرسلين ،ج 1،ص:391

لا شي ء يذكر.

بهذا التصوّر، و بهذه العقليّة واجهت زعامة «مكة» دعوة النبي في البداية، (1) و لهذا لم يقم زعماء قريش خلال هذه السنوات الثلاث بأيّ عمل عدائيّ ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بل ظلّوا ينظرون إليه بنظر الاحترام، و يراعون معه قواعد الأدب و السلوك، و كان النبيّ هو أيضا لا يتعرض لأصنامهم و آلهتهم في هذه الأعوام الثلاثة بسوء و لا يتناولها بالنقد و الاعتراض بصورة علنية، بل كان مركّزا جهده على الاتصال الشخصي بذوي البصائر من الأشخاص و هدايتهم إلى دينه الحنيف.

و لكن منذ أن بدأ النبيّ دعوة الأقربين و أخذ ينتقد و ثنيّتهم، و يذكر أوثانهم بسوء و يعترض على تصرفاتهم الإنسانية أصبح حديث الألسن. و منذ ذلك اليوم أيضا بدأت يقظة قريش، و عرفوا أمر محمّد يختلف عن أمر «ورقة» و «اميّة» اختلافا بينا و ان المبين الدعوتين فرقا كبيرا، و لهذا بدأت المعارضة و المخالفة السرّية و العلنية، لدعوة النبيّ.

و قد بدأ النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله بكسر جدار الصمت بدعوة أقربائه إلى دينه ثم شرع بعد ذلك بدعوة الناس أجمعين.

(2) على أنه ما من شك في أنّ الاصلاحات العميقة التي يراد لها ان تترك أثرا في جميع شئون الناس و كل مناحي حياتهم، و تغيّر مسير المجتمع تحتاج قبل أيّ شي ء إلى قوتين:

1- قوة البيان، بأن يستطيع الداعية و المصلح بيان الحقائق التي جاء بها من أفكاره الخاصة، أو ما تلقّاه عن طريق آخر الى الناس باسلوب جذاب، يأسر القلوب، و يسحر العقول.

2- القوة الدفاعية التي يستطيع تشكيل خطّ دفاعي منها عند التعرض لهجوم الأعداء و الخصوم، و في غير هذه الصورة ستنطفئ شعلة الدعوة و يفشل المصلح في خطاه الاولى.

(3) و لقد كان البيان لدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أعلى مرتبة من

سيد المرسلين ،ج 1،ص:392

الكمال فكان قادرا كأقوى خطيب على بيان تعاليم دينه للناس في غاية الفصاحة و البلاغة. و لكنه كان يفتقر في الأيام الاولى من دعوته إلى عنصر (القوة الثانية)، أي (القوة الدفاعية)، الرادعة الحامية، لأنه استطاع في السنوات الثلاث الاولى من رسالته أن يضم إلى دعوته قرابة أربعين شخصا، و ذلك في الظروف السرّية الشديدة، و لا ريب ان تلك القلة القليلة من الاتباع لم تكن قادرة على أن تتولّى مسئولية الدفاع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و حماية رسالته.

من هنا عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- و بهدف تحصيل القوّة الدفاعية المطلوبة و تشكيل النواة المركزية إلى دعوة أقربائه إلى دينه قبل التوجّه بالدعوة الى عامة الناس، ليتمكّن من هذا الطريق أن يزيل النقص من جهة عدم وجود القوة الثانية، و يكوّن منهم سياجا

قويا يحفظه، و يحفظ رسالته من الأخطار المحتملة.

على أن فائدة هذه الدعوة كانت على الأقل دفع أبناء عشيرته إلى الدفاع عنه بدافع القربى و الرحم على فرض انهم لم يؤمنوا برسالته، و لم يقبلوا دعوته.

(1) هذا مضافا إلى انه صلّى اللّه عليه و آله كان يعتقد ان أي إصلاح و تغيير لا بد أن يبدأ من إصلاح الداخل و تغييره، فما لم يستطع الإنسان من إصلاح أبنائه و أقربائه و ردعهم عن قبائح الأفعال لا يمكن لدعوته أبدا أن تؤثر في الأجانب و الأبعدين، لأنّ المناوئين سيعترضون عليه لدعوته في هذه الحالة، و يشيرون إلى أفعال أبنائه و عشيرته.

من هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين إذ خاطبه قائلا:

«وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» «1».

كما أنه خاطبه بصدد دعوة الناس عامّة بقوله:

«فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» «2».

______________________________

(1) الشعراء: 214.

(2) الحجر: 94 و 95.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:393

(1)

كيفيّة دعوة الأقربين:

كانت طريقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في دعوة عشيرته الأقربين طريقة جميلة و ذكيّة جدّا، فقد تجلّت في ذلك حقيقة أوضحت اسرار هذه الدعوة في ما بعد اكثر فأكثر.

فانّ المفسرين كتبوا عند قوله تعالى: «و انذر عشيرتك الاقربين» و كذا الأغلبية القريبة للاجماع من المؤرخين أن اللّه أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن ينذر عشيرته الأقربين و يدعوهم إلى دينه و رسالته فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علي بن أبي طالب الذي كان آنذاك في ربيعه الثالث عشر أو الخامس عشر بأن يعدّ طعاما و لبنا، ثم دعا صلّى اللّه عليه و آله خمسا و أربعين رجلا من سراة بني هاشم و وجوههم، و عزم على أن يبوح

لضيوفه و يكشف لهم من امر رسالته في خلال تلك الضيافة إلّا أنه- و للأسف- ما أن انتهوا من الطعام حتى بادر أبو لهب فتكلّم بكلمات سخيفة قبل أن يتحدّث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ممّا جعل الجوّ غير مناسب لأن يطرح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله موضوع رسالته عليهم، فانفض المجلس دون تحقيق هذا الغرض.

(2) و لما كان من غد أمر النبيّ عليا عليه السّلام باعداد الطّعام و اللّبن ثانية، و كرّر دعوة تلك الجماعة، إلى ضيافة اخرى، و بعد أن فرغوا من الطعام تكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال:

«إنّ الرائد لا يكذب أهله و اللّه الّذي لا إله إلا هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصّة و إلى النّاس عامّة و اللّه لتموتنّ كما تنامون و لتبعثنّ كما تستيقظون و لتحاسبنّ بما تعملون و إنها الجنّة أبدا و النّار أبدا».

ثم قال:

«يا بني عبد المطّلب انّي و اللّه ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، انّي قد جئتكم بخير الدّنيا و الآخرة و قد أمرني اللّه عزّ و جلّ أن ادعوكم إليه فأيّكم يؤمن بي و يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و

سيد المرسلين ،ج 1،ص:394

وصيّي و خليفتي فيكم»؟

(1) و لما بلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى هذه النقطة- و بينما أمسك القوم و سكتوا عن آخرهم اذ كان كل واحد منهم يفكّر في ما يؤول إليه هذا الأمر العظيم، و ما يكتنفه من أخطار- قام «عليّ» عليه السّلام فجأة، و هو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره، و قال و هو يكسر بكلماته الشجاعة- جدار الصمت و الذهول-:

أنا يا رسول

اللّه أكون وزيرك على ما بعثك اللّه».

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اجلس، ثم كرّر دعوته ثانية و ثالثة و في كل مرة يحجم القوم عن تلبية مطلبه، و يقوم «عليّ» و يعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ، و يأمره رسول اللّه بالجلوس حتى إذا كان في المرة الثالثة أخذ رسول اللّه بيده و التفت الى الحاضرين من عشيرته الاقربين و قال:

«إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم (أو عليكم) فاسمعوا له، و أطيعوا».

فقام القوم يضحكون، و يقولون لأبي طالب «قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع و جعله عليك أميرا» «1».

إن ما كتبناه هو- في الحقيقة- خلاصة لحديث مفصّل رواه اكثر المفسرين و المؤرخين بعبارات مختلفة، و لم يشكّك في صحّته أحد، بل اعتبروه من مسلّمات التاريخ، الا «ابن تيمية» الذي اتخذ موقفا خاص من أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و عليهم أجمعين.

(2)

خيانة تاريخيّة و جناية أدبيّة!!

إن تحريف الحقائق و قلبها، أو إخفاء الوقائع لهو حقا من أوضح مصاديق

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 62 و 63، تاريخ الكامل: ج 2 ص 40 و 41، مسند أحمد: ج 1 ص 111، و شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 13 ص 210 و 211.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:395

الخيانة و الجناية.

و لقد سلك فريق من الكتّاب المتعصبين عبر التاريخ للاسف مثل هذا الطريق المقبوح، و أسقطوا مؤلّفاتهم العلميّة و التاريخيّة بارتكابهم خطيئة التحريف في جملة من الحقائق، من الاعتبار، و هم يخالون ان عملهم قادر على ان يبقي الحقائق في هالة الإهمال و الغموض.

إلّا أنّ أمر هؤلاء قد انكشف مع انقضاء الزّمن، و تكامل العلم، و دفع بفريق من أهل التحقيق و الإنصاف الى أن يمزقوا

بأطراف اقلامهم حجب الزيف و التحريف و يظهروا الوقائع و الحقائق على حقيقتها.

(1) و إليك في ما يأتي بعض هذا الخيانات:

1- لقد ذكر محمّد بن جرير الطبري (المتوفى عام 310 ه) في تاريخه حادثة دعوة الأقربين بشكل مفصّل و على النحو الذي مرّ على القارئ الكريم.

بيد أنه حرّف في تفسيره «1» و كتم، فهو عند تفسير قوله تعالى: «و أنذر عشيرتك الأقربين» يذكر كلّ ما ذكره في تاريخه، و لكنّه يغيّر و يبدّل في قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث يقول: «على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي»، فهو يكتب في تفسيره هكذا: «على أن يكون كذا و كذا».

و لا ريب انّ في تغيير عبارة «أخي و وصيّي و خليفتي عليكم (أو فيكم) إلى:

«كذا و كذا» غرضا مريضا، و هو بالتالي خيانة تاريخية فاضحة.

(2) على أن الطبريّ لم يكتف بهذا القدر من التغيير في كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بل غيّر حتى في الجملة التي تعقبتها و هي قوله صلّى اللّه عليه و آله بعد أن قام عليّ عليه السّلام للمرة الثالثة و أعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ بعد إحجام القوم و سكوتهم: «إن هذا أخي و وصيّي و خليفتي» حيث أبدلها بعبارة:

«إنّ هذا أخي و كذا و كذا»!!!

إن على المؤرخ أن يكون حرا و شهما في كتابة الحقائق و روايتها، فيثبتها

______________________________

(1) تفسير الطبري: ج 19 ص 74.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:396

و يرويها كما هي، بكل شجاعة، وحيدة.

و لا ريب ان الذي دفع بالطبريّ إلى أن يرتكب مثل ذلك التبديل و التغيير هو تعصّبه المذهبي، فهو لا يعتبر الإمام عليّا خليفة رسول اللّه بلا فصل، و حيث أن تينك الكلمتين:

«خليفتي و وصيّي» تصرّحان بخلافة «عليّ» للنبيّ و وصايته بلا فصل لذلك يغيّر و يبدّل حتى ينتصر لمذهبه بالتحريف في شأن نزول هذه الآية أيضا.

(1) 2- و لقد فعل ابن كثير (المتوفى عام 732) نظير هذا في تاريخه «1» و كذا في تفسيره (ج 3 ص 351) و سلك نفس الطريق الذي سلكه- من قبل- سلفه الطبري ضاربا عرض الجدار مبدأ أمانة النقل!!!

و نحن لا نعذر ابن كثير في عمله هذا أبدا، لأنه قد اعتمد- في رواياته التاريخية، في تاريخه و تفسيره معا- تاريخ الطبري، لا تفسيره، و لا شك أنّه قد مرّ على هذه القصة في تاريخ الطبريّ، و لكنّه مع ذلك حاد عن الطريق السويّ فأعرض عن نقل رواية التاريخ- في هذه الحادثة- و عمد- بصورة غير متوقعة- الى نقل رواية التفسير!!!

(2) 3- و الأغرب من تينك الخيانتين ما ارتكبه- في عصرنا الحاضر- وزير المعارف المصرية الأسبق الدكتور «هيكل» في كتابه «حياة محمّد»، و فتح بعمله باب التحريف في وجه الجيل الحاضر.

و العجب ان «هيكل» هاجم- في مقدمته- جماعة المستشرقين بشدة و انتقدهم بعنف لتحريفهم الحقائق التاريخية، و اختلافهم لبعض الوقائع في حين لم يقصر عنهم في هذا السبيل فهو:

(3) أولا: نقل الواقعة المذكورة (دعوة الاقربين المعروفة بحادثة يوم الدار أو حديث بدء الدعوة) في الطبعة الاولى من كتابه المذكور بصورة مبتورة و مقتضبة جدا و اكتفى من الجملتين الحساستين بذكر واحدة منهما فقط و هي: قول النبي مخاطبا

______________________________

(1) البداية و النهاية: ج 2 ص 40.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:397

الحضور في ذلك اليوم: «من يؤازرني يكون أخي و وصيّي و خليفتي» بينما حذف بالمرة الجملة التي قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي

بعد أن قام للمرة الثانية و أعلن موازرته للنبيّ و هي قوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي»!!!

(1) ثانيا: انّه خطى في الطبعات الثانية و الثالثة و الرابعة، خطوة أبعد حيث حذف كلتا الجملتين معا و بهذا قد وجّه ضربة كبرى إلى قيمته ككاتب. و قيمة كتابه، كدراسة تاريخية!!

(2)

النبوّة و الإمامة توأمان:

إن الاعلان عن وصاية عليّ عليه السّلام و خلافته في مطلع عهد الرسالة و بداية أمر النبوّة يفيد- بقوة و وضوح- انّ هذين المنصبين ليسا بأمرين منفصلين، ففي اليوم الّذي يعلن فيه رسول اللّه عن رسالته و نبوّته، يعيّن خليفته و وصيّه من بعده، و هذا يشهد- بجلاء- بأن النبوّة و الإمامة يشكّلان قاعدة واحدة، و أن هذين المنصبين إن هما الّا كحلقتين متصلتين لا يفصل بينهما شي ء.

كما أن هذه الحادثة تكشف- من جانب آخر عن مدى الشجاعة الروحية التي كان يتحلّى بها الإمام امير المؤمنين «عليّ بن ابي طالب» عليه السّلام، حيث قام- في مجلس أحجم فيه الشيوخ الدهاة و السادة المجرّبون عن قبول دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خوفا و تهيّبا- و أعلن بكل شجاعة مؤازرته للنبيّ، و استعداده للتضحية في سبيل دينه و رسالته و هو آنذاك غلام في ربيعه الثالث أو الخامس عشر، و ما حابى أعداء الرسالة و لا ماشاهم كما فعل المصلحون من الساسة و الزعماء المتخوّفون على مصالحهم و مراكزهم آنذاك!!!

(3) صحيح ان «عليّا» عليه السّلام كان في ذلك اليوم أصغر الحاضرين سنّا إلّا أن معاشرته الطويلة للنبيّ قد هيّأت قلبه لتقبّل الحقائق التي تردّد شيوخ القوم في قبولها، بل عجزوا عن دركها و فهمها!!

و لقد اعطى ابو جعفر الإسكافي حق

الكلام في هذا المجال اذ قال:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:398

فهل يكلّف عمل الطعام، و دعاء القوم صغير غير مميّز، وغر غير عاقل، و هل يؤتمن على سرّ النبوة طفل ... و هل يدعى في جملة الشيوخ و الكهول إلّا عاقل لبيب، و هل يضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يده في يده، و يعطيه صفقة يمينه بالاخوة و الوصيّة، و الخلافة، الا و هو أهل لذلك، بالغ حدّ التكليف، محتمل لولاية اللّه، و عداوة أعدائه، و ما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه و لم يلصق بأشكاله، و لم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد اسلامه، و هو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته، و كيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته بل ما رأيناه إلا ماضيا على اسلامه، مصمما في أمره، محققا لقوله بفعله، قد صدّق اسلامه بعفافه و زهده، و لصق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بين جميع من حضرته فهو أمينه و أليفه في دنياه و آخرته «1».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 13 ص 215 و 295.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:399

(1)

15 الدعوة العامّة

اشارة

كان قد انقضى ثلاث سنوات على بدء البعثة يوم عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى دعوة الناس عامة بعد دعوة عشيرية الاقربين.

فقد استطاع خلال السنوات الثلاث الاولى من عمر الدعوة أن يهدي- من خلال الاتصالات السرية- مجموعة من الاشخاص إلى الإسلام و لكنّه دعا هذه المرّة و بصوت عال عامة الناس إلى دين التوحيد.

فقد وقف ذات يوم على صخرة عند جبل الصفا و نادى بصوت عال:

يا صباحاه (و هي كلمة كانت العرب تطلقها كلّما أحسّت بخطر، أو بلغها نبأ مرعب فكانت هذه الكلمة

بمثابة جرس الخطر) «1» فلفت نداء النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا نظر الناس فاجتمع حوله جماعة من أبناء القبائل المختلفة و قالوا له:

مالك؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله: أ رأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقونني؟

______________________________

(1) قال الجزري في النهاية: ج 2 ص 271: صعد النبي صلّى اللّه عليه و آله على الصفا و قال:

يا صباحاه؛ هذه كلمة يقولها المستغيث، و أصلها إذا صاحوا للغارة لانهم اكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح و يسمّون يوم الغارة يوم الصباح، فكأن القائل: يا صباحاه يقول: قد غشينا العدو.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:400

قالوا: بلى.

قال: فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

ثم قال: إنما مثلي و مثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف: وا صباحاه «1».

و لقد كانت قريش تعرف عن دينه بعض الشي ء، قبل هذا و لكنها تملّكها الخوف هذه المرة، و هي تسمع ذلك الانذار القويّ فبادر أحد قادة الكفر إلى تبديد تلك المخاوف فورا إذ قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تبّا لك، أ لهذا دعوتنا؟، و تفرّق على أثرها الناس.

(1)

الثبات و الاستقامة على طريق الهدف:

إن نجاح أيّ شخص مرهون بأمرين:

الأول: الايمان بالهدف.

و الثاني: الاستقامة و الثبات و السعي الدائب لتحقيق ذلك.

إنّ الإيمان هو المحرّك الباطني و القوة الخفية التي تجر الإنسان شاء أم لم يشأ نحو الغاية التي يتوخاها، و تسهّل عليه الصعاب، و تدعوه إلى العمل الدائب لتحقيق مقصوده، لأن شخصا كهذا يعتقد اعتقادا قويّا بأنّ سعادته، و مجده يتوقّفان على ذلك.

و بعبارة اخرى: إذا آمن انسان بأن سعادته و مجده يتوقفان على تحقيق هدف معيّن فانه سيندفع بقوة الإيمان نحو تحقيق ذلك الهدف،

متجاوزا كل الصعاب، و متحديا كل المشكلات في ذلك السبيل.

فالمريض الذي يرى شفاءه في شرب دواء مرّ مثلا سيستسهل شربه.

و الغوّاص الذي يعتقد اعتقادا جازما بأن ثمّة دررا غالية الثمن تحت أمواج البحر سيلقي بنفسه في قلب تلك الأمواج دون ما خوف أو وجل، ليخرج منها بعد

______________________________

(1) السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 194.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:401

دقائق ظافرا بأغلى الجواهر.

بينما إذا كان المريض أو الغوّاص يشكّ في عمله، أو يعتقد بعدم فائدته، فانّه لن يقدم عليه قط و اذا ما أقدم فان عمله سيكون حينئذ مقرونا بالجهد و العناء.

فقوة الإيمان اذن هي التي تذلّل كل مشكل، و تسهّل كلّ صعب.

غير أنه لا ريب في أنّ الوصول إلى الهدف لا يخلو من مشكلات و موانع، فلا بدّ من السعي لرفع تلك الموانع، و إزالة تلكم المشكلات.

و قد قيل قديما: أنّ مع كل وردة أشواك، فكيف يمكن قطف وردة دون أن تدمى أنامل القاطف بالأشواك المحيطة بها؟؟

هذا و قد بيّن القرآن الكريم هذه المسألة (و هي ان رمز السعادة هو: الإيمان بالهدف و الثبات في طريق تحقيقه) في جملة قصيرة اذ قال:

«إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» «1».

(1)

ثبات النبي صلّى اللّه عليه و آله و صبره:

لقد أدّت اتّصالات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الخاصّة. قبل الدعوة العامة، و جهوده الكبرى بعد الجهر بالدعوة، إلى ظهور و تكوين صفّ مرصوص من المسلمين في وجه صفوف الكفر، و الوثنية.

فالّذين دخلوا سرّا في حوزة الإسلام و الإيمان قبل الدعوة العامّة تعرّفوا على المسلمين الجدد الذين لبّوا داعي الإسلام بعد إعلان الرسالة، و شكّل القدامى و الجدد جماعة قوية متعاطفة متحاببة،

و كان ذلك بمثابة إنذار لأوساط الكفر و الشرك و الوثنية، أربكها و جعلها تشعر بالخطر.

على أنّ ضرب نهضة ناشئة و القضاء عليها كان أمرا سهلا لقريش، و لكنّ الذي أرعب قريشا و منعها من توجيه مثل هذه الضربة هي أنّ أفراد هذه

______________________________

(1) فصّلت: 30.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:402

الجماعة، و عناصر هذه النهضة لم يكونوا من قبيلة واحدة، ليمكن مواجهتها و ضربها بكلّ قوة، بل انتمى من كل قبيلة إلى الإسلام، عدد من الأفراد، و من هنا لم يكن اتّخاذ أيّ قرار حاسم بحقّهم أمرا سهلا و بسيطا.

(1) من هنا قرّر سادة قريش و كبراؤها- بعد تداول الأمر في ما بينهم- أن يبدءوا بالقضاء على أساس هذه الجماعة، و محرّك هذا الحزب، و الداعي إلى هذه العقيدة بمختلف الوسائل فيحاولوا ثنيه عن دعوته بالاغراء و التطميع تارة و يمنعوا من انتشار دينه بالتهديد و الايذاء تارة اخرى.

و قد كان هذا هو برنامج قريش و موقفها من الدعوة طيلة عشر سنوات و هي المدة المتبقية من سنوات البعثة من الفترة المكية، الى ان قررت بالتالى قتله، و لكنه استطاع ان يبطل مؤامرتهم بالهجرة إلى المدينة قبل أن يتمكنوا من القضاء عليه.

(2) و لقد كان «أبو طالب» آنذاك زعيم بني هاشم و رئيسها المطلق، و كان رجلا طاهر القلب عالي الهمّة، شجاعا، كريما، و كان بيته ملجأ دافئا للمحرومين و المستضعفين، و ملاذا أمينا للفقراء و الأيتام، و كان يتمتع في المجتمع العربي- علاوة على رئاسة مكة و بعض مناصب الكعبة- بمكانة كبرى و منزلة عظيمة، و حيث أنّه كان كفيلا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد وفاة جدّه «عبد المطلب»، لذلك حضر سادة قريش بصورة جماعية

«1» عنده و قالوا له:

«يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، و عاب ديننا، و سفّه أحلامنا و ضلّل آباءنا، فأمّا أن تكفّه عنّا، و إما أن تخلّي بيننا و بينه».

(3) و لكن «أبا طالب» قال لهم قولا رفيقا و ردّهم ردّا جميلا حكيما، فانصرفوا عنه.

بيد أنّ نفوذ الإسلام و انتشاره كان يتزايد باستمرار، و كانت جاذبيّة الدّين المحمّدي، و بيان القرآن البليغ يساعدان على ذلك، فيترك اثره في الناس،

______________________________

(1) ادرج ابن هشام في سيرته: ج 1 ص 264 و 265 اسماءهم بالتفصيل.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:403

و خاصة في الأشهر الحرم حيث تفد الحجيج على مكة من مختلف أنحاء الجزيرة، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يعرض دينه عليهم، فكانت أحاديثه الجذّابة، و كلماته البليغة، و دينه المحبّب تؤثر في قلوب كثير منهم، فيميلون إلى الإسلام و يقبلون دعوة الرسول.

(1) و هنا أدرك طغاة مكة و فراعنتها أن «محمّدا» قد بدأ يفتح له مكانا في قلوب جميع القبائل، و أصبح له انصار و أتباع في كثير منها، ممّا دفعهم مرّة اخرى إلى الحضور عند «أبي طالب» حاميه الوحيد، و تذكيره بالإشارة و التصريح بالاخطار المحدقة باستقلال المكّيين و عقائدهم نتيجة نفوذ الإسلام و انتشاره فقالوا له أجمع:

يا أبا طالب، إن لك سنّا، و شرفا، و منزلة فينا، و إنّا قد استنهيناك من ابن اخيك فلم تنهه عنّا، و إنا و اللّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، و تسفيه أحلامنا و عيب آلهتنا، حتى تكفه عنّا، أو ننازله و إيّاك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.

(2) فأدرك حامي الرّسول الوحيد- بذكائه و فطنته- أنّ عليه أن يصبر أمام جماعة ترى وجودها، و

مصالحها في خطر، من هنا عمد إلى مسالمتهم و ملاطفتهم، و وعد بأن يبلغ ابن اخيه «محمّد» كلامهم. و قد كان هذا محاولة من «أبي طالب» لتسكين غضب تلك الجماعة الغاضبة و إطفاء نائرتهم، و تهدئة خواطرهم، ليتمّ معالجة هذه المشكلة- بعد ذلك- بطريقة أصح، و أفضل.

و لهذا أقبل- بعد خروج تلك الجماعة من عنده- على ابن اخيه، و ذكر له ما قال له القوم، و هو يريد- بذلك ضمنا- اختبار إيمان «محمّد» بهدفه، فكان الردّ العظيم، و الجواب الخالد الذي يعتبر من أسطع و ألمع السطور في حياة قائد الإسلام الاكبر «محمّد» رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حيث قال لعمّه بعد أن سمع مقالة قريش:

«يا عمّ، و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه، أو اهلك فيه، ما تركته».

ثم اغرورقت عيناه الشريفتان بدموع الشوق و الحب للهدف، و قام و ذهب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:404

من عند عمه.

و كان لتلك الكلمات الصادقة النافذة أثر عجيب في نفس زعيم مكة و سيدها الوقور بحيث نادى ابن اخيه، و أظهر له استعداده الكامل للوقوف الى جانبه، و الحدب عليه رغم كل المخاطر، و المتاعب التي كانت تكمن له اذ قال:

«اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو اللّه لا اسلمك لشي ء أبدا».

(1)

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة:

لقد أقلق انتشار الإسلام المتزائد قريشا، و دفعها إلى التفكير في حيلة، فاجتمع أشرافها و سادتها للتشاور مرّة اخرى و قالوا:

لعل كفالة أبي طالب لمحمّد هي التي تدفعه إلى الدفاع عنه و حمايته و الوقوف الى جانبه في دعوته، فكيف لو مشوا إليه بأجمل فتيان مكة، و طلبوا منه أن يأخذه بدل «محمّد» و

يسلّمه إليهم ليروا فيه رأيهم، و لهذا مشوا الى أبي طالب بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له:

يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش و أجمله، فخذه فلك عقله و نصره، و اتخذه ولدا فهو لك، و أسلم إلينا ابن أخيك هذا، الّذي فرّق جماعة قومك، و سفّه أحلامهم فنقتله، فانما هو رجل برجل!!

فأجابهم أبو طالب و هو مستاء من هذه المساومة الظالمة:

«هذا و اللّه لبئس ما تسومونني! أ تعطوني ابنكم أغذوه لكم، و اعطيكم ابني تقتلونه، هذا و اللّه ما لا يكون أبدا».

فقال «المطعم بن عدي بن نوفل»: و اللّه يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا.

فأجابه أبو طالب قائلا: و اللّه ما أنصفوني و لكنّك قد أجمعت خذلاني، و مظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك «1».

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 67 و 68، السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 266 و 267.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:405

(1)

قريش تحاول تطميع رسول اللّه!

و لما علمت قريش بأنه لا يمكن ارضاء «أبي طالب» بخذلان ابن اخيه «محمّد»، فهو و إن كان لا يتظاهر بالإسلام، إلّا أنه يكنّ لابن أخيه، ودّا عميقا، و محبة كبرى من هنا قرّروا بأن يتركوا مفاوضة، إلّا أنهم فكّروا في خطة اخرى و هي أن يحاولوا إثناء النبيّ عن المضيّ في دعوته بتطميعه بالمناصب، و الهدايا، و الأموال و الفتيات الجميلات، و لهذا مشوا الى بيت «أبي طالب» و دخلوا عليه و محمّد جالس إلى جنبه فتكلّم متكلّمهم و قال: يا محمّد انا بعثنا إليك لنكلّمك، فانا و اللّه لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما ادخلت على قومك لقد شتمت الآباء، و

عيبت الدين، و سببت الآلهة، و سفهت الاحلام، و فرقت الجماعة و لم يبق امر قبيح الّا أتيته فيما بيننا و بينك فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون اكثر مالا، و ان كنت انما تطلب الشرف فينا فنحن نسوّدك و نشرّفك علينا، و ان كان هذا الذي ياتيك تابعا من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك.

(2) فقال ابو طالب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك، يزعمون انك تشتم آلهتهم و تقول و تقول؟

فتكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا عم أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب و تؤدي إليهم بها العجم الجزية.

ففزعوا لكلمته، و لقوله فقال القوم كلمة واحدة: نعم و أبيك عشرا.

قالوا: فما هي، فقال أبو طالب: و أي كلمة هي يا ابن أخي؟

قال: «لا إله الّا اللّه».

فكان هذا الرد مفاجئة قوية لذلك الفريق الذي يأمل في صرف النبي صلّى اللّه عليه و آله عن هدفه، و لهذا قاموا فزعين ينفضون ثيابهم و هم يقولون: «أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشى ء عجاب» «1».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 303، تاريخ الطبري: ج 2 ص 65 و 66.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:406

(1)

نماذج من إيذاء قريش و تعذيبها للمسلمين:

يوم صدع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما امر، و جهر بدعوته للناس و أيس سادة قريش من قبوله لأيّ اقتراح من اقتراحاتهم بعد ما سمعوه يقول: «و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه أو أهلك دونه ما تركته» بدأ في الحقيقة واحدا من

أشدّ فصول حياته، و اكثرها متاعب و مصاعب، لأن قريشا كانت لا تزال إلى ذلك الوقت تراعي حرمته و تحترمه، و تسيطر على أعصابها، و لكنها عند ما فشلت في خططها لجرّه إلى مساومتها اضطرّت إلى تغيير نهجها و اسلوبها معه لتقف دون انتشار دينه مهما كلّف من الثمن مستفيدة في هذا السبيل من كل الوسائل الممكنة.

من هنا قرّر سادة قريش بالاجماع أن يتوسّلوا بسلاح الاستهزاء و السخرية، و الإيذاء و التهديد، بهدف صرفه عن المضيّ في دعوته «1».

و لا يخفى أن المصلح الذي يفكر في هداية العالم البشريّ كله يجب ان يتزود بقدر كبير من الصبر و التحمل، أمام جميع المشكلات و المتاعب، و المكاره و الشدائد ليتغلب عليها شيئا فشيئا، كما كان دأب كل المصلحين الآخرين.

و نحن هنا نورد طرفا من أذى قريش لرسول اللّه و أتباعه ليتضح مدى صبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ثباته، و استقامته على طريق الدعوة.

(2) و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتمتع- مضافا إلى العامل الروحي و المعنويّ الباطني الذي كان يساعده من الداخل أعني الإيمان و الصبر و الاستقامة و الثبات- بعامل خارجيّ تولّى حراسته و حمايته و ذلك حماية بني هاشم، و على رأسهم أبو طالب له صلّى اللّه عليه و آله، لأنه عند ما عرف «ابو طالب» بعزم قريش القاطع على إيذاء ابن أخيه (محمّد) دعا بني هاشم عامة، و طلب منهم جميعا حماية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و القيام دونه، فلبّوا نداء سيّدهم، و أجابوه

______________________________

(1) راجع لمعرفة ابرز من كان يؤذي النبيّ و المسلمين المحبر: ص 157 و 161.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:407

إلى ما دعاهم من حماية

رسول اللّه و حراسته بعض بدافع الايمان و آخر بدافع الرحم، الّا «أبو لهب» و رجلان آخران انضموا الى اعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لكن هذا السياج الدفاعيّ لم يقدر- مع ذلك- على صيانته صلّى اللّه عليه و آله من بعض الحوادث المرّة، لأنّ قريشا ألحقت به الأذى، و أنزلت به مكروها، كلما وجدته وحيدا بعيدا عن أعين حماته.

و إليك فيما يأتي بعض النماذج من ذلك الأذى:

(1) 1- مرّ «أبو جهل» برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند الصفا، فاذاه و شتمه و نال منه ببعض ما يكره من العيب لدينه، و التضعيف لأمره، فلم يكلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مولاة لعبد اللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث «حمزة بن عبد المطلب» رضي اللّه عنه أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له، و كان صاحب قنص يرميه و يخرج له، و كان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، و كان إذا فعل ذلك لم يمرّ على ناد من قريش إلّا وقف و سلّم و تحدّث معهم، و كان أعز فتى في قريش، و أشدّ شكيمة. سيد المرسلين ج 1 407 نماذج من إيذاء قريش و تعذيبها للمسلمين: ..... ص : 406

2) فلما مرّ بالمولاة، و قد رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بيته قالت له: يا أبا عمارة (و تلك هي كنيته) لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمّد آنفا من أبي الحكم بن هشام (و تعنى أبا جهل): وجده هاهنا جالسا فاذاه

و سبّه، و بلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه و لم يكلمه محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

فغضب «حمزة» لذلك، فخرج يسعى و لم يقف على أحد معدّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به.

فلمّا دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم، فاقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجّه شجة منكرة، ثم قال: «أ تشتمه و أنا على دينه أقول ما يقول. فردّ ذلك عليّ أن استطعت».

فقامت رجال من بني مخزوم إلى «حمزة» لينصروا «أبا جهل» فقال أبو جهل:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:408

دعوا أبا عمارة فاني قد سببت ابن أخيه سبّا قبيحا «1». و بهذا منع «أبو جهل» الذي كان ممن يدرك خطورة مثل هذه المواقف من وقوع شجار و قتال.

(1) إنّ التاريخ الثابت و المسلّم يشهد بأنّ وجود رجال ذوي بأس و قوة بين صفوف المسلمين مثل «حمزة» الذي أصبح في ما بعد من كبار قادة الإسلام، قد كان له أثر كبير في حفظ الإسلام، و الحفاظ على حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و دعم جماعة المسلمين، و تقوية جناحهم، فهذا ابن الاثير «2» يقول عن حمزة: لما اسلم حمزة عرفت قريش أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد عزّ و امتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه.

من هنا أخذت قريش تفكّر في إعداد خطط اخرى لمواجهة قضية الإسلام و المسلمين، سنذكرها في المستقبل.

(2) هذا و يرى بعض المؤرّخين مثل ابن كثير الشامي «3» على أن ردود فعل إسلام «أبي بكر» و «عمر» و أثرهما لم تكن بأقلّ من تأثير إسلام «حمزة»، و انّ الدين قوي جانبه باسلام هذين الرجلين، و كسب المسلمون بذلك القوة و الحريّة

في العمل و التحرك، و الحقيقة انه لا شك في انه لكل فرد تأثيره في تقوية و دعم الإسلام، إلّا أنه لا يمكن- القول بحال بأن تأثير إسلام الشيخين كان يعدل تأثير إسلام «حمزة»، فإن «حمزة» ما ان سمع بأن قريشا أساءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّا و توجه، من دون أن يعرّج على أحد، إلى المسي ء و انتقم منه في الحال أشدّ انتقام، و لم يجرأ أحد على الوقوف في وجهه و منع المسي ء منه، و من غضبه و انتقامه، بينما يكتب ابن هشام في سيرته عن «أبي بكر» امرا يكشف عن أن «أبا بكر» يوم دخل في صفوف المسلمين لم يكن قادرا على حماية نفسه، و لا على الدفاع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. (3) و إليك نصّ الواقعة:

مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم على جماعة من قريش و هم جلوس عند الحجر، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، و أحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 291 و 292، تاريخ الطبري: ج 2 ص 72.

(2) الكامل لابن الاثير: ج 2 ص 56.

(3) البداية و النهاية: ج 2 ص 26 و 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:409

كذا و كذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم و دينهم فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم أنا الذي أقول ذلك، فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه (و هم يقصدون قتله) فقام «أبو بكر» دونه و هو يبكي و يقول: أ تقتلون رجلا يقول ربّي اللّه؟

فانصرفوا عنه (و لم يقتلوه لأمر رأوه)، فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى منزله، و رجع «أبو

بكر» يومئذ و قد صدعوا فرق رأسه «1».

(1) إن هذه الرواية التاريخية اذا دلّت على مشاعر الخليفة تجاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلّا أنها تدل قبل أي شي ء على عجزه و ضعفه.

إنه يدلّ على أنه لم يملك ذلك اليوم لا أية مقدرة بدنية و روحية، و لا أية مكانة اجتماعية ترهب، و حيث أنّ إلحاق الأذى بشخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان ينطوي- في نظر قريش ذلك على عواقب لا تحمد- لذلك تركوا رسول اللّه، و وجّهوا ضربتهم إلى رفيقه و صدعوا فرق رأسه.

و لو أنك قارنت بين هاتين الحادثتين و قايست بين موقف «حمزة» الشجاع و موقف الخليفة الأوّل هذا لاستطعت أن تقضي بسهولة بأنّ عزة الإسلام و قوة المسلمين، و تعزيز موقفهم، و خوف الكفار كان يعود إلى إسلام أيّ واحد من ذينك الرجلين؟

(2) هذا و ستقرأ في القريب العاجل كيفية إسلام «عمر». و سترى بأنّ إسلامه- كاسلام صديقه- لم يزد هو الآخر من قدرة المسلمين الدفاعية، و أنهم بالتالي لم يعتزوا باسلامه.

فيوم أسلم «عمر» كاد أن يقتل لو لا «العاص بن وائل السهمي» لأنه هو الذي خاطب الذين قصدوا قتل «عمر» قائلا: رجل اختار لنفسه أمرا فما ذا تريدون منه؟ أ ترون بني عديّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا، خلّوا عن الرجل» «2».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 289 و 290، و قد ذكر الطبري في تاريخه: ج 2 ص 72 قصة صدع رأس أبي بكر بالتفصيل فراجع.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 349.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:410

إن هذه العبارة التي قالها «العاص» لانقاذ الخليفة الثاني من أيدي الذين اجتمعوا على قتله تفيد- بوضوح- أن الخوف من قبيلة

«عمر» هو الذي كان وراء تركهم إياه و عدم قتله، و قد كان دفاع القبائل عن أبنائها سنة فطرية و عادة متعارفة يومذاك و كان يتساوى فيها الكبير و الصغير، و الشريف و الوضيع.

أجل إن بني هاشم هم كانوا- في الواقع- الحصن الحقيقي للمسلمين، و قد كان القسط الأكبر من هذا الأمر يتحمله «أبو طالب» و ذووه، و إلّا فانّ الاشخاص الآخرين الذين كانوا ينضمّون إلى صفوف المسلمين لم يكن لديهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم، فكيف بالدفاع عن الإسلام و جماعة المسلمين ليقال: أن المسلمين اعتزوا بهم؟

(1)

أبو جهل يكمن لرسول اللّه:

لقد أغضب تقدم الإسلام المطرد قريشا بشدة فلم يمرّ يوم دون أن يبلغهم نبأ عن انضمام واحد من أفراد قريش الى صفوف المسلمين و لأجل هذا راح مرجل الغضب و الحنق على النبي صلّى اللّه عليه و آله يغلي في نفوسهم، فهذا فرعون مكة «أبو جهل» يقول لقريش في مجلس من مجالسهم: يا معشر قريش إن محمّدا قد أبي إلّا ما ترون من عيب ديننا، و شتم آبائنا، و تسفيه أحلامنا، و شتم آلهتنا، و إني اعاهد اللّه لأجلسنّ له غدا بحجر ما اطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه.

(2) فلما كان من غد أخذ «أبو جهل» حجرا كما وصف ثم جلس لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينتظره، و غدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عادته و وقف للصلاة بين الركن اليمانيّ و الحجر الأسود، و غدت تلك الجماعة من قريش فجلست في أنديتها تنتظر ما ابو جهل فاعل، فلما سجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحتمل «أبو جهل» الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع

منهزما منتقعا لونه، مرعوبا و قذف الحجر من يده، فقامت إليه رجال من قريش و قالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال بصوت ضعيف يطفح بالخوف و الرعب: قمت إليه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:411

لأفعل به ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه ما لا رأيت مثله حياتي، فتركته!! «1».

إنه ليس من شك في أنّ قوة غيبيّة أدركت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأمر اللّه تعالى في تلك اللحظة، و صوّرت ذلك المنظر الرهيب و حفظت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما وعده تعالى وعدا لا خلف فيه اذ قال: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» «2».

(1) و هناك نماذج كثيرة من أذى قريش لشخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سجّلها التاريخ في صفحاته، و قد عقد «ابن الأثير» «3» فصلا خاصّا لهذا الموضوع ذكر فيه أسماء أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الألدّاء، في مكّة، و بيّن أنواع ما كانوا يؤذون به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ما قد مرّ ذكره في الصفحات السابقة ما هو إلّا أمثلة على ذلك، فقد كان صلّى اللّه عليه و آله يواجه في كل يوم نوعا خاصا من الأذى، و المضايقة.

فقد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يطوف ذات يوم فشتمه «عاقبة بن أبي معيط» و ألقى عمامته في عنقه، و جرّه من المسجد، فأخذوه من يده، خوفا من بني هاشم «4».

ابو لهب يؤذي رسول اللّه:

(2) و لقد تعرّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأذى لا مثيل له من جانب عمه «أبي لهب» و زوجته «أم جميل» و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يجاورهم، فلم

يألوا جهدا في إزعاجه و إيذائه فكم من مرّة و مرة ألقيا الرماد

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 298 و 299.

(2) الحجر: 95.

(3) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 47 كما و عقد المجلسي رحمه اللّه في البحار: ج 18 بابا خاصا بعنوان:

«باب المبعث و اظهار الدعوة و ما لقي صلّى اللّه عليه و آله من القوم» راجع من صفحة 148 الى صفحة 243

(4) السيرة الحلبية: ج 1 ص 293 نظيره.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:412

و التراب على رأسه الشريف و تيابه. و كم من مرّة نشرت أم جميل الشوك على طريفه، أو جمعته خلف باب بيته لتؤذيه عند الخروج.

و لا شك ان معارضة انسباء النبي و اقربائه لدعوته المباركة، و ايذاؤهم اياه كان اكثر ايلاما لنفسه الشريفة، و اشد وقعا عليها، حتى اننا نجد القرآن يخص أبا لهب باللعن و يسميه بصورة خاصة مما يكشف عن هذه الحقيقة اذ يقول:

«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» «1».

صبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استقامته:

و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يواجه كل ذلك الأذى و ما شابهه من التحججات التي سنشير إليها بصبر عظيم، و ثبات تتعجب منه الجبال الشماء، و ذلك اولا إيمانا منه برسالته.

(1)

إيذاء المسلمين و تعذيبهم!
اشارة

يرجع تقدم الإسلام في مطلع عهد الرسالة إلى عوامل منها: ثبات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه، و ثبات اتباعه و أنصاره.

و لقد تعرّفنا- في ما سبق- على أمثلة و نماذج من ثبات قائد الإسلام الاكبر و صبره، و استقامته في ما لقي من أذى و مضايقة.

على أن ثبات أنصاره و اتباعه الذين آمنوا في مكّة (مركز الحكومة الوثنية آنذاك) هو الآخر ممّا يدعو إلى الإعجاب و يستحق الاحترام. و سنذكر صمودهم و ثباتهم في حوادث ما بعد الهجرة في محله.

و أمّا هنا فنسلّط الضوء على حياة عدد من أتباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القدامى الذين تحملوا أشد أنواع العذاب و كانوا يعيشون في المحيط المكي

______________________________

(1) المسد: 1- 5.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:413

حيث لم يكن ملجأ لهم يلجئون إليه، و هاجروا منه لأغراض الدعوة و التبليغ بعد أن تحملوا شيئا كثيرا من الإيذاء و التعذيب على أيدي المشركين و الوثنيين القساة.

(1)

1- بلال الحبشي:

كان أبواه ممّن اسروا في الجاهلية و جي ء بهم من الحبشة إلى جزيرة العرب ثم الى مكة.

و أما بلال الذي اصبح في ما بعد مؤذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقد كان غلاما ل «اميّة بن خلف» الذي كان من أشدّ أعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و حيث أنّ عشيرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تولّت الدفاع عنه صلّى اللّه عليه و آله و حمايته و لم يمكن لاميّة إلحاق الأذى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمد الى تعذيب غلامه بلال الذي أسلم، أمام الناس، بأشد أنواع الأذى و التعذيب انتقاما، و تشفيا.

فقد كان يطرح بلالا عاريا على الأحجار و الصخور الملتهبة في الهاجرة، و يضع

صخرة على صدره ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمّد، و تعبد اللّات و العزّى، فيقول و هو في ذلك البلاء و المحنة الشديدة: أحد أحد «1».

(2) و لقد أثار ثبات هذا الغلام الأسود و جلده و صبره على أذى سيّده، إعجاب الآخرين، حتى أن «ورقة بن نوفل» مرّ عليه و هو يعذّب بذلك و هو يقول: أحد أحد، أقبل على «اميّة» و من يصنع به ذلك من «بني جمح» فيقول: احلف باللّه لئن قتلتموه على هذا لاتخذنّه حنانا (أي لأجعلنّ قبره متبرّكا و مزارا) «2».

و ربما زاد «اميّة» من تعذيبه لبلال فربط حبلا بعنقه و ترك الصبيان يديرون به في الازقة و السكك «3».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 317 و 318.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 318.

(3) الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3 ص 233.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:414

و قد اسر «اميّة» و ابنه في معركة «بدر» و كانا أول من اسرا من المشركين، و لم يوافق بعض المسلمين على قتلهما و لكن بلالا قال: «رأس الكفر اميّة بن خلف لا نجوت إن نجا». و أدّى إصرار بلال على قتلهما إلى قتل اميّة و ابنه جزاء أعمالهما الظالمة.

(1)

2- آل ياسر رمز الصمود و المقاومة!

كان «عمار» و والده من السابقين الى الإسلام فهم أسلموا يوم كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يلتقى بأصحابه و يدعو الى الإسلام في بيت «الارقم بن أبي الارقم»، و عند ما عرف المشركون بانضمامهم إلى صفوف المسلمين عمدوا إلى إيذائهم و تعذيبهم و لم يألوا جهدا في ذلك أبدا.

فقد كان المشركون يخرجون «عمارا» و اباه «ياسر» و امّه «سمية» في وقت الظهيرة الى رمضاء مكة ليقضوا ساعات طويلة تحت أشعة

الشمس الحارقة، و فوق الرّمال الملتهبة و الصخور المتّقدة كأنّها الجمرات.

و قد تكرّر هذا العذاب مرّات عديدة حتى أودى بحياة «ياسر» فقضى نحبّه على تلك الحال.

و قد خاشنت زوجته «سميّة» أبا جهل و كلمته في زوجها بغليظ القول، فطعنها اللعين برمح في قلبها فقضت- هي الاخرى- نحبّها، و كانا أول شهيدين في الإسلام «1».

و قد آلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما شاهده من حالهما و هما يعذّبان بأشد أنواع العذاب فقال لهما و لولديهما «عمّار» و هو يصبّرهم، و الدموع تنحدر على خدّيه:

«صبرا آل ياسر فانّ موعدكم الجنة» «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 241 و السيرة الحلبية: ج 1 ص 300، السيرة الدحلانية بهامش السيرة.

(2) السيرة الحلبية: ج 1 ص 300، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية: ج 1 ص 238 و 239.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:415

(1) و بعد أن قضى والدا «عمّار» نحبهما تحت التعذيب بالغ المشركون القساة في تعذيب «عمّار» و إيذائه و التنكيل به، و أخذوا يعذّبونه على نحو ما كانوا يعذّبون به بلالا، و هم يقصدون قتله، و إلحاقه بأبويه!! أو يتبرأ من دين النبي صلّى اللّه عليه و آله، فاضطر الى أن يعطيهم ما يريدون و يظهر الرجوع عن الإسلام، إبقاء على نفسه، و تقيّة منهم فتركوه، و انصرفوا عن قتله، و لكنه سرعان ما ندم على فعله من التظاهر بترك الإسلام و تأثّم من ذلك فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يبكي، فقال له النبيّ: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالايمان قال:

ان عادوا فعد، فنزلت الآية التالية في ايمان عمّار: «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ مَنْ

كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» «1» «2».

(2) هذا و روي أنّ أبا جهل حينما قصد تعذيب «آل ياسر» و كانوا أضعف من بمكة أمر بسوط و نار ثم سحبوا عمارا و أبويه على الأرض، فكان يكوي بطرف السيف و الخنجر المحمى بالنار المشتعلة أبدانهم، و يضربهم بالسوط ضربا شديدا.

و قد تكرّر هذا العمل القاسي كثيرا حتى استشهد «ياسر» و زوجته «سميّة» على أثر ذلك التعذيب المرير، و لكن دون أن يفتئا حتى النفس الآخر عن مدح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الاشادة بدينه.

و لقد أثار هذا المنظر المؤلم مشاعر فتيان من قريش فأقدموا- رغم عدائهم للإسلام و مشاركتهم لغيرهم من المشركين في بغض الرسول- على تخليص «عمار» الجريح المنهك عذابا من براثن «أبي جهل» ليتمكن من مواراة أبويه الشهيدين.

(3)

3- عبد اللّه بن مسعود:

تشاور المسلمون في ما بينهم في مقرّهم السري في من يجهر بالقرآن على مسامع قريش، في المسجد الحرام لأنها لم تسمع منه شيئا إذ قالوا: و اللّه ما سمعت قريش

______________________________

(1) النحل: 105 و 106.

(2) الدّر المنثور: ج 4 ص 132 عند تفسير الآيتين المذكورتين.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:416

هذا القرآن يجهر لها قط فمن رجل يسمعهموه؟

فأبدى «ابن مسعود» استعداده للقيام بهذه العملية الجريئة، و تلاوة القرآن على مسامع قريش في المسجد الحرام بصوت عال.

فقالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.

قال: دعوني فان اللّه سيمنعني.

ثم غدا «ابن مسعود» حتى أتى المقام في وقت الضحى و قريش في انديتها حتى قام عند المقام ثم قرأ: «بسم اللّه الرحمن الرحيم» رافعا بها صوته، «الرّحمن علّم القرآن» و هكذا استمر يقرأ بقية آيات تلك السورة المباركة.

فارعبت

عبارات القرآن الفصيحة القوية قلوب سراة قريش، و لكي يمنعوا من تأثير هذا النداء الالهيّ العظيم قاموا إليه جميعا و جعلوا يضربونه في وجهه، و جعل هو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء اللّه أن يبلغ ثم عاد إلى اصحابه و قد ادمي وجهه و جسمه، و هو مسرور لإسماع قريش كتاب اللّه تعالى و آياته المباركة «1».

إنّ الّذين صمدوا في أشد الأيام و أصعبها في مطلع عهد البعثة من المسلمين الأوائل لا شك اكثر ممّن ذكرنا اسماءهم إلّا أننا اكتفينا بهذا القدر رعاية للاختصار.

(1)

4- أبو ذر: أوّل المجاهدين بالإسلام

كان «أبو ذر» رابع أو خامس من أسلم «2»، و على هذا فهو من الذين أسلموا في الأيّام الاولى من بزوغ شمس الإسلام و طلوع فجره، فإذن هو من السابقين إلى الإسلام.

و قد صرح القرآن الكريم بأنّ للذين سبقوا إلى الإيمان برسول اللّه في بدء

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 314.

(2) اسد الغابة: ج 1 ص 301، الإصابة: ج 4 ص 64، الإستيعاب: ج 4 ص 62.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:417

بعثته و بالتالي فإن للسابقين عند اللّه تعالى مكانة عظيمة، و مقاما لا يضاهى إذ قال تعالى:

«السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» «1».

و قال تعالى فيهم أيضا.

«وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «2».

و قال تعالى كذلك في من آمن قبل فتح مكة و فضلهم، و مكانتهم المعنوية المتفوقة على من أسلم بعد اعتزاز الإسلام، و اشتداد أمره، و قيام دولته يعني أنّهم ليسوا سواء.

«لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ

بَعْدُ وَ قاتَلُوا ...» «3».

أجل هذه هي مكانة السابقين في الإسلام و كان «ابو ذر» منهم.

هذا مضافا إلى أنّه يعدّ أول من نادى بالإسلام على رءوس الأشهاد و في الملأ من قريش.

(1) فيوم اسلم «أبو ذر» كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدعو الناس إلى الإسلام سرّا، و لم تتهيّأ بعد ظروف الجهر بالدعوة إلى هذا الدّين، فانّ أتباع الإسلام و المؤمنين به لم يتجاوز عددهم في ذلك اليوم عدّد الأصابع هم: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خمسة ممن آمنوا به، و قبلوا دعوته، و مع ملاحظة هذه الاعتبارات و الظروف لم يكن بدّ- حسب الظاهر- من أن يخفي «أبو ذر» إسلامه، و يعود إلى قبيلته من دون أن يعرف به أحد في مكة.

و لكنّ روح «أبي ذر» الطافحة بالإيمان و الحماس أبت ذلك، و كأنه قد خلق لينهض في كل زمان و مكان ضدّ الظلم و الطغيان، و يرفع عقيدته في وجه

______________________________

(1) الوافقة: 10- 11.

(2) التوبة: 100.

(3) الحديد: 10.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:418

الباطل و أهله، و يكافح الانحراف و الاعوجاج أيّا كان مصدره، و صاحبه. و أيّ باطل اكبر من أن يطأطئ الناس أمام أصنام مصنوعة من الحجر، و يخضعوا أمام أوثان منحوتة من الخشب لا تضرّ و لا تنفع، و لا تعطي و لا تمنع، و يسجدوا لها و يتخذوها آلهة دون اللّه الخالق الكبير المتعال؟؟

إنّه ليس في وسع «أبي ذر» أن يتحمّل هذا المشهد البغيض المقرف!!

(1) من هنا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد أن مكث في مكة قليلا و قرأ شيئا من القرآن: يا نبيّ اللّه ما تأمرني؟

قال: ترجع الى قومك حتى يبلغك أمري.

فقال له: و

الذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد.

قال: اني اخاف عليك أن تقتل.

قال: لا بد منه و إن قتلت.

ثم دخل المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أنّ محمّدا عبده و رسوله «1».

(2) إن التاريخ الإسلامي يشهد بأن هذا النداء كان أول نداء تحدّى جبروت قريش و شركها، و قد اطلقته حنجرة رجل غريب لا حامي له في مكة و لا نصير، و لا قوم و لا قريب.

و قد وقع ما توقّعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فما أن دوى صوت ابي ذر في المسجد حتى قام إليه رجال قريش، و هجموا عليه من كل جانب و ضربوه بشدة حتى صرع فأتاه العباس بن عبد المطلب فأكبّ عليه في محاولة لانقاذه من الموت- بطريقة لطيفة- و قال: قتلتم الرجل يا معشر قريش! انتم تجار و طريقكم على غفار، فتريدون ان يقطع الطريق، فأمسكوا عنه.

و نجحت محاولة «العباس» الانقاذية، و كفّت قريش عن ابي ذر.

______________________________

(1) حلية الأولياء: ج 1 ص 158 و 159، الطبقات الكبرى: ج 4 ص 225، الاستيعاب: ج 4 ص 63، الاصابة: ج 4 ص 64، الدّرجات الرفيعة: ص 228.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:419

و لكن أبا ذر الشاب الشجاع، و الطافح بالحيوية و الحماس عاد اليوم الثاني فصنع مثل ما صنعه في اليوم الاول فضربوه حتى صرع، فأكب عليه العباس، و قال لهم مثل ما قال في أول مرة فأمسكوا عنه.

(1) و لا شك في انه لو لم يكن العباس لما نجى أبو ذر من مخالف المشركين في اغلب الظن، و لكن أبا ذر لم يكن بذلك الرجل الذي يتراجع عن هدفه بسرعة، و لهذا بدأ جهاده

من جديد.

ففي يوم رأى امرأة تطوف بالبيت، و تدعو ساف و نائلة (و هما صنمان لقريش) و تسألهما ان يقضيا لها حاجاتها، فانزعج أبو ذر من جهل تلك المرأة، و لكي يفهمها بانها تدعو صنمين لا يضران و لا ينفعان بل و لا يشعران قال: أنكحى أحدهما الآخر. فغضبت المرأة لقول ابي ذر في الصنمين، و تعلقت به و قالت: أنت صابئ، فجاء فتية من قريش فضربوه، و جاء ناس من بنى بكر فانقذوه منهم «1».

(2)

قبيلة غفار تعتنق الإسلام:

لقد أدرك رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله قابليات تلميذه و ناصره الجديد، و صلابته الخارقة في مكافحة الباطل، و لكن حيث ان الوقت لم يكن يحن بعد للدخول في مواجهة ساخنة مع المشركين لهذا أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بان يلحق بقومه، و يدعوهم إلى الإسلام، قائلا له: «الحق بقومك فاذا بلغك ظهوري فأتني».

فعاد ابو ذر إلى قومه، و أخذ يدعوهم الى الإسلام و يكلمهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يدعوهم الى نبذ الاصنام و عبادة اللّه الواحد، و التخلق بالاخلاق الرغيبة.

(3) فاسلم أبواه، أولا، ثم اسلم نصف رجال قبيلته «غفار» ثم اختار البقية الإسلام بعد هجرة النبي الى المدينة، ثم تبعتها قبيلة «أسلم» حيث وقدوا على

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 4 ص 223.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:420

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اعتنقوا الإسلام.

ثم التحق ابو ذر بعد معركة بدر و احد برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة و أقام فيها «1».

و ربما كان إيذاء المشركين للمسلمين المؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتخذ طابع التهديد و الترهيب و ممارسة الضغط النفسي و الاقتصادي و الاجتماعي.

فقد

كان أبو جهل إذا سمع بالرجل قد اسلم له شرف و منعة أنّبه و أخزاه، و قال له: تركت دين أبيك و هو خير منك، لنسفّهنّ حلمك، و لنفيلنّ رأيك، و لنضعنّ شرفك.

و إن كان تاجرا قال له: لنكسدنّ تجارتك، و لنهلكنّ مالك.

و إن كان ضعيفا ضربه، و أغرى به «2».

و روي أيضا أن «خبّاب بن الارت» صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قينا بمكة يعمل السيوف و كان قد باع من «العاص بن وائل» سيوفا صنعها له حتى كان له عليه مال، فجاءه يتقاضاه، فقال يا خبّاب: أ ليس يزعم «محمّد» صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب و فضه أو ثياب أو خدم، قال خبّاب: بلى، قال: فأنظرني الى يوم القيامة يا خبّاب حتى أرجع الى تلك الدار، فأقضيك هنالك حقك فو اللّه لا تكون و صاحبك يا خبّاب اشرّ عند اللّه مني!! «3».

(1)

أعداء النبي الألدّاء:

إن للتعرف على أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خصومه الالدّاء، و مواقفهم دورا هاما في تحليل جملة من حوادث التاريخ الإسلامي التي وقعت

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 4 ص 221 و 222 و 226، الدرجات الرفيعة: ص 225 و 226 و ص 229 و 230.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 320.

(3) السيرة النبوية: ج 1 ص 357.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:421

بعد الهجرة النبوية.

و نحن نكتفي هنا بادراج اسماء طائفة منهم و نذكر شيئا من خصوصياتهم.

(1) 1- «أبو لهب»: عم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قد كان جارا له صلّى اللّه عليه و آله، و هو الّذي لم يفتأ لحظة واحدة عن تكذيب رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و ايذاء المسلمين.

(2) 2- «الأسود بن عبد يغوث» و كان أحد المستهزئين و كان إذا وجد مسلما فقيرا لا يحميه أحد قال مستهزءا: هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى!! «1».

و لم يمهله أجله ليرى بام عينيه كيف ورث المسلمون أرض كسرى و قيصر، و وطئوا عرشهما.

(3) 3- «الوليد بن المغيرة» شيخ قريش و حكيمها الذي كان يملك ثروة هائلة، و سوف نتحدث عنه و عن موقفه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الفصل القادم.

(4) 4- «اميّة» و «ابيّ» ابنا خلف، و قد مشى «ابى» هذا بعظم رميم الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم ففتّه في يده ثم نفخه نحو النبي و قال: أ تزعم أن ربك يحيي هذا بعد ما ترى (أو بعد ما رمّ)؟ فنزل قول اللّه تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» «2».

و قد قتل ابنا خلف هذان في بدر.

(5) 5- «أبو الحكم بن هشام» الذي سماه المسلمون لعناده و تعصّبه الجاهل ضدّ الإسلام بأبي جهل، و قد قتل هو الآخر في بدر أيضا.

(6) 6- «العاص بن وائل» و هو والد «عمرو بن العاص»، و هو الذي وصف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالأبتر.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 318.

(2) بحار الأنوار. ج 18 ص 202، السيرة النبوية: ج 1 ص 361 و 362.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:422

(1) 7- «عاقبة بن أبي معيط» الذي كان من ألدّ اعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أشدّ خصومه بغضا له صلّى اللّه عليه و آله، و كان لا يألو جهدا في مضايقة المسلمين و لا يترك فرصة

تمرّدون إيذائهم! «1».

هؤلاء هم بعض أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المبالغين في معاداته، و هناك غيرهم كأبي سفيان ممن ذكر المؤرخون خصوصياتهم كاملة في مؤلفاتهم، و قد أعرضنا عن إدراجهم بأجمعهم هنا رعاية للاختصار.

(2)

عمر بن الخطاب يعتنق الإسلام:

لقد كان إسلام كل واحد من الذين أجابوا دعوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله نابعا من سبب معيّن.

فربّما أدّت حادثة صغيرة إلى أن يعتنق فرد أو فريق الإسلام، و ينضمّوا إلى صفوف المسلمين.

و قد اتّسم السبب الذي آل الى إسلام عمر- من بين جميع تلكم الاسباب و العلل- بطرافة تقتضي التوقف عنده في هذه الدراسة التاريخية التحليلية.

على أن التسلسل التاريخي، و التنظيم الوقائعي لاحداث الإسلام و ان كان يقتضى منا ان نأتي على ذكر هذه الحادثة بعد هجرة صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله الى الحبشة، إلّا أن الحديث حيث دار هنا حول صحابة النبي و كيفية اسلامهم و مواقفهم ناسب أن نشير هنا إلى كيفية إسلام الخليفة الثاني.

(3) يقول ابن هشام: كان اسلام عمر- في ما بلغني- أن اخته بنت الخطاب و كانت عند «سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل» و كانت قد أسلمت و أسلم بعلها «سعيد بن زيد»، و هما مستخفيان باسلامهما من عمر (و هؤلاء هم كل من اسلم من آل الخطاب) و كان خبّاب بن الأرت يختلف الى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن.

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 47 و 51، و راجع أيضا: أسد الغابة، و الاصابة و الاستيعاب و غيرها.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:423

و كان «عمر» الذي كانت بينه و بين المسلمين علاقات جدا سيئة «1» قد أزعجه ما أصاب المجتمع المكي من تشتّت و فرقة، و ما لحق

بقريش من المتاعب أثر ظهور الإسلام، من هنا عزم على أن يقضي على علة هذا الأمر باغتيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الفتك به.

فخرج يوما متوشحا سيفه يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رهطا من أصحابه و قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا و هم قريب من أربعين ما بين رجال و نساء، و مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمّه «حمزة» بن عبد المطلب و «ابو بكر» و «علي بن ابي طالب» في رجال من المسلمين يحفظونه و يحرسونه.

يقول «نعيم بن عبد اللّه» و قد كان صديقا حميما لعمر: لقيت عمرا و هو متوشح سيفا و يريد مكانا فقلت له: أين تريد يا عمر؟

فقال: اريد محمّدا هذا الصابئ الذي فرّق في أمر قريش، و سفّه أحلامها و عاب دينها، و سبّ آلهتها، فأقتله.

فقال له نعيم: و اللّه لقد غرّتك نفسك من نفسك يا عمر، أ ترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض و قد قتلت محمّدا! أ فلا ترجع إلى اهل بيتك فتقيم أمرهم؟

قال: و أي أهل بيتي؟

قال: ختنك و ابن عمك «سعيد بن زيد» و اختك «فاطمة بنت الخطاب» فقد و اللّه أسلما، و تابعا محمّدا على دينه فعليك بهما.

فأغضب هذا النبأ عمر بشدة فانصرف عن الهدف الذي كان يرمى إليه و عاد من توّه إلى بيت اخته، فدخل على اخته و ختنه و عندهما «خبّاب بن الأرت» معه صحيفة فيها سورة «طه» يقرئهما إياها، فلما سمعوا حسّ «عمر» تغيّب «خبّاب» في مخدع لهم، أو في بعض البيت، و اخفت «فاطمة بنت

______________________________

(1) راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 342- 346.

سيد

المرسلين ،ج 1،ص:424

الخطاب» الصحيفة، و كان «عمر» قد سمع حين دنا الى البيت قراءة «خبّاب» عليهما، فلما دخل قال: «ما هذه الهينمة «1» التي سمعت؟

قالا له: ما سمعت شيئا.

قال: بلى و اللّه، لقد اخبرت أنكما تابعتما محمّدا على دينه.

و بطش بختنه «سعيد بن زيد» فقامت إليه اخته «فاطمة بنت الخطاب» لتكفّه عن زوجها فضربها فشجّها.

فلما فعل ذلك قالت له اخته و ختنه: نعم قد اسلمنا و آمنّا باللّه و رسوله، فاصنع ما بدا لك.

فلما رأى «عمر» ما باخته من الدّم ندم على ما صنع، فارعوى و رجع، و قال لاخته: اعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمّد؟.

فلما قال ذلك قالت له اخته: إنّا نخشاك عليها. قال: لا تخافي و حلف لها بآلهته ليردّنّها إذا قرأها، إليها.

فلما قال ذلك طمعت في اسلامه، فقالت: يا أخي، إنك نجس على شركك و انّه لا يمسّها إلّا الطاهر، فقام «عمر» فاغتسل، فأعطته الصحيفة و فيها آيات من سورة «طه» هي:

طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلّا تذكرة لمن يخشى. تنزيلا ممّن خلق الأرض و السماوات العلى. الرّحمن على العرش استوى. له ما في السماوات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى. و إن تجهر بالقول فانّه يعلم السرّ و أخفى «2».

و لقد تركت هذه الآيات المحكمة الفصيحة البليغة تأثيرا شديدا في نفس عمر فقال: ما احسن هذا الكلام؟

و قرر الرجل، الذي كان قبل ثوان عدوّ الإسلام الأول، أن يغيّر موقفه،

______________________________

(1) الهينمة صوت كلام لا يفهم.

(2) طه: 1- 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:425

فتوجه من توّه إلى البيت الذي ذكر له أنّ فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جماعة من

أصحابه و هو متوشح سيفه، فضرب عليهم الباب، فلمّا سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف فرجع الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو فزع و أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله بما رأى، فقال حمزة: فائذن له، فان جاء يريد خيرا بذلناه له، و إن كان يريد شرا قتلناه بسيفه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ائذن له، فأذن له الرجل، و نهض إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حجزته (و هو موضع شد الإزار) أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذه شديدة، و قال: ما جاء بك يا ابن الخطاب فو اللّه ما أرى تنتهي حتى ينزل اللّه بك قارعة؟!

فقال عمر: يا رسول اللّه جئتك لاؤمن باللّه و برسوله و بما جاء من عند اللّه.

و هكذا اسلم «عمر» عند رسول اللّه و أصحابه و انضوى إلى صفوف المسلمين.

ثم ان ابن هشام روى رواية اخرى في كيفية اسلام عمر من أراد الوقوف عليها راجعها في السيرة النبوية «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 343- 346.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:427

(1)

16 رأي قريش في القرآن

اشارة

ان البحث حول حقيقة الاعجاز القرآني أمر خارج عن اطار هدفنا في هذا الكتاب فذلك متروك إلى الكتب الاعتقادية و الكلامية.

و لكن الأبحاث التاريخيّة تهدينا الى أن القرآن الكريم كان من أكبر و أقوى اسلحة الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله بحيث خضع أمام فصاحته البالغة و حلاوة كلماته و قوة آياته، و عباراته، اساتذة الفصاحة و البلاغة و امراء البيان و الكلام، و عمالقة الكتابة و الخطابة. و اعترفوا برمّتهم، و

قضّهم و قضيضهم بأنّ القرآن الذي جاء به محمّد يحتل أعلى مكان في الفصاحة و البلاغة، و أنّ مثل هذا الحديث لم يعرفه البشر و لم يعهد له التاريخ الانساني نظيرا.

فلقد كانت جاذبيّة «القرآن الكريم» و تأثير حديثه بحيث ترتعد عند استماع آياته فرائص أعدى اعدائه، و ربما انهارت قواه، فبقي مدة طويلة، لا يقوى على حراك، و لا يملك فعل شي ء.

و فيما يلي نذكر بعض النماذج في هذا المجال:

(2)

حكم الوليد في القرآن:

كان «الوليد بن المغيرة» ممن يرجع إليه العرب لحل الكثير من مشاكلها،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:428

و كان ذا سنّ، و ثروة كبيرة فيهم.

و عند ما واجهت قريش مشكلة ظهور الإسلام و انتشاره في القبائل مشى فريق منهم إلى الوليد يلتمسون منه حلا لهذا الأمر الذي بات يهدّد كيان الزعامة المكيّة الجاهلية، و طلبوا منه أن يبيّن رأيه في القرآن الكريم و قالوا: هل هو سحر أم كهانة أم حديث قد حاكه بنفسه.

فاستنظرهم «الوليد» ليعطي رأيه فيه بعد أن يسمع شيئا من القرآن، فأتى الى الحجر حيث كان يجلس النبيّ، و يتلو القرآن، فقال: يا محمّد أنشدني شعرك.

(1) فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما هو بشعر، و لكنّه كلام اللّه الذي به بعث انبياءه و رسله.

فقال: اتل عليّ منه، فقرأ عليه رسول اللّه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم».

فلما سمع: الرحمن، استهزأ فقال: تدعو إلى رجل باليمامة يسمى بالرحمن؟

قال. لا، و لكني أدعو إلى اللّه و هو الرحمن الرحيم ثم افتتح سورة «حم السجدة» فلما بلغ إلى قوله تعالى:

«فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ».

و سمعه الوليد، فاقشعر جلده، و قامت كل شعرة في رأسه و لحيته، ثم قام و مضى إلى بيته و لم يرجع

الى قريش.

فقالت قريش: يا ابا الحكم صبا ابو عبد شمس إلى دين محمّد، أ ما تراه لم يرجع إلينا و قد قبل قوله، و مضى إلى منزله.

فاغتمت قريش من ذلك غما شديدا و غدا عليه ابو جهل فقال: يا عم نكّست رءوسنا و فضحتنا.

قال: و ما ذاك يا ابن أخي؟

قال: صبوت الى دين محمّد.

قال: ما صبوت و اني على دين قومي و آبائي، و لكني سمعت كلاما صعبا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:429

تقشعر منه الجلود فقال أبو جهل: أشعر هو؟

قال: ما هو بشعر.

قال: فخطب هي؟

قال: لا و ان الخطب كلام متصل، و هذا كلام منثور، لا يشبه بعضه بعضا، له طلاوة.

قال: فكأنه هي؟

قال: لا.

قال: فما هو؟

قال: دعني افكر فيه.

فلما كان من الغد، قالوا: يا ابا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا: هو سحر فانه أخذ بقلوب الناس فأنزل اللّه سبحانه فيه:

«ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. وَ بَنِينَ شُهُوداً» الى قوله: «عليها تسعة عشر» «1» «2».

(1)

نموذج آخر [من حكم البلغاء في شأن القرآن]:

كان «عتبة بن ربيعة» من كبراء قريش و اشرافها، و يوم أسلم «حمزة» و أصبح أصحاب رسول اللّه يزيدون و يكثرون اغتمّت قريش كلّها، و خشي زعماء المشركين ان ينتشر الإسلام اكثر من هذا فقال عتبة و هو جالس في نادي قريش يوما، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش أ لا أقوم الى «محمّد» فاكلّمه و أعرض عليه امورا لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء و يكف عنا؟

______________________________

(1) المدثر: 11- 30.

(2) بحار الأنوار: ج 17 ص 211 و 212، إعلام الورى بأعلام الورى: ص 41 و 42.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:430

فقالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلّمه.

(1) فقام إليه «عتبة»

حتى جلس الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال:

يا ابن أخي إنك منّا حيث ما قد علمت من الشرف في العشيرة و المكان في النسب، و انك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم و سفهت به أحلامهم، و عبت به آلهتهم، و دينهم، و كفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك امورا تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قل يا أبا الوليد اسمع.

قال: يا ابن أخي إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر ما لا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون اكثرنا مالا، و ان كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتى لانقطع أمرا دونك، و إن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، و إن كان هذا الذي يأتيك رئيّا (و هو ما يتراءى للناس من الجنّ) تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ، و بذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربّما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه، حتى إذا فرغ «عتبة»، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يستمع منه قال: أ قد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم قال: فاسمع منّي؛ قال: افعل، قال:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» «1».

ثم مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيها يقرؤها عليه، فلمّا سمعها منه «عتبة» أنصت لها و ألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه و بقي على هذه مدة من الزمن صامتا

و كأنه قد سلب قدرة النطق، ثم انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى السجدة فسجد ثم قال.

«قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت و ذاك».

______________________________

(1) فصلت: 1- 5.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:431

(1) فقام «عتبة» الى أصحابه و قد تغيّرت ملامحه فقال بعضهم لبعض: نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!! فلما جلس إليهم قالوا:

ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي اني قد سمعت قولا و اللّه ما سمعت مثله قط، و اللّه ما هو بالشعر، و لا بالسحر، و لا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني و اجعلوها بي، و خلّوا بين هذا الرجل و بين ما هو فيه فاعتزلوه، فو اللّه ليكوننّ لقوله هذا الذي سمعت منه نبأ عظيم، فان تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، و ان يظهر على العرب فملكه ملككم، و عزه عزّكم، و كنتم أسعد الناس به.

فانزعجت قريش من مقالة «عتبة» هذا و سخرت به و قالت: سحرك و اللّه يا أبا الوليد بلسانه!!

قال: هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم «1».

هذان نموذجان من رأي كبار فصحاء العرب في العهد الجاهليّ، في القرآن الكريم.

على أن هناك أمثلة و نماذج اخرى كثيرة في هذا المجال.

(2)

تحججات قريش العجيبة:

اجتمع «عتبة بن ربيعة»، و «شيبة بن ربيعة» و «أبو سفيان بن حرب»، و «النضر بن الحارث»، و «أبو البختري»، و «الوليد بن المغيرة»، و «ابو جهل» و «العاص بن وائل» و غيرهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا الى «محمّد» فكلّموه، و خاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه؛ فجاءهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سريعا و هو يظن أن قد بدا لهم فيما كلّمهم فيه بداء

و انهم قد غيّروا مواقفهم، و كان يحبّ رشدهم و هدايتهم حتى جلس إليهم.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 293 و 294.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:432

فقالوا له: يا محمّد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، و انّا و اللّه ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء، و عبت الدّين، و شتمت الآلهة ... و مضوا يعددون أمورا من هذا القبيل ثم اقترحوا عليه امورا ذكرها اللّه تعالى بتمامها في الآية 90 إلى 93 من سورة الإسراء حيث يقول حاكيا عن لسانهم:

«و قالوا لن نؤمن لك حتى 1- تفجر لنا من الأرض ينبوعا.

2- أو تكون لك جنّة من نخيل و عنب فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا.

3- أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا.

4- أو تأتي باللّه و الملائكة قبيلا.

5- أو يكون لك بيت من زخرف.

6- أو ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيّك حتّى تنزّل علينا كتابا نقرؤه»!!

(1) و حيث أنّ مضمون هذه الآيات هو عدم تلبية النبيّ لمطالب قريش حيث قال: «قل سبحان اللّه ربّي هل كنت إلا بشرا رسولا» قد تذرع به المستشرقون للايقاع بالرسالة المحمّدية لذلك نعمد هنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات و العلل المنطقيّة لعدم تلبية النبيّ مطالب قريش و مقترحاتهم.

الجواب: إنّ الأنبياء لا يأتون بالمعاجز في كل ظرف و زمان، فإن للاعجاز شروطا خاصة لم تتوفر في هذه الاقتراحات، و هذه الشروط هي:

(2) أولا: أن لا تكون المعجزة من الامور المستحيلة التي لا يمكن تحقّقها، فإنّ مثل هذه الامور خارجة عن إطار القدرة، و لا تتعلق بها مشيئة اللّه تعالى و لا مشيئة أيّ صاحب إرادة مطلقا.

و على هذا الأساس إذا طلب الناس من النبيّ

أمرا محالا، فقوبل طلبهم بعدم الاهتمام من قبل النبيّ لم يكن ذلك دليلا على إنكار صدور المعجزة على أيدي الأنبياء قط.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:433

(1) و هذا الشرط لم يكن متوفرا في بعض مقترحات المشركين المذكورة (المقترح الرابع) فانهم طلبوا من النبي صلّى اللّه عليه و آله ان يأتي لهم باللّه سبحانه و تعالى ليقابلوه وجها لوجه، و يروه جهرة و من قريب، و رؤية اللّه تعالى امر محال، لأن رؤيته تستلزم أن يكون سبحانه محدودا بالزمان و المكان، و أن يكون جسما و ذلون و صورة و هو تعالى منزه عن المادّة و لوازم المادية.

بل حتى مقترحهم الثالث لو كان المقصود منه أن تسقط السماء عليهم (لا أن تسقط قطعة من الصخر على رءوسهم و تقتلهم) فان ذلك هو أيضا من المحالات إذ أن المشيئة الالهية تعلّقت بان يفعل اللّه هذا في نهاية العالم، و النبي صلّى اللّه عليه و آله كان قد أخبر المشركين بهذا الأمر أيضا كما يدل عليه قولهم:

«كما زعمت».

إنّ انهدام المنظومة الشمسيّة و تبعثر النجوم و تساقطها و إن لم يكن في حد ذاته بالأمر المحال، و لكنّه- حسب المشيئة الإلهية الحكمية و إرادته النافذة القاضية بأن يستمر النوع البشري، و يصل إلى مرحلة الكمال- يعدّ محالا، و لا يمكن أن يفعل حكيم خلاف ما يقتضيه هدفه و غايته.

(2) ثانيا: حيث أنّ الغاية المنشودة من اقتراح و طلب الإعجاز هو أن يستدلّ به على صدق دعوى النبيّ، و صحة انتسابه الى اللّه، و بالتالي يكون بدافع تحصيل سند على ارتباطه بالعالم ما فوق الطبيعة، لذلك فان أيّ اقتراح و مطالبة بالمعجزة لا تتوفر فيها هذه الصفة يعني على فرض أن يلبيّ النبي

طلبهم و ياتي لهم بالمعجزة لا يكون ذلك دليلا على ارتباطه بعالم الغيب، فحينئذ لا معنى و لا موجب لأن يقوم النبيّ بما لا يرتبط بشئونه و لا يخدم هدفه.

و قد كانت بعض مقترحات المشركين المذكورة من هذا النوع، و ذلك مثل تفجير ينبوع من الأرض، أو أن تكون له جنّة من نخيل و عنب، أو أن يكون له بيت من زخرف و ذهب، فان مثل هذه الامور لا تدل على نبوّة من يمتلكها إذ ما اكثر الذين يمتلكون واحدة من هذه الأشياء و ليسوا مع ذلك بأنبياء، بل ربما يملكون اكثر من ذلك، و مع ذلك لا يشم فيهم رائحة الايمان فضلا عن النبوة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:434

فاذا لم ترتبط هذه الأشياء بمقام النبوّة، و لا تكون دليلا على صدق من يدّعيها كان الإتيان بها أمرا لغوا و عبثا تعالى عنه مقام النبوّة، و جلّت عنه منزلة الأنبياء.

(1) و قد يقال: إن هذه الاشياء «1» لا تدل على صدق دعوى النبي إذا حصلت عن طريق الأسباب العادية، و لكنّها لو حصلت بصورة غير عاديّة و لا متعارفة كانت و لا شك من المعاجز الالهية، و دلت على صدق النبي و صحة دعواه.

و لكنّ الظاهر أن هذه فكرة باطلة لان المشركين كانوا يهدفون من اقتراحاتهم هذه أن يكون النبي صاحب مال و ثروة، فقد كانوا يستبعدون أن يكون نبيّ اللّه و رسوله فقيرا لا يملك شيئا من الثروة المال، و كانوا يعتقدون انّ الوحي الالهي يجب أن ينزل على رجل غنيّ ذي طول و حول، و لذلك قالوا مستغربين و مستنكرين:

«وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» «2»؟!!

أي لما ذا لم ينزل

هذا القرآن على رجل ثريّ من مكة أو الطائف.

و ممّا يدلّ على أن الهدف كان هو أن يملك النبي مثل هذه الامور بأي طريق كان، و لو بالطريق العاديّ أنهم كانوا يريدون هذه الاشياء للنبيّ نفسه إذ قالوا:

«أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ» «3».

(2) و بعبارة اخرى: كانوا يقولون إذا أنت لا تمتلك بستانا أو بيتا من ذهب فاننا لن نؤمن لك!!

و لو كان الهدف هو أن يحصل هذان الأمران بواسطة القدرة الغيبية لم يكن وجه حينئذ لقولهم: ما لم يكن «لك» بيت من زخرف، فاننا نؤمن بك بل كان يكفى أن يقولوا: إذا لم تحدث و توجد بيتا و جنّة فاننا لن نؤمن لك.

______________________________

(1) أي الامور الثلاثة المقترحة الينبوع و الجنة و البيت من ذهب.

(2) الزخرف: 31.

(3) الاسراء: 93.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:435

أمّا قولهم في مطلع اقتراحاتهم: «تفجّر لنا من الأرض ينبوعا» فان مقصودهم لم يكن هو أن يستخرج لهم بالاعجاز ينبوعا لينتفعوا به، بل يفعل ذلك لكي يؤمنوا به.

(1) ثالثا: ان المقصود من المعجزة هو الاهتداء في ضوئها إلى صحّة دعوى النبيّ و صدق مقاله، و الإيمان بمنصبه، و الاعتقاد بمقامه، و على هذا إذا كان بين المقترحين للمعجزة من يكون الاتيان له بالإعجاز سببا لإيمانه بالنبيّ، فحينئذ كان الاتيان بالمعجزة و تلبية اقتراحه أمرا مستحسنا، و غير مقبوح عقلا.

أما إذا كان المقترحون. يقترحون عنادا و لجاجا، أو يطلبون ما يطلبونه لهوا و تسلية كما يفعل الناس مع السحرة و المرتاضين فان منزلة الأنبياء أجلّ- حينئذ- من أن يلبيّ مثل هذه المقترحات، و يستجيب لمثل هذه المطالب، و قد كانت بعض اقتراحات المشركين من هذا النمط.

فان مطالبتهم بأن يصعد النبيّ الى السماء، أو أن ينزل

من السماء كتابا يقرءونه لم يكن بهدف اكتشاف الحقيقة لأنهم لو كانوا ممن يهدف الوصول الى الحقيقة فلما ذا لم يكتفوا بمجرّد صعوده الى السماء بل كانوا يصرّون على أن يضمّ أمرا آخر إلى عروجه و صعوده (و هو أن ينزّل معه كتابا)!!

(2) ثم انه يستفاد من آيات اخرى، غير هاتين الآيتين أيضا، أنهم كانوا سيعاندون، و يصرون على كفرهم حتى بعد نزول الكتاب عليهم من السماء كما يصرح بذلك قوله تعالى:

«وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» «1».

فمن غير المستبعد أن يكون الكتاب المنزّل في قرطاس إشارة إلى اقتراح المشركين الذي جاء ضمن آيات سورة الاسراء اي قولهم: «أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» «2» فقال اللّه سبحانه: حتّى لو

______________________________

(1) الانعام: 7.

(2) الأسراء: 93.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:436

فعلنا لهم ذلك لكفروا، و احجموا عن الإيمان.

(1) رابعا: إنّ طلب المعجزة إنّما هو لأجل أن يستتبع الاتيان بها الإيمان بالرسالة و الانضمام الى صفوف المؤمنين، فاذا كانت نتيجة المعجزة هي إباء المقترحين استلزم ذلك نقض الغرض المنشود من المعجزة، و انتفاء فائدتها.

فاذا كان المقصود من سقوط السماء عليهم، هو نزول الصخور السماوية لابادتهم فان هذا الطلب لا يتفق أبدا مع هدف الإعجاز و هو من أوضح مصاديق نقض الغرض.

(2) و بالتالي ينبغي أن نذكّر بنقطة و هي: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله- على خلاف ما تصوّر المستدلّون بهذه الآية على نفي أية معجزه لرسول الإسلام- لم يصف نفسه بالعجز و عدم القدرة على الاتيان بالمعجزة بل أفاد بقوله: «سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» «1» أمرين:

(3) 1- تنزيه

اللّه، فهو بقوله: «سبحان ربّي» نزّه اللّه تعالى عن كل عجز و نقص كما نزّهه عن الرؤية و وصفه بالقدرة على كل شي ء ممكن.

(4) 2- محدوديّة قدرة النبيّ، إذ بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «هل كنت إلا بشرا رسولا» أفاد بأنه امرئ مأمور لا أكثر و أنه مطيع لأمر اللّه و إرادته فهو يأتي بما يريد ربّه، و الأمر إلى اللّه كله، و ليس للنبيّ أن يلبّي أي طلب و اقتراح بارادته.

و بعبارة اخرى: ان الآية ركّزت في مقام الجواب على طلبهم بعد تنزيه اللّه عن العجز و الرؤية على كلمتي: «البشر و الرسول» و الهدف هو انه: إذا أنتم قد طلبتم هذه الامور منّي من جهة إنني بشر، كان طلبكم هذا طلبا غير صحيح، لأن هذه الامور تحتاج إلى قدرة إلهية.

و إن طلبتموها منّي من جهة اني نبيّ رسول فان النبي و الرسول ما هو إلّا إمرئ مأمور يفعل ما ياذن به اللّه، و ليس له ان يفعل ما يشاء هو دون إرادة اللّه تعالى.

______________________________

(1) الأسراء: 93.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:437

و بهذا اتضح أن هذه الآيات لا تدلّ على ما استدل به النافون لمعاجز النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و كان ممّا تحججت به قريش على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انّهم قالوا:

لو كان محمّدا نبيّا لشغلته النبوة عن النساء و لأمكنه جمع الآيات (اي لأتته الآيات دفعة واحدة) و لأمكنه منع الموت عن أقاربه و لما مات أبو طالب و خديجة فنزل قوله تعالى:

«وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. يَمْحُوا

اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ».

و بذلك ردّ عليهم «1» «2».

(1)

الدوافع وراء معاداة قريش و عنادهم:
اشارة

هذا القسم هو احدى النقاط الجديرة بالدراسة في تاريخ الإسلام، لأن المرء قد يسائل نفسه: لما ذا ترى كانت قريش تعارض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أشدّ المعارضة رغم أنها كانت تعتبره الصادق الأمين و لم تعهد منه انحرافا أو خطأ قط و كانت تسمع كلامه الفصيح البليغ الذي يأسر القلوب، و ربما شاهدوا حدوث بعض الخوارق للعادة، الخارجة عن حدود القوانين الطبيعية على يديه.

إن لهذا التمرد و المعارضة الى علة او علل عديدة هي:

(2)

1- حسدهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لقد عارض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خالفه فريق ممن عارضه بسبب

______________________________

(1) الرعد: 38- 40.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 17 عن المناقب.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:438

حسدهم له، فقد كانوا يتمنّون أن يكونوا هم صاحب هذا المنصب، و صاحب هذه المنزلة.

فقد قال المفسّرون عند قوله تعالى: «وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» «1» أن «الوليد بن المغيرة» قال: أ ينزّل على محمّد و اترك و أنا كبير قريش و سيّدها و يترك «ابو مسعود عمرو بن عمير الثقفي» سيد ثقيف و نحن عظيما القريتين فأنزل اللّه تعالى فيه الآية «2».

و روى انه قال: و اللّه لو كانت النبوّة حقا لكنت أولى بها منك لأنّني اكبر منك سنا و أكثر منك مالا «3».

(1) و كان «اميّة بن أبي الصلت» من الذين كانوا يقولون هذا الكلام حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان يتمنى كثيرا أن ينال هو هذا المقام و يخطى بهذا المنصب العظيم، و لم يتبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى آخر حياته، و كان يؤلّب الناس عليه.

و قد سأل «الاخنس بن شريق»- و هو

من أعداء رسول اللّه- أبا جهل يوما:

يا ابا الحكم ما رأيك فيما سمعت من «محمّد»؟

فقال: ما ذا سمعت، تنازعنا نحن و بنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، و حملوا فحملنا، و أعطوا فأعطينا حتى إذا تجاذبنا على الركب، و كنا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى تدرك مثل هذه، و اللّه لا نؤمن به أبدا و لا نصدّقه «4».

هذه النماذج تظهر الحسد الذي كان يحول بين زعماء قريش و ساداتها و بين اتّباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تصديقه، فعتوا على اللّه و تركوا أمره عيانا، و لجّوا فيما هم عليه من الكفر، و هناك نماذج و أمثلة اخرى سجّلتها صفحات التاريخ أعرضنا عن إدراجها هنا.

______________________________

(1) الزخرف: 31.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 361.

(3) بحار الأنوار: ج 18 ص 235.

(4) السيرة النبوية: ج 1 ص 315 و 316.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:439

(1)

2- معارضة الدعوة الإسلامية لشهواتهم:

و كان لهذا العامل الأثر الاكبر في عتو قريش و معارضتها لدعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله لأنهم كانوا أصحاب لهو و لعب، و فسق و مجون، و مثل هؤلاء الذين أمضوا سنوات عديدة على هذا النحو، دون ان يقيّدهم شي ء من الحدود و القيود، وجدوا دعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله تخالف عادتهم القديمة، و كان ترك مثل تلك العادة التي تتفق مع أهوائهم و رغباتهم النفسيّة أمرا يلازم النصب و العناء و الجهد.

(2)

3- الخوف من عقوبات اليوم الآخر:

إن سماع آيات العذاب التي تنذر الفسقة و الظالمين و توعدهم بالعقوبات الثقيلة ارعب قلوبهم، و أقلق نفوسهم بشدة.

فعند ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتلو الآيات المتعلّقة بيوم القيامة و أوضاعه، و قضاياه في الاجتماعات و الاماكن العامة، كان يحدث بذلك ضجة كبرى في أوساطهم، فيهدم مجالس لهوهم، و انسهم.

إنّ العربي الذي كان يسلّح نفسه بكل ما استطاع من سلاح ليدفع عن نفسه أي خطر محتمل، و يعمد الى ممارسة القرعة و يتعاطى الانصاب و الازلام ليحصل على لقمة عيشه، و يتفأل بالأحجار، و يتطيّر و يتشاءم بالطيور و يستدلّ بحالاتها على حوادث وقعت أو تقع، لم يكن على استعداد لأن يهدأ من دون ان يحصل على ضمان بعدم التعرض لما يخبر عنه «محمّد» من عذاب و عقاب!!

من هنا كانوا يحاربون النبي صلّى اللّه عليه و آله و يخالفونه حتى لا يسمعوا وعده و وعيده.

و إليك بعض الآيات التي كانت تقلق بشدة نفوس المترفين من قريش:

«فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ. وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» «1».

______________________________

(1) عبس: 33- 37.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:440

و بينما

كانوا يمدّون موائد اللهو و الشراب في ظلال الكعبة و يحتسون كئوس الخمر كانوا فجأة يسمعون هذه الآية:

«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ». «1»

فتلقي في نفوسهم رعبا عجيبا، و ينتابهم الاضطراب الشديد حتى أنهم كانوا يلقون بكؤوس الخمر جانبا و يتملكهم خوف شديد لم يعرفوا له مثيلا.

(1)

4- الخوف من القبائل العربية المشركة:

قال «الحارث بن نوفل بن عبد مناف» لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انا لنعلم أنّ قولك حق و لكن يمنعنا أن نتبع الهدى و نؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا (إن تركنا الوثنية التي تدين بها و يعتبروننا سدنة لأوثانها) و لا طاقة لنا بها. فنزل قوله تعالى يرد عليهم:

«وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا» «2» «3».

و هكذا كان تخوّف قريش من العرب إن هي تركت ما كان عليه العرب من الوثنية و الشرك أحد الاسباب لعتوهم و إعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية.

(2)

طائفة من اعتراضات المشركين:

و ربما اعترض المشركون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قائلين: إن هذه الارض ليست بأرض الأنبياء، و إنما ارض الأنبياء الشام فات الشام «4».

و كان اكثر المشركين يقولون- و ذلك بوحي من اليهود- لما ذا لا ينزل القرآن على «محمّد» دفعة واحدة كالتوراة و الانجيل فحكى القرآن الكريم اعتراضهم

______________________________

(1) النساء: 56.

(2) القصص: 57.

(3) بحار الأنوار: ج 18 ص 236.

(4) بحار الأنوار: ج 18 ص 198.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:441

هذا بنصه اذ قال:

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً».

ثم قال تعالى ردّا على اعتراضهم هذا:

«كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» «1».

إن القرآن يهتم بهذا الاعتراض، و يوضح مسألة «النزول التدريجي» للقرآن الكريم و يقطع الطريق على المستشرقين المغرضين و من حذى حذوهم، بمنطقه المحكم، و بيانه القويّ.

و ها نحن نعمد هنا الى إعطاء شي ء من التوضيح لهذه المسألة أيضا:

(1)

القرآن و النزول التدريجيّ:

إن التاريخ القطعيّ لنزول القرآن و كذا مضامين آيات سوره تشهد بأن آيات القرآن الكريم و سوره نزلت تدريجا.

فبمراجعة فاحصة لأوضاع مكة، و المدينة يمكن تمييز المكيّ من هذه الآيات عن مدنيّها.

فالآيات التي تتحدث عن مكافحة الشرك و الوثنية و دعوة الناس الى اللّه الواحد، و الإيمان باليوم الآخر مكيّة، بينما تكون الآيات التي تدور حول الأحكام و تحثّ على الجهاد و القتال مدنيّة، ذلك لأنّ الخطاب في البيئة المكيّة كان موجّها الى المشركين عبدة الاوثان الذين كانوا ينكرون توحيد اللّه، و اليوم الآخر، فهنا تكون الآيات التي تتحدث حول هذا الموضوع قد نزلت في هذه البيئة.

(2) في حين كان الخطاب في المدينة المنورة موجّها إلى المؤمنين باللّه، و الى جماعة اليهود و النصارى، و كان الجهاد و القتال في سبيل إعلاء كلمة اللّه هو

الأعمال المهمّة التي بدأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و واصلها في هذه البيئة، من هنا تكون الآيات التي تتضمن الحديث حول الاحكام و الفروع و القوانين، و يدور

______________________________

(1) الفرقان: 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:442

الحديث فيها أيضا حول عقائد اليهود و النصارى و مواقفهم و تتضمن الحثّ- كذلك- على الجهاد و القتال و التضحية في سبيل اعلاء كلمة اللّه و إعزاز دينه، آيات مدنيّة.

(1) إنّ كثيرا من الآيات ترتبط ارتباطا وثيقا بالحوادث التي وقعت في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هذه الحوادث هي التي تشكّل ما يسمّى بشأن أو أسباب النزول التي يكون الوقوف عليها موجبا لفهم مفاد الآية، و اتّضاح مفادها، فان وقوع هذه الحوادث كان سببا لنزول آيات فيها بالمناسبة.

على أن بعض الآيات الاخرى نزلت جوابا على أسئلة الناس، و لرفع حاجاتهم في المجالات المختلفة.

و البعض الآخر منها نزلت لبيان المعارف و الأحكام الالهية.

و لهذه الاسباب يمكن القول بان القرآن الكريم نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تدريجا لتدرّج موجبات النزول.

و قد صرّح القرآن و الكريم بهذا الأمر أيضا في بعض المواضع اذ قال:

«وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» «1».

(2) و هنا ينطرح هذا السؤال و هو: لما ذا لم تنزل آيات القرآن كلها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة، و دفعة واحدة كما حدث ذلك للتوراة و الإنجيل من قبل؟!

إنّ هذا السؤال لم يكن جديدا بل طرحه أعداء النبي صلّى اللّه عليه و آله و معارضوه في عصر الرسالة في صورة الاعتراض أيضا حيث كانوا يقولون:

«لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً» «2».

(3) و يمكن تقرير و شرح هذا

الاعتراض على نحوين:

(4) 1- إذا كان الإسلام دينا إلهيا، و كان القرآن كتابا سماويا منزلا من جانب اللّه على رسوله، فلا بدّ أن يكون دينا كاملا، و مثل هذا الدين الكامل

______________________________

(1) الاسراء: 106.

(2) الفرقان: 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:443

يجب أن ينزل بواسطة ملائكة الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة من دون تدرّج و لا توقف في نزول الآيات، اذ لا مبرّر و لا داعي لأن ينزل دين كامل من جميع الجهات، مكمّل من حيث الأصول و الفروع و التشريعات و الواجبات و السنن، على نحو التدريج في 23 عاما، و لمناسبات مختلفة.

و حيث أن القرآن نزل منجّما، و بصورة متفرقة متناثرة، و عقيب طائفة من الأسئلة، أو وقوع حوادث و طروء حاجات في أزمنة مختلفة يمكن الحدس بان هذا الدين لم يكن كاملا من حيث الأصول و الفروع، و هو يتدرّج في التكامل و مثل هذا الدين الناقص الذي يسير نحو كماله خطوة خطوة و بالتدريج لا يصح أن يوصف بالدين الالهيّ.

(1) 2- إن آيات القرآن و التاريخ القطعي و المسلّم للتوراة و الإنجيل و الزّبور تحكي جميعها عن أن هذه الكتب السماوية اعطيت إلى المرسين بها في ألواح مكتوبة مدوّنة، فلما لم ينزل القرآن الكريم على هذا الغرار، كأن ينزل القرآن على «محمّد» في لوح مكتوب كما نزل التوراة في الواح مكتوبة؟!

و حيث أن المشركين لم يكونوا يعتقدون بهذه الكتب السماوية قط، و لم يكن لهم على علم مسبق بكيفية نزولها، لذا يمكن القول بان مقصودهم من هذا الاعتراض كان هو الشكل الأول من هذا التوضيح، و الذي يتلخص في أنه لما ذا لم ينزّل ملائكة الوحي آيات القرآن على رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة، بل نزلت هذه الآيات عليه صلّى اللّه عليه و آله في فواصل زمنية متفاوتة، و بمناسبات و حسب وقائع مختلفة متدرّجة؟!

(2)

الأسرار المنطقيّة للنزول التدريجي للقرآن:
اشارة

و لقد كشف القرآن القناع- في معرض الردّ على اعتراض المشركين هذا- عن حكم و أسرار النزول التدريجيّ للقرآن الكريم.

و إليك توضيح هذا القسم الذي اشار إليه الكتاب العزيز بعبارة مقتضة قصيرة:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:444

(1) 1- إن الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله يتحمّل مسئوليات كبرى، و ان شخصية كهذه من الطبيعي ان يواجه مشاكل و متاعب باهضة و صعبة، و لا ريب أن تلك المشاكل و المتاعب توجب الكلل، و انخفاض مستوى النشاط مهما كانت الروح التي يتمتع بها الشخص عظيمة، و قويّة، في مثل هذه الحالة يكون تجديد الارتباط بالعالم الأعلى، و تكرّر نزول الملك من جانب اللّه تعالى باعثا على تجدّد النشاط، و عاملا قويا في بثّ القوة و الحماس و المعنوية الفاعلة في نفس النبيّ و روحه، و بالتالي فان العناية و المحبّة الالهية الممتدّة لنبيّه و رسوله إنما تتجدد بتكرّر نزول الوحي عليه صلّى اللّه عليه و آله من جانبه تعالى.

و قد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة النفسية الكبرى اذ قال:

«كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» «1».

(2) 2- و يمكن ان تكون الجملة المذكورة ناظرة الى جهة اخرى و هي: ان المصالح التربوية و التعليمية تقتضي أن يتنزل القرآن الكريم على نحو التدريج و يلقى الى الناس على هذا الشكل أيضا و ذلك لان النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله معلّم الامة، و طبيبها الروحي الذي بعث الى الناس بالوصفات الالهية لتعليمهم، و هدايتهم و معالجة أمراضهم و أدوائهم الاجتماعية و الخلقيّة،

و الفكرية، و كلّف بأن يطبّق هذه الوصفات في حياتهم العملية، و مثل هذا يتطلب التدرّج لينفع الدواء- حينئذ- و تنجع المعالجة.

إن أفضل و أنجح أساليب التربية هو أن يمتزج الجانب العمليّ بالجانب النظري في أيّة محاولة تربوية، و أن يطبق كل ما يدرسه الاستاذ بصورة عملية تطبيقية، و يعطي لما يلقيه من معلومات، صبغة تحقيقية، و يتجنّب بشدة اتّصاف أفكاره و آراءه بالطابع النظريّ البحت.

(3) فلو أن الاستاذ المتخصّص في الطبّ اكتفى بالقاء جملة من المعلومات الكليّة و الاسس العامة من الطبّ على طلابه في الصف حرم النتائج المتوخّاة و الغايات

______________________________

(1) الفرقان: 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:445

المطلوبة من تعليم الطبّ، بشكل كامل.

أما إذا قرن الاستاذ درسه النظري بالإرشاد العمليّ و طبّق ما ألقاه و بيّنه من أفكار و معلومات في هذا المجال على جسم مريض راقد أمام الطلبة فانه سيحصل على نتائج أحسن، و يساعد الطلبة على فهم افضل للمواد التي درسوها في هذا المجال.

فلو أنّ الآيات القرآنية الكريمة قد نزلت جملة واحدة (و الحال أن المجتمع الإسلامي لم يكن يحتاج الى كثير منها) كان القرآن- حينئذ- فاقدا لهذه المزية التربوية الهامة التي أشرنا إليها قريبا في مثال تدريس الطب.

(1) ان بيان الآيات التي يشعر الناس في انفسهم بعدم الحاجة الى اخذها و تعلّمها، لا يترك التأثير الباهر في القلوب، بينما إذا نزل ملائكة الوحي بآيات القرآن حسب حاجات الناس التي يشعرون فيها بضرورة تعلّمها لتضمّنها الأحكام و الأصول و الفروع التي يحتاجون إليها فانه لا شكّ يكون لها في هذه الحالة تأثير أحسن و أقوى في قلوب الناس. كما سيكون لها ترسّخ اكبر في نفوسهم، و سيظهر الناس من انفسهم استعدادا اكبر لاخذ ألفاظها و

معانيها، و فوق كل ذلك سيشعرون بنتائج هذه التعاليم عند تعليم النبيّ إيّاها لهم، و عندئذ تتحقق المقولة التربوية التي أشرنا إليها في ما سبق و هي اقتران كلام المربّي بالنتيجة لأن النظريات اتّخذت طابعا عمليا، و لم تكن مجرد نظريات لا ترتبط بالواقع.

(2) و لكن يبقى هنا سؤال آخر و هو: إذا كان نزول القرآن قد تحقّق على نحو التدريج و تبعا للاحتياجات و الحوادث المختلفة، فان ذلك يستلزم انفصام العلاقات و الروابط بين الآيات و السور، و هذا ينتج أن لا يهتم الفكر البشري بتعلّم و حفظ معارفها لتبعثرها، و تباعد أزمنتها و غياب علاقاتها، و لكن لو نزل القرآن جملة واحدة و تلاه ملائكة الوحي على رسول اللّه دفعة واحدة لروعيت الروابط و العلاقات بين قضايا الوحي و لتضاعفت رغبة الناس و استعدادهم لأخذها و حفظها؟

سيد المرسلين ،ج 1،ص:446

(1) و لقد أجاب القرآن الكريم أيضا على هذا السؤال إذ قال: صحيح أن آيات القرآن الكريم نزلت على نحو التدريج تبعا لطائفة من المقتضيات و الموجبات إلّا أن هذا النزول التدريجي لا يمنع ابدا من ترابط مطالبه، و ارتباط مواضيعه بعضها ببعض، فان اللّه تعالى أفاض على هذه الآيات انسجاما و ترابطا خاصا يمكن الإنسان من تعلمها و ضبطها و حفظها إذا أعطى الموضوع قليلا من الاهتمام إذ قال تعالى:

«وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» «1».

أي إنّنا أعطينا آيات القرآن نظاما معينا و ترتيبا خاصا.

أسرار اخرى لنزول القرآن تدريجا:

(2) 3- لقد واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في فترة رسالته و نبوّته فئات مختلفة من الناس: كالوثنيين، و اليهود و المسيحيين الذين كان لكل فئة منهم دينا خاصا، و عقائد و تصورات خاصة حول المبدأ و المعاد، و

غيرهما من المعارف العقلية.

و قد كانت اللقاءات المختلفة هذه توجب أن يعمد الوحي الالهيّ إلى توضيح و بيان عقائد هذه الفئات (و إن لم يكن مطلوبا و مقترحا من قبلهم) و يقيم الأدلة و البراهين على بطلانها، و زيفها، هذا من جانب.

و من جانب آخر كانت هذه اللقاءات في أزمنة متفاوتة، و أوقات مختلفة، لهذا لم يكن بدّ من أن ينزل الوحي الالهي تدريجا، و في الأوقات المختلفة، و يتصدى لبيان بطلان تلك العقائد و التصورات و يجيب على شبهات المخالفين، اعتراضاتهم.

(3) و ربما كانت توجب هذه المواجهات العقائدية إلى أن يطرحوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعض الاسئلة امتحانا و اختيارا له و كان على النبيّ أن

______________________________

(1) الفرقان: 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:447

يجيب عليها، و حيث أن هذه الاسئلة كانت تطرح في أوقات مختلفة، لهذا لم يكن مناص من أن ينزل الوحي الالهي في الأوقات و الأزمنة المختلفة، و على نحو التدريج.

هذا مضافا الى أن حياة النبي نفسها كان حياة ثورة، و وقائع، و كان النبي يواجه باستمرار أحداثا و قضايا يجب توضيح حكمها، و بيان المنهج فيها من جانب الوحي الالهي.

و ربما كان الناس أنفسهم يواجهون في حياتهم اليومية حوادث و امورا يرجعون فيها الى النبي صلّى اللّه عليه و آله يطلبون منه الحكم الالهيّ فيها و يسألونه عما يجب اتّخاذه من الموقف الشرعيّ في تلك الحوادث و ما يشابهها.

و حيث أن هذه الحوادث، و ما يترتب عليها من تساؤلات كانت تقع في اوقات مختلفة، و بمرور الزمن، لذلك لم يكن بد أيضا من ان ينزل الوحي الالهيّ بالتدريج ليجيب على هذه الأسئلة أوّلا بأوّل.

و قد أشار القرآن الكريم إلى هذه النقاط، و

إلى نقاط اخرى غيرها في قوله تعالى:

«وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً» «1».

(1) 4- إن للنزول التدريجيّ للقرآن الكريم وراء كل ذلك سرا آخر، و علة اخرى غفلوا عنها، ألا و هي: هداية الناس و توجيه أنظارهم إلى منشأ هذا الكتاب، و أن القرآن ليس الّا كتابا سماويا، و وحيا إلهيا لا غير، و لا يمكن أن يكون من نسج العقل البشريّ، لأن القرآن نزل خلال (23 عاما) عبر طريق طويل من أنواع الحوادث و الوقائع المسرة و المحزنة، المقرونة بالنصر و الهزيمة، و النجاح و الإخفاق، و لا شكّ أن هذه الحالات المختلفة، و الاحاسيس و المشاعر المتنوعة المتباينة، تترك أثرا عميقا في نفس الإنسان، و روحه و عقله، و لا يمكن لإنسان واحد أن يتكلم بكلام من نوع واحد، و بنبرة واحدة، في حالتين

______________________________

(1) الفرقان: 33.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:448

نفسيّتين متضادتين، فالكلام الصادر في حال الفرح و الابتهاج و المسرة من اللسان او القلم، يختلف من حيث الفصاحة و البلاغة و جمال اللفظ و عمق المعنى اختلافا بارزا عن الكلام الصادر في حال الحزن و التعب، و الاخفاق، و الهزيمة.

(1) بينما لا يوجد أي شي ء من الاختلاف من حيث الألفاظ و المعاني بين آيات القرآن الكريم مع أنّها نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يمر بحالات مختلفة من الحزن و السرور و الاخفاق و الانتصار و السرّاء و الضرّاء، و العسر و الرخاء، و الجهد و النشاط، بل نجد تلك الآيات على نمط و نسق واحد من القوة و الفصاحة و البلاغة، و جمال اللفظ و عمق المعنى بحيث يستحيل على أيّ بشر بلغ ما بلغ

أن يعارض آية من آياته أو سورة من سوره، و كأنّ القرآن الكريم كمية من الفضّة المائعة خرجت من الاتون جملة واحدة لا يوجد بين آياتها أي شي ء من التفاوت و الاختلاف، أو كأنّه جوهرة واحدة أولها كآخرها و آخرها كأولها.

و لعلّ الآية التالية التي تنفي أيّ نوع من أنواع الاختلاف في القرآن اذ تقول:

«وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» «1» اشارة الى هذا السرّ.

إنّ المفسرين اعتبروا هذه الآية ناظرة إلى نفي الاختلاف و التناقض بين مفاهيم الآيات و مفاداتها، و مقاصدها، في حين لا تنفي هذه الآية مجرّد هذا النوع من الاختلاف بل تقدّس القرآن المجيد و تنزهه من جميع انواع الاختلاف و التناقض الذي هو من لوازم العمل و الانتاج البشري.

______________________________

(1) النساء: 82.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:449

(1)

17 الى الحبشة

الهجرة الاولى

تعتبر هجرة فريق من المسلمين الى أرض الحبشة دليلا بارزا على إيمانهم و اخلاصهم العميق لدينهم، و لربهم و ذلك لأن فريقا من الرجال و النساء يقررون- و بهدف الحفاظ على عقيدتهم و التخلص من أذى قريش و مضايقتها و الحصول على مكان آمن يقيمون فيه شعائرهم بحرية و يعبدون اللّه الواحد- مغادرة (مكة)، العربية التي ترزح تحت ظلام الوثنية، فلا يمكن أن يرفعوا نداء التوحيد عاليا في أية نقطة من نقاطها، و لا يمكنهم اقامة احكام الدين الحنيف فيها من دون خوف أو وجل، و بعيدا عن الارهاب، و يفكرون، و يفكرون، و أخيرا يقودهم التفكير إلى أن يفاتحوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذه المسألة، و يطلبوا في ذلك رأي النبي الذي يقوم دينه على مبدأ: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» «1».

(2) لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله يعرف أوضاع المسلمين المؤلمة جيدا، فقد كان هو يحظى بحماية بني هاشم، و كان الفتيان الهاشميون يحمونه و يحفظونه

______________________________

(1) العنكبوت: 56.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:450

من كل اذى، و لكن الذين آمنوا به من الإماء و العبيد، و من ليست لهم حماية من الأحرار المستضعفين الذي كانوا يشكلون عددا كبيرا من المسلمين السابقين كان يتعرضون لشتى صنوف العذاب و الايذاء و المضايقة من قريش التي لم تأل جهدا، و لم تدخر وسعا، و لم تفوّت فرصة و لا وسيلة لالحاق العنت و الأذى بالمؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لا يستطيع صلّى اللّه عليه و آله منعهم من ذلك.

و قد كان زعماء كل قبيلة يعمدون- للمنع من نشوب أيّ صدام بين القبائل- الى تعذيب من اسلم من ابناء قبيلتهم، و ايذائه و التنكيل به، و قد مرت عليك نماذج و امثلة من أذى قريش و تعذيبها القاسي للمسلمين.

(1) لهذه الأسباب عند ما طلب أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله رأيه في الهجرة من مكة قال في جوابهم:

«لو خرجتم إلى أرض الحبشة فانّ بها ملكا لا يظلم عنده أحد و هي أرض صدق حتى يجعل اللّه لكم فرجا ممّا أنتم فيه» «1».

أجل ان مجتمعا صالحا يتسلّم زمام الأمر فيه رجل صالح عادل نموذج مصغّر من جنّة عدن بالنسبة الى المسلمين المضطهدين في بلدهم بسبب عقيدتهم، و هو ما كان يريده و يتمناه أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليتمكنوا من القيام بشعائر دينهم فيه في جوّ من الطمأنينة و الامن.

و لقد كان لكلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أثر قوى في نفوسهم تلك الثلة المؤمنة الباحثة عن ارض تعبد

فيها اللّه في أمان، بحيث لم يمض زمان إلّا و قد شدّت رحالها و غادرت مكة ليلا في غفلة من الاجانب (المشركين) مشاة و ركبانا، متجهة نحو جدّة، للسفر عبر مينائها الى ارض الحبشة.

و كان هذا الفريق يتألف من عشر أو خمسة عشر شخصا بينهم أربعة من

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 321، تاريخ الطبري: ج 2 ص 70، و بحار الأنوار: ج 18 ص 412 نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:451

النسوة المسلمات «1».

(1) و الآن يجب أن نرى لما ذا لم يذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للمسلمين مناطق اخرى للهجرة إليها، و انما ذكر الحبشة فقط.

ان سر هذا الاختيار هذا يتضح إذا درسنا أوضاع الجزيرة العربية و غيرها من المناطق آنذاك.

ان الهجرة الى المناطق العربية التي كان سكانها من المشركين و الوثنيين قاطبة كان أمرا محفوفا بالخطر، فان المشركين كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم إرضاء لقريش أو وفاء و تعصبا لدين الآباء (الوثنيّة).

و كذلك المناطق التي كان يقطنها المسيحيّون أو اليهود، من الجزيرة العربية لم تكن تصلح لهجرة المسلمين إليها هي الاخرى لان تينك الطائفتين كانتا تتقاتلان فيما بينهما في صراع مذهبيّ و طائفي، فلم تكن الأوضاع لتسمح بأن يدخل طرف ثالث في حلبة الصراع، هذا مضافا إلى أن ذينك الفريقين (اليهود و النصارى) كانا يحتقران العنصر العربيّ أساسا، فكيف يمكن الهجرة الى مناطقهم و التعايش معهم؟!

(2) أما «اليمن» فقد كان تحت سيطرة الحكم الإيرانيّ الملكيّ، و لم تكن السلطات الإيرانية آنذاك لتسمح باقامة المسلمين في ربوع «اليمن»، لما عرف من نقمتها فيما بعد على الدعوة الاسلامية الى درجة انه لما وصلت رسالة النبي صلّى اللّه عليه و

آله الى «خسرو برويز» كتب الى عامله على اليمن فورا «احمل إليّ هذا الذي يذكر أنه نبيّ، و بدأ اسمه قبل اسمي، و دعاني إلى غير ديني» «2»!!.

و كذلك كانت «الحيرة» تحت الاستعمار و النفوذ الايرانيّ كاليمن.

(3) و أمّا «الشام» فقد كانت بعيدة عن «مكة المكرمة»، هذا مضافا الى ان «اليمن» و «الشام» كانتا سوقين لقريش، و كانت تربط قريش بسكان هاتين المنطقتين روابط و علاقات وثيقة، فاذا كان المسلمون يلجئون إليها اخرجوا منهما

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 70.

(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 382.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:452

بطلب من قريش، تماما كما طلبت من ملك الحبشة مثل هذا الطلب، و لكنه رفض طلبهم.

(1) و قد كانت الرحلة البحرية- في تلك الآونة- و بخاصة برفقة النساء و الاطفال رحلة شاقة جدا، من هنا كانت هذه الهجرة، و ترك الحياة و المعيشة في الوطن دليلا قويا على إخلاص اولئك المهاجرين لدينهم و عمق ايمانهم به، و صدقه.

و لقد كان ميناء «جدة» آنذاك ميناء تجاريا عامرا كما هو عليه الآن، و من حسن الاتفاق أن هذه الثلة المهاجرة قد وصلت الى هذا الميناء في الوقت الذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على اهبة الاقلاع، و التوجه نحو الحبشة، فبادر المسلمون إلى ركوبها و السفر عليها دون تلكّؤ خشية لحاق قريش بهم و القبض عليهم، لقاء نصف دينار عن كل راكب.

و كان ذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه «1».

و لما عرف المشركون بهجرة بعض المسلمين أمروا جماعة من رجالهم بملاحقة اولئك المهاجرين و أعادتهم الى مكة فورا، و لكن المسلمين المهاجرين كانوا قد غادروا شواطئ «جدة» قبل أن يدركهم الطلب «2».

(2) و من الواضح أن

ملاحقة مثل هذه الثلة التي لم تلجأ إلى أرض الغير إلّا لأجل الحفاظ على عقيدتها و الفرار من الفتنة لنموذج بارز من عتوّ قريش و عنادها.

فاولئك المهاجرون مؤمنون تركوا الأهل و الوطن، و اغمضوا الطرف عن المال، و التجارة، و خرجوا يطلبون أرضا نائية يمارسون فيها شعائرهم بحرية، و مع ذلك لا يكف عنهم زعماء مكة و جبابرتها و طغاتها!!

اجل ان رؤساء «دار الندوة» بمكة و اقطابها كانوا يعلمون جيدا أسرار هذه

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 412 نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 321- 323.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:453

الهجرة و آثارها من خلال بعض القرائن، و المؤشرات و لذلك كانوا يرددون فيما بينهم امورا سنذكرها في ما بعد.

هذا و الجدير بالذكر أن اعضاء هذا الفريق المهاجر لم يكونوا من قبيلة واحدة بل كان كل واحد من هؤلاء العشرة ينتمي الى قبيلة خاصة.

الهجرة الثانية الى الحبشة:

(1) ثم انه وقعت بعد هذه الهجرة هجرة اخرى، و كان في مقدمة المهاجرين هذه المرة «جعفر بن أبي طالب». ابن عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لقد تمت الهجرة الثانية في منتهى الحرّية، لأن المسلمين المهاجرين استطاعوا في هذه الهجرة ان يصطحبوا معهم نساءهم و أولادهم، بحيث بلغ عدد المسلمين في أرض الحبشة هذه المرة (83).

هذا إذا لم نحص من ولد في أرض الحبشة لهم، و الّا كان العدد اكثر من هذا الرقم.

و لقد وجد المسلمون المهاجرون ارض الحبشة كما وصفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم: منطقة عامرة، و بيئة آمنة حرّة، تصلح لأن يعبد فيها اللّه تعالى بحرية و أمان.

تقول «أمّ سلمة» التي تشرفت بالزواج من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

في ما بعد، عن تلك الارض: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنّا على ديننا، و عبدنا اللّه تعالى، لا نؤذى، و لا نسمع شيئا نكرهه.

كما أنه يستفاد ممّا قاله بعض اولئك المهاجرين من الشعر في الحبشة، انهم أمنوا بأرض الحبشة، و حمدوا جوار النجاشي، و عبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحدا.

(2) و نحن نكتفي هنا بادراج بعض الأبيات من قصيدة مطوّلة أنشأها «عبد اللّه بن الحارث» في هذا الصدد:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:454 يا راكبا بلّغن عنّي مغلغلة «1»من كان يرجو بلاغ اللّه و الدّين

كلّ امرئ من عباد اللّه مضطهدببطن مكّة مقهور و مفتون

أنّا وجدنا بلاد اللّه واسعةتنجي من الذلّ و المخزاة و الهون

فلا تقيموا على ذلّ الحياة و خزي في الممات و عيب غير مأمون «2» و يقول ابن الاثير: و كان مسيرهم (الى الحبشة) في رجب سنة خمس من النبوة و هي السنة الثانية من اظهار الدعوة فاقاموا شعبان و شهر رمضان و قدموا في شوال سنة خمس من النبوة، و كان سبب قدومهم الى النبي صلّى اللّه عليه و آله انه بلغهم ان قريشا اسلمت فعاد منهم قوم و تخلّف قوم «3».

هذا و يمكن للقارئ الكريم أن يقف على تفاصيل هذا القسم في السيرة النبويّة لابن هشام «4».

(1)

قريش توفد رجالا لاسترداد المسلمين:

عند ما بلغ قريشا و زعماء «مكة» ما أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن و حرية، و ما حصلوا عليه من حسن الجوار و الطمأنينة و الراحة في أرض الحبشة ثارت ثائرة الحسد و الغيظ في قلوبهم، و توجسوا خيفة من نفوذ المسلمين في الحبشة لأن أرض الحبشة قد أصبحت قاعدة قوية للمسلمين، و كانت الزعامة المكية تتخوف من أن يجد

أنصار الإسلام و اتباعه منفذا إلى بلاط النجاشي زعيم الاحباش و ملكهم، و يميّلوا قلبه نحو الإسلام، و يكسبوا تاييده للمسلمين، فيؤول الأمر إلى أن يعبّئ جيشا كبيرا للقضاء على حكومة المشركين الوثنيين في شبه الجزيرة العربية، و عندها تكون الكارثة.

(2) فاجتمع أقطاب «دار الندوة» مرة اخرى للتشاور في الأمر، فاستقرّ رأيهم على أن يبعثوا إلى البلاط الحبشيّ من يقدم إلى النجاشيّ و وزرائه و قواده هدايا

______________________________

(1) المغلغة: الرسالة ترسل من بلد الى بلد.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 351- 353.

(3) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 52 و 53.

(4) السيرة النبوية: ج 1 ص 354- 362.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:455

مناسبة يستميلونهم بها ليستطيعوا من هذا الطريق التأثير على النجاشي تم يتسنّى لهم بعد ذلك ان يقنعوه بضرورة إخراج المسلمين المهاجرين من أرضه أن يتهمونهم عنده بالسفاهة و الجهل، و ابتداع دين جديد منكر، و الارتداد عن دين الآباء و الاجداد!!

(1) و لكي تتحقق خطتهم هذه على أحسن وجه و يصلوا عن طريقها إلى أفضل النتائج اختاروا من بينهم رجلين ماكرين اصبح احدهما في ما بعد من دهاقنة السياسة و هما: «عمرو بن العاص»، و «عبد اللّه بن ابي ربيعة» و قال لهما كبير المؤتمرين في ذلك الدار: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشي فيهم، ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

فخرج موفدا قريش حتى قدما على النجاشي بعد أن تلقّيا هذه التعليمات.

و هناك في الحبشة دفعا الى كل بطريق من بطارقة النجاشيّ وقادة جيشه و وزرائه هديته، و قالا لكل بطريق منهم:

إنه قد ضوى «1» إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، و لم يدخلوا

في دينكم، و جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن و لا انتم، و قد بعثنا إلى الملك لنكلّمه في أمرهم أشراف قومهم ليردّهم إليهم فاذا كلّمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا، و لا يكلّمهم، فان قومهم أبصر بهم، و اعلم بما عابوا عليهم».

(2) فابدى اولئك البطارقة و القادة و الوزراء الطامعون الجهلة استعدادهم لمساعدة الرجلين في إنجاح مهمتهم.

و لما كان من غد دخلا على النجاشي و قدما هداياهما إليه فقبلها منهما ثم كلّماه فقالا له:

أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم و لم

______________________________

(1) ضوى أيّ لجأ و أتى ليلا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:456

يدخلوا في دينك، و جاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن و لا أنت، و قد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم و أعمامهم و عشائرهم لتردّهم إليهم، فهم أبصر بهم و اعلم بما عابوا عليهم و عاتبوهم فيه.

و ما أن انتهى موفدا قريش من الكلام إلّا و قالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قومهم أبصر بهم، و أعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما، فليرداهم الى بلادهم و قومهم.

(1) فغضب النجاشيّ و كان رجلا حكيما عادلا و قال: لاها اللّه، إذن لا اسلمهم إليهما، و لا يكاد قوم جاوروني، و نزلوا بلادي و اختاروني على من سواي حتى أدعوهم فاسألهم عما يقول هذان في أمرهم فان كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، و رددتهم الى قومهم، و ان كانوا على غير ذلك منعتهم منهما و احسنت جوارهم ما جاوروني.

ثم ارسل الى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المهاجرين الى الحبشة فدعاهم من غير أن يعلمهم بما يريد منهم، فحضروا عنده، و كانوا قد قرّروا أن يكون

متكلّمهم و خطيبهم: «جعفر بن أبي طالب» و قد قلق بعض المسلمين لما قد سيقوله «جعفر» عند الملك، و بما ذا سيكلّمه و يجيبه، فسألوه عن ذلك فقال لهم جعفر: أقول و اللّه ما علّمنا، و ما امرنا به نبينا صلّى اللّه عليه و آله كائنا في ذلك ما هو كائن.

(2) فالتفت النجاشي الى «جعفر» و سأله قائلا:

ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، و لم تدخلوا (به) في ديني و لا في دين أحد من هذه الملل؟

فقال جعفر بن ابي طالب:

«أيّها الملك، كنّا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، و نأكل الميتة، و نأتي الفواحش، و نقطع الارحام، و نسي ء الجوار، و يأكل القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث اللّه إلينا رسولا منا، نعرف نسبه و صدقه، و أمانته و عفافه، فدعانا الى اللّه لنوحّده و نعبده، و نخلع ما كنّا نعبد نحن و آباؤنا من دونه من

سيد المرسلين ،ج 1،ص:457

الحجارة و الأوثان، و أمرنا بصدق الحديث، و أداء الأمانة، و صلة الرحم، و حسن الجوار، و الكف عن المحارم و الدماء، و نهانا عن الفواحش، و قول الزور، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات. و أمرنا أن نعبد اللّه وحده، لا نشرك به شيئا، و أمرنا بالصلاة و الزكاة و الصيام فصدّقناه و آمنّا به، و اتّبعناه على ما جاء به من اللّه، فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئا، و حرّمنا ما حرّم علينا، و أحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذّبونا، و فتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الاوثان من عبادة اللّه تعالى، و ان نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث، فلمّا قهرونا و ظلمونا و ضيّقوا علينا، و

حالوا بيننا و بين ديننا، خرجنا إلى بلادك، و اخترناك على من سواك، و رغبنا في جوارك، و رجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك».

(1) فأثّرت كلمات جعفر البليغة، و حديثه العذب تأثيرا عجيبا في نفس النجاشيّ بحيث اغرورقت عيناه بالدموع، و قال: لجعفر هل معك ممّا جاء به عن اللّه من شي ء؟

فقال جعفر: نعم فقال له النجاشيّ: فاقرأه عليّ، فقرأ عليه جعفر آيات من مطلع سورة مريم، و استمرّ في قراءته، و بذلك بيّن نظرة الإسلام إلى «مريم» عليها السّلام و طهارة جيبها، و الى مكانة المسيح عليه السّلام، و عظمة شأنه، و جليل مقامه، فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته بالدموع و بكت اساقفته «1» حتى بلّوا مصاحفهم بها حين ما سمعوا ما تلاه جعفر عليهم حول مريم و المسيح عليهما السّلام.

و بعد صمت قصير ساد ذلك المجلس قال النجاشي:

«إن هذا و الذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة» و هو يقصد أن القرآن و الإنجيل كلام اللّه و أنهما شي ء واحد.

ثم التفت الى موفدي قريش و قال لهما بنبرة قوية: انطلقا فلا و اللّه لا اسلّمهم إليكما و لا يكادون، فخرجا من عنده.

______________________________

(1) الاساقفه؛ جمع اسقف: علماء النصارى. سيد المرسلين ج 1 458 قريش توفد رجالا لاسترداد المسلمين: ..... ص : 454

سيد المرسلين ،ج 1،ص:458

(1) و عند المساء تكلم «عمرو بن العاص»- و كان امرأ خدّاعا ماكرا- مع رفيقه «عبد اللّه بن ربيعة» في الأمر، و قال له: و اللّه لآتينّه غدا عنهم بما استأصل به حضراءهم (و هو يعني أنه سيأتي بحيلة تقضي على جذور المهاجرين بالمرة) و لاخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. (أي على خلاف ما يعتقد النصارى في

المسيح).

فنهاه «عبد اللّه» عن ذلك و قال: لا تفعل، فانّ لهم أرحاما، و ان كانوا خالفونا، و لم ينفع نهي عبد اللّه له.

(2) و لمّا كان من الغد دخلا على النجاشيّ مرة اخرى فقال له «عمرو» متظاهرا هذه المرة بالدفاع عن عقيدة النصارى و هي دين الملك و اهله، و منتقدا رأي المسلمين.

أيها الملك، إنهم يقولون في «عيسى بن مريم» قولا عظيما. فارسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.

فارسل النجاشي إليهم ليسألهم عنه، و هو الملك المحنّك الذي لا يأخذ الامور على ظواهرها، و من غير تحقيق و دراسة، فأدرك المسلمون بفطنتهم أنه سيسألهم هذه المرة عن موقفهم من المسيح عليه السّلام فاتفقوا أن يكون «جعفر» متكلمهم و خطيبهم و عند ما سألوه عما سيجيب به الملك قال: أقول و اللّه ما قال اللّه، و ما جاءنا به نبينا.

(3) فلما دخلوا على النجاشيّ قال لجعفر بن ابي طالب: ما ذا تقولون في عيسى بن مريم؟

فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلّى اللّه عليه و آله: هو عبد اللّه و رسوله و روحه و كلمته القاها الى مريم العذراء البتول.

فسرّ النجاشي لكلام جعفر و رضي به و قال: هذا و اللّه هو الحق، و اللّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلت

و لكنّ حاشيته لم ترض بهذا الكلام و لم تقبل بما قاله الملك، و لكنّه لم يعبأ بهم، و أيّد مقالة المسلمين، و منحهم الحرية الكاملة، و الأمان الكامل قائلا لهم:

سيد المرسلين ،ج 1،ص:459

اذهبوا فانتم آمنون في أرضي من سبّكم غرم، من سبّكم غرم، ما احب أنّ لي دبرا من ذهب و إني آذيت رجلا منكم.

و ردّ على موفدي قريش هداياهما قائلا لهما: «ردّوا عليهما

هداياهما فلا حاجة لي بها، فو اللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي فاخذ الرشوة فيه، و ما أطاع الناس فيّ فاطيعهم فيه».

فخرج مبعوثا قريش مقبوحين مردودا عليهما ما جاء به يجرّان اذيال الخيبة «1».

و ينبغي ان نسجّل هنا موقفا آخر من مواقف ابي طالب في تأييد المسلمين، و نصرة الدين الحنيف.

فقد أرسل «ابو طالب» أبياتا للنجاشيّ يحثّه على الدفع عن المهاجرين و حسن جوارهم و تلك الابيات هي:

ألا ليت شعري كيف في النأي جعفرو عمرو و اعداء العدو: الأقارب؟

و هل نالت افعال «2» النجاشيّ جعفراو أصحابه أو عاق ذلك شاغب؟

تعلّم، أبيت اللعن، انك ماجدكريم فلا يشقى لديك المجانب

تعلّم بان اللّه زادك بسطةو أسباب خير كلّها بك لازب

و أنك فيض ذو سجال غزيرةينال الاعادي نفعها و الاقارب «3»

(1)

العودة من الحبشة:

قلنا في ما مضى أنّ المجموعة الاولى من المهاجرين رجعت من الحبشة الى مكة لأنباء بلغتها عن إسلام قريش عامة و انضوائها تحت راية الإسلام. حتى إذا دنوا من «مكة» بلغهم أن ما كانوا تحدّثوا به من إسلام اهل مكة كان باطلا،

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 338، إمتاع الاسماع: ص 21 بحار الأنوار: ج 18 ص 414 و 415.

(2) إحسان.

(3) السيرة النبوية: ج 1 ص 333 و 334.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:460

فلم يدخل منهم الى «مكة» إلّا قليل دخلوها مستخفين أو في جوار بعض الشخصيات القرشية بينما عاد الأكثرون من حيث جاءوا.

(1) و كان ممن دخل «مكة» بجوار «عثمان بن مظعون» الذي دخلها بجوار «الوليد بن المغيرة» «1» و لكنه كان يشاهد ما فيه أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من البلاء، و العذاب و هو يغدو و يروح في امان فتألّم

لذلك و لم تطق نفسه تحمّل هذا الفرق و قال: و اللّه إن غدوّي و رواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، و أصحابي و أهل ديني يلقون من البلاء و الأذى في اللّه ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي. فمشى الى «الوليد بن المغيرة» و ردّ عليه جواره ليواسي المسلمين و يشاركهم في آلامهم و متاعبهم و قال: يا أبا عبد شمس وفت ذمّتك، قد رددت إليك جوارك.

قال: لم يا ابن أخي؟ لعلّه آذاك أحد من قومي؟

قال: لا و لكني أرضى بجوار اللّه و لا اريد أن أستجير بغيره.

فقال الوليد له: إذن فاردد عليّ جوارى علانية كما أجرتك علانية.

(2) فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال «الوليد» مخاطبا من حضر من قريش: هذا عثمان قد جاء يردّ عليّ جواري.

قال: صدق، قد وجدته وفيّا كريم الجوار و لكنّي قد احببت أن لا استجير بغير اللّه، فقد رددت عليه جواره «2».

ثم لم يمض شي ء من الوقت حتى دخل المسجد «لبيد» و كان شاعرا متكلّما بارزا من شعراء العرب و متكلّميها و وقف في مجلس من قريش ينشدهم و «عثمان بن مظعون» جالس معهم فقال من جملة ما قال شعرا:

ألّا كل شي ء ما خلا اللّه باطل

فقال عثمان بن مظعون: صدقت فقال: لبيد:

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 369.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 370.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:461 و كل نعيم لا محالة زائل

(1) قال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول فاستثقل «لبيد» تكذيب عثمان و تحدّيه له في ذلك الجمع فقال: يا معشر قريش و اللّه ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجل من القوم: إنّ هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدن

في نفسك من قوله.

فردّ عليه «عثمان» حتى تفاقم الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضّرها (و اصابها)، و الوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال: أما و اللّه يا ابن أخي إن كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة (و هو يريد أنك لو بقيت في ذمتي و جواري لما اصابك ما أصابك).

فقال عثمان رادّا عليه: بل و اللّه إن عيني الصحيحة لفقيرة الى مثل ما أصاب اختها في اللّه، و اني لفي جوار من هو أعزّ منك، و أقدر يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد: هلمّ يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جوارك، فقال ابن مظعون: لا «1».

و كانت هذه صورة رائعة من صور كثيرة لصمود المسلمين، و تفانيهم في سبيل العقيدة، و إصرارهم على النهج الذي اختاروه، و مواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

(2)

وفد مسيحيّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة:

قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، مبعوثين من قبل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة، و التعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في المسجد، فجلسوا إليه، و كلّموه و سألوه عن مسائل، و رجال من قريش فيهم «أبو جهل» في أنديتهم حول الكعبة.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 370 و 371.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:462

فلما فرغوا من مسألة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عما أرادوا دعاهم- صلّى اللّه عليه و آله- إلى اللّه عزّ و جلّ و تلا عليهم آيات من القرآن الكريم، فكان لها من التأثير البالغ في نفوسهم بحيث عند ما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له و آمنوا به

و صدّقوه، بعد ما عرفوا منه ما كان يوصف في كتابهم (الانجيل) من أمره.

فلما قاموا عنه، و رأت قريش ما نتج عنه ذلك اللقاء استثقله «ابو جهل» فقال للنصارى الذين اسلموا معترضا و موبّخا: خيّبكم اللّه من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم و صدّقتموه بما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم.

فأجابه اولئك بقولهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، و لكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا «1».

و بذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا على فرعون مكة الذي كان يبغي- كسحابة داكنة- حجب أشعة الشمس المشرقة، و حالوا دون وقوع صدام.

(1)

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق:

لقد أيقظ وفد نصارى الحبشة الى مكة و ما نجم عن لقائهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قريشا و دفعهم الى تكوين وفد يتألف من: «النضر بن الحارث» و «عاقبة بن ابي معيط» و غيرهما و إرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دينه.

فقال أحبار اليهود لمبعوثي قريش: سلوا محمّدا عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، و ان لم يفعل فالرجل متقوّل، فروا فيه رأيكم، سلوه:

1- عن فتية ذهبوا في الدهر الأول (يعنون بهم أصحاب الكهف) ما كان

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 390 و 393 و قد نزلت في هذا الشأن الآيات 52 الى 55 من سورة القصص.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:463

من امرهم، فانه قد كان لهم حديث عجيب.

2- و عن رجل طوّاف (يعنون به ذا القرنين) قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها ما كان نبؤه و خبره؟

3- و عن الروح ما هي؟

(1) فاذا أخبركم

بذلك فاتبعوه، فانه نبيّ، و ان لم يفعل، فهو رجل متقوّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فعاد وفد قريش الى «مكة» و لما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاؤوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و طرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انتظر في ذلك وحيا «1».

ثم نزل الوحي يحمل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة.

و قد ورد الجواب عن السؤال عن الروح في الآية 85 من سورة الإسراء.

و اجيب على السؤالين الآخرين عن أصحاب «الكهف» و ذي القرنين بتفصيل في سورة «الكهف» ضمن الآيات 9- 28 و الآيات 73- 93.

و قد وردت تفصيلات هذه الإجابات التي أجاب بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أسئلتهم في كتب التفسير.

و لا بدّ هنا من أن نذكّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة و هي أنّ المراد من «الرّوح» في سؤال القوم ليس هو الرّوح الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين، (بقرينة أنّ المقترحين الاصليين لهذه الأسئلة: هم اليهود و كانوا يكرهون الروح الامين، و يعادونه)، و هو أمر مبحوث في محلّه من كتب التفسير.

______________________________

(1) السيرة النبويّة: ج 1 ص 300- 302.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:465

(1)

18 الأسلحة الصديئة و الاساليب الفاشلة

اشارة

نظّم أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين و أهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يثنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن المضيّ في مواصلة دعوته، و ذلك بتطميعه بالمال و الجاه و ما شابه ذلك، و لكن لم يحصلوا من ذلك على شي ء، فقد خيّب ذلك الرجل المجاهد ظنونهم فيه، و بدّد آمالهم

في اثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية: «و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلت» و هو يعني ان تمليكه العالم كله لا يثنيه عن هدفه و لا يصرفه عن تحقيق ما ندب إليه، و ارسل به.

(2) فعمدوا الى سلاح آخر هو التهديد و الأذى، و التنكيل به و باصحابه و انصاره، و لكنهم واجهوا صموده و صمود أنصاره و اصحابه، و ثباتهم الذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان، و خيبة المشركين و هزيمتهم.

و قد بلغ من ثبات المسلمين على الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن، و ترك الأهل و العيال، و الهجرة إلى الحبشة فرارا بدينهم إلى اللّه، و سعيا وراء نشره و بثه في غير الجزيرة من الآفاق.

و لكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجبهات و الميادين

سيد المرسلين ،ج 1،ص:466

و عجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية، و فشل جميع الأسلحة التي استخدموها للقضاء على الدين الجديد و أهله، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

(1) و هذا السلاح هو سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لانه صحيح أن ايذاء و تعذيب جماعة المؤمنين في «مكة» تمنع غيرهم من سكان «مكّة» من الانضواء إلى الإسلام إلّا ان الحجيج الذين كانوا يسافرون الى مكة في الأشهر الحرم و كانوا يلتقون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جوّ من الأمن و الطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثّرون بدعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يتزعزع اعتقادهم بالأوثان على الأقل، إن لم يؤمنوا بدينه، و لم يستجيبوا

لدعوته، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام و انباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى مواطنهم، و مناطقهم و كان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه، و أنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية، و كان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجّه إلى صرح الوثنية في مكة، و عاملا قويا في انتشار عقيدة التوحيد، و سطوع أمره.

من هنا اتخذ سادة قريش اسلوبا آخر، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام، و اتساع رقعته، و قطع علاقة المجتمع العربي به.

و إليك فيما ياتي بيان تفاصيل هذا الاسلوب، و هذه الخطة:

(2)

1- الاتّهامات الباطلة:
اشارة

يمكن التعرف على شخصية أي واحد و تقييمها من خلال ما يرميه به اعداؤه من شتائم و سباب، و ما يكيلون له من اتهامات و نسب، فان العدو يسعى دائما الى أن يتهم خصمه بنوع من انواع التهم ليضلّ الناس، و يصرفهم عنه، و ليتمكن بما يحوكه حوله من أراجيف و أباطيل الحط من شأنه في المجتمع و اسقاطه من الانظار و الأعين.

ان العدوّ الذكيّ يسعى دائما إلى ان ينسب إلى منافسه ما يصدّقه و لو فئة خاصة من الناس على الاقل، و يوجب شكّهم في صدقه، و يتجنب تلك النسب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:467

التي لا تصدّق في شأنه، و لا تناسب اخلاقه و افعاله المعروفة عنه، و لا تمسه بشكل من الأشكال، لأنه سوف لا يجني في هذه الحالة إلا عكس ما يقصد، و خلاف ما يريد.

(1) و من هنا يستطيع المؤرخ المحقق أن يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه، و على مكانته الاجتماعية، و أخلاقه و سجاياه و لو من خلال ما ينسبه الأعداء إليه، و ما يكيلون له من أكاذيب و افتراءات، و نسب باطلة و

اتهامات، لأنّ العدوّ الذي لا يخاف أحدا لا يقصّر في كيل كلّ تهمة تنفعه و تخدم غرضه إلى الطرف الآخر، و يستخدم هذا السلاح (أيّ سلاح الدعاية) ما استطاع، و ما ساعدته معرفته بالظروف، و درايته بالفرص.

فاذا لم ينسب إليه أيّ شي ء من تلك النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه، و نقاء صفحته، و تنزّه شخصيته عن تلك النسب، و لأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها و لم يصدّقها في شأنه.

و لو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أن قريشا مع ما كانت تكنّ من عداء، و تحمل من حقد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور، و أن تحطّ من شأن مؤسسه و بانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح، و تستخدمه كاملا.

(2) فقد كانت تفكّر في نفسها: ما ذا تقول في حق رسول اللّه؟ و ما ذا ترى تنسب إليه؟؟

هل تتهمه بالخيانة المالية و ها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟! «1» كما أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع، فهو الامين بلا منازع؟

هل تتهمه بالجري و الانسياق وراء الشهوة و اللّذة؟ و كيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ الى درجة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 62.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:468

ما، و بقي معها حتى لحظة انعقاد هذه الشورى في «دار الندوة» بهدف الدعاية ضدّه، و لم يعهد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

(1) و بالتالي بما ذا تتهم محمّدا الصادق الأمين، الطاهر العفيف، و أية تهمة ترى يمكن أن تصدّق

في حقه، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه و لو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيّر سادة «دار الندوة» و أقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقرّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش و يطلبوا رأيه فيه، و هو «الوليد بن المغيرة» و كان ذا سنّ فيهم، و مكانة، فقال لهم:

يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم و ان وفود العرب ستقدم عليكم فيه، و قد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأيا واحدا، و لا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا، و يرد قولكم بعضه بعضا.

قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل و أقم لنا رأيا نقول به.

قال: بل أنتم قولوا أسمع.

(2) قالوا: نقول كاهن.

قال: لا و اللّه ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن و لا سجعة.

قالوا: فنقول: مجنون.

قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون و عرفناه فما هو بخنقه، و لا تخالجه، و لا وسوسته.

قالوا: فنقول: ساحر.

فقال: ما هو بساحر لقد رأينا السحّار و سحرهم فما هو بنفثهم و لا عقدهم.

و هكذا تحيّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و أخيرا اتفقوا على أن يقولوا: أنه ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء و ابيه و بين المرء و أخيه، و بين المرء و زوجته و بين المرء و عشيرته.

و يدلّ عليه ما أوجده من الخلاف و الانشقاق و التفرّق بين أهل مكة الّذين

سيد المرسلين ،ج 1،ص:469

كان يضرب بهم المثل في الوحدة و الاتفاق «1».

(1) و قد ذكر المفسّرون في تفسير سورة «المدثر» هذه القصة بنحو آخر فقالوا:

لمّا

انزل على رسول اللّه «حم تنزيل الكتاب ...» قام الى المسجد و «الوليد بن المغيرة» قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاستماعه لقراءته، أعاد قراءة الآية، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيرا شديدا فانطلق إلى منزله، و لم يخرج منه أيّاما، فسخرت منه قريش و قالت: صبأ- و اللّه- الوليد ثم مشى رجال من قريش إليه و سألوه رأيه في قرآن محمّد، و اقترح كل واحد منهم أمرا، و لكنه رد عليها بالنفي جميعا فقالت قريش إذن ما هو؟ فتفكر «الوليد» في نفسه ثم قال: ما هو إلّا ساحر أ ما رأيتموه يفرّق بين الرجل و أهله، و ولده و مواليه، فهو ساحر و ما يقوله سحر يؤثر «2».

و يرى المفسرون أن الآيات التالية في شأنه إذ يقول اللّه تعالى:

«ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. وَ بَنِينَ شُهُوداً. وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ... (الى قوله:) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» «3».

(2)

الإصرار في نسبة الجنون إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

يعتبر اتّصاف النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلم و اشتهاره بين الناس بالصدق و الامانة و غيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلّمات التاريخ.

و هو بالتالي أمر اعترف به حتى أعداؤه الالدّاء، فقد دانوا بفضله، و أقرّوا

______________________________

(1) السيرة النبوّية: ج 1 ص 270.

(2) مجمع البيان: ج 10 ص 386 و 387.

(3) المدثر: من 11-

51.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:470

بأخلاقه الكريمة و سجاياه النبيلة، دون تلكؤ، و لا إبطاء.

و قد كان من أوصافه الحسنة البارزة ان جميع الناس كانوا يدعونه «الصادق» «الامين» و كانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى «1» حتى أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده، و استمر هذا الأمر حتى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

(1) و حيث أن دعوته صلّى اللّه عليه و آله قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض النسب التي توجب سوء الظنّ به، و من ثم إفشال دعوته، و حيث أنهم كانوا يعلمون أن النسب الاخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزنا، لأنها امور بسيطة في نظرهم، من هنا رأوا بأن يتهمونه بالجنون، و الزعم بان ما يقوله و يقرؤه ما هو إلّا من نسج الخيال، و من أثر الجنون الذي لا يتنافى مع الزهد، و الأمانة، و ذلك تكذيبا لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة، و اتخذت وسائل عديدة و ماكرة لترويجها و بثّها بين الناس.

و من شدّة مكرهم و مراءاتهم أنّهم كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك، و الترديد اذ يقولون:

«أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» «2».

(2) و هذه هي بعينها الحيلة الشيطانية التي يتوسّل بها و يتستر وراءها أعداء الحقيقة دائما عند ما يريدون تكذيب المصلحين العظام، و إسقاط خطواتهم و أفكارهم من الاعتبار، و الحطّ من شأنها و أهميتها.

و يشير القرآن أيضا إلى أنّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصا بالمعارضين في عهد الرسالة المحمّدية، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضا يتوسلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل، و الأنبياء إذ يقول عنهم:

______________________________

(1) بحار الأنوار:

ج 19 ص 62 عن عبيد اللّه بن ابي رافع: كانت قريش تدعو محمّد صلّى اللّه عليه و آله في الجاهلية الامين و كانت تستودعه و تستحفظه أموالها و أمتعتها، و كذلك كل من كان يقدم مكة من العرب في الموسم، و جاءته النبوة و الرسالة و الأمر كذلك.

(2) سبأ: 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:471

«كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» «1».

(1) و تحدّث الاناجيل الحاضرة هي الاخرى عن ان المسيح عليه السّلام عند ما وعظ اليهود قالوا: إنّ فيه شيطانا، فهو يهذي فلما ذا تسمعون إليه؟! «2»

و من المسلّم و البديهي أنّ قريشا لو كان في مقدورها أن تتهم رسول اللّه الصادق الأمين صلّى اللّه عليه و آله بغير هذا الاتهام و تنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك، و لكن حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية، و سوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ و غير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئا من تلك النسب القبيحة، الذميمة.

لقد كانت «قريش» مستعدة لأن تستخدم أي شي ء- مهما صغر- ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فمثلا عند ما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى «جبر» عند المروة، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّه صلّى اللّه عليه و آله فورا فقالوا: و اللّه ما يعلّم محمّدا كثيرا ممّا يأتي به الا «جبر» النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريم بقوله:

«وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» «3».

«وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ»

«4».

2- القرآن يرد على جميع الاتهامات:
اشارة

و ربما نسبوا إليه صلّى اللّه عليه و آله الكهانة، و الكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن «5» أو الشياطين و يتلقى منهم اخبارا حول الماضي و المستقبل،

______________________________

(1) الذاريات: 52 و 53.

(2) انجيل يوحنا: الفصل 10 الفقرة 20، و الفصل 7 الفقرة 48 و 52.

(3) النحل: 103.

(4) الدخان: 13 و 14.

(5) الجن كائن من الكائنات و مخلوق من مخلوقات اللّه تعالى و قد اخبر به القرآن الكريم في مواضع-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:472

و كان هذا موجودا قبل الإسلام كما ترويه كتب السير و التواريخ «1».

و قد رد القرآن الكريم على هذه المقالة و هذا الزعم اذ قال تعالى:

«وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» «2» كما ردّ أيضا تهمة السحر، و الكذب و الافتراء و الشعر إذ قال تعالى و هو يصف المتهمين تارة بالكفر و اخرى بالظلم:

«وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» «3».

و قال تعالى: «وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» «4»

و قال سبحانه متعجبا منهم: «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» «5».

و قال تعالى: «وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» «6».

و قال سبحانه: «وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» «7».

و قال عزّ و جلّ: «فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ» «8».

و قال تعالى: «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» «9».

و قال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ» «10».

و قال سبحانه: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً» «11».

و قال سبحانه: «أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» «12».

و قال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ

بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» «13».

و قال تعالى: «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ» «14».

و ربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام فردهم سبحانه بقوله.

«بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ» «15».

______________________________

- عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.

(1) راجع: بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3 ص 269 باب علم الكهانة و العرافة.

(2) الحاقة: 42.

(3) ص: 4.

(4) الفرقان: 8.

(5) الشعراء: 153.

(6) الحجر: 6.

(7) التكوير: 22.

(8) الطور: 29.

(9) النحل: 101.

(10) هود: 13.

(11) الفرقان: 4.

(12) سبأ: 8.

(13) الطور: 30.

(14) يس: 69.

(15) الأنبياء: 5.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:473

و هكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتهام و التشويش على الشخصية المحمّدية و الرسالة الإسلامية كل مذهب، فمرة وصفوه بانه كاهن و اخرى بانه ساحر و ثالثة بانه مسحور، و رابعة بانه مجنون و خامسة بانه معلّم و سادسة بانه كذاب و سابعة بانه مفتري و ثامنة بانه مفترى او مجنون على سبيل الترديد و تاسعة بانه شاعر و عاشرة بان ما يقوله ما هو الّا أضغاث احلام.

(1)

فكرة معارضة القرآن:

لم يجد استخدام سلاح الاتهام ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفعا، و لم تأت بالثمار التي كان يتوخاها المشركون منه، لأن الناس كانوا يدركون بفطنتهم و فراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة، و أنهم لم يسمعوا كلاما حلوا، و حديثا عذبا مثله.

ان لكلماته من العمق و العذوبة بحيث يتقبّلها كل قلب، و تسكن إليها كل نفس.

من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالجنون و بأنّ ما يقوله إن هو الّا من نسج الخيال، و نتائج الجنون، شيئا، فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظنا منهم بأنّ تنفيذه

سيصرف الناس عنه، و عن الاستماع إلى كتابه، ألا و هو: معارضة القرآن الكريم.

(2) فعمدت إلى «النضر بن الحارث» و كان من شياطين قريش، و ممّن كان يؤذي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ينصب له العداوة، و كان قد قضى شطرا من حياته في الحيرة بالعراق و تعلّم بها أحاديث ملوك الفرس و احاديث «رستم» و «إسفنديار» و قصصهم، و حكاياتهم، و أساطيرهم، و طلبوا منه أن يجمع الناس و يقص عليهم من تلكم الأساطير و الحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجلسا فذكّر الناس فيه باللّه، و حذر قومه ما أصاب من قبلهم من الامم من نقمة اللّه، خلفه «النضر» في مجلسه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:474

اذا قام صلّى اللّه عليه و آله ثم قال: أنا و اللّه يا معشر قريش أحسن حديثا منه فهلمّ إليّ، فأنا احدّثكم أحسن من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و «رستم» و «اسفنديار» ثم يقول:

بما ذا محمّد أحسن حديثا مني و ما حديثه إلّا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها؟ «1».

(1) و قد كانت هذه الخطة حمقاء جدا إلى درجة أنها لم تدم إلّا عدة ايام لا اكثر حتى أن قريشا سأمت من أحاديث «النضر» و سرعان ما تفرّقت عنه.

و قد نزل في هذا الشأن آيات هي:

«وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً «2».

تحججات صبيانيّة و جاهليّة:

و ربما جسّدوا معارضتهم للدعوة المحمّدية في صورة تحججات و مجادلات جاهليّة و ماخذ سخيفة اخذوها

على رسول اللّه و رسالته، تنم عن تكبر و جهل، و عناد و لجاج طبعوا عليه.

و ها نحن نذكر ابرزها:

أ- لما ذا لم ينزل القرآن على ثريّ من اثرياء مكة أو الطائف؟!

قال تعالى حاكيا قولهم:

«لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» «3».

ب- لما ذا لم يرسل إليهم ملائكة و لما ذا هو بشر؟!

قال تعالى عنهم:

«وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 300 و 358.

(2) الفرقان: 5 و 6.

(3) الزخرف: 31.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:475

رسولا» «1».

و قال تعالى حاكيا عنهم أيضا:

«وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» «2».

ج- انّه يدعو الى خلاف ما كان عليه الآباء، من الدين و العقيدة و السلوك؟

يقول عنهم سبحانه:

«وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ» «3».

د- تبديل الآلهة باله واحد.

قال اللّه عنهم:

«وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ» «4».

ه- القول بحشر الاجساد و تجدد الحياة في يوم القيامة.

قال تعالى عنهم:

«وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» «5»

و- لما ذا ليس عنده مثل ما كان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا، و قد توصل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود.

يقول اللّه عنهم:

فلمّا جاءهم الحقّ من عندنا قالوا لو لا اوتي مثل ما اوتي موسى» «6».

ز- لما ذا ليس معه ملك يرى و يشاهد و يحضر معه

في كل مقام و مشهد.

قال تعالى:

«وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» «7».

______________________________

(1) الاسراء: 94.

(2) الفرقان: 7.

(3) المائدة: 104.

(4) ص: 4 و 5.

(5) السجدة: 10.

(6) القصص: 48.

(7) الانعام: 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:476

مقترحات عجيبة و مطاليب غريبة:

و كان المشركون اذا نفذت تحججاتهم و اعتراضاتهم الواهية، و قوبلوا بردود قوية و قاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سياق معارضتهم لدعوته و نورد هنا ابرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله من قومه:

لقد اقترحوا عليه:

1- ان يعبد اصنامهم سنة و يعبدوا إلهه سنة اخرى و جعلوا ذلك شرطا لايمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة «الكافرون»:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ».

2- تبديل القرآن، فقد دفع نقد القرآن الكريم للوثنية، و الازراء على الاصنام، دفعهم إلى ان يطلبوا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان و الازدراء بالاصنام، و ابطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا:

«وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» «1».

فردّ اللّه عليهم بقوله:

«قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» «2».

3- مطاليب مادية عجيبة!!

______________________________

(1) يونس: 15.

(2) يونس: 15.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:477

و قد عمدوا- بسبب عنادهم و عتوهم- الى المطالبة بامور لا ترتبط بهداية الناس، مثل مطالبته بان يفجر لهم

ينابيع، او يسقط السماء على رءوسهم قطعا، أو يصعد إلى السماء، أو يأتي باللّه سبحانه و تعالى، أو غير ذلك من الاقتراحات و المطالب التي كانت إما مستحيلة في نفسها او تناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكيا عنهم ذلك:

«وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ» «1».

صبر النبيّ و استقامته و ثباته:

و لقد قابل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كل هذه التحججات الايذائية و ما طرح من الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم و ثبات هائل، ايمانا منه بدعوته، و حرصا على ابلاغ رسالته، و بفعل التأييد الالهي من جانب.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد:

1- «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» «2».

2- «وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» «3».

3- «وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» «4».

4- «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ» «5».

5- «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» «6».

6- «وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» «7».

______________________________

(1) الاسراء: 90- 93.

(2) الاحقاف: 35.

(3) يونس: 109.

(4) النحل: 127.

(5) الكهف: 28.

(6) القلم: 48.

(7) المزمل: 10.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:478

معاجز النبيّ لم تنحصر في القرآن:
اشارة

و بالمناسبة لا بد أن نذكر أن المشركين و من حذى حذوهم من الكفار و المعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمعاجز و آيات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج و العناد، و إلا فان معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز، فقداتى رسول اللّه بآيات و معاجز كثيرة اخرى غير القرآن، كان كل واحد منها يكفى للاقتناع برسالته، و الايمان بصحة دعواه.

فالقرآن نفسه يشير الى أبرز هذه المعاجز و هي:

1- شقّ القمر

فقد طلب المشركون من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يشق لهم القمر نصفين حتى يؤمنوا به، فلمّا فعل ذلك لهم باذن اللّه كفروا به و قالوا انه سحر!!

يقول اللّه تعالى:

«اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ. وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» «1».

2- المعراج

ان العروج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الذي سيأتي مفصلا هو الآخر معجزة من معاجزه القوية، و قد نطق بها القرآن بقوله:

«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» «2».

______________________________

(1) القمر: 1 و 2.

(2) الاسراء: 1.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:479

3- مباهلة أهل الباطل

ان تقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع من خرج بهم إلى المباهلة، و احجام النصارى عن مباهلته، معجزة اخرى من معاجزه صلّى اللّه عليه و آله و قد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية اذ قال:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» «1».

و ستأتي قصّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

4- الاخبار بالمغيبات

فقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخبر عن امور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكيا عنه:

«وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» «2».

هذا و قد أخبرت الاخبار و الأحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم.

______________________________

(1) آل عمران: 61.

(2) آل عمران: 49، و قد اشار القرآن الكريم إلى موارد اخرى من هذه القبيل.

فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين: قال تعالى:

«الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» (الروم: 1- 4).

و اخبر عن هلاك ابي لهب قال تعالى:

«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَ ... الخ».

و أخبر عن هزيمة المشركين في بدر قال سبحانه:

«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ» (القمر: 45).

سيد المرسلين ،ج 1،ص:480

و من هذه المعاجز ما ذكره الإمام امير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- كما في نهج البلاغة- حول سؤال المشركين من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قلع شجرة بعروقها و جذورها و لما فعل ذلك و قال يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين باللّه و اليوم الآخر، و تعلمين

أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديّ باذن اللّه».

فانقلعت بعروقها و لها دوّي عجيب و وقفت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكنهم كذّبوا و قالوا ساحر كذاب، علوا و استكبارا.

و قد صرح الإمام في كلامه هذا أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخبرهم بانهم لا يؤمنون و ان ظهرت لهم المعجزة التي طلبوها، و ان فيهم من يطرح في القليب (في معركة بدر) و ان منهم من يحزّب الأحزاب (لمعركة الخندق) «1».

(1)

اصرار النبيّ على هداية قريش:

بل كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحرص على هدايتهم و ارشادهم و ايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين و قائدهم يعلم جيدا بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الّا أمر نابع من تقليد الآباء، و الجدود، أو اتباع أسياد القبيلة و كبرائها، و هو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس و اسس في عقولهم و نفوسهم.

من هنا فانّ أيّ انقلاب يحصل و يحدث في اوساط السادة و الكبراء بان يؤمن أحدهم مثلا كان كفيلا بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

(2) من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ «الوليد بن المغيرة» الذي أصبح ابنه «خالد» في ما بعد من قادة الجيش الاسلاميّ و المشاركين في الفتوح الاسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمّدية، لأنّه كان أسنّ من في قريش و اكثرهم نفوذا، و أعلاهم مكانة، و أقواهم شخصية، و كان يدعى حكيم العرب، و كانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

______________________________

(1) نهج البلاغة: قسم الخطب الرقم 192.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:481

(1) و قد كلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم في ذلك و قد طمع في اسلامه، فبينا هو في ذلك

إذ مرّ به «ابن أمّ مكتوم»، فكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جعل يستقرئه القرآن فشقّ ذلك منه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى أضجره، و ذلك أنّه شغله عمّا كان فيه من أمر «الوليد». و ما طمع فيه من إسلامه، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابسا و تركه، فنزل قوله تعالى:

«عَبَسَ وَ تَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى. وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَ هُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ» «1» «2».

و قد فنّد علماء الشيعة و محقّقوهم هذه الرواية التاريخية، و استبعدوا صدور مثل هذا السلوك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي امتدحه ربّ العالمين بالخلق العظيم، و وصفه بالرأفة بالمؤمنين، و قالوا: ليس في الآيات ما يدل على أن الذي عبس و تولّى هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أن المراد رجل من بني اميّة، فإنّه عبس و تولّى عند ما حضر «ابن أمّ مكتوم» الأعمى عند رسول اللّه فنزلت هذه الآيات توبيخا له «3».

(2)

3- تحريم استماع القرآن
اشارة

كانت البرامج الواسعة التي دبرها الوثنيّون في «مكة» لمكافحة الاسلام، و الحيلولة دون انتشاره بين القبائل و الجماعات، تنفّذ الواحدة تلو الأخرى، و لكن دون جدوى، و دون ان يكسب اصحابها من ورائها أي نجاح، و اية نتائج على

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 363- 364.

(2) عبس: 1- 11.

(3) مجمع البيان: ج 10 ص 437، و قد شرح العلامة الطباطبائي في المجلد 20 من تفسير الميزان عند

تفسير سورة عبس شأن نزول هذه الآيات بصورة رائعة، و شكل بديع، و اثبت بان فاعل عبس ليس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لا ينافي ذلك توجّه الخطاب في «و ما يدريك» إليه صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:482

المستوى المطلوب، فقد كانت تلك المؤامرات تفشل في كل مرة، و لا يجني المشركون منها سوى الخيبة و الفشل، و سوى النتائج المعكوسة في أغلب الأحايين.

فقد ما رسوا الدعاية ضد رسول اللّه فترة من الزمن و لكن لم يحالفهم التوفيق الكامل في ذلك، فقد وجدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اكثر ثباتا و استقامة في طريقه و أشدّ إصرارا على هدفه، و كانوا يرون بام أعينهم بأن عقيدة التوحيد في انتشار مستمر و متزايد، يوما بعد يوم.

(1) و لهذا قرّر سادة قريش و زعماء «مكة» المشركون أن يمنعوا الناس عن سماع القرآن.

و لكي تتحقق خطتهم هذه و تلبس ثوب الوجود بثّوا جواسيسهم في كل انحاء مكة و مداخلها ليمنعوا من يفد إليها للحج او التجارة من الاتصال بمحمّد، و منعه بكل صورة ممكنة، عن الاستماع الى القرآن، و أعلن مناديهم ما ذكره القرآن عند قوله تعالى:

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» «1».

(2) لقد كان القرآن اقوى أسلحة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقد القى رعبا عجيبا في نفوس الاعداء و اقضّ مضاجعهم.

و كان اشراف قريش و أسيادها يرون بام أعينهم كيف أنّ اعدى أعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (و هو أبو جهل) عند ما مشى إليه ليستهزئ به، و يسخر منه، ما ان سمع آيات من القرآن، إلّا و فقد السيطرة

على نفسه، و لان قلبه، و أصبح من أصحابه و مؤيديه الأقوياء، و لهذا لم يكن أمام اولئك الاسياد إلا أن يمنعوا من سماع القرآن منعا باتا، و يحرموا التحدث الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحريما قاطعا «2».

و لهذا كان الرجل منهم إذا أراد أن يسمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعض ما يتلوه من القرآن و هو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم، فان رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع «3».

______________________________

(1) فصّلت: 26.

(2) السيرة النبوية: ح 1 ص 313 و 314.

(3) السيرة النبوية: ح 1 ص 313 و 314.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:483

(1)

واضعوا القرار ينقضون قرارهم!!

و لكن من الطريف العجيب أن نفس الذين كانوا يمنعون الناس بشدة عن الاستماع إلى القرآن، و كانوا يعدون كل من يتجاهل قرار (تحريم الاستماع الى القرآن) مخالفا يتعرض للملاحقه و العقاب، نقضوا بعد أيام من إصدار هذا القرار قرارهم و انضمّوا إلى صفوف المخالفين له في الخفاء.

فاذا بالذين يمنعون من سماع القرآن في العلن، يستمعون إليه في الخفاء!

و إليك بعض ما جرى في هذا الصعيد:

خرج «أبو سفيان» و «أبو جهل» و «الاخنس» ليلة ليستمعوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، و كل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا، و قال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا، حتى اذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم الى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال

بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا، حتى اذا كانت الليلة الثالثة اخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى اذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألّا نعود، فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرّقوا «1».

(2)

4- منع الاشخاص من الايمان برسول اللّه
اشارة

بعد خطة (تحريم الاستماع الى القرآن) بدءوا بتنفيذ خطة اخرى و هو منع كل قريب و بعيد ممّن رغبوا في الإسلام و قدموا إلى مكة ليتعرفوا على النبيّ، و على ما اتى به من كتاب و دين، من الاتصال بالنبي صلّى اللّه عليه و آله.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ح 1 ص 315.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:484

فبثت قريش جواسيسها في الطرق المؤدية إلى مكة ليتصلوا بمن يلقونه من هؤلاء و يبادروا الى منعه من الاتصال برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الايمان برسالته، بشتى الحيل و الاساليب.

و إليك نموذجين حييّن من هذا الأمر.

(1)

1- «الاعشى»:

و كان من شعراء العهد الجاهلي البارزين، و كانت قصائده تتناقلها مجالس السمر القرشية، و تتغنى بها محافل انسهم.

و قد بلغ «الاعشى» في كبره نبأ ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من التوحيد و من تعاليم الاسلام العظيمة، و كان يعيش في منطقة نائية عن مكة، حيث لم تصل إليها أشعة الرسالة الاسلامية على وجه التفصيل بعد، و لكن ما قد سمع به من تعاليم الاسلام على نحو الاجمال قد اوجد في نفسه هياجا خاصا و حرّك مشاعره فأنشأ قصيدة مطوّلة يمدح فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم خرج الى مكة ليهديها إليه صلّى اللّه عليه و آله و هو في نفس الوقت يريد الاسلام.

و رغم ان تلكم القصيدة لا تتجاوز أبياتها 24 بيتا، و لكنها تعدّ من أفضل و افصح ما قيل من الشعر في الاسلام، و في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العهد النبوي و يوجد نصّها الكامل في ديوان «الأعشى» و قد قال فيها و هو يذكر

بعض تعاليم الاسلام:

نبيّا يرى ما لا يرون و ذكره أغار لعمري في البلاد و أنجدا

فاياك و الميتات لا تقربنّهاو لا تأخذن سهما حديدا لتفصدا

و ذا النصب المنصوب لا تنسكنّه و لا تعبد الأوثان و اللّه فاعبدا

و لا تقربنّ حرّة كان سرّهاعليك حراما فانكحن أو تأبّدا

و ذا الرحم القربى فلا تقطعنّه لعاقبة، و لا الاسير المقيّدا

و سبّح على حين العشيات و الضحى و لا تحمد الشيطان و اللّه فاحمدا

سيد المرسلين ،ج 1،ص:485

(1) فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضه جواسيس قريش و رجالها فسألوه عن أمره و قصده فاخبرهم بانه جاء يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليسلم، و حيث أنهم كانوا يعرفون بأن «الاعشى» رجل يحب النساء و الخمر حبّا كبيرا لذلك عمدوا إلى الضرب على هذا الوتر لينفّروه من الاسلام، فقالوا له: يا أبا بصير (و هي كنية الاعشى) إنه يحرم الزنا.

فقال الاعشى: و اللّه ذلك لأمر مالي فيه من ارب.

فقالوا له: يا أبا بصير فانّه يحرّم الخمر.

فقال الأعشى- و قد صدم بهذا الخبر- أمّا هذه فو اللّه في النفس منها لعلالات، و لكني منصرف فاتروّى منها عامي هذا، ثم آتيه فاسلم!! فانصرف فمات في عامه ذلك، و لم يعد الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

(2)

2- الطفيل بن عمرو الدوسيّ:

و هو الشاعر العربي الحكيم العذب اللسان، صاحب النفوذ و الكلمة المسموعة في قبيلة.

يروى انه قدم «مكة» و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بها، و كانت قريش تخشى ان يتصل بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيسلم.

و من البديهي أن اسلام رجل مثله كان ممّا يشق على قريش جدّا و لهذا مشى إليه رجال منهم و قالوا له- محذرين ايّاه من رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله-:

يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، و هذا الرجل الذي بين أظهرنا قد اعضل بنا، و قد فرّق جماعتنا، و شتّت أمرنا، و إنما قوله كالسحر يفرّق بين الرجل و بين ابيه، و بين الرجل و بين اخيه، و بين الرجل و بين زوجته، و إنا نخشى عليك و على قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنّه، و لا تسمعنّ منه شيئا.

ففعلت تحذيرات قريش فعلتها في نفس الطفيل و هم يكرّرونها عليه بقوة

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 386- 388.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:486

و إصرار، حتى انه قرر ان لا يسمع من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شيئا، و لا يكلّمه، و حشّى اذنه- حين غدى الى المسجد للطواف- قطنا، خوفا من أن يبلغه شي ء من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو لا يريد ان يسمعه!!!

(1) يقول الطفيل: فغدوت الى المسجد فاذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائم يصلي عند الكعبة، فقمت منه قريبا فسمعت كلاما حسنا من غير اختيار مني فقلت في نفسي: وا ثكل أمي، و اللّه اني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن اسمع من هذا الرجل ما يقول، فان كان الذي يأتي به حسنا قبلته، و ان كان قبيحا تركته؟

فمكثت حتى انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بيته فاتّبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمّد إن قومك قد قالوا لي كذا و كذا للذي قالوا، فو اللّه ما برحوا يخوّفونني أمرك حتى سردت اذني بكرسف لئلا اسمع قولك ثم ابى اللّه إلّا أن يسمعني قولك فسمعته قولا حسنا، فاعرض عليّ أمرك،

فعرض عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الاسلام، و تلا عليّ القرآن، فلا و اللّه ما سمعت قولا قط أحسن منه، و لا أمرا أعدل منه، فأسلمت و شهدت شهادة الحق.

ثم قلت: يا نبيّ اللّه إني امرؤ مطاع في قومي و أنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الاسلام.

(2) ثم يكتب ابن هشام قائلا: إن الطفيل لم يزل بارض «دوس» يدعوهم الى الاسلام حتى هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة و مضى «بدر» و «احد» و «الخندق» فقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمن أسلم معه من قومه و هم سبعون او ثمانون بيتا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخيبر فلحقوا جميعا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخيبر، و بقي مع النبيّ حتى قبض صلّى اللّه عليه و آله ثم سار مع المسلمين- في زمن الخلفاء إلى «اليمامة» و شارك في معركتها و قتل فيها «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ح 1 ص 382- 385.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:487

(1)

19 اسطورة الغرانيق

اشارة

قد يكون بين القرّاء من يودّ التعرف على اسطورة «الغرانيق» التي رواها بعض مؤرّخي السنّة و معرفة جذورها كما يودّ التعرف على الأيادي الخفية التي كانت وراء اختلاق هذه الاسطورة، و أمثالها من الأكاذيب، و المفتريات.

كان اليهود و بخاصّة أحبارهم و لا يزالون العدوّ رقم واحد للإسلام.

و قد عمد فريق منهم- مثل «كعب الاحبار» و غيره- ممّن تظاهروا باعتناق الاسلام إلى تحريف الحقائق باختلاق الأكاذيب و جعل الأخبار المفتراة على لسان الأنبياء «1».

و لقد أدرج بعض المؤلفين المسلمين بعض هذه المفتريات في مؤلفاتهم و جعلوها في عداد الحديث و التاريخ الصحيح من دون تمحيصها و التحقيق فيها، ثقة

بكل من أظهر الاسلام، و تظاهر بالإيمان، و انضم إلى صفوف المسلمين!!

و لكنّ اليوم حيث يجد العلماء فرصة اكبر للتحقيق في هذا النوع من الأحاديث و الاخبار، و المنقولات و النصوص و بخاصة بعد أن توفّرت لديهم- بفضل جهود طائفة من المحققين المسلمين القواعد و الضوابط الكفيلة بتمييز

______________________________

(1) و هي التي يطلق عليها الاسرائيليات و قد الّفت في هذا المجال بعض الكتب.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:488

الحسن عن القبيح، و الصحيح عن السقيم، و فرز الحقائق التاريخية عن القصص الخياليّة، و الروايات الاسطورية.

من هنا لا ينبغي لكاتب مسلم ملتزم أن يعتبر كل ما يراه في مصنّف تاريخيّ أو غير تاريخيّ متقدّم أمرا صحيحا مقطوعا بسلامته، و يرويه في كتابه من دون دراسة و تحقيق، و تمحيص و تقييم.

(1)

ما هي اسطورة الغرانيق؟!

يقولون: إن «الأسود بن المطلب» و «الوليد بن المغيرة» و «أميّة بن خلف» و «العاص بن وائل» و هم من زعماء قريش و اسيادها قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

يا محمّد هلم فلنعبد ما تعبد، و تعبد ما نعبد فنشترك نحن و أنت في الأمر!!

و قالوا ذلك رفعا للاختلاف، و تضييقا لشقّة الخلاف فأنزل اللّه سبحانه سورة الكافرين التي امر فيها نبيّه أن يقول في جوابهم:

«لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ».

و مع ذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يرغب في أن يساوم قريشا و يجاريهم و كان يقول في نفسه: ليت نزل في ذلك أمر يقرّبنا من قريش.

و ذات يوم و بينما كان صلّى اللّه عليه و آله يتلو القرآن عند الكعبة و يقرأ سورة «النجم» فلما بلغ قوله تعالى:

«أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى. وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى».

أجرى الشيطان على لسانه

الجملتين التاليتين:

«تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» «1».

(2) فقرأهما من دون اختيار، و قرأ ما بعدها من الآيات، و لمّا بلغ آية السجدة سجد هو و من حضر في المسجد من المسلمين و المشركين أمام الاصنام، إلّا

______________________________

(1) النجم: 19 و 20.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:489

«الوليد» الذي عاقه كبر سنه عن السجود!!

و فرح المشركون، و ارتفعت نداءاتهم يقولون: لقد ذكر «محمّد» آلهتنا بخير.

و انتشر نبأ هذه المصالحة و التقارب بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المشركين، المهاجرين الى الحبشة، فعاد على أثرها جماعة منهم إلى مكة، و لكنّهم ما أن كانوا على مشارف «مكة» إلّا و عرفوا بأن الأمر تغير ثانية، و أن ملك الوحي نزل على النبيّ و أمره مرة اخرى بمخالفة الاصنام و مجاهدة الكفار و المشركين، و أخبره بأن الشيطان هو الّذي أجرى تينك الجملتين على لسانه، و انه لم يقله و أنه ليس من «الوحي» في شي ء أبدا.

و عندئذ نزلت الآيات (52- 54) من سورة «الحج» التي يقول اللّه تعالى فيها:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».

هذه هي خلاصة اسطورة «الغرانيق» التي أوردها «الطبري» في تاريخه «1» و يذكرها و يردّدها المستشرقون المغرضون بشي ء كبير من التطويل و التفصيل!!

(1)

محاسبة بسيطة لهذه الاسطورة

لنفترض أن «محمّدا» لم يكن نبيا مرسلا و

لكن هل يمكن لأحد أن ينكر ذكاءه و حنكته، و فطنته و عقله.

فهل لعاقل فطن، محنّك لبيب مثله أن يفعل مثل هذا؟

ان الذكيّ اللبيب الذي يجد انصاره يتكاثرون و يتزايدون يوما بعد يوم

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 85 و 76.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:490

و تقوى صفوفهم اكثر فاكثر بينما تتفرق صفوف أعدائه و مناوئيه و يتناقص معارضوه و خصومه، هل يقدم في مثل هذه الحالة على عمل يوجب ان يسي ء الجميع ظنهم به، و يشك الصديق و العدو في أمره؟!

هل تصدّق أنت أيها القارئ الكريم أن رجلا ترك جميع الأموال و المناصب التي عرضتها قريش عليه، في سبيل دينه الحنيف، و عقيدته التوحيد أن يصبح مرة اخرى من دعاة الشرك، و مروّجي الوثنية؟؟!

إننا لن نصدّق بمثل هذا الاحتمال في حق مصلح أو سياسي عادي من الساسة و المصلحين فكيف برسول اللّه و نبيّه العظيم.

(1)

رأي العقل في هذه القصة:

(2) 1- إن العقل يحكم بان المرشدين الذين يبعثهم اللّه تعالى الى البشرية لهدايتها و ارشادها، و تزكيتها و تعليمها مصونون عن أي خطأ و زلل بقوة (العصمة) التي اوتوها، اذ لو تعرض مثل هؤلاء الى الخطأ و الزلل في امور الدين لزالت ثقة الناس بهم و بكلامهم.

يجب علينا ان نقارن بين أمثال هذه القصص، و بين هذا الأصل العقائديّ المنطقي و نعالج بواسطة معتقداتنا القوية المبرهنة متشابهات التاريخ و معضلاته.

إنّ من المسلّم أن عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت تمنعه و تحفظه من أي نوع من هذه الحوادث في تبليغ رسالته السماوية.

(3) 2- إن هذه الاسطورة تقوم أساسا على أن النبيّ قد تعب من أداء مهمّته التي ألقاها اللّه سبحانه عليه، و قد شقّ عليه ابتعاد الوثنيّين عنه،

فكان يبحث عن مخلص من هذا الوضع المتعب، يكون طريقا- حسب تصوره- إلى إصلاح وضعهم!!

و لكن العقل يقضي بأن على الأنبياء أن يكونوا صابرين حلماء أكثر ممّا يتصور، و أن يكونوا مضرب المثل عند الجميع في ذلك، فلا يحدّثوا أنفسهم بالتهرّب من المسئولية و ترك الساحة مطلقا، مهما اشتدّت الظروف، و تأزّمت

سيد المرسلين ،ج 1،ص:491

الأحوال.

بينما لو صحّت هذه الرواية- الاسطورة لكانت دليلا على أنّ بطل حديثنا قد فقد عنان الصبر و أفلت منه زمام الثبات و الاستقامة و انه بالتالي تعب و ملّ، و ضني و كلّ، و هو أمر لا ينسجم مع ما يحكم به العقل السليم في حق الأنبياء، كما لا يتفق كذلك مع ما عهدناه من سوابق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من مستقبله أبدا.

إن مختلق هذه الاسطورة لم يمرّ بخاطره و باله أنّ القرآن الكريم شهد ببطلان هذه القصة، اذ يعد اللّه تعالى نبيه الكريم، بأن لا يتسرّب الى القرآن أي شي ء من الباطل إذ قال:

«لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ» «1».

كما وعده أيضا بأن يصونه عبر جميع أدوار البشرية من أي حادث سيّئ اذ قال سبحانه:

«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «2».

(1) و مع ذلك كيف يستطيع الشيطان الرجيم عدو اللّه أن ينتصر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يسرّب الى القرآن شيئا باطلا، و يصبح القرآن الذي تقوم معارفه و تعاليمه على أساس معاداة الوثنية و محاربتها داعيا الى الوثنية؟؟!!

إنه لأمر عجيب جدا أن يفتري مختلق هذه الاسطورة أمرا ضدّ التوحيد في موضع قد كذّبه القرآن قبل هذا المكان بقليل إذ قال اللّه تعالى:

«وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى.

إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» «3».

فكيف يترك اللّه نبيّه- و قد وعده بهذا الوعد- من دون حفيظ، و يسمح للشيطان بأن يتصرف في قلبه و عقله و لسانه؟؟

إن هذه الأدلة العقلية إنما تفيد من يكون مؤمنا بنبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و رسالته.

______________________________

(1) فصّلت: 42.

(2) الحجر: 9.

(3) النجم: 3 و 4.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:492

و اما المستشرقون الذين لا يعتقدون بنبوته، و يعمدون الى شرح و نقل و ترديد أمثال هذه الأساطير للحطّ من شأن دينه و رسالته فلا تكفيهم هذه الدلائل، فلا بدّ أن ندخل معهم في البحث من باب آخر.

(1)

تكذيب القصّة من طريق آخر

إنّ النصّ التاريخيّ يقول: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قرأ هذه السورة، و كبار قريش و اكثرهم من عمالقة الكلام، و أبطال الفصاحة و البلاغة العربية حضور في المسجد و منهم «الوليد بن المغيرة، متكلم العرب و منطقيها المفوّه المعروف بينهم بالذكاء و حصافة العقل و النباهة، و قد سمعوا جميعا هذه السورة إلى ختامها حيث سجد الجميع بسجدتها.

فكيف اكتفى هذا الجمع المؤسس للفصاحة و البلاغة الذين كانوا ينقدون كل ما يعرض عليهم نقدا دقيقا؟

كيف اكتفوا بتينك الجملتين اللتين امتدحتا آلهتهم، و قد تضمنت الآيات السابقة عليهما، و اللاحقة لهما على شتم آلهتهم و تفنيدها، و الازدراء بها بصورة صارخة و صريحة؟!

(2) كيف تصور مختلق هذه الأكذوبة الفاضحة، تلك الجماعة أصحاب اللغة العربية و آباءها و نقّاد الكلام المعدودين عند العرب كلّها من عمالقة الفصاحة و البلاغة بلا منازع، و الذين كانوا أعرف من غير هم باشارات تلك اللغة، و كناياتها (فضلا عن تصريحاتها).

كيف اكتفى هؤلاء بتينك العبارتين في امتداح آلهتهم، و غفلوا عما سبقها و لحقها من الذمّ لها

و الطعن الصارخ فيها؟

إنه لا يمكن قط أن نخدع العاديّين من الناس بهاتين الجملتين المحفوفتين بكلام مطوّل يذم عقائدهم و سلوكهم فكيف بمن عرف باللب، و الحصافة، و الحكمة و الذكاء؟

(3) و ها نحن ندرج هنا الآيات المتعلّقة بالمقام و نترك أصفارا (و فراغا) في مكان

سيد المرسلين ،ج 1،ص:493

الجملتين اللتين ادّعي اضافتهما، ثم نترك للقارئ نفسه أن يقيم بنفسه هل لتينك الجملتين مكان بين هذه الآيات (التي وردت في ذمّ الاصنام و القدح فيها):

و إليك هذه الآيات:

«أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى. وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ... «1» أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى. إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» «2».

ثم هل يسمح إنسان عاديّ لنفسه أن يكفّ عن معاداة نبيّ هاجم عقائده طيلة عشرة اعوام، و هدر استقلاله و كيانه، و جرّ عليه الشقاء بتسفيه أحلامه، و شتم آلهته، لعبارات متناقضة و كلام خليط من الذّم الكبير و المدح العابر.

(1)

دليل لغويّ على تفنيد هذه الاسطورة
اشارة

يقول العلامة الجليل الشيخ محمّد عبده: لم يستعمل لفظ الغرانيق في الآلهة أبدا لا في اللغة و لا في الشعر العربي «3».

و «غرنوق» و «غرنيق» اللذان جاءا في اللغة استعملا في نوع من طيور الماء أو الشابّ الجميل، و لا ينطبق أي واحد من هذه المعاني على الآلهة

و قد اعتبر احد المستشرقين يدعى «السير وليم مويير» قصة «الغرانيق» هذه من مسلّمات التاريخ و استدل لها بقوله: لم يكن يمض على هجرة المهاجرين الاول إلى الحبشة اكثر من ثلاثة أشهر يوم صالح محمّد قريشا فعادوا إلى مكة.

إن المسلمين الذين هاجروا إلى تلك الأرض و كانوا يعيشون في أمن و طمأنينة في جوار النجاشيّ إذا لم

يكونوا يبلغهم نبأ مصالحة النبيّ لقريش لما عادوا إلى مكة للقاء بذوبهم.

فاذن لا بدّ أنّ «محمّدا» قد تذرّع بشي ء لمصالحة قريش، و التقرّب إليها،

______________________________

(1) مكان الجملتين المزعومتين: تلك الغرانيق ... الى آخرها.

(2) النجم: 19- 23.

(3) نقله عنه القاسمي في تفسيره: ج 12 ص 55- 56.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:494

و هذا الشي ء هو قصة الغرانيق»!! «1».

(1) و لكن يجب أن نسأل هذا المستشرق المحترم:

(2) أولا: لما ذا يجب أن تكون عودة المهاجرين ناشئة عن نبأ صحيح حتما.

إن النفعيين و ذوي الأهواء و الأغراض يسعون دائما إلى بثّ عشرات بل مئات الأخبار الكاذبة بين جماعتهم لتحقيق ما رب خاصّة لهم، فما الذي يمنع من أن نحتمل أن هناك من افتعل خبر مصالحة النبيّ لقريش بهدف إرجاع المهاجرين من الحبشة الى «مكة». و قد صدق بعض اولئك المهاجرين هذا الخبر الكاذب فعادوا إلى أرض الوطن، بينما لم ينخذع الآخرون بها و بقوا في الحبشة و لم يعودوا الى مكة؟؟

(3) ثانيا: لنفترض أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يريد أن يصالح قريشا، فهل يكون الطريق إلى السلام و المصالحة منحصرا في افتعال هاتين الجملتين.

أ لم يكن إعطاء مجرّد وعد مناسب أو مجرّد السكوت عن عقائدهم كافيا لتهدئة خواطرهم، و اجتذابهم قلوبهم نحوه؟

و على كلّ حال فان عودة المهاجرين لا يكون دليلا على صحّة هذه الاسطورة كما أن المصالحة، و التقارب غير متوقفين على النطق بهاتين الجملتين.

و الأعجب من هذا أن البعض تصوّر أن الآيات (52- 54 من سورة الحج) قد نزلت في قصة الغرانيق.

(4) و حيث أن هذه الآيات قد وقعت ذريعة بأيدي المستشرقين و مرتكبي جريمة التحريف في التاريخ، فاننا نعمدهنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات، و نبين

للقارئ بأنها تنظر إلى امر آخر، و لا ترتبط بهذه القصة بتاتا.

و ها هو نصّ الآيات المشار إليها:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ، وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

______________________________

(1) راجع حياة محمّد: ص 165 و 166.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:495

لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».

و الآن يجب أن نبين مفاد الآيات و لنبدأ بالآية الاولى:

انّ الآية الاولى تذكّر بثلاثة امور هي:

1- انّ الأنبياء و الرسل يتمنون.

2- انّ الشيطان يتدخّل في تمنياتهم.

3- انّ اللّه يمحي آثار ذلك التدخّل.

و بتوضيح هذه النقاط الثلاث يتضح مفاد الآية و المراد منها.

و إليك توضيح تلكم النقاط الثلاث:

(1)

1- ما هو المقصود من تمني الأنبياء و الرسل

لقد كان الأنبياء و الرسل يحبّون هداية اممهم، و نشر دينهم و تعاليمهم فيها، و كانوا يدبّرون امورا و يخطّطون خططا لتحقيق أهدافهم هذه، كما كانوا يتحملون في هذا السبيل كل المتاعب و المصاعب، و يثبتون في جميع المشكلات و المحن.

و لم يكن رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله مستثنى عن هذه القاعدة، فقد كان صلّى اللّه عليه و آله يخطط لتحقيق أهدافه كثيرا، و يهيّئ مقدمات و يبيّن القرآن هذه الحقيقة بقوله:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى».

فاتّضح إلى هنا المراد من لفظ تمنّى و لنشرح الآن النقطة الثانية.

(2)

2- ما هو المقصود من تدخّل الشيطان؟

إن تدخّل الشيطان يمكن أن يتم على نحوين:

(3) 1- أن يوجد الشك و الترديد في عزم الأنبياء، و يوحي إليهم بأنّ هناك

سيد المرسلين ،ج 1،ص:496

عوائق كثيرة تحول بينهم و بين أهدافهم، و لذلك لن يحرزوا نجاحا في تحقيق تلك الأهداف.

(1) 2- بأن الأنبياء كلما مهّدوا لأمر و هيّئوا له مقدّماته، و ظهرت منهم أمارات تدل على أنهم مقدمون على تنفيذه فعلا أقام الشيطان و من تبعه من شياطين الانس العراقيل و الموانع في طريقهم، ليمنعوهم من الوصول إلى غاياتهم.

(2) أما الاحتمال الأول فلا ينسجم لا مع الآيات القرآنية الاخرى و لا مع الآية اللاحقة.

(3) أمّا من جهة الآيات الاخرى فلأنّ القرآن ينفي بصراحة لا صراحة فوقها أنه لا سلطان للشياطين على أولياء اللّه و عباده الصالحين (و لو بأن يصوّروا لهم بأنهم لن يقدروا على تحقيق آمالهم، و أهدافهم) إذ يقول:

«إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» «1». و يقول أيضا:

«إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» «2».

إن هذه الآيات، و الآيات الاخرى التي تنفي سلطان

الشيطان على أولياء اللّه و عباده الصالحين، و تأثيره في قلوبهم و نفوسهم لخير شاهد و أفضل دليل على أنّ المقصود من تدخّل الشيطان في تمنيات الأنبياء ليس بمعنى إضعاف عزيمتهم، و إرادتهم و تكبير الموانع و العراقيل في نظرهم.

(4) أمّا من جهة الآيات المبحوثة فان الآية الثانية و الثالثة تفسّر و تشرح علّة التدخّل على النحو الآتي:

إننا نختبر بهذا العمل فريقين من الناس: الفريق الأول: الّذين في قلوبهم مرض، و الفريق الثاني: الذين يؤمنون باللّه و اليوم الآخر.

يعني أنّ تدخّل الشيطان في أعمال الأنبياء عن طريق تحريك الناس ضدّهم و ضدّ أهدافهم يوجب مخالفة الفريق الأوّل و معارضتهم للانبياء في حين يكون الأمر على العكس من ذلك في الفريق الثاني فانه يزيد من ثباتهم و صمودهم.

______________________________

(1) الحجر: 42، الاسراء: 65.

(2) النحل: 99.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:497

و ان بيان أن لتدخل الشيطان في تمنيات الأنبياء، مثل هذين الاثرين المختلفين (أي يحمل فريقا على المخالفة و فريقا آخر على الثبات و الصمود) يفيد أن المراد بالتدخل هنا هو المعنى الثاني، يعني ان التدخل يحصل عن طريق تحريك الناس ضدّهم، و إلقاء الوساوس في قلوب أعدائهم، و خلق الموانع و العراقيل في طريقهم لا أنهم يتصرفون في نفوس الأنبياء و قلوبهم و يضعفون ارادتهم و عزمهم.

إلى هنا اتضح معنى تدخّل الشيطان في تمنيات الأنبياء و الرسل.

و الآن حان الحين لتوضيح المطلب الآخر يعني محو آثار هذا التدخل.

(1)

3- ما هو المقصود من محو آثار التدخل؟

اذا كان معنى تدخّل الشيطان هو تحريك الناس و تأليبهم ضد الأنبياء ليمنعوا الأنبياء و الرسل من التقدم في أهدافهم، فان محو آثار التدخّل الشيطاني من قبل اللّه- حينئذ- يكون بمعنى ان اللّه يدفع عن أنبيائه و رسله كيد الشيطان ليتضح الحق

للمؤمنين، و يكون اختبارا لمرضى القلوب كما يقول تعالى في آية اخرى:

«إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» «1».

و خلاصة القول: أن القرآن يخبر- في هذه الآيات- عن سنة للّه قديمة في مجال الأنبياء و هي:

إن تمنّي التقدم في الأهداف و تمنّي التوفيق في هداية الناس هو فعل الأنبياء دائما.

ثم يأتي الدور لتدخّل الشيطان و أتباعه من شياطين الإنس و الجنّ، و ذلك بايجاد الموانع و العقبات في طريق الأنبياء و الرسل.

ثم يأتي من بعد ذلك حلول المدد الإلهي الغيبيّ بمحو و فسخ كلّ التدابير الشيطانية المضادّة لأهداف الأنبياء المعرقلة لتحقيق أمانيّهم.

و هذه هي إحدى السنن الالهية الثابتة التي جرت في جميع الامم السالفة.

______________________________

(1) غافر: 51.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:498

(1) إن تاريخ الأنبياء و الرسل و قصصهم من نوح و إبراهيم و أنبياء بني إسرائيل و بخاصّة موسى و عيسى عليهما السّلام، و تاريخ حياة الرّسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله خير شاهد على هذا المطلب.

و ينبغي استكمالا لهذا البحث أن نقول: و لأجل ما ورد على هذه القصة الاسطورية من مؤاخذات رفضها و فنّدها بعض المحققين من أهل السنة اذ قال بعد ذكرها على النحو الذي ادرجها الطبري في تاريخه و أرسله ارسال المسلّمات:

«و أهل الأصول يدفعون هذا الحديث بالحجة.

و من صحّحه قال فيه أقوالا:

منها: ان الشيطان قال ذلك و أذاعه و الرسول عليه الصلاة و السّلام لم ينطق به.

(و ذكر وجوها اخرى ثم قال:) و الحديث على ما خيّلت غير مقطوع بصحته «1».

______________________________

(1) راجع هوامش السيرة النبويّة: ج 1 ص 364.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:499

(1)

20 الحصار الاقتصادي و الاجتماعي

اشارة

إن أبسط وسيلة و أسهلها لضرب الأقليات في أي مجتمع، و القضاء عليها هو ما يسمى بالمكافحة السلبية التي

تقوم أساسا على اتحاد الأكثرية و اتفاقها على مقاطعة الأقليّه المتمرّدة.

إن عكس هذا يحتاج إلى أدوات متعددة مختلفة، لأنه يتطلب مثلا ان يحمل جماعة من المقاتلين السلاح، و تتوجه نحو الاهداف المطلوبة عبر التضحية بقدر كبير من الأنفس و الأموال، و ازالة العشرات من الموانع و السواتر، و هو أمر لا يقدم عليه القادة المحنّكون إلّا بعد توفّر كل مستلزمات المواجهة و اتخاذ جميع التدابير اللازمة، و الاستعداد الكامل، و بالتالي لا يقدمون على هذه الخطوة ما لم تدعو الضرورة إليها، و تنحصر الحيلة في القتال.

(2) و لكنّ المكافحة السلبية لا تتوقف على مثل هذه الامور، بل تحتاج الى أمر واحد و هو اتفاق الاكثرية. سيد المرسلين ج 1 499 20 الحصار الاقتصادي و الاجتماعي ..... ص : 499

نى أن يتفق من يعنيهم الأمر و لهم عقيدة واحدة و يتحالفوا في ما بينهم بصدق على أن يقطعوا كل صلاتهم و علاقاتهم بالأقليّة المعارضة، فيحرّموا التعامل التجاريّ معهم و يوقفوا الاتصال العائليّ بهم، و لا يشركونهم في اعمالهم الاجتماعية و لا يتعاونوا معهم في امورهم الشخصيّة أيضا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:500

(1) في مثل هذه الحالة تضيق الأرض على الأقلية بما رحبت و تغدو الدنيا لهم على سعتها كسجن ضيق و صغير، و يصيرون عرضة للانهيار و السقوط بأقلّ قدر ممكن من الضغط عليها.

إن الاقليّة المخالفة المتمرّدة ربما تستسلم- في هذه الحالة- و تؤوب من منتصف الطريق، و تطيع إرادة الأكثرية.

و لكن أقلية كهذه لا بد أن تكون ممّن لا تعود مخالفتها للأكثرية إلى أمر عقائديّ و لا يكون لانفصالها. عن الاكثرية طابع اصولي مبدئيّ، كما لو كان خلافها مع الاكثرية مثلا على تحصيل ثروة أو منصب مهمّ أو ما

شاكل ذلك.

فان مثل هذه الاقلية اذا أحسّت بخطر جدّي، أو واجهت العذاب و السجن و الحصار ستتراجع عن مخالفتها و تعود إلى طاعة الاكثرية مؤثرة اللّذة العابرة المؤقّتة على اللذة الاحتمالية، لأنها لم تنطلق من دوافع ايمانية اصيلة، و لم يكن المحرك لها محركا روحيا معنويا.

و لكن الجماعة التي يقوم خلافها للاكثرية على أساس الإيمان بهدف مقدس، لن تنصاع أبدا لمثل هذه الضغوط، و لن تنثني أمام هذه الرياح و العواصف، و لا يزيدها ضغط الحصار الّا صلابة و قوة، و إصرارا و عنادا، و تردّ جميع ضربات العدوّ بالصبر و الاستقامة.

إن صفحات التاريخ البشريّ تشهد بأن أقوى العوامل لثبات كل أقليّة و صمودها في وجه الأكثرية هو: قوة الايمان، و عامل الاعتقاد، الذي ربما يؤدّي رسالة الثبات و المقاومة ببذل آخر قطرة دم في ساحة المواجهة.

و لنا على هذا عشرات بل و مئات الأمثلة من التاريخ الغابر و الحاضر.

قريش تحاصر النبيّ و المسلمين اقتصاديا و اجتماعيا
اشارة

(2) لقد شقّ على قريش انتشار الإسلام المتزائد و أزعجها نفوذه العجيب في القبائل العربية في مدة غير طويلة بالنسبة إلى عمر الدعوة و لهذا كانت تفكر باستمرار في حلّ لهذه المشكلة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:501

فان اسلام شخصيات ذات أهمية و مكانة كبرى مثل جمزة، و كذا رغبة فتية قريش المتفتحين في الاسلام، و حرية العمل و التحرك التي اكتسبها المسلمون على اثر الهجرة إلى أرض الحبشة، كل ذلك زاد من حيرة، و اضطراب الزعامة الجاهلية في مكة، التي زادها حيرة، و انزعاجا، فشل جميع مخططاتها الاجهاضية ضد الإسلام و المسلمين، و عدم حصولها على أية نتائج تذكر!!

(1) من هنا فكرت في خطة جديدة، و هي ان تفرض حصارا اقتصاديا قويا على النبيّ و المسلمين تقطع به

كل الشرايين الحيوية للمسلمين، و بذلك تحدّ من سرعة انتشار الاسلام و تقف دون نفوذه، و بالتالي تخنق بين كمّاشة هذا الحصار مؤسس هذه العقيدة التوحيدية، و أنصاره.

[قريش و الصحيفة القاطعة]

و لهذا اجتمع زعماء قريش في «دار الندوة» و وقّعوا ميثاقا كتبه «منصور بن عكرمة» و علّقوه في جوف الكعبة، و تحالفوا بان تلتزم قريش ببنوده حتى الموت.

و نص هذا العقد على الامور التالية:

1- أن لا يبتاعوا من أنصار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا يبيعوهم شيئا.

2- ان لا ينكحوا إليهم و لا ينكحوهم.

3- أن لا يؤاكلوهم و لا يكلّموهم.

4- ان يكونوا يدا واحدة على «محمّد» و انصاره.

(2) و قد وقعت على هذه الصحيفة الظالمة القاطعة كل الشخصيات البارزة في قريش إلّا «مطعم بن عدي» و أعلنت عن سريان مفعوله بكل قوة و إصرار.

فلما علم حامي النبي الاكبر أبو طالب عليه السّلام بذلك جمع بني هاشم و بني المطلب و حمّلهم مسئولية الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الحفاظ على حياته و سلامته، و أمرهم بالخروج من مكة و بدخول شعب كائن بين جبال مكة كان يعرف بشعب أبي طالب فيه بعض البيوت العادية، و السقائف البسيطة جدا، و السكنى في ذلك الشعب بعيدا عن المجتمع المكّي المشرك.

و عمد الى بث رجال منهم في نقاط مرتفعة للمراقبة و الحراسة تحسبا لأي

سيد المرسلين ،ج 1،ص:502

هجوم مباغت تقوم به قريش «1».

(1) و قد استمر هذا الحصار ثلاثة أعوام كاملة، و بلغ الجهد بالمحاصرين في الشعب بحيث ارتفع صراخ الأطفال من الجوع و الضر، و بلغت هذه الصرخات مسامع قساة مكة الّا انها لم تؤثر فيهم قط.

كان الشباب و الرجال منهم يعيشون على تمرة واحدة

طوال اليوم، و ربما تناصف اثنان تمرة واحدة، و لم يمكنهم الخروج من الشعب طوال هذه السنوات الثلاث الّا في الاشهر الحرم حيث يسود الأمن كل انحاء الجزيرة العربية.

فاذا حلّ الموسم كانت بنو هاشم تخرج من الشعب فيشترون و يبيعون ثم يعودون إلى الشعب إلى الموسم الثاني.

و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يستغلّ هو أيضا تلك المواسم في نشر دينه، و الدعوة الى ما أتى به.

و كانت عناصر قريش تحاول مضايقة النبي و أنصاره و تمارس الحصار الاقتصادي عليهم بشكل من الأشكال حتى في هذه المواسم، فكانوا يحضرون عند مواقع البيع و الشراء فاذا وجدوا مسلما يريد أن يبتاع شيئا اشتروه بثمن أغلى ليمنعوا المسلم منه!!

(2) و كان «أبو لهب» اكثر الناس اصرارا على هذا العمل، فقد كان ينادي في الأسواق: يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمّد حتى لا يدركوا معكم شيئا فقد علمتم مالي و وفاء ذمتي فانا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع الرجل المسلم إلى اطفاله و هم يتضاغون من الجوع و ليس في يديه شي ء يطعمهم به، و يغدو التجار على أبي لهب فيربّحهم فيما

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 350، و تاريخ الطبري: ج 2 ص 78، و قد كتبت هذه الصحيفة الظالمة في الليلة الاولى من السنة السابعة للبعثة و عند ما عرف ابو طالب بأمرها أنشد قصيدة في ذمهم مطلعها:

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمّدانبيا كموسى خطّ في أول الكتب

سيد المرسلين ،ج 1،ص:503

اشتروا من الطعام و اللباس!! «1».

و كان «الوليد بن المغيرة» ينادي: أيّما رجل منهم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه فكانت قريش تباكرهم إلى الاسواق فيشترونها

فيغلونها عليهم.

(1)

وضع بني هاشم المأساوي في الشعب

لقد بلغ الجهد و الجوع بالمحاصرين في الشعب حدّا جعلهم يأكلون كل ما تقع عليه ايديهم من الخبط و ورق السمر حتى أن «سعد بن أبي وقاص» يقول: لقد جعت حتى أني وطئت ذات ليلة على شي ء رطب فوضعته في فمي و بلعته، و ما أدري ما هو الى الآن «2».

هذا و قد بثّت قريش جواسيسها على الطرق المؤدّية إلى الشعب ليمنعوا من إيصال الطعام إلى من فيه فلا يصل إليهم شي ء إلّا سرا و مستخفى به ممّن أراد صلتهم من قريش.

فقد روي أن «حكيم بن حزام» (ابن اخ خديجة) و «أبو العاص بن الربيع» و «هشام بن عمرو» كانوا يسرّبون الى «بني هاشم» في الشعب سرّا و في أواسط الليل تحت جنح الظلام، فكان الواحد منهم يحمل قمحا و تمرا على بعير و يأتي به إلى باب الشعب ثم يصيح بها فتدخل الشعب و يأكله بنو هاشم.

و ربما صادفهم بعض جواسيس قريش، فهمّوا بقتله، أو سبّبوا له بعض المتاعب.

(2) فقد روي أن «حكيم بن حزام» خرج يوما و معه انسان يحمل طعاما إلى عمته خديجة بنت خويلد (زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانت معه الشعب طيلة أعوام الحصار) إذ لقيه «أبو جهل» فقال له: تذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ و اللّه لا تبرح أنت و لا طعامك حتى أفضحك عند قريش بمكة.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 337 الهوامش.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 337 الهوامش.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:504

فقال له أبو البختريّ- و كان من أعداء الاسلام هو أيضا-: تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده؟

فأبى «ابو جهل» أن يدعه إلا أن يأخذه إلى قريش، فقام إليه

«ابو البختري» بساق بعير فضربه و وطأه وطئا شديدا «1».

(1) و خلاصة القول؛ أن قريشا بالغت في تضييق الحصار على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من تبعه حتى أن من كان يدخل «مكة» من العرب. كان لا يجسر على أن يبيع من بني هاشم شيئا و من باع منهم شيئا انتهبوا ماله، و كان «أبو جهل»، و «العاص بن وائل» و «النضر بن الحارث بن كلدة»، و «عاقبة بن أبي معيط» يخرجون إلى الطرقات التي تدخل «مكة» فمن رأوه معه ميرة و طعام نهوه ان يبيع من بني هاشم شيئا، و يحذرون إن باع شيئا منهم نهبوا ماله.

كما وعدوا على من أسلم فاوثقوهم و آذوهم و اشتدّ البلاء عليهم، و أبدت قريش لبني عبد المطلب الجفاء.

و لكن لم يستطع كل ذلك أن يفتّ في عضد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يقلل من إصراره و ثباته على الطريق، و لا من اصرار أتباعه و ثباتهم و إيمانهم.

و أخيرا تركت صرخات أطفال بني هاشم في الشعب من الجوع و العري و الجهد و الضر، و أوضاعهم المأساوية أثرها في نفوس بعض المشركين الموقعين على تلك الصحيفة الظالمة، و ذلك الميثاق المشؤوم، فندموا على إمضائهم لتلك المقاطعة بشدة و صاروا يفكّرون في نفضها بشكل من الأشكال.

(2) فمشى «هشام بن عمرو» الى «زهير بن أبي أميّة» (و كان من أحفاد عبد المطلب من جانب بناته) و قال له و هو يحثه على نقض الصحيفة: يا زهير أ قد رضيت أن تأكل الطعام، و تلبس الثياب، و تنكح النساء، و أخوالك حيث قد علمت لا يباعون و لا يبتاع منهم، و لا ينكحون و لا

ينكح إليهم؟

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 354، هذا و يشكّك أحد المحققين في نوايا حكيم بن حزام في هذا العمل، و في أن يكون قد حصل بدافع الوفاء لوشيجة القربى، بل كان بدافع الربح الاكثر لما تبت- حسب قوله- من انه كان يحتكر الطعام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:505

أمّا إني أحلف باللّه أن لو كانوا أخوال أبي الحكم (أي أبي جهل) ثم دعوته الى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا؟

فقال زهير: ويحك يا هشام فما ذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد و اللّه لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها. قال: قد وجدت رجلا.

قال فمن هو؟ قال: أنا.

(1) قال له زهير: أبغنا رجلا ثالثا. فذهب إلى «المطعم بن عدي» فقال له:

يا مطعم أ قد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، و أنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه! أما و اللّه لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم سراعا؟

قال: و يحك! فما ذا أصنع؟ انما أنا رجل واحد.

قال: قد وجدت ثانيا.

قال: من هو؟ قال: أنا.

قال: أبغنا ثالثا.

قال: قد فعلت.

قال: من هو؟

قال: زهير بن أبي أميّة.

قال: أبغنا رابعا.

(2) فذهب إلى «البختري بن هشام» فقال له نحوا ممّا قال للمطعم بن عدي، فقال: و هل من أحد يعين على هذا؟

قال: نعم.

قال: من هو؟

قال: «زهير بن أبي أميّة» و «المطعم بن عديّ» و أنا معك.

فقال: ابغنا خامسا.

فذهب إلى «زمعة بن الأسود بن المطلب» فكلّمه و ذكر له قرابتهم و حقّهم فقال له: و هل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟

سيد المرسلين ،ج 1،ص:506

قال: نعم ... ثم سمّى له القوم الذين وعده بالمساعدة على

نقض تلك الصحيفة القاطعة الظالمة.

فاتفقوا على أن يحضروا في أندية قريش في المسجد و يعلنوا مخالفتهم لتلك الصحيفة.

(1) فلمّا أصبحوا غدوا إلى مجلس قريش في المسجد الحرام فأقبل «زهير بن أبي اميّة» على الناس و قال:

يا أهل مكة أ نأكل الطعام و نلبس الثياب، و بنو هاشم هلكى لا يباع لهم و لا يبتاع منهم؟ و اللّه لا أقعد حتى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

فقال أبو جهل و كان في ناحية المسجد: كذبت و اللّه لا تشقّ.

فانتصر زمعة لزهير و ردّ على أبي جهل قائلا: أنت و اللّه أكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت.

و قال أبو البختري من ناحية مؤيدا موقف زميله: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها، و لا نقرّ به.

و قال المطعم بن عدي: صدقتما و كذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى اللّه منها، و ممّا كتب فيها.

و قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.

فأحسّ أبو جهل بأنّ ذلك كان أمرا مبيّتا مدبّرا من قبل فقال:

هذا أمر قضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان.

و كان أبو طالب- حسب بعض الروايات التاريخية- جالسا ذلك اليوم في ناحية المسجد، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقّها فوجد (الأرضة) «1» قد أكلتها، إلّا «باسمك اللّهم» التي صدّرت بها تلك الصحيفة و هي جملة كانت قريش تبدأ بها عهودها و رسائلها.

فلما رأى «أبو طالب» ذلك رجع الى الشعب و أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه

______________________________

(1) و هي دودة بيضاء شبه النملة و هي آفة كل شي ء من خشب أو نبات راجع لسان العرب مادة: ارض

سيد المرسلين ،ج 1،ص:507

و آله بما جرى، و عاد المحاصرون في الشعب إلى منازلهم مرة اخرى بعد المشورة مع «أبي طالب».

(1) و يروي طائفة

من المؤرخين أنّ «خديجة» و «أبا طالب» أنفقا أموالهما برمّتها خلال سنوات المحاصرة.

و فجأة نزل ملك الوحي «جبرئيل» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الشعب، و أخبره بان اللّه قد بعث على صحيفة المشركين القاطعة دابّة الأرض فلحست (أو اكلت) جميع ما فيها من قطيعة و ظلم و تركت جملة «باسمك اللّهم» فأخبر رسول اللّه أبا طالب بذلك قائلا يا عمّ إنّ ربّي اللّه قد سلّط «الأرضة» على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو للّه إلّا أثبتته فيها، و نفت منه الظلم و القطيعة و البهتان.

فقال أبو طالب: إذن لا يدخل عليك أحد «1».

(2) ثم قام و لبس ثيابه، و مشى هو و رسول اللّه و شخص آخر حتى دخلوا المسجد على قريش و هم مجتمعون فيه، فلما دنا أبو طالب منهم قاموا إليه و عظّموه، و تباشروا و ظنّوا أن الحصر و البلاء حمل أبا طالب على التخلّي عن موقفه، فقالوا له: قد آن لك ان تطيب نفسك عن قتل رجل في قتله صلاحكم و جماعتكم (أو قد آن لك أن تسلّم إلينا ابن أخيك).

فقال أبو طالب: و اللّه ما جئت لهذا، و لكنّ ابن أخي أخبرنى و لم يكذّبني أنّ اللّه تعالى أخبره أنّه بعث على صحيفتكم القاطعة دابّة فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم و ظلم و جور و ترك اسم اللّه، فهلم صحيفتكم فان كان حقا فاتقوا اللّه و ارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم و الجور و قطيعة الرّحم.

و إن كان باطلا دفعته إليكم فان شئتم قتلتموه، و إن شئتم استحييتموه.

فقالوا: رضينا، و تعاقدوا على ذلك.

______________________________

(1) و إنّما اتخذ مثل هذا الاجراء حتى لا يفشوا

ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة، و يكذّبوا بذلك خبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:508

ثم بعثوا إلى الصحيفة و أنزلوها من الكعبة، و عليها أربعون خاتما.

فلما أتوا بها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه، ثم فكوها فاذا ليس فيها حرف واحد إلّا «باسمك اللّهمّ»، كما اخبرهم بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1) غير أنّ هذا لم يوجب هدايتهم بل زادهم شرا و عنادا و رجع بنو هاشم مرّة اخرى إلى الشعب و بقوا محاصرين فيه مدّة من الزمن و لم يمكنهم الرجوع الى منازلهم بمكة إلّا بعد أن نقضها هشام.

و قد قال «أبو طالب» في مدح هذا (أي نقض الصحيفة القاطعة و النفر الذين قاموا بنقضها) قصيدة مطوّلة جاء في مطلعها.

ألا هل أتى بحريّنا «1» صنع ربّناعلى نأيهم و اللّه بالناس أرود «2»

فيخبرهم أنّ الصحيفة مزّقت و ان كلّ ما لم يرضه اللّه مفسد «3» (2) هذه أمثلة و نماذج من ردود الفعل الظالمة و المواقف المناوئة التي اتخذتها قريش تجاه الدعوة المحمدية.

على أنه لا يمكن الادّعاء القطعيّ بأن جميع هذه الردود قد وقعت على الترتيب الذي ذكرناه تماما، و لكن يمكن بمراجعة النصوص التاريخيّة تحصيل مثل هذا الترتيب و خاصّة أن مسألة انتهاء المحاصرة الاقتصادية قد وقعت في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة الشريفة.

(3) كما أنّ أذى قريش و ردود فعلها ضدّ الاسلام و المسلمين و ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصّة لم تنحصر في ما ذكرناه في هذه الفصول بل كان هناك أساليب اخرى سلكتها قريش لتحطيم شخصية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أضعاف عزيمته مثل وصفهم للنبي صلّى اللّه عليه و

آله بالأبتر.

فقد كان «العاص بن وائل السهمي» إذا ذكر رسول اللّه قال: دعوه، فانّما هو رجل أبتر لا عقب له، لو مات لانقطع ذكره و استرحتم منه.

______________________________

(1) يقصد من هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر.

(2) أي أرفق.

(3) السيرة النبوية: ج 1 ص 377- 380 و قد أدرج ابن هشام القصيدة بتمامها، فراجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:509

فانزل اللّه تعالى في ذلك سورة الكوثر التي يقول فيها:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ».

و قد أخبر بها اللّه نبيّه بأنه سيهبه ذريّة كثيرة «1».

و لقد كتب العلّامة الفخر الرازي في تفسيره لهذه السورة «2»: المعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت؟ ثم العالم ممتلئ منهم، و لم يبق من بني اميّة في الدنيا أحد يعبأ به.

و وجه المناسبة أن الكافر شمت بالنبيّ حين مات أحد أولاده و قال: ان محمّدا ابتر فان مات مات ذكره، فانزل اللّه هذه السورة على نبيّه تسلية له كأنه تعالى يقول: ان كان ابنك قد مات فانا اعطيناك فاطمة، و هي و إن كانت واحدة و قليلة، و لكن اللّه سيجعل هذا الواحد كثيرا.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 393 و جميع التفاسير.

(2) مفاتيح الغيب: الجزء الثلاثون سورة الكوثر.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:511

(1)

21 وفاة أبي طالب و خديجة الكبرى

اشارة

في الوقت الذي كنّا نسطّر فيه مواضيع هذا الفصل كان سجن «القطيف» يضمّ بين جدرانه شابا حر الضمير شجاعا مقداما لم يكن له من ذنب إلا أنه الّف كتابا باسم «أبو طالب مؤمن قريش» يتناول إسلام «أبي طالب» و إيمانه و إخلاصه مثبتا كل ذلك من مصادر أهل السنّة «1».

فطلبت منه السلطات القضائيّة في الحجاز- و في عصر

يتسم بحرّية التفكير البيان و الاعتقاد- بأن يتراجع عن كلامه، و حيث إنه لم يكن ليريد أن ينكر حقيقة اعتقد بها عن قناعة و يقين، حكمت عليه تلك السلطات بالاعدام.

و قد نجا هذا الفتى الشجاع و الكاتب الحرّ من الاعدام اثر جهود اسلامية واسعة و خفّضت عقوبته الى الحبس المؤبّد، الذي خفّض اثر جهود اسلامية مرّة اخرى الى عقوبة الجلد ثمانين جلدة!!.

(2) و هو الآن يلبث في أحد السجون بانتظار المصير، المجهول اذ على المسلمين إما أن يهتمّوا بالأمر و يطلبوا من السلطات القضائية السعودية صرف النظر عن

______________________________

(1) و الكتاب يقع في 340 صفحة طبع بحجم الوزيري و طبع في بيروت مرارا و قدّم عليه الأديب اللبناني المعروف «بولس سلامة» صاحب ملحمة الغدير و ملاحم اخرى.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:512

عقوبته، بل و الافراج عنه نهائيا.

و إما أن يفقد هذا الشاب المجاهد الشجاع البري ء حياته تحت سياط تلك السلطات الجائرة الحاكمة زورا و قهرا على أرض الحجار «1» «2»

(1) لقد سقطت مؤامرة الحصار الاقتصادي ضدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين بفعل إقدام ثلة من ذوي المروءة و أيضا بفضل صمود النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه و ثباتهم العظيم. و خرج النبيّ و أنصاره من «شعب أبي طالب» بعد ثلاث سنوات من النفي و العذاب و عادوا إلى منازلهم ظافرين مرفوعي الرءوس.

و عاد التعامل الاقتصادي مع المسلمين الى ما كان عليه قبل الحصار، و كانت أوضاع المسلمين تسير نحو الانتعاش و الانفراج شيئا فشيئا، و اذا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يفاجأ بحادث مؤلم مرّ ذلك هو وفاة شخصية كبرى أحدث فقدانها أثرا سيّئا في نفوس المسلمين و بخاصة المستضعفين منهم.

و

لقد كان هذا الأثر عظيما جدا بحيث لا يمكن قياسه بشي ء بالنظر الى تلك الظروف الحساسة، و ذلك لأن نمو أية عقيدة و فكرة إنما يكون في ظل عاملين أساسيّين: أحدهما: حرية التعبير، و الآخر: القوة الدفاعية التي تحمي أصحاب تلك العقيدة و الفكرة ضدّ حملات الخصوم التي لا ترحم.

و لقد كان المسلمون- آنذاك- يتمتعون بحرية البيان و التعبير، و لكنهم افتقدوا- بسبب الحادث المفاجئ المذكور العامل الجوهري و المصيري الثاني يعني:

حامي الاسلام و المدافع الوحيد عنه الذي وافته المنية في تلك الايام الحساسة

______________________________

(1) لقد سمّيت أراضي «الحجاز» و «نجد» و «تهامة» باسم عائلة واحدة هي آل سعود، و اخيرا حملت هذه المنطقة التي كانت تعرف و حتى إلى ما يقرب من قرنين بارض الحجاز اسم المملكة العربية السعودية. يا له من استئثار و جرأة على المقدسات!!

(2) و اخيرا نجا هذا الشاب المؤمن و المجاهد الحرّ بفضل جهود علماء الشيعة و مفكّريهم المتضافرة و الواسعة النطاق و اخلي سبيله و قد زار- للاعراب عن شكره- مدينة قم المقدّسة و قد التقينا به أيضا كما زار اماكن اخرى لنفس الغرض.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:513

و حرم المسلمون بوفاته من حمايته و دفاعه، و وقايته.

(1) أجل لقد فقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاميه العظيم الذي تولى مهمة كفالته و الدفاع عنه، و المحافظة على حياته بصدق و اخلاص و جدّ و رغبة و كان يقيه بنفسه و ذويه و يؤثره على نفسه و أولاده و ينفق عليه من ماله حتى كبر و صار له مال و طول منذ أن كان صلّى اللّه عليه و آله في السنة الثامنة من عمره و حتى يوم وفاة ذلك

الحامي العظيم، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الخمسين من عمره.

لقد فقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شخصية خاطبها عبد المطلب عند وفاته بالشعر قائلا:

اوصيك يا عبد مناف بعدي بموحد بعد أبيه فرد فأجابه أبو طالب قائلا: يا أبه لا توصينّ بمحمّد فانه ابني و ابن أخي «1».

(2) و لعلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد تذكر في اللحظة التي ظهر فيها على جبين ابي طالب عرق الموت جميع الحوادث الحلوة و المرة و قال في نفسه:

(3) 1- إن هذا الشخص المسجّى على فراش الموت هو عمّه الرءوف الذي ظلّ يحرسه بالليل و النهار طيلة سنوات الحصار في الشعب، فاذا جاء الليل قام عند رأسه بالسيف يحرسه. و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مضطجع ثم يقيمه من فراشه إذا مضى شطر من الليل و يضجعه في موضع آخر و يضجع مكانه ولده «علي بن أبي طالب» حتى لا تغتاله قريش بعد أن رصد و امكانه، و كمنوا له، و كان يفعل أبو طالب ذلك طوال الليل كله فيفديني بولده «علي» و يقيني به حتى إذا قال له «علي» ليلة:

«يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة».

فأجابه أبو طالب بنبرة المتحمّس الصبور:

______________________________

(1) عمدة الطالب: ص 6 و فيه بواحد، المناقب: ج 1 ص 21.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:514 اصبرن يا بنيّ فالصبر أحجى كلّ حيّ مصيره لشعوب

قد بلوناك و البلاء شديدلفداء النجيب و ابن النجيب فأجابه «عليّ» بكلام اكثر حلاوة و عمقا قائلا:

أ تأمرني بالصّبر في نصر أحمد؟و و اللّه ما قلت الّذي قلت جازعا

و لكنّني أحببت أن تر نصرتي و تعلم أنّي لم أزل لك طائعا «1» (1) 2- إن هذا الجثمان الذي

فارقته الروح هو جثمان عمّي العطوف الذي شرّد هو و ذووه، و عرّض نفسه و أهله للبلاء و المحنة بسبب الحصار لأجلي، و أمر بأن يحرسونني ليل نهار، تاركا زعامته و سيادته، و كلّ شئونه للحفاظ عليّ و الإبقاء على رسالتي و أرسل إلى قريش رسالة قوّية أعلن فيها عن وقوفه إلى جانبي و انه لن يسلمني و يخذلني ما دام حيّا إذ قال:

فلا تحسبونا خاذلين محمّدالذي غربة منّا و لا متقرّب

ستمنعه منّا يد هاشميّةو مركبها في الناس أخشن مركب «2» بعد أن تحقق موت «ابي طالب» ارتفع الصراخ و النحيب من منازله و بيوته، و اجتمع حول بيته العدوّ و الصديق، و القريب و البعيد، و اشترك الجميع في مراسم دفنه بقلوب آلمتها الفجيعة به، و قرّحها الحزن عليه.

و هل ترى تنتهي آثار و ردود فعل وفاة شخصية عظيمة الشأن مثل «ابي طالب» الذي كان زعيم قريش، و سيد عشيرته بمثل هذه السرعة، و البساطة؟

كلا بل سيكون لفقدانه اكبر الأثر على مسيرة الدعوة كما ستعرف ذلك مستقبلا.

(2)

نماذج من مشاعر أبي طالب
اشارة

ان التاريخ البشريّ يحتفظ في صفحاته بأمثلة كثيرة عن مشاعر تبادلها

______________________________

(1) مناقب ابن شهر اشوب: ج 1 ص 64، الحجّة: ص 70، بحار الأنوار: ج 19 ص 1- 19.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 4 ..

سيد المرسلين ،ج 1،ص:515

الأشخاص و عواطف وديّة قويّة أبداها البعض تجاه بعض تدور اكثرها حول محور الدوافع المادية كالتي تدور حول معيار الجمال أو المال، و لهذا سرعان ما يذهب الحماس و ينطفئ شعلة الحبّ، و يتضاءل لهيب العاطفة في كيانهم حتى تزول بالمرّة و لا يبقى منها شي ء أبدا لعدم ثبات هذه الدوافع.

(1) و لكنّ المشاعر و العواطف التي تنبع من أواصر

الايمان بفضائل شخص ما و كمالاته الروحية و المعنوية لا تنمحي و لا تتلاشى بسرعة.

و قد كانت مودة «أبي طالب» لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و حبّه الشديد له تنبع من كلا هذين الدافعين.

فقد كان «أبو طالب» يؤمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و يرى فيه من جانب الانسان الكامل، بل يعتبره في قمة الكمال الانساني، و من جانب آخر كان «محمّد» ابن أخيه، و قد أحلّه ذلك من قلبه محلّ الابن و الأخ.

لقد كانت لصفات «محمّد» و خصاله المعنوية و الأخلاقية، و طهره مكانة كبرى في قلب عمّه «أبي طالب» إلى درجة أنه كان يصطحبه معه إلى المصلّى، و يستسقي به أي انه يقسم على اللّه بمقامه أن يدفع عن الناس القحط و الجدب و ينزّل عليهم الغيث، فكانت دعونه تستجاب من دون تأخير.

(2) فقد نقل كثير من المؤرخين الحادثة التالية:

قحط الناس في «مكة» و حواليها سنة من السنين، و منعت السماء و الأرض بركاتهما عنهم بشكل عجيب، فمشت قريش بعيون باكية إلى «أبي طالب» تطلب منه بالحاح أن يستسقي لهم، و ان يذهب الى المصلى و يدعو ربّه لينزّل عليهم المطر و ينقذهم من تلك المحنة الصعبة.

فخرج «أبو طالب» و قد اخذ بيد غلام كأنه شمس دجن تجلّت عنها غمامة فاسند ظهره إلى الكعبة و رفع وجهه نحو السماء و قال: يا رب هذا الغلام اسقنا غيثا مغيثا، دائما هاطلا.

(3) و يكتب المؤرخون ان السماء كانت صافيه لا غيم فيها أبدا ساعة استسقى «أبو طالب» برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن ما ان فرغ «أبو طالب» من دعائه

سيد المرسلين ،ج 1،ص:516

إلّا و أقبلت السحاب في الحال، و غطّت سماء

«مكة» و ما حولها من المناطق القريبة إليها، و ارعدت السماء و أبرقت ثم جرى غيث عظيم سالت به الأودية، و روّت القريب و البعيد، و سرّ به الجميع و رضوا «1».

و قد اشار «أبو طالب» في لاميّته المعروفة الى هذه الحادثة.

(1) و قد أنشأ «أبو طالب» تلك القصيدة في أحلك الظروف و اشدّها، يوم زادت قريش من ضغوطها على حامي الرسول صلّى اللّه عليه و آله ليسلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليها.

و قد ذكّر فيها «أبو طالب» فريشا بحادثة الاستسقاء برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل الاسلام و كيف أنها امطرت ببركته، بعد قحط طويل، و جدب مهلك، كاد يبيد الحرث و الضرع، و ذلك عند ما يقول:

و ابيض يستسقى الغمام بوجهه ربيع اليتامى عصمة للأرامل

تلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة و فواضل و قد نقل «ابن هشام» في سيرته «2» أربعة و تسعين بيتا من هذه القصيدة، فيما أورد «ابن كثير» الشامى في تاريخه «3» اثنين و تسعين بيتا فقط.

و هي قصيدة في منتهى الروعة و العذوبة، و في غاية القوة و الجمال، و تفوق في هذه الجهات كل المعلقات السبع التي كان عرب الجاهلية يفتخرون بها، و يعدونها من ارقى ما قيل في مجال الشعر و النظم.

(2) و قد أورد «ابو هفان العبدي» الجامع لديوان «أبي طالب» مائة و واحدة و عشرين بيتا من هذه القصيدة في ذلك الديوان، و يمكن ان تكون كل تلك القصيدة و تمامها.

و نحن نورد هنا أبياتا متفرقة من هذه القصيدة مما يتصل منها برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بصورة صريحة.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 2 و

3، السيرة الحلبية: ج 1 ص 111- 116، الملل و النحل المطبوع بهامش الفصل في الأهواء و الملل: ج 3 ص 225.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 272- 280.

(3) البداية و النهاية: ج 3 ص 52- 57.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:517 كذبتم و بيت اللّه نبزى محمّداو لما نطاعن دونه و نناظل «1»

و نسلمه حتّى نصرّع دونه و نذهل عن أبنائنا و الحلائل

لعمري لقد كلّفت وجدا بأحمدو إخوته دأب المحبّ المواصل

فلا زال في الدنيا جمالا لأهلهاو زينا لمن والاه ربّ المشاكل «2»

فمن مثله في الناس أي مؤمّل إذا قاسه الحكام عند التفاضل

حليم رشيد عادل غير طائش يوالي إلها ليس عنه بغافل

لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب لدينا و لا يعنى بقول الأباطل

فأصبح فينا احمد في ارومةتقصّر عنه سورة المنظاول «3»

حدبت بنفسي دونه و حميته و دافعت عنه بالذّرا و الكلاكل «4»

فأيّده ربّ العباد بنصره و أظهر دينا حقّه غير باطل «5» (1)

التغيير في برنامج السفر

لم يكن يمض اكثر من اثني عشر ربيعا من عمر «محمّد» بعد، عند ما أراد «أبو طالب» التوجّه إلى الشام مع قافلة قريش التجارية.

و عند ما استعدّت القافلة لمغادرة مكة ودق جرس الرحيل، أخذ «محمّد» فجأة بزمام الناقة التي كان يركبها عمّه و كافله «أبو طالب» بينما اغرورقت عيناه صلّى اللّه عليه و آله بالدموع و قال:

«يا عمّ إلى من تكلني، لا أب لي و لا أم»؟.

هذا المشهد المؤثر و بخاصة عند ما رأى «أبو طالب» عيني محمّد و قد اغرورقت بالدموع، فعل فعلته في نفس العم الكافل الحنون، فانحدرت عبرات العطف من عينيه و قرر من فوره و من دون سابق تفكير في الموضوع أن يصطحب ابن اخيه «محمّدا» معه في هذه الرحلة، و مع أنه لم يحسب لهذا الأمر-

من قبل-

______________________________

(1) اي نغلب عليه.

(2) المشاكل: العظيمات من الامور.

(3) السورة: الشدة و البطش.

(4) الذرا: جمع ذروة و هي اعلى ظهر البعير.

(5) راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 272- 280.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:518

أي حساب، فان «أبا طالب» قبل بان يتحمّل كل ما يترتب على قراره هذا، فحمله معه على ناقته، و بقي يفكر في أمره، و يدبّر شأنه، و يحافظ عليه طوال تلك الرحلة، و شهد منه اثناء الطريق كرامات و خوارق، و قد أنشأ في ذلك قصيدة موجودة في ديوان أبي طالب، و مطلع هذه القصيدة هو:

إنّ ابن آمنة النبيّ محمّداعندي يفوق منازل الأولاد «1»

(1)

الدفاع عن حوزة العقيدة و الايمان

ليست هناك قوة تساعد على الثبات و المقاومة، و الصمود و الاستقامة، مثل قوة الايمان، فالايمان بالهدف هو العامل القوي وراء تقدّم الانسان في ميدان الحياة، فهو الذي يهضم في نفسه كل الآلام و المتاعب، و يدفع بالمرء الى المضي قدما في طريق الوصول إلى أهدافه المقدّسة، حتى و لو كلفه ذلك التعرض للموت.

إنّ الجنديّ المسلّح بقوة الإيمان منتصر لا محالة.

إن الجنديّ الذي يعتقد بأن الموت في طريق العقيدة هو عين السعادة لا بدّ أن يحرز النصر.

إن على الجندي- قبل أن يسلّح نفسه بسلاح العصر- أن يتزود في قلبه من طاقة الإيمان بالهدف، و يضي ء قلبه بمصباح الاعتقاد بالحقيقة، و حبّها، و يجب أن يكون جهاده و صلحه من أجل العقيدة و الدفاع عن حوزتها، و كيانها.

(2) إنّ أفكارنا و عقائدنا نابعة من روحنا، و في الحقيقة انّ فكر الانسان وليد عقله، فكما أنّ الانسان يحب ولده الجسماني حبّا شديدا كذلك يحب أفكاره التي هي ولائد عقله و روحه، بل إن حبّ الانسان لعقيدته اكثر من حبّه

______________________________

(1) ديوان أبي طالب:

ص 33- 35، تاريخ ابن عساكر: ج 1 ص 269- 272، الروض الآنف: ج 1 ص 120.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:519

لأولاده الجسمانيّين، و لهذا فهو يدافع عن عقائده حتى الموت، و يغضي- في سبيل الدفاع عن حوزة العقيدة و الحفاظ عليها- عن كل شي ء، بينما هو غير مستعدّ لأن يضحي بنفسه في سبيل الحفاظ على اولاده.

(1) إنّ حب المرء للمال و المنصب حبّ محدود، فهو ينساق مع هذا الحبّ ما دام لم يهدّد حياته خطر الموت الحقيقي، و لكنّه مستعد لأن يمضي- في سبيل الدفاع عن حياض العقيدة- الى حدّ الموت، و يؤثر الموت الشريف في سبيل العقيدة على الحياة، و يرى الحياة الحقيقية و الواقعية في وجود الرجال المجاهدين، و هو يردد:

«إنما الحياة عقيدة و جهاد» «1».

و لنلق نظرة فاحصة على حياة بطل حديثنا (و نعني به المدافع الوحيد عن الاسلام و حامي الرسول الاوحد في بدايات عهد الرسالة) فما ذا كان دافعه الى هذا الأمر، و ما الذي كان يحركه في هذا السبيل؟ و أي شي ء كان وراء مضيه في هذا الطريق الى حافة العدم، و الغض عن النفس و النفيس، و المقام، و القبيلة و غير ذلك و التضحية بكل ذلك في سبيل «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

إن من المتيقّن أن دافعه الى ذلك لم يكن المحرك الماديّ، و بالتالي لم يقصد من وراء الدفاع عن ابن اخيه، و حمايته، و الحدب عليه، كسب أمر مادي كتحصيل مال و ثروة، لأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن له يومئذ مال، و لا ثروه.

(2) و كما أن مقصود «أبي طالب» لم يكن أيضا تحصيل مقام، و أحراز مكانه اجتماعية لأنه

كان يملك في ذلك المجتمع أعلى المناصب و اهمها، فقد كانت له رئاسة «مكة» و البطحاء، بل هو فقد منصبه و شخصيته الممتازة و مكانته المنقولة بسبب دفاعه عن «محمّد»، و عدم الاستجابة لقومه في تسليمه إليهم، و التخلي عنه لأن دفاعه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد استوجب سخط زعماء عليه، و استياءهم من موقفه، و خروجهم عن طاعته، و دفعهم الى التمادي

______________________________

(1) المراد من العقيدة المقدسة هو بطبيعة الحال ما تذوب «الأنا» فيها في التوحيد و الايمان باللّه اذ هنا يصدق قوله:

قف عند رأيك و اجتهدإنّ الحياة عقيدة و جهاد

سيد المرسلين ،ج 1،ص:520

في معاداة «بني هاشم» و «أبي طالب» و الثورة عليهم!!

(1)

تصوّر باطل [عن مشاعر أبي طالب تجاه النبي ص]

ربما يتصور بعض ضعفاء البصيرة أن علة حدب «أبي طالب» على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التضحية في سبيله بالنفس و النفيس كانت هي: علاقة القربى، و وشيجة الرحم، أو بتعبير آخر: إن التعصب القبلىّ، و العصبية القومية هو الذي دفع بأبي طالب إلى ان يعرّض نفسه لكل ذلك المكروه في سبيل ابن اخيه.

و لكنّ هذا ليس سوى مجرّد تصور باطل لا غير، و يتضح بطلانه بدراسة مختصرة لأنه لا تستطيع أية وشيجة قربى على أن تدفع أحدا إلى أن يضحي بنفسه في أحد أقربائه الى هذه الدرجة من التضحية و المفاداة، بحيث يقي مثلا ابن أخيه عليه، و يكون مستعدا لأن يتقطّع ولده بالسيوف إربا إربا دون ابن أخيه.

إن العصبيات القبائلية و العائلية و ان كانت تدفع بالانسان حتى الى حافة الموت، و لكن لا معنى لان تختص، هذه الحماية الناشئة عن العصبية العائلية و القبلية الشديدة بفرد واحد، و شخص خاص معيّن من

أفراد العائلة و القبيلة، في حين نجد «أبا طالب» قد قام بكل هذه التضحية في سبيل شخص واحد، و فرد معين (أي النبيّ)، و لا يفعل مثل هذه في سبيل غيره من أبناء «عبد المطلب» و «هاشم» و أحفادهما و من ينتمي إليهم بوشيجة القربى و رابطة الرحم.

(2)

الدافع الحقيقيّ لأبي طالب

و على هذا الأساس فانّ المحرّك و الدافع الحقيقيّ لأبي طالب لم يكن أمرا ماديا و لا الجاه و المنصب، أو التعصب القومي، و العائلي، بل كان أمرا معنويا و أن ضغوطا العدوّ و قوّته كانت تدفعه إلى الاستعداد للقيام بأي نوع من أنواع التضحية و ذلك الأمر المعنويّ هو اعتقاده الراسخ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعتبر «محمّدا» مظهرا كاملا للفضيلة و الانسانية، و يعتبر دينه أفضل برنامج

سيد المرسلين ،ج 1،ص:521

للسعادة، و حيث أنه كان يحبّ الحقيقة، و يعشق الكمال و الحقّ، لذلك كان من الطبيعيّ أن يدافع عن الحق و الحقيقة، و ينصرهما بكل وجوده، و بكل قواه.

(1) و هذا المعنى هو المستفاد من قصائد «أبي طالب» و أشعاره، فهو يصرح بأن «محمّدا» رسول كموسى و عيسى إذ يقول:

ليعلم خيار النّاس أنّ محمّدانبيّا كموسى و المسيح بن مريم

أتانا بهدي مثل ما أتيا به فكلّ بأمر اللّه يهدي و يعصم «1» و يقول في قصيدة اخرى:

أ لم تعلموا أنّا وجدنا محمّدانبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب «2» هذا و تعتبر ابياته التي سبق أن أشرنا إليها و المئات من أمثالها مما جاء ذكره في ديوان أبي طالب، و في ثنايا التاريخ و التفسير و الحديث شواهد حيّة و قوية على أن محرك «أبي طالب» الواقعي و دافعه الحقيقي إلى الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله كان هو اعتقاده الخالص، و اسلامه الواقعي و لم يكن له أي دافع آخر سوى الايمان و العقيدة.

و نحن هنا نكشف النقاب عن بعض مواقفه في الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حمايته بعد اضطلاعه بعب ء الرسالة، و نترك لك أيها القاري بأن تدقّق في مثل هذه المواقف الفدائية ثم تقضي بنفسك: هل تنبع مثل هذه التضحية، و مثل هذا التفاني، و الفداء إلّا من الايمان و الاعتقاد؟؟

(2)

لمحات من تضحيات أبي طالب

اجتمع أسياد قريش و اشرافها في بيت أبي طالب و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حاضر، و تبودلت بين الجانبين أحاديث حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 7 ص 37، الحجّة: ص 56- 57، مستدرك الحاكم: ج 2 ص 623 و 624.

(2) مجمع البيان: ج 7 ص 36، و قد نقل ابن هشام في السيرة النبوية: ج 1 ص 352 و 353 خمسة عشر بيتا من هذه القصيدة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:522

و دينه و ما خلق من مشكلات في مكة، و حاول القرشيون اثناء النبيّ عن دعوته و عمله و لكن دون جدوى فلما يئسوا من الحصول على النتيجة التي كانوا يريدونها نهضوا من مكانهم ليتركوا بيت «أبي طالب»، قال «عاقبة ابن أبي معيط» غاضبا مهددا: لا نعود إليه أبدا، و ما خير من أن نغتال محمّدا!!

(1) فغضب «أبو طالب» من هذه الكلمة، و لكنه ما ذا عساه أن يفعل فهم ضيوفه، و في بيته.

و اتفق أن خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من البيت في ذلك اليوم و لم يعد، و جاء «أبو طالب» و عمومته الى منزله فلم يجدوه، فجمع فتيانا من بني هاشم

و بني المطلب، ثم قال- و هو يظن ان قريشا كادت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله-: ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني إذا دخلت المسجد، فلينظر كل فتى منكم، فليجلس الى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية- يعنى أبا جهل- فانه لم يغب عن شر ان كان محمّد قد قتل، فقال الفتيان: نفعل فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال فقال: يا زيد أحسست ابن أخي؟ قال: نعم كنت معه آنفا.

فقال أبو طالب: لا ادخل بيتي أبدا حتى أراه.

(2) فخرج زيد سريعا حتى اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو في بيت عند الصفا و معه أصحابه يتحدثون فاخبره الخبر، فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي طالب فقال: يا ابن أخي: اين كنت؟ أ كنت في خير؟ قال: نعم، قال:

ادخل بيتك، فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلما اصبح أبو طالب غدى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاخذ بيده فوقف على اندية قريش و معه الفتيان الهاشميون و المطلبيون فقال: يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به؟

قالوا: لا، فاخبرهم الخبر، و قال للفتيان اكشفوا عما في ايديكم، فكشفوا، فاذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة. فقال: و اللّه لو قتلتموه ما بقيت منكم أحدا حتى نتفانى نحن و انتم، فانكسر القوم و كان اشدّهم انكسارا أبو جهل «1»

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 168، الطرائف: ص 85.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:523

(1) لو لاحظت أيها القارئ الكريم هذه الصفحات و غيرها من تاريخ «أبي طالب»، و درست حياته لرأيت كيف ان «أبا طالب» ظلّ طوال اثنين و أربعين

سنة بأيامها و لياليها يحدب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يدافع عنه، و يحاميه، و بخاصة في السنوات العشر الاخيرة من حياته التي صادفت بعثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دعوته، فقد أظهر من الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الحرص على حياته، و حماية هدفه اكثر مما يتصور.

و لقد كان العامل الوحيد الذي دفعه الى مثل هذا الموقف الراسخ العظيم في هذا السبيل هو: عمق الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قوة الاعتقاد الخالص برسالته.

و لو أننا ضممنا إلى تضحياته الشخصية تضحيات ولده العزيز «عليّ» لأدركنا مغزى البيتين اللذين انشدهما «ابن ابي الحديد» المعتزلي الشافعي إذ قال:

و لو لا أبو طالب و ابنه لما مثل الدّين شخصا و قاما

فذاك بمكّة آوى و حامى و هذا بيثرب جسّ الحماما «1»

(2)

قضيّة ذات بواعث سياسيّة:

ليس من ريب في أنه لو ثبت عشر هذا القدر من الشواهد الدالّة على اسلام «أبي طالب» و إيمانه بالرسالة المحمّدية، لغيره ممّن هو بعيد عن قضايا السياسة، و خارج عن دائرة الحقد و البغض لا تفق الجميع سنة و شيعة على إسلامه و إيمانه، و لكن كيف ذهب فريق الى تكفير «أبي طالب» مع كلّ هذه الشواهد القويّة القاطعة على إيمانه؟ حتى أنّ فريقا من الكتاب ذهب إلى ان بعض الآيات المشعرة بالعذاب نزلت في شأنه.

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة: ج 14 ص 84 يقول ابن أبي الحديد: صنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتابا في اسلام أبي طالب، و بعثه إليّ، و سألني ان اكتب عليه بخطي نظما او نثرا اشهد فيه بصحة ذلك، و بوثاقة الأدلة عليه (إلى ان قال)

فكتب على ظاهر المجلد هذه الابيات.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:524

(1) بينما توقّف في هذا الأمر، و ذهب أفراد معدودون من علماء السنة الى الحكم باسلامه و ايمانه، و منهم «زيني دحلان» مفتي مكة المتوفّى سنة 1304 من الهجرة.

و لكن الانصاف هو ان يقال: أن الهدف من طرح هذه المسألة و التوقف في ايمان «أبي طالب» أو تكفيره لم يكن إلّا الطعن في أبنائه، و بخاصة أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام.

و لقد جرّ بعض كتّاب السنّة- لتبرير تكفير أبي طالب- هذه المسألة الى غير ابي طالب و وسع دائرة التكفير هذه حتى شملت آباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيضا حيث ذهب إلى أن أبوي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ماتا كافرين أيضا.

و نحن لا يهمنا هنا أن نعلم بأنّ تكفير والدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مخالف لاجماع الامامية و الزيدية، و كذا جماعة من علماء السنة، و محقّقيهم، إنما الكلام هو حول من اتّهموا ببساطة متناهية حامي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الوحيد و المدافع عنه بلا منازع.

(2)

الأدلّة على إيمان أبي طالب
اشارة

إن التعرّف على عقيدة أحد، و معرفة نمط تفكيره، يمكن عن ثلاث طرق هي:

1- دراسة ما ترك من آثار علميّة و أدبية.

2- اسلوب عمله، و تصرفاته في المجتمع.

3- رأي أقربائه، و أصدقائه غير المغرضين فيه.

و نحن نستطيع أن نتعرّف على إيمان «أبي طالب» و عقيدته من خلال هذه الطرق.

فان أشعار «أبي طالب» تدل بجلاء لا لبس فيه على ايمانه و إخلاصه، و كذا تكون خدماته القيامة في السنوات العشر الاخيرة من عمره شاهدا قويا على إيمانه العميق.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:525

كما و أنّ رأي أقربائه المنصفين متفق على أنّ «أبا طالب» كان مسلما مؤمنا و

لم يقل أحد من أقربائه، في حقه بغير هذا أبدا.

و إليك إثبات هذا الموضوع عن هذه الطرق الثلاث على وجه التفصيل:

(1)

1- آثار أبي طالب العلميّة و الأدبية

نحن نختار هنا من بين قصائد «أبي طالب» المطوّلة، بعض الأبيات التي تثبت ايمانه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و اعتقاده بالاسلام، في غير ابهام.

1-

ليعلم خيار النّاس أنّ محمّدانبيّ كموسى و المسيح بن مريم

أتانا بهدي مثل ما أتيا به فكلّ بأمر اللّه يهدي و يعصم «1» 2-

تمنيتمو أن تقتلوه و إنّماأمانيّكم هذي كأحلام نائم

نبيّ أتاه الوحي من عند ربّه و من قال لا يقرع بها سنّ نادم «2» 3-

أ لم تعلموا أنّا وجدنا محمّدارسولا كموسى خطّ في أوّل الكتب

و أنّ عليه في العباد محبةو لا حيف في من خصّه اللّه بالحبّ «3» 4-

و اللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتّى اوسّد في التّراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضةو ابشر بذاك و قرّ منك عيونا

و دعوتني و علمت أنّك ناصح و لقد دعوت و كنت ثمّ أمينا

و لقد علمت بأن دين محمّدمن خير أديان البرّية بنا «4» 5-

أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب على نبيّ كموسى أو كذي النون «5» 6-

لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب لدينا و لا يعني بقول الأباطل

فايّده ربّ العباد بنصره و اظهر دينا حقّه غير باطل «6»

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 7 ص 37، الحجة: ص 57، مستدرك الحاكم: ج 2 ص 623.

(2) ديوان أبي طالب: ص 32، السيرة النبوية: ج 1 ص 353.

(3) ديوان أبي طالب: ص 32، السيرة النبوية: ج 1 ص 353.

(4) تاريخ ابن كثير: ج 3 ص 42.

(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 74، ديوان أبي طالب: ص 173.

(6) السيرة النبوية: ج 1 ص 272- 280.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:526

إن كلّ واحدة

من هذه المقطوعات الشعريّة التي تشكل قسما صغيرا من قصائد مفصّلة لأبي طالب، تشهد بايمانه بدين ابن اخيه «محمّد» صلّى اللّه عليه و آله.

(1) و خلاصة القول: أنّ بيتا واحدا من هذه الأبيات كاف في اثبات ايمان صاحبها و قائلها، و لو أنّ أحدا قالها و هو خارج عن فلك الصراعات السياسية، و بعيد عن دوائر التعصبات و الأغراض لحكم الجميع- بالاتفاق- باسلام قائلها و ايمانه الخالص العميق.

و لكن لما كان «أبو طالب» هو قائلها، و كانت الأجهزة الدعائية في الحكومات الاموية و العباسيّة تعمل بكلّ جهدها ضدّ آل «أبي طالب» من هنا أبى فريق من الناس أن يثبتوا مثل هذه الفضيلة الكبرى لأبي طالب عليه السلام.

هذا من جانب.

و من جانب آخر فانّ أبا طالب والد «علي» الذي كانت سلطات الخلفاء تعمل ضدّه على الدوام، و تستغل كل الوسائل للحط من شأنه، كان إسلام أبيه و إيمانه بالرسالة المحمدية يعدّ فضيلة بارزة من فضائله عليه السلام في حين أن كفر آباء الخلفاء و شركهم يعدّ مثلبة توجب الحط من شأنهم، و قيمتهم.

و على كل حال قام جماعة بتكفير أبي طالب رغم كلّ هذه الأشعار و الأقوال، و المواقف الصادقة، بل لم يكتفوا بذلك، فادعوا نزول آيات من القرآن تدل على كفره، و شركه!!!

(2)

الطريق الثاني لا ثبات إيمان أبي طالب

إنّ الطريق الثاني للبرهنة و التدليل على إيمان «أبي طالب» هو مواقفه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كيفية دفاعه و ذبه عنه و حمايته له، و حدبه عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما قام به من خدمات جليلة في هذا الطريق.

ان كل واحدة من هذه الخدمات تستطيع بمفردها ان تكون المرآة الصادقة

سيد المرسلين ،ج 1،ص:527

التي

تعكس فكر «أبي طالب» و عقيدته و ما كان يحمله بين جوانحه من إيمان بالرسالة و الرسول، و اخلاص للّه تعالى.

لقد كان «أبو طالب» هو ذلكم الشخصية التي لم يرض لنفسه بان ينكسر قلب ابن أخيه لتركه في مكة، و اصطحبه معه الى الشام في الرحلة التجارية التي سبق ذكرها، رغم الموانع الكثيرة، و فقدان الوسائل اللازمة، و رغم ما ترتب على اصطحابه معه من متاعب.

(1) إن ايمانه بابن أخيه كان عميقا إلى درجة أنه أخذه الى المصلّى و استسقى به، مقسما به على اللّه تعالى أن يكشف العذاب عن قومه، و يرسل رحمته عليهم، فيستجيب اللّه دعاءه، و ينزل عليهم غيثا وافرا ممرعا، بقيت قصته في ذاكرة التاريخ.

إنه ذلك الرجل الذي لم يفتأ عن الحفاظ على حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لحظة واحدة، فهو الذي تحمل في سبيله ثلاثة أعوام عجاف من الحصار الاقتصادي و الاجتماعي الصعب، مؤثرا العيش في الشعب و في شغاف الجبال و الوديان القاحلة على زعامة قريش، و رئاسة مكة الى ان أعيته تلك المحن و المتاعب ففقد بذلك صحته، و انحرف بذلك مزاجه، و توفّي متأثرا بتلك المتاعب و المصاعب، و المشاق و المحن بعد نقض الصحيفة، و انتهاء الحصار، و العودة إلى المنازل بأيام معدودة!!

لقد كان إيمان «أبي طالب» برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قويا و راسخا الى درجة أنه رضى بأن يتعرّض كل ابنائه لخطر القتل و الاغتيال ليبقى «محمّد» و لا يمسّه من أعدائه أيّ سوء، فكان يضجع ولده عليا في موضعه، حتى إذا أرادوا اغتياله لا يصيبه شي ء و هذا يعني أنه كان يقيه بنفسه و بأولاده.

و فوق هذا كلّه

استعدّ في يوم من الأيام لأن يقتل كل زعماء قريش و أسيادها انتقاما لمحمّد، و كان من الطبيعي أن يقتل في هذه العملية بنو هاشم كلّهم أيضا «1».

______________________________

(1) راجع الصفحة 522 من هذا الكتاب.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:528

(1)

وصية أبي طالب عند وفاته

و عند وفاته قال لأولاده:

«اوصيكم بمحمّد خيرا فانّه الأمين في قريش و هو الجامع لكلّ ما اوصيكم به، و قد جاء بأمر قبله الجنان، و انكره اللسان مخافة الشنئان، و أيم اللّه لكأنّي انظر الى صعاليك العرب، و أهل البرّ في الاطراف، و المستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، و صدّقوا كلمته، و عظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش و صناديدها أذنابا، و دورها خرابا، و ضعفاؤها أربابا، و اذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، و أبعدهم منه أحظاهم عنده ..».

(2) ثم ختم وصيته هذه بقوله:

يا معشر قريش كونوا له ولاة، و لحزبه حماة، و اللّه لا يسلك أحد منكم سبيله الارشد، و لا يأخذ أحد بهديه الّا سعد «1».

نحن لا نشك في أن «أبا طالب» كان صادقا في امنيّته هذه لأن خدماته الكبرى و تضحياته المتواصلة خلال عشر سنوات من بداية عهد الرسالة شاهدة على صدق مقاله، كما كان صادقا في الوعد الذي قطعه على نفسه لابن أخيه (محمّد) في مبدأ البعثة عند ما جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعمامه و عشيرته الأقربين و دعاهم الى الاسلام فقال له أبو طالب:

«اخرج يا ابن أخي فانّك الرفيع كعبا، و المنيع حزبا، و الأعلى أبا.

و اللّه لا يسلقك لسان الا سلقته ألسن حداد، و اجتذبته سيوف حداد.

و اللّه لتذلنّ لك العرب ذلّ البهم لحاضنها» «2».

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 351 و 352.

(2) الطرائف تأليف

السيد ابن طاوس: ص 85 نقلا عن كتاب غاية السئول في مناقب آل الرسول تأليف ابراهيم بن علي الدينوري.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:529

[3- شهادات أقرباء أبي طالب من أهل البيت]

(1) آخر الطرق لاثبات ايمان أبي طالب و يحسن بنا أخيرا ان نسأل عن أبي طالب و عن ايمانه و اخلاصه، اقاربه غير المغرضين لأن «أهل البيت ادرى بما في البيت».

(2) 1- لما مات أبو طالب جاء عليّ عليه السلام الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاذنه بموته، فتوجع توجعا عظيما، و حزن حزنا شديدا، ثم قال له امض فتولّ غسله فاذا رفعته على سريره فاعلمني، ففعل فاعترضه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو محمول على رءوس الرجال: قال: «وصلتك رحم يا عم، و جزيت خيرا فلقد ربّيت و كفلت صغيرا، و نصرت و آزرت كبيرا».

ثم تبعه الى حضرته، فوقف عليه فقال:

«أما و اللّه لاستغفرنّ لك، و لأشفعنّ فيك شفاعة يعجب لها الثقلان» «1».

(3) 2- روي ان علي بن الحسين عليهما السلام سئل عن ايمان أبي طالب. فقال:

«وا عجبا! ان اللّه تعالى نهى رسوله ان يقرّ مسلمة على نكاح كافر، و قد كانت فاطمة بنت اسد من السابقات إلى الاسلام، و لم تزل تحت أبي طالب حتّى مات» «2».

(4) 3- روي عن علي بن محمّد الباقر عليهما السلام أنه قال:

«لو وضع إيمان أبي طالب في كفّة ميزان، و إيمان هذا الخلق في الكفّة الاخرى لرجح إيمانه».

ثم قال:

«أ لم تعلموا أنّ أمير المؤمنين عليّا عليه السلام كان يأمر أن يحجّ عن عبد اللّه و أبيه» «3».

(5) 4- قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام:

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 76.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي

الحديد: ج 14 ص 69.

(3) المصدر السابق: ص 68.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:530

«إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان، و أظهروا الشرك فاتاهم اللّه اجرهم مرّتين، و أن أبا طالب أسرّ الإيمان، و أظهر الشرك، فاتاه اللّه أجره مرّتين» «1».

(1)

رأي علماء الشيعة في أبي طالب

و لقد اتفق علماء الاماميّة و الزيديّة تبعا لأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على: أن «أبا طالب» كان من أبرز المؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يخرج من الدنيا إلّا بقلب يفيض إيمانا بالاسلام، و إخلاصا للّه تعالى، و حبّا للمسلمين، و قد الّفت في هذا المجال كتب و رسائل، و دراسات عديدة، يمكن الوقوف عليها لمن اراد و لمزيد التوسع في هذا المجال يراجع المجلد 7 ص 402- 404 من موسوعة الغدير للعلامة الأميني طبعة النجف، أو ج 7 ص 330- 409 طبعة لبنان.

نظرة إلى حديث «الضحضاح»
اشارة

و استكمالا لهذا الحديث ينبغي أن نلقي نظرة إلى رواية تشكك في ايمان أبي طالب فقد روى بعض الكتّاب مثل البخاري «2»، و مسلم عن رواة نظير سفيان بن سعيد الثوري، عبد الملك بن عمير، عبد العزيز بن محمّد الدراوردي حديثا نسبوه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه قال عن أبي طالب رحمه اللّه:

«وجدته في غمرات من النّار فأخرجته إلى ضحضاح».

«لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النّار يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه» «3».

إنّ هذه الرواية و ان كانت تكذبها عشرات الأحاديث و الروايات الاسلامية،

______________________________

(1) اصول الكافي: ج 1 ص 448.

(2) صحيح البخاري: ج 1 ص 33 و 34 من ابواب المناقب.

(3) صحيح المسلم: كتاب الايمان.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:531

و الدلائل القاطعة الساطعة، و تثبت بطلانها و تفاهتها، و لكننا بهدف الوصول إلى مزيد من التوضيح نعمد إلى دراسة أمرين مرتبطين بهذا الحديث.

1- ضعف أسناد هذه الرواية
اشارة

إنّ رواة هذه الرواية- كما اسلفنا- هم عبارة عن سفيان بن سعيد الثوري و عبد الملك بن عمير و عبد العزيز بن محمّد الدراوردي الذين سندرس أحوالهم واحدا واحدا- في ضوء أقوال علماء الرجال المعترف بهم عند اهل السنة- عنهم:

الف: سفيان بن سعيد الثوري

قال أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي- و هو من علماء الرجال عند اهل السنة- في سفيان الثوري: كان يدلّس عن الضعفاء «1».

إن هذا الكلام شاهد قوي على وجود التدليس عند الثوري، و على روايته عن الضعفاء أو المجهولين، و هو وصف يسقطه عن درجة الاعتبار.

باء: عبد الملك بن عمير

قال عنه الذهبيّ المذكور: طال عمره و ساء حفظه قال أبو حاتم: ليس بحافظ، تغيّر حفظه، و قال أحمد: ضعيف يغلط، و قال ابن معين: مخلط و قال ابن خراش:

كان شعبة لا يرضاه، و ذكر الكوسج عن احمد بن حنبل: انه ضعيف جدا «2»

فمن مجموع هذه العبارات نعرف ان عبد الملك كان يتصف بصفات عديدة هي أنه:

1- سيئ الحفظ.

2- ضعيف.

3- كثير الغلط.

______________________________

(1) ميزان الاعتدال: ج 2 ص 169.

(2) المصدر السابق ج 2 ص 660.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:532

4- مخلط.

و من الواضح ان كل واحدة من الصفات و الحالات المذكورة كافية لأن تبطل الأحاديث التي يرويها عبد الملك بن عمير، و الحال انه قد اجتمعت جميع نقاط الضعف هذه في هذا الرجل.

جيم: عبد العزيز بن محمد الدراوردي

و لقد وصفه علماء الرجال عند اهل السنة بالنسيان، و قلة الحفظ فلا يمكن الاستناد إلى مروياته.

فقد قال أحمد بن حنبل عنه: إذا حدّث من حفظه جاء بأباطيل «1».

و قال أبو حاتم عنه: لا يحتجّ به «2».

و قال أبو زرعة أيضا: سيئ الحفظ «3». و من مجموعة هذه العبارات يتضح بجلاء ان الرواة الاصليين لحديث الضحضاح ضعفاء في غاية الضعف، الى درجة لا يمكن الاعتماد على مروياتهم.

2- نص حديث الضحضاح يخالف الكتاب و السنة
اشارة

لقد نسب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في هذه الرواية أنه أخرج أبا طالب من نار جهنم إلى ضحضاح و بهذا خفّف عنه العذاب، أو أنه صلّى اللّه عليه و آله تمنى أن يشفع له، فيخفّف اللّه عنه العذاب، على حين نفى القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة تخفيف العذاب عن الكفار كما و نفيا شفاعة احد في حقهم.

و على هذا الاساس فلو كان ابو طالب كافرا، لم يجز للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يخفف عنه العذاب او يتمنى له الشفاعة في يوم الجزاء.

و بهذا يظهر بطلان محتوى حديث الضحضاح.

و إليك فيما يأتي ادلة ما قلناه من الكتاب و السنة:

______________________________

(1) المصدر السابق ص 634.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:533

الف: القرآن الكريم

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد:

«وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» «1».

ب: السنة النبوية

ان السنة النبوية الطاهرة تنفي أيضا الشفاعة للكفار، و نذكر من باب النموذج بعض تلك الأحاديث:

1- روى أبو ذر الغفاري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

«اعطيت الشفاعة و هي نائلة من امتي من لا يشرك باللّه شيئا» «2».

2- روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

«و شفاعتي لمن شهد أن لا إله الا اللّه مخلصا، و أنّ محمّدا رسول اللّه يصدّق لسانه قلبه، و قلبه لسانه» «3».

إن الآيات و الروايات المذكورة تثبت بوضوح بطلان نص حديث الضحضاح عند من يقول بأن أبا طالب مات كافرا.

و نتيجة البحث أنه تبين مما ذكر ان حديث الضحضاح لا أساس له من الصحة لا من جهة السند و الطريق، و لا من جهة المتن و النص، و لا يمكن الاستدلال به.

و بهذا ينهار أقوى حصن يتمسك به البعض للخدشة في ايمان أبي طالب الثابت المسلّم.

______________________________

(1) فاطر: 36.

(2) الترغيب و الترهيب: ج 4 ص 433.

(3) المصدر السابق: ص 437.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:535

(1) (2)

22- المعراج في نظر القرآن و السنة و التاريخ

اشارة

كان الليل يخيم على الافق، و يسود الظلام على كان مكان.

فقد حان الأوان لان ترقد جميع الاحياء في مساكنها، و تستريح في جحورها و أعشاشها، و تغمض الأجفان لبعض الساعات عن مظاهر الطبيعة، لتستعيد نشاطها من أجل العمل في يوم جديد حافل بالنشاط و الحركة و السعي.

فذلك قانون الطبيعة في كلّ ليل و نهار.

و لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمستثنى عن هذا الناموس الطبيعي.

فهو صلّى اللّه عليه و آله مضى ليستريح بعد أن صلّى صلاة العتمة أيضا.

و لكنه فجأة سمع صوتا مألوفا مأنوسا له، و كان ذلك هو صوت أمين الوحي «جبرئيل» و هو يخبره

بأن أمامه الليلة سفرا بعيدا و رحلة طويلة، و انه سيرافقه في هذه الرحلة الى مختلف نقاط الكون، و سيسافر على متن دابة فضائية تدعى «البراق».

(3) لقد بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رحلته الفضائية العظيمة من بيت اخت علي بن أبي طالب «1» «أم هاني»، و توجه على متن تلك الدابة إلى «بيت

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 395 و 396، السيرة النبويّة: ج 1 ص 396- 402.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:536

المقدس» في الأردن و فلسطين و الذي يسمى «المسجد الأقصى» أيضا، و هبط في تلك النقطة بعد مدة قصيرة جدا، و زار مواضع عديدة من ذلك المسجد، و تفقّد «بيت لحم» مسقط رأس «السيد المسيح» و منازل الأنبياء و آثارهم و محاريبهم، و صلّى عند كل محراب من بعض تلك المحاريب ركعتين.

(1) ثم بدأ بعد ذلك القسم الثاني من رحلته، حيث عرج من ذلك إلى السماوات العلى، و شاهد النجوم و الكواكب، و اطّلع على نظام العالم العلوي، و تحدث مع ارواح الأنبياء، و الملائكة السماويين، و اطّلع على مراكز الرحمة و العذاب (الجنة و النار) «1» و رأى درجات أهل الجنة، و أشباح أهل النار عن كثب، و بالتالي تعرف على أسرار الوجود، و رموز الطبيعة، و وقف على سعة الكون، و آثار القدرة الالهيّة المطلقة، ثم واصل رحلته حتى بلغ إلى سدرة المنتهى «2»، فوجدها مسربلة بالعظمة المتناهية و الجلال العظيم و عندها انتهى برنامج رحلته صلّى اللّه عليه و آله، فامر بأن يعود من حيث أتى، فعاد صلّى اللّه عليه و آله و مرّ في عودته على بيت المقدس ثانية، ثم توجّه منه الى «مكة»، و مرّ خلال الطريق على

قافلة تجارية لقريش و قد ضلّ بعير لهم في البيداء و كانوا يبحثون عنه، ثم وجد في رحلهم قعبا مملوء من الماء فشرب منه و صبّ بقيته على الأرض أو غطاه كما كان بناء على رواية. و ترجّل عن مركبته الفضائية العجيبة في بيت «أم هاني» قبيل طلوع الفجر، و أخبرها بالخبر قبل أي أحد، ثم كشف عن هذا الحادث في أندية قريش صباح نفس تلك الليلة.

(2) فاستبعد السامعون قصة المعراج و الحركة السريعة هذه، و اعتبروه أمرا محالا و انكرته، و فشا هذا الخبر في جميع الأوساط و غضب بسببه أشراف قريش و ساداتهم اكثر من غيرهم.

و كعادتها بادرت قريش إلى تكذيب هذه القصّة و قالوا: هذا و اللّه الأمر البيّن

______________________________

(1) مجمع البيان: سورة الاسراء ج 6 ص 395.

(2) لتوضيح معنى سدرة المنتهى راجع كتب التفسير.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:537

(العجيب المنكر) و اللّه إن العير لتطّرد شهرا من مكة الى الشام مدبرة، و شهرا مقبلة، أ فيذهب ذلك «محمّد» في ليلة واحدة؟

(1) و قالوا: إن صدقت فصف لنا بيت المقدس، فإن فينا من شاهده.

فلم يصف لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيت المقدس فحسب بل اخبرهم بكل ما مرّ به و فعله و رآه في طريق عودته من بيت المقدس إلى «مكّة» و قال: و آية ذلك أنّي مررت على بعير بني فلان بوادي كذا و كذا، و قد ضلّ لهم بعير و قد همّوا في طلبه، و شربت من ماء في آنية لهم مغطاة بغطاء و ثم غطّيت عليها كما كان، ثم مررت على بعير فلان و قد نفّرت لهم ناقة و انكسرت يدها.

فقالت قريش: أخبرنا عن عير قريش.

فقال صلّى اللّه عليه و

آله: إنّها الآن في التنعيم (و هو مبدأ الحرم) يتقدمها جمل أورق (أبيض مائل الى السواد) عليه غرارتان و ستدخل الآن مكة.

فغضبت قريش من هذه الأخبار القاطعة و قالت: سنعلمنّ الآن صدقه أو كذبه.

ثم لم تمض لحظات إلّا و طلعت العير عليهم، و حدّثهم أبو سفيان بكل ما أخبرهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ضياع بعير لهم في الطريق و همّهم في طلبه، و أنهم وضعوا ماء مملوء فغطوه و لما رجعوا وجدوه مغطى كما غطوه و لكن لم يجدوا فيه ماء.

هذه هي خلاصة ما جاء في كتب التفسير، و التاريخ، و الحديث حول المعراج.

و إذا أراد القارئ الكريم أن يقف على تفاصيل أكثر في هذا المجال فما عليه إلّا أن يراجع بحار الأنوار باب «المعراج» «1».

(2)

هل للمعراج جذور قرآنية؟

لقد جاء ذكر «المعراج» النبوي و سيرة العجيب صلّى اللّه عليه و آله في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 283- 410.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:538

العالم العلوي، و الفضاء غير المتناهي في سورتين من القرآن الكريم بشكل واضح و صريح كما و اشير إليها في سور اخرى أيضا.

و نحن نكتفي هنا باستعراض الآيات التي ذكرت هذه القضيّة بصورة واضحة، و نقف عند بعض النقاط الجديدة بالدراسة فيها:

يقول اللّه تعالى في سورة الأسراء:

«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» «1».

(1) و يستفاد من ظاهر هذه الآية امور:

(2) 1- لكي نعلم بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يطو تلك المسافات، و لم يقم برحلته إلى تلك العوالم بقوّة بشرية، بل تسنى له كل ذلك بقوة غيبيّة، فبها استطاع أن يطوي تلك المسافات البعيدة

في زمن قصير جدا بدأ اللّه تعالى حديثه عن الاسراء بقوله: «سبحان الّذي» و هو اشارة الى تنزيه اللّه عن كلّ نقص و عيب.

و لم يكتف بذلك بل وصف نفسه بوضوح بأنه هو تعالى سبب هذه الرحلة و المسيّر فيها اذ قال: «أسرى» أي إنّ اللّه تعالى هو الذي سرى برسوله صلّى اللّه عليه و آله، و أخذه إلى تلك الرحلة.

و هذه العناية لأجل أن لا يتصور الناس بأنّ هذه الرحلة تحققت بالوسائل العادية، و حسب القوانين الطبيعية ليتسنّى لهم إنكارها، إنما تحققت بقدرة اللّه و عنايته الربوبية الخاصة.

(3) 2- إن هذه الرحلة تحققت برمّتها خلال الليل، و يستفاد هذا المطلب- علاوة على كلمة ليلا- من كلمة «أسرى» أيضا لأنّ العرب كانت تستعمل اللفظة المذكورة في السير ليلا.

(4) 3- مع أنّ هذه الرحلة بدأت من بيت «أمّ هاني» ابنة أبي طالب، فإن الآية صرّحت بأنها تمّت من المسجد الحرام، و لعل هذا لأنّ العرب كانت تعتبر

______________________________

(1) الاسراء: 1.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:539

كل مكة حرما إلهيا، و من هنا كان كل مكان من مكة يتمتع عندهم بحكم الحرم و المسجد الحرام، فيكون المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة، و مكّة و الحرم كلها مسجد، فصحّ أن يقول: «من المسجد الحرام».

و تذهب بعض الروايات إلى أنّ المعراج كان من نفس المسجد الحرام.

ثم إنّ هذه الآية و ان كانت تصرّح بأنّ المعراج بدأ من «المسجد الحرام» و انتهى ب: «المسجد الأقصى» إلّا أن ذلك لا ينافي أن يكون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله رحلة اخرى إلى العالم العلوي لأنّ هذه الآية تبيّن فقط قسما من هذه الرحلة، و أما القسم الآخر من برنامج هذه الرحلة فتتعرض لذكره آيات في مطلع

سورة: «النجم».

(1) 4- إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عرج بجسمه و روحه معا، لا بالروح فقط.

و يدلّ على ذلك قوله تعالى «بعبده» الذي يستعمل في «الجسم و الروح معا» و لو كان المعراج بالروح فقط لزم أن يقول: «بروحه».

(2) 5- إنّ الغرض من هذا السير العظيم و هذه الرحلة العجيبة هو إيقاف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على مراتب الوجود، و اطلاعه على الكون العظيم، و هذا ما سنشرحه فيما بعد.

و أما السورة الاخرى التي تعرض لبيان حادثة المعراج بوضوح و صراحة هي سورة: «النجم».

و الآيات التي سندرجها هنا من هذه السورة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ما قال لقريش: «رأيت جبرئيل أوّل ما اوحي إليّ على صورته التي خلق عليها» جادلته قريش في ذلك، فنزلت الآيات التالية تجيب على اعتراضهم:

«أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» «1».

______________________________

(1) النجم: 12- 18.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:540

(1)

أحاديث المعراج:

روى المفسرون و المحدّثون أخبارا و روايات كثيرة حول معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ما شاهده في هذه الرحلة العظيمة، ليست برمتها صحيحة مسلّمة مقطوعا بها.

و لقد قسّم المفسر الشيعي الكبير المرحوم «العلامة الطبرسيّ» هذه الاخبار إلى أصناف أربعة اذ قال:

(2) و تنقسم جملتها إلى أربعة اوجه:

(3) أحدها: ما يقطع على صحته لتواتر الأخبار به، و احاطة العلم بصحته مثل أصل المعراج.

(4) و ثانيها: ما ورد في ذلك مما تجوّزه العقول و لا تأباه الأصول مثل طوافه في السماء و رؤيته أرواح الأنبياء و تحدّثه

معهم و رؤيته للجنة و النار، فنحن نجوّزه ثم نقطع على أن ذلك كان في يقظته، دون منامه.

(5) و ثالثها: ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول، إلّا أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول فالأولى أن نؤوّله على ما يطابق الحق و الدليل. مثل أنّه رأى أهل الجنة و أهل النار و تحدّث معهما الذي يجب أن يؤوّل فيحمل على انه: رأى أشباحهم و صورهم و صفاتهم.

(6) و رابعها: ما لا يصح ظاهره و لا يمكن تأويله، و هي ما الصق و الحق بهذه الحادثة من الأساطير و الخرافات، مثل ما روي من أنه صلّى اللّه عليه و آله كلّم اللّه سبحانه جهرة و رآه و قعد معه على سريره أو سمع صرير قلمه، و نحو ذلك ممّا ممّا يوجب ظاهره التشبيه و التجسيم و اللّه سبحانه يتقدّس عن ذلك كلّه، فالأولى أن لا نقبله «1».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 395.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:541

(1)

متى وقعت هذه الحادثة؟

مع ان أهميّة هذه الحادثة العجيبة كانت تستوجب أن تكون مضبوطة التفاصيل من جميع الجهات، إلّا أنها تعرضت للاختلاف- مع ذلك- من بعض الجهات و منها تحديد تاريخ وقوعها.

فقد ادّعى كاتبا السيرة المعروفان: «ابن اسحاق» و «ابن هشام» أنها وقعت في السنة العاشرة من البعثة الشريفة.

و ذهب المؤرخ الكبير «البيهقي» إلى أنها وقعت في السنة الثانية عشرة من البعثة.

و ذهب آخرون إلى أنها وقعت في أوائل البعثة، بينما قال فريق رابع: أنها وقعت في أواسطها.

و ربّما يقال في الجمع بين هذه الأقوال: أنه كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معارج متعددة.

و لكنّنا نعتقد أنّ المعراج الذي فرضت فيه الصلاة وقعت بعد وفاة أبي طالب عليه السلام في السنة العاشرة

قطعا.

لأنّ من مسلّمات الحديث و التاريخ أن اللّه تعالى أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في ليلة المعراج أن تصلّي أمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّ يوم و ليلة خمس صلوات.

(2) كما أنه يستفاد من ثنايا التاريخ أيضا أن الصلاة لم تفرض ما دام أبو طالب عليه السلام على قيد الحياة بل فرضت بعد وفاته، لأنّه حضر عنده- ساعة وفاته- سراة قريش و أسيادها، و طلبوا منه أن يبت لهم في أمر ابن أخيه «محمّد» و يمنعه من فعله، فيعطونه- في قبال ذلك- ما يريد فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك المجلس: نعم كلمة واحدة تعطونيها: «تقولون لا إله إلّا اللّه و تخلعون ما تعبدون من دونه» «1».

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 417.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:542

(1) لقد طلب منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا الأمر و لم يطلب منهم شيئا آخر كالصلاة و غيرها من الفروع أبدا، و هذا هو بنفسه يدلّ على أنه لم تجب الصلاة حتى ذلك اليوم، و إلّا كان الإيمان المجرّد عن العمل، و الصلاة مفروضة، لا فائدة فيه.

و أما أنه لم يذكر شيئا عن نبوّته و رسالته فلأنّ الاعتراف بوحدانية اللّه بأمره و طلبه صلّى اللّه عليه و آله اعتراف ضمنيّ برسالته و نبوّته، و في الحقيقة انّ التلفّظ بهذه العبارات بأمره يتضمّن شهادتين و اقرارين: الإقرار باللّه الواحد، و الإقرار بنبوّة رسول الاسلام.

(2) هذا مضافا إلى أن كتّاب السيرة ذكروا كيفية إسلام جماعة مثل «الطفيل بن عمرو الدوسي» الذي أسلم قبل الهجرة «1» بأعوام اكتفى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالشهادتين، و لم يجر اي حديث

عن الصلاة ابدا.

ان هذه الامثلة تكشف عن أن هذه الحادثة (المعراج) التي فرضت فيها الصلاة وقعت قبل الهجرة بسنوات.

و الذين تصوّروا أن المعراج وقع قبل السنة العاشرة مخطئون خطأ كبيرا لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان محصورا في شعب أبي طالب منذ السنة الثامنة و حتى السنة العاشرة، و لم يكن وضع المسلمين ليسمح بفرض تكليف زائد (مثل الصلاة) عليهم.

(3) و أما سنوات ما قبل الحصار فعلاوة على ضغوط قريش على المسلمين و التي كانت هي بنفسها مانعا من فرض الصلاة على المسلمين، كان المسلمون قلة معدودين، و لم يكن نور الايمان، و اصول الاسلام، قد ترسخت في قلوب ذلك العدد القليل بشكل قوي بعد، و لذلك يكون من المستبعد أن يكلفوا بأمر زائد مثل الصلاة في مثل ذلك الظرف.

و أمّا ما ورد في بعض الأخبار و الروايات من ان الإمام عليا عليه السلام

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 383.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:543

صلى مع رسول اللّه قبل البعثة بثلاث سنوات، و استمر على ذلك بعدها أيضا فليس المراد منها الصلوات المحدودة المؤقتة بوقت، المشروطة بشروط خاصة، بل كانت تلك الصلوات عبارة عن عبادة خاصة غير محدودة «1»، أو كان المراد منها الصلوات المندوبة و العبادات غير الواجبة.

(1)

هل كان المعراج جسمانيا؟

لقد وقع النقاش و الكلام في كيفية معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنه كان روحانيا أو جسمانيا و روحانيا معا، و قيل في ذلك كلام كثير.

و مع أن القرآن الكريم و الأحاديث تشهد بجلاء لا غموض فيه بأن معراجه صلّى اللّه عليه و آله كان جسمانيا «2»، فقد اوردت في المقام بعض الإشكالات و الاعتراضات التي منعت البعض عن قبول هذه الحقيقة، و بالتالي

دفعتهم الى ارتكاب التأويل، و الزعم بأن معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان روحانيا، أي بالروح لا بالجسم.

لقد قال هؤلاء: ان روح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هي التي طافت في تلك العوالم ثم عادت إلى جسد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مرة اخرى!!

و ذهب جماعة إلى أبعد من ذلك إذ ادّعوا بان جميع هذه المشاهدات و القضايا تمّت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عالم الرؤيا، فكل ما رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو فعله من الطواف و اللقاء و الصلاة كانت رؤيا و رؤيا الأنبياء صادقة!!

(2) على أن أقوال الفريق الأخير من البعد عن الواقع بحيث لا يمكن ذكره في عداد الأقوال و النظريات أبدا، لأنّ قريش بعد أن سمعت من رسول اللّه صلّى

______________________________

(1) للمزيد من التحقيق في تاريخ وجوب الوضوء و الصلاة و الاذان يراجع الكافي: ج 3 ص 482- 489.

(2) لقد نقل الفقيه الجليل العلامة الشيعىّ المرحوم الطبرسي في تفسير مجمع البيان إجماع علماء الشيعة على جسمانية المعراج فراجع: ج 6 ص 395.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:544

اللّه عليه و آله ادعاءه بانه سار كل تلك المسافة الطويلة البعيدة، و طاف على كل تلك الاماكن المتباعدة العديدة في ليلة واحدة انزعجت بشدة و هبّت لتكذيبه حقيقة، الى درجة أن خبر المعراج أصبح حديث الساعة في نوادي قريش و اوساطها آنذاك.

و لو كان كل ذلك تحقق للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في المنام و الرؤيا لما كان لتكذيب قريش و انزعاجها و استنكارها معنى، اذ لا موجب للنزاع لو كان صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّي فعلت تلك الامور، و رأيت كل تلك المشاهد في

الرؤيا و المنام، اذ هو على كل حال رؤيا، و كل شي ء- حتى الامور المحالة او المستبعدة جدا- ممكن في عالم الرؤيا.

و من هنا لا قيمة للقول الأخير أصلا فلا تستحق المتابعة أصلا.

و لكن مع الأسف استحسن بعض العلماء المصريين (مثل فريد وجدي) هذا الرأي و سعى في تقويته و تبريره، و نحن نحبذ ان نتركه، و ان لا نناقش فيه «1».

(1)

ما هو المراد من المعراج الروحاني؟
اشارة

لقد عمد فريق ممن عجز عن دفع و حلّ بعض الاعتراضات و الاشكالات الواردة على المعراج الجسماني، إلى تأويل الآيات و الأحاديث، و اعتبر المعراج النبوي معراجا روحانيا، لا غير.

و المقصود من المعراج الروحانيّ هو التدبّر في مخلوقات اللّه و مصنوعاته، و مشاهدة جلاله و جماله و الاستغراق في ذكر الحق، و التفكر فيه، و بالتالي التخلص من القيود و الاغلال المادية، و العلائق الدنيوية، و العبور من المراتب الامكانية في المراحل الباطنية و القلبية التي يحصل بعد طيّها نوع من القرب الخاص الذي لا يمكن وصفه.

(2) فاذا كان المراد من (المعراج الروحانيّ) هو التفكر في عظمة الحق وسعة

______________________________

(1) دائرة معارف القرن العشرين: ج 6 ص 329 مادة عرج.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:545

الخلق و .. و .. فلا شك أن هذا ليس من مختصات رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله بل كان أكثر الأنبياء، و كثير من الأولياء من ذوي البصائر القويّة الطاهرة يمتلكون هذه المرتبة، على حين أن القرآن الكريم يعتبر (المعراج) من خصائص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يذكره على انه نوع من الامتياز الخاص به صلّى اللّه عليه و آله.

هذا مضافا الى ان مثل هذه الحالة (اعني التفكر في عظمة الخالق و الاستغراق في التوجه الى الحق) كانت

تتكرر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كل ليلة «1»، و الحال ان (المعراج) الذي هو محط الكلام قد وقع في ليلة معيّنة.

(1) إن ما دفع بهذا الفريق إلى اتخاذ مثل هذا الموقف من (المعراج)، و آل بهم اختيار هذا الرأي هو فرضية الفلكي اليوناني المعروف «بطلميوس» التي كانت سائدة في الأوساط العلمية في الشرق و الغرب طيلة ألفي سنة بالكامل، و التي الّف حولها مئات الكتب، و كانت تعدّ حتى حين من المسلّمات في مجال العلوم الطبيعية و هي على نحو الاجمال كالتالي:

(2) إن الاجسام في هذا العالم على نوعين: أجسام عنصرية، و اجسام فلكية.

و الجسم العنصري هي العناصر الأربعة المعروفة: «الماء، و التراب، و الهواء، و النار».

و أوّل كرة تبدو لنا هي كرة التراب و هي مركز العالم، ثم تليها كرة الماء ثم كرة الهواء، و تأتي بعد كل هذه الثلاثة كرة النار، و كل من هذه الكرات محيطة بالاخرى، و هنا (اي و عند كرة النار) تنتهي الكرات، و تبدأ الاجسام الفلكية.

(3) و المقصود من الأجسام الفلكيّة هي الافلاك التسعة التي تقع الواحدة فوق الاخرى و تحيط الواحدة بالاخرى على هيئة قشور البصل، و هي متصلة بعضها ببعض من دون فاصلة بينها و هي غير قابلة للاختراق و الالتئام (اي الشق

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة: ج 7 كتاب صوم الوصال، ص 388 قال صلّى اللّه عليه و آله: «إني لست كأحدكم، أني اظل عند ربّي فيطعمني و يسقيني».

سيد المرسلين ،ج 1،ص:546

و الالتحام) و الفصل و الوصل و لا يستطيع أيّ شي ء من اختراقها و التحرك فيها بصورة مستقيمة لأن ذلك يستلزم انفصام اجزاء الفلك.

من هنا يكون المعراج الجسماني مستلزما لأن ينطلق النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله من مركز العالم و يصعد بصورة مستقيمة إلى الأعلى عابرا الكرات العنصرية الأربع، و مخترقا الأفلاك التسعة الواحد تلو الآخر، بينما يستحيل خرق هذه الأفلاك ثم التحامها حسب نظرية بطلميوس و فرضيّته الفلكية.

و على هذا لا مناص من أن نعتقد بأن المعراج النبويّ كان معراجا روحانيا، اي ان روحه صلّى اللّه عليه و آله هي التي عرجت حتى لا يمنع أيّ جسم من عبورها و سيرها و صعودها الى النقطة المطلوبة و الغاية المرسومة.

(1)

الجواب:

ان هذا الكلام كان مقبولا و ذا قيمة عند ما كانت هيئة بطلميوس و فرضيته الفلكية لم تكن بعد قد فقدت قيمتها في الاوساط العلمية و كان هناك من يعتقد بها من صميم فؤاده.

ففي مثل تلك البيئة كان من الممكن التلاعب بالحقائق القرآنية، و تأويل صريح القرآن و نصوص الروايات.

أما الآن فقد فقدت أمثال هذه الفرضيات قيمتها، و ظهر للجميع بطلانها، و لم يعد أحد يتحدث عنها، إلّا من باب ما يسمى بتاريخ العلوم.

فاليوم و بالنظر الى كل هذه الأجهزة الفلكية و الآلات الفضائية الدقيقة، و التلسكوبات العملاقة، و هبوط المركبات الفضائية المتعددة على سطح القمر و المريخ، و عملية القيادة الفضائية على سطح القمر لم يعد مجال لهذه الفرضيات الخيالية.

(2) فاليوم لا يعتبر العلماء المحقّقون فكرة العناصر الأربعة و الفلك المتّصل كقشرة البصل إلّا جزء من الاساطير.

فان العلماء لم يستطيعوا بالآلات العلمية و أجهزة الرصد الدقيقة و العيون

سيد المرسلين ،ج 1،ص:547

المسلحة من رؤية، تلك العوالم التي حاكها و صنعها بطلميوس بقوة خياله، من هنا فان أية نظرية تقوم على هذا الاساس غير الصحيح تكون عارية عن أية قيمة، و اعتبار.

(1)

نغمة شاذة:

و لقد طلع مؤسس الفرقة الشيخية «1» «الشيخ احمد الاحسائي» في «الرسالة القطيفية» بنغمة شاذة في هذا الصعيد حيث أراد بابداء طرحة جديدة أن يرضي كلا الطرفين (القائلين بروحانية المعراج النبوي و القائلين بجسمانيته) حيث قال:

ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عرج ببدنه البرزخي (الهورقليائي) «2» ثم استدل لذلك بقوله:

ان الصاعد كلّما صعد ألقى في كل رتبة من المراتب المذكورة ما فيها، فمثلا إذا تجاوز كرة الهواء القى ما فيه من الهواء، و اذا تجاوز كرة النار ألقى ما فيها و اذا رجع أخذ

ماله من كرة النار، و اذا وصل الى كرة الهواء أخذ ماله من الهواء.

و من هنا فانّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند ما عرج الى السماء القى في كل كرة واحدا من تلك العناصر الأربعة في كرته، و عرج ببدن فاقد لهذه العناصر.

و مثل هذا البدن لا يمكن ان يكون بدنا عنصريا، فليس هو الا البدن البرزخي (الذي أسماه الهورقليائي) لا غير «3».

______________________________

(1) لا شك أن هذه الفرقة و امثالها من الفرق المبتدعة هي من صنائع الاستعمار أو هي مما يؤيده لتنفيذ أغراضه، و من حسن الحظ أن انتشار الوعى بين أبناء الامة الإسلامية حدّ من نشاط هذه الفرق حتى انها أصبحت على ابواب الاندثار و الانقراض نهائيا.

(2) و هو البدن البرزخي الذي يشبه البدن الذي يفعل به الانسان الافعال المختلفة في عالم النوم و الرؤيا و يقوم بكل نوع من انواع النشاط.

(3) تقع الرسالة القطيفية ضمن مجموعة تحتوي على 92 رسالة باسم جوامع الكلم التي طبعت عام 1273.

و مع هذا التصريح يدّعي البعض- للتستر على خطأ الشيخ و زلته هذه- بأن الشيخ يعتقد بأن المعراج كان جسمانيا عنصريا، و أنه موافق لرأي المشهور في هذا المجال.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:548

و بهذا- حسب تصوّره- أرضى من نفسه كلا الطرفين المذكورين، لأنه من جانب اعتقد بالمعاد الجسماني، و في نفس الوقت تخلّص من اشكال «خرق الافلاك و التحامها» لأن نفوذ الجسم البرزخي لا يستوجب أي خرق و انفصال في جدار الفلك.

(1) و لكن هذه النظرية- كما هو واضح لكلّ عالم متحرّ للحقيقة، بعيد عن العصبية- واضحة البطلان كسابقتها (نظرية المعراج الروحاني)، فمضافا الى انها مخالفة للقرآن و ظاهر الأحاديث، لأنّه- كما أسلفنا- لو عرضنا آية المعراج

(من سورة الاسراء) على أيّ عارف باللغة، مهما كانت و طلبنا منه رأيه في هذا الصدد لقال: ان مراد القائل هو البدن الدنيوي العنصري الذي عبّر عنه القرآن بلفظ العبد، في قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ»، و ليس الهورقليائي الذي لم يكن يعرفه المجتمع العربيّ، و لا يعرف أمثاله في ذلك اليوم اساسا، في حين أنهم كانوا هم المخاطبون في آية المعراج في سورة الاسراء لا غيرهم.

هذا مضافا الى أنّ ما دفع بالشيخ الى ارتكاب هذا التأويل البارد هو الاسطورة اليونانية المذكورة حول الفلك، حيث تصوّرها كحقيقة ثابتة من حقائق اللوح المحفوظ، و قد كذبها و فندها كل فلكييّ العالم اليوم، و أعلنوا عن سخافتها.

فلا يجوز لنا أن نقلّد تلك الفرضية تقليدا أعمى.

و اذا ما رأينا بعض القدماء من المشايخ قال بمثل هذا محسنا الظن بتلك الفرضية الفلكية القديمة و أمثالها امكن إعذارهم، لعدم قيام ادلة علمية قوية على خلافها آنذاك.

اما اليوم فلا ينبغي لنا ان نتجاهل الحقائق القرآنية لفرضية ثبت بطلانها في الأوساط العملية

(2)

المعراج و قوانين العلم الحديث:
اشارة

قد يتصور فريق من الناس أن القوانين الطبيعية و العلمية الحاضرة لا تتلاءم

سيد المرسلين ،ج 1،ص:549

مع معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذلك لأنه:

(1) 1- يقول العلم الحديث: إنّ الابتعاد عن الأرض يتطلب التخلّص من جاذبية الأرض، و بعبارة اخرى ابطال مفعولها.

فان (الكرة) التي نقذفها إلى الأعلى تعود مرة ثانية الى الأرض بفعل الجاذبية و مهما كرّرنا قذف الكرة الى الأعلى فانها تعود و ترجع الى الأرض أيضا.

فاذا أردنا أن نبطل مفعول جاذبية الأرض ابطالا كاملا بحيث لا تعود الكرة المقذوفة الى الأعلى الى الأرض ثانية بل تواصل مسيرها إلى الأعلى فإننا نحتاج لتحقيق هذا الهدف الى جعل

سرعة الكرة باتجاه معاكس للأرض تعادل 000/ 25 ميلا في الساعة.

و على هذا فان معنى المعراج هو ان يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد خرج من محيط جاذبية الأرض، و اصبح في حالة انعدام الوزن.

و لكن ينطرح هنا سؤال و هو: كيف استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يطوي بدون وسائل هذه المسافة بمثل هذه السرعة، و هل البدن الطبيعي يتحمل مثل هذه السرعة مع عدم توفر الغطاء الواقي و الوسائل اللازمة، التي تصون الجسم من التبعثر و الذوبان بفعل السرعة الفائقة.

(2) 2- إنّ الهواء القابل للاستنشاق غير موجود فوق عدد من الكيلومترات بعيدا عن سطح الأرض، بمعنى اننا كلما ذهبنا صعدا إلى الطبقات العليا و ابتعدنا عن الأرض أصبح الهواء أرقّ، حتى يغدو غير قابل للاستنشاق، و ربما نصل اذا واصلنا الصعود إلى الأعلى الى منطقة ينعدم فيها الهواء اللازم للتنفس بالمرة، فكيف استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بعد طي تلك المسافة الطويلة و البعيدة في أعالي الجو أن يعيش بدون وجود الاوكسيجين؟! سيد المرسلين ج 1 549 المعراج و قوانين العلم الحديث: ..... ص : 548

3) 3- إنّ الاشعة الفضائية، و الاحجار السماوية و الشهب الكثيرة المتطائرة إذا اصطدمت بأي جسم أرضي أبادته، و أفنته، و لكنها عند ما تصطدم بالغلاف الغازيّ المحيط بالأرض تتلاشى و تصبح كالبودر و لا تصل إلى الأرض، فيكون

سيد المرسلين ،ج 1،ص:550

الغلاف الغازي في الحقيقة بمثابة درع يقي سكّان الأرض من خطر تلك القذائف المهلكة.

و مع هذه الحالة كيف تهيّأ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يصون نفسه من تلك الاشعة الفضائية، و الاحجار السماوية؟!

(1) 4- إذا قلّ ضغط

الهواء على جسم الانسان فزاد أو نقص اختلت حياته الطبيعية، فهو يمكنه أن يعيش تحت ضغط معين من الهواء، لا يوجد في الطبقات العليا من الجوّ، فكيف استطاع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الحال هذه أن يحافظ على حياته في أعالي الفضاء؟!

(2) 5- إنّ سرعة الحركة التي سار بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا ريب كانت تفوق سرعة الحركة التي يسير بها النور و مع العلم بأنّ سرعة النور هي 000/ 30 كيلومترا في الثانية، و مع العلم أيضا أنه ثبت في العلم الحديث أنه لا يستطيع أيّ جسم أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة النور، فكيف استطاع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يسير بسرعة تفوق سرعة النور، و مع ذلك يرجع إلى الأرض سالم الجسم كامله؟؟!

(3)

جوابنا:

و جوابنا هو: أننا إذا أردنا أن نناقش هذه المسألة على ضوء القوانين العلميّة الطبيعية لتجاوز عدد الاعتراضات و الاشكالات ما ذكرناه آنفا.

و لكننا نقول في جواب هذا الفريق متسائلين: ما هو مقصودكم من توضيح هذه النواميس الطبيعية.

هل تريدون القول بأن السير في العوالم العليا أمر غير ممكن، و ممتنع ذاتا و بالتالي أنه أمر محال.

فاننا نقول- حينئذ- في الجواب على ذلك بان الجهود و التحقيقات العلمية التي بذلها علماء الفضاء في الشرق و الغرب قد جعلت هذا الأمر- و لحسن الحظ- أمرا ممكنا، و عاديا، لأن مع اطلاق أوّل قمر اصطناعي عام (1957 م) الى السماء

سيد المرسلين ،ج 1،ص:551

و الذي اسماه علماء الفضاء ب «اسپوتنيك» اتضح أنه يمكن إبطال مفعول جاذبية الأرض بواسطة الصاروخ، كما أن إرسال السفن الفضائيّة الحاملة الروّاد الفضاء من البشر بواسطة الصاروخ أوضح أنّ ما كان يعدّه البشر مانعا

من الصعود الى الأعلى في الفضاء، قد أصبح قابلا لرفعه و إزالته، و التخلّص منه بيد العلم و التكنولوجيا.

(1) إن البشر استطاع بأدواته و آلاته العلمية و التكنولوجية أن يعالج مشكلات عديدة في مجال ارتياد الفضاء مثل مشكلة الشهب و النيازك المتطائرة في الجوّ و مشكلة الاشعة الفضائية، و مشكلة انعدام الغاز اللازم للتنفس و .. و .. و ها هو علم ارتياد الفضاء في حال توسع مستمرّ و ان العلماء أصبحوا الآن يثقون بأنهم سرعان ما يتمكنون من مدّ بساط الحياة و العيش في إحدى الكرات السماوية و السفر إلى إحدى الكواكب كالقمر و المريخ بسهولة كبرى! «1»

إنّ هذه الأحداث العلمية و هذا التقدّم التكنولوجي في مجال ارتياد الفضاء شاهد قويّ على أنّ هذا العمل أمر ممكن مائة بالمائة، و ليس من الامور المستحيلة.

و اذا كان مقصود المعترضين على المعراج هو انه لا يمكن القيام بمثل هذه الرحلة من دون أجهزة علميّة و تكنولوجية، و لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يملك في تلك الليلة مثل هذه الأجهزة فكيف طوى تلك المسافات و طاف

______________________________

(1) بعد اطلاق الاقمار و السفن الاصطناعية لأوّل مرة يوم الأربعاء ابريل عام 1961 بدأ الضابط الروسي (27 سنة) جاجارين رحلته الفضائية في سفينة فضائية، و كان أوّل إنسان أقدم على هذه الرحلة الفضائية، و ابتعدت سفينته 302 كيلو مترا عن سطح الأرض، و دارت دورة واحدة حول الكرة الارضية في ساعة و نصف.

و بعد ذلك أقدمت أمريكا و الاتحاد السوفيتي على ارسال السفن الفضائية إلى الفضاء في محاولة لغزو القمر حتى حطّت «أپولو» الحاملة ل 11 رائدا فضائيا على سطح القمر لأوّل مرّة، و كان هذا أوّل

مرة يحط فيها انسان قدمه على ارض القمر.

و قد تكررت تجربة هذا البرمانج الفضائي فيما بعد مرات و مرات، و كانت ناجحة على الاغلب.

و كل هذه الجهود و النتائج تكشف عن أن هبوط الانسان على سطح الكرات و الكواكب أمر ممكن، و ما يستطيع البشر فعله عن طريق العلم يقدر اللّه خالق البشر على فعله بارادته النافذة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:552

على جميع تلك العوالم من دون أدنى وسيلة نقل من هذا القبيل؟!

(1) فاننا نقول في معرض الاجابة على اعتراضهم هذا بأن جواب هذا الاعتراض يتضح من الابحاث التي سبقت منا حول معاجز الأنبياء و خصوصا بحثنا المفصّل حول حادثة عام الفيل و هلاك جيش أبرهة العظيم بالأحجار الصغيرة، لأنه من المسلّم أنّ ما يستطيع البشر فعله عن طريق الأدوات و الآلات العلمية الصناعية يستطيع الأنبياء فعله بعناية اللّه تعالى، و إقداره و بدون الأسباب الظاهرية و الخارجية.

لقد عرج رسول الاسلام صلّى اللّه عليه و آله الى السماء بعناية و باقدار اللّه الذي خلق الوجود كله، و أقام هذا النظام البديع برمته، فهو الذي أعطى للأرض جاذبيتها، و أعطى للشمس أشعتها و أوجد مختلف طبقات الهواء، و أنواع الغازات في الجوّ، و متى أراد أخذها و انتزاعها منها، أو كبح جماحها، و ردّ عاديتها.

(2) فاذا تحقق معراج النبيّ الاكرم محمّد صلّى اللّه عليه و آله في ظلّ العناية الإلهيّة فانّ من المسلّم ان جميع النواميس تخضع أمام قدرته القاهرة، و ارادته الغالبة، و هي طوع إرادته، و السماوات و الأرض مطويّات بيمينه و الجميع في قبضته و رهن اشارته دائما و أبدا، و في كل حين و أوان.

و على هذا فما ذا يمنع من أن يعمل اللّه الذي

منح للأرض جاذبيتها، و للأجرام السماوية أشعتها، على إخراج عبده المصطفى بقدرته المطلقة و من دون الاسباب الظاهرية، من مركز الجاذبية الأرضيّة، و يصونه من أخطار الاشعة الكونية، و أن يعمد خالق كل هذا القدر الهائل من الاوكسيجين إلى إيجاد الهواء اللازم لنبيّه في الطبقات التي ينعدم فيها الهواء، و هذا هو معنى قولهم: «إنّ اللّه مسبّب الأسباب و معطّل الأسباب».

ان أمر المعجزة يختلف و يفترق أساسا عن أمر العلل الطبيعية و القدرة البشرية.

(3) و نحن يجب أن لا نقيس قدرة اللّه المطلقة بقدرتنا المحدودة، فاذا كنّا لا نقدر

سيد المرسلين ،ج 1،ص:553

على شي ء من دون الأسباب لم يصح أن نقول: ان القادر المطلق لا يقدر على مثله من دون الاسباب الطبيعية أيضا.

إنّ إحياء الموتى، و قلب العصا إلى ثعبان، و إبقاء يونس حيّا في بطن الحوت، في قعر البحار، مما صدّقته جميع الكتب السماوية و نقلته إلينا لا تقلّ إشكالا و لا تختلف جوابا عن قصة المعراج النبوي.

و خلاصة القول: ان جميع العلل الطبيعية و الموانع الخارجية مسخّرة للّه تعالى خاضعة لارادته، مطيعة لأمره و ارادته يمكن تعلّقها بكلّ شي ء إلّا بالأمر المحال، و أما غير ذلك أي ما يكون ممكنا بالذات مهما كان، فانّه قابل لأن يتحقق في طل ارادة اللّه و مشيئته سواء يقدر البشر عليه أم لا يقدر.

على أن حديثنا هذا موجّه الى من آمن باللّه، و عرف ربّه بصفاته الخاصة به تعالى، و بالتالي آمن باللّه الأزليّ على أنّه القادر على كلّ شي ء.

(1)

الهدف من المعراج:

لقد بيّنت الأحاديث- بعد الآيات- الغرض من المعراج و إليك طائفة من هذه الأحاديث.

1- يقول ثابت بن دينار سألت الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام عن اللّه

جلّ جلاله هل يوصف بمكان فقال: «تعالى اللّه عن ذلك».

قلت: فلم أسرى بنبيه محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلى السماء؟

قال: «ليريه ملكوت السماوات و ما فيها من عجائب صنعه و بدائع خلقه».

2- و قال يونس بن عبد الرحمن قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام لأيّ علة عرج اللّه بنبيّه إلى السماء و منها إلى «سدرة المنتهى»، و منها إلى «حجب النور» و خاطبه و ناجاه هناك و اللّه لا يوصف بمكان؟ «1».

فقال عليه السلام: «إنّ اللّه لا يوصف بمكان و لا يجري عليه زمان، و لكنّه

______________________________

(1) علل الشرائع: ص 55، البحار: ج 18 ص 347 و 348، تفسير البرهان: ج 2 ص 400.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:554

عز و جل أراد ان يشرّف به ملائكته، و سكان سماواته، و يكرّمهم بمشاهدته، و يريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، و ليس ذلك على ما يقوله المشبّهون سبحان اللّه تعالى عمّا يصفون» «1».

أجل يجب أن يكون لرسول الاسلام و خاتم الأنبياء مثل هذا المقام العظيم و مثل هذه المنزلة السامقة، ليقول للبشرية العائشة في القرن العشرين، و التي أصبحت تفكر في الهبوط على «المريخ» و «الزهرة» و غيرها من الانجم البعيدة:

بانني قد فعلت هذا من دون أية وسيلة، و انّ ربّي قد منّ عليّ و عرّفني على نظام السماوات و الأرض، و أطلعني بقدرته و بعنايته على أسرار الوجود، و رموز الكون.

______________________________

(1) علل الشرائع: ص 55، البحار: ج 18 ص 347 و 348، تفسير البرهان: ج 2 ص 400.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:555

(1)

23 سفرة إلى الطائف

اشارة

انقضت السنة العاشرة بكل حوادثها الحلوة و المرة، فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد في هذا العام حامييه الكبيرين المتفانيين

في سبيله، ففي البداية فقد كبير بني عبد المطلب و سيدهم، و المدافع الوحيد عن حوزة الرسالة الاسلامية، و الذابّ بالاخلاص عن حياض الشريعة المحمّدية، و الشخصية الاولى في قريش اعني «أبا طالب» عليه السلام.

و لم تنمح آثار هذه المصيبة المرّة عن خاطر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد إلّا و فاجأته مصيبة وفاة زوجته الوفية العزيزة، السيدة خديجة الكبرى التي جددت برحيلها عنه أحزان النبيّ و آلامه الروحية «1».

لقد حامي أبو طالب و دافع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حافظ على حياته و سلامته و مكانته، و بينما ساعدت خديجة بثروتها الطائلة في نشر الاسلام و قدمت في هذا السبيل خدمات عظيمة لا تنسى.

من هنا سمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تلك السنة بعام الحداد، او

______________________________

(1) جاء في تاريخ الخميس: ج 1 ص 301 انه قيل بأن «خديجة» توفيت بعد «أبي طالب» بشهر و خمسة أيام، بينما ذهب آخرون مثل ابن الأثير في الكامل ج 2 ص 63 الى أن السيدة خديجة توفيت قبل أبي طالب، لا بعده.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:556

الحزن «1».

و منذ أن توفّى اللّه هذين الحاميين العظيمين و المدافعين القويين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ظروفا صعبة جدا قلما واجهها من قبل.

(1) فقد واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منذ حلول السنة الحادية عشر جوّا مفعما بالعداء له، و الحقد عليه، و صارت الاخطار تهدد حياته الشريفة في كل لحظة، و قد فقد كل الفرص لتبليغ الرسالة و كل امكانات الدعوة الى دينه.

يقول ابن هشام في هذا الصدد: ان «خديجة بنت خويلد» و «أبا طالب»

هلكا (اي توفيا) في عام واحد فتتابعت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المصائب بهلك خديجة و كانت له وزيرة صدق على الاسلام ... و بهلك عمّه أبي طالب و كان له عضدا، و حرزا في أمره، و منعة و ناصرا على قومه و ذلك قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا.

و لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذلك التراب دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيته و التراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب و هي تبكي و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لها:

«لا تبكي يا بنيّة فإنّ اللّه مانع أباك».

و يقول بين ذلك:

«ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتّى مات أبو طالب» «2».

(2) و لأجل تزايد الضغط و الكبت هذا قرر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن ينتقل

______________________________

(1) تاريخ الخميس: ج 1 ص 301، السيرة الحلبية: ج 1 ص 347.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 415 و 416، بحار الأنوار: ج 19 ص 5 عن إعلام الورى عن محمّد بن اسحاق بن يسار.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:557

من المحيط المكي إلى محيط آخر يتسنى له تبليغ رسالته.

و حيث انّ الطائف كانت تعتبر آنذاك مركزا هامّا، لذلك رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يسافر لوحده الى الطائف، و يجري بعض الاتصالات مع زعماء قبيلة ثقيف و ساداتها و يعرض دينه عليهم

علّه يحرز نجاحا و يكسب انصارا جددا لرسالته من هذا الطريق.

و لما انتهى صلّى اللّه عليه و آله الى الطائف عمد الى نفر من قبيلة «ثقيف» هم يومئذ سادة ثقيف و اشرافهم، و جلس صلّى اللّه عليه و آله إليهم، و دعاهم إلى اللّه، فلم يؤثر فيهم كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا له: لئن كنت رسولا من اللّه كما تقول لأنت أعظم خطرا من أردّ عليك الكلام، و لئن كنت تكذب على اللّه ما ينبغي لي ان اكلمك!!

(1) فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ردّهم الصبياني أنهم يحاولون التملّص من قبول الدعوة و اعتناق الاسلام، فقام صلّى اللّه عليه و آله من عندهم بعد ان طلب منهم أن يكتموا ما جرى في هذا اللقاء خشية أن يعرف سفهاء ثقيف فيتجرءوا عليه و يتخذوا ذلك ذريعة لاستغلال غربته و وحدته، و من ثم إيذائه، فوعدوه بالكتمان، و لكنهم- و للاسف- لم يحترموا وعدهم هذا الذي أعطوه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أغروا به سفهاءهم و عبيدهم، و فجأة وجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه محاطا بجمع كبير من اولئك السفهاء يسبّونه و يصيحون به حتى اجتمع الناس، و ألجئوه إلى بستان لعتبة و شيبة ابني ربيعة و هما فيه في تلك الساعة، و رجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل فجلس فيه و هو يتصبب عرقا، و قد الحقوا الاذى بمواضع عديدة من بدنه الشريف و رجلاه تسيلان من الدماء، و ابنا ربيعة ينظران إليه، و يريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، و قد كانا من أثرياء

قريش، يومئذ.

(2) فلما اطمأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله توجه الى ربه و ناجاه قائلا:

«اللّهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي، و قلّة حيلتي، و هواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، و أنت ربّي، إلى من تكلني، إلى

سيد المرسلين ،ج 1،ص:558

بعيد يتجهّمني؟ أم إلى عدوّ ملكته امري؟

إن لم يكن بك عليّ غضب فلا ابالي، و لكن عافيتك هي أوسع لي.

أعوذ بنور وجهك الّذي اشرقت له الظّلمات، و صلح عليه أمر الدّنيا و الآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك.

لك العتبى حتّى ترضى، و لا حول و لا قوّة إلّا بك» «1».

هذه الكلمات و هذا الدعاء هي استغاثة شخصية عاش خمسين سنة عزيزا مكرما في ظلّ حماية من دافعوا عنه بصدق و اخلاص و دفعوا عنه كل اذى و لكنه الآن يضيق عليه رحب الحياة حتى يلجأ الى حائط عدوّ من اعدائه، و يجلس في ظل شجرة، مكروبا موجعا ينتظر مصيره.

(1) فلما رآه ابنا ربيعة «عتبة و شيبة» و كانا من الوثنيين و من أعداء الاسلام، و شاهدوا ما لقي من الأذى و العذاب، رقّا له فدعوا غلاما لهما نصرانيا من اهل نينوى يقال له «عداس» فقالا له: خذ قطفا من العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به الى هذا الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس، ثم أقبل بالعنب حتى وضعه بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم قال له: كل، فلما وضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيه يده قال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم».

فتعجب عداس من ذلك بشدة و قال: و اللّه إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.

فقال له رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و من أهل أي البلاد أنت و ما دينك؟

قال: أنا نصراني، من أهل نينوى.

قال صلّى اللّه عليه و آله: من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى.

فقال له عداس: و ما يدريك ما (من) يونس بن متى؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله «2»: ذاك أخي كان نبيا و أنا نبيّ، أنا رسول اللّه،

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 420.

(2) و في رواية البحار ج 19 ص 6 جملة اعتراضية هنا:- و كان لا يحقر أحدا أن يبلغه رسالة ربه-.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:559

و اللّه تعالى أخبرني خبر يونس بن متى.

(1) فأكبّ عداس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد رأى في كلماته علائم الصدق و آيات الحق، و جعل يقبّل رأسه و يديه، و قدميه، و هما تسيلان من الدماء، و آمن به، ثم عاد بعد الاستئذان منه صلّى اللّه عليه و آله إلى صاحبيه في البستان.

فتعجب ابنا ربيعة لما رأياه في غلامهما عداس من الانقلاب الروحي العجيب، و سألاه قائلين: ويلك يا عداس مالك قبّلت رأس هذا الرجل، و يديه و قدميه و ما ذا قال لك؟!

فاجابهما الغلام قائلا: يا سيديّ ما في الارض شي ء خير من هذا، هذا رجل صالح لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلّا نبيّ.

فشقّ كلام عداس على ابني ربيعة، و قالا له بنبرة الناصح له: ويحك يا عداس، لا يصرفنّك هذا الرجل عن دينك، فان دينك خير من دينه!! «1»

(2)

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يعود إلى مكة:

انتهت ملاحقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بلجوئه الى حائط ابني ربيعة، و كان عليه الآن، و بعد أن يئس من خير ثقيف ان يعود إلى مكة، و لكنّ عودته إلى مكة لم

تكن لتخلو عن مشاكل، لأنه قد فقد نصيره و حاميه و مدافعه الاكبر و الاوحد فكان من المحتمل جدا أن يقبض عليه المشركون و يسفكوا دمه.

فقرر صلّى اللّه عليه و آله ان يبقى في منطقة «نخلة» (و هي واد بين الطائف و مكة) بعض الوقت.

لقد كان يريد أن يرسل أحدا إلى شخصية من شخصيات قريش يطلب منها ان تجيره حتى يدخل مكة بجوار، و لكنه صلّى اللّه عليه و آله لم يجد من يقوم له بهذه المهمة. فترك «نخلة» إلى حراء، و هناك التقى رجلا خزاعيا و طلب منه أن

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 419- 421، بحار الأنوار: ج 19 ص 6 و 7 و 22 مع اختلاف يسير.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:560

يأتي «المطعم بن عدي» بمكة، و كان من الشخصيات المكية البارزة و يسأله أن يجير رسول اللّه ليدخل مكة في أمان من اذى قريش و كيدها.

(1) فدخل الخزاعيّ مكة، و أبلغ المطعم ما طلبه منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقبل المطعم- رغم كونه و ثنيا مشركا- ان يجير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال للخزاعي: ائته فقل له: إني قد أجرتك فتعال.

فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة ليلا و نزل في بيت مطعم مباشرة، و بات ليلته هناك، و لما طلعت الشمس من صبيحة غد قال مطعم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لتعلمنّ قريش بانك في جوارنا، فاصحبنا إلى البيت، ليروا جوارنا.

فاستحسن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأيه فاخذ المطعم و أهل بيته السلاح و دخلوا مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في المسجد الحرام، و كان ورودهم في المسجد بهيئة رائعة.

(2)

و كان أبو سفيان قد كمن للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليكيد به، فلما رأى هذا المشهد المهيب غضب غضبا شديدا، و انصرف عن ايذاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فجلس المطعم و ولده و أختانه و اخوه، و طاف رسول اللّه بالبيت و صلى عنده ثم انصرف إلى منزله. «1»

و لم يمض على هذه الحادثة زمان طويل حتى هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 381، بحار الأنوار: ج 19 ص 7 و 8. و يستبعد بعض المحققين ان يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد طلب الجوار من مشرك أو دخل في جوار مشرك، على غرار عدم قبوله الهدية من المشرك و ذكر لذلك ادلة و وجوها.

و لكن يمكن الاجابة على هذا بأن الاجارة كانت امرا عاديا في ذلك العصر، و لم يكن فيها ما يوجب شينا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم تستلزم منه عليه.

ثم ما المانع في مثل هذا الجوار لو ترتبت عليه مصالح عليا، كتمكين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الدخول بسلام الى مكة، و تمكنّه من القيام بمهامّه الرسالية، خاصة ان هذا الجوار لم يستغرق إلّا يوما أو بعض يوم و تسنّى بعده لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ترتيب اوضاعه في مواجهة الاخطار التي كانت تتهدده من جانب المشركين بمكة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:561

و آله من مكة إلى المدينة، و توفي المطعم في أوائل الهجرة في مكة، و لما بلغ رسول اللّه نبأ موته تذكّر صلّى اللّه عليه و آله إحسانه و جواره، و أنشأ حسّان بن ثابت شاعر الاسلام شعرا يمدحه فيه

تقديرا لخدمته.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتذكره كثيرا، حتى انه تذكره في واقعة «بدر» التي انهزمت فيها قريش و عادت منكسرة الى مكة بعد أن خسرت كثيرا من رجالها و اسر منها عدد كبير، فتذكر مطعم بن عدي ثمة و قال صلّى اللّه عليه و آله:

«لو كان مطعم بن عديّ حيا لوهبت له هؤلاء» «1».

(1)

نقطة هامة:

إنّ سفر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الى الطائف يكشف عن اصراره في اداء رسالته و استقامته و صبره صلّى اللّه عليه و آله كما ان تذكّره لإحسان مطعم في المواقع المناسبة يقودنا إلى خصاله الحميدة و سجاياه. الفاضلة، و خلقه العظيم.

و لكن الاهمّ من هذا و ذاك هو أننا نستطيع من خلال هذا تقييم خدمات أبي طالب القيامة، و معرفة اهميتها الكبرى عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بمقايستها مع ما فعله مطعم.

فان مطعم لم يفعل شيئا إلّا أن اجار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حماه يوما او بعض يوم.

بينما حدب أبو طالب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دافع عنه و خدمه عمرا كاملا، و لقى في سبيله من المحن و المتاعب ما لم يلق مطعم منها و لا شيئا ضئيلا.

(2) فاذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعلن عن استعداده للافراج عن جميع الاسرى في «بدر» تقديرا لما قام به مطعم من اجارة بسيطة قصيرة، فما ذا

______________________________

(1) المغازي للواقدي: ج 1 ص 110 ثم قال الواقدي: و كانت لمطعم بن عدي عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اجارة حين رجع من الطائف، طبقات ابن سعد: ج 1 ص 210 و 212،

البداية و النهاية: ج 3 ص 137.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:562

عساه أن يقوم به تجاه ما اسداه إليه عمّه و حاميه و كافله الاكبر و الأوحد أبو طالب من خدمات طوال اكثر من اربعين عاما. أنه يجب ان يكون لمثل هذا الشخص العظيم الذي كفل صاحب الرسالة و قام بشئونه مدّة أربعين عاما بايامها و لياليها و دافع عنه في السنوات العشر الاخيرة و هي جلّ عمر الرسالة الاسلامية في الفترة المكية إلى درجة ان عرّض راحته و سلامته بل حياته و حياة أبنائه لخطر الموت دفاعا عن حياض الرسالة، و حماية لصرح النبوة، مقاما عظيما و منزلة كبرى عند قائد البشرية، و معلم الانسانية، و هاديها العظيم.

كيف لا؛ و الفرق بين هذين الشخصين كبير، و البون شاسع، فمطعم رجل وثني مشرك، بينما يعتبر أبو طالب واحدا من كبار الشخصيات الاسلامية العظيمة بلا جدال.

(1)

الدعوة في أسواق العرب:

كانت العرب تجتمع- في مواسم الحج- في نقاط مختلفة مثل: «عكاظ» و «المجنة» و «ذي المجاز»، و كان الشعراء و الخطباء العرب البارعون يقفون في هذه المناطق على أماكن مرتفعة و يلهون فريقا من الناس بما يلقونه عليهم من خطب و قصائد تدور في الأغلب حول الحرب و القتال، و التفاخر، و العشق.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شأن كل الأنبياء و المرسلين الذين سبقوه يستغلّ هذه الفرصة- كغيرها- لا بلاغ رسالة ربه الى الناس، و لم يكن لاحد منعه او الكيد به لحرمة القتال و الجدال في الاشهر الحرم.

من هنا كان صلّى اللّه عليه و آله اذا حلّ الموسم وقف على مكان مرتفع و خاطب الناس قائلا:

«قولوا لا إله إلّا اللّه تفلحوا و تملكوا بها العرب و تذلّ لكم

العجم، و إذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنّة» «1».

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 216.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:563

(1)

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج:

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يلتقي في مواسم الحج في هذه النقاط برؤساء القبائل العربية و اشرافها، و يقف على منازلهم منزلا منزلا، و يعرض دينه عليهم، و يدعوهم إلى اللّه و يخبرهم أنه نبيّ مرسل «1».

و ربما مشى خلفه عمّه «أبو لهب» فاذا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قوله و ما دعا به قال أبو لهب فورا للناس: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات و العزى من أعناقكم، إلى ما جاء به من البدعة و الضلالة، فلا تطيعوه و لا تسمعوا منه.

(2) و قد قدمت جماعة من بني عامر إلى مكّة فدعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الاسلام، و عرض عليهم نفسه، فقبلوا أن يعتنقوا الاسلام إلّا أنهم اشترطوا عليه أن يكون إليهم خلافته من بعده إذ قالوا: أ رأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك اللّه على من خالفك أ يكون لنا الأمر من بعدك؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء».

فرفضوا اعتناق الاسلام و الإيمان باللّه و رسوله.

ثم لما عادوا إلى أوطانهم رجعوا إلى شيخ لهم طاعن في السنّ لم يقدر أن يحجّ معهم و كان ذا بصيرة و فهم فحدّثوه بما جرى بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى ان نمنعه «2» و نقوم معه.

فوضع الشيخ يديه على رأسه و وبّخهم على رفضهم لدعوة الرسول

و قال:

______________________________

(1) قال ابن هشام: كان صلّى اللّه عليه و آله لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم و شرف إلّا تصدّى له فدعاه الى اللّه و عرض عليه ما عنده.

(2) أي نحميه.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:564

يا بني عامر و الذي نفس فلان بيده ما تقوّلها اسماعيلي قط «1»، و إنّها لحق، فاين رأيكم كان عنكم؟! «2»

ان هذه القضية التاريخية تفيد- في ما تفيد- بان مسألة الخلافة و الامامة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر تنصيصي، تعييني، لا انتخابي، أي ان تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعود إلى اللّه تعالى، و لا خيار للناس فيه، و انما عليهم الطاعة و الرضا.

______________________________

(1) أي ما ادعى النبوة كاذبا احد من بني اسماعيل.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 424 و 425.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:565

(1)

24 بيعة العقبة

اشارة

كان (وادي القرى) في ما مضى من الزمن طريق التجارة من اليمن الى الشام، فكانت القوافل التجارية القادمة من اليمن تدخل واديا طويلا يدعى بوادي القرى بعد العبور بالقرب من مكة، و كانت المناطق الواقعة على طول هذا الوادي مناطق خضراء، و من هذه المناطق مدينة قديمة كانت تدعى ب: يثرب و التي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول.

و قد سكن في هذه المدينة منذ اوائل القرن الرابع الميلادي قبيلتا: «الاوس و الخزرج» اللتان كانتا من مهاجري عرب اليمن (من القحطانيين).

(2) و كان يعيش الى جانبهم الطوائف اليهودية الثلاث المعروفة: «بنو قريظة» و «بنو النضير» و «و بنو قينقاع» الذين كانوا قد هاجروا إليها من شمال شبه الجزيرة العربية و استوطنوها.

و كان يقدم الى مكة كل عام جماعة من عرب يثرب للاشتراك في مراسيم الحج، و كان النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله يلتقي بهم في تلك المواسم، و يجري معهم اتصالات.

و قد مهدت بعض هذه اللقاءات للهجرة، و صارت سببا لتمركز قوى الاسلام المتفرقة، في تلك النقطة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:566

(1) على ان كثيرا من تلك الاتصالات و ان لم تثمر و لم تنطو على أية فائدة فعلية إلّا أنها تسببت في أن يحمل حجاج يثرب- لدى عودتهم- انباء ظهور النبيّ الجديد و ينشروه في اوساط المدينة كأهم نبأ من انباء الساعة، و يلفتوا نظر الناس في تلك الديار الى مثل هذا الأمر المهم و الخطير.

و لهذا نقلنا هنا بعض اللقاءات و الاتصالات التي تمت بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جماعات من اهل هذه المدينة في السنة الحادية عشرة و الثانية عشرة و الثالثة عشرة من البعثة لتتضح بدراسة هذه المطالب علة هجرة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله من مكة الى يثرب، و تمركز قوى المسلمين في تلك المنطقة.

(2) 1- كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلما سمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم و شرف تصدى له، و دعاه الى الاسلام و عرض عليه ما عنده.

و قد قدم مرة «سويد بن الصامت» فتصدى له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين سمع به فدعاه الى اللّه و الى الاسلام فقال له سويد: فلعلّ الذي معك مثل الذي معي.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و ما الذي معك.

قال: مجلة لقمان يعني حكمة لقمان-.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اعرضها على فعرضها عليه. فقال له: إن هذا الكلام حسن، و الذي معي أفضل من هذا. قرآن انزله اللّه عليّ هو

هدى و نور.

ثم تلا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القرآن و دعاه الى الاسلام، فقال سويد إنّ هذا قول حسن و آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج فيما كان يتلفظ الشهادتين، و كان قتله قبل يوم بعاث «1» «2».

______________________________

(1) بعاث موضع كانت فيه حرب بين الاوس و الخزرج.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 425- 427.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:567

(1) 2- قدم «انس بن رافع» مكّة و معه فتية من بني عبد الاشهل فيهم «ياس بن معاذ» أيضا، يلتمسون الحلف و النصرة على قومهم من الخزرج، فسمع بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأتاهم و جلس إليهم و قال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له؟

فقالوا له: و ما ذاك؟

قال: «أنا رسول اللّه بعثني إلى العباد أدعوهم الى أن يعبدوا اللّه و لا يشركوا به شيئا و أنزل عليّ الكتاب» ثم ذكر لهم الاسلام، و تلا عليهم القرآن.

فقال إياس بن معاذ و كان غلاما حدثا شهما: أي قوم هذا و اللّه خير مما جئتم له.

فقد أدرك جيّدا أن دين التوحيد يكفل كلّ حاجاتهم فهو دين شامل مبارك لأنه سيصهر الجميع في بوتقة الاخوّة الواحدة فتزول عندئذ أسباب العداء و القتال، و بذلك ينهي كل مظاهر الحرب و التنازع، و كلّ مظاهر الفساد و التخريب فهو أفضل من طلب المساعدة العسكرية من قريش التي جاءوا من أجلها الى مكة، فامن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من دون ان يكسب رضا رئيس قبيلته «انس بن رافع» و استئذانه، و لهذا غضب أنس و أخذ حفنة من تراب البطحاء و ضرب بها

وجه إياس و قال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت اياس و قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنهم و انصرفوا الى المدينة، و كانت وقعة بعاث بين الأوس و الخزرج و لم يلبث اياس ان هلك، و قد سمعه قوم حضروا عند وفاته يهلّل اللّه تعالى و يكبّره و يحمده و يسبّحه حتى مات، فما كانوا يشكّون أنه قد مات مسلما، و لقد استشعر الاسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما سمع «1».

(2)

وقعة بعاث:
اشارة

كانت وقعة بعاث من الحروب التاريخية بين الأوس و الخزرج، ففي هذه

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 427 و 428.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:568

الوقعة انتصر الأوسيون على منافسيهم، و أحرقوا نخيل الخزرجيين، ثم وقعت بعد ذلك حروب و مصالحات بينهم.

و لم يشترك «عبد اللّه بن ابيّ» و هو من أشراف الخزرج في هذه الوقعة من هنا كان موضع احترام من القبيلتين، و كاد الطرفان يفقدان مقاومتهما بسبب تكرر الحروب، و تحمّل الخسائر الثقيلة، و لهذا رغب الطرفان في عقد صلح بينهما يضع حدّا لجميع أشكال العمليات العسكرية، و الغزو و الاقتتال، و الثأر و الانتقام، و أصرّت القبيلتان على «عبد اللّه بن ابي» بان يقبل بقيادة عمليّة المصالحة هذه، بل و أعدوا له تاجا يتوّجونه به، حتى يصبح أميرا في وقت معيّن، و لكن هذا المشروع تعرض للانهيار و السقوط و واجهت الفشل على أثر اعتناق جماعة من الخزرج الاسلام، ففي هذا الوقت بالذات التقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكة بستة اشخاص من رجال الخزرج و دعاهم الى الاسلام فآمنوا به، و لبّوا دعوته.

(1)

تفصيل الحادث:

خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كلّ موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الانصار و كانوا ستة انفار من الخزرج فقال لهم: أمن موالي اليهود؟ و هل لكم حلف معهم.

قالوا: نعم.

قال: أ فلا تجلسون أكلّمكم؟

قالوا: بلى.

فجلسوا معه، فدعاهم إلى اللّه عزّ و جلّ و عرض عليهم الاسلام و تلا عليهم القرآن، فاحدثت كلمات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في نفوسهم أثرا عجيبا، و ممّا ساعد على ذلك أن

يهودا كانوا معهم في بلادهم، و كانوا أهل كتاب و علم، و كانوا هم أهل شرك و أصحاب أوثان، و كان اليهود قد غزوهم في بلادهم،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:569

فكانوا إذا وقع بينهم نزاع و كان بينهم شي ء قال اليهود لهم: إن نبيا مبعوث الآن، قد اظلّ (او أطلّ) زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد و إرم، فكانت اليهود تخبر بخروج نبيّ من العرب ينشر التوحيد، و تنتهي على يديه حكومة الوثنية و الشرك، قد قرب ظهوره.

(1) فلما كلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اولئك النفر، و دعاهم إلى اللّه، قال بعضهم لبعض يا قوم: تعلّموا و اللّه إنه للنبيّ الذي توعّدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه.

فاجابوه فيما دعاهم إليه، بان صدّقوه و قبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام، و قالوا: إنا قد تركنا قومنا، و لا قوم بينهم من العداوة و الشر مثل ما بينهم، فعسى أن يجمعهم اللّه بك، فستقدم عليهم فندعوهم الى أمرك، و نعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل اعز منك «1».

(2)

بيعة العقبة الاولى:

لقد أثّرت دعوة هؤلاء الستة، الجادة في يثرب تأثيرا حسنا حيث سبّبت في إسلام فريق من اهل يترب و اعتناقهم عقيدة التوحيد.

فلما كان العام المقبل (أي السنة الثانية عشرة من البعثة) قدم مكة اثنا عشر رجلا من اهل يثرب، فلقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالعقبة، و انعقدت هناك أوّل بيعة اسلامية.

و ابرز هؤلاء الرجال هم: أسعد بن زرارة، و عبادة بن الصامت، و كان نص هذه البيعة- بعد الاعتراف- بالاسلام و الايمان باللّه و رسوله هو:

بايعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن لا نشرك

باللّه شيئا، و لا نسرق، و لا نزني، و لا نقتل أولادنا، و لا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا و أرجلنا و لا نعصيه في معروف.

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 86، و السيرة النبوية: ج 1 ص 427 و 428، بحار الأنوار: ج 19 ص 25.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:570

(1) فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن وفيتم فلكم الجنة، و ان غشّيتم من ذلك شيئا فامركم إلى اللّه عزّ و جل إن شاء عذّب، و ان شاء غفر.

و هذه البيعة اصطلح على تسميتها المؤرخون و كتّاب السيرة ببيعة النساء، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اخذ البيعة من النساء في فتح مكة على هذا النحو «1».

و عاد هؤلاء النفر الى يثرب بقلوب مفعمة بالايمان، مترعة بمحبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعمدوا الى نشر الاسلام، و كتبوا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبعث لهم من يعلّمهم الاسلام و القرآن، فبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لهم «مصعب بن عمير» و أمره بان يقرّ أهم القرآن، و يعلمهم الاسلام، و يفقّههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة.

و استطاع هذا المبلّغ القدير، و هذا الداعية النشيط ان يجمع المسلمين بفضل عمله الدؤوب و الحكيم، و تبليغه الصحيح في غياب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يؤمّهم، و يصلي بهم «2».

(2)

بيعة العقبة الثانية:

لقد أحدث تقدم الاسلام في يثرب هيجانا كبيرا و شوقا عجيبا في نفوس المسلمين من أهلها، فكانوا ينتظرون بفارغ الصبر حلول موسم الحجّ، ليقدموا مكة، و يلتقوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن كثب، و يظهروا له عن استعدادهم لتقديم ما

يطلب منهم من خدمة و عمل، و ليستطيعوا توسيع نطاق البيعة من حيث الكمّ و من حيث الكيف.

و أخيرا حلّ موسم الحجّ فخرجت قافلة كبيرة من أهل يثرب للحجّ تضمّ خمسمائة نفرا فيهم ثلاث و سبعون من المسلمين من بينهم امرأتان، و الباقي إما راغبون في الاسلام، و اما غير مكترث به، حتى قدموا مكّة، و التقوا برسول اللّه

______________________________

(1) و التي جاء ذكرها في الآية 12 من سورة الممتحنة.

(2) السيرة النبوية: ج 1 ص 434، بحار الأنوار: ج 19 ص 25.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:571

صلّى اللّه عليه و آله فواعدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالعقبة للبيعة اذا قال: «موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق».

(1) فلما كانت الليلة الثالثة عشرة من شهر ذي الحجة و هي التي واعدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيها باللقاء، و نام الناس حضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع عمّه «العباس بن عبد المطلب» قبل الجميع، و خرج المسلمون من رحالهم يتسلّلون تسلل القطا مستخفين بعد أن ناموا مع قومهم في رحالهم، و مضى ثلث الليل لكيلا يحسّوا بخروجهم، حتى اجتمعوا في الشعب عند العقبة، و لما استقرّ المجلس بالجميع، كان أوّل متكلم هو: العباس بن عبد المطلب فقال واصفا منزلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا معشر الخزرج- و كانت العرب تسمي هذا الحي من الانصار الخزرج خزرجها و أوسها- إنّ محمّدا منّا حيث قد علمتم، و قد منعناه من قومنا، فهو في عزّ من قومه، و منعة في بلده، و إنّه قد أبى إلا الانحياز إليكم، و اللحوق بكم، فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، و

مانعوه ممّن خالفه فأنتم و ما تحملتم من ذلك، و إن كنتم ترون أنكم مسلموه و خاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه فانه في عزّ و منعة من قومه و بلده.

فقال الحضور: قد سمعنا ما قلت فتكلّم يا رسول اللّه، فخذ لنفسك و لربك ما أحببت.

فتكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتلا القرآن و دعا إلى اللّه و رغّب في الاسلام، ثم قال: ابايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم و أبناءكم.

(2) فقام البراء بن معرور و أخذ بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: نعم و الذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنّك مما نمنع منه ازرنا «1» فبايعنا يا رسول اللّه فنحن و اللّه

______________________________

(1) الملاحظ في هذه البيعة انها كانت بيعة للدفاع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ليس بيعة للجهاد في سبيل اللّه، و لهذا فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقدم على القتال في بدر إلا بعد ان كسب موافقة الانصار و رضاهم.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:572

ابناء الحروب و اهل الحلقة (اي السلاح) ورثناها كابرا عن كابر.

فدب في الحضور حماس و سرور عظيم و تعالت الاصوات و الندءات من الخزرجيين و التي كانت تعبيرا عن شدة حماسهم، و سرورهم لهذا الأمر، فقال العباس و هو آخذ بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1) و في هذا الاثناء نهض «البراء بن معرور» و «أبو الهيثم بن التيهان» و «أسعد بن زرارة» من مواضعهم و بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم بايعه بقية القوم جميعا.

و قد قال ابن التيهان عند مبايعته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يا رسول اللّه إن

بيننا و بين الرجال (اي اليهود) حبالا (و علاقات) و إنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه، أن ترجع إلى قومك و تدعنا؟

فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم قال: «بل الدم الدم، و الهدم الهدم احارب من حاربتم و اسالم من سالمتم» يعني أنه سيبقى على العهد، و لا يتركهم و كانت العرب تقول عند عقد الحلف: دمي دمك، و هدمي هدمك، و هي كناية عن البقاء على العهد و احترام الميثاق و الحلف.

(2) ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: اخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم «1».

فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا فقال صلّى اللّه عليه و آله لأولئك النقباء: انتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم و أنا كفيل على قومي (يعني المسلمين) فابايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم و أبناءكم».

فقالوا: نعم و بايعوه على ذلك.

و كان النقباء الذين اختيروا لذلك تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس و قد ضبطت أسماؤهم و خصوصياتهم في التاريخ.

______________________________

(1) المحبر: ص 268- 274.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:573

و بعد أن تمّت مراسم البيعة وعدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يهاجر إليهم في الوقت المناسب، ثم ارفض الجمع و عاد القوم إلى رحالهم «1».

(1)

أوضاع المسلمين بعد بيعة العقبة:

و الآن ينبغي أن نجيب بالتفصيل على السؤال الذي يطرح نفسه هنا و هو:

ما الذي دعى أهل يثرب الذين كانوا بعيدين عن مركز ظهور الاسلام إلى ان يستجيبوا لنداء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و يأخذوا بتعاليمه اسرع من المكيين مع ما كان بين المكيين و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله من القرابة القريبة؟!

و كيف تركت تلك اللقاءات المعدودة القصيرة بأهل يثرب آثارا تفوق الآثار التي تركتها الدعوة المحمّدية خلال ثلاثة عشر عاما في مكة؟!

إن علة هذا التقدم يمكن اختصارها و حصرها في أمرين:

(2) أوّلا: أن اليثربيّين جاوروا اليهود سنينا عديدة و طويلة قبل الاسلام، و كثيرا ما كانوا يتحدّثون في مجالسهم و أنديتهم عن النبيّ العربيّ الذي يظهر، و يأتي بدين جديد.

حتى أن اليهود كانوا يقولون: للوثنيين إنّ هذا النبيّ سيقيم دين اليهود و ينشره، و يمحي الوثنية و يقضي عليها بالمرة.

فتركت هذه الكلمات أثرا عجيبا في نفوس أهل يثرب، و هيّأت قلوبهم لقبول الدين الذي كان بخبر عنه يهود و ينتظرونه، بحيث عند ما التقى الانفار الستة من اهل المدينة الى الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأوّل مرّة، بادروا الى

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 25 و 26، السيرة النبوية: ج 1 ص 441- 450، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 221- 223.

و في رواية اخرى في البحار: ج 19 ص 47، كما اخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا و قد كان هذا العمل النبوي حكيما جدا لان عامة الناس لا يمكن التعويل و الاتكال على التزاماتهم بل لا بد من الاعتماد- ضمنا- على رموز المجتمع و مفاتيحه و هم وجوه القوم و سراتهم.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:574

الايمان به من غير إبطال و لا تأخير بعد أن قال بعضهم لبعض: و اللّه إنّه للنبيّ الذي توعّدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه.

(1) و من هنا فان مما يأخذه القرآن على اليهود هو: أنكم كنتم تهددون الوثنيين بالنبيّ العربيّ، و تبشرون الناس بانه سيظهر، و انهم قرءوا أوصافه و علائمه في التوراة،

فلما ذا رفضوا الإيمان به لمّا جاء صلّى اللّه عليه و آله.

يقول تعالى:

«وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» «1».

(2) ثانيا: إنّ العامل الأخير الذي يمكن اعتباره دخيلا في التأثير في نفوس اليثربيين و سرعة إقبالهم على الإسلام و تقبّلهم لدعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو التعب و الارهاق الذي كان اهل يثرب قد اصيبوا به من جرّاء الحروب الطويلة الدامية فيما بينهم و التي استمرّت مائة و عشرين عاما و التي انهكتهم و كادت أن تذهب بما تبقّى من رمقهم، و جعلتهم يملّون الحياة، و يفقدون كلّ أمل في تحسّن الأحوال و الاوضاع.

و إن مطالعة وقعة «بعاث» و هي- حرب وقعت بين الأوس و الخزرج- وحدها كفيلة بأن تجسد لنا الوجه الواقعي الذي كان عليه سكان تلك الديار.

(3) ففي هذه الوقعة انهزم الاوسيّون على يد الخزرجيين، فهربوا الى «نجد»، فعيّرهم الخزرجيّون بذلك، فغضب «الحضير» سيد الأوس، لذلك غضبا شديدا، فطعن فخذه برمحه لشدة انزعاجه و غضبه، و ترجّل عن فرسه و صاح بقومه قائلا:

و اللّه لا أقوم من مكاني هذا حتى اقتل!! فأوقد صمود «الحضير» و ثباته نار الحمية و الغيرة و اشعل روح الشهامة و البسالة في قومه، فقرروا الدفاع عن حقهم مهما كلفهم الأمر، فقاتلوا أعداءهم مستميتين، و المستميت منتصر لا محالة، فانتصر

______________________________

(1) البقرة: 89.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:575

الأوسويون المغلوبون، هذه المرة، و هزموا الخزرج هزيمة نكراء و احرقت مزارعهم و نزل بهم ما نزل على يد الاوسيين!! «1».

(1) ثم تتابعت الحروب و المصالحات بعد ذلك، و كانت القبيلتان تتحملان في

كل مرة خسائر كبرى، جعلتهم يواجهون عشرات المشاكل التي حوّلت حياتهم الى حياة مضنية متعبة جدا.

من هنا لم تكن كلتا القبيلتين راضيتين على أوضاعهما، و كانتا تبحثان عن مخلص مما هما فيه، من الحالة السيئة، و تفتشان عن نافذة أمل، و مخرج من تلك المشاكل.

و لهذا وجد الخزرجيون الستة ضالّتهم المنشودة عند ما التقوا- و لاول مرّة- رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سمعوا منه ما سمعوا، فتمنّوا أن يضعوا به حدا لاوضاعهم المتردية إذ قالوا له: عسى أن يجمعهم اللّه بك فان جمعهم اللّه بك فلا رجل أعزّ منك.

كانت هذه هي بعض الأسباب التي دعت اليثربيين إلى تقبّل الاسلام بشوق و رغبة و حماس.

(2)

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة:

كانت قريش تغطّ في نوم عميق و كانت تتصور بانها قد حدّت من تقدم الاسلام في مكة و انه قد بدأ يتقهقر و يسير باتجاه السقوط و الاندحار، و أنه لن ينقضي زمان إلّا و تنطفئ جذوة الاسلام و تخمد شعلته، و تنمحي آثاره.

و فجأة استيقظت على دويّ بيعة العقبة الثانية التي كانت بمثابة انفجار قلبت كل المعادلات، و أسقطت كل تصورات قريش الساذجة، و ذلك عند ما عرف زعماء الوثنيين بأن ثلاثا و سبعين شخصا من اليثربيين عقدوا ليلة أمس و تحت جنح الظلام بيعة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن يدافعوا عنه كما

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 1 ص 417 و 418.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:576

يدافعون عن أبنائهم و أهليهم.

(1) فأحدث هذا النبأ خوفا عجيبا في قلوب قادة قريش و سادة مكة المشركين المتغطرسين، لانهم أخذوا يقولون مع أنفسهم: لقد وجد المسلمون الآن قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية، و انه يخشى أن يجمع

المسلمون كل طاقاتهم المبعثرة فيها، و يعملون معا على نشر دينهم، و بث عقيدتهم، و حينئذ ستواجه الوثنية في مكة خطرا جديا، يهدّدها في الصميم.

و لهذا بادرت قريش إلى الاتصال بالخزرجيين صبيحة تلك الليلة و قالوا لهم:

يا معشر الخزرج انه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا، و تبايعونه على حربنا، إنه و اللّه ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا و بينهم، منكم.

فحلف المشركون من أهل يثرب لقريش أنه ما كان من هذا شي ء، و ما علموه، و قد صدقوا لأنهم لم يعلموا بما جرى في العقبة. فان قافلة اليثربيين كانت تضمّ خمسمائة شخص، تسلّل منهم ثلاث و سبعون فقط الى العقبة و بقية الناس نيام لا يعلمون بشي ء.

(2) فأتت قريش إلى «عبد اللّه بن ابيّ بن سلول» فسألوه عمّا جرى في ليلة العقبة، فأنكر ذلك و قال: إنّ هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا (أي يعملوه من دون مشورتي) و ما علمته كان، فنهض رجال قريش من عنده ليتابعوا تحقيقهم حول الحادث.

فعرف المسلمون الذين حضروا ذلك المجلس و بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يفشوا أمرهم، و انكشاف سرهم، و لهذا قال بعضهم لبعض: ما دمنا لم نعرف بعد فلنخرج من مكة فورا قبل ان يظفر المشركون بنا، و لهذا أسرعوا في الخروج من مكة و التوجّه الى المدينة، فزاد ذلك من سوء ظن قريش و عزّزت شكوكهم حول البيعة، و عرفوا بانه قد كان، فخرجوا في طلب جميع اليثربيين، و لكنهم لم يتنبهوا لذلك إلّا بعد خروج قافلة اليثربيين من حدود مكة، و المكيين، و لم تظفر قريش

إلّا بسعد بن عبادة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:577

(1) غير أن ابن هشام يرى بأنّهم ظفروا بنفرين هما: «سعد بن عبادة» و «المنذر بن عمر»، و كان كلاهما من النقباء الاثني عشر.

و أما «المنذر» فاستطاع أن يخلّص نفسه منهم.

و أما «سعد» فقد أخذوه، و ربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه، و يجذبونه بجمّته «1» و كان ذا شعر كثير.

يقول سعد:

فو اللّه إنّي لفي أيديهم إذ طلع عليّ نفر من قريش فيهم رجل وضي ء أبيض، طويل القامة، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا.

قال: فلما دنى منّي رفع يده فلكمني لكمة شديدة.

فقلت في نفسي: لا و اللّه، ما عندهم بعد هذا من خير.

قال: فو اللّه إنّي لفي أيديهم يسحبونني إذ رقّ عليّ رجل كان معهم، فقال:

ويحك أما بينك و بين أحد من قريش جوار و لا عهد؟

قلت: بلى كنت اجير لجبير بن مطعم بن عدي تجارة، و أمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي.

فذهب ذلك الرجل الى مطعم و أخبره بما فيه سعد بن عبادة من الحال، و أنه أخبره بأنه كان يجير لمطعم تجارة فقال مطعم: صدق و اللّه إنه كان ليجير لنا تجارة، و يمنعهم أن يظلموا ببلده ثم أسرع إلى سعد و خلّصه من أيديهم.

و كان رفقاء سعد من المسلمين قد علموا بوقوعه في أيدي قريش في أثناء الطريق إلى المدينة، فعزموا على أن يعودوا إلى مكة و يخلّصوه من أيدي المشركين، و بينما هم كذلك إذ بدى لهم «سعد» من بعيد، و أخبرهم بما جرى عليه «2».

(2)

تأثير الاسلام و نفوذه المعنوي:

يصر المستشرقون على أن انتشار الاسلام و نفوذه في المجتمعات تمّ بواسطة

______________________________

(1) مجتمع شعر الرأس.

(2) السيرة النبوية: ج

1 ص 449 و 450.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:578

السيف و في ظلّ استخدام القوّة.

اما بطلان هذا الكلام فسيثبت من خلال الحوادث القادمة.

و نحن نذكر هنا للمثال حادثة وقعت قبل الهجرة، و نلفت إليها نظر القارئ الكريم، فان دراستها و التعمق فيها يثبت بجلاء ان انتشار الاسلام و نفوذه في أوساط الناس كان في بداية الأمر نابعا من جاذبيته التي كانت تجذب كل انسان بمجرد اعطاء شرح مختصر عنه و عن تعاليمه المحببة إليه.

و إليك الحادثة بنصها:

(1) قرر مصعب بن عمير المبلّغ و الداعية الاسلامي المعروف الذي بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى المدينة بطلب من اسعد بن زرارة، ذات يوم أن يدعو هو و اسعد أشراف المدينة و ساداتها الى الاسلام بالمنطق و الدليل فدخلا حائطا «1» من حوائط المدينة فجلسا هناك و اجتمع إليهما رجال ممن اسلم، و كان سعد بن معاذ و اسيد بن حضير و هما من سادات بني الاشهل موجودين هناك أيضا.

فقال سعد لا سيد: جرّد حربتك و قل لهذين (يعني مصعبا و اسعد) ما ذا جاء بهما الى ديارنا يسفهان ضعفاءنا، و لو لا أن سعد بن زرارة ابن خالتي، لكفيتك ذلك.

(2) ففعل اسيد ذلك و قال لمصعب ما جاء بكما إلينا تسفّهان ضعفاءنا و راح يشتمهما فقال له مصعب داعية الاسلام الحكيم، و المتكلم البليغ الذي تعلّم اسلوب الدعوة المؤثر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو تجلس فتسمع، فان رضيت أمرا قبلته، و ان كرهته كفّ عنك ما تكره؟

قال: أنصفت ثم ركّز حربته و جلس إليهما يستمع لقولهما فكلّمه مصعب بالاسلام، و قرأ عليه شيئا من القرآن، فأثّرت آيات القرآن و ما قاله مصعب من

المواعظ البليغة في نفسه حتى عرف ذلك في إشراق وجهه، و انفراج اساريره، و شوقه فقال: ما احسن هذا الكلام و اجمله؟! كيف تصنعون إذا اردتم أن تدخلوا

______________________________

(1) بستانا.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:579

في هذا الدين؟ فقال مصعب و سعد له: تغتسل فتطهر و تغسل ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي.

(1) فقام اسيد بن حضير الذي حضر لقتل مصعب و سعد من عندهما مبتهجا مسرورا فاغتسل و طهر ثوبيه و تشهّد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين.

ثم قال لهما: ان ورائي رجلا إن أتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه و سأرسله إليكما الآن، ثم اخذ حربته و انصرف الى سعد بن معاذ الذي كان ينتظر عودته على احر من الجمر فلما نظر إليه سعد و قومه و هم جالسون في ناديهم قال:

أحلف باللّه لقد جاءكم اسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب من عندكم فلما وقف على النادي قال له سعد ما فعلت؟

(2) قال: كلّمت الرجلين، فو اللّه ما رأيت بهما بأسا، و قد نهيتهما، فقالا: نفعل ما احببت، فغضب سعد لذلك غضبا شديدا، و أخذ الحربة من اسيد، ثم خرج الى مصعب و اسعد ليقتلهما، فلما رآهما سعد مطمئنين وقف عليهما متشتما مهددا اياهما، و لكن مصعبا و زميله قابلاه بمثل ما قابلا به سابقه اسيد، و جرى له ما جرى له، فقد فعلت كلمات مصعب في نفسه فعلتها، و خضع لمنطقه القوي، و بيانه الساحر، و ندم على ما قصد فعله، و قال لمصعب نفس ما قاله اسيد و اعتنق الاسلام و اغتسل و تطهر و صلى ثم رجع الى قومه و قال لهم: يا بني عبد الاشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا

و افضلنا رأيا و ايمننا نقيبة.

قال: فان كلام رجالكم و نسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا باللّه و برسوله فالحمد للّه الذي اكرمنا بذلك.

فلم يمس في دار بني عبد الاشهل رجل و لا امرأة إلّا مسلما أو مسلمة، و هكذا أسلم كلّ قبيلة بني الأشهل قبل أن يروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصبحوا من الدعاة إلى الاسلام و المدافعين عن عقيدة التوحيد، لا بمنطق القوة انما بقوة المنطق «1».

______________________________

(1) إعلام الورى: ص 59، بحار الأنوار: ج 19 ص 10 و 11، السيرة النبوية: ج 1 ص 436 و 437.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:580

(1) ان في التاريخ الاسلامي نماذج كثيرة من هذا القبيل تدل على بطلان و تفاهة ما قاله أو روّجه المستشرقون حول أسباب تقدّم الاسلام و انتشاره، فان العامل المعتمد في جميع هذه الموارد لم يكن المال و التطميع، و لا السلاح و التهديد، كما ادعى المستشرقون، و ان الذين اسلموا في هذه الحوادث و الوقائع لا هم رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا أنهم التقوا أو اتصلوا به بنحو من الانحاء، انما كان السبب الوحيد هو: منطق الداعية الاسلامي القويّ و بيانه الساحر الجذاب، فهو الذي كان يفعل في النفوس فعله العجيب، خلال دقائق معدودة، لا في نفس شخص واحد فحسب، بل ربما في نفوس قبيلة بكاملها.

اجل انه المنطق القوي و الكلام المبرهن و الحجة البالغة لا سواها.

(2)

مخاوف قريش المتزايدة:

لقد ايقظت حماية اليثربيين للمسلمين قريشا من غفلتها و نومها العميق مرة اخرى، و كانت بيعة العقبة الثانية بمثابة ناقوس خطر لها فبدأت أذاها و اضطهادها و مضايقتها لهم من جديد، و تهيأت للعمل على الحيلولة دون انتشار الاسلام و نفوذه

و تقدمه في الجزيرة العربية، و بلغ ذلك الاذى مبلغا عظيما.

فشكى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليه ما يلقونه على أيدي المشركين من ضغوط و أذى، و استأذنوه في الهجرة الى مكان فاستمهلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اياما ثم قال:

«لقد اخبرت بدار هجرتكم و هي يثرب فمن اراد الخروج فليخرج إليها» «1».

و بعد الاذن بالهجرة من قبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذ المسلمون يخرجون من مكة، و يتوجهون الى المدينة شيئا فشيئا و بحجج مختلفة لكي لا تمنعهم قريش من الهجرة.

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 226.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:581

(1) و لم يكن قد مضى على بداية هجرة المسلمين التدريجية هذه زمان طويل الا و فطن زعماء قريش لسرها، و خطرها عليهم فاخذوا يمنعون من أي تنقل و سفر يقوم به المسلمون، و قرروا ان يعيدوا الى مكة كل من وجدوه في اثناء الطريق، كما قرروا ان يحبسوا زوجة كل مسلم يريد الهجرة و له زوجة قرشية و يمنعوها عنه، و لكنهم كانوا يتجنبون اراقة الدماء في هذا السبيل، بل و كان يقتصر اذاهم على الحبس و التعذيب و لا يتعداهما.

و لكن هذه المحاولات التي قام بها زعماء قريش لوقف الهجرة الى المدينة لم تثمر لحسن الحظ [1].

فقد استطاعت مجاميع كبيرة من المسلمين النجاة بنفسها من أيدي قريش و اللحاق بزملائهم و اخوانهم في يثرب حتى انه لم يبق في مكة من المسلمين إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السلام و عدد قليل من المسجونين، أو المرضى من المسلمين.

(2) و قد زاد اجتماع المسلمين في يثرب من مخاوف قريش، و ضاعف من قلقها،

و لهذا اجتمع كل رؤساء القبائل المكية في «دار الندوة» اكثر من مرة للتشاور في كيفية القضاء على الاسلام و طرحت في ذلك المجلس خطط متنوعة، و اقترحت امور كثيرة لتحقيق هذه الغاية و لكنها فشلت برمتها بتدبير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حكمته، و سياسته الدقيقة.

و أخيرا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من «مكة» إلى «المدينة» في شهر ربيع الاوّل سنة 14 من البعثة.

اجل لقد تضاعف قلق قريش منذ أن حصل محمّد على قاعدة ثانية خارجة عن نطاق هيمنة المكيين و سيطرتهم و اصبحوا حيرى لا يدرون ما ذا يفعلون، لان جميع خططهم للمنع من انتشار الاسلام، و اتساع رقعته، قد باءت بالفشل.

(3) لقد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بالهجرة الى المدينة و الالتحاق

سيد المرسلين ،ج 1،ص:582

بالانصار و قال لهم: «إنّ اللّه قد جعل لكم دارا و إخوانا تأمنون بها» «1» «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 26.

(2) لقد انتهينا من تسجيل حوادث السنوات الثلاث عشرة من البعثة، و قد حاولنا ذكر كل ما كان معلوما مشهورا من تواريخها، و لكن لا يمكن اعتبار تواريخ كل تلك الحوادث امورا مقطوعا بها، من هنا ذكرنا الحوادث المثبتة في الفصل 24 من دون ادراج تواريخ لها في الاغلب و لكن حيث أن الوقائع الحادثة بعد الهجرة وقعت في أوقات معينة معلومة لذلك فاننا سنرفق ذكر كل حادثة بتاريخ وقوعها في الفصول القادمة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:583

(1)

25 قصّة الهجرة

حوادث السنة الاولى من الهجرة
اشارة

كان زعماء قريش و رؤساؤها يجتمعون عند كل نائبة تنوبهم في «دار الندوة» لحل المشاكل و معالجة ما عرض لهم من نائبة من خلال التشاور حولها و تداول الرأي فيها، و من خلال

تضافر الجهود على حلها، و رفعها أو دفعها.

و في السنوات: الثانية عشرة، و الثالثة عشرة من البعثة واجه أهل مكة خطرا كبيرا جدّيا، فقد حصل المسلمون على مركز هام، و قاعدة صلبة في يثرب، و تعهّد اليثربيون الشجعان بحماية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الدفاع عنه، و كل هذا كان من علامات و مظاهر ذلك التهديد الخطير، الذي بات يهدد كيان المشركين و الوثنيين و الزعامة القرشية.

(2) و في شهر ربيع الاوّل من السنة الثالثة عشرة من البعثة التي وقعت فيه هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بينما لم يكن قد بقي من المسلمين في مكة إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي و أبو بكر و جماعة قليلة من المسلمين المحبوسين، أو المرضى، أو العجزة، و كان هؤلاء على أبواب الهجرة و مغادرة مكة الى المدينة اتخذت قريش فجأة قرارا قاطعا و حاسما و خطيرا جدا في هذا المجال.

فقد انعقدت جلسة هامة للتشاور في «دار الندوة» حضرها رؤساء قريش

سيد المرسلين ،ج 1،ص:584

و زعماؤها و بدأ متكلمهم «1» يتحدث عن تجمع القوى و العناصر الاسلامية و تمركزها في المدينة و البيعة التي تمت بين الخزرجيين و الأوسيين و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم اضاف قائلا:

(1) يا معشر قريش إنه لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا، نحن أهل اللّه تفد إلينا العرب في السنة مرتين، و يكرموننا، و نحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا «محمّد بن عبد اللّه» فكنّا نسمّيه (الأمين) لصلاحه، و سكونه، و صدق لهجته، حتى إذا بلغ ما بلغ و أكرمناه ادّعى

أنه رسول اللّه، و أن أخبار السماء تأتيه، فسفّه أحلامنا، و سبّ آلهتنا، و أفسد شبّاننا، و فرق جماعتنا، فلم يرد علينا شي ء أعظم من هذا، و قد رأيت فيه رأيا، رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله، فان طلبت بنو هاشم بدمه «2» اعطيناهم عشر ديات.

فقال رجل مجهول حضر ذلك المجلس و وصف نفسه بانه نجدي: ما هذا برأي لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة، فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؟ فانه اذا قتل محمّد تعصّب بنو هاشم و حلفاؤهم من خزاعة، و إن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على وجه الارض فيقع بينكم الحروب و تتفانوا.

(2) فقال أبو البختري: نلقيه في بيت و نلقي إليه قوته حتى يأتيه ريب المنون.

فقال الشيخ النجديّ مرة اخرى: و هذا رأي أخبث من الآخر، لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فاذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم، و اجتمعوا عليكم فاخرجوه.

فقال ثالث: نخرجه من بلادنا و نتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا، أو قال نرحّل بعيرا صعبا و نوثّق محمّدا عليه كتافا، ثم نضرب البعير بأطراف الرماح فيوشك أن يقطّعه بين الصخور و الجبال إربا إربا.

(3) فانبرى ذلك النجدي يخطّئ هذا الرأي أيضا قائلا: أ رأيتم إن خلص به

______________________________

(1) و روي انه كان المتكلم: أبو جهل.

(2) و في رواية: بديته.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:585

البعير سالما إلى بعض الناس فأخذ بقلوبهم بسحر بيانه و طلاقة لسانه، فصبأ «1» القوم إليه، و استجابت القبائل له قبيلة فقبيلة، فليسيرنّ حينئذ إليكم الكتائب و الجيوش فلتهلكنّ كما هلكت أياد و من كان قبلكم.

فتحيّروا و ساد الصمت ذلك المجلس، و فجأة قال أبو جهل (و على رواية:

قال ذلك الشيخ النجدي): ليس

هناك من رأي إلّا أن تعمدوا الى قبائلكم فتختاروا من كل قبيلة منها رجلا قويا ثم تسلّحوه حساما عضبا و ليهجموا عليه معا بالليل و يقطعوه إربا إربا فيتفرق دمه في قبائل قريش جميعا فلا تستطيع بنو هاشم و بنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلها في صاحبهم فيرضون حينئذ بالدية منهم!!

فاستحسن الجميع هذا الرأي، و اتفقوا عليه، ثم اختاروا القتلة و تقرّر ان يقوموا بمهمتهم اذا جنّ الليل و ساد الظلام كل مكان «2».

(1)

الإمدادات الغيبية و العنايات الالهية:

لقد كان اولئك العتاة الجهلة يتصورون أن رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله المدعومة من قبل اللّه تعالى و المؤيّدة من جانبه سبحانه يمكن ان يقضى عليها بواسطة هذه الحيل و المكائد، و الخطط و المؤامرات، و لم يكونوا يدركون أن هذا النبيّ- كغيره من الأنبياء- يتمتع بالمدد الالهيّ الغيبي، و ان اليد التي حفظت مشعل الاسلام طوال ثلاثة عشر عاما في وجه الاعاصير و الرياح، قادرة على افشال هذه الخطة الاثيمة، و تعطيل هذه المؤامرة أيضا.

يقول المفسرون: بعد أن دبّر الكفار ما دبروا نزل ملك الوحي «جبرئيل»، على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بما حاك ضدّه المشركون من مؤامرة اذ

______________________________

(1) صبأ فلان: أي خرج من دين إلى دين غيره و كانت العرب تسمّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الصابئ لأنه خرج من دين قريش إلى دين الاسلام و تسمي المسلمين: الصباة. و هو جمع الصابئ.

(2) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 227 و 228 السيرة النبوية: ج 1 ص 480- 482.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:586

قرأ عليه قول اللّه تعالى:

«وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ

الْماكِرِينَ» «1».

(1) و عندئذ امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالهجرة من مكة إلى المدينة، و لكنّ التخلص من أيدي القساة المكلّفين بقتله من قبل زعماء الوثنيين و بالنظر الى المراقبة الدقيقة التي كانوا يقومون بها لجميع التحركات، لم يكن بالأمر السهل و خاصة بالنظر الى بعد المسافة بين مكة و المدينة.

فاذا لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخرج من مكة وفق خطة دقيقة صحيحة كان من المحتمل جدا أن يدركه المكيّون في أثناء الطريق و يقبضوا عليه و يسفكوا دمه الشريف قبل ان يصل الى أتباعه و أصحابه.

و لقد ذكر المفسرون و المؤرخون صورا مختلفة لكيفية خروجه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هجرته و الاختلاف الذي نلاحظه بين هؤلاء المفسرين و المؤرخين في خصوصيات و تفاصيل هذه الواقعة مما يقل نظيره في غيره من الوقائع.

و قد استطاع مؤلف «السيرة الحلبية» أن يوفّق الى درجة ما، بين المنقولات و المرويات المختلفة ببيان خاص، و لكنه لم يوفّق لازالة التناقض و الاختلاف في بعض الموارد في هذا الصعيد.

(2) على أنّ الموضوع الجدير بالاهتمام هو أن اكثر المؤرّخين الشيعة و السنة نقل كيفية هجرة النبيّ، و خروجه من منزله، ثم من مكة بنحو مؤداه إسناد نجاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خلاصه إلى عامل الاعجاز، و بالتالي فقد اسبغوا عليه صبغة الكرامة، و المعجزة.

في حين أن الإمعان في تفاصيل هذه القصة يكشف عن أن نجاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كانت نتيجة سلسلة من الإجراءات الاحترازية، و التحسبات، و التدابير الحكيمة، و إن إرادة اللّه تعالى تعلّقت بان ينجّي نبيّه

______________________________

(1) الانفال: 30، ليثبتوك أي ليسجنوك.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:587

الكريم،

عن طريق الأسباب العادية المألوفة، و ليس عن طريق التدخّل الغيبيّ و إعمال قدرته تعالى الغيبية.

و يدل على هذا المطلب أنّ النبيّ توسل بالعلل الطبيعية، و الوسائل و الأسباب العادية (كمبيت شخص في فراش النبيّ، و اختفاء رسول اللّه في الغار و غير ذلك مما سيأتي ذكره)، و بهذا الطريق نجّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه، و تخلّص من أيدي اعدائه، العازمين على إراقة دمه.

(1)

ملك الوحي يخبر رسول اللّه:

لقد اخبر ملك الوحي «جبرئيل» رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخطة قريش المشؤومة لاغتياله و امره بالهجرة، و تقرر- بغية إفشال عملية الملاحقة- ان يبيت شخص في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليتصوّر المشركون أنّ النبيّ لا يزال في منزله، و لم يخرج بعد، و بالتالي يركّزوا كلّ اهتمامهم على محاصرة البيت، و ينصرفوا عن مراقبة طرقات مكة، و نواحيها.

و لقد كانت فائدة هذا العمل اي حصر اهتمام المراقبين ببيت النبيّ انه تسنى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اغتنام الفرصة و الخروج من مكة، و الاختفاء في مكان ما من دون ان يحس به أحد من الذين باتوا يراقبون بيته، و يبغون قتله.

(2) و الآن يجب أن نرى من الذي تطوّع للمبيت في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فدى النبيّ بنفسه، و وقاه بحياته؟

ستقولون حتما: إن الذي سبق جميع المسلمين الى الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فدى النبيّ بنفسه، و وقاه بحياته؟

ستقولون حتما: إن الذي سبق جميع المسلمين الى الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بقي من بدء بعثته و الى ذلك الحين يذب عنه، هو الذي يتعيّن أن

يضحّي بنفسه في هذا السبيل، و يقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحياته في هذه اللحظة الخطيرة، و هذا المضحّي بحياته و نفسه، هو «عليّ» ليس سواه احد، انه تقدير صحيح، و حدس مصيب.

فليس غير «علي» يصلح لهذه المهمة الخطيرة.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:588

و لهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السلام:

«يا عليّ إنّ قريشا اجتمعت على المكر بي و قتلي، و إنّه اوحي إليّ عن ربّي أن اهجر دار قومي، فنم على فراشي و التحف ببردي الحضرميّ لتخفي بمبيتك عليهم أثري فما أنت قائل و صانع؟؟

فقال علي عليه السلام: أو تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبيّ اللّه؟

قال: نعم، فتبسّم عليّ عليه السلام ضاحكا مسرورا و أهوى إلى الأرض ساجدا، شكرا لما أنبأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سلامته، فلما رفع رأسه قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

امض لما امرت فداك سمعي و بصري و سويداء قلبي، و مرني بما شئت اكن فيه كمسرّتك، واقع فيه بحيث مرادك، و إن توفيقي إلّا باللّه.

(1) ثم رقد عليّ عليه السلام على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اشتمل ببرده الحضرمي الاخضر، و لما مضى شطر من الليل حاصر رصد قريش- و هم اربعون رجلا- بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد جرّدوا سيوفهم، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يتطلّعون إلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين و الآخر ليتأكدوا من بقاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مضجعه، فيظنون أنّ النائم في الفراش هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

(2) و هنا أراد النبيّ صلّى

اللّه عليه و آله أن يخرج من بيته.

فمن جانب يحاصر الأعداء بيته صلّى اللّه عليه و آله من كل جانب، و يراقبون كلّ شي ء، و من جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى و ارادته القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ايدي تلك الزمرة المنحطة، فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سورة (يس) لمناسبة مطلعها لظروفه حتى بلغ الى قوله تعالى: «فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» «1» و خرج من باب البيت دون ان يشعر به رصد قريش المكلّفون بقتله، و ذهب الى المكان الذي كان من المقرر ان يختبئ

______________________________

(1) يس: 9.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:589

فيه على النحو الذي سيأتي تفصيله.

و أما كيف استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يخترق الحصار البشري المشدّد الذي ضرب على بيته، و يتجاوز رصد قريش من غير ان يشعروا به فذلك غير معلوم جيدا.

إلّا أنه يستفاد من رواية نقلها المفسر الشيعي المعروف المرحوم علي بن ابراهيم في تفسيره: قول اللّه تعالى: «وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ان رجال قريش كانوا نياما ينتظرون الفجر عند خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لم يكونوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد عرف بتدبيرهم و مؤامرتهم.

(1) و لكن يصرّح غيره من المؤرّخين و كتّاب السيرة «1» بان المحاصرين لمنزل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كانوا يقظين حتى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خرج من البيت عن طريق الاعجاز و الكرامة من دون ان يروه و يحسوا به.

إن امكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس موضع

شك، و لكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟؟

ان دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة تجعل هذه المسألة أمرا قطعيا و هي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان عارفا بمؤامرة القوم قبل محاصرة بيته، و كان قد دبّر و رسم لنجاته خطة طبيعية عادية، و لم يكن في الأمر اي اعجاز.

لقد كان يريد صلّى اللّه عليه و آله باضجاع علي عليه السلام في فراشه أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية و القنوات الطبيعية من غير الاستعانة بالاعجاز و الكرامة.

(2) و على هذا كان في مقدور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يتحسب لمسألة المحاصرة و الطوق الذي كان سيضرب على بيته من أوائل الليل، و ذلك بمغادرة

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 228، تاريخ الطبري: ج 2 ص 100.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:590

بيته قبل المحاصرة و قبل الغروب.

و لكن يمكن ان يكون لتوقّف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في البيت حتى ساعة المحاصرة علة لا نعرفها الآن.

من هنا يكون ادّعاء هذا الموضوع (و هو خروج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من البيت في الليل) غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غادر منزله قبل فرض الحصار عليه، و قبل غروب الشمس «1».

(1)

اقتحام الاعداء لبيت الوحي:

طوّقت قوى الكفر مهبط الوحي و بيت الرسالة و باتت تنتظر لحظة الإذن في اقتحامه، و الهجوم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في فراشه و ضربه و تقطيعه بالسيوف إربا إربا!

و قد أصرّ جماعة منهم أن ينفّذوا خطتهم المشؤومة هذه في منتصف الليل و قبل الفجر فمنعهم أبو لهب من ذلك و قال: لا أدعكم أن تدخلوا عليه

بالليل، فإنّ في الدار صبيانا و نساء من بني هاشم، و لا نأمن أن تقع يد خاطئة، فنحرسه الليلة، فإذا أصبحنا دخلنا عليه.

و ربما يقال أن علّة التأخير هي أنهم أرادوا أن يقتلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند الصباح أمام أعين بني هاشم حتى يروا أن قاتله جماعة و ليس واحدا.

(2) و انقشع الظلام شيئا فشيئا، و انفجر الصبح، و دبّ في المشركين شوق غريب، مع اقتراب ساعة الصفر، فقد كانوا يتصوّرون بأنهم سينالون ما يريدون قريبا، و بينما هم ينتضون سيوفهم دخلوا حجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و بينما هم يهمّون بأخذ من كان راقدا في الفراش بسيوفهم، إذا بهم يواجهون عليا

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 29.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:591

عليه السلام يثب في وجوههم و هو يكشف عن نفسه برد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأخضر، و قال لهم في منتهى الطمأنينة و الشجاعة: ما شأنكم؟ و ما ذا تريدون؟؟

فقالوا له بغضب: أين محمّد؟

فقال عليه السلام: اجعلتموني عليه رقيبا؟!

(1) فغضب القوم غضبا شديدا، و كاد الغيظ يخنقهم، فقد ندموا على انتظارهم انفجار الصبح و حمّلوا أبا لهب الذي منعهم من تنفيذ الهجوم على النبيّ في منتصف الليل فشل الخطة و تفويت الفرصة، فاقبلوا عليه يلومونه و يوبخونه!!

أجل لقد انزعجت قريش بشدة لفشل هذه المؤامرة، و وجدوا انفسهم أمام هزيمة نكراء بدّدت كلّ أحلامهم، و حيث أنهم كانوا يتصوّرون بأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا يستطيع الخروج عن حدود مكة في مثل تلك المدة القصيرة فهو إما مختبئ في مكة، أو أنه لا يزال في طريق المدينة، لذلك أقدموا فورا على العمل على ترتيب أمر

ملاحقته و القبض عليه.

(2)

النبيّ في غار ثور:

ان ما هو مسلّم به هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمضى هو و أبو بكر ليلة الهجرة و ليلتين اخريين بعدها في غار ثور الذي يقع في جنوب مكة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة «1».

و ليس من الواضح كيف تمت هذه المصاحبة و المرافقة و لما ذا، فان هذه المسألة من القضايا التاريخية الغامضة.

فان البعض يعتقد بان هذه المصاحبة كانت بالصدفة، فقد رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر في الطريق، فاصطحبه معه الى غار ثور.

______________________________

(1) حيث ان الطريق المؤدي الى المدينة تقع في شمال مكة، فاختبأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في منطقة مقابلة أي في اسفل مكة، ليعمي بذلك على قريش فلا يتبعوا أثره.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:592

و روى فريق آخر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذهب في نفس الليلة إلى بيت أبي بكر، ثم خرجا معا في منتصف الليل إلى غار ثور «1».

و قال فريق ثالث: أن أبا بكر جاء هو بنفسه يريد النبيّ و كان صلّى اللّه عليه و آله قد خرج من قبل فأرشده «عليّ» إلى مخبأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و على كل حال فان كثيرا من المؤرخين يعدّون هذه المصاحبة من مفاخر الخليفة و مناقبه، و يذكرون هذه الفضيلة و يتحدثون عنها بكثير من الاسهاب و الاطناب، و بمزيد من الاكبار و الاعجاب.

(1)

قريش تفتش عن النبيّ:

لقد تسبب فشل قريش في تغيير خطتها، فقد بادرت إلى بث العيون و الجواسيس في طرقات مكة، و مراقبة مداخلها و مخارجها مراقبة شديدة، و بعثت القافّة تقتص أثره في كل مكان، و في طريق مكة- المدينة خاصة.

و من جانب آخر جعلت مائة ابل لمن

ياخذ نبي اللّه، و يردّه عليهم أو يأتي عنه بخبر صحيح.

و عمد جماعة من قريش إلى ملاحقة رسول اللّه و التفتيش عنه في شمال مكة، حيث الطريق المؤدي الى المدينة، على حين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قد اختبأ- كما قلنا- في نقطة بجنوب مكة لافشال عملية الملاحقة.

و تصدت مجموعة اخرى لتتبع أثر قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و رفيقه!!

و كان الذي يقفو لهم الأثر يدعى أبا مكرز فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال هذه قدم محمّد، فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار فانقطع عنه الأثر فقال: ما جاوز محمد و من معه هذا المكان، إما أن يكونا صعدا إلى السماء، أو دخلا تحت الأرض، فان بباب هذا الغار- كما ترون عليه- نسج

______________________________

(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 100.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:593

العنكبوت و القبجة حاضنة على بيضها بباب الغار «1»، فلم يدخلوا الغار.

و لقد استمرت هذه المحاولات بحثا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثلاثة أيام بلياليها و لكن دون جدوى، فلما يئس القوم بعد ثلاثة ايام من السعي تركوا التفتيش و كفوا عن الملاحقة.

(1)

التفاني في سبيل الحق:

ان النقطة المهمة في هذه الصفحة من التاريخ هي ما قام به علي عليه السلام من تفان في سبيل الحق، و الحقيقة.

إن التفاني في سبيل الحق من شيمة الرجال الذين أحبّوا الحق و عشقوه بكل وجودهم و كيانهم.

إن الذين يغضون نظرهم عن كلّ شي ء من أشياء الدنيا و يضحّون بالنفس و المال و الشخصية، و يستخدمون كل طاقاتهم المادية و المعنوية في سبيل خدمة الحق، و احيائه، و اقامته هم و لا شك من عشاق

الحق و الحقيقة الصادقين.

انهم يرون كما لهم و سعادتهم في هدفهم، و هذا هو الذي يدفعهم إلى أن يصرفوا النظر عن الحياة العابرة، و العيش الموقت، و يلتحقوا بركب الحياة الواقعيّة الأبدية.

(2) إنّ مبيت عليّ عليه السلام في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك الليلة الرهيبة لنموذج بارز من هذا الحبّ الحقيقيّ للحق، و العشق الصادق للحقيقة، فان الدافع وراء التطوّع لمثل هذه المهمة الخطيرة لم يكن إلّا حبّ «عليّ» لبقاء الاسلام الذي يكفل سعادة المجتمع، و يضمن ازدهار الحياة، لا غير.

______________________________

(1) الطبقات الكبرى: ج 1 ص 229 تاريخ الخميس ج 1 ص 327- 328 و غيرها، و لقد ذكر عامه المؤرخين هذه الكرامة هنا، و لا ينبغي- نظرا لما ذكرناه في قصة الفيل و هلاك أبرهة و جنده بواسطة الابابيل، تأويل مثل هذا الكرامات.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:594

إن لهذه التضحية و التفاني من القيامة العظمى بحيث مدحها اللّه تعالى في كتابه العظيم، و وصفها بأنها كانت تضحية صادقة لكسب مرضاة اللّه، فان الآية التالية نزلت- حسب رواية اكثر المفسرين- في هذا المورد:

«وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» «1».

(1) ان عظمة هذه الفضيلة و اهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الاسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الإمام علي عليه السلام و إلى أن يصفوا بها عليا بالفداء و البذل و الايثار، و إلى ان يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات كلّما بلغ الحديث في التفسير و التاريخ إليها «2».

إنّ هذه الحقيقة مما لا ينسى أبدا فانه من الممكن اخفاء وجه الواقع و التعتيم عليه بعض الوقت إلا أنه سرعان ما تمزق

أشعة الحقيقة الساطعة حجب الاوهام، و تخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة و بخاصة للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام مما لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة و يخفى حقائقه بوضع الاكاذيب، و لكنه لم يحرز في هذا السبيل نجاحا.

(2) فقد عمد «سمرة بن جندب» الذي ادرك عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم انضمّ بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله إلى بلاط معاوية بالشام، عمد إلى تحريف الحقائق لقاء اموال أخذها من الجهاز الأموي، الحاقد على أهل البيت.

فقد طلب منه معاوية باصرار أن يرقى المنبر و يكذّب نزول هذه الآية في شأن

______________________________

(1) البقرة: 207.

(2) مسند أحمد: ج 1 ص 87، و كنز العمال: ج 6 ص 407، و قد نقل كتاب الغدير: ج 2 ص 47- 49 طبعة لبنان مصادر نزول هذه الآية في شأن عليّ عليه السلام على نحو التفصيل، فراجع.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:595

علي عليه السلام، و يقول للناس أنها نزلت في حق قاتل عليّ (أي عبد الرحمن بن ملجم المرادي)، و يأخذ في مقابل هذه الاكذوبة الكبرى، و هذا الاختلاق الفضيع الذي أهلك به دينه مائة ألف درهم.

فلم يقبل «سمرة» بهذا العرض و لكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ اربعمائة ألف درهم. فقبل الرجل بذلك فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسودا بذلك صفحته السوداء اكثر من ذي قبل و ذلك عند ما رقى المنبر و فعل ما طلب منه معاوية «1».

(1) و قبل السامعون البسطاء قوله، و لم يخطر ببال أحد منهم أبدا ان (عبد الرحمن بن

ملجم) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد ولد بعد آنذاك. فكيف يصح؟!

و لكن الحقيقة لا يمكن ان تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، و لا يمكن ان تنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد تعرّضت حكومة معاوية و تعرض أهلها و انصارها للحوادث، و اندثرت آثار الاختلاق و الافتعال الذي وقع في عهده المشؤوم، و طلعت شمس الحقيقة و الواقع من وراء حجب الجهل و الافتراء مرة اخرى، و اعترف اغلب المفسرين الأجلّة «2» و المحدّثين الافاضل- في العصور و الادوار المختلفة، بأن الآية المذكورة نزلت في «ليلة المبيت» في بذل علي عليه السلام و مفاداته النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنفسه «3».

______________________________

(1) لا حظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 73.

(2) شرح نهج البلاغة: ج 13 ص 262، و لقد أعطى ابن أبي الحديد حقّ الكلام حول هذه الفضيلة.

(3) سمرة بن جندب من العناصر المجرمة في الحكومة الاموية، و لم يكتف سمرة بتحريف الحقائق و قلبها بما ذكرناه، بل أضاف الى ذلك- حسب رواية ابن ابي الحديد- أمرا آخر أيضا اذ قال:

و نزل في شأن «عليّ» قول اللّه: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ» (البقرة: 204).

و من جرائم هذا الرجل انه قتل يوم ولّي البصرة على عهد زياد بن أبيه في العراق ثمانية آلاف-

سيد المرسلين ،ج 1،ص:596

(1)

كلام من ابن تيمية:
اشارة

احمد بن عبد الحليم الحرّاني الحنبليّ الذي مات في سجن بدمشق عام 728 من علماء السنّة، تعود إليه اكثر معتقدات الوهابيين، و أفكارهم.

و لابن تيمية هذا آراء و مواقف خاصة من النبيّ الاكرم صلّى اللّه

عليه و آله و أمير المؤمنين، و عامة أهل بيت النبوة، و قد صرح باكثر آرائه و معتقداته هذه في كتابه «منهاج السنة».

و قد دفعت عقائده المنحرفة و آراؤه الضالّة الكثير من علماء عصره إلى تكفيره، و التبرّي منه.

و لابن تيمية رأي عجيب حول هذه الفضيلة نذكره للقارئ الكريم مع تصرف بسيط في الألفاظ «1»

و من المؤسف ان يكون قد تأثر بآرائه بعض السذّج و الجاهلين، فنجدهم يشيعون آراءه في المجتمع من دون تحقيق فيما قال، و من دون مراجعة ذوي الاختصاص لمعرفة رأيهم في أفكاره و معتقداته و هم غافلون عن أنّ مثل هذه الآراء قد صدرت من منحرف و كذّبه بل و كفّره بسببها أهل مذهبه.

هذا و إليك خلاصة رأيه في فضيلة «المبيت».

(2) يقول: ان مبيت «عليّ» في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تعدّ

______________________________

- ممّن كانوا يحبون أهل البيت و يوالونهم و عند ما سأله معاوية: هل تخاف ان تكون قد قتلت أحدا بريئا؟

أجاب قائلا: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت!!

هذا و مخازي هذا الرجل اكثر من ان تستوعبه هذه الصفحات القلائل.

و سمرة هذا هو ذلك الرجل الصلف الجاف الذي رد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طلبه بأن يراعي حقّ جاره في قضية النخلة مرارا فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله له: «إنك رجل مضارّ و لا ضرر و لا ضرار في الاسلام» و لمزيد التوضيح راجع كتب الحديث و التراجم و التاريخ.

(1) راجع السيرة الحلبية: ج 2 ص 263 و سبعة الجاحظ في العثمانية.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:597

فضيلة لأن عليّا عرف من طريقين بانه لن يصيبه شي ء في تلك الليلة:

الأوّل إخبار رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله الصادق المصدّق نفسه ايّاه بذلك إذ قال له في نفس تلك الليلة: «نم في فراشي فإنه لا يخلص إليك شي ء تكرهه»!!.

الثاني: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلّفه بردّ الودائع و أداء الامانات التي اودعها أهل مكة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إلى أصحابها.

فعلم- من ذلك- أنه لن يقتل و الا لكلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآخرين بها.

فعرف «عليّ» من هذا التكليف أنه لن يلحقه أذى في هذه العمليّة و انه سيوفّق لأداء ما كلّفه به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(1)

الجواب:

و قبل أن نجيب عن هذا الكلام على نحو التفصيل نقول إجمالا: إن ابن تيميّة بانكاره هذه الفضيلة أثبت فضيلة أعلى لعليّ عليه السلام لأنه إمّا كان ايمان عليّ بصدق مقالة الرسول كان ايمانا عاديا، و إما أن كان إيمانا قويا جدّا، و كانت جميع اقوال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إخباراته لديه- في ضوء ايمانه- كالنهار في وضوحه.

(2) و على الفرض الاوّل لم يكن لعليّ يقين بنجاته من تلك الواقعة لأنه لا يحصل لمثل هذه الطبقة من الناس (و لا شك أن عليّا ليس منهم حتما) يقين من كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و حتى لو قبلوا به في الظاهر، فانهم سيساورهم القلق، و لا يفارقهم الاضطراب، و اذا هم باتوا في فراشه في لحظات الخطر، فانه سيبقون فريسة الخوف و الوجل و ستمرّ في نفوسهم احتمالات كثيرة حول مال الأمر و مصيره، و سيتمثل أمامهم شيح الموت المرعب في كل لحظة و آن.

و على هذا الفرض لا بد أن يقال: بأنّ عليّا عليه السلام لم

يقدم على هذا الأمر الخطير إلّا و هو يحتمل الهلاك على أيدي المشركين، لا أنه بات و هو يتيقن

سيد المرسلين ،ج 1،ص:598

النجاة و السلامة.

(1) و أما بناء على الفرض الثاني فانه تثبت لعليّ عليه السلام فضيلة أعلى و اعظم، لأن ايمان الرجل يجب ان يبلغ من القوة و الكمال بحيث لا يفرّق بين صدق كلام النبيّ و بين وضوح النهار أي أنهما يكونان عنده بمنزلة سواء.

و لا شك ان أهمية مثل هذا الايمان لا يمكن أن يعاد لها شي ء.

و نتيجة هذا الايمان هي أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند ما قال له: نم في فراشي فلن يصيبك من هجوم الاعداء الحاقدين مكروه أن ينام في فراش النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقلب واثق بالسلامة، و نفس مطمئنّة الى النجاة، و من دون أن يخالج نفسه أقل احتمال للخطر.

و لو كان مراد ابن تيمية من قوله: ان عليّا كان واثقا من سلامته، لأن الصادق المصدّق أخبره بذلك هو: إثبات أعلى درجات الإيمان لعليّ عليه السلام فقد اثبت له عليه السلام من حيث لا يشعر اكبر فضيلة، و أعلى منقبة، و هي كمال الايمان و الثقة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخباره.

هذا هو الجواب الاجمالي و إليك الجواب التفصيلي:

(2)

الجواب التفصيلي:

فنقول عن الدليل الأول: إن عبارة «لا يخلص إليك شي ء تكرهه» لم ينقلها بعض أرباب السيرة و رجال علم التاريخ الذين لهم سابقة لا تنكر في هذا الصعيد «1».

نعم روى ابن الاثير المتوفى عام 630 «2»، و الطبري المتوفى عام 310 «3» هذه العبارة و كأنّما قد اخذاها عن ابن هشام في سيرته «4» التي نقل فيها تلك العبارة

______________________________

(1) مثل مؤلّف الطبقات الكبرى:

ج 1 ص 227 و 228 المولود عام 168 و المتوفى عام 230، و كذا المقريزي في امتاع الاسماع، عند ذكرهم لتفاصيل قضية المبيت.

(2) التاريخ الكامل: ج 2 ص 72.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 99.

(4) السيرة النبوية: ج 1 ص 483.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:599

بالصورة المتقدمة الذكر، خاصة أنّ عبارة ذينك المؤلّفين (الطبري و ابن الأثير) تطابق عبارة ابن هشام في هذا المجال تماما.

هذا مضافا إلى أنّ القضية لا توجد بهذه الصورة في مؤلفات علماء الشيعة على ما نعلم.

(1) و لقد نقل شيخ الطائفة الامامية محمّد بن الحسن الطوسيّ المتوفى عام 460 في أماليه قصة الهجرة بشكل اكثر تفصيلا و دقة، و ذكر العبارة المذكورة مع تغيير بسيط، الّا أنه تختلف صورة القضيّة مع ذلك عما هي عليه في كتب أهل السنة، فانه رحمه اللّه يصرّح بان عليّا عليه السلام انطلق هو و «هند بن أبي هالة» ابن خديجة و ربيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منتصف الليل بعد ليلتين من الهجرة حتى دخلا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال صلّى اللّه عليه و آله لعليّ:

«إنّهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتّى تقدم عليّ» «1».

(2) و هذه الجملة تشبه الجملة التي ذكرها ابن هشام و الطبري و ابن الأثير، و لكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قالها لعليّ عليه السلام مطمئنا إياه بعد ليلتين من المبيت في الفراش، و ليس ليلة المبيت كما يروي الثلاثة المذكورون.

هذا علاوة على أنّ كلام علي نفسه خير شاهد على ما نقول:

فلقد عدّ عليّ عليه السلام عمله هذا (أي المبيت في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك

الليلة الرهيبة) نموذجا من بذله و تفانيه في سبيل الحق كما يتضح ذلك بجلاء من اشعاره حيث يقول:

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصاو من طاف بالبيت العتيق و بالحجر

محمّد لما خاف أن يمكروا به فوقّاه ربّي ذو الجلال من المكر

و بت اراعي منهم ما يسوؤني و قد وطّنت نفسي على القتل و الأسر

و بات رسول اللّه في الغار آمناهناك و في حفظ الاله و في ستر «2»

______________________________

(1) الأمالي: ج 2 ص 84.

(2) المصدر السابق و غيره، هذا مضافا إلى أنّ الإمام عليه السلام نفسه قد استنشد المسلمين مرارا بهذه القضية مستدلا بها على تفانيه في سبيل الاسلام.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:600

(1) و مع هذه العبارات الصريحة لا مجال للاعتماد على قول ابن هشام الذي تدل قرائن كثيرة على خطأه، و يحتمل، احتمالا قويا، بأن اشتباهه و خطأه قد نشأ من تلخيصه لسيرة ابن اسحاق، و حيث أنه (و نعي ابن هشام) قد بنى في سيرته على الاختصار لذلك اكتفى بنقل أصل العبارة، مهملا ظرف النطق بها لعدم أهمية زمن النطق بها و أنها قيلت في الليلة الثانية او الثالثة، في نظره، و روى الموضوع بنحو يوهم بان جميع هذه الامور وقعت في ليلة واحدة!!

و يؤيد رأينا هذا أيضا الحديث المعروف الذي رواه كثير من علماء السنة و الشيعة و هو: أن اللّه أوحى إلى جبرئيل و ميكائيل عليهما السلام أنّي قد آخيت بينكما و جعلت عمر احدكما أطول من عمر صاحبه فابكما يؤثر أخاه.

و كلاهما كره الموت، فاوحى اللّه إليهما: عبد اي أ لا كنتما مثل وليي «عليّ» آخيت بينه و بين «محمّد» نبيي فاثره بالحياة على نفسه؟ أو قال: قد على فراشه يقيه بمهجته.

ثم أمرهما بالهبوط إلى الأرض

و حراسة عليّ و حفظه من عدوه «1».

(2) و اما الدليل الثاني الذي يستفيد منه ابن تيمية أن عليّا كان يعلم بمصيره هو توصية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له بأداء الامانات و الودائع إلى أهلها، التي كانت تكشف عن ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعلم بأنه لن يصل إليه مكروه، و لهذا امره بردّ الودائع و الامانات إلى أصحابها.

و لكنّنا نعتقد ان في مقدورنا الحصول على حلّ لهذه المشكلة إذا استعرضنا بقية قصة الهجرة بشكل صريح و كامل.

و إليك بقيّة قصة الهجرة.

الخطيب و قضية المبيت:

و ينبغي أن نختم هذا الفصل بما كتبه الاستاذ عبد الكريم الخطيب حول

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 39 نقلا عن احياء العلوم للغزالي.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:601

مبيت علي عليه السلام في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث قال: لقد دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا ليلة الهجرة، و طلب إليه أن يبيت في المكان الذي اعتاد الرسول صلّى اللّه عليه و آله ان يبيت فيه، و ان يتغطى بالبرد الحضرميّ الذي كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يتغطى به حتى اذا نظر ناظر من قريش الى الدار رأى كأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نائم في مكانه مغطى بالبرد الذي يتغطى به، و هذا الذي كان من عليّ في ليلة الهجرة اذا نظر إليه في مجرى الاحداث التي عرضت للامام علي في حياته بعد تلك الليلة فانه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة و اشارات دالة على ان هذا التدبير الذي كان في تلك الليلة لم يكن أمرا عارضا بل هو عن حكمة لها آثارها- الى ان قال- انه اذا غاب

شخص الرسول كان علي هو الشخصية المهيّأة لأن تخلفه و تمثّل شخصه و تقوم مقامه، حين نظرنا إلى عليّ و هو في برد الرسول و في مثوى منامه الذي اعتاد أن ينام فيه فقلنا: هذا خلف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و القائم مقامه «1».

(1)

بقية قصة هجرة النبيّ:

انتهت المراحل الاولى لنجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وفق تخطيط صحيح، بنجاح، فقد لجأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منتصف الليل الى غار ثور، و اختبأ فيه، و بذلك أفشل محاولة المتآمرين عليه.

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طوال هذا الوقت مطمئنا لا يحسّ في نفسه بأيّ قلق أو اضطراب، حتى انه طمأن رفيق سفره عند ما وجده مضطربا في تلك اللحظات الحساسة بقوله:

«لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» «2».

و بقي هناك ثلاث ليال محروسا بعين اللّه تعالى و مشمولا بعنايته و لطفه،

______________________________

(1) راجع كتاب علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة و خاتم الخلافة ص 103- 105 ملخّصا.

(2) التوبة: 40.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:602

و كان يتردّد عليه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الاثناء علي عليه السلام و هند ابن ابي هالة (ابن خديجة) على رواية الشيخ الطوسي في أماليه، و عبد اللّه بن أبي بكر و عامر بن فهيرة راعي اغنام أبي بكر (بناء على رواية كثير من المؤرّخين).

يقول ابن الاثير. كان عبد اللّه بن أبي بكر يتسمّع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلا، و كان يرعى غنمه نهاره على مقربة من الغار، و كان اذا غدا من عندهما عفى على أثر الغنم «1».

(1) يقول الشيخ الطوسي في أماليه: عند ما دخل علي عليه السلام و هند على رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله في الغار (بعد ليلة الهجرة) أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا أن يبتاع بعيرين له و لصاحبه، فقال أبو بكر: قد كنت أعددت لي و لك يا نبي اللّه راحلتين نرتحلهما الى يثرب.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إني لا آخذهما و لا أحدهما إلّا بالثمن. ثم أمر صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السلام فدفع إليه. ثمن البعيرين «2».

و كان من جملة وصايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلىّ عليه السلام في الغار في تلك الليلة ان يؤدي أمانته على أعين الناس ظاهرا و ذلك بأن يقيم صارخا بالابطح غدوة و عشيا: ألا من كان له قبل محمّد أمانة او وديعة فليأت فلنؤد إليه أمانته «3».

(2) ثم أوصاه صلّى اللّه عليه و آله بالفواطم (و الفواطم هن: فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحبيبة لديه، و الأثيرة عنده، و فاطمة بنت أسد أمّ عليّ عليه السلام و فاطمة بنت الزبير و من يريد الهجرة معه من بني هاشم)، و أمره بترتيب أمر ترحيلهم معه الى يثرب و تهيئة ما يحتاجون إليه من زاد و راحلة.

و هنا قال صلّى اللّه عليه و آله عبارته التي تذرّع بها ابن تيمية في دليله

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 73 مع تصرف.

(2) أمالي الشيخ: ح 2 ص 82. سيد المرسلين ج 1 602 بقية قصة هجرة النبي: ..... ص : 601

(3) الكامل: ج 2 ص 73، السيرة الحلبية: ج 2 ص 53.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:603

الأول: «انهم لن يصلوا من الآن إليك يا عليّ بامر تكرهه حتى تقدم عليّ».

(1) فالملاحظ للقارئ هو أن

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنما قال هذه العبارة عند ما أمره باداء أمانته، و ذلك بعد انقضاء قضية ليلة المبيت.

أي انه أمر عليا بذلك، و قال له تلك العبارة و هو يتهيّأ للخروج من غار ثور.

يقول الحلبي في سيرته: «وصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في احدى الليالي و هو بالغار عليا رضي اللّه عنه بحفظ ذمته و اداء امانته ظاهرا على اعين الناس» «1».

و ثم ينقل عن مؤلف كتاب «الدر» ما يقتضي انه اجتمع به عند خروجه من لغار.

و خلاصة القول: انه مع رواية شيخ جليل من مشايخ الشيعة الامامية كالشيخ الطوسي بالاسناد الصحيحة أن الأمر بردّ الودائع و الامانات صدر من جانب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى عليّ عليه السلام بعد ليلة المبيت لا يحقّ لنا أن نعارض هذا النقل الصحيح، و نعمد إلى الهاء العامة بالتوافه، و أما رواية مؤرخي اهل السنة هذا المطلب بشكل آخر يوحي ظاهره بأن جميع وصايا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ تمت في ليلة واحدة هي ليلة الهجرة (ليلة المبيت) فقابل للتفسير و التوجيه، لأنه لا يبعد أن عنايتهم كانت مركزة على رواية أصل الموضوع، و لم يكن لظرف صدور هذه الوصايا و الأوامر و وقت بيانها اهمية عندهم.

(2)

الخروج من الغار:

هيّأ علي عليه السلام بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثلاث رواحل و دليلا امينا يدعى أريقط ليترحلوها إلى المدينة، و يدلّهم الدليل على طريقها و أرسل كل ذلك إلى الغار.

______________________________

(1) السيرة الحلبية: ج 2 ص 35.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:604

و لما سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رغاء البعير او نداء الدليل نزل هو و صاحبه من الغار

و ركبا البعيرين و توجها من أسفل مكة إلى «يثرب» سالكين إلى ذلك الخط الساحلي، و قد جاء ذكر المنازل التي مرّا بها في السيرة النبوية لابن هشام «1» و في الهوامش المثبتة على التاريخ الكامل لابن الاثير «2».

(1)

صفحة التاريخ الاولى:

اجل لقد حلّ الظلام في كل مكان، و لملمت الشمس أشعّتها الذهبية من هذا الوجه من الكرة الأرضية لتوجّهها الى الوجه الآخر منها.

و عاد جماعة من رجال قريش الذين سلكوا كل طريق في مكة و ضواحيها بحثا عن النبيّ، ثلاثة أيام، بلياليها، الى بيوتهم و منازلهم متعبين مرهقين، و قد يئسوا من الظفر بالجائزة (و هي مائة من الإبل) التي وضعتها سادة قريش جائزة لمن يأخذ محمّدا أو يدل على مكانه، و اعيد فتح طريق مكة- المدينة التي اغلقت لهذه الغاية بعد اليأس من الظفر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- «3».

و في هذه اللحظات بالذات بلغ نداء الدليل الذي كان يصطحب معه ثلاث رواحل و مقدارا من الطعام، الى مسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رفيقه و هما في الغار و قد كان يقول بصوت خافت: لا بد ان نتخد من ظلام هذا الليل سترا، و نسرع في الخروج من حدود المكيّين، و نختار طريقا يقلّ سالكوه و لا يهتدي إليه أحد.

و يبدأ تاريخ المسلمين من العام الذي تضمّن تلك الليلة بالضبط، و جعل المسلمون يقيسون كل ما يقع من الحوادث بذلك العام و بذلك يحددون تاريخه و زمان حدوثه.

______________________________

(1) السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 491.

(2) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 75.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 104.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:605

(1)

لما ذا أصبح العام الهجري مبدأ للتاريخ:

إن الاسلام أكمل الشرائع السماوية قاطبة، و قد جاء الى البشرية بما تتضمنه بشريعة موسى و عيسى عليهما السلام و لكن بصورة أكمل و بصيغة تطابق و تتمشى مع جميع الظروف و الأوضاع.

و مع أن السيد المسيح عليه السلام و ميلاده المبارك يحظى بالاحترام عند المسلمين إلّا

أنّ ميلاده عليه السلام لم يتخذ لديهم مبدأ للتاريخ، و التوقيت.

و كانت العرب قد جعلت عام الفيل «1» مبدأ لتاريخها، و كانت تقيس حوادثها و امورها إليه فترة من الزمن، و مع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قد ولد في ذلك العام نفسه، إلّا أن المسلمين لم يتخذوه مع ذلك مبدأ للتاريخ، لأنه لم يكن ينطوي على ما يتصل بقضية الإيمان و الاسلام

و لاجل هذا أيضا لم يتخذوا عام البعثة مبدأ لتاريخ المسلمين أيضا لأن عدد المسلمين لم يكن يتجاوز في ذلك اليوم ثلاثة أشخاص، إذن فلم يكن في اي واحد من تلك الحوادث ما يعطي مبررا قويا لاتخاذه مبدأ للتوقيت و التاريخ، إذ لا بد ان يكون ما يتخذ لذلك قضية مصيرة بالغة الأهمية.

و لكنه في السنة الاولى من الاعوام الهجرية حقق المسلمون انتصارا عظيما و باهرا، و قد اسست فيه حكومة مستقلة و تخلّص المسلمون من التشرذم و التبعثر، و تمركزت قواهم و عناصرهم في نقطة واحدة، و بيئة حرة لا أثر فيها للكبت و الاضطهاد، من هنا جعلوا ذلك العام (أي العام الذي تحققت فيه هجرة النبيّ العظيم) مبدأ لتاريخهم، و اخذوا يقيسون إليه- و حتى الآن- كل ما يحدث و يقع من خير و شر، لتحديد تاريخ وقوعه.

من هنا يكون قد مضى على عام هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مكة الى المدينة الف و اربعمائة و تسعة اعوام.

______________________________

(1) و هو العام الذي سيّر فيه أبرهة جيشا لهدم الكعبة تتقدمه الفيلة. راجع المحبّر: ص 5- 8.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:606

(1)

من الذي جعل الهجرة مبدأ للتاريخ؟

على العكس مما هو مشهور بين المؤرخين من أن الخليفة الثاني جعل هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله مبدأ للتاريخ باقتراح و تأييد من الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام و امر بأن تؤرخ الدواوين، و الرسائل و العهود و ما شابه ذلك بذلك التاريخ، فان الامعان في مراسلات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مكاتباته التي هي مدرجة في الأغلب في كتب التاريخ و السيرة و الحديث و السنة، و كذا غير ذلك من الادلة التي سوف نذكرها في هذه الصفحات يثبت أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو نفسه أول من اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدإ للتاريخ،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:609

و كان يؤرّخ رسائله، و كتبه إلى امراء العرب، و زعماء القبائل و غيرهم من الشخصيات البارزة بذلك التاريخ (أي التاريخ الهجري).

و ها نحن ندرج هنا نماذج من تلك الرسائل النبوية المؤرخة بهذا التاريخ، ثم نعمد بعد ذلك الى استعراض الدلائل الاخرى على هذا الأمر، و نحن نحتمل ان تكون هناك أدلة اخرى غير ما سنذكره هنا- أيضا- لم نقف عليها.

(1)

نماذج من رسائل النبيّ المؤرخة:
اشارة

(2) 1- طلب سلمان من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان يكتب له و لأخيه (ماه بنداذ) و لأهله وصية مفيدة ينتفع بها، فاستدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا و أملى عليه امورا، و كتبها علي عليه السلام ثم جاء في آخر تلك الوصية:

«و كتب علي بن أبي طالب بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رجب سنة تسع من الهجرة» «1».

(3) 2- أدرج المؤرخ الشهير «البلاذري» في كتابه «فتوح البلدان» نصّ معاهدة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع يهود «المقنا» و ذكر أن مصريا رأى نص هذه المعاهدة في جلد أحمر اللون عتيق و كان قد استنسخها، فقر أهالي.

ثم

نقل البلاذري نص تلك المعاهدة و قد جاء في نهايتها:

«و ليس عليكم امير الامن انفسكم أو من اهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم و كتب علي بن أبو طالب في سنة تسع» «2» و مع أن «أبا طالب» يجب أن يكتب حسب القواعد الادبية في المقام «أبي طالب» لكونه مضافا إليه فقد كتب: «علي بن أبو طالب» و لكن مع ذلك ذكر المحققون ان قبيلة قريش كانت تتلفظ لفظة أب في جميع الموارد (أي في حالة النصب و الرفع و الجرّ) ب:

«أبو» و تكتبها كذلك أيضا، و قد صرح الاصمعيّ بهذا من بين الادباء.

و يقول البروفيسور «محمّد حميد اللّه» مؤلف كتاب «الوثائق السياسية»: اني

______________________________

(1) اخبار اصفهان تأليف ابي نعيم: ج 1 ص 52 و 53.

(2) فتوح البلدان: ص 72.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:610

لما كنت في المدينة المنورة في شهر محرم سنة 1358 وجدت في الكتابة القديمة التي في جنوبي جبل سلع في المدينة المنورة «أنا علي بن أبو طالب» «1».

(1) 3- جاء في معاهدة الصلح التي نظمها «خالد بن الوليد» لاهل دمشق، و نص فيها على احترام دمائهم، و اموالهم و كنائسهم: «و كتب سنة ثلاث عشرة» «2».

و كلنا نعلم أن دمشق فتحت في أواخر حياة الخليفة الأوّل.

فما يدعيه البعض من ان التاريخ الهجري قد اتخذ في عهد الخليفة الثاني بارشاد و تأييد من الإمام علي عليه السلام غير صحيح فان تاريخ ذلك يرتبط بالسنة السادسة عشرة او السابعة عشرة من الهجرة، و الحال ان هذه المعاهدة قد نظّمت و دوّنت و ارخت بالتاريخ الهجري قبل ذلك بأربع سنوات.

(2) 4- ان كتاب الصلح الذي كتبه الإمام عليه عليه السلام بأمر رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله لنصارى نجران مؤرّخ بالسنة الهجرية الخامسة.

فقد جاء في هذه الرسالة:

«و أمر عليا ان يكتب فيه انه كتب لخمس من الهجرة» «3».

ان هذه الجملة تفيد بوضوح ان النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه و آله هو واضع التاريخ الهجري و مؤسسة الاوّل و هو الذي أمر عليا عليه السلام بان يؤرخ ذلك الكتاب بالتاريخ الهجري في ذيله.

(3) 5- جاء في مقدمة الصحيفة السجادية: قال جبرئيل و هو يفسر رؤيا رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تدور رحى الاسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشر، ثم تدور رحى الاسلام على رأس خمس و ثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمسا، ثم لا بد من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها» «4».

______________________________

(1) مكاتب الرسول: ص 289 نقلا عن شرح ملا علي القاري لشفاء القاضي عياض، و كذا الوثائق السياسية.

(2) الاموال: طبعة مصر ص 297.

(3) التراتيب الادارية: ج 1 ص 181 نقلا عن السيوطي.

(4) مقدمة الصحيفة السجادية، سفينة البحار: ج 2 ص 641.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:611

(1) 6- يروي المحدثون الاسلاميّون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لام سلمة:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يقتل حسين بن علي على رأس ستين من مهاجري» «1».

(2) 7- قال أنس بن مالك: «حدثنا أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: لا تأتي مائة سنة من الهجرة و منكم عين تطرف» «2».

(3) 8- أرخ أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ايام حياته الحوادث الاسلامية بهجرته فقالوا: وقع كذا في الشهر كذا من الهجرة، مثلا كانوا يقولون:

حولت القبلة من بيت المقدس الى الكعبة في شهر شعبان ستة

عشر شهرا او سبعة عشر شهرا او ثمانية عشر شهرا «3».

على رأس ثمانية عشر شهرا فرض صوم شهر رمضان «4».

و قال عبد اللّه بن انيس أمير الوفد الذي بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم على رأس أربعة و خمسين شهرا «5».

و قال محمّد بن سلمة عن غزوة القرطاء: خرجت في عشر ليال خلون من المحرم فغبت تسع عشرة و قدمت لليلة بقيت من المحرم على رأس خمسة و خمسين شهرا «6».

إنّ هذا النوع من تاريخ الحوادث و الوقائع يكشف عن ان المسلمين كانوا الى السنة الخامسة من الهجرة يقيسون الحوادث بهجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يؤرخون بها عن طريق عدّ الأشهر، حتى إذا كانت السنة الخامسة من الهجرة

______________________________

(1) مجمع الزوائد: ج 9 ص 190.

(2) تاريخ الخميس: ج 1 ص 367.

(3) نفس المصدر: ج 1 ص 368.

(4) المغازي: ج 2 ص 531 تحقيق الدكتور مارسدن جونس.

(5) المغازي: ج 2 ص 531.

(6) المغازي: ج 2 ص 534.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:612

أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باحلال السنة الهجرية مكان الشهر الهجري (كما مرّ في الرسالة رقم 4) حيث أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بان يورّخ الكتاب الذي كتبه لنصارى نجران بالعام الهجري.

(1) 9- نقل المحدثون الاسلاميون عن الزهري قوله: ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما قدم المدينة مهاجرا أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل (اي شهر قدومه المدينة) «1».

(2) 10- روى «الحاكم» عن «ابن عباس» ابن التاريخ الهجري بدأ من السنة التي قدم فيها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة «2».

إن هذه النصوص تحكي عن أنّ قائد

الاسلام الأكبر قد أوضح مسألة التاريخ من اليوم الاول. و انه جعل هجرته مبدأ لذلك التاريخ. غاية ما هنا لك أن هذا التاريخ كان إلى فترة من الزمن يعدّ بالأشهر ثم حل العدّ بالأعوام منذ حلول السنة الخامسة من الهجرة محل العدّ بالأشهر.

(3)

سؤال:

و يمكن ان يسأل سائل: اذا كان حقا أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو مؤسس التاريخ الهجري و واضعه الاوّل فما ذا نفعل بالخبر الذي رواه كثير من المحدثين و المؤرخين.

فانهم يقولون: رفع رجل إلى عمر صكا مكتوبا على آخر بدين يحلّ عليه في شعبان فقال عمر: اي شعبان؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها أم التي بعدها؟

ثم جمع الناس (أي أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) فقال: ضعوا للناس شيئا يعرفون به حلول ديونهم ... فيقال: ان بعضهم أراد أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم كلما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الذي بعده فكرهوا ذلك.

______________________________

(1) فتح الباري: ج 7 ص 208، تاريخ الطبري: ج 2 ص 288 طبعة دار المعارف.

(2) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 13 و 14 و قد صححه على شرط مسلم.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:613

و منهم من قال: ارخوا بتاريخ الروم من زمان اسكندر فكرهوا ذلك لطوله أيضا.

و قال آخرون: أرّخوا من مولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قال آخرون: أرخوا من مبعثه. و اشار علي بن أبي طالب عليه السلام أن يؤرخ من هجرية الى المدينة لظهوره على كل أحد، فانه أظهر من المولد و المبعث، فاستحسن عمر ذلك و الصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

(1)

الجواب:

إنّ هذا القسم من التاريخ لا يمكن الاستناد إليه في مقابل النصوص الكثيرة التي وصفت الرسول العظيم صلّى اللّه عليه و آله بكونه واضع التاريخ الهجري و مؤسسة الأول.

هذا مضافا إلى أنه من الممكن أن يكون التاريخ الهجري الذي وضعه النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه و آله قد تعرّض للترك،

و فقد رسميته بمرور الزمن و قلة الحاجة إلى التاريخ و لكن جدّد في زمن الخليفة الثاني، بسبب اتساع نطاق العلاقات و اعيد الاهتمام به لاشتداد الحاجة إليه في هذا العهد.

(2)

التذكير بنقطتين:

(3) 1- لا نجد في الاقتراحات التي عرضت على الخليفة في مجال التاريخ أي ذكر للتاريخ المسيحي الذي يجعل ميلاد السيد المسيح عليه السلام مبدأ للتاريخ.

و العلة هي: أن التاريخ الميلادي ظهر في القرن الرابع الاسلامي بين

______________________________

(1) البداية و النهاية: ج 7 ص 73 و 74، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص 74، الكبير لابن الاثير: ج 1 ص 10.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:614

المسيحيين بعد سلسلة من المحاسبات التخمينية، فهو لم يكن رائجا قبل ذلك.

(1) 2- ان البلاد و الاقطار الاسلامية بحاجة اليوم إلى الوحدة و الاتفاق اكثر من اي زمن مضى.

و من مظاهر تلك الوحدة هو السعى للحفاظ على التاريخ الاسلامي الهجري.

و من هنا يتوجب على الاقطار الاسلامية ان تقيم كل روابطها، و علاقاتها على أساس التاريخ الهجري، شمسيا كان أو قمريا.

و ان هذا الأمر بحاجة الى مؤتمر إسلامي كبير يشترك فيه كبار الشخصيات الفكرية الاسلامية من أجل توحيد التاريخ، و دراسة السبل الكفيلة بالوصول الى هذا الأمر، و التخلّص من التبعية الغربية في التاريخ.

ان من المؤسف جدا أن تتجاهل بعض الدول الاسلامية و العربية التاريخ الهجري و تعتمد التاريخ الميلادي المسيحيّ، حتى أن شيخ الجامع الازهر الذي يشكل قمة القيادة الدينية في المجتمع السني يؤرخ رسائله بالتاريخ الميلادي، و لا يذكر الى جانبه التاريخ الهجري على الأقل!! «1»

(2)

مؤامرة الطاغوت:

و كانت ايران من الاقطار الاسلامية التي حافظت بشدة على التاريخ الهجري، و اعتمدته في اعمالها، و لكن في المؤامرة التي نفّذت بواسطة الطاغية المقبور في عام 1399 ه استبدلت التاريخ الهجري بالتاريخ الشاهنشاهي و اعلن في وسائل الاعلام عن وجوب اعتماد هذا التاريخ المختلق بدل التاريخ الهجري الاصيل!!

و لقد تصوّر الطاغوت الأرعن أنه

يستطيع بحذف التاريخ الهجري، و استبداله

______________________________

(1) و قد رأيت أنا شخصيا رسالة من شيخ الجامع الأزهر الاسبق هو الشيخ محمود عبد الحليم و عليها التاريخ الميلادي فحسب!!

سيد المرسلين ،ج 1،ص:615

بالتاريخ الشاهنشاهي المشؤوم تثبيت قواعد حكومته المهزوزة، و سلطانه المنخور، و نظامه الظالم المهترئ، مدة أطول، و لكن العناية الالهية، و همة الشعب الإيراني المسلم العالية، و قيادة الاستاذ الاكبر آية اللّه العظمى الإمام الخميني قدّس سرّه الشريف أفشلت هذه المحاولة النكراء، و آل الأمر إلى اسقاط النظام الشاهنشاهي بثورة الشعب المجيدة و اقامة حكومة الجهورية الاسلامية على انقاض الحكم الملكي المباد، و احلال التاريخ الهجري الاسلامي المبارك محلّ التاريخ الشاهنشاهي المختلق. و الحمد للّه «1».

(1)

برنامج الرحلة في حادث الهجرة:

لقد كان على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يقطع- للوصول الى المدينة- ما يقرب من اربعمائة كيلومترا، و لا شك أن طيّ هذه المسافة الطويلة تحت تلك الحرارة العالية الدرجة بحاجة إلى خطة صحيحة، لضمان السلامة، خاصة و انهم كانوا يخافون من ان يقوم الأعراب الذين كانوا ربما يصادفونهم في اثناء الطريق باخبار قريش بهم، و لهذا كانوا يسيرون ليلا و يستريحون نهارا.

و يبدو أن شخصا شاهد النبيّ و من معه في أثناء الطريق فرجع إلى مكة و أخبر قريشا بذلك فخرج «سراقة بن مالك بن جعشم» يطلبهم طمعا في جائزة قريش الكبرى فلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد صرف قريشا عن ملاحقة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل ذلك ليتفرد بها. «2»

(2) يقول ابن الاثير: تبعهم سراقة فلحقهم فقال أبو بكر: يا رسول اللّه ادركنا الطلب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تحزن إنّ اللّه معنا».

ثم قال رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله: «اللّهم اكفني شرّ سراقة بما شئت» فجمح به فرسه و طرحه أرضا.

______________________________

(1) يستخدم في ايران تاريخ هجري آخر هو التاريخ الهجري الشمسي و هو ينفع لمعرفة الفصول و ما شاكل ذلك.

(2) التاريخ الكامل: ج 2 ص 105.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:616

فعلم سراقة أن هذا من دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لهذا قال بنبرة المعتذر الملتمس: يا محمّد هذه إبلي بين يديك فيها غلامي.

و ان احتجت الى ظهر (اي مركوب) أو لبن فخذ منه فقد حكّمتك في مالي.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا حاجة لي في مالك. «1».

(1) و روى المجلسي ان سراقة قال: فسلني حاجة.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ردّ عنّا من يطلبنا من قريش.

فانصرف سراقة فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم: انصرفوا عن هذا الطريق فلم يمرّ فيه أحد، و أنا اكفيكم هذا الطريق فعليكم بطريق اليمن و الطائف.

و هكذا ما كان يمرّ باحد إلّا و صرفه عن البحث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في هذا الطريق بمثل هذا الكلام.

(2) ثم إن كتّاب السيرة من الشيعة و السنّة يذكرون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كرامات كثيرة في طريق مكة- المدينة و نحن ندرج واحدة بعضها:

مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أثناء الطريق على خيمة أمّ معبد و كانت امرأة شجاعة فاضلة فنزلوا بخيمتها و طلبوا منها تمرا و لحما أو لبنا يشترون.

فقالت: ما يحضرني شي ء و كانت أغنامها قد اصيبت بالهزال بسبب الجدب، فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى شاة في جانب من الخيمة فقال صلّى اللّه عليه و

آله لها: ما هذه الشاة يا أمّ معبد؟ قالت: شاة خلّفها الجهد من الغنم فقال: هل بها من لبن؟.

قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أ تأذنين ان أحلبها؟

______________________________

(1) يذكر كثير من المؤرخين كابن الاثير في الكامل: ج 2 ص 105، و المجلسي في البحار: ج 19 ص 75- 88 القصة كما نقلناها هنا، و لكن مؤلف حياة محمّد يقول: ان سراقة تطيّر لما كبابه فرسه و القي في روعه أن الآلهة مانعة منه ضالّته.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:617

قالت: نعم ان رأيت بها حلبا فاحلبها.

(1) فدعا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فمسح بيده ضرعها، و سمّى اللّه عز و جل، و دعا لها في شاتها قائلا: اللّهم بارك لها في شاتها فدرّت لبنا كثيرا بفضل دعائه صلّى اللّه عليه و آله، فطلب إناء و حلبها، فسقاها أولا حتى روّيت ثم سقى أصحابه حتى رووا و شرب هو آخرهم، و قال:

«ساقي القوم آخرهم شربا».

ثم حلب الشاة مرة ثانية فغادره عندها، و ثم ارتحلوا عنها إلى المدينة. «1»

و قد ذكرت هذه الكرامة في كثير من كتب السيرة و التاريخ، و هو أمر ممكن في رؤية المؤمن باللّه، لأن الدعاء أحد الاسباب التي تستطيع أن تؤثر في الطبيعة، و شأنها شأن غيرها من الكرامات التي ورد ذكرها في الكتب الدينية و صدقته التجربة «2».

(2)

النزول في قرية قباء:

تقع قرية قباء على ميلين من المدينة على يسار القاصد الى مكة و كانت مساكن «بني عمرو بن عرف» و مركزهم.

و لقد وصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من معه إلى قباء في الثاني عشر من شهر ربيع الاول يوم الاثنين، و نزل على «كلثوم بن الهرم» و هو شيخ من

بني عمرو و كان ثمة جمع كبير من المهاجرين و الانصار ينتظرون قدومه، و يستخبرون وروده.

و لقد لبث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قباء إلى آخر أيام الاسبوع، و قد خط في هذا الفترة مسجدا لقبيلة «بني عمرو بن عوف»، و نصب قبلته «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 75.

(2) بحار الأنوار: ج 18 ص 43 و ج 19 ص 99- 103، الطبقات الكبرى: ج 1 ص 230 و 231، تاريخ الخميس: ج 1 ص 333، أسد الغابة: ج 1 ص 377.

(3) تاريخ الخميس: ج 1 ص 338.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:618

و كان البعض ممن رافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصرّ عليه أن يسارع في الدخول إلى المدينة، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان ينتظر ابن عمه عليا.

و يقول: فما أنا بداخلها حتى يقدم ابن امّي و أخي، و ابنتي (يعني عليّا و فاطمة عليهما السلام) «1».

(1) و أقام عليّ عليه السلام بمكة ثلاث ليال بايامها، حتى أدّى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الودائع التي كانت عنده للناس فقد وقف عليه السلام على مكان مرتفع في مكة و نادى قائلا:

«من كان له قبل محمّد أمانة أو وديعة فليأت فلنؤدّ إليه أمانته».

فكان يأتيه من له امانة او وديعة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يذكر علامتها و يأخذها فلما فرغ عليه السلام من اداء الامانات و الودائع خرج بفاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمه فاطمة بنت اسد، و فاطمة بنت الزبير و آخرين ممن لم يكن قد هاجر مكة حتى تلك الساعة، و توجه بهم نحو المدينة

ليلا سالكا بها طريقا في «ذي طوى».

(2) كتب الشيخ الطوسي في أماليه في هذا الصدد يقول: إن جواسيس قريش عرفت بسفر علي مع تلك الجماعة، فخرجوا لملاحقتهم، لغرض اعادتهم الى مكة، فادركوهم في منطقة «ضجنان».

و وقع بين رجال قريش و بين علي عليه السلام تلاح و تناوش، و أخذ و ردّ، و دنا الرجال من النسوة، و المطايا ليثوروها فحال عليّ عليه السلام بينهم، و بينها، و لم يجد عليه السلام طريقا إلّا أن يدافع عن حرم الاسلام و المسلمين، فشدّ عليهم بسيفه شدّة الأسد الغضب و الليث الغيور و هو يقول مرتجزا:

خلّوا سبيل الجاهد المجاهدآليت لا أعبد غير الواحد

______________________________

(1) الفصول المهمة لابن صباغ المالكي: ص 35 دون ان يذكر اسما، و أمالي الشيخ الطوسي: ج 2 ص 83.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:619

(1) فلما وجدوا ما به من الجدّ و الغضب خافوه و تفرّقوا عنه و قالوا- بنبرة الخائف المتضرع-: احبس عنّا نفسك يا ابن أبي طالب، فقال عليه السلام:

«فإنّي منطلق إلى ابن عمّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيثرب فمن سرّه ان افري لحمه و اهريق دمه فليتبعني، و ليدن مني».

فتركه القوم و عادوا من حيث أتوا، و واصل الركب رحلته باتجاه المدينة.

يقول ابن الاثير: قدم «علي» المدينة و قد تفطّرت قدماه، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ادعوا لي عليّا، قيل: لا يقدر أن يمشي، فأتاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اعتنقه و بكى رحمة لما بقدميه من الورم «1».

و لقد قدم رسول اللّه قباء في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، و التحق به علي عليه السلام في منتصف ذلك الشهر نفسه «2»، و يؤيد هذا القول ما

ذكره الطبري في تاريخه اذ كتب يقول: و اقام علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه بمكة ثلاث ليال و أيامها حتى أدى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم الودائع التي كانت عنده الى الناس «3».

(2)

المدينة تهبّ لقدوم النبيّ:

و لقد كان يوم دخول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما عظيما جدا، و مشهودا.

فكم ترى ستكون عظيمة فرحة الذين آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منذ ثلاث سنوات، و ظلوا طوال هذه الأعوام يبعثون برسلهم و وكلائهم إليه، و يذكرون اسمه المقدس، و يصلّون عليه في صلواتهم كل يوم، إذا سمعوا أن

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 106.

(2) إمتاع الأسماع: ص 48 و على هذا تكون محاصرة بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد تمّت ثلاث ليال قبل شهر ربيع الاول من السنة الاولى من الهجرة، و قد خرج النبيّ من داره ليلة الاثنين و دخل غار ثور و بقي ماكثا فيه ثلاثة أيام، و خرج منه ليلة الخميس اول ربيع الاول و توجه نحو المدينة و وصل قباء في الثاني عشر منه راجع تاريخ الخميس: ج 1 ص 337- 338.

(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 382.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:620

قائدهم ذلك الذي طال انتظارهم اياه، و اشتد تشوقهم إليه كائن عند ميلين من مدينتهم قد نزل في قبا اياما، و سيقدم إليهم و يدخل مدينتهم بعد ايام؟ و كم سيكون مبلغ ابتهاجهم، و أي ابتهاج ترى سيعم كل صغير و كبير؟

إنه حقا لأمر يعجز القلم عن بيانه، و يكل اللسان عن وصفه.

(1) و لقد كان لفتية الأنصار و شبابهم الضامئين إلى الاسلام الحنيف برنامج رائع و عظيم، فقد

كانوا عمدوا بغية تطهير جوّ المدينة من ادران الوثنية الى كل صنم في المدينة كان يقدّس و يعبد فاحرقوه و كسّروه، و قد كان كل شريف في بيته صنم يمسحه و يطيّبه، و لكل بطن من الأوس و الخزرج صنم في بيت لجماعة يكرّمونه و يطيّبونه، و يجعلون عليه منديلا و يذبحون له «1».

و لا بأس في أن نذكر نموذجا من هذا العمل الجليل الذي قام به الانصار في التخلّص من الوثنية:

لما قدم من بايع من الأنصار في العقبة الثانية الى المدينة اظهروا الاسلام بها و في قومهم بقايا من شيوخ لهم على دين الشرك و عبادة الأوثان منهم «عمرو بن الجموح» و كان من سادات بني سلمة و شريفا من أشرافهم و كان ابنه «معاذ» بن عمرو قد شهد بيعة العقبة.

(2) و كان عمرو هذا قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له: مناة، كما كانت الاشراف يصنعون، تتخذه إلها تعظّمه و تطهّره، فلما أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل، و ابنه معاذ بن عمرو بن الجموح كانوا يتسلّلون في الليل إلى صنم عمرو بن الجموح فيحملونه و يطرحونه في بعض حفر بني سلمة و مزابلها، و فيها فضلات الناس و عذرها منكّسا على رأسه!!

فاذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟

ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله و طهّره و طيّبه. ثم قال للصنم: أما و اللّه لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينّه!

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 107.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:621

فاذا أمسى و نام عمرو عدوا عليه ثانية ففعلوا به مثل ما فعلوا به أولا.

فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى و الوسخ فيغسله و

يطهّره و يطيّبه، ثم يعدون عليه إذا امسى فيفعلون به مثل ذلك.

(1) فلما اكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله و طهّره و طيّبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إنّي و اللّه ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع، و دافع عن نفسك فهذا السيف معك.

فلما أمسى و نام عمرو عدوا على ذلك الصنم فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميّتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس و فضلاتهم. ثم غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به.

فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب، ميّت، فلما رآه و أبصر شأنه و كلّمه من اسلم من رجال قومه فاسلم، و هجر الوثنية و الأوثان و حسن إسلامه.

فقال حين أسلم و عرف من اللّه ما عرف و هو يذكر صنمه ذلك، و ما أبصر من شأنه و يشكر اللّه تعالى الذي أنقذه مما كان فيه من العمى و الضلالة:

و اللّه لو كنت إلها لم تكن أنت و كلب وسط بئر في قرن

افّ لملقاك إلها مستدن الآن فتشناك عن سوء الغبن

فالحمد للّه العلي ذي المنن الواهب الرزاق ديّان الدين

هو الّذي أنقذني من قبل أن أكون في ظلمة قبر مرتهن

بأحمد المهدي النبيّ المرتهن

«1»

النبيّ يدخل المدينة:

(2) بعد أن التحق علي عليه السلام و من معه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قباء توجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى المدينة و لما انحدر من ثنية الوداع (و

______________________________

(1) اسد الغابة: ج 4 ص 99.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:622

هي منطقة قريبة من المدينة) و حط قدمه على تراب يثرب استقبله

الناس رجالا و نساء، كبارا و صغارا، استقبالا عظيما و رحّبوا به اعظم ترحيب، و ردّد المرحّبون أنا شيد الترحيب التالية:

طلع البدر علينامن ثنيات الوداع

وجب الشكر عليناما دعا للّه داع

أيّها المبعوث فيناجئت بالأمر المطاع (1) و كانت بنو عمرو بن عوف قد اجتمعت عنده و أصرّت عليه بأن ينزل في قباء و قالوا: أقم عندنا يا رسول اللّه فإنا أهل الجدّ و الجلد، و الحلقة (أي السلاح) و المنعة، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقبل.

و بلغ الأوس و الخزرج خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قرب نزوله المدينة فلبسوا السلاح و أقبلوا يعدون حول ناقته لا يمرّ بحيّ من أحياء الانصار إلّا وثبوا في وجهه و أخذوا بزمام ناقته و أصرّوا عليه بأن ينزل عليهم هذا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: خلّوا سبيلها فانها مأمورة.

و اخيرا لما انتهت ناقته- و كان صلّى اللّه عليه و آله قد أرخى زمامها- إلى باب المسجد الذي هو اليوم، و لم يكن مسجدا إنما كان أرضا واسعة ليتيمين من الخزرج يقال لهما: سهل و سهيل و كانا في حجر أسعد بن زرارة فبركت الناقة على باب «ابي أيوب» خالد بن زيد «1» الانصاري الذي كان على مقربة من تلك الأرض.

فاغتنمت أم أبي ايوب الفرصة فبادرت إلى رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فحلّته و أدخلته منزلها، بينما اجتمع عليه الناس و يسألونه أن ينزل عليهم.

فلما أكثروا عليه، و تنازعوا في أخذه قال صلّى اللّه عليه و آله أين الرحل؟؟

فقالوا: يخوف أم أيوب قد ادخلته في بيتها.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «المرء مع رحله» و

أخذ اسعد بن زرارة بزمام

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 108 و لكن ذهب البعض كصاحب الكامل في التاريخ الى أنهما كانا في حجر معاد بن عفراء.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:623

الناقة فحوّلها الى منزله «1».

(1)

أصل النفاق و منشؤه:

كانت الأوس و الخزرج قد اتفقتا على أن تملّك عبد اللّه بن ابي بن سلول (رئيس المنافقين و كبيرهم) عليهم، و ذلك قبل أن تبايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العقبة و تؤمن به و تعتنق الاسلام، و لكن هذا القرار الغي بعد اتصال الأوس و الخزرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، من هنا حنق عبد اللّه بن ابي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اضمر له العداوة منذ ذلك الحين، و لم يؤمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى آخر حياته، بل كان ينافق باسلامه.

و لما دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة و شاهد عبد اللّه بن ابي ذلك الاستقبال و الترحيب العظيمين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي قام بهما الأوس و الخزرج، شق عليه ذلك جدا، و لم يستطع اخفاء حنقه و غضبه، وحده و عداوته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله!

فعند ما انتهى صلّى اللّه عليه و آله إلى عبد اللّه بن ابي- و قد أرخى صلّى اللّه عليه و آله زمام ناقته لتبرك حيث تريد، أخذ عبد اللّه كمّه و وضعه على أنفه، و قد ثارت الغبرة بسبب الزحام و قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنبرة الحانق الغاضب: يا هذا اذهب إلى الّذين غرّوك و خدعوك و أتوا بك، فانزل عليهم، و لا تغشنا في ديارنا!!

(2) فقام سعد بن عبادة-

و قد خشي أن يسوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا الموقف الوقح الشرير فقال: يا رسول اللّه لا يعرض في قلبك من قول هذا شي ء، فإنّا كنّا اجتمعنا على ان نملّكه علينا، و هو يرى الآن أنّك قد سلبته أمرا قد كان أشرف عليه «2».

______________________________

(1) تاريخ الخميس: ج 1 ص 341.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 108.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:624

(1) هذا و يتفق عامة المؤرخين و كتّاب السيرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل يثرب يوم الجمعة، و صلّى صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، و كانت هذه اوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الاسلام فخطب في هذه الجمعة و هي أوّل خطبة خطبها في المدينة، و قد تركت هذه الخطبة البديعة البليغة التي لم يسمع اهل المدينة مثيلها لفظا و معنى من قبل، أثرا عميقا و طيّبا في قلوبهم و نفوسهم.

و قد أدرج ابن هشام نصّ الخطبة في سيرته «1» كما أدرجها المجلسي في بحاره «2» أيضا.

غير أن عبارات و مضامين الخطبة التي نقلها ابن هشام و اثبتها في سيرته تختلف عما رواها و اثبتها المجلسي، و للاطلاع على ذلك يراجع المصدران المذكوران.

______________________________

(1) السيرة النبوية: ج 1 ص 500 و 501.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 126.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:625

الفهارس

اشارة

1- فهرس الآيات القرآنية

2- فهرس الأحاديث الشريفة

3- فهرس الأشعار

4- فهرس الأعلام

5- فهرس القبائل و الامم

6- فهرس الكنى و الألقاب

7- فهرس الوقائع و الأيام

8- فهرس الأماكن و البلدان

9- فهرس المذاهب و الأديان و نظم الحكم

10- فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة

11- فهرس المواضيع

سيد المرسلين ،ج 1،ص:627

(1) فهرس الآيات القرآنية

البقرة- 2 الآية رقمها الصفحة

وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ/ 78/ 241

وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ/ 89/ 281 و 350

رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً/ 126/ 142 و 145

رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا/ 129/ 350

إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي/ 133/ 131

إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً/ 134/ 240

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ/ 143/ 308

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ/ 146/ 349

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ/ 174/ 349

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ/ 185/ 344

قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ/ 189/ 606

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ/ 204/ 595

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً/ 213/ 316

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ/ 219/ 45

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ/ 231/ 63

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ/ 233/ 62

قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا/ 275/ 49

وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ/ 275/ 50

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا/ 278 و 279/ 49

سيد المرسلين ،ج 1،ص:628

آل عمران- 3 وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ/ 37/ 223

يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ/ 42/ 241

وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ/ 49/ 479

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ/ 61/ 479

وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً/ 67/ 240

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ/ 81/ 348

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ/ 145/ 355

وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً/ 153/ 42

وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا

حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ/ 153/ 66

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ/ 164/ 350

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ/ 187/ 349

النساء- 4 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ/ 19/ 63

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ/ 22/ 69

كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها/ 56/ 441

وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً/ 82/ 449

إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ/ 171/ 241

المائدة- 5 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ/ 3/ 47

وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ/ 45/ 475

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ/ 75/ 101

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ/ 90/ 302

ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا .../ 103/ 44

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ/ 104/ 475

الأنعام- 6 وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ/ 7/ 436

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ/ 8/ 475

سيد المرسلين ،ج 1،ص:629

وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ/ 19/ 351

إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ/ 50/ 328

لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي/ 77/ 121

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ/ 79/ 125

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ .../ 84/ 239

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ/ 100/ 43

الأعراف- 7 وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ/ 127/ 121

وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ/ 157/ 45 و 67 و 83

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ/ 157/ 224

فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ/ 157/ 258

الأنفال- 8 وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا/ 30/ 586

التوبة- 9 إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً/ 36/ 245

إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ/ 37/ 49 و 256

لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا/ 40/ 601

إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ/ 84/ 240

وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ/

100/ 419

وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً/ 122/ 355

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ/ 113- 114/ 132

يونس- 10 وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ .../ 15/ 310 و 476

قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ/ 16/ 242 و 300 و 297

هود- 11 أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ/ 13/ 472

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ/ 49/ 356

سيد المرسلين ،ج 1،ص:630

الرعد- 13 وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ/ 38- 40/ 438

إبراهيم- 14 رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً/ 35/ 145

رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ/ 37/ 142

الحجر- 15 وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ/ 6/ 472 و 332

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ/ 9/ 491

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ/ 42/ 496

فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ/ 94/ 392

إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ/ 95/ 413

النحل- 16 وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا/ 58 و 59/ 6

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا/ 99/ 496

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ/ 103/ 235 و 471

إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ .../ 105 و 106/ 417

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ/ 120/ 240

وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ/ 127/ 477

الإسراء- 17 سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا/ 1/ 478 و 538 و 548

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُ/ 88/ 181

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ/ 90 و 93/ 433 و 435 و 436 و 477

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ/ 385/ 443

الكهف- 18 وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ/ 28/ 477

مريم- 19 يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ/ 12/ 295

سيد المرسلين ،ج 1،ص:631

وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا .../

14 و 15/ 242

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ .../ 16- 33/ 201 و 222 و 295

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ/ 42- 47/ 130

طه- 20 طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى .../ 1- 8/ 426

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى .../ 37- 40/ 200

رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ .../ 50/ 314

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ .../ 114/ 346

الأنبياء- 21 بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ/ 5/ 331

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ .../ 51- 70/ 37

وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ/ 57/ 138

فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا/ 64/ 139

وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً/ 81/ 238

الفرقان- 25 تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ .../ 1/ 351

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ .../ 4- 6/ 303- 304 و 472

وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها .../ 5- 6/ 474

وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ/ 7/ 475

لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً/ 32/ 443

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ/ 32/ 442 و 445

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا/ 32/ 441

الشعراء- 26 قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ/ 153/ 472

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ/ 193- 195/ 336

وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ/ 214/ 128 و 392

وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ/ 219/ 195

سيد المرسلين ،ج 1،ص:632

النمل- 27 وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً/ 15/ 238

القصص- 28 وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي/ 38/ 121

وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ/ 46/ 308

وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ/ 46/ 42

وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ/ 86/ 297 و 308

فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ/ 86/ 301

الأحزاب- 33 ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ/ 40/ 351

سبأ- 34 وَ قالَ الَّذِينَ

كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ/ 7 و 8/ 44

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ/ 15/ 33

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ/ 28/ 351

فاطر- 35 وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ/ 36/ 533

يس- 36 وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ... فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ/ 9/ 588

ص- 38 وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ .../ 5 و 6/ 475

وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ .../ 45- 46/ 239

وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ/ 48/ 240

فصّلت- 41 حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .../ 1- 5/ 431

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا/ 30/ 453

الفتح- 48 وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ/ 4/ 177

سيد المرسلين ،ج 1،ص:633

الطور- 52 فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ/ 29/ 472

النجم- 53 وَ النَّجْمِ إِذا هَوى .../ 1- 5/ 332

وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ... إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ/ 3 و 4/ 49

إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى/ 4/ 328

أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى ... وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى/ 19 و 20/ 43 و 493

أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى/ 12، 18/ 539

الصف- 61 وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ/ 6/ 379

وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ/ 48/ 475

القلم- 68 وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ/ 4/ 259

وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ/ 48/ 477

الحاقة- 69 وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ .../ 42/ 472

المزمّل- 73 فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ/ 10/ 477

المدثر- 74 يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ/ 1 و 3/ 379

وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ/ 4- 5/ 297

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ/ 5/ 301

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً .../ 11- 30/ 430

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً .../ 11- 51/ 469

سيد المرسلين ،ج 1،ص:634

النازعات- 79 فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً/ 5/

177

أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى/ 24/ 121

عبس- 80 عَبَسَ وَ تَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى .../ 1- 11/ 481

التكوير- 81 وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ/ 8/ 58

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ .../ 20- 28/ 332

البروج- 85 قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ/ 4- 9/ 161

الضحى- 93 وَ الضُّحى وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى .../ 1- 11/ 380

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى .../ 6- 7/ 297

وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى .../ 8/ 298

الانشراح- 94 أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ/ 1- 4/ 300

وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ/ 4/ 209

العلق- 96 اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ .../ 1- 5/ 322

القدر- 97 إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ/ 1- 3/ 344

الفيل- 105 أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ .../ 1- 5/ 165

الكوثر- 108 إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ/ 1- 4/ 509

سيد المرسلين ،ج 1،ص:635

الكافرون- 109 قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ/ 476

المسد- 111 تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ .../ 1- 5/ 414

سيد المرسلين ،ج 1،ص:636

(2) فهرس الأحاديث الشريفة

نصّ الحديث القائل الصفحة آمنت قبل الناس بسبع سنين/ (علي)/ 362

أ تعلمون أنّ اللّه فضّل في كتابه السابق .../ (علي)/ 363

اجتمعت على هذه الامة مصيبتان .../ (النبي)/ 364

أخذ اللّه على الوحي ميثاقهم .../ (علي)/ 316

أ رأيتكم إن اخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم/ (النبي)/ 401

أرسله على حين فترة من الرسل/ (علي)/ 92

أرسله بالضياء و قدمه في الاصطفاء/ (علي)/ 94

ارسلت إلى الناس كافّة/ (النبي) 351

استرضع لولدك بلبن الحسان/ (الباقر)/ 218

أسلمت قبل ان يسلم الناس بسبع سنين/ (علي)/ 316

اضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة/ (علي)/ 94

اعطيت الشفاعة و هي نائلة من امتي من لا يشرك/ (النبي)/ 533

أفضل نساء امتي اربع ../ (النبي)/ 259

العيافة و الطيرة و الطرق من الجبت .../ (النبي)/ 82

اللهم أنيس المستوحشين/ (النبي)/ 287

اللهم لا أعرف عبدا من هذه الامة عبدك

.../ (علي)/ 362

اللهم اكفني شرّ سراقة بما شئت/ (النبي)/ 615

اللهم بارك لها في شاتها/ (النبي)/ 617

إلى شهادة ان لا إله إلّا اللّه/ (النبي)/ 51

سيد المرسلين ،ج 1،ص:637

الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء/ (النبي)/ 563

أما و اللّه لاستغفرنّ لك و لأشفعن فيك شفاعة/ (النبي)/ 529

أمنكم أحد أسلم مع رسول اللّه/ (علي)/ 361

أنا أوّل رجل أسلم مع رسول اللّه/ (علي)/ 361

أنا اول من اسلم مع النبي (علي) 361

أنا اول من صلّى مع رسول اللّه/ (علي)/ 361

انا رسول اللّه بعثني إلى العباد أدعوهم الى .../ (النبي)/ 567

انا الصديق الاكبر آمنت قبل ان يؤمن ابو بكر/ (علي)/ 361

انتم على قومكم بما فيكم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم/ (النبي)/ 572

أنشدكم اللّه أيها الرهط أ تعلمون أنّ .../ (علي)/ 364

أنا عبد اللّه و اخو رسول اللّه/ (علي)/ 357

أنا عبد اللّه و اخو رسول اللّه و انا الصديق الاكبر/ (علي)/ 361

انا يا رسول اللّه اكون وزيرك على ما بعثك اللّه/ (علي)/ 395

انظروا من يرضع أولادكم/ (علي)/ 218

انّ أولى الناس بامر هذه قديما و حديثا/ (علي)/ 362

ان كثيرا من التمائم شرك/ (النبي)/ 82

إنّ اللّه بعث محمّدا نذيرا للعالمين/ (النبي)/ 348

انّ اللّه تعالى ما بعث آدم عليه السّلام و من بعده/ (النبي)/ 348

انّ الرائد لا يكذب أهله/ (النبي)/ 394

إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف/ (الصادق)/ 530

إنّ محمّدا (ص) لما دعا إلى الايمان و التوحيد/ (علي)/ 363

إنّ اللّه لا يوصف بمكان و لا يجري عليه زمان/ (الكاظم)/ 553

إنّ هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم/ (النبي)/ 398

أو تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبي اللّه/ (علي)/ 588

أوّلكم واردا عليّ الحوض اولكم اسلاما/ (النبي)/ 358

سيد المرسلين ،ج 1،ص:638

أي بني اني و ان لم اكن عمّرت عمر من .../

(علي)/ 11

أيّها الذاكر عليا انا الحسن بن علي/ (الحسن)/ 269

أيّها الناس ان الشمس و القمر آيتان/ (النبي)/ 69

ثم إن اللّه سبحانه بعث محمّدا/ (علي)/ 94

حجّ رسول اللّه (ص) عشر حجات/ (الصادق)/ 294

زوّجتك خير امتي اعلمهم علما/ (النبي)/ 359

صبرا آل ياسر فان موعدكم الجنة/ (النبي)/ 416

صليت مع رسول اللّه ثلاث سنين قبل أن .../ (علي)/ 363

عبدت اللّه مع رسول اللّه/ (علي)/ 361

عبدت اللّه قبل ان يعبده أحد من هذه الامة/ (علي)/ 362

فاني منطلق إلى ابن عمي رسول اللّه/ (علي)/ 619

فبلغ بالرسالة صادعا بالنذارة/ (الزهراء)/ 95

فلما بعث اللّه محمّدا للنبوة و اختاره للرسالة/ (علي)/ 364

في أصلاب النبيين نبي بعد نبي/ (الصادق)/ 195

قولوا لا إله إلّا اللّه تفلحوا .../ (النبي)/ 562

كنا اذا احمرّ البأس اتقينا برسول/ (علي)/ 244

لا تبكي يا بنيّة فان اللّه مانع اباك/ (النبي)/ 556

لا تسترضعوا الحمقاء/ (الباقر)/ 218

لا و اللّه ان كنت أول من صدّق به/ (علي)/ 362

لا و اللّه ما ابدلني اللّه خيرا منها/ (النبي)/ 262

للدابة على صاحبها ست خصال/ (النبي)/ 80

لقد صلّت الملائكة عليّ، و على عليّ/ (النبي)/ 360

لم أومر بذلك (قالها النبي في جواب من خطب فاطمة)/ (النبي)/ 360

لم يكن معي من الرجال غيره/ (علي)/ 360

لو كان مطعم بن عدي حيا لوهبت .../ (النبي)/ 561

لو وضع ايمان ابي طالب في كفة ميزان .../ (الباقر)/ 529

سيد المرسلين ،ج 1،ص:639

ما أعرف أحدا من هذه الامة عبد اللّه بعد نبينا غيري/ (علي)/ 362

ما من لبن يرضع به الصبي اعظم بركة من لبن أمه/ (علي)/ 218

ما من نبي إلا و قد رعى الغنم/ (النبي)/ 252

مستقره خير مستقر/ (علي)/ 93

من يؤازرني يكون أخي و وصيي و خليفتي/ (النبي)/ 398

مهلا يا أماه فان معي من يحفظني/ (النبي)/ 293

موعدكم العقبة

في الليلة الوسطى/ (النبي)/ 571

نم في فراشي فانه لا يخلص إليك شي ء/ (النبي)/ 571

و اشهد أن محمّدا عبده و رسوله/ (علي)/ 92

و اشهد أن محمّدا عبده و رسوله ابتعثه و الناس .../ (علي)/ 94

و اشهد أن محمّدا عبده و رسوله و سيد عباده/ (علي)/ 195

و شفاعتي لمن شهد ان لا إله إلّا اللّه مخلصا/ (النبي)/ 533

و كيف ينزل عليّ و انتم لا تقصّون أظافركم/ (النبي)/ 382

و لقد قرن اللّه به من لدن كان فطيما ملكا/ (علي)/ 294

و لقد علمتم موضعي من رسول اللّه/ (علي)/ 286

يا اماه لا ارى اخويّ في النهار/ (النبي)/ 70

يا حميراء ان اللّه تبارك و تعالى بارك في .../ (النبي)/ 263

يا علي أخصمك بالنبوة و لا نبوة بعدي/ (النبي)/ 360

يا علي ان قريشا اجتمعت على المكر بي .../ (النبي)/ 588

يا علي لك سبع خصال لا يحاجك فيه احد/ (النبي)/ 360

يا عم و اللّه لو وضعوا الشمس في يميني و القمر .../ (النبي)/ 405

سيد المرسلين ،ج 1،ص:640

(3) فهرس الأشعار

سيد المرسلين ج 1 640 (3) فهرس الأشعار ..... ص : 640

لامكم لسهام الجهل شافية 77

أبني لا تنس البليّة إنها 74

أبونا شفيع الناس حين سقوا به 288

اذا اختلجت عيني أقول لعلها 79

اذا اختلجت عيني تيقنت انني 79

اذا متّ فادفني بحرّاء ما بها 74

اذا متّ فادفني الى جنب كرمة 67

أربا واحدا أم ألف رب 55، 283

اصبرن يا بنيّ فالصبر احجى 514

ألا ان خير الناس بعد محمّد 373

ألا حلأ في شقه مشقوقة 77

ألا ليت شعري كيف في الناس جعفر 460

ألا هل اتى بحريّنا صنع ربنا 508

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمّدا 521

أ ليس أول من صلى لقبلتكم 372

اما الحرام فالممات دونه 291

انا اخو المصطفى لا شك في نسبي 363، 292

أنت

الجليل ربنا لم تدنس 185

إن صح ما أبصرت في المنام 185

سيد المرسلين ،ج 1،ص:641

أنّ آيات ربنا بينات 185

إن ابن آمنة النبي محمّد 72، 518

انّ عليا لميمون نقيبته 372

إنّ الفراغ و الشباب و الجدة 275

إنّ الفضول تعاقدوا و تحالفوا 249

ان الذين سموا باسم محمّد 211

اوصيك يا عبد مناف بعدي 289

ان يكن ما اتى به احمد اليوم 213

بشيبة الحمد اسقى اللّه بلدتنا 287

بناة مكارم و اساة جرح 77

تشاجرت الاحياء في فصل خطة 285

تظل مقاليت النساء يطأنه 76

حلفت لنعقدن حلفا عليهم 249

خانته لما رأت شيبا بمفرقه 75

خلوا سبيل الجاهد المجاهد 618

دعانا الزبير الى بيعة 374

دعوت ابا المغوار في الحضر دعوة 78

رأيت عليّا لا يلبّث قرنه 372

سبقتكم الى الاسلام طرا 363

سقته اباة الشمس إلا لثاثة 76

سلط الموت و المنون عليه 56

شادن يحلو اذا ما ابتسمت 76

صحوت و اوقدت للجهل نارا 79

صلى الإله و من يحيق بعرشه 214

طلع البدر علينا 622

فالزمتني ذنبا و غيري جرّه 73

سيد المرسلين ،ج 1،ص:642

فاني اذا كالثور يضرب جنبه 72

فان يك حقا يا خديجة فاعلمي 215

فحوطوا عليا فانصروه فانه 373

فشق له من اسمه ليجلّه 211

فصلّى الاله على أحمد 374

ففي كف احمد قد سبّحت 214

فقل للمضل من وائل 374

فلا تحسبونا خاذلين محمدا 514

فلا تجعلوها كالبقير و فحلها 73

فليت لي بهمو قوما اذا ركبوا 66

فلو ان عندي جارتين و راقيا 76

فهذا نبي اللّه أحمد سبّحت 214

فيا رب ان اهلك و لم تروها متى 56

فيا ليت ان الجن جازوا حمالتي 78

قالوا و قد طال عنائي و السقم 78

قد استعذنا بعظيم الوادي 79

قلبت ثيابي و الظنون تجول بي 75

قل للقوافل و الغزاة إذا غزوا 74

قف عند رأيك و اجتهد 519

كذاك الثور يضرب بالهراوى 72

كذبتم و بيت اللّه نبزى محمّدا 517

كمن يكوي الصحيح

يروم برء 73

لا تحسبن رثائما عقّدتها 75

لعمري ان عشرت من خيفة الردى 75

لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد 214

لعمري لئن بايعتم ذا حفيظة 374

سيد المرسلين ،ج 1،ص:643

لكل ابي بنت يراعى شئونها 63

ليت الغراب غداة ينعب دائبا 80

ليعلم خيار الناس ان محمّدا 521

ما كنت احسب ان الأمر منصرف 372

مع ابن عم احمد المعلى 269

مفجعة قد شفها فقد أحمد 214

من فيه ما فيهم ما تمترون به 373

نبيا يرى ما لا يرون و ذكره 484

نجسته لا ينفع التنجيس 76

هذا علي و ابن عم المصطفى 371

هذا علي و الهدى حقا معه 373

و ابيض يستسقى الغمام بوجهه 290، 516

و إن عليا لكم مصحر 373

و ساحرة عينيّ لو أنّ عينها 80

و ان ولى الأمر من بعد محمّد 371

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى 599

و اللّه لو كنت الها لم تكن و لا ينفع التعشير ان حمّ واقع 74

و لو لا أبو طالب و ابنه 533

و كلّفتني ذنب امرئ و تركته 73

و كم شققنا من رداء محبّر 77

و كم ناديته و الليل ساج 78

وصي رسول اللّه من دون أهله 372

يا آل فهر لمظلوم بضاعته 249

يا راكبا بلغن عني مغلغلة 455

يا رب يا رب أنت مولاه 269

سيد المرسلين ،ج 1،ص:644

يا رب لا أرجو لهم سواكا 287

يا رب ردّ راكبي محمّدا 299

يا عجبا لهذه الفليقة 78

يا كحل قد اثقلت اذناب البقر 72

سيد المرسلين ،ج 1،ص:645

(4) فهرس الأعلام

(أ) آپولو 551.

آزر 122، 124، 130، 131، 132، 133، 140.

إبراهيم (الخليل) 29، 37، 48، 51، 54، 59، 89، 119، 120، 122، 123، 124، 125، 126، 127، 129، 130، 131، 132، 133، 134، 135، 136، 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143، 144، 145، 162، 203، 239، 240، 271، 278، 282، 292، 350، 498.

ابراهيم

(بن رسول اللّه) 96.

ابراهيم بن علي الدينوري 528.

أبرهة 159، 161، 162، 163، 164، 165، 169، 170، 182، 186، 187، 188، 286، 552، 593، 605.

ابن أبي شيبة 361، 377.

ابن أبي الحديد 214، 267، 269، 360، 361، 363، 364، 365، 368، 523.

ابن اسحاق (صاحب السيرة) 356، 371، 378.

ابن الاثير 170، 259، 357، 364، 413، 455، 598، 599، 602، 604، 612، 615، 619.

ابن أمّ مكتوم 481.

ابن تيمية 395، 396، 397، 398، 600، 602.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:646

ابن حجر 357.

ابن حذيفة الاسدي 373.

ابن حنظلة 522.

ابن خالدون 16، 64.

ابن ربيعة 557، 558.

ابن الزبير 250

ابن سعد (صاحب الطبقات) 358، 561.

ابن شهر اشوب

ابن الصباغ المالكي 618.

ابن طاوس 258.

ابن طلحة (الشافعي) 363.

ابن عباس 60، 164، 265، 266، 360، 363، 365، 368، 612.

ابن عبد البر 378.

ابن كثير الشامي 410، 516.

ابن ماجة (صاحب السنن) 361.

ابن مزاحم (مؤلف وقعة صفين) 362، 363، 366.

ابن المغازلي 360.

ابن المغيرة المخزومي 284.

ابن هشام (المؤرخ) 214، 244، 250، 268، 272، 281، 283، 296، 341، 377، 416، 423، 424، 427، 455، 468، 508، 521، 541، 563، 577، 598، 599، 600، 604، 624.

ابن الوليد 431.

ابي بن خلف.

أحمد الاحسائي 547.

أحمد (اسم النبي) 212، 213، 214.

أحمد بن حنبل 531، 532.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:647

أحمد بن معين بن خراش 531.

أحمد بن عبد الحليم الحراني 596.

الاخنس بن شريق 439، 483.

أردشير بابك 112.

أرقم بن أبي الارقم 388، 416.

اريقط 603.

اساف (صنم) 90.

اسبوتنيك 551.

اسحاق المدني 371.

أسعد بن زرارة 50، 51، 52، 569، 571، 578، 623.

إسفنديار 473.

إسماعيل (النبيّ) 30، 36، 37، 48، 52، 89، 119، 131، 141، 142، 143، 144، 145، 146، 149، 155، 158، 188، 192، 205، 350.

الاسكندر 613.

الأسود بن المطلب 488.

الأسود بن يغوث 423.

اسيد بن حضير 597.

إلياس (جد النبيّ) 146.

أميّة بن أبي الصلت

439.

أميّة بن خلف 390، 415، 488.

أميّة بن عبد شمس 150.

أنس بن رافع 567.

أنس بن مالك 261، 269، 364، 611.

انوشيروان 102، 105، 106، 107، 109، 115، 116، 117، 202.

اياس بن معاذ 567.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:648

(ب) بحيرى (الراهب) 231، 232، 233، 234، 275.

بدر من معشر 246.

البراء بن معرور 571.

البراق 535.

البراض بن قيس الكناني 247.

بركة 291.

بريد الاسلمي 365.

بلال الحبشي 415.

(ت) تبان اسعد 160.

توماس كارليل 85.

تيباريومس (الامبراطور) 116.

(ج) جابر بن عبد اللّه الانصاري 260، 362، 364.

جاجارين (رائد فضائي) 551.

جبر (الغلام المسيحي).

جبرئيل 261، 267، 286، 294، 321، 322، 327، 382، 383، 386، 464، 507، 535، 539، 585، 587، 600، 601.

جعفر بن أبي طالب 96، 214، 258، 285، 286، 300، 454، 457، 458، 460، 469، 493.

جعفر بن محمّد (الإمام) 179، 195، 263، 275، 294، 529.

جلال الدين الطوسي 292.

جندب بن زهير 373.

جنيد بن عبد الرحمن 376.

جواد علي (مؤلف) 91.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:649

جونس (دكتر مارسدن) 611.

(ح) الحارث بن عبد المطلب 155.

الحارث بن كلدة 18، 156، 504.

الحارث بن نوفل 441.

حبيب بن اويس 57.

الحجاج 375.

حجر بن معاذ الغفراني 622.

حذيفة الغدر 65.

حذيفة بن اليمان 263.

حرب بن اميّة 151، 154، 211، 214، 361، 373.

الحسن بن علي (الإمام) عليه السّلام 250، 269، 357، 364، 376.

الحسين بن علي (الإمام) عليه السّلام 250، 269، 377، 611.

حضير 574.

حكيم بن حزام 279، 280، 503، 504.

حكيم مولى زاذان 361.

حمزة (عم النبيّ) 190، 215، 273، 286، 409، 410، 411، 425.

حناطة 162.

حمزة الاصفهاني 88، 103.

حيدة بن معاوية العامري 299.

(خ) خالد بن الوليد 610.

خالد (حكيم العرب) 480.

خالد بن زيد 622.

خباب بن الارت 422، 425، 426.

خزيمة (جد النبيّ) 146.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:650

خزيمة بن ثابت 372.

خسرو برويز 88، 101، 102، 103، 110، 111، 113، 117، 118، 452.

الخطاب 424.

خلف 423.

الخميني (الإمام) 615.

خويلد

262، 263، 264، 266، 267، 273، 367، 383.

(د) داود (النبيّ) 237.

داود بن أبي هند 360.

ديمتريوس 31.

ديودورس 31.

(ذ) ذو نفر 162.

ذو نواس 161.

ذو الخلصة (صنم) 91.

(ر) ربيع بن الحرث 372، 557.

ربيعة 147، 376، 558، 559، 618.

رستم 471، 474.

رينان (مسيو) 85.

(ز) الزبير بين عبد المطلب 249.

زرارة بن اعين 342.

زفر بن يزيد 373.

زكريا (النبيّ) 174، 223، 295.

زمعة بن الاسود 500.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:651

زياد بن ابيه 595.

زيد بن ارقم 356، 365.

زيد بن حارثة 354، 356، 387، 522.

زيد بن عمرو بن نفيل 224، 282.

زيني دحلان (المؤرخ) 289، 524.

الزهره (كوكب) 125.

زهير بن أبي أميّة 504، 505، 506.

(س) سالم بن أبي جعد 370.

سالمين (محمّد علي) 60.

سراقة بن مالك بن جعشم 615.

سعد (صنم) 90.

سعد بن أبي وقاص 81، 387، 388، 503.

سعد بن عبادة 576، 577، 623.

سعد بن معاذ 578.

سعيد بن زيد 388، 424، 425، 426.

سعيد بن قيس الهمداني 371.

سفيان بن سعيد الثوري 530، 531.

سلامة (بولس) 511.

سلمان الفارسي 367، 609.

سلمة بن كهيل 361.

سليمان 237، 238.

سمرة بن جندب 594، 595، 596.

سويد بن صامت 566.

سهل و سهيل 622.

سهيل (كوكب) 52.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:652

سيد قطب 182، 184.

(ش) شنفرة 65.

شهر بزاز (أخ سلمان) 111.

شيبة بن ربيعة 152، 376، 557، 558.

شيث (النبيّ) 371.

شيرويه 111، 118.

(ص) الصدى (طائر خرافي) 56.

صدر الدين الشيرازي (الفيلسوف) 176.

صعصعة بن ناجية 46.

الصلت بن أبي يهاب 265.

(ط) طارق بن شهاب الاحمس 370.

طالب 51.

الطاهر (بن النبيّ) 278.

الطفيل بن عمرو الدوسي 542.

الطيب (بن النبيّ) 278.

(ع) العاص بن وائل السهمي 249، 376، 411، 412، 422، 423، 432، 488، 504، 507.

عامر بن فهيرة 602.

عبادة بن الصامت 569.

عباس بن عبد المطلب (عم النبيّ) 262، 285، 286، 355، 357، 360، 420، 421، 471.

عبد الحليم (الشيخ محمود) 614.

عبد الدار 147، 148.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:653

عبد الرحمن بن

حنبل الجمحي 374.

عبد الرحمن بن عثمان 250.

عبد الرحمن بن عوف 387.

عبد الرحمن بن محمّد الحضرمي المالكي (القاضي)- ابن خالدون.

عبد الرحمن بن ملجم 595.

عبد الرزاق 357.

عبد شمس 148، 149، 150، 468.

عبد اللّه (بن النبيّ) 278.

عبد اللّه (والد النبيّ) 146، 147، 157، 158، 189، 190، 191، 192، 193، 194، 196، 197، 215، 227، 228، 258، 260، 277، 279، 291، 292، 357، 388، 574.

عبد اللّه بن أبي بكر 602.

عبد اللّه بن أبي بن سلول 623.

عبد اللّه بن أبي خزرج 568.

عبد اللّه بن أبي سفيان 371.

عبد اللّه بن أبي شيبة 361.

عبد اللّه بن أبي رافع 470.

عبد اللّه بن انيس 611.

عبد اللّه البجلي 374.

عبد اللّه بن برير 371.

عبد اللّه بن الحارث 554.

عبد اللّه بن حجر 370.

عبد اللّه (بن حليمة) 215.

عبد اللّه بن جحش 282.

عبد اللّه بن جدعان 249، 459.

عبد اللّه بن خبابة 370، 371.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:654

عبد اللّه بن ربيعة 456، 459.

عبد اللّه بن الزبير 250.

عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم 186.

عبد اللّه بن مسعود 369، 417، 418.

عبد اللّه بن مظعون 388.

عبد الكريم الخطيب 600.

عبد الملك بن عمير 530، 531.

عبد المطلب (جد النبيّ) 51، 119، 146، 152، 153، 154، 155، 156، 157، 158، 162، 163، 164، 189، 190، 191، 192، 193، 197، 211، 213، 215، 216، 217، 223، 227، 228، 229، 230، 249، 257، 258، 286، 287، 289، 292، 299، 353، 372، 404، 409، 420، 425، 504، 513، 555، 563، 571.

عبد مناف 146، 147، 148، 149، 152، 190، 289، 441، 513.

عبد العزيز بن محمّد الدراوردي 530، 531.

عبيدة بن الحارث 388.

عبد الوهاب النجار 190، 194.

عتبة بن ربيعة 50، 430، 432، 557، 558.

عتيق بن عائذ 247.

عثمان بن حويرث 282.

عثمان بن عفان 252، 382،

388.

عثمان بن مظعون 388، 462.

عداس 558، 559.

عدنان 146.

عدي بن حاتم 370.

عروة الرجال 247.

العزّى (صنم) 54، 55، 90، 279، 293، 415، 488، 493.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:655

عطارد 52.

عفيف الكندي 259، 357.

عاقبة بن أبي معيط 258، 265، 413، 423، 462، 504، 522.

عكرمة 170، 262.

علي بن أبي طالب 91، 149، 195، 205، 217، 218، 243، 244، 255، 260، 266، 267، 268، 285، 286، 294، 316، 354، 356، 358، 359، 360، 361، 364، 366، 367، 369، 370، 371، 372، 374، 375، 376، 377، 378، 379، 381، 387، 394، 395، 397، 398، 425، 480، 506، 513، 514، 523، 524، 526، 529، 535، 542، 583، 587، 588، 590، 593، 594، 595، 596، 597، 598، 599، 600، 601، 602، 603، 609، 610، 613، 618، 619.

علي بن الحسين السجّاد (الإمام) 55.

علي بن موسى الرضا (الإمام) 300.

علي بن إبراهيم (المفسر) 588.

عماد الدين ابن كثير 248.

عمار بن ياسر.

عمارة بن الوليد بن المغيرة 406.

عمر بن الخطاب 360، 368، 410، 412، 424، 426.

عمر رضا كحالة 427.

عمرو بن اسد 273.

عمرو بن الجموح 620، 621.

عمرو بن الحمق 371.

عمرو بن عاص 423، 456، 459.

عمرو بن لحي 53، 90.

عمرو الخزرجي 151.

عمرو العلا 148.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:656

عميانس (صنم) 90، 161.

عياض (القاضي) 610.

عيسى بن مريم 201، 202، 203، 204، 240، 241، 295، 342، 358، 459، 498، 521، 571، 605.

(غ) غالب 146.

الغرانيق 487، 489، 493، 494.

غسان 40، 87، 88، 89، 150.

غوستاف لوبون 41.

(ف) فضل بن أبي لهب 373.

فضل بن الحارث 248.

فضل بن فضالة 248.

فضل بن وداعة 248.

فضيل بن جندب 162.

فلاماريون 100.

فريد وجدي (محمد) 544.

فهر (جد النبيّ) 146.

(ق) القاسم (بن رسول اللّه) 263، 278.

القاصعة (الخطبة) 356.

قدامة بن مظعون 388.

القراريط 252.

قصي بن كلاب (جد النبيّ) 146، 147، 148، 155.

القمر 546،

551.

قيس بن زهير 65.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:657

قيس بن عاصم 59.

قيصر 161، 357، 423.

قتاد بن دعامة 375.

(ك) كعب (جد النبيّ) 146.

كعب بن زهير 372.

كعب الاحبار 477.

كعب بن مالك 214.

كلاب بن مرة (جد النبيّ) 146.

كنانة (جد النبيّ) 146.

كلثوم بن هرم 617.

(ل) اللات (صنم) 54، 55، 90، 279، 293، 415، 488، 493.

لؤي 146.

لبيد (الشاعر) 461، 462.

لقمان 566.

اللوح المحفوظ 345.

(م) مارسدن جونس 611.

مالك (جد النبيّ) 146.

مالك بن الحارث الاشتر 369.

مالك بن عبادة 373.

المأمون 378.

ماني 113.

ماه بنداذ (اخو سلمان) 609.

مجاهد (المفسّر) 207.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:658

محمّد بن أبي بكر 371.

محمّد بن أحمد الذهبي 531.

محمّد بن اسحاق (المؤرخ) 266، 556.

محمّد بن جرير الطبري 396.

محمّد حسنين هيكل 182، 278، 280، 339، 341، 397.

محمّد حميد اللّه (مؤلف) 609.

محمّد بن حنفية 370.

محمّد بن سلمة 611.

محمّد بن مسلم 375.

محمّد عبدة 168، 182، 183، 300.

محمّد عزت نصر اللّه 214.

محمّد المكندر المدني 371.

محمود الآلوسي 71.

محمود بن عبد الحليم 614.

مخرمة بن نوفل الزهري 250.

مدركة (جدّ النبيّ) 146.

مرّة (جدّ النبيّ) 146.

المريخ (كوكب) 546، 551.

مزدك 113، 114.

المسورة بن مخرمة

المسيح 54، 117، 167، 181، 195، 201، 222، 240، 259، 271، 296، 458، 459، 521، 525، 536، 612.

المشتري (كوكب) 52.

مصعب بن عمير 570، 578، 579.

مضاض بن عمرو الجرهمي 155.

مضر بن نزار (جدّ النبيّ) 146.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:659

المطعم بن عدي 406، 501، 505، 560، 561، 577.

المطلب 148، 150، 152، 153.

معاذ بن جبل 71، 260، 360.

معاذ بن عمرو 620.

معاوية 269، 363، 364، 370، 371، 566، 594.

معد (جد النبيّ) 146.

المغيرة (جد النبيّ) 147.

المقداد بن عمرو 368.

المقداد السيوري 196.

الملا علي القاري 610.

مناة (صنم) 54، 90، 488، 493.

مناف (صنم) 54، 91.

منذر بن عمر 577.

منصور بن عكرمة 501.

ميسرة (غلام خديجة) 256، 257، 270.

ميكائيل 600.

موسى بن جعفر (الإمام) 262، 553.

موسى (النبيّ) 121، 122،

158، 167، 181، 200، 201، 202، 203، 239، 262، 340، 341، 369، 475، 497، 521، 525، 573، 605.

(ن) نائلة (صنم) 90.

ناصح (غلام خديجة) 256.

نزار (جدّ النبيّ) 146.

نصير الدين الطوسي 196.

النضر (جدّ النبيّ) 146.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:660

النضر بن الحارث 432، 463، 473، 474.

النعمان بن المنذر 59، 88.

نعيم بن عبد اللّه 425.

نفيل بن حبيب الخثعمي 162.

النمرود بن كنعان 121، 122، 136، 138، 140.

نوح النبيّ 145، 251، 498.

نوفل بن عبد مناف 148، 149، 150.

(ه) هارون (النبيّ) 341، 369.

هاشم بن عبد مناف (جدّ النبيّ) 146، 148، 149، 150، 151، 152، 290، 369، 372.

هاشم بن عتبة 369.

هامّة 82.

هبل (صنم) 54، 90.

هبيرة بن وهب المخزومي 285.

هرودتس 40، 41، 120.

هرقل 118.

هشام بن عمرو 504.

هند بن أبي هالة 599، 602.

(و) ورقة بن نوفل 189، 192، 214، 270، 271، 273، 282، 238، 340، 341، 342، 390، 391، 415.

الوليد بن عتبة 250، 373، 481، 489.

الوليد بن المغيرة 283، 423، 428، 439، 461، 462، 468، 469، 480، 488، 491، 492، 503.

وهب بن عبد مناف 190.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:661

ويليام مويير (السير) 493.

(ي) ياسر 416، 417.

يحيى بن زكريا (النبيّ) 259، 295، 296، 377.

يزدجرد 622، 624.

يعرب بن قحطان 36.

يعقوب (النبيّ) 238، 256.

يوسف 239.

يونس بن عبد الرحمن 553.

يونس بن متى (النبيّ) 558، 559.

النساء:

آسية بنت مزاحم 262، 263.

آمنة بنت وهب 190، 191، 192، 193، 196، 197، 206، 207، 212، 213، 227، 231، 291، 454، 518.

أسماء بنت عميس 260.

أنيسة (بنت حليمة السعدية) 215.

بلقيس 33.

ثويبة 215.

حليمة السعدية 70، 215، 216، 217، 221، 222، 223، 227، 277، 293.

خديجة بنت خويلد 191، 215، 254، 255، 256، 257، 258، 259، 260، 261، 262، 263، 264، 265، 266، 267، 268، 269، 270، 271، 272، 273، 274، 276، 277، 278،

279، 280، 293، 322، 338، 339، 350، 353، 354، 356، 357، 366، 367، 375، 380، 381، 383، 384، 387، 503، 507، 555، 556، 599، 601.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:662

حولة 382.

دلالة 190.

رقية (بنت رسول اللّه) 263، 278.

زينب (بنت رسول اللّه) 263، 278.

سارة (زوجة الخليل ع) 108، 141، 145، 239، 240.

سلمى (زوجة هاشم) 151، 152، 263.

سميّة (زوجه ياسر) 416، 417.

الشيماء (بنت حليمة السعدية) 215، 216.

عائشة بنت أبي بكر 261، 262، 263، 265، 267، 353.

عاتكة (بنت عبد المطلب) 215.

فاطمة بنت الخطاب 424، 425، 426.

فاطمة الخثعمية 191، 192، 193، 194.

فاطمة الزهراء (ع) (بنت رسول اللّه- ص-) 95، 265، 269، 278، 359، 360، 509، 602، 618.

فاطمة (أم قصي بن كلاب) 147.

فاطمة بنت أسد (أم عليّ بن أبي طالب) 529، 602.

فاطمة بنت الزبير 602، 618.

الفواطم 602.

مريم بنت عمران (أمّ السيد المسيح- ع-) 54، 101، 201، 222، 223، 262، 263، 295، 458، 459، 521، 525، 571.

هاجر (زوجة الخليل- ع) 37، 141، 142.

هندة 143، 144.

مارية القبطية 278.

معاذة بنت عبد اللّه العدوية 363.

نفيسة بنت عليّة 272.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:663

(5) فهرس القبائل و الامم

آل الرسول 57.

آل سعود 512.

آل ياسر 416.

اسلم (قبيلة) 283. سيد المرسلين ج 1 663 (5) فهرس القبائل و الامم ..... ص : 663

حاب الاخدود 161.

أصحاب الكهف 282.

الانصار 619.

الاوس و الخزرج 30، 50، 90، 91، 565، 566، 567، 568، 571، 574، 575، 576، 620، 622، 623.

بنو إسرائيل 295، 498، 573.

بنو إسماعيل 573.

بنو افقم 162.

بنو أميّة 54، 149، 481.

بنو بكر 421.

بنو تميم 52، 59.

بنو جمح 374، 415.

بنو سالم بن عوف 624.

بنو سعد 216، 217، 222، 223، 224، 227.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:664

بنو سلامان 65، 88.

بنو سلمة 620، 621.

بنو عامر 246، 563، 564.

بنو عبد الاشهل 567، 568، 569.

بنو عبد الدار 284.

بنو عبد مناف 505،

513.

بنو عبس 65.

بنو عدي 284، 291، 411.

بنو عمرو بن عوف 617، 622.

بنو قريظة 565.

بنو قينقاع 51، 565.

بنو كنانة 90، 146، 245.

بنو مخزوم 409.

بنو المطلب 501، 522، 563، 585.

بنو مليح 52.

بنو النضير 565.

بنو هاشم 37، 51، 153، 217، 230، 255، 273، 290، 354، 355، 394، 408، 412، 413، 440، 450، 501، 502، 503، 504، 506، 508، 520، 522، 537، 584، 585، 590، 601، 602.

تبابعة 32.

ثقيف (قبيلة) 557.

ثمود (قوم) 36، 233.

جرهم (قبيلة) 37، 154، 155.

حمير (قبيلة) 52.

خزاعة 90، 154، 155، 560، 584.

دوس (قبيلة) 161.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:665

الروم 40، 86، 87، 88، 89، 98، 99، 100، 101، 102، 105، 106، 116، 117، 118، 160.

الساسانيون 88، 102، 103، 104، 105، 106، 110، 111، 112، 115.

سعد بن بكر (قبيلة) 215.

عاد (قوم) 36، 233.

العدنانيون 113، 114، 115.

العرب البائدة 36، 37، 38.

العمالقة 30.

الغساسنة 40، 86، 87، 88، 89، 150، 187.

القحطانيون 36، 565.

قريش 37، 43، 45، 91، 96، 147، 149، 150، 153، 154، 155، 156، 157، 158، 162، 163، 164، 170، 186، 189، 190، 207، 211، 214، 215، 227، 230، 231، 234، 235، 240، 244، 246، 247، 249، 253، 256، 257، 258، 259، 264، 265، 266، 267، 270، 271، 272، 273، 274، 276، 277، 280، 281، 283، 284، 285، 286، 287، 290، 295، 302، 319، 321، 354، 355، 460، 368، 381، 388، 390، 391، 402، 403، 404، 405، 406، 407، 408، 409، 410، 411، 412، 413، 417، 418، 419، 420، 421، 423، 425، 429، 430، 432، 439، 440، 450، 451، 452، 453، 455، 456، 457، 458، 460، 461، 462، 463، 464، 465، 466، 467، 469، 470، 471، 473، 474، 480، 483، 484، 485، 488،

490، 492، 493، 500، 501، 502، 503، 504، 505، 506، 507، 508، 511، 513، 514، 516، 521، 522، 527، 528، 536، 539، 541، 542، 543، 544، 555، 556، 557، 559، 560، 561، 563، 567، 575، 577، 580، 581، 583، 584، 585،

سيد المرسلين ،ج 1،ص:666

587، 588، 589، 591، 592، 601، 604، 615، 616.

كنانة (قبيلة) 245، 246.

مذحج (قبيلة) 243.

المناذرة 617.

اللخميّون 88، 89.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:667

(6) الكنى و الألقاب

«الكنى» الرجال أبو أحيحة 54.

أبو الاسود الدؤلى 373.

أبو امامة (ابن النقاش) 267.

أبو اميّة (ابن مغيرة المخزومي) 284.

أبو أيوب (الانصاري) 360، 369، 622.

أبو البختري 432، 504، 584.

أبو بصير- اعشى بن قيس 485، 505.

أبو بكر (ابن أبي قحافة) 354، 360، 363، 368، 370، 371، 373، 378، 388، 410، 411، 418، 425، 483، 590، 592، 602.

ابو تراب (علي بن أبي طالب) 376، 377.

أبو تمام (الشاعر) 57.

أبو جعفر الاسكافي 397.

أبو جهل 258، 265، 267، 302، 358، 409، 410، 412، 415، 417، 422، 423، 429، 430، 432، 439، 462، 463، 483، 504، 505، 522، 584، 585.

أبو حاتم 531، 532.

أبو حازم 375.

أبو الحسن البكري 270.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:668

أبو حكيم 409.

أبو حنظلة 522.

أبو داود 361.

أبو ذر الغفاري 368، 371، 418، 419، 420، 421، 533.

أبو ذؤيب 215.

أبو رافع الطبراني الهيثمي 362، 365، 367، 369.

أبو رغال (ثقيف) 162.

أبو زرعة 260، 532.

أبو سعيد الخدري 360، 368، 375.

أبو سفيان 54، 189، 258، 265، 371، 373، 390، 432، 483، 537، 560.

أبو سلمة 388.

أبو طالب (عم رسول اللّه) 119، 149، 213، 214، 229، 230، 231، 232، 234، 254، 255، 258، 264، 266، 267، 273، 286، 288، 290، 293، 299، 355، 356، 371، 377، 379، 387، 394، 395، 398، 404، 405، 406، 407، 408، 412، 459، 460، 501، 506،

507، 508، 511، 512، 513، 514، 515، 516، 517، 518، 519، 520، 521، 522، 523، 524، 526، 527، 528، 529، 530، 532، 533، 541، 542، 555، 556، 561، 562، 619.

أبو العاص بن الربيع 503.

أبو عبد شمس 420، 429، 461.

أبو عبيدة (الجراح) 368، 388.

أبو عثمان 376.

أبو عمرة (بشير بن محصن) 370.

أبو عمرو (مؤلف) 365، 366، 367، 368.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:669

أبو عمرو (عامر الشعبي الكوفي) 374.

أبو عمرو (ابن قتيبة) 361.

أبو فرج الاصفهاني 285.

أبو مرازم 369.

أبو لهب 54، 215، 372، 394، 409، 413، 422، 502، 563، 590، 591.

أبو مسعود (عمرو بن عمير الثقفي) 439.

أبو مكرز 592.

أبو نضر (محمّد بن السائب الكلبي) 376.

أبو نعيم (مؤلف) 291.

أبو هالة التميمي 274.

أبو هريرة 260، 533.

أبو هفان العبدي 516.

أبو الهيثم بن التيهان 571، 572.

أبو الوليد- عتبة بن ربيعة 431.

أبو اليقظان- عمران بن عبد اللّه 263.

النساء أم أيمن 171، 191، 197، 227، 260، 289، 291، 360.

أم أيّوب (الانصارية) 622.

أم جميل بنت حرب 413، 414.

أمّ سلمة 454، 611.

أمّ كلثوم (بنت رسول اللّه) 261، 278.

أمّ معبد 616.

أم هاني (اخت علي بن أبي طالب) 535، 536، 538.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:670

«الألقاب» الاصمعي 609.

الاميني (العلامة) 358، 359، 530، 584.

البلاذري 609.

البلاغي 241.

البيهقي 541.

الترمذي 364.

الجاحظ 596.

الجنابذي 256.

الحاكم النيسابوري 612.

الحلبي 603.

الخوارزمى 360، 369.

الديار بكري 210.

ذو القرنين 382، 464.

الزرقاني 292، 246، 366.

السيوطي (جلال الدين) 369، 372.

الشبراوي (صاحب الاتحاف) 292.

الشهرستاني 288.

الشهيد الثاني 205، 207.

الطباطبائي 307، 311، 346.

الطبرسي 307، 339، 481، 540، 541.

الطبري 340، 356، 358، 361، 362، 379، 380، 383، 396، 397، 398، 488، 598، 599.

الطريحي (المؤلف) 205.

الطوسي (الشيخ) 599، 601، 603، 618.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:671

فخر الإسلام 241.

الفخر الرازي 307، 348، 509.

الفرزدق 46، 49.

الفردوسي (الشاعر) 106، 107، 108.

فرعون 121، 189، 200، 239، 240، 262.

القسطلاني 367، 375.

القوشجي 196.

كسرى

103، 110، 202، 357.

لكلبي 52.

المجلسي (العلامة) 296، 341، 413، 616، 624.

المسعودي (المؤرخ) 41.

المقريزي 204، 598.

النفيسي (سعيد) 104.

اليعقوبي 288، 385.

النجاشي 96، 161، 374، 375، 454، 455، 456، 457، 458، 459، 460، 493.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:672

(7) فهرس الوقائع و الأيام

احد (معركة) 486.

الأحزاب (معركة) 416، 461، 471، 480، 488.

بدر (معركة) 416، 480، 486، 561.

بعاث (يوم) 67، 574.

بيعة العقبة 575.

بيعة النساء 570.

حادثة الفيل 159، 182، 183، 185، 203، 552، 605.

حجة الوداع 64.

حلف الفضول 248، 249.

الخندق (معركة) 480، 486.

داحس و الغبراء (حرب) 65.

صفين (وقعة) 366، 369، 372.

الفجار (حروب) 244، 245، 246، 248، 273.

القرطاء (غزوة) 611.

ليلة المبيت 595، 596.

المباهلة 537، 541، 542.

المعراج 544، 545.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:673

(8) فهرس الأماكن و البلدان

آسيا 27، 116.

الابواء 228.

الاتحاد السوفيتي 159، 551.

الاحساء 28.

الاحقاف 28.

الاردن 536.

أرمينية 98.

الازهر 346، 614.

افريقية 28.

امريكا 85.

الاندلس 100.

انطاكية 27، 87، 89، 98.

اوربة 40، 100، 237.

اورشليم 7، 111.

ايران 27، 87، 89، 98.

ايطاليا 27.

بابل 120، 122، 123، 134، 140، 141.

بادية سماوة 27.

البحر الاحمر 27، 29، 31، 32.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:674

بحيرة ساوة 202.

البصرة 303، 367.

بصرى 231، 232، 234، 235.

بيت اللّه الحرام 289.

بيت المقدس 536، 537، 611.

بيروت 511.

تهامة (سوق) 256.

ثنية الوداع 626.

جبل أبو قيس 287.

جدّة 29، 284، 453.

الجزيرة العربية 27، 32، 36، 39، 40، 52، 54، 55، 66، 71، 85، 87، 88، 89، 97، 98، 199، 202، 280، 282، 306، 415، 520، 576، 580.

الجنة و النار 536.

الحبشة 87، 96، 150، 161، 224، 282، 291، 415، 424، 450، 451، 453، 454، 457، 460، 463، 465، 469، 493، 494، 501، 508.

الحجاز 27، 28، 29، 31، 40، 41، 50، 52، 86، 89، 90، 91، 132، 141، 142، 152، 155، 199، 224، 282، 283، 511، 512، 595.

حجر اسماعيل 144.

الحجر الاسود 284، 412.

الحديدة (ميناء) 32.

حراء (جبل/ غار) 284، 319، 320، 321، 322، 354، 382، 383.

الحيرة 27، 52، 87، 88، 89، 150، 452.

الخليج 27، 28.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:675

خليج عمان 27.

الخورنق 88.

خيبر 215.

دار الندوة 147، 148، 453، 455، 468، 501، 581، 583.

دار الخيزران 389.

دجلة 27.

دمشق 89، 376،

610.

الدهناء 28، 231.

ديار ثمود 231.

ذو المجاز (سوق) 245.

ذي طوى 618.

الربع الخالي 28.

زمزم 37، 90، 144، 154، 155، 156، 157، 363، 366.

سبأ 33.

سدرة المنتهى 536.

سويسرا 27.

الشام 27، 86، 89، 90، 117، 141، 142، 147، 150، 151، 155، 169، 187، 191، 196، 230، 231، 232، 233، 234، 256، 258، 270، 279، 293، 303، 366، 441، 452، 517، 527، 537، 565، 594.

شعب أبي طالب 512.

صحراء الشام 27.

صحراء العرب 27، 31.

صحراء النفوذ 258.

صنعاء 32، 33.

ضجنان 618.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:676

الظهران 28.

الطائف 29، 54، 90، 247.

العدن 31.

العراق 87، 149، 261، 365، 368، 373، 557، 559، 595.

العربية السعودية 41، 512.

العرم عسفان العقبة 569، 570، 571، 575، 576.

عكاظ (سوق) 245، 246، 247.

غار ثور 591، 592، 601، 603، 619.

غزة 149.

الفرات 27، 87، 120، 371.

فرنسا 27.

فلسطين 27، 29، 37، 117، 141، 536.

القاهرة 379.

قبا 617.

القسطنطينية 89.

القطيف 511.

قم 512.

الكعبة المعظمة 29، 30، 54، 133، 145، 155، 157، 159، 162، 164، 186، 187، 188، 202، 207، 249، 265، 283، 284، 287، 288، 290، 296، 357، 367، 404، 432، 441، 488، 501، 611.

الكوفة 88.

مازندران 106.

مأرب 33، 41.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:677

مجنة (سوق) 245.

المحيط الهندي 27.

مدين 231.

المدينة المنورة 29، 30، 36، 51، 54، 87، 88، 89، 91، 97، 101، 120، 122، 124، 135، 160، 219، 291، 382، 442، 512، 561، 565، 578، 581، 582، 583، 586، 591، 592، 604، 609، 612، 615، 616، 617، 622، 623، 624.

مراكش 596.

مروة (جبل) 143، 235.

المسجد الاقصى 536، 538، 539.

المسجد الحرام 284، 418، 538، 539، 560.

مصر 121، 141، 243.

المغمس 162.

مكة المكرمة 29، 30، 37، 50، 51، 52، 53، 54، 90، 91، 96، 101، 141، 143، 144، 145، 147، 149، 150، 151، 152، 154، 155، 162، 163، 164، 185،

187، 188، 189، 196، 197، 207، 216، 222، 223، 227، 230، 231، 234، 247، 249، 253، 256، 257، 258، 259، 276، 277، 279، 284، 285، 288، 289، 290، 303، 305، 366، 369، 376، 388، 389، 390، 391، 404، 405، 406، 413، 414، 419، 420، 421، 451، 452، 453، 455، 460، 461، 463، 464، 466، 468، 474، 481، 482، 483، 485، 489، 493، 494، 501، 502، 503، 504، 515، 519، 522، 536، 537، 539، 559، 560، 561، 562، 565، 566، 567، 569، 570، 573، 575، 576، 577، 580، 581، 583، 586، 587، 591، 592، 593، 597، 604، 608، 615، 616، 617، 618.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:678

نجد 31، 41.

نجران 89، 160، 610.

نينوى 118، 558.

الهند 85، 115، 265.

وادي القرى 231، 565.

يثرب 30، 152، 158، 160، 197، 277، 303، 565، 566، 569، 570، 573، 583، 602، 604، 608، 622، 624.

اليمن 27، 31، 32، 33، 36، 41، 86، 89، 142، 149، 150، 160، 161، 162، 165، 187، 233، 293، 452، 565، 595.

اليمامة 486.

اليونان 31.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:679

(9) المذاهب و الأديان و نظم الحكم

الآشورية 40.

الأحناف 283.

الاستشراق و المستشرقون 219، 232، 235.

الاشكناني 87.

الرياضة و المرتاضون 182، 184.

الزردشتية 112، 114، 115.

الشاهنشاهية 86، 614، 615.

العثمانية 367.

الكهانة 158.

اللاهوتية 100.

المانوية 112.

المجوسية و المجوس 112، 113، 117.

المزدكية 113، 114.

المدرسية (الفلسفة) اسكولاستيك 100.

النصرانية و النصارى 442، 445، 452، 459، 463، 479.

اليعقوبية 99.

الوهابية و الوهابيون 596.

اليهود و اليهودية 159، 291، 382، 442، 445، 452، 463، 464، 471، 475، 487، 565، 568، 569، 573، 574.

سيد المرسلين ،ج 1،ص:680

(10) فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة ضمنا

1- بحث علمي حول المعجزة 165

2- طهارة النبي (ص) من دنس الآباء و عهر الامّهات 165

3- الاحتفال بذكرى المولد النبويّ ليس شركا 208

4- خطأ المستشرقين في اسم النبيّ (ص) 212

5- «أحمد» كان من أسماء النبيّ (ص) المشهورة 213

6- نظرة الاسلام في تأثير الرضاع 217

7- بحث قرآني و تاريخيّ حول كرامات فترة الطفولة عند النبي 219

8- مقايسة عابرة بين القرآن و العهدين 236

9- خديجة في احاديث الرسول و اهل بيته (ع) 258

10- بحث حول دين النبي قبل البعثة 292

11- دور الأنبياء الاساسي في اصلاح المجتمع 316

12- بحث حول الوحي في نظر الماديين و الالهيين 322

13- مناقشة الاساطير المدسوسة في قصة بدء نزول الوحي 340

14- خاتمية رسول الاسلام 353

15- النبوة و الامامة توأمان 442

16- أسرار النزول التدريجيّ للقرآن 444

17- دراسة لآيات من سورة الحج حول إلقاء الشيطان 494

18- دراسة علمية لحديث الضحضاح 530

19- المعراج و القوانين العلميّة الحديثة 548

20- لما ذا اتخذ العام الهجري مبدأ للتاريخ الاسلامي 605

سيد المرسلين ،ج 1،ص:681

11- فهرس المواضيع

1- شبه الجزيرة العربيّة أو مهد الحضارة الإسلامية 27- 33 مكة المعظمة 29

تاريخ مكّة 29

المدينة المنوّرة 30

2- العرب قبل الإسلام 35- 96 أخلاق العرب و تقاليدهم 37

هل كان للعرب حضارة؟ 39

ملامح المجتمع الجاهلي العربي من منظور القرآن 42

1- الشرك في العبادة 43

2- إنكار المعاد 43

3- هيمنة الخرافات 44

4- الفساد الاخلاقي 45

5- وأد البنات و إقبارهنّ 46

6- تصوّراتهم الخرافيّة حول الملائكة 47

7- كيفيّة الانتفاع من الانعام 47

8- الاستقسام بالأزلام 48

9- النسي ء 48

10- الربا 49

سيد المرسلين ،ج 1،ص:682

صور من الوضع الجاهلي 50

العقيدة و الدين في الجزيرة العربية 52

عقيدة العرب حول حالة الانسان بعد الموت 56

الآداب مرآة أخلاق الشعوب و نفسياتها 57

مكانة المرأة عند العرب الجاهليين 58

المرأة و مكانتها الاجتماعية عند

العرب 60

العرب و الرّوح القتالية 64

الأخلاق العامّة في المجتمع العربي الجاهليّ 66

النزوع إلى الخرافة و الاساطير في المجتمع العربي الجاهليّ 67

الخرافات عند العرب الجاهليين 70

نماذج من الخرافات في المجتمع العربي الجاهليّ 72

1- الاستسقاء باشعال النيران 72

2- ضرب الثّور إذا عافت البقر الماء 72

3- كيّ صحيح الابل ليبرأ السقيم 73

4- حبس ناقة عند القبر إذا مات 73

5- عقر الإبل على القبور 74

6- نهيق الرجل إذا أراد دخول القرية 74

7- تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي 75

8- الرتم 75

9- وطي المرأة القتيل الشريف لبقاء ولدها 75

10- طرح السنّ نحو الشمس إذا سقطت 76

11- تعليق النجاسة على الرجل وقاية من الجنون 76

12- دم الرئيس يشفى 76

13- شق البرقع و الرداء يوجب الحب المتقابل 77

14- معالجة المرضى بالامور العجيبة 77

سيد المرسلين ،ج 1،ص:683

15- خرافات في مجال الغائب 77

16- عقائدهم العجيبة في الجن و تأثيره 79

17- تشاءمهم بالحيوانات و الطيور و الاشياء 80

مكافحة الإسلام لهذه الخرافات 80

أوضاع العرب الاجتماعية قبيل ظهور الإسلام 83

الدين في أرض الحجاز 89

العلم و الثقافة في الحجاز 91

الإمام عليّ (ع) يصف العهد الجاهلي 92

فاطمة الزهراء (ع) تصف الوضع العربي الجاهلي 95

جعفر بن أبي طالب يصف الوضع العربي الجاهلي 96

3- إمبراطوريتا الروم و إيران إبّان عهد الرّسالة 97- 118 أوضاع الروم إبّان عهد الرّسالة 98

ظاهرة الجدل العقيم في المجتمع الروميّ 99

أوضاع ايران إبّان عهد الرّسالة 101

البذخ و الترف في البلاط الساساني 102

الوضع الاجتماعي في إيران 104

حق التعلّم خاصّ بالطبقات الممتازة 105

صفحة سوداء من جرائم خسرو برويز 109

حكم التاريخ في عهد الملوك الساسانيين 110

الفوضى في الحكومة الساسانية 111

الفوضى الدينية في ايران الساسانيين 112

الحروب الإيرانية الروميّة 115

سيد المرسلين ،ج 1،ص:684

4- أسلاف رسول الإسلام (ص) 119- 198 1- بطل التوحيد: إبراهيم الخليل (ع)

119

النبي ابراهيم و مكافحته للوثنية 123

حوار الخليل مع عبّاد الكواكب 125

طريقة الأنبياء في الحوار و الجدال 129

هل كان آزر والد إبراهيم 130

القرآن ينفي ابوّة آزر لإبراهيم 132

إبراهيم محطّم الاصنام 133

العبر القيّمة في هذه القصّة 137

هجرة الخليل عليه السّلام 141

عين زمزم كيف ظهرت؟ 143

2- قصيّ بن كلاب (الجد الثاني لرسول اللّه) 146

3- عبد مناف (الجد الثالث) 147

4- هاشم (الجد الثاني) 148

اميّة يحسد هاشما! 150

هاشم يتزوّج 151

5- عبد المطلب (الجد الأول) 153

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد و النذر 157

حادثة عام الفيل 159

ما هي عوامل هذه الحادثة؟ 160

عبد المطلب يذهب إلى معسكر أبرهة 163

كلمة حول المعجزة 165

نقاط تقتضي التأمّل في تفسير حادث الفيل بالجدري 169

سيد المرسلين ،ج 1،ص:685

بحث علمي حول المعجزة في نقاط خمس: 172

1- ما هي المعجزة و ما هو تعريفها؟ 173

2- هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلّمة 175

أنواع العلل و الاسباب: 176

أ) العلة الطبيعية العادية 176

ب) العلة الطبيعية غير العادية و غير المعروفة 176

ج) تأثير النفوس و الأرواح 176

د) العلل المجرّدة عن المادة 177

3- هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟ 178

4- كيف تدل المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟ 179

5- بما ذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟ 180

أوهام قريش تتفاقم 187

عبد اللّه والد النبيّ (ص) 189

دور الأيادي المشبوهة في تاريخ الإسلام 191

قصة فاطمة الخثعمية 192

علائم الاختلاق في هذه القصة 193

طهارة النبيّ من دنس الآباء و عهر الامهات 195

وفاة عبد اللّه (والد النبيّ) في يثرب 196

5- مولد رسول اللّه (ص) 199- 224 فترة الطفولة في حياة العظماء 199

في أيّ يوم ولد رسول اللّه (ص) 203

أيّ هذين القولين هو الصحيح؟ 204

فترة الحمل 205

سيد المرسلين ،ج 1،ص:686

نظرية في يوم المولد النبويّ و مؤاخذات عليه 207

الاحتفال بذكرى المولد النبويّ

ليس شركا 208

مراسم تسمية النبيّ (ص) 211

خطأ المستشرقين في اسم النبيّ (ص) 212

أحمد كان من اسماء النبيّ المشهورة 213

فترة الرضاع في حياة النبيّ (ص) 215

نظرة الإسلام في تأثير الرضاع 217

6- فترة الطفولة في حياة النبيّ (ص) الماديون و بعض المستشرقين و كرامات عهد الطفولة 219

خمسة اعوام في ربوع الصحراء 223

7- العودة إلى احضان العائلة 225- 242 سفرة إلى يثرب 227

وفاة عبد المطلب 229

كفالة أبي طالب للنبيّ (ص) 229

سفرة إلى الشام مع أبي طالب 230

اكذوبة المستشرقين في قصة بحيرى 232

مقارنة بين القرآن و التوراة و الانجيل 236

1- النبيّ داود (ع) 237

2- النبيّ سليمان (ع) 237

3- النبيّ يعقوب (ع) 238

4- النبيّ إبراهيم (ع) 239

5- النبيّ نوح (ع) 240

سيد المرسلين ،ج 1،ص:687

8- فترة الشّباب في حياة النبيّ الأكرم (ص) 243- 250 رسول اللّه (ص) و قدرته الروحية 244

حروب الفجار 244

الفجار الأول 245

الفجار الثاني 246

الفجار الثالث 246

الفجار الرابع 246

حلف الفضول 248

9- من فترة الشباب إلى مزاولة التجارة 251- 274 النبيّ للغنم و أسباب ذلك 253

اقتراح أبي طالب بالتجارة لخديجة 254

هل عمل النبي اجيرا لخديجة؟ 255

خديجة زوجة الرسول الاولى 258

خديجة في أحاديث الرسول الأكرم (ص) 260

العلل الظاهرية و الحقيقيّة وراء زواج خديجة بالنبيّ (ص) 270

كيف تمّت خطبة خديجة؟ 272

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ (ص) 274

10- من الزواج إلى البعثة 275- 312 فترة الشباب في حياة رسول الإسلام (ص) 276

سيد المرسلين ،ج 1،ص:688

أحاسيسه و مشاعره الانسانيّة في فترة الشّباب 277

أولاد خديجة 278

حدس لا أساس له من الواقع في شأن خديجة 278

دعيّ رسول اللّه: زيد بن حارثة 279

بداية الخلاف في صفوف الوثنيين 280

أعمدة الوثنية تهتزّ 281

نموذج آخر من ضعف قريش 283

أمين قريش يكفل عليّا 285

إيمان النبيّ و آبائه و كفلائه قبل الإسلام 286

إيمان جدّه

عبد المطلب 286

إيمان كفيله و عمه أبي طالب 290

إيمان والدي النبيّ الأكرم 291

إيمان النبيّ باللّه و توحيده قبل البعثة 292

مناقشة الآيات التي استدل بها النافون لايمان النبيّ 292

الآية الاولى: الهداية بعد الضلال 297

الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز 300

الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب و الايمان 302

تفسير هذه الآية باخرى 306

الآية الرابعة: عدم رجائه القاء الكتاب إليه 308

الآية الخامسة: قوله تعالى: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ» 310

11- بدء الوحي 313- 342 دور الأنبياء الأساسي في إصلاح المجتمع 317

مثل واضح في المقام 317

سيد المرسلين ،ج 1،ص:689

أمين قريش في غار حراء 319

بدء الوحي 321

ظاهرة القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين 322

الروح المجرّدة 324

ظاهرة الوحي عند الماديّين 325

أبرز التحليلات المادية لظاهرة الدين 325

ظاهرة الوحي في منظار العقل و الدين 333

قنوات المعرفة الثلاثة: التجربة، العقل، الالهام 334

انواع الوحي من المنظور القرآني 336

اساطير مختلفة حول حال النبيّ عند نزول الوحي 336

بقية قصّة نزول الوحي الأوّل 337

خديجة تذهب إلى ورقة بن نوفل 338

بطلان هذه المزاعم و الاساطير 340

12- متى نزل الوحي أوّلا؟

343- 352 الرأي المشهور بين علماء السنة و استدلالهم 343

ردود الشيعة على هذا الرأي 344

الجواب الأول (التفريق بين النزول الدفعي و التدريجي) 346

الجواب الثاني (نزول حقيقة القرآن في رمضان على قلب النبيّ ص) 346

الجواب الثالث (التفكيك بين مبدأ نزول القرآن و البعثة) 346

الأنبياء و التبشير برسول اللّه (ص) محمّد خاتم الأنبياء

سيد المرسلين ،ج 1،ص:690

13- ما سبقني أحد 353- 386 من هو أول من آمن بالنبيّ (ص) من الرّجال و النّساء؟ 353

من النساء: خديجة 353

أقدم الرجال إسلاما: عليّ بن أبي طالب 354

الدلائل التاريخية و النصوص الدالة على اسبقية الإمام علي 354

علي تربّى في حجر النبيّ الأكرم (ص) 355

علي و خديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ 357

«أنا الصدّيق

الأكبر» 357 سيد المرسلين ج 1 690 11 - فهرس المواضيع ..... ص : 681

أوّلكم إسلاما علي» 358

النصوص النبويّة الاخرى 359

كلمات أمير المؤمنين (ع) 361

كلمات الإمام السبط الحسن (ع) 364

رأي الصّحابة و التابعين في أوّل من أسلم 364

مناظرة بين المأمون و إسحاق في إسلام عليّ 378

قضيّة انقطاع الوحي 379

اسطورة و ليس تاريخا 380

اختلاف المؤرخين في مسألة انقطاع الوحي 381

14- الدعوة السرّية، دعوة الأقربين 387- 400 دعوة الاقربين 389

كيفيّة دعوة الاقربين 394

خيانة تاريخية و جناية أدبيّة 395

سيد المرسلين ،ج 1،ص:691

النبوة و الإمامة توأمان 398

15- الدعوة العامّة 401- 428 الثّبات و الاستقامة على طريق الهدف 402

ثبات النبيّ (ص) و صبره 403

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرة الثالثة 406

قريش تحاول تطميع النبيّ (ص) 407

نماذج من إيذاء قريش و تعذيبها للمسلمين 408

أبو جهل يكمن لرسول اللّه (ص) 412

أبو لهب يؤذي رسول اللّه (ص) 413

صبر النبيّ (ص) و استقامته 414

بعض من اوذوا باشدّ الأذى: 414

1- بلال الحبشيّ 415

2- آل ياسر رمز الصّمود و المقاومة 416

3- عبد اللّه بن مسعود 417

4- أبو ذر أوّل المجاهرين بالإسلام 418

قبيلة غفار تعتنق الإسلام 421

أعداء النبيّ الألدّاء 422

عمر بن الخطاب يعتنق الإسلام 424

16- رأي قريش في القرآن 428- 449 حكم الوليد بن المغيرة في شأن القرآن 428

نموذج آخر من حكم البلغاء في شأن القرآن 430

سيد المرسلين ،ج 1،ص:692

تحجّجات قريش العجيبة 432

الدوافع وراء معاداة قريش و عنادهم: 438

1- حسدهم لرسول اللّه (ص) 440

2- معارضة الدعوة الاسلامية لشهواتهم 440

3- الخوف من العقاب الاخرويّ 440

4- الخوف من ردّ فعل القبائل العربية المشركة 441

طائفة من اعتراضات المشركين 441

القرآن الكريم و النزول التدريجي 442

الأسرار المنطقية للنزول التدريجيّ للقرآن الكريم 444

أسرار اخرى لنزول القرآن تدريجا 447

17- الهجرة إلى الحبشة 450- 465 الهجرة الاولى إلى

الحبشة 450

الهجرة الثانية الى الحبشة 454

قريش توفد رجالا لاسترداد المسلمين 455

العودة من الحبشة 460

وفد مسيحيّ يدخل مكّة لتقصّي الحقائق 462

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق في أمر النبيّ (ص) 463

18- الاسلحة الصديئة و الاساليب الفاشلة 466- 486 1- الاتهامات الباطلة 466

الإصرار في نسبة الجنون إلى رسول اللّه (ص) 469

سيد المرسلين ،ج 1،ص:693

2- القرآن يردّ على جميع الاتهامات 471

فكرة معارضة القرآن 473

تحجّجات صبيانية و جاهلية 474

مقترحات عجيبة و مطاليب غريبة 476

صمود النبيّ و صبره 477

معاجز النبي (ص) لم تقتصر على القرآن 478

بعض معاجز النبيّ غير القرآن 478

1- شقّ القمر 478

2- المعراج 478

3- مباهلة أهل الباطل 479

4- الإخبار بالمغيبات 479

حرص النبيّ على هداية قريش 480

3- قرار تحريم الاستماع للقرآن 481

واضعو القرار ينقضون قرارهم 483

منع الأشخاص من الإيمان برسول اللّه (ص) 483

1- الأعشى 484

2- الطفيل بن عمرو الدوسي 485

19- اسطورة الغرانيق 487- 498 ما هي اسطورة الغرانيق؟ 488

محاسبة بسيطة لهذه الاسطورة تفنّدها 489

رأي العقل في هذه القصّة الاسطورة 490

تفنيد القصة من طريق آخر 492

دليل لغويّ على تفنيد هذه الاسطورة 493

دراسة آيات من سورة الحج حول القاء الشيطان 494

سيد المرسلين ،ج 1،ص:694

ما هو المقصود من تمنّي الأنبياء و الرسل؟ 495

ما هو المقصود من تدخل الشيطان و القائه؟ 495

ما هو المقصود من محو آثار التدخل و الإلقاء 497

20- الحصار الاقتصادي و الاجتماعي 499- 510 قريش تحاصر النبيّ و المسلمين اجتماعيا و اقتصاديا 500

قريش و الصحيفة القاطعة وضع بني هاشم المأساويّ في شعب أبي طالب 503

21- وفاة أبي طالب و خديجة الكبرى 511- 533 نماذج من مشاعر أبي طالب تجاه النبيّ (ص) 514

التغيير في برنامج السفر 517

الدفاع عن حوزة العقيدة و الإيمان 518

تصوّر باطل عن مشاعر أبي طالب تجاه النبيّ (ص) 520

الدافع الحقيقي

لأبي طالب 520

لمحات من تضحيات أبي طالب 521

قضيّة ذات بواعث سياسيّة 523

طرق ثلاث لإثبات إيمان أبي طالب 524

1- آثار أبي طالب العلميّة و الادبية 525

2- مواقفه من النبي و الرسالة الاسلامية 526

وصية أبي طالب عند وفاته 528

3- شهادات اقرباء أبي طالب (من أهل البيت) 529

رأي علماء الشيعة في أبي طالب 530

نظرة إلى رواية الضحضاح 530

ضعف أسناد هذه الرواية 531

سيد المرسلين ،ج 1،ص:695

الف: سفيان بن سعيد الثوريّ 531

باء: عبد الملك بن عمير 531

جيم: عبد العزيز بن محمّد الدراوردي 532

نصّ حديث الضحضاح يخالف الكتاب و السنة 532

1- القرآن الكريم: لا مغفرة للكافر 533

2- السنة النبوية: لا شفاعة للمشرك 533

22- المعراج في القرآن و السّنة و التاريخ 535- 554 هل للمعراج جذور قرآنية؟ 537

أحاديث المعراج 540

متى وقعت هذه الحادثة؟ 541

هل كان المعراج جسمانيا؟ 543

ما هو المراد من المعراج الروحاني 544

نغمة شاذة 547

المعراج و قوانين العلم الحديث 548

الهدف من المعراج 553

23- سفرة إلى الطائف 555- 564 النبي (ص) يعود إلى مكة 559

نقطه هامة 561

الدعوة في أسواق العرب 562

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج 563

24- بيعة العقبة 565- 582 وقعة بعاث 567

تفصيل الحادثة 568

سيد المرسلين ،ج 1،ص:696

بيعة العقبة الاولى 569

بيعة العقبة الثانية 570

أوضاع المسلمين بعد بيعة العقبة 573

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة 575

تأثير الاسلام و نفوذه المعنويّ 577

مخاوف قريش المتزايدة 580

25- قصّة الهجرة النبويّة حوادث السنة الاولى من الهجرة الشريفة 583- 624 الإمدادات الغيبية و العنايات الربانية 585

ملاك الوحي يخبر رسول اللّه بمؤامرة قريش 587

اقتحام الاعداء لبيت الوحي و الرسالة 590

النبيّ في غار ثور 591

قريش تفتش عن النبيّ (ص) 592

التفاني في سبيل الحق 593

كلام من ابن تيمية في مبيت عليّ (ع) 596

الجواب التفصيلي على هذا الكلام 598

الخطيب و قضيّة المبيت 600

بقية

قصة الهجرة النبوية 601

الخروج من الغار 603

صفحة التاريخ الاسلامي الاولى 604

لما ذا أصبح عام الهجرة مبدأ للتاريخ الاسلامي 605

الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافة 606

من الذي جعل الهجرة مبدأ للتاريخ الاسلامي 608

نماذج من رسائل النبيّ المؤرّخة بالعام الهجريّ 609

سيد المرسلين ،ج 1،ص:697

التذكير بنقطتين 613

مؤامرة الطاغوت 614

برنامج الرحلة في حادث الهجرة 615

النزول في قرية قباء 617

المدينة تهب لاستقبال النبيّ (ص) 619

النبيّ (ص) يدخل المدينة 621

أصل النفاق و منشأه 623

سيد المرسلين ،ج 2،ص:3

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.